التبصرة لابن الجوزي

ابن الجوزي

المجلس الأول في ذكر آدم عليه الصلاة والسلام

بسم الله الرحمن الرحيم المجلس الأول في ذكر آدم عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي سير بقدرته الفلك والفلَك، ودبر بصنعته النور والحلك، اختار آدم فحسده الشيطان وغبطه الملك، وافتخروا بالتسبيح والتقديس فأما إبليس فهلك {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} تعالى عن وزير، وتنزه عن نظير، قبل من خلقه اليسير، وأعطى من رزقه الكثير، أنشأ السحاب الغزير يحمل الماء النمير ليعم عباده بالخير ويمير، فكلما قصر القطر في الوقع صاح الرعد بصوت الأمير، وكلما أظلمت مسالك الغيث لاح البرق يوضح وينير، فقامت الوُرْق على الوَرق تصدح بالمدح على جنبات الغدير، فالجماد ينطق بلسان حاله، والنبات يتكلم بحركاته وبأشكاله، والكل إلى التوحيد يشير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. أحمده وهو بالحمد جدير وأقر بأنه مالك التصوير والتصبير. وأصلي على محمد رسوله البشير النذير، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَلَى عُمَرَ ذي العدل العزير، وعلى عثمان مجهز جيش العسرة في الزمان العسير، وعلى عليّ المخصوص بالموالاة يوم الغدير، وعلى عمه العباس المستسقى به الماء النمير، [جد سيدنا الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين أدام الله أيامه إدامة رضوى وثبير] . اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وألهمنا القيام بحقك وبارك لنا في الحلال

من رزقك، وعد علينا في كل حال برفقك، وانفعني بما أقول والحاضرين من خلقك برحمتك يا أرحم الراحمين. قال الله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} . " إذ " كلمة جعلت لما مضى من الأوقات، فكأنه قال اذكر ذلك الوقت. والملائكة واحدهم ملك والأصل ملأك وأنشد سيبويه: (فلست بإنسي ولكن لملأك ... تنزل من جو السما يصوب) ومعنى ملأك: صاحب رسالة. يقال مألكة وملأكة. واختلف العلماء ما المقصود بإعلام الملائكة بخلق آدم عليه السلام على تسعة أقوال: أحدها: أنه أراد إظهار كبر إبليس، وكان ذلك قد خفي على الملائكة لما يرون من تعبده. رواه الضحاك، عن ابن عباس. والثاني: ليبلو طاعة الملائكة، قاله الحسن. والثالث: أنه لما خلق الله تعالى النار جزعت الملائكة، فقال: هذه لمن عصاني فقالوا: أو يأتي علينا زمان نعصيك فيه؟ فأخبرهم بخلق غيرهم. قاله ابن زيد. والرابع: أنه أراد إظهار عجزهم عما يعلمه لأنهم قاسوا على حال من كان قبل آدم. والخامس: أن الملائكة التي طردت الجن من الأرض قبل آدم أقاموا في الأرض يعبدون، فأخبرهم أني جاعل في الأرض خليفة ليوطنوا أنفسهم على العزل. والسادس: أنهم ظنوا أن الله لا يخلق خلقاً أكرم منهم، فأخبرهم بما يخلق.

والسابع: أنه أعلمهم بما سيكون ليعلموا علمه بالحادثات. والثامن: أنه أراد تعظيم آدم بذكره قبل وجوده. والتاسع: أنه أعلمهم أنه خلقه ليسكنه الأرض وإن كان ابتداء خلقه في السماء. والخليفة: القائم مقام غيره. يقال: خلف الخليفة خلافة وخليفي، وعلى وزن ذلك أحرف منها: خطيبي من الخطبة، ورديدي من الرد، ودليلي من الدلالة، وحجيزي من حجزت، وهزيمي من هزمت. قال أبو بكر ابن الأنباري: والأصل في الخليفة: خليف فدخلت الهاء للمبالغة في مدحه بهذا الوصف كما قالوا علامة ونسابة وراوية. وفي معنى خلافته قولان: أحدهما: خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه. روى عن ابن عباس ومجاهد. والثاني: أنه خلف من كان في الأرض قبله. روى عن ابن عباس. قوله تعالى: {أتجعل فيها من يفسد فيها} الألف للإستفهام وفيها ثلاثة أقوال: أحدها أنه استفهام إنكار، والتقدير: كيف تفعل هذا، وهو لا يليق بالحكمة. وروى يحيى بن كثير عن أبيه قال: كان الذين قالوا هذا عشرة آلاف من الملائكة فأرسلت عليهم نار فأحرقتهم. والثاني: أنه استفهام إيجاب، تقديره: ستجعل كما قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا، قاله أبو عبيدة. والثالث أنه استفهام استعلام. ثم في مرادهم أربعة أقوال: أحدها أنهم استعلموا وجه الحكمة في جعل من يفسد.

والثاني: أنهم استعظموا معصية المستخلفين فكأنهم قالوا: كيف يعصونك وقد استخلفتهم، وإنما ينبغي أن يسبحوا كما نسبح نحن. والثالث: أنهم تعجبوا من استخلاف من يفسد. والرابع: أنهم استفهموا عن حال أنفسهم، فتقدير الكلام: أتجعل فيها من يفسد ونحن نسبح أم لا. ذكره ابن الأنباري. والمراد بالفساد العمل بالمعاصي، وسفك الدم: صبه وإراقته. وشدد السين أبو نهيك. وقرأ طلحة بن مصرف " يسفك " بضم الفاء. والتسبيح: التنزيه لله من كل سوء. والتقديس: التطهير. والمعنى: ننزهك ونعظمك. قوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} أي أنه سيكون من ذريته أنبياء صالحون. وأما خلق آدم فَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَوْفٍ الأَعْرَابِيِّ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الأَبْيَضُ وَالأَحْمَرُ وَالأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ ". وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ جَاءَ بِالطِّينِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ، عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِبْلِيسُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ. وَالثَّانِي: مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: بَعَثَ اللَّهُ مَلَكَ الْمَوْتِ فَجَاءَ بِالطِّينِ فَبُلَّ ثُمَّ تُرِكَ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى أَنْتَنَ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الروح.

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي وَيَحْيَى ابن عَلِيٍّ الْمَدَنِيُّ، قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى النَّقُّورُ، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ حُبَابَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا هُدْبَةُ، قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا نُفِخَ فِي آدَمَ الرُّوحُ مَارَتْ فَطَارَتْ فَصَارَتْ فِي رَأْسِهِ فَعَطَسَ فَقَالَ الْحَمْدُ للَّهِ. فَقَالَ لَهُ اللَّهُ تَعَالَى: رَحِمَكَ اللَّهُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: خُلِقَ آدَمُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَكَانَ طُولُهُ ستون ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ. وَفِي تَسْمِيَتِهِ آدَمَ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا لأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الأَرْضِ. قاله سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَأَدِيمُ الأَرْضِ وَجْهُهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الأُدْمَةِ وَهِيَ سُمْرَةُ اللَّوْنِ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كلها} وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا عَلَى إِطْلاقِهِ فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْمَلائِكَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ عرضهم} يعني المسميات فقال للملائكة " أنبئوني " أَيْ أَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ. وَفِي قَوْلِهِ: {إِنْ كنتم صادقين} ثلاثة ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنَّ بَنِي آدَمَ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ. قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ. وَالثَّانِي: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنِّي لا أَخْلُقُ أَعْلَمَ مِنْكُمْ وَأَفْضَلَ. قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ إِبْلِيسُ، لأَنَّهُ قَالَ: إِنْ فُضِّلْتُ عَلَيْهِ لأُهْلِكَنَّهُ فَالتَّقْدِيرُ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا إِنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَنْبِئْنِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ. {فَلَمَّا أنبأهم بأسمائهم} أَقَرَّتِ الْمَلائِكَةُ بِالْعَجْزِ {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لنا إلا ما علمتنا} فَقَالَ: يَا آدَمُ أَنْبِئْهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ

أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض} أَيْ مَا غَابَ فِيهَا {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} من الطاعة {وما كنتم تكتمون} مِنْ أَنَّ اللَّهَ لا يَخْلُقُ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، وَقِيلَ: مَا كَتَمَ إِبْلِيسُ مِنَ الْكِبْرِ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ. أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الأُرْمَوِيُّ، قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُهَنَّدِيُّ، قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ شَاهِينَ، قَالَ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ حَدَّثَنَا هَارُونُ بن زيد ابن الزَّرْقَاءِ، قَالَ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ قَادِمِ بْنِ مِسْوَرٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلائِكَةَ بِالسُّجُودِ لآدَمَ أَوَّلُ مَنْ سَجَدَ لَهُ إِسْرَافِيلُ فَأَثَابَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ كَتَبَ الْقُرْآنَ فِي جَبْهَتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {اسكن أنت وزوجك الجنة} زَوَّجَهُ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ. وَالرَّغَدُ: الرِّزْقُ الْوَاسِعُ. وَفِي الشَّجَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الأَوَّلُ الْحِنْطَةُ. وَالثَّانِي الْكَرْمُ. روى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ التِّينُ قَالَهُ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ. والرابع شجرة الكافور روى عن علي عليه السلام. وَالْخَامِسُ النَّخْلَةُ، قَالَهُ أَبُو مَالِكٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فأزلهما الشيطان عنها} أَيْ حَمَلَهُمَا عَلَى الزَّلَلِ، وَقَرَأَ الأَعْمَشُ فَأَزَالَهُمَا أَيْ عَنِ الْجَنَّةِ، قَالَ السُّدِّيُّ: دَخَلَ الشَّيْطَانُ فِي فَمِ الْحَيَّةِ فَكَلَّمَهُمَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَادَاهُمَا مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ آدَمُ تَعَمَّدَ فَمَعْصِيَتُهُ كَبِيرَةٌ وَالْكَبَائِرُ لا تَجُوزُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَإِنْ كَانَ نَسِيَ فَالنِّسْيَانُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَعَلَ ذَلِكَ عَنْ نِسْيَانٍ وَالأَنْبِيَاءُ مُطَالَبُونَ بِحَقِيقَةِ التَّيَقُّظِ وَتَجْوِيدِ التَّحَفُّظِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالنِّسْيَانُ يَنْشَأُ مِنَ الذُّهُولِ عَنْ مُرَاعَاةِ الأَمْرِ، فَكَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى سَبَبِ النِّسْيَانِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَعَمَّدَ [الأَكْلَ] لَكِنَّهُ أَكَلَ مُتَأَوِّلا وَفِي تَأْوِيلِهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَأَوَّلَ الْكَرَاهَةَ دُونَ التَّحْرِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ شَجَرَةٍ فَأَكَلَ مِنْ جِنْسِهَا ظَنًّا أَنَّ الْمُرَادَ عَيْنُ تِلْكَ الشَّجَرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جميعا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُهْبِطَ آدَمُ وَحَوَّاءُ وَإِبْلِيسُ وَالْحَيَّةُ. أَمَّا آدَمُ فَأُهْبِطَ عَلَى جَبَلٍ بِالْهِنْدِ يُقَالُ لَهُ " وَاسِمُ " وَحَوَّاءُ بِجُدَّةَ وَالْحَيَّةُ بِنَصِيبِينَ، وَإِبْلِيسُ بِالأُبُلَّةِ وَكَانَ مُكْثُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ نصف يوم من أيام الآخرة: وهو خمسمائة سَنَةٍ. وَأُنْزِلَ مَعَهُ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ وَعَصَا مُوسَى، وَكَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَذْبَحَ كَبْشًا مِنَ الضَّأْنِ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، فَذَبَحَهُ ثُمَّ جَزَّ صُوفَهُ، فعزلته حَوَّاءُ، فَنَسَجَ لِنَفْسِهِ جُبَّةً وَلِحَوَّاءَ دِرْعًا وَخِمَارًا، وَعُلِّمَ الزِّرَاعَةَ فَزَرَعَ فَنَبَتَ فِي الْحَالِ فَحَصَدَ وَأَكَلَ وَلَمْ يَزَلْ فِي الْبُكَاءِ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: سَجَدَ آدَمُ عَلَى جَبَلٍ بِالْهِنْدِ مِائَةَ عَامٍ يَبْكِي حَتَّى جَرَتْ دُمُوعُهُ فِي وَادِي سَرَنْدِيبَ فَأَنْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْوَادِي مِنْ دُمُوعِهِ الدَّارَصِينِيٌّ وَالْقَرَنْفُلُ، وَجُعِلَ طَيْرُ ذَلِكَ الْوَادِي الطَّوَاوِيسَ ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقَدْ غُفِرَ لَكَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ فَطَافَ أُسْبُوعًا، فَمَا أَتَمَّهُ حَتَّى خَاضَ فِي دُمُوعِهِ. وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَلَقَّاهَا آدَمُ فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} . قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْتَقَى آدَمُ وَحَوَّاءُ بِعَرَفَاتٍ فَتَعَارَفَا ثم رجعا الى الهند فاتخذوا مَغَارَةً يَأْوِيَانِ فِيهَا وَوَلَدَتْ حَوَّاءُ لآدَمَ أَرْبَعِينَ وَلَدًا فِي عِشْرِينَ بَطْنًا، وَبِعَرَفَاتٍ مَسَحَ اللَّهُ ظَهْرَ آدَمَ فَأَخْرَجَ جَمِيعَ ذُرِّيَّتِهِ فَنَشَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلا فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: دَاوُدُ. قَالَ: كَمْ عُمْرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً. قَالَ: فَزِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ. فَلَمَّا انْقَضَى عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فقال: أو لم يبقى من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ قَالَ: مَا فَعَلْتُ. فَأَتَمَّ الله

الكلام على البسملة

عَزَّ وَجَلَّ لآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ وَأَكْمَلَ لِدَاوُدَ مِائَةً. وَهَذَا الْجَحْدُ إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى النِّسْيَانِ. وَمَرِضَ آدَمُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَجَاءَتْهُ الْمَلائِكَةُ بِالأَكْفَانِ وَالْحَنُوطِ فَقُبِضَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ [وَصُلِّيَ عَلَيْهِ] وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أن االملائكة لَمَّا صَلَّتْ عَلَى آدَمَ كَبَّرَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَاتَ [آدَمُ] عَلَى نودَ وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي أُهْبِطَ عَلَيْهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ شِيثُ وَكَبَّرَ ثَلاثِينَ تَكْبِيرَةً. وَلَمَّا رَكِبَ نُوحٌ السفينة حمل آدم ودفنه في بيت الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يَمُتْ حَتَّى بَلَغَ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَقَالَ عُرْوَةُ: لَمَّا مَاتَ آدَمُ وُضِعَ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، وَدَفَنَتْهُ الْمَلائِكَةُ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] . فَصْلٌ وَقَدْ حذَّرت قِصَّةُ آدَمَ مِنَ الذُّنُوبِ وَخَوَّفَتْ عَوَاقِبَهَا، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: غَرِقَتِ السَّفِينَةُ وَنَحْنُ نِيَامٌ! آدَمُ لَمْ يُسَامَحْ بِلُقْمَةٍ ولا دَاوُدُ بِنَظْرَةٍ، وَنَحْنُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ! الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (يَا نَاظِرًا يرنوا بِعَيْنَيْ رَاقِدٍ ... وَمُشَاهِدًا لِلأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ) (مَنَّيْتَ نَفْسَكَ ظُلَّةً وَأَبَحْتَهَا ... طُرُقَ الرَّجَاءِ وَهُنَّ غَيْرُ قَوَاصِدِ) (تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي ... دَرَجَ الْجِنَانِ بِهَا وَفَوْزَ الْعَابِدِ) (وَنَسِيتَ أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ آدَمًا ... مِنْهَا إِلَى الدُّنْيَا بِذَنْبٍ وَاحِدِ) رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا آدَمُ يَبْكِي إِذْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِمَا

السَّلامُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَبَكَى آدَمُ فَبَكَى جِبْرِيلُ لِبُكَائِهِ وَقَالَ: يَا آدَمُ مَا هَذَا الْبُكَاءُ؟ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ وَكَيْفَ لا أَبْكِي وَقَدْ حَوَّلَنِي رَبِّي مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ وَمِنْ دَارِ النِّعْمَةِ إِلَى دَارِ الْبُؤْسِ. فَانْطَلَقَ جِبْرِيلُ بِمَقَالَتِهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا جِبْرِيلُ انْطَلِقْ إِلَيْهِ وَقُلْ لَهُ: يَا آدَمُ يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ: أَلَمْ أَخْلُقْكَ بِيَدِي؟ أَلَمْ أَنْفُخْ فِيكَ مِنْ رُوحِي؟ أَلَمْ أُسْجِدْ لَكَ مَلائِكَتِي؟ أَلَمْ أُسْكِنْكَ جَنَّتِي؟ أَلَمْ آمُرْكَ فَعَصَيْتَنِي؟ وَعِزَّتِي وَجَلالِي لَوْ أَنَّ مِلْءَ الأَرْضِ رِجَالا مِثْلَكَ ثُمَّ عَصَوْنِي لأَنْزَلْتُهُمْ مَنَازِلَ الْعَاصِينَ غَيْرَ أَنَّهُ يَا آدَمُ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، وَقَدْ سَمِعْتُ تَضَرُّعَكَ وَرَحِمْتُ بُكَاءَكَ وَأَقَلْتُ عَثْرَتَكَ. طُوبَى لِمَنْ قَرَنَ ذنبه بالاعتذار، وتلافاه باستغفاره آنَاءَ اللَّيْلِ [وَأَطْرَافَ] النَّهَارِ، وَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ أَحْكَمَ عَقْدَ الإِصْرَارِ، أَيُّهَا الْعَاصِي تَفَكَّرْ فِي حَالِ أَبِيكَ، وَتَذَكَّرْ مَا جَرَى لَهُ وَيَكْفِيكَ، أُبْعِدَ بَعْدَ الْقُرْبِ مِنْ رَبِّهِ، وَأُهْبِطَ مِنَ الْجَنَّةِ لِشُؤْمِ ذَنْبِهِ، وَأَسَرَهُ الْعَدُوُّ بِخَدِيعَتِهِ فِي حَرْبِهِ [وَيَسْعَى فِي هَلاكِكَ فَاعْتَبِرْ بِهِ] فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً تَأَهَّبَ لِمُحَارَبَةِ عَدُوِّهِ فِي رَوَاحِهِ وَغُدُوِّهِ، فَإِنَّهُ مُرَاصِدُهُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، ويحسن له بالمكر والتسويف الأمل، وَيُذَكِّرُهُ الْهَوَى وَيُنْسِيهِ الأَجَلَ، فَلْيَلْبَسْ أَحْصَنَ الْجُنَنِ، فَالرَّامِي يَطْلُبُ الْخَلَلَ. (اصْبِرْ لِمُرِّ حَوَادِثِ الدَّهْرِ ... فلتحمدن مغبة الصبر) (واجهد لنفسك قبل ميتها ... وَاذْخَرْ لِيَوْمِ تَفَاضُلِ الذُّخْرِ) (فَكَأَنَّ أَهْلَكَ قَدْ دَعَوْكَ فَلَمْ ... تَسْمَعْ وَأَنْتَ مُحَشْرَجُ الصَّدْرِ) (وَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَلَّبُوكَ عَلَى ... ظَهْرِ السَّرِيرِ وَأَنْتَ لا تَدْرِي) (وَكَأَنَّهُمْ قَدْ زَوَّدُوكَ بِمَا ... يَتَزَوَّدُ الْهَلْكَى من العطر) (ياليت شِعْرِي كَيْفَ أَنْتَ إِذَا ... غُسِّلْتَ بِالْكَافُورِ وَالسِّدْرِ) (أَوَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَنْتَ عَلَى ... نَبْشِ الضَّرِيحِ وظلمة القبر) (ياليت شِعْرِي مَا أَقُولُ إِذَا ... وُضِعَ الْكِتَابُ صَبِيحَةَ الْحَشْرِ) (مَا حُجَّتِي فِيمَا أَتَيْتُ عَلَى ... عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَمَا عُذْرِي) (يَا سَوْأَتَا مِمَّا اكْتَسَبْتُ وَيَا ... أَسَفِي عَلَى مَا فَاتَ مِنْ عُمْرِي)

أَلا أَكُونَ عَقِلْتُ شَأْنِي فَاسْتَقْبَلْتُ مَا اسْتَدْبَرْتُ مِنْ أَمْرِي يَا مُضِيعَ الزَّمَانِ فِيمَا يُنْقِصُ الإيمان، يا معرضا عن الأرباح معترضاً لِلْخُسْرَانِ، مَتَّى تَنْتَبِهُ مِنْ رُقَادِكَ أَيُّهَا الْوَسْنَانُ، مَتَى تُفِيقُ لِنَفْسِكَ؟ أَمَا حَقٌّ أَمَا آنَ؟! (رَجَوْتَ خُلُودًا بَعْدَ مَا مَاتَ آدَمُ ... وَنُوحٌ وَمِنْ بَعْدِ النَّبِيِّينَ مِنْ قَرْنِ) (وَسَوَّفْتَ بِالأَعْمَالِ حَتَّى تَصَرَّمَتْ ... سُنُوكَ فَلا مَالٌ وَلا وَلَدٌ يُغْنِي) (فَشَمِّرْ لِدَارِ الْخُلْدِ فَازَ مُشَمِّرٌ ... إِلَيْهَا وَنَالَ الأَمْنَ فِي مَنْزِلِ الأَمْنِ) (لَقَدْ شَغَلَتْنَا أُمُّ دَفْرٍ بِزُخْرُفٍ ... شُغِلْنَا بِهِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ ذِي الْمَنِّ) (عَجِبْتُ لِدُنْيَا لا تُسِرُّ وإنما ... تشوب على تلك المسرة بالحزن) (ونحن عليها عاكفون كأنما ... ينا نبه من فعلها حلم الجفن) إلام يرفض قَوْلَ النَّاصِحِ وَقَدْ أَتَاكَ بِأَمْرٍ وَاضِحٍ، أَتَرْضَى بِالشَّيْنِ وَالْقَبَائِحِ، كَأَنِّي بِكَ قَدْ نُقِلْتَ إِلَى بُطُونِ الصَّفَائِحِ وَبَقِيتَ مَحْبُوسًا إِلَى الْحَشْرِ تَحْتَ تِلْكَ الضَّرَائِحِ، وَخُتِمَ الْكِتَابُ عَلَى آفَاتٍ وَقَبَائِحَ. (إنا على قلعة من همذه الدَّارِ ... نُسَاقُ عَنْهَا بِإِمْسَاءٍ وَإِبْكَارِ) (نَبْكِي وَنَنْدُبُ آثَارَ الَّذِينَ مَضَوْا ... وَسَوْفَ تَلْحَقُ آثَارٌ بِآثَارِ) (طَالَتْ عِمَارَتُنَا الدُّنْيَا عَلَى غَرَرٍ ... وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّا غَيْرُ عُمَّارِ) (يَا مَنْ يَحُثُّ بِتِرْحَالٍ عَلَى عَجَلٍ ... لَيْسَ الْمَحَلَّةُ غَيْرَ الْفَوْزِ مِنْ نَارِ) (فَاتْرُكْ مُفَاخَرَةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ... يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمُ الْفَخْرِ وَالْعَارِ) لَقَدْ أَبَانَتِ الدُّنْيَا لِلنَّوَاظِرِ عُيُوبَهَا , وَكَشَفَتِ لِلْبَصَائِرِ غُيُوبَهَا , وَعَدَّدَتْ عَلَى الْمَسَامِعِ ذُنُوبَهَا , وَمَا مَرَّتْ حَتَّى أَمَرَّتْ مَشْرُوبَهَا، فَلَذَّتُهَا مِثْلُ لَمَعَانِ بَرْقٍ، وَمُصِيبَتُهَا وَاسِعَةُ الْخَرْقِ، [سَوَّتْ] عَوَاقِبُهَا بَيْنَ سُلْطَانِ الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ، وَبَيْنَ عَبْدٍ [قِنٍّ] وَحَقِيرٍ وَلا فَرْقَ، فَمَا نَجَا مِنْهَا ذُو عَدَدٍ وَلا سَلِمَ فِيهَا صَاحِبُ عُدَدٍ، مَزَّقَتْ وَاللَّهِ الْكُلَّ بِكَفِّ الْبَدَدِ ثُمَّ وَلَّتْ وَمَا أَلْوَتْ عَلَى أَحَدٍ. أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِدَادِيُّ قَالَ أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَنَّا، قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ بِشْرَانَ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ صَفْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر

الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ الطَّائِيُّ، قَالَ حدثني المحاربي، عن ليث، أن عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَأَى الدُّنْيَا فِي صُورَةِ عَجُوزٍ هَتْمَاءَ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ فَقَالَ لَهَا: كَمْ تَزَوَّجْتِ؟ فَقَالَتْ: لا أُحْصِيهِمْ. قَالَ: أو كلهم مَاتَ عَنْكِ أَوْ كُلُّهُمْ طَلَّقَكِ؟ قَالَتْ: بَلْ كُلُّهُمْ قَتَلْتُ. فَقَالَ عِيسَى: بُؤْسًا لأَزْوَاجِكَ الْبَاقِينَ كَيْفَ لا يَعْتَبِرُونَ بِأَزْوَاجِكَ الْمَاضِينَ! (إِلامَ تُغَرُّ بِالأَمَلِ الطَّوِيلِ ... وَلَيْسَ إِلَى الإِقَامَةِ مِنْ سَبِيلِ) (فَدَعْ عَنْكَ التَّعَلُّلَ بِالأَمَانِي ... فَمَا بَعْدَ الْمَشِيبِ سِوَى الرَّحِيلِ) (أَتَأْمَنُ أَنْ تَدُومَ عَلَى اللَّيَالِي ... وَكَمْ أَفْنَيْنَ قَبْلَكَ مِنْ خَلِيلِ) (وَمَا زَالَتْ بَنَاتُ الدَّهْرِ تُفْنِي ... بَنِي الأَيَّامِ جِيلا بَعْدَ جِيلِ) للَّهِ دَرُّ أَقْوَامٍ تَرَكُوا الدُّنْيَا فَأَصَابُوا، وسمعوا منادى " والله يدعو " فَأَجَابُوا، وَحَضَرُوا مَشَاهِدَ التُّقَى فَمَا غَابُوا، وَاعْتَذَرُوا مَعَ التَّحْقِيقِ ثُمَّ تَابُوا، وَقَصَدُوا بَابَ مَوْلاهُمْ فَمَا رَدُّوا وَلا خَابُوا. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، قَالَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّقَّاقُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ صَفْوَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بكرالقرشي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ حَدَّثَنِي عَمَّارُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ، قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ ذَرٍّ يَقُولُ: لَمَّا رَأَى الْعَابِدُونَ اللَّيْلَ قَدْ هَجَمَ عَلَيْهِمْ وَنَظَرُوا إِلَى أَهْلِ الْغَفْلَةِ قَدْ سَكَنُوا إِلَى فُرُشِهِمْ وَرَجَعُوا إِلَى مَلاذِّهِمْ، قَامُوا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ بِمَا قَدْ وَهَبَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ السَّهَرِ وَطُولِ التَّهَجُّدِ، فَاسْتَقْبَلُوا اللَّيْلَ بِأَبْدَانِهِمْ، وَبَاشَرُوا ظُلْمَتَهُ بِصِفَاحِ وُجُوهِهِمْ، فَانْقَضَى عَنْهُمُ اللَّيْلُ وَمَا انْقَضَتْ لَذَّتُهُمْ مِنَ التِّلاوَةِ، وَلا مَلَّتْ أَبْدَانُهُمْ مِنْ طُولِ الْعِبَادَةِ، فأصبح الفريقان وقد وَلَّى اللَّيْلُ بِرِبْحٍ وَغَبْنٍ، فَاعْمَلُوا لأَنْفُسِكُمْ فِي هَذَا اللَّيْلِ وَسَوَادِهِ، فَإِنَّ الْمَغْبُونَ مَنْ غُبِنَ خير النيا وَالآخِرَةِ، كَمْ مِنْ قَائِمٍ للَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا اللَّيْلِ قَدِ اغْتَبَطَ بِقِيَامِهِ فِي ظُلْمَةِ حفرته،

وَكَمْ مِنْ نَائِمٍ قَدْ نَدِمَ عَلَى طُولِ نَوْمِهِ عِنْدَمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَابِدِينَ غَدًا. أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفْرٍ، قَالَ أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ العباس، قال حدثني علي ابن سَلْمَانَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النَّوْمِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: (لولا اللذين لَهُمْ وِرْدٌ يَقُومُونَا ... وَآخَرُونَ لَهُمْ سَرْدٌ يَصُومُونَا) (لد كدكت أَرْضُكُمْ مِنْ تَحْتِكُمْ سَحَرًا ... لأَنَّكُمْ قَوْمُ سُوءٍ مَا تُطِيعُونَا) يَا مَنْ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا إِذَا تُؤُمِّلَتْ سَقَطَ، كَمْ أُثْبِتَ لَهُ عَمَلٌ فَلَمَّا عَدِمَ الإِخْلاصَ سَقَطَ، يَا حَاضِرَ الذِّهْنِ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا جَاءَ الدِّينُ خَلَطَ، يَجْعَلُ هَمَّهُ فِي الْحِسَابِ فَإِذَا صَلَّى اخْتَلَطَ يَا سَاكِتًا عَنِ الصَّوَابِ فَإِذَا تَكَلَّمَ لَغَطَ، يَا قَرِيبَ الأَجَلِ وَهُوَ يَجْرِي مِنَ الزَّلَلِ عَلَى نَمَطٍ، يَا مُتَكَاثِفَ الدَّرَنِ لَمْ يَغْسِلْ وَلَمْ يُمِطْ، يَا مَنْ لا يَعِظُهُ وَهَنُ الْعَظْمِ وَلا كَلامُ الشَّمَطِ أَمَا خَطُّ الشَّيْبِ يَضْحَكُ فِي مَفْرِقِ الرَّأْسِ إِذَا وَخَطَ، أَمَا الْمَقَامُ لِلرَّحِيلِ وَعَلَى هَذَا شَرَطَ، يَا مَنْ لا يَرْعَوِي وَلا يَنْتَهِي بَلْ عَلَى مِنْهَاجِ الْخَطِيئَةِ فَقَطْ، يا مثبتا قبيح المعاصي لو تاب لا نكشط، أَمَا تَمِيلُ إِلَى الصَّوَابِ أَمَا تَتْرُكَ الْغَلَطَ، يَا مَنْ إِذَا قِيلَ لَهُ وَيْحَكَ أَقْسِطْ قَسَطَ، إِلَى كَمْ جُورٍ وَظُلْمٍ إِلَى كَمْ جَهْلٍ وَشَطَطٍ، وَيْحَكَ بَادِرْ هَذَا الزَّمَانَ [الْخَالِيَ] الْمُلْتَقَطَ، فَالصِّحَّةُ غَنِيمَةٌ وَالْعَافِيَةُ لَقَطٌ، فَكَأَنَّكَ بِالْمَوْتِ قَدْ سَلَّ سَيْفَهُ عَلَيْكَ وَاخْتَرَطَ، أَيْنَ الْعَزِيزُ فِي الدُّنْيَا أَيْنَ الْغَنِيُّ الْمُغْتَبَطُ، خَيَّمَ بَيْنَ الْقُبُورِ، وَضَرَبَ فُسْطَاطَهُ فِي الْوَسَطِ، وَبَاتَ فِي اللَّحْدِ مَحْبُوسًا كَالأَسِيرِ الْمُرْتَبَطِ، وَاسْتُلِبَتْ ذَخَائِرُهُ فَفَرَغَ الصُّنْدُوقُ وَالسَّفَطُ، وَتَمَزَّقَ الْجِلْدُ الْمُسْتَحْسَنُ وَتَمَعَّطَ الشَّعَرُ الْقَطَطُ، فَكَأَنَّهُ مَا رَجَّلَهُ قَطُّ وَكَأَنَّهُ مَا امْتَشَطَ، وَبَعُدَ [عَنْهُ مَنْ يُحِبُّهُ إِي وَاللَّهِ وسخط] ورضي وراثه بما أصابوه وجعلوا نصبه السَّخَطَ، وَفَرَّقُوا مَا كَانَ يَجْمَعُهُ بِكَفِّ الْبُخْلِ وَالْقَنْطِ، وَوَقَعَ فِي قَفْرٍ لا مَاءٌ فِيهِ وَلا حِنَطٌ، وَكَمْ حُذِّرَ مِنْ وُقُوعِهِ وَكَمْ أُوقِفَ عَلَى النُّقَطِ، وَكَمْ حُدِّثَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي الْقَبْرِ انْضَغَطَ، وَيْحَكَ اقْبَلْ نُصْحِي وَلا تَتَعَرَّضْ لِلسَّخَطِ، وَاحْذَرْ مِنَ

الكلام على قوله تعالى

المعاصي قبلقمة زَلَّ آدَمُ وَهَبَطَ، وَيْحَكَ اغْتَنِمْ رُخْصَ السِّعْرِ فَكَأَنَّ قَدْ قُحِطَ وَبَادِرْ لِلسَّلامَةِ فَكَأَنَّ قُبِضَ مَنْ بُسِطَ، وَتَفَكَّرْ كَيْفَ كَفَّ بِالْعُقُوبَةِ كَفَّ مَنِ انْبَسَطَ، أَتُرَى تَقْبَلُ [قَوْلَ] النَّذِيرِ أَوْ لا تُصَدِّقُ الْفَرَطَ. الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {التائبون العابدون الحامدون} قَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى بِالتَّوْبَةِ فَقَالَ {وتوبوا إلى الله جميعا} وَوَعَدَ الْقَبُولَ فَقَالَ: " [وَهُوَ الَّذِي] يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عن عباده " وفتح باب الرجاء فقال: لا تقطنوا من رحمة الله ". أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله ابن أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الأَغَرَّ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يقول: " يا أيها النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. وَبِالإِسْنَادِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا محمد بن مطرف، عن زيد ابن أسلم، عن عبد الرحمن بن الْبَيْلَمَانِيِّ قَالَ اجْتَمَعَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِيَوْمٍ ". فَقَالَ الثَّانِي: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِنِصْفِ يَوْمٍ ". فَقَالَ الثَّالِثُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِضَحْوَةٍ ". فَقَالَ الرَّابِعُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ

مَا لَمْ يُغَرْغِرْ بِنَفْسِهِ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: للَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ بِأَرْضٍ دَوِيَّةٍ [مُهْلِكَةٍ] مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، فَطَلَبَها حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِي أَضْلَلْتُهَا فيه فأموت فيه، فأتى مكانه فغلبته عنياه، فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ وَزَادُهُ وَمَا يُصْلِحُهُ، فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ ". وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا دَاوُدُ لَوْ يَعْلَمُ الْمُدْبِرُونَ عَنِّي كَيْفَ انْتِظَارِي لَهُمْ وَرِفْقِي بِهِمْ وَشَوْقِي إِلَى تَرْكِ مَعَاصِيهِمْ لَمَاتُوا شَوْقًا إِلَيَّ وَتَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُمْ مِنْ مَحَبَّتِي، يَا دَاوُدُ هَذِهِ إِرَادَتِي فِي الْمُدْبِرِينَ عَنِّي فَكَيْفَ إِرَادَتِي بِالْمُقْبِلِينَ عَلَيَّ! إِخْوَانِي: الذُّنُوبُ تُغَطِّي عَلَى الْقُلُوبِ، فَإِذَا أَظْلَمَتْ مِرْآةُ الْقَلْبِ لم يبن فيها وَجْهُ الْهُدَى، وَمَنْ عَلِمَ ضَرَرَ الذَّنْبِ اسْتَشْعَرَ النَّدَمَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " مِنَ الاغْتِرَارِ أَنْ تُسِيءَ فَيُحْسَنَ إِلَيْكَ فَتَتْرُكَ التوبة توهما أنك تسامح في الهفوات "!. فوا عجبا لِمَنْ يَأْمَنُ وَكَمْ قَدْ أُخِذَ آمِنٌ مِنْ مَأْمَنٍ، وَمَنْ تَفَكَّرَ فِي الذُّنُوبِ عَلِمَ أَنَّ لَذَّاتِ الأَوْزَارِ زَالَتْ وَالْمَعَاصِيَ بِالْعَاصِي إِلَى النَّارِ آلَتْ، وَرُبَّ سَخَطٍ قَارَنَ ذَنْبًا فَأَوْجَبَ بُعْدًا وَأَطَالَ عُتْبًا، وَرُبَّمَا بُغِتَ الْعَاصِي بِأَجَلِهِ وَلَمْ يَبْلُغْ بَعْضَ أَمَلِهِ، وَكَمْ خَيْرٍ فَاتَهُ بِآفَاتِهِ، وَكَمْ بَلِيَّةٍ فِي طَيِّ جِنَايَاتِهِ. قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لا تُؤَخِّرِ التَّوْبَةَ فَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً. (قَائِدُ الْغَفْلَةِ الأَمَلُ ... وَالْهَوَى رَائِدُ الزَّلَلْ) (قَتَلَ الْجَهْلُ أَهْلَهُ ... وَنَجَا كُلُّ من عقل)

(فاغتم دَوْلَةَ الشَّبِيبَةِ وَاسْتَأْنِفِ الْعَمَلْ ... ) (أَيُّهَا الْمُبْتَنِي الْحُصُونَ وَقَدْ شَابَ وَاكْتَهَلْ ... ) (أَخْبَرَ الشَّيْبُ عَنْكَ أَنَّكَ فِي آخِرِ الأَجَلْ ... ) (فَعَلامَ الْوُقُوفُ فِي عَرْصَةِ الْعَجْزِ وَالْكَسَلْ ... ) (مَنْزِلٌ لَمْ يَزَلْ يَضِيقُ وَيَنْبُو بِمَنْ نَزَلْ ... ) (أَنْتَ فِي مَنْزِلٍ إِذَا حَلَّهُ نَازِلٌ رَحَلْ ... ) طُوبَى لِمَنْ غَسَلَ دَرَنَ الذُّنُوبِ بِتَوْبَةٍ، وَرَجَعَ عَنْ خَطَايَاهُ قَبْلَ فَوْتِ الأَوْبَةِ، وَبَادَرَ الْمُمْكِنَ قَبْلَ أَنْ لا يُمْكِنَ، مَنْ رَأَيْتَ مِنْ آفَاتِ دُنْيَاهُ سَلِمَ، وَمَنْ شَاهَدْتَهُ صَحِيحًا وَمَا سَقِمَ، وَأَيُّ حَيَاةٍ بِالْمَوْتِ لَمْ تَنْخَتِمْ، وَأَيُّ عُمْرٍ بِالسَّاعَاتِ لَمْ يَنْصَرِمْ، إِنَّ الدُّنْيَا لَغَرُورٌ حَائِلٌ، وَسُرُورٌ إِلَى الشُّرُورِ آيِلٌ، تُرْدِي مُسْتَزِيدَهَا وَتُؤْذِي مُسْتَفِيدَهَا، بَيْنَمَا طَالِبُهَا يَضْحَكُ أَبْكَتْهُ وَيَفْرَحُ بِسَلامَتِهِ أَهْلَكَتْهُ، فَنَدِمَ عَلَى زَلَلِهِ إِذْ قَدِمَ عَلَى عَمَلِهِ، وَبَقِيَ رَهِينَ خَوْفِهِ وَوَجَلِهِ، وَوَدَّ أَنْ لَوْ زِيدَ سَاعَةً فِي أَجَلِهِ، فَمَا هُوَ إِلا أَسِيرٌ فِي حُفْرَتِهِ، وَخَسِيرٌ فِي سَفْرَتِهِ، وَهَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ صِفَةَ مَنْ عَنَّا نَأَى، فَكَذَا نَكُونُ [لَوْ أَنَّ الْعَاقِلَ ارْتَأَى] : (سَبِيلُكَ فِي الدُّنْيَا سَبِيلُ مُسَافِرٍ ... ولا بد من زاد لكل مسافر) (ولابد لِلإِنْسَانِ مِنْ حَمْلِ عُدَّةٍ ... وَلا سِيَّمَا إِنْ خَافَ سَطْوَةَ قَاهِرِ) (وَطُرْقُكَ طُرْقٌ لَيْسَ تُسْلَكُ دَائِمًا ... وَفِيهَا عِقَابٌ بَعْدَ صَعْبِ الْقَنَاطِرِ) أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلافِ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْحَمامِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَوَّاصُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا مَارًّا مَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ فِي صَحْرَاءَ، إِذْ أَتَيْنَا عَلَى قَبْرٍ مُسَنَّمٍ، فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ وَبَكَى. فَقُلْتُ: قَبْرُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا قَبْرُ حُمَيْدِ بْنِ جَابِرٍ أَمِيرِ هَذِهِ الْمُدُنِ، كَانَ غَرِيقًا فِي بِحَارِ هَذِهِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْهَا، لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ سُرَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِشَيْءٍ مِنْ مَلاهِي دُنْيَاهُ ثُمَّ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ [وَنَامَ] مَعَ مَنْ يَخُصُّهُ مِنْ أَهْلِهِ، فَرَأَى رَجُلا وَاقِفًا عَلَى رَأْسِهِ بِيَدِهِ كِتَابٌ، فَنَاوَلَهُ إِيَّاهُ

[فَقَرَأَهُ] فَإِذَا فِيهِ: تُؤْثِرُونَ فَانِيًا عَلَى بَاقٍ، وَلا تَغْتَرَّ بِمُلْكِكَ وَسُلْطَانِكَ وَعَبِيدِكَ وولَدك، فَإِنَّ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ جَسِيمٌ لَوْلا أَنَّهُ عَدِيمٌ، وهو مُلك لولا أنّ بعده هُلك، وَهُوَ فَرح وَسُرُورٌ لَوْلا أَنَّهُ لَهْوٌ وَغُرُورٌ، وَهُوَ يومٌ لَوْ كَانَ يُوثَقُ فِيهِ بغدٍ، فَسَارِعْ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: {وَسَارِعُوا إلى مغفرة من ربكم} . فَانْتَبَهَ فَزِعًا [مَرْعُوبًا] وَقَالَ: هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَوْعِظَةٌ. فَخَرَجَ مِنْ مُلْكِهِ لا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ وَقَصَدَ هَذَا الْجَبَلَ فَتَعَبَّدَ فِيهِ، فَلَمَّا بَلَغَنِي أَمْرُهُ قَصَدْتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَحَدَّثَنِي بِبَدْءِ أَمْرِهِ وَحَدَّثْتُهُ بِبَدْءِ أَمْرِي فَمَا زِلْتُ أَقْصُدُهُ حَتَّى مَاتَ، وَهَذَا قَبْرُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي صَادِقٍ أَنْبَأَنَا ابْنُ بَاكَوِيَةَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَرْدُبِيلِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُوَفَّقِ، قَالَ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً وَظَنَنْتُ أَنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ وَإِذَا عَلَيَّ لَيْلٌ، فَقَعَدْتُ عِنْدَ بَابٍ صَغِيرٍ، وَإِذَا بِصَوْتِ شَابٍّ يَبْكِي وَيَقُولُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلالِكَ مَا أَرَدْتُ بِمَعْصِيَتِكَ مُخَالَفَتَكَ، وَقَدْ عَصَيْتُكَ حِينَ عَصَيْتُكَ وَمَا أَنَا بِنَكَالِكَ جَاهِلٌ، وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلا بِنَظَرِكَ مُسْتَخِفٍّ، وَلَكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَغَلَبَتْ عَلَيَّ شِقْوَتِي، وَغَرَّنِي سِتْرُكَ الْمُرْخَى عَلَيَّ، والآن فمن عذابك من ينقذني، وَبِحَبْلِ مَنْ أَتَّصِلُ إِنْ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي، وَاسَوْأَتَاهْ مِنْ تصرُّم أَيَّامِي فِي مَعْصِيَةِ رَبِّي، يَا وَيْلِي! كَمْ أَتُوبُ وَكَمْ أَعُودُ، قَدْ حان [لي] أن أستحي مِنْ رَبِّي. قَالَ مَنْصُورٌ: فَلَمَّا سَمِعْتُ كَلامَهُ قُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. بِسْمِ الله الرحمن الرحيم: {يأيها الذين ءامنوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} الآيَةَ. فَسَمِعْتُ صَوْتًا وَاضْطِرَابًا شَدِيدًا وَمَضَيْتُ لِحَاجَتِي، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ رَجَعْتُ، وَإِذَا جِنَازَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى ذَلِكَ الْبَابِ، وَعَجُوزٌ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ فَقُلْتُ لَهَا: مَنْ هَذَا الْمَيِّتُ مِنْكِ؟ فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي لا تُجَدِّدْ عَلَيَّ أَحْزَانِي. قُلْتُ

إِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ، قَالَتْ هَذَا وَلَدِي، مَرَّ بِنَا الْبَارِحَةَ رَجُلٌ لا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا قَرَأَ آيَةً فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ، فَلَمْ يَزَلِ ابْنِي يَبْكِي وَيَضْطَرِبُ حَتَّى مَاتَ. قَالَ مَنْصُورٌ: هكذا والله صفة الخائفين يا بن عَمَّارٍ. يَا صَاحِبُ الْخَطَايَا أَيْنَ الدُّمُوعُ الْجَارِيَةُ، يَا أَسِيرَ الْمَعَاصِي ابْكِ عَلَى الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ، يَا مُبَارِزًا بِالْقَبَائِحِ أَتَصْبِرُ عَلَى الْهَاوِيَةِ؟! يَا نَاسِيًا ذُنُوبَهُ وَالصُّحُفُ لِلْمُنْسَى حَاوِيَةٌ، أَسَفًا لَكَ إِذَا جَاءَكَ الْمَوْتُ وَمَا أَنَبْتَ وَاحَسْرَةً لَكَ إِذَا دُعِيتَ إِلَى التَّوْبَةِ فَمَا أَجَبْتَ كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا نُودِيَ بِالرَّحِيلِ وَمَا تَأَهَّبْتَ، أَلَسْتَ الَّذِي بَارَزْتَ بِالْكَبَائِرِ وَمَا رَاقَبْتَ: (قَدْ مَضَى فِي اللَّهْوِ عُمْرِي ... وَتَنَاهَى فِيهِ أَمْرِي) (شَمَّرَ الأَكْيَاسُ وَأَنَا ... وَاقِفٌ قَدْ شِيبَ أَمْرِي) (بَانَ رِبْحُ النَّاسِ دُونِي ... وَلِحِينِي بَانَ خُسْرِي) (لَيْتَنِي أَقْبَلُ وَعْظِي ... لَيْتَنِي أَسْمَعُ زَجْرِي) (كُلَّ يَوْمٍ أَنَا رَهْنٌ ... بَيْنَ آثَامِي وَوِزْرِي) (لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرَى لِي ... هِمَّةً فِي فَكِّ أَسْرِي) (أَوْ أُرَى فِي ثَوْبِ صِدْقٍ ... قَبْلَ أَنْ أَنْزِلَ قَبْرِي) (وَيْحَ قَلْبِي مِنْ تَنَاسِيهِ ... مَقَامِي يَوْمَ حَشْرِي) (وَاشْتِغَالِي عَنْ خَطَايَا ... أَثْقَلَتْ وَاللَّهِ ظَهْرِي) كَانَ لِبَعْضِ الْعُصَاةِ أُمٌّ تَعِظُهُ وَلا يَنْثَنِي؛ فَمَرَّ يَوْمًا بِالْمَقَابِرِ فَرَأَى عَظْمًا نَخِرًا، فَمَسَّهُ فَانْفَتَّ فِي يَدِهِ [فَأَنِفَتْ نَفْسُهُ] فَقَالَ لِنَفْسِهِ: أَنَا غَدًا هَكَذَا! فَعَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: يَا إِلَهِي اقْبَلْنِي وَارْحَمْنِي. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أُمِّهِ حَزِينًا فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ مَا يُصْنَعُ بِالآبِقِ إِذَا أَخَذَهُ سَيِّدُهُ؟ فَقَالَتْ. يَغُلُّ قَدَمَيْهِ وَيَدَيْهِ وَيُخَشِّنُ مَلْبَسَهُ وَمَطْعَمَهُ. قَالَ: يَا أُمَّاهُ أُرِيدُ جُبَّةً مِنْ صُوفٍ وَأَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ وَافْعَلِي بِي مَا يُفْعَلُ بِالْعَبْدِ الآبِقِ مِنْ مَوْلاهُ، لَعَلَّ مَوْلايَ يَرَى ذُلِّي فَيَرْحَمُنِي. فَفَعَلَتْ بِهِ مَا طلب.

فَكَانَ إِذَا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أَخَذَ فِي الْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ لَيْلَةً: يَا بُنَيَّ ارْفُقْ بِنَفْسِكَ. فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ إِنَّ لِي مَوْقِفًا طَوِيلا بَيْنَ يَدَيْ رَبٍّ جَلِيلٍ، فَلا أَدْرِي أَيُؤْمَرُ بِي إِلَى ظِلٍّ ظَلِيلٍ أَوْ إِلَى شَرٍّ مُقِيلٍ، إِنِّي أَخَافُ عَنَاءً لا رَاحَةَ بَعْدَهُ [أَبَدًا] ، وَتَوْبِيخًا لا عَفْوَ مَعَهُ. قَالَتْ. فَاسْتَرِحْ قَلِيلا. فَقَالَ: الرَّاحَةُ أَطْلُبُ يَا أُمَّاهُ، كَأَنَّكِ بِالْخَلائِقِ غَدًا يُسَاقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَنَا أُسَاقُ إِلَى النَّارِ! فَمَرَّتْ بِهِ ليلة في تهجده هذه الآية {فوربك لنسئلنهم أجمعين، عما كانوا يعملون} فَتَفَكَّرَ فِيهَا وَبَكَى وَاضْطَرَبَ وَغُشِيَ عَلَيْهِ فَجَعَلَتْ أُمُّهُ تُنَادِيهِ وَلا يُجِيبُهَا فَقَالَتْ لَهُ: قُرَّةَ عَيْنِي أَيْنَ الْمُلْتَقَى؟ فَقَالَ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ فَسَلِي مَالِكًا عَنِّي!. ثُمَّ شَهَقَ شَهْقَةً فَمَاتَ. رَحِمَهُ اللَّهُ. فَخَرَجَتْ أُمُّهُ تُنَادِي: أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى الصَّلاةِ عَلَى قَتِيلِ النَّارِ! فَلَمْ يُرَ أَكْثَرُ جَمْعًا وَلا أَغْزَرُ دَمْعًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ. هَذِهِ وَاللَّهِ عَلامَةُ الْمُحِبِّينَ وَأَمَارَاتُ الصَّادِقِينَ وَصِفَاتُ الْمَحْزُونِينَ. (مَآثِمُ الْمُذْنِبِينَ مَا تَنْقَضِي ... آخِرَ الدَّهْرِ أَوْ يَحُلُّوا اللُّحُودَا) (وَحَقِيقٌ أَنْ يَنُوحُوا وَيَبْكُوا ... قَدْ عَصَوْا مَاجِدًا رَءُوفًا وَدُودَا) (كُلُّ ثَكْلَى أَحْزَانُهَا لِنَفَادٍ ... وَلَنَا الْحُزْنُ قَدْ نَرَاهُ جَدِيدَا) (كَيْفَ تَفْنَى أَحْزَانُ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ ... مِرَارًا وَخَانَ مِنْهُ الْعُهُودَا) (وَيْحَ نَفْسِي مَا أَقُولُ إِذَا مَا ... أَحْضَرَ اللَّهُ رُسُلَهُ لِي شُهُودَا) (ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ مَاذَا عَمِلْتَ وَجَاوَزْتَ ... بِمَا كَانَ مِنْكَ فِيهِ الْحُدُودَا) (ثُمَّ تُخْفِي لِمَا اسْتَتَرْتَ مِنَ الْخَلْقِ ... وَبَارَزْتَنِي وَكُنْتُ شَهِيدَا) أَيَا كَثِيرَ الشِّقَاقِ، يَا قَلِيلَ الْوِفَاقِ، يَا مَرِيرَ الْمَذَاقِ، [يَا قَبِيحَ الأَخْلاقِ] يَا عَظِيمَ التَّوَانِي قَدْ سَارَ الرِّفَاقُ، يَا شَدِيدَ التَّمَادِي قَدْ صَعُبَ اللِّحَاقُ، إِخْلاصُكَ مُعْدَمٌ وَمَا لِلنِّفَاقِ نِفَاقٌ، مَعَاصِيكَ فِي إِدْرَاكٍ وَالْعُمْرُ فِي إِمْحَاقٍ، وَسَاعِي الأَجَلِ مُجِدٌّ كَأَنَّهُ فِي سِبَاقٍ، لا الْوَعْظُ يُزْجِرُكَ، وَلا الْمَوْتُ يُنْذِرُكَ، مَا تُطَاقُ.

سجع على قوله تعالى

سجع على قوله تعالى {التائبون العابدون} سُبْحَانَ مَنْ وَفَّقَ [لِلتَّوْبَةِ] أَقْوَامًا، ثَبَّتَ لَهُمْ عَلَى صِرَاطِهَا أَقْدَامًا، كَفُّوا الأَكُفَّ عَنِ الْمَحَارِمِ احْتِرَامًا، وَأَتْعَبُوا فِي اسْتِدْرَاكِ الْفَارِطِ عِظَامًا، فَكَفَّرَ عَنْهُمْ ذُنُوبًا وَآثَامًا، وَنَشَرَ لَهُمْ [بِالثَّنَاءِ] عَلَى مَا عَمِلُوا أَعْلامًا، فَهُمْ عَلَى رِيَاضِ الْمَدَائِحِ بِتَرْكِ الْقَبَائِحِ يَتَقَلَّبُونَ، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ. كَشَفَ لَهُمْ سَجْفَ الدُّنْيَا فَرَأَوْا عُيُوبَهَا، [وَأَلاحَ لَهُمُ الأُخْرَى فَتَلَمَّحُوا غُيُوبَهَا، وَبَادَرُوا شَمْسَ الْحَيَاةِ يَخَافُونَ غُيُوبَهَا] وَأَسْبَلُوا مِنْ دُمُوعِ الأَجْفَانِ عَلَى تِلْكَ الأَشْجَانِ غُرُوبَهَا، وَاشْتَغَلُوا بِالطَّاعَاتِ فَحَصَّلُوا مَرْغُوبَهَا، وَحَثَّهُمُ الإِيمَانُ عَلَى الْخَوْفِ فَمَا يَأْمَنُونَ، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ. نَدِمُوا عَلَى الذُّنُوبِ فَنَدَبُوا، وَسَافَرُوا إِلَى الْمَطْلُوبِ فَاغْتَرَبُوا، وَسَقَوْا غَرْسَ الْخَوْفِ دَمْعَ الأَسَفِ وَشَرِبُوا، فَإِذَا أَقْلَقَهُمُ الْحَذَرُ طَاشُوا وَهَرَبُوا، وَإِذَا هَبَّ عَلَيْهِمْ نَسِيمُ الرَّجَاءِ عَاشُوا وَطَرِبُوا، فَتَأَمَّلْ أَرْبَاحَهُمْ وَتَلَمَّحْ مَا كَسَبُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ نَيْلَ النَّصِيبِ بِالنَّصَبِ يَكُونُ، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ. نَظَرُوا إِلَى الدُّنْيَا بِعَيْنِ الاعْتِبَارِ، فَعَلِمُوا أَنَّهَا لا تَصْلُحُ لِلْقَرَارِ، وَتَأَمَّلُوا أَسَاسَهَا فَإِذَا هُوَ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فنغصوا بالصيام لذة الهوى بالنهار، وبالأسحارهم يَسْتَغْفِرُونَ، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ. هَجَرُوا الْمَنَازِلَ الأَنِيقَةَ، وَفَصَمُوا عُرَى الْهَوَى الْوَثِيقَةَ، وَبَاعُوا الْفَانِيَ بِالْبَاقِي وَكَتَبُوا وَثِيقَةً، وَحَمَّلُوا نَجَائِبَ الصَّبْرِ فَوْقَ مَا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ، وَطَلَبُوا الآخِرَةَ وَاللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، هَكَذَا يَكُونُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ. أَبْدَانُهُمْ قَلْقَى مِنَ الْجُوعِ وَالضَّرَرِ، وَأَجْفَانُهُمْ قَدْ حَالَفَتْ فِي اللَّيْلِ السَّهَرَ، وَدُمُوعُهُمْ تَجْرِي كَمَا يَجْرِي دَائِمَةُ الْمَطَرِ، وَالْقَوْمُ قَدْ تَأَهَّبُوا فَهُمْ عَلَى أَقْدَامِ السَّفَرِ،

عَبَرُوا عَلَيْكُمْ وَمَرُّوا لَدَيْكُمْ وَمَا عِنْدَكُمْ خَبَرٌ، وَتَرَنَّمَتْ حِدَاتُهُمْ لَوْ أَنَّكُمْ تَسْمَعُونَ، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ.

المجلس الثاني في قصة قابيل وهابيل

يا رب سر بنا في سرب النَّجَابَةِ، وَوَفِّقْنَا لِلتَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ، وَافْتَحْ لأَدْعِيَتِنَا أَبْوَابَ الإِجَابَةِ، يَا مَنْ إِذَا سَأَلَهُ الْمُضْطَرُّ أَجَابَهُ، يَا مَنْ يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، التَّائِبُونَ العابدون. المجلس الثاني فِي قِصَّةِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَصَبَ مِنْ كُلِّ كَائِنٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بُرْهَانًا، وتشرَّف عَلَى خَلْقِهِ كَمَا شَاءَ عِزًّا وَسُلْطَانًا [وَتَصَرَّفَ فِي خَلِيقَتِهِ كَمَا شَاءَ عِزًّا وَسُلْطَانًا] وَاخْتَارَ الْمُتَّقِينَ فَوَهَبَ لَهُمْ [بِنِعْمَتِهِ] أَمْنًا وَإِيمَانًا، عَمَّ الْمُذْنِبِينَ بِرَحْمَتِهِ عَفْوًا وَغُفْرَانًا، وَلَمْ يَقْطَعْ أَرْزَاقَ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ جُودًا وَامْتِنَانًا، وَأَعَادَ شُؤْمَ الْحَسَدِ عَلَى الْحَاسِدِ لأَنَّهُ ارْتَكَبَ عُدْوَانًا، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قربانا} . رَوَّحَ أَهْلَ الإِخْلاصِ بِنَسِيمِ قُرْبِهِ، وَحَذَّرَ يَوْمَ الْقِصَاصِ بِجَسِيمِ كَرْبِهِ، وَحَفِظَ السَّالِكَ نَحْوَ رِضَاهُ فِي سُرْبِهِ، وَأَكْرَمَ الْمُؤْمِنَ بِهِ إِذْ كَتَبَ الإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ، حَكَمَ فِي بَرِيَّتِهِ فَأَمَرَ وَنَهَى، وَأَقَامَ بِمَعُونَتِهِ مَا ضَعُفَ وَوَهَى، وَأَيْقَظَ بِمَوْعِظَتِهِ مَنْ غَفَلَ وَسَهَا، وَدَعَا الْمُذْنِبَ إِلَى تَوْبَةٍ لِغُفْرَانِ ذَنْبِهِ. أَرْسَلَ شَمَالا وَدَبُورًا، فَأَنْشَرَ زَرْعًا لَمْ يَكُنْ مَنْشُورًا، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَالْقَمَرَ نُورًا، بَيْنَ شَرْقِهِ وَغَرْبِهِ. رَدَّ عُيُونَ العقول عن صفته وأعشاها، وَأَنْذَرَ بِيَوْمِ مُحَاسَبَتِهِ مَنْ يَخْشَاهَا، وَخَلَقَ لآدَمَ حَوَّاءَ {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ به} . لَيْسَ بِجِسْمٍ فَيُشْبِهُ الأَجْسَامَ، وَلا بِمُتَجَوِّفٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ، وَلا تُحدَث لَهُ صِفَةٌ فَيَتَطَرَّقُ عَلَيْهَا انْعِدَامٌ، نِصْفُهُ بِالنَّقْلِ مِنْ غَيْرِ كَيْفَ وَالسَّلامُ، وَلَعَنَ اللَّهُ الْجَهْمِيَّ والمشبِّه.

أَحْمَدُهُ حَمْدَ عَبْدٍ لِرَبِّهِ مُعْتَذِرٍ إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَأُقِرُّ بِتَوْحِيدِهِ إِقْرَارَ مُخْلِصٍ مِنْ قَلْبِهِ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ضَجِيعِهِ فِي تُرْبِهِ، وَعُمَرَ الَّذِي لا يَسِيرُ الشَّيْطَانُ فِي سَربه؛ وَعُثْمَانَ الشَّهِيدِ لا فِي صَفِّ حَرْبِهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ مُعِينِهِ وَمُغِيثِهِ فِي كَرْبِهِ، وَعَمِّهِ الْعَبَّاسِ الْمُقَدَّمِ عَلَى أَهْلِهِ وَحِزْبِهِ. [اللَّهُمَّ أَصْلِحْ كُلا مِنَّا بِإِصْلاحِ قَلْبِهِ وَأَنْعِمْ عَلَيْهِ بِغُفْرَانِ ذَنْبِهِ، وَانْفَعْنِي وَكُلَّ حَاضِرٍ بِجَسَدِهِ وَلُبِّهِ] . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قربانا} وَلَدَتْ حَوَّاءُ لآدَمَ أَرْبَعِينَ وَلَدًا، وَكَانَتْ لا تلد إلا توأماً ذكراً وأنثى، وأول الأولاد قابيل وتوأمته قليما، وجاء هابيل وتوأمته لبودَا. وَقَابِيلُ وَهَابِيلُ هُمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ابني آدم} . وَقَدْ حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِقَابِيلَ في الجنة. وفيه بعد. و" النبأ ": الْخَبَرُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ " بِالْحَقِّ ": أَيْ كَمَا كَانَ. وَالْقُرْبَانُ: فُعْلانُ مِنَ الْقُرْبِ، قَرَّبَاهُ لِسَبَبٍ. رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يُزَوِّجُ غُلامَ هَذَا الْبَطْنِ جَارِيَةَ الْبَطْنِ الآخر، وجارية هذا غلام البطن ذَلِكَ الْبَطْنِ. وَكَانَتْ أُخْتُ قَابِيلَ أَحْسَنَ مِنْ أُخْتِ هَابِيلَ، فَطَلَبَ هَابِيلُ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَ قَابِيلَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَرَّبَا قُرْبَانًا لِيُتَقَبَّلَ مِنْ أَحَقِّهِمَا بِالْمُسْتَحْسَنَةِ. فَقَرَّبَ هَابِيلُ جَذْعَةً سَمِينَةً، وَقَرَّبَ قَابِيلُ حُزْمَةَ سُنْبُلٍ، فَنَزَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ، وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ، فَغَضِبَ وَقَالَ: لأَقْتُلَنَّكَ. وقوله: {لئن بسطت} اللامُ لامُ الْقَسَمِ، تَقْدِيرُهُ: أُقْسِمُ لَئِنْ بَسَطْتَ. وجوابه: {ما أنا بباسط} وَالْمَعْنَى: مَا أَنْتَصِرُ لِنَفْسِي {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} أن

أبسط يدي للقتل. {إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك} أَيْ تَرْجِعُ بِإِثْمِ قَتْلِي وَإِثْمِكَ الَّذِي مَنَعَ مِنْ قَبُولِ قُرْبَانِكَ. وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا أُرِيدُ هَذَا إن قتلتني. {فطوعت له نفسه} أَيْ زَيَّنَتْ لَهُ قَتْلَهُ. وَفِي كَيْفِيَّةِ قَتْلِهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَمَاهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلَهُ. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: جَاءَهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِصَخْرَةٍ، رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: رَضَخَ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَفِي مَوْضِعِ صَرْعِهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا جَبَلُ ثَوْرٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: عِنْدَ عَقَبَةِ حِرَاءٍ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَالثَّالِثُ: بِالْبَصْرَةِ. قَالَهُ جَعْفَرٌ الصادق. قوله تعالى: {فأصبح من الخاسرين} أَيْ صَارَ مِنْهُمْ، وَخُسْرَانُهُ بِمَعْصِيَتِهِ رَبِّهِ وَبِإِسْخَاطِ وَالِدَيْهِ، وَمَصِيرِهِ إِلَى النَّارِ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ حَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ مِائَةَ سَنَةٍ فَإِذَا مَشَى تَخُطُّ رِجْلاهُ الأَرْضَ، وَإِذَا قَعَدَ وَضَعَهُ إِلَى جَنْبِهِ، إِلَى أَنْ رَأَى غُرَابَيْنِ اقْتَتَلا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، ثُمَّ بَحَثَ الأَرْضَ فَوَارَاهُ، فقال حينئذ: {يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب} فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى حَمْلِهِ لا عَلَى قَتْلِهِ! وَكَانَ عُمْرَ هَابِيلَ حِينَئِذٍ عِشْرِينَ سَنَةً وَعُمْرُ قَابِيلَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. فَلَمَّا قَتَلَهُ هَرَبَ إِلَى الْيَمَنِ. وَحَزِنَ آدَمُ عَلَى هَابِيلَ فَمَكَثَ مِائَةَ سَنَةٍ لا يَضْحَكُ! وَقَالَ: (تَغَيَّرَتِ الْبِلادُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَوَجْهُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحْ)

(تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيحْ) وَأَوْصَى آدَمُ بَنِي هَابِيلَ أَلا يُنَاكِحُوا بَنِي قَابِيلَ، وَشَاعَتِ الْمَعَاصِي فِي أَوْلادِ قَابِيلَ، وَهُمُ الَّذِينَ غَرِقُوا فِي زَمَنِ نُوحٍ، وَانْقَرَضَ جَمِيعُ نَسْلِ بَنِي آدَمَ سِوَى نَسْلِ شِيثَ، وَكَانَ شِيثُ وَصِيَّ آدَمَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَحِيفَةً. وَأَقَامَ بِمَكَّةَ يَحُجُّ وَيَعْتَمِرُ، وَبَنَى الْكَعْبَةَ بِالْحِجَارَةِ وَالطِّينِ، فَلَمَّا احْتُضِرَ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ أنوشَ، وَأَنوشُ أَوَّلُ مَنْ غَرَسَ النخل، وعاش تسعمائة سَنَةٍ وَخَمْسَ سِنِينَ، وَوُلِدَ لَهُ قينَانُ، فَأَوْصَى إِلَيْهِ أنوشُ، وَوُلِدَ لقينَانَ مهْلاييلُ فَأَوْصَى إِلَيْهِ، وولد لمهلابيل يردُ فَأَوْصَى إِلَيْهِ، وَوُلِدَ ليردَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَفِي زَمَنِ يردَ عُبِدَتِ الأَصْنَامُ. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا أَنْبَأَنَا بِهِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ المبارك، أبنأنا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ الْمَرْزُبَانِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ خَلِيلٍ الْقَتِيرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الصَّبَّاحِ، أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ بَنُو شِيثَ يَأْتُونَ جَسَدَ آدَمَ وَهُوَ فِي مَغَارَةٍ فَيُعَظِّمُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قَابِيلَ: يَا بَنِي قَابِيلَ إِنَّ لبني شيث ذوارا يدورون حوله ويعظمونه وليس لكم شئ، فَنَحَتَ لَهُمْ صَنَمًا. وَأَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: كَانَ وَدٌّ وسُواعَ وَيَغُوثُ ويَعوق وَنَسْرٌ قَوْمًا صَالِحِينَ، فَمَاتُوا فِي شَهْرٍ، فَجَزِعَ عَلَيْهِمْ ذَوُو أَقَارِبِهِمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قَابِيلَ: هَلْ لَكُمْ يَا قَوْمِ أَنْ أَعْمَلَ لَكْمُ خَمْسَةَ أَصْنَامٍ عَلَى صُوَرِهِمْ؟ [قَالُوا: نَعَمْ. فَنَحَتَ لَهُمْ خَمْسَةَ أصنام عل صُوَرِهِمْ] فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي أَخَاهُ وَعَمَّهُ وَابْنَ عَمِّهِ، فَيُعَظِّمُهُ وَيَسْعَى حَوْلَهُ حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ الْقَرْنُ، وَجَاءَ قَرْنٌ آخَرُ فَعَظَّمُوهُمْ أَشَدَّ مِنْ تَعْظِيمِ الْقَرْنِ الأَوَّلِ، ثُمَّ جَاءَ الْقَرْنُ الثَّالِثُ، فَقَالُوا: مَا عَظَّمَ أَوَّلُونَا هَؤُلاءِ إِلا وَهُمْ يَرْجُونَ شَفَاعَتَهُمْ، فَعَبَدُوهُمْ وَعَظَّمُوا أَمْرَهُمْ، وَاشْتَدَّ كُفْرُهُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ

إِدْرِيسَ، فَدَعَاهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَشْتَدُّ حَتَّى أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى نُوحًا وَجَاءَ الطُّوفَانُ. فَأَمَّا قَابِيلُ فَإِنَّهُ عُذِّبَ بَعْدَ قَتْلِهِ أَخَاهُ. فَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: علِّقت إِحْدَى رِجْلَيِ الْقَاتِلِ بِسَاقِهَا إِلَى فَخِذِهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوَجْهُهُ فِي الشَّمْسِ حَيْثُمَا دَارَتْ دَارَتْ عَلَيْهِ، عَلَيْهِ فِي الصَّيْفِ حَصِيرَةٌ مِنْ نَارٍ وَفِي الشِّتَاءِ حَصِيرَةٌ مِنْ ثَلْجٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: إِنَّا لَنُحَدَّثُ أَنَّ ابْنَ آدَمَ الْقَاتِلَ يُقَاسِمُ أَهْلَ النَّارِ الْعَذَابَ قِسْمَةً صَحِيحَةً , عَلَيْهِ شَطْرُ عَذَابِهِمْ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ إِبْلِيسَ أَتَى قَابِيلَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا تُقُبِّلَ قُرْبَانُ أَخِيكَ لأَنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ النَّارَ. فَبَنَى بَيْتَ نَارٍ وَعَبَدَهَا وَاتَّخَذَ أَوْلادُهُ الْمَزَامِيرَ وَالطُّبُولَ وَالْمَعَازِفَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: " من أجل ذلك " قَالَ أَبُو الْفَتْحِ النَّحْوِيُّ: يُقَالُ فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَمِنْ إِجْلِكَ بِكَسْرِهَا، وَمِنْ إِجْلالِكَ، وَمِنْ جَلَلِكَ وَمِنْ جَرَّاكَ. وَمَعْنَى كتبنا: فَرَضْنَا. {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} أَيْ قَتَلَهَا ظُلْمًا وَلَمْ تَقْتُلْ نَفْسًا، " أَوْ فساد في الأرض " أَيْ وَبِغَيْرِ فَسَادٍ تَسْتَحِقُّ بِهِ الْقَتْلَ، {فَكَأَنَّمَا قتل الناس جميعا} لأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِنْ شَخْصٍ، فَيُتَصَوَّرُ مِنَ الْمَقْتُولِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ آدم. {ومن أحياها} أَيْ اسْتَنْقَذَهَا مِنْ هَلَكَةٍ.

وَقَدْ حَذَّرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنَ الْحَسَدِ، فَإِنَّهُ أَحْوَجَ قَابِيلَ إِلَى الْقَتْلِ، كَمَا أَخْرَجَ إِبْلِيسَ إِلَى الْكُفْرِ. وَالْقَتْلُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ: " أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ ". أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عبد الله ابن أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَنْ يَزَالَ الْمَرْءُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيِّ. وَبِالإِسْنَادِ قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى الْمُحَبَّرَ يُحَدِّثُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلا مُتَعَمِّدًا يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا قَاتِلَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ، أَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَمًا فِي قُبُلِ الْعَرْشِ يَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ عَبْدَكَ فِيمَ قَتَلَنِي "! أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنْبَأَنَا ابْنُ النَّقُّورِ، أنبأنا أبو حفص الْكَتَّانِيُّ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ - يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ - عَنْ بَشِيرٍ يَعْنِي ابْنَ مُهَاجِرٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا ". وَفِي حَدِيثٍ آخر: " من أعان على قتل امرىء مُسْلِمٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ! ". فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى شَطْرِ كَلِمَةٍ؟ فَالْجَوَابُ: أَنْ يَقُولُ " اقْ " كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: " كَفَى بِالسَّيْفِ شَا " يَعْنِي شَاهِدًا. فَالْحَذَرَ [الْحَذَرَ] مِنَ الذُّنُوبِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَشَدُّهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ، وَأَعْظَمُهَا الْقَتْلُ، وَالْخَطَايَا كُلُّهَا قَبِيحَةٌ، والدين النصيحة.

الكلام على البسملة

الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (أَسْتَغْفِرُ الْمَوْلَى فَقَدْ ذَهَبَتْ ... شِيَمُ الْمُلُوكِ وَرَبُّنَا الْمَلِكُ) (لَمْ يَحْمِهِمْ مِمَّا أَلَمَّ بِهِمْ ... مَا جَمَعُوا قُدُمًا وَمَا مَلَكُوا) (لَمْ يَنْفَعِ الْمُثْرِينَ مَا جَمَعُوا ... مِنْهَا وَلا الطَّاغِينَ مَا سَفَكُوا) (فَلْيَفْرَحِ الصُّلَحَاءُ إِذْ صَلَحُوا ... وَلْيَنْدَمِ الْفُتَّاكُ إِذْ فَتَكُوا) (مِيزَتْ جُسُومُهُمُ حَيَاتَهُمُ ... وَأَتَاهُمُ الْمِقْدَارُ فَالْتَبَكُوا) (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا هُمُ احْتُضِرُوا ... وَدُّوا هُنَالِكَ أَنَّهُمْ نَسَكُوا) ( [فَإِذَا أُسَائِلُ عن لداتي ... فَالأَخْبَارُ تُجْمَعُ أَنَّهُمْ هَلَكُوا) (وَعَلِمْتُ أَيْنَ مَضَى الْخَلِيطُ فَمَا ... أَنَا بِالْمُنَادِي أَيَّةَ سَلَكُوا) (وَعَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي إِذَا ضَحِكَتْ ... وَمِنَ الأَنَامِ إِذَا هُمْ ضَحِكُوا) (رَحَلَ الأَعِزَّةُ عَنْ دِيَارِهِمُ ... أَهُونُ بِمَا أَخَذُوا وَمَا تَرَكُوا) (وَالْمَالُ بَيْنَ النَّاسِ مُقْتَسَمٌ ... وَالْحَقُّ لِلأَرْوَاحِ مُشْتَرَكُ) (وَتَغُرُّنَا الدُّنْيَا الْمُسِيئَةُ وَالآمَالُ ... وَالآجَالُ تَعْتَرِكُ] ) (وَنُفُوسُنَا كَحَمَائِمَ وَقَعَتْ ... لِلصَّائِدِينَ وَدُونَهَا الشَّبَكُ) (مُتَبَصِّرَاتٌ فِي حَبَائِلِهَا ... وَوَهَى جَنَاحٌ ضمه الشرك) (لله سبحت الجواهر ... والأغراض وَالأَنْوَارُ وَالْفَلَكُ) (وتقدِّس الظُّلُمَاتُ خَالِقَهَا ... وَالشُّهُبُ أَفْرَادٌ وَمُشْتَبِكُ) (خَشَعَتْ لِبَارِيهَا الْبَسِيطَةُ وَالأَجْبَالُ ... وَالْقِيعَانُ وَالنَّبَكُ) (وَتَحَدَّثَتْ عَنْهُ الطَّوَالِعُ وَالأَبْرَاجُ ... وَالسُّكَّانُ وَالْحَرَكُ) (وَالْحُوتُ مَجَّدَ فِي النُّجُومِ كَمَا ... فِي الزَّاخِرَاتِ يُمَجِّدُ السَّمَكُ) ( [وَالْبِيضُ وَالصُّفْرُ الْفَوَاقِعُ وَالْمُحَمَّرُ ... وَالْمُسَوَّدُ وَالْحُلُكُ) (والطير والوحش الرواتع ... والجني والإنس وَالْمَلَكُ) أَيْنَ آبَاؤُكَ مَرُّوا وَسَلَكُوا، أَيْنَ أَقْرَانُكَ أَمَا رَحَلُوا وَانْصَرَفُوا؟ أَيْنَ أَرْبَابُ الْقُصُورِ أَمَا أَقَامُوا فِي الْقُبُورِ وَعَكَفُوا، أَيْنَ الأَحْبَابُ هَجَرَهُمُ المحبون وصدفوا،

فَانْتَبِهْ لِنَفْسِكَ فَالْمُتَيَقِّظُونَ قَدْ عَرَفُوا، فَسَتَحْمِلُكَ الأَهْلُ إِلَى الْقُبُورِ وَرُبَّمَا مَرُّوا فَانْحَرَفُوا. ( [نَادَتْ بِوَشْكِ رَحِيلِكَ الأَيَّامُ ... أَفَأَنْتَ تَسْمَعُ أَمْ بِكَ اسْتِصْمَامُ) (تَأْتِي الْخُطُوبُ وَأَنْتَ مُنْتَبِهٌ لَهَا ... فَإِذَا مَضَتْ فَكَأَنَّهَا أَحْلامُ] ) يَا غَافِلا مَا يُفِيقُ، يَا حَامِلا مَا لا يُطِيقُ، أَلَسْتَ الَّذِي بَارَزْتَ بِالذُّنُوبِ مَوْلاكَ، أَلَسْتَ الَّذِي عَصَيْتَهُ وَهُوَ يَرْعَاكَ، أَسَفًا لَكَ مَا الَّذِي دَهَاكَ حَتَّى بِعْتَ هُدَاكَ بِهَوَاكَ، يَا لَيْتَ عَيْنَكَ أَبْصَرَتْ ذُلَّ الْخَطَايَا قَدْ عَلاكَ. (أَتَضْحَكُ أَيُّهَا الْعَاصِي ... وَمِثْلُكَ بِالْبُكَا أَحْرَى) (وَبِالْحُزْنِ الطَّوِيلِ عَلَى ... الَّذِي قَدَّمْتَهُ أَوْلَى) (نَسِيتَ قَبِيحَ مَا أَسْلَفْتَ ... وَالرَّحْمَنُ لا يَنْسَى) (فَبَادِرْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ ... قَبْلَ حُلُولِ مَا تَخْشَى) (بِإِقْلاعٍ وَإِخْلاصٍ ... لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْضَى) كان محمد بن السماك يقول: يا بن آدَمَ أَنْتَ فِي حَبْسٍ مُنْذُ كُنْتَ، أَنْتَ مَحْبُوسٌ فِي الصُّلْبِ، ثُمَّ فِي الْبَطْنِ، ثُمَّ فِي الْقِمَاطِ، ثُمَّ فِي الْمَكْتَبِ، ثُمَّ تَصِيرُ مَحْبُوسًا فِي الْكَدِّ عَلَى الْعِيَالِ، فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ الرَّاحَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، لا تَكُونُ فِي حَبْسٍ أيضاً. وكان أبو حازم يقول: اضمنوا لي اثْنَيْنِ، أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: عَمَلا بِمَا تَكْرَهُونَ إِذَا أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَتَرْكًا لِمَا تُحِبُّونَ إِذَا كَرِهَهُ اللَّهُ. وَقَالَ: انْظُرْ كُلَّ عَمَلٍ كَرِهْتَ الْمَوْتَ لأَجْلِهِ فَاتْرُكْهُ وَلا يَضُرُّكَ مَتَى مِتَّ. يَا رَضِيعَ الْهَوَى وَقَدْ آنَ فِطَامُهُ، يَا طَالِبَ الدُّنْيَا وَقَدْ حَانَ حِمَامُهُ، أَلِلدُّنْيَا خُلِقْتَ أَمْ بِجَمْعِهَا أُمِرْتَ؟! (أَخِي إِنَّمَا الدُّنْيَا مَحَلَّةٌ نَغِصَةٌ ... وَدَارُ غُرُورٍ آذَنَتْ بِفِرَاقِ) (تَزَوَّدْ أَخِي مِنْ قَبْلِ أَنْ تَسْكُنَ الثَّرَى ... وَتْلَتَفَّ سَاقٌ للممات بِسَاقِ) يَا مَنْ لا يَتَّعِظُ بِأَبِيهِ وَلا بِابْنِهِ، يَا مُؤْثِرًا لِلْفَانِي عَلَى جَوْدَةِ ذِهْنِهِ، يا متعوضا

عَنْ فَرَحِ سَاعَةٍ بِطُولِ حُزْنِهِ، يَا مُسْخِطًا للخالق لأجل المخلوق ضلالاً لإفنه، أمالك عِبْرَةٌ فِيمَنْ ضُعْضِعَ مَشِيدُ رُكْنِهِ، أَمَا رَأَيْتَ رَاحِلا عَنِ الدُّنْيَا يَوْمَ ظَعْنِهِ، أَمَا تَصَرَّفَتْ فِي مَالِهِ أَكُفُّ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، أَمَا انْصَرَفَ الأَحْبَابُ عَنْ قَبْرِهِ حِينَ دَفْنِهِ، أَمَا خَلا بِمَسْكَنِهِ فِي ضِيقِ سِجْنِهِ، تَنَبَّهَ وَاللَّهِ مَنْ وَسَنِهِ لِقَرْعِ سِنِّهِ، وَلَقِيَ فِي وَطَنِهِ مَا لَمْ يَخْطُرْ عَلَى ظِنِّهِ، يَا ذِلَّةَ مَقْتُولِ هَوَاهُ يَا خُسْرَانَ عَبْدِ بَطْنِهِ. (يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا ادَّخَرْتَ ... لِيَوْمِ بُؤْسِكَ وافتقارك) (فلتنزلوا بِمَنْزِلٍ ... تَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى ادِّخَارِكَ) (أَفْنَيْتَ عُمْرَكَ بِاغْتِرَارِكْ ... وَمُنَاكَ فِيهِ بِانْتِظَارِكْ) (وَنَسِيتَ مَا لا بُدَّ مِنْهُ ... وَكَانَ أَوْلَى بِادِّكَارِكْ) (وَلَوِ اعْتَبَرْتَ بِمَنْ مَضَى ... لَكَفَاكَ عِلْمًا بِاعْتِبَارِكْ) (لَكَ سَاعَةٌ تَأْتِيكَ مِنْ ... سَاعَاتِ لَيْلِكَ أَوْ نَهَارِكْ) (فَتَصِيرُ مُحْتَضَرًا بِهَا ... فَتَهِي مِنْ قَبْلِ احْتِضَارِكْ) (مَنْ قَبْلِ أَنْ تُقْلَى وَتُقْصَى ... ثُمَّ تُخْرَجُ مِنْ دِيَارِكْ) (مَنْ قَبْلِ أَنْ تَتَشَاغَلَ الزُّوَّارُ ... عَنْكَ وَعَنْ مَزَارِكْ) أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفْرٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جَهْضَمٍ، حَدَّثَنَا الْخُلْدِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْرُوقٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ , قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِدَاوُدَ الطَّائِيِّ: أَوْصِنِي. فَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ , وَقَالَ: يَا أَخِي إِنَّمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَرَاحِلُ يَنْزِلُهَا النَّاسُ مَرْحَلَةً بَعْدَ مَرْحَلَةٍ , حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى آخِرِ سَفَرِهِمْ , فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُقَدِّمَ كُلَّ يَوْمٍ زَادًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْكَ فَافْعَلْ , فَإِنَّ انْقِطَاعَ السَّفَرِ عَنْ قَرِيبٍ وَالأَمْرَ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ , فَتَزَوَّدْ لِنَفْسِكَ وَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ , فَكَأَنَّكَ بِالأَمْرِ قَدْ بَغَتَكَ , إِنِّي لأَقُولُ لَكَ هَذَا وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَشَدَّ تَقْصِيرًا مِنِّي!! ثم قام وتركه. (يا لاهياً بالمنايا قد غَرَّهُ الأَمَلُ ... وَأَنْتَ عَمَّا قَلِيلٍ سَوْفَ تَرْتَحِلُ) (تَبْغِي اللُّحُوقَ بِلا زَادٍ تُقَدِّمُهُ ... إِنَّ الْمُخِفِّينَ لَمَّا شَمَّرُوا وَصَلُوا) (لا تَرْكَنَنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... فَأَنْتَ مِنْ عَاجِلِ الدُّنْيَا سَتَنْتَقِلُ)

الكلام على قوله تعالى

(أَصْبَحْتَ تَرْجُو غَدًا يَأْتِي وَبَعْدَ غَدٍ ... وَرُبَّ ذِي أَمَلٍ قَدْ خَانَهُ الأَمَلُ) (هَذَا شَبَابُكَ قَدْ وَلَّتْ بَشَاشَتُهُ ... مَا بَعْدَ شَيْبِكَ لا لَهْوٌ وَلا جَدَلُ) (مَاذَا التَّعَلُّلُ بِالدُّنْيَا وَقَدْ نَشَرَتْ ... لأَهْلِهَا صِحَّةً فِي طَيِّهَا عِلَلُ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ ربكم} لَقَدْ دَعَاكُمْ إِلَى الْبِدَارِ مَوْلاكُمْ , وَفَتَحَ بَابَ الإِجَابَةِ ثُمَّ اسْتَدْعَاكُمْ , وَدَلَّكُمْ عَلَى مَنَافِعِكُمْ وَهُدَاكُمْ , فَالْتَفِتُوا عَنِ الْهَوَى فَقَدْ آذَاكُمْ , وَحُثُّوا حَزْمَ جَزْمِكُمْ , وَصُبُّوا ذُنُوبَ الْحُزْنِ عَلَى ذَنْبِكُمْ , وَسَارِعُوا إلى مغفرة من ربكم. بَابُهُ مَفْتُوحٌ لِلطَّالِبِينَ , وَجَنَابُهُ مَبْذُولٌ لِلرَّاغِبِينَ؛ وَفَضْلُهُ يُنَادِي: يَا غَافِلِينَ، وَإِحْسَانُهُ يُنَادِي الْجَاهِلِينَ , فَاخْرُجُوا مِنْ دَائِرَةِ الْمُذْنِبِينَ , وَبَادِرُوا مُبَادَرَةَ التَّائِبِينَ , وَتَعَرَّضُوا لِنَسَمَاتِ الرَّحْمَةِ تَخَلَّصُوا مِنْ كَرْبِكُمْ , وَسَارِعُوا إِلَى مغفرة من ربكم. كَمْ شُغِلْتُمْ بِالْمَعَاصِي فَذَهَبَ الْفَرْضُ , وَبَارَزْتُمْ بِالْخَطَايَا وَنَسِيتُمُ الْعَرْضَ , وَأَعْرَضْتُمْ عَنِ النَّذِيرِ وَهُوَ الشَّعْرُ الْمُبْيَضُّ , وَحَضَّكُمْ عَلَى اكْتِسَابِ حَظِّكُمْ فَمَا نَفَعَ الْحَضُّ , وَطَالَتْ آمَالُكُمْ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ الشَّبَابُ الْغَضُّ , وَرَأَيْتُمْ سَلْبَ الْقُرَنَاءِ وَلَقَدْ أُنْذِرَ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ , فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ مِنْ سِجْنِ الْهَوَى فَقَدْ ضَاقَ طُولُهُ وَالْعَرْضُ , وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض. رَوَى مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى بَدْرٍ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ , وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ. قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الحمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ؟! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بَخٍ بَخٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟ قَالَ [لا] وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أهلها , قال:

فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قِرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُهُنَّ ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ. فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَيْضًا فِي يَوْمِ أُحُدٍ: قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات والأرض. فقام عمرو من الجموح وهو أعرج فقال: والله لأحفزن بِهَا فِي الْجَنَّةِ. فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا أَرَادَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ الْخُرُوجَ إِلَى أُحُدٍ , مَنَعَهُ بَنُوهُ , وَقَالُوا: قَدْ عَذَرَكَ اللَّهُ. فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ بَنِيَّ يُرِيدُونَ حَبْسِي عَنِ الْخُرُوجِ مَعَكَ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرَجَتِي [هَذِهِ] فِي الْجَنَّةِ , فَقَالَ: " أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذَرَكَ اللَّهُ " ثُمَّ قَالَ لِبَنِيهِ: لا عَلَيْكُمْ أن تَمْنَعُوهُ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرْزُقُهُ الشَّهَادَةَ. فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ. قَالَتِ امْرَأَتُهُ هِنْدُ بِنْتُ عَمْرِو بن خزام: كأني أنظر إليه مولياً , فقد أَخَذَ دَرَقَتَهُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لا تَرُدَّنِي إِلَى خَرَبِي وَهِيَ مَنَازِلُ بَنِي سَلَمَةَ. قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ حِينَ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ ثُمَّ ثَابُوا , وَهُوَ فِي الرَّعِيلِ الأَوَّلِ , لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ظَلْعٍ فِي رِجْلِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أنا والله مشتاق إلى الجنة! ثم أنظر إِلَى ابْنِهِ خَلادٍ [وَهُوَ] يَعْدُو [مَعَهُ] فِي إِثْرِهِ حَتَّى قُتِلا جَمِيعًا. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ دُفِنَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو جَابِرٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ , فَخَرَّبَ السَّيْلُ قَبْرَهُمْ , فَحُفِرَ عَنْهُمْ بَعْدَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً فَوُجِدُوا لَمْ يَتَغَيَّرُوا كَأَنَّهُمْ مَاتُوا بِأَمْسِ. للَّهِ دَرُّ قَوْمٍ بَادَرُوا الأَوْقَاتَ , وَاسْتَدْرَكُوا الْهَفَوَاتَ , فَالْعَيْنُ مَشْغُولَةٌ بِالدَّمْعِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ , وَاللِّسَانُ مَحْبُوسٌ فِي سِجْنِ الصَّمْتِ عَنِ الْهَلَكَاتِ , وَالْكَفُّ قَدْ كفت بالخوف عن الشهوات , والقدم قد قُيِّدَتْ بِقَيْدِ الْمُحَاسَبَاتِ , وَاللَّيْلُ لَدَيْهِمْ يَجْأَرُونَ فِيهِ بِالأَصْوَاتِ , فَإِذَا جَاءَ النَّهَارُ قَطَعُوهُ بِمُقَاطَعَةِ اللَّذَّاتِ , فَكَمْ مِنْ شَهْوَةٍ مَا بَلَغُوهَا حَتَّى الْمَمَاتِ , فَتَيَقَّظْ لِلِحَاقِهِمْ مِنْ هَذِهِ الرَّقَدَاتِ , وَلا تَطْمَعَنَّ في

الْخَلاصِ مَعَ عَدَمِ الإِخْلاصِ فِي الطَّاعَاتِ , وَلا تُؤَمِّلَنَّ النَّجَاةَ وَأَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى الْمُوبِقَاتِ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمنوا وعملوا الصالحات} . (عَجَبًا لأَمْنِكَ وَالْحَيَاةُ قَصِيرَةٌ ... وَبِفَقْدِ إِلْفٍ لا تَزَالُ تُرَوَّعُ) (أَفَقَدْ رَضِيتَ بِأَنْ تَعَلَّلَ بِالْمُنَى ... وَإِلَى الْمَنِيَّةِ كُلَّ يَوْمٍ تُدْفَعُ) (لا تَخْدَعَنَّكَ بَعْدَ طُولِ تَجَارِبٍ ... دُنْيَا تَغِرُّ بِوَصْلِهَا وَسَتُقْطَعُ) (أَحْلامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلِّ زَائِلٍ ... إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لا يُخْدَعُ) (وَتَزَوَّدَنَّ لِيَوْمِ فَقْرِكَ دَائِبًا ... أَلِغَيْرِ نَفْسِكَ لا أَبَالَكَ تَجْمَعُ) لَمَّا عَلِمَ الصالحون قصر العمر , وحثهم حادي " وسارعوا " طَوَوْا مَرَاحِلَ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ انْتِهَابًا لِلأَوْقَاتِ. كَانَ فِي مَسْجِدِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ سَوْطٌ يُخَوِّفُ بِهِ نَفْسَهُ , فَإِذَا فَتَرَ ضَرَبَهَا بِالسَّوْطِ. وَكَانَ مُصَلَّى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ فِرَاشَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً , وَبَقِيَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يُصَلِّي الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ! وَكَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ يَقُولُ: لأَعْبُدَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عِبَادَةَ الْمَلائِكَةِ. فَيَقْطَعُ لَيْلَةً قَائِمًا وَلَيْلَةً رَاكِعًا وَلَيْلَةً سَاجِدًا. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الله بن العباس يَسْجُدُ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ سَجْدَةٍ , فَسُمِّيَّ السَّجَّادَ. وَكَانَ كُرْزُ بْنُ وَبَرَةَ يُعَصِّبُ رِجْلَيْهِ بِالْخِرَقِ لِكَثْرَةِ صَلاتِهِ , فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى جِسْرٍ , فَنَزَلَ يُصَلِّي لِئَلا يَبْطُلَ. وَدَخَلُوا عَلَى زُجْلَةَ الْعَابِدَةِ , وَكَانَتْ قَدْ صَامَتْ حَتَّى اسْوَدَّتْ , وَبَكَتْ حَتَّى عَمِيَتْ , وَصَلَّتْ حَتَّى أُقْعِدَتْ , فَذَاكَرُوهَا شَيْئًا مِنَ الْعَفْوِ , فَشَهَقَتْ ثُمَّ قَالَتْ:

سجع على قوله تعالى)

عِلْمِي بِنَفْسِي قَرَّحَ فُؤَادِي وَكَلَمَ كَبِدِي , وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْنِي. فَقِيلَ [لَهَا] : ارْفُقِي بِنَفْسِكَ. فَقَالَتْ: إِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ [قَلائِلُ] تُسْرِعُ، مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ الْيَوْمَ لَمْ يُدْرِكْهُ غَدًا. ثُمَّ قَالَتْ: يَا إِخْوَتَاهُ لأُصَلِّيَنَّ للَّهِ مَا أَقَلَّتْنِي جَوَارِحِي , وَلأَصُومَنَّ لَهُ أَيَّامَ حَيَاتِي , وَلأَبْكِيَنَّ مَا حَمَلَتِ الْمَاءَ عَيْنَايَ , أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَأْمُرَ عَبْدَهُ بِأَمْرٍ فَيُقَصِّرَ! فَهَذِهِ وَاللَّهِ صِفَاتُ الْمُجْتَهِدِينَ , وَهَذِهِ خِصَالُ الْمُبَادِرِينَ , فَانْتَبِهُوا يَا غَافِلِينَ. (دَارُكَ فَمَا عُمْرُكَ بِالْوَانِي ... وَلا تَثِقْ بِالْعُمْرِ الْفَانِي) (يَأْتِي لَكَ الْيَوْمُ بِمَا تَشْتَهِي ... فِيهِ وَلا يَأْتِي لَكَ الثَّانِي) (وَيَأْمُلُ الْبَانِي بَقَاءَ الَّذِي ... يَبْنِي وَقَدْ يُخْتَلَسُ الْبَانِي) (تُصْبِحُ فِي شَأْنٍ بِمَا تَقْتَنِي ... الآمَالَ وَالأَيَّامُ فِي شَانِ) (فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْحَقِّ مُسْتَبْصِرًا ... إِنْ كُنْتَ ذَا عَقْلٍ وَعِرْفَانِ) (هَلْ نَالَ مِنْ جَمَّعَ أَمْوَالَهُ ... يَوْمًا سِوَى قَبْرٍ وَأَكْفَانِ) (أَلَيْسَ كِسْرَى بَعْدَمَا نَالَهُ ... زُحْزِحَ عَنْ قَصْرٍ وَإِيوَانِ) ( [وَعَادَ فِي حُفْرَتِهِ خَالِيًا ... بِتُرْبَةٍ يَبْلَى وَدِيدَانِ] ) (كَمْ تَلْعَبُ الدُّنْيَا بِأَبْنَائِهَا ... تَلاعُبَ الْخَمْرِ بِنَشْوَانِ) (وَالنَّاسُ فِي صُحْبَتِهَا ضِحْكَةٌ ... قَدْ رَفَضُوا الْبَاقِي بِالْفَانِي) (وَهُمْ نِيَامٌ عَنْ مَلَمَّاتِهَا ... تُبْصِرُهُمْ فِي زِيِّ يَقْظَانِ) ( سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى) : {الَّذِينَ ينفقون في السراء والضراء} أَيْ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ صَدَقُوا فِي الْمَحَبَّةِ وَالْوَلاءِ , وَصَبَرُوا عَلَى نُزُولِ الْبَلاءِ , وَقَامُوا فِي دَيَاجِي الظَّلْمَاءِ , يَشْكُرُونَ [عَلَى] سَوَابِغِ النَّعْمَاءِ , فَجَرَتْ دُمُوعُ جُفُونِهِمْ جَرَيَانَ الْمَاءِ ,

فَأَرْبَحَهُمْ فِي الْمُعَامَلَةِ رَبُّ السَّمَاءِ , يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. بَذَلُوا الْمَالَ وَمَالُوا إِلَى السَّخَاءِ , وَطَرَقُوا بَابَ الْفَضْلِ بِأَنَامِلِ الرَّجَاءِ , وَتَلَمَّحُوا وَعْدَ الصَّادِقِ بِجَزِيلِ الْعَطَاءِ , وَتَأَهَّبُوا لِلْحُضُورِ يَوْمَ اللِّقَاءِ , وَقَدَّمُوا الأَمْوَالَ ثِقَةً بِالْجَزَاءِ , يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. أَنَاخُوا بِبَابِ الطَّبِيبِ طَلَبًا لِلشِّفَاءِ , وَصَبَرُوا رَجَاءَ الْعَافِيَةِ عَلَى شُرْبِ الدَّوَاءِ , فَإِنِ ابْتُلُوا صَبَرُوا , وَإِنْ أُعْطُوا شَكَرُوا , فَالأَمْرُ عَلَى السَّوَاءِ. تَاللَّهِ لَقَدْ شَغَلَهُمْ حُبُّهُ عَنِ الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ , وَلَقَدْ عَامَلُوهُ بِإِيثَارِ الْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ [الَّذِينَ] يُنْفِقُونَ في السراء والضراء. قوله تعالى: {والكاظمين الغيظ} الْكَظْمُ: الإِمْسَاكُ عَلَى مَا فِي النَّفْسِ. أَخْبَرَنَا أحمد , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ , حَدَّثَنَا سَعِيدٌ يَعْنِي ابْنَ أَبِي أَيُّوبَ , حَدَّثَنِي أَبُو مَرْحُومٍ , عَنِ ابْنِ الْحُصَيْنِ , قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ , قَالَ ابْنُ مَالِكٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ تَعَالَى [يَوْمَ الْقِيَامَةِ] على رؤوس الْخَلائِقِ ثُمَّ يُخَيَّرُ أَيَّ الْحُورِ الْعِينِ شَاءَ. قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ , عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ , عَنِ الْحَسَنِ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جَرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْعَافِينَ عَنِ الناس} رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزًّا ". وقال علي عليه السلام: إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شُكْرًا لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.

وَشَتَمَ رَجُلٌ عُمَرَ بْنَ ذَرٍّ فَقَالَ: لا تُفْرِطَنَّ فِي شَتْمِنَا , وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا , فَإِنَّا لا نكافىء مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا إِلا أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ. وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَجَعَلَ يَقُولُ: أَنْتَ كَذَا وَأَنْتَ كَذَا , فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَغَفَرَ اللَّهُ لِي , وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ. وَأُتِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِرَجُلٍ كَانَ قَدْ نَذَرَ إِنْ أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ لَيَفْعَلَنَّ بِهِ وَلَيَفْعَلَنَّ. فَقَالَ لَهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ: قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ما تحب من الظفر فافعل ما تيب مِنَ الْعَفْوِ. وَأَغْلَظَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , فَأَطْرَقَ طَوِيلا ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَسْتَفِزَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِعِزِّ السُّلْطَانِ فَأَنَالَ مِنْكَ الْيَوْمَ مَا تَنَالُهُ مِنِّي غَدًا. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَشْهَدُ أَنَّكَ مِنَ الْفَاسِقِينَ. فَقَالَ: لا أُجِيزُ شَهَادَتَكَ. وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ مَرْوَانَ: إِنَّ فُلانًا يَشْتُمُكَ فَقَالَ: لأَغِيظَنَّ مَنْ أَمَرَهُ , يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَهُ. قِيلَ لَهُ: وَمَنْ أَمَرَهُ؟ قَالَ: الشَّيْطَانُ. قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله} . الْفَاحِشَةُ: الْقَبِيحَةُ , وَهِيَ الْكَبَائِرُ , وَالاسْتِغْفَارُ يَمْحُو أَثَرَ الذُّنُوبِ. أَسَفًا لِعَبْدٍ كُلَّمَا كَثُرَتْ أَوْزَارُهُ قَلَّ اسْتِغْفَارُهُ وَكُلَّمَا قَرُبَ مِنَ الْقُبُورِ قَوِيَ عِنْدَهُ الْفُتُورُ. (يَا مُدْمِنَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحِي ... اللَّهَ فِي الْخَلْوَةِ ثَانِيكَا) (غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهَالُهُ ... وَسَتْرُهُ طُولَ مَسَاوِيكَا) إِخْوَانِي: إِنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَارًا , وَمَرْبُوبُونَ اقْتِسَارًا , وَمُضْمَنُونَ أَجْدَاثًا , وَكَائِنُونَ رُفَاتًا وَمَبْعُوثُونَ أَفْرَادًا , فَاتَّقُوا اللَّهَ تُقْيَةَ مَنْ شَمَّرَ تَجْرِيدًا وجد تشميراً؛

وَنَظَرَ فِي الْمَآلِ وَعَاقِبَةِ الْمَصِيرِ , وَمَغَبَّةِ الْمَرْجِعِ , وَكَفَى بِالْجَنَّةِ نَوَالا وَبِالنَّارِ نَكَالا. فَرَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا اقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ , وَوَجِلَ فَعَمِلَ , وَحَاذَرَ فَبَادَرَ , وَعُمِّرَ فَاعْتُبِرَ , وَأَجَابَ فَأَنَابَ , وَرَاجَعَ فَتَابَ , وَتَزَوَّدَ لِرَحِيلِهِ وَتَأَهَّبَ لِسَبِيلِهِ. فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ غَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلا الْهَرَمَ , وَأَهْلُ بِضَاعَةِ الصِّحَّةِ إِلا السَّقَمَ , وَأَهْلُ طُولِ الْبَقَاءِ إِلا مُفَاجَأَةَ الْفَنَاءِ وَاقْتِرَابَ الْفَوْتِ وَنُزُولَ الْمَوْتِ , وَأَزَفَ الانْتِقَالِ وَإِشْفَاءَ الزَّوَالِ , وَحَفْزَ الأَنِينِ , وَعَرَقَ الْجَبِينِ وَامْتِدَادَ الْعِرْنِينِ , وَعِظَمَ الْقَلَقِ وَقَبْضَ الرَّمَقِ. جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ أَفَاقَ لِنَفْسِهِ وَفَاقَ بِالتَّحَفُّظِ أَبْنَاءُ جِنْسِهِ , وَأَعَدَّ عُدَّةً تَصْلُحُ لِرَمْسِهِ , وَاسْتَدْرَكَ فِي يَوْمِهِ مَا مَضَى مِنْ أَمْسِهِ , قَبْلَ ظُهُورِ الْعَجَائِبِ وَمَشِيبِ الذَّوَائِبِ , وَقُدُومِ الْغَائِبِ وَزَمِّ الرَّكَائِبِ , إِنَّهُ سميع الدعاء.

المجلس الثالث في ذكر إدريس عليه السلام

المجلس الثالث فِي ذِكْرِ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلِيمًا عَظِيمًا عَلِيًّا , جَبَّارًا قَهَّارًا قَادِرًا قَوِيًّا , رَفَعَ سَقْفَ السَّمَاءِ بِصَنْعَتِهِ فَاسْتَوَى مَبْنِيًّا , وَسَطَحَ الْمِهَادَ بِقُدْرَتِهِ وَسَقَاهُ كُلَّمَا عَطِشَ رِيًّا , وَأَخْرَجَ صُنُوفَ النَّبَاتِ فَكَسَى كُلَّ نبت زيا , قسم الخلائق سعيداً وشقياً , و [قسم] الرِّزْقَ بَيْنَهُمْ فَتَرَى فَقِيرًا وَغَنِيًّا , وَالْعَقْلَ فَجَعَلَ [مِنْهُمْ] ذَكِيًّا وَغَبِيًّا , أَلْهَمَ إِدْرِيسَ الاحْتِيَالَ عَلَى جَنَّتِهِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ مِنْ لَذَّاتِهَا وَيَلْبَسُ حُلِيًّا , {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نبيا} . فَهُوَ الَّذِي جَادَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِإِسْعَادِهِ , وَبَيَّنَ لَهُمْ مَنَاهِجَ الْهُدَى بِفَضْلِهِ وَإِرْشَادِهِ , وَرَمَى الْمُخَالِفِينَ [لَهُ] بِطَرْدِهِ وَإِبْعَادِهِ , وَأَجْرَى الْبَرَايَا عَلَى مَشِيئَتِهِ وَمُرَادِهِ , وَاطَّلَعَ عَلَى سِرِّ الْعَبْدِ وَقَلْبِهِ وَفُؤَادِهِ , وَقَدَّرَ صَلاحَهُ وَقَضَى عَلَيْهِ بِفَسَادِهِ , فَهُوَ الْبَاطِنُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ. أَحْمَدُهُ عَلَى إِصْدَارِهِ وَإِيرَادِهِ , حَمْدَ مُعْتَرِفٍ [لَهُ] بِإِنْشَائِهِ وَإِيجَادِهِ , وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ , شَهَادَةً تَجْلُو قَلْبَ قَائِلِهَا مِنْ رَيْنِ سَوَادِهِ , [وَأَشْهَدُ] أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ [الْمُرْسَلُ] إِلَى [جَمِيعِ] النَّاسِ فِي جَمِيعِ بِلادِهِ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ حَارِسِ الإِسْلامِ يَوْمَ الرِّدَّةِ عَنِ ارْتِدَادِهِ , وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي نَطَقَ الْقُرْآنُ بِمُرَادِهِ , وَعَلَى عُثْمَانَ مُشْتَرِي سِلَعِ السَّهَرِ بِنَقْدِ رُقَادِهِ , وَعَلَى عَلِيٍّ قَامِعِ أَعْدَائِهِ وَمُهْلِكِ أَضْدَادِهِ , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ آخِذِ الْبَيْعَةِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ عَلَى مُرَادِهِ.

اللَّهُمَّ احْرُسْنَا بِعَيْنِكَ الَّتِي لا تَنَامُ , وَاحْفَظْنَا مِنَ الْخَطَايَا وَالآثَامِ , وَارْحَمْنَا بِفَضْلِكَ يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ , وَانْفَعْنِي وَالْحَاضِرِينَ بِمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِي مِنَ الْكَلامِ بِرَحْمَتِكَ يَا عَظِيمُ يَا عَلامُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إدريس إنه كان صديقا نبيا} إِدْرِيسُ اسْمُهُ أخنُوخُ بْنُ يردَ بْنِ مهلاييلَ ابن قيدار بن أنوش بن شيث ابن آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ أَوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ بَعْدَ آدَمَ , وَكَانَ يَصْعَدُ لَهُ فِي الْيَوْمِ مِنَ العمل ما لم يَصْعَدُ لِبَنِي آدَمَ فِي السَّنَةِ , فَحَسَدَهُ إِبْلِيسُ وَعَصَاهُ قَوْمُهُ , فَرَفَعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا , وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ. قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: وُلِدَ إِدْرِيسُ فِي حَيَاةِ آدَمَ , وَقَدْ مَضَى مِنْ عُمْرِ آدَمَ ستمائة سَنَةٍ وَاثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً , وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ثَلاثِينَ صَحِيفَةً , فَدَعَا قَوْمَهُ وَوَعَظَهُمْ وَنَهَاهُمْ أَلا يُلابِسُوا وَلَدَ قَابِيلَ , فَخَالَفُوهُ فَجَاهَدَهُمْ وَسَبَى مِنْهُمْ وَاسْتَرَقَّ. وَهُو أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ وخاط الثياب , ورفع وهو ابن ثلاثمائة وخمس ستين سَنَةً. وَعَاشَ أَبُوهُ [آدَمُ] بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ مِائَةً وَخَمْسًا وَثَلاثِينَ سَنَةً. وَفِي الْمَكَانِ الَّذِي رُفِعَ إِلَيْهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ رَأَى إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. وَفِي سَبَبِ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثلاثة أقوال:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ يَصْعَدُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ مِثْلُ مَا يَصْعَدُ لِجَمِيعِ بَنِي آدَمَ , فَأَحَبَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ , فَاسْتَأْذَنَ اللَّهَ تَعَالَى فِي خُلَّتِهِ: فَأَذِنَ لَهُ , فَهَبَطَ إِلَيْهِ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ , وَكَانَ يَصْحَبُهُ , فَلَمَّا عَرَفَهُ قَالَ: إِنِّي أَسْأَلُكَ حَاجَةً. قَالَ: مَا هِيَ. قَالَ: تُذِيقُنِي الْمَوْتَ فَلَعَلِّي أَعْلَمُ شِدَّتَهُ فَأَكُونُ أَشَدَّ لَهُ اسْتِعْدَادًا. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَنِ اقْبِضْ رُوحَهُ سَاعَةً ثُمَّ أَرْسِلْهُ. فَفَعَلَ. ثُمَّ قَالَ [لَهُ] : كيف رأيت الموت؟ قال: أشد مما بَلَغَنِي عَنْهُ , وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُرِيَنِي النَّارَ. فَحَمَلَهُ فَأَرَاهُ إِيَّاهَا فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُرِيَنِي الْجَنَّةَ فَأَرَاهُ إِيَّاهَا فَلَمَّا دَخَلَهَا وَطَافَ فِيهَا قَالَ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ: اخْرُجْ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَخْرُجُ حَتَّى يَكُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُخْرِجُنِي. فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا , فَقَالَ: مَا تَقُولُ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ. فَقَصَّ عَلَيْهِ مَا جَرَى. فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا إِدْرِيسُ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول: " كل نفس ذائقة الموت " وَقَدْ ذُقْتُهُ. وَقَالَ: " وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا " وَقَدْ وَرَدْتُ. وَقَالَ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: " وَمَا هُمْ منها بمخرجين " فَوَاللَّهِ لا أَخْرُجُ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ يُخْرِجُنِي , فَسَمِعَ هَاتِفًا مِنْ فَوْقِهِ يَقُولُ: بِإِذْنِي دَخَلَ وَبِأَمْرِي فَعَلَ. فَخَلِّ سَبِيلَهُ. وَهَذَا مَعْنَى مَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: مِنْ أَيْنَ لإِدْرِيسَ هَذِهِ الآيَاتُ؟ فَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْلَمَ إِدْرِيسَ وُجُوبَ الْوُرُودِ وَامْتِنَاعَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ فَقَالَ ذَلِكَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَلَكًا مِنَ الْمَلائِكَةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَهْبِطَ إِلَى إِدْرِيسَ , فَأَذِنَ لَهُ , فَلَمَّا عَرَفَهُ إِدْرِيسُ قَالَ: هَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ مَعْرِفَةٌ؟ قَالَ: ذَاكَ أَخِي مِنَ الْمَلائِكَةِ. قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْفَعَنِي عِنْدَ مَلَكِ الْمَوْتِ؟ قَالَ: [نَعَمْ] [سَأَقُولُ لَهُ فِيكَ فَيَرْفُقُ بِكَ. ارْكَبْ بَيْنَ جَنَاحَيَّ. فَرَكِبَ إِدْرِيسُ فَصَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ , فَلَقِيَ مَلَكَ الْمَوْتِ] [فَعَرَفَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَهُ كَمْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ]

فَقَالَ الْمَلَكُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ أَعْلَمُ مَا حَاجَتُكَ. تُكَلِّمُنِي فِي إِدْرِيسَ وَقَدْ مُحِيَ اسْمُهُ مِنَ الصَّحِيفَةِ , وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِهِ إِلا نِصْفُ طَرْفَةِ عَيْنٍ! فَمَاتَ إِدْرِيسُ بَيْنَ جَنَاحَيِ الْمَلَكِ. رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِدْرِيسَ مَشَى يَوْمًا فِي الشَّمْسِ فَأَصَابَهُ وَهَجُهَا , فَقَالَ: اللَّهُمَّ خَفِّفْ ثِقَلَهَا عَمَّنْ يَحْمِلُهَا. فَأَصْبَحَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالشَّمْسِ وَقَدْ وَجَدَ مِنْ خِفَّتِهَا مَا لَمْ يَعْرِفْ. فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ , فَقَالَ: إِنَّ عَبْدِي إِدْرِيسَ سَأَلَنِي أَنْ أُخَفِّفَ عَنْكَ حِمْلَهَا فَأَجَبْتُهُ. فَقَالَ: يَا رَبِّ اجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاجْعَلْ بَيْنَنَا خُلَّةً. فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَاهُ فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُ إِدْرِيسُ: اشْفَعْ لِي إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلِي. قَالَ: إن اللَّهِ تَعَالَى لا يُؤَخِّرُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا , وَلَكِنْ أُكَلِّمُهُ فِيكَ , فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَفْعَلَ فَعَلَ. ثُمَّ حَمَلَهُ الْمَلَكُ عَلَى جَنَاحِهِ فَوَضَعَهُ عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ , ثُمَّ أَتَى مَلَكَ الْمَوْتِ فَأَخْبَرَهُ , فَقَالَ لَيْسَ ذَاكَ إِلَيَّ , وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتَ أَعْلَمْتُهُ مَتَى يَمُوتُ. فَنَظَرَ فِي دِيوَانِهِ فَقَالَ: إِنَّكَ كَلَّمْتَنِي فِي إِنْسَانٍ مَا أَجِدُهُ يَمُوتُ إِلا عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ. قَالَ: فَإِنَّهُ هُنَاكَ قَالَ: انْطَلِقْ فَمَا تَجِدُهُ إِلا مَيِّتًا. رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: وَكَانَ إِدْرِيسُ قَدْ أَوْصَى قَبْلَ رَفْعِهِ إِلَى وَلَدِهِ متوشلَخَ , وَكَانَ وَلَدًا صَالِحًا. وَوُلِدَ لِمتوشلَخَ لَمَكُ , وَوُلِدَ لِلَمَكَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَكَانَ مِنَ الملوك في زمن إدريس طهمورت مَلِكُ الأَقَالِيمِ كُلِّهَا , وَنَفَى الأَشْرَارَ , وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَاتَّخَذَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ والكلاب لحفظ الموشي , وَاسْتَمَرَّتْ أَحْوَالُهُ عَلَى الصَّلاحِ: ثُمَّ مَلَكَ أَخُوهُ " جم شيدُ " وَتَفْسِيرُ جم شيدَ: سَيِّدُ الشُّعَاعِ , سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنَّهُ كَانَ وَضِيئًا جَمِيلا , فَمَلَكَ الأَقَالِيمَ كُلَّهَا وَسَارَ السِّيرَةَ الْجَمِيلَةَ , وَابْتَدَعَ عَمَلَ السُّيُوفِ وَالسِّلاحِ وَصَنْعَةَ الْقَزِّ , وَجَعَلَ النَّاسَ أَرْبَعَ طَبَقَاتٍ: طَبَقَةً مُقَاتِلَةً , وَطَبَقَةً فُقَهَاءَ , وَطَبَقَةً كُتَّابًا وَصُنَّاعًا وَحَرَّاثِينَ , وَطَبَقَةً خَدَمًا. وَعَمِلَ أَرْبَعَ خَوَاتِيمَ: خَاتَمًا لِلْحَرْبِ وَالشُّرَطِ وَكَتَبَ عَلَيْهِ: الأَنَاةُ.

الكلام على البسملة

وَخَاتَمًا لِلْخَرَاجِ وَجِبَايَةِ الأَمْوَالِ , وَكَتَبَ عَلَيْهِ: الْعِمَارَةُ. وَخَاتَمًا لِلْبَرِيدِ وَكَتَبَ عَلَيْهِ: الْوَحَا. وَخَاتَمًا لِلْمَظَالِمِ وَكَتَبَ عَلَيْهِ: الْعَدْلُ. فَبَقِيَتْ هَذِهِ الرُّسُومُ فِي مُلُوكِ الْفُرْسِ إِلَى أَنْ جَاءَ الإِسْلامُ. وَأَلْزَمَ مَنْ غَلَبَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ بِالأَعْمَالِ الصَّعْبَةِ مِنْ قَطْعِ الصُّخُورِ مِنَ الْجِبَالِ وَالْبِنَاءِ وَعَمَلِ الْحَمَّامَاتِ. وَأَخْرَجَ مِنَ الْبِحَارِ وَالْمَعَادِنِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ وَالأَدْوِيَةِ. وَأَحْدَثَ النَّيْرُوزَ فَجَعَلَهُ عِيدًا. ثُمَّ إِنَّهُ بَطِرَ فادعى الربوبية , فسار إليه بيوراسب , وَهُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ الأَهْيُوبِ , فَظَفِرَ بِهِ فَنَشَرَهُ بِمِنْشَارٍ. وَمَلَكَ الضَّحَّاكُ الْفُرْسَ أَلْفَ سَنَةٍ , وَكَانَ يَدِينُ بِدِينِ الْبَرَاهِمَةِ. وَبَيْنَ إِدْرِيسَ وَنُوحٍ [كَانَتِ] الْجَاهِلِيَّةُ الأُولَى الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: " وَلا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ". فتفكروا إخواني في أهل الفساد و [في] أَهْلِ الصَّلاحِ , وَمَيِّزُوا أَهْلَ الْخُسْرَانِ مِنْ أَرْبَابِ الأَرْبَاحِ , [فَيَا سُرْعَانَ عُمْرٍ يُفْنِيهِ الْمَسَاءُ وَالصَّبَاحُ] فَتَأَهَّبُوا لِلرَّحِيلِ فَيَا قُرْبَ السَّرَاحِ , وَتَفَكَّرُوا فِيمَنْ غَرَّتْهُ أَفْرَاحُ الرَّاحِ , كَيْفَ رَاحَ عَنِ الدُّنْيَا فَارِغَ الرَّاحِ , فَالْهَوَى لَيْلٌ مُظْلِمٌ , وَالْفِكْرُ مِصْبَاحٌ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ اسْمٌ مَا أَحْلاهُ لِمُسَمَّى مَا أَعْلاهُ , قَرَّبَ الْمُحِبَّ وَأَدْنَاهُ , وَبَلَّغَ الْمُؤَمِّلَ مِنْ فَضْلِهِ مُنَاهُ , مَنْ لاذَ بِحِمَاهُ حَمَاهُ , وَمَنِ اسْتَعْطَاهُ أَعْطَاهُ , أَنِسَتْ بِهِ قُلُوبُ الْعَارِفِينَ , وَوَلِهَتْ مِنْ مَحَبَّتِهِ أَفْئِدَةُ الْمُشْتَاقِينَ , وَخَضَعَتْ لِمَحَبَّتِهِ رِقَابُ الْمُتَكَبِّرِينَ , وَإِنَّمَا يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ.

(سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ ... لَسْتُ أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ) (وَهُوَ مَوْلايَ رَضِيتُ بِهِ ... وَنَصِيبِي مِنْهُ أُوَفِّرُهُ) (غَابَ عَنْ سَمْعِي وَعَنْ بَصَرِي ... فَسُوَيْدَا الْقَلْبِ يُبْصِرُهُ) للَّهِ دَرُّ أَلْسِنَةٍ بِذِكْرِي تَجْرِي , وَيَا فَخْرَهُمْ وَهِمَمَهُمْ إِلَى بَابِي تَسْرِي وَيَا رَاحَةَ أَبْدَانِهِمْ تَعِبَتْ بَيْنَ نَهْيِي وَأَمْرِي , طَالَمَا اطَّلَعْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى بَابِ شُكْرِي , رَفَضُوا شَهَوَاتِهِمْ فَالنُّفُوسُ فِي أَسْرِي , قَطَعُوا جَوَادَ الْجِدِّ وَأَنْتَ فِي الْغَفْلَةِ مَا تَدْرِي. [اذْكُرِ] اسْمَ مَنْ إِذَا أَطَعْتَهُ أَفَادَكَ , وَإِذَا أَتَيْتَهُ شَاكِرًا زَادَكَ وَإِذَا خَدَمْتَهُ أَصْلَحَ قَلْبَكَ وَفُؤَادَكَ. قَالَ الشِّبْلِيُّ: لَيْسَ لِلأَعْمَى مِنَ الْجَوْهَرِ إِلا لَمْسُهُ , وَلَيْسَ لِلْجَاهِلِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا النُّطْقُ بِاللِّسَانِ. (ذِكْرُكَ لِي مُؤْنِسٌ يُعَارِضُنِي ... يَعِدُنِي عَنْكَ مِنْكَ بِالظَّفْرِ) (وَكَيْفَ أَنْسَاكَ يَا مَدَى هِمَمِي ... وَأَنْتَ مِنِّي بِمَوْضِعِ النَّظَرِ) يَا مَنْ يَرْجُو الثَّوَابَ بِغَيْرِ عَمَلٍ , وَيُرْجِئُ التَّوْبَةَ بِطُولِ الأَمَلِ , أَتَقُولُ فِي الدُّنْيَا قَوْلَ الزَّاهِدِينَ وَتَعْمَلُ فِيهَا عَمَلَ الرَّاغِبِينَ , لا بِقَلِيلٍ مِنْهَا تَقْنَعُ , وَلا بِكَثِيرٍ مِنْهَا تَشْبَعُ , تَكْرَهُ الْمَوْتَ لأَجْلِ ذُنُوبِكَ وَتُقِيمُ عَلَى مَا تَكْرَهُ [الْمَوْتَ لَهُ] تَغْلِبُكَ نَفْسُكَ عَلَى مَا تَظُنُّ وَلا تَغْلِبُهَا عَلَى مَا تَسْتَيْقِنُ , لا تَثِقُ مِنَ الرِّزْقِ بِمَا ضُمِنَ لَكَ وَلا تَعْمَلُ مِنَ الْعَمَلِ مَا فُرِضَ عَلَيْكَ , تَسْتَكْثِرُ مِنْ مَعْصِيَةِ غَيْرِكَ مَا تُحَقِّرُهُ مِنْ نَفْسِكَ. أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ الدُّنْيَا كَالْحَيَّةِ , لَيِّنٌ لَمْسُهَا وَالسُّمُّ النَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا , يَهْوِي إِلَيْهَا الصَّبِيُّ الْجَاهِلُ وَيَحْذَرُهَا ذُو اللُّبِّ الْعَاقِلُ , كَيْفَ تَقَرُّ بِالدُّنْيَا عَيْنُ مَنْ عرفها , وما أبعد أن يفطم عنها من أَلِفَهَا: (حَقِيقٌ بِالتَّوَاضُعِ مَنْ يَمُوتُ ... وَحَسْبُ الْمَرْءِ مِنْ دُنْيَاهُ قُوتُ) (فَمَا لِلْمَرْءِ يُصْبِحُ ذَا اهْتِمَامٍ ... وَحُزْنٍ لا تَقُومُ بِهِ النُّعُوتُ) (فَيَا هَذَا سَتَرْحَلُ عَنْ قَرِيبٍ ... إِلَى قَوْمٍ كَلامُهُمُ السكوت)

أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفْرٍ , بِسَنَدِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْعَطَّارَ يَقُولُ: حَضَرْتُ جُنَيْدًا عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا , وَكَانَ قَاعِدًا يُصَلِّي وَيَثْنِي رِجْلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ , فلم يزل كذلك حتى خرج الرُّوحُ مِنْ رِجْلَيْهِ , فَثَقُلَ عَلَيْهِ تَحْرِيكُهُمَا , وَكَانَتْ رِجْلاهُ قَدْ تَوَرَّمَتَا , فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: مَا هَذَا يَا أَبَا الْقَاسِمِ؟ قَالَ: هَذِهِ نِعَمُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ قَالَ لَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ لو اضطجعت؟ فقال: يا مُحَمَّدٍ هَذَا وَقْتٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ. اللَّهُ أَكْبَرُ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى خَرَجَتْ رُوحُهُ. طُوبَى لِمَنْ تَنَبَّهَ مِنْ رُقَادِهِ , وَبَكَى عَلَى مَاضِي فَسَادِهِ وَخَرَجَ مِنْ دَائِرَةِ الْمَعَاصِي إِلَى دَائِرَةِ سَدَادِهِ , عَسَاهُ يَمْحُو بِصَحِيحِ اعْتِرَافِهِ قَبِيحَ اقْتِرَافِهِ , قَبْلَ أَنْ يَقُولَ فَلا يَنْفَعُ , وَيَعْتَذِرَ فَلا يُسْمَعُ: (قَدْ قُلْتُ لِلنَّفْسِ وَبَالَغْتُ ... وَزِدْتُ فِي الْعُتْبِ وَأَكْثَرْتُ) (يَا نَفْسُ قَدْ قَصَّرْتِ مَا قَدْ كَفَى ... تَيَقَّظِي قَدْ قَرُبَ الْوَقْتُ) (جُدِّي عَسَى أَنْ تُدْرِكِي مَا مَضَى ... قَدْ سَبَقَ النَّاسُ وَخُلِّفْتُ) (أَنَا الَّذِي قَدْ قُلْتُ دَهْرًا غَدًا ... أَتُوبُ مِنْ ذَنْبِي فَمَا تُبْتُ) (لَوْ كُنْتُ ذَا عَقْلٍ لَمَّا حَلَّ بِي ... نَحْتٌ عَلَى نَفْسِي مَا عِشْتُ) (وَاحَسْرَتِي يَوْمَ حِسَابِي إِذَا ... وَقَفْتُ لِلْعَرْضِ وَحُوسِبْتُ) (وَاخَجْلَتِي إِنْ قِيلَ لِي قَدْ مَضَى ... وَقْتُكَ تَفْرِيطًا وَوُبِّخْتُ) (وَلِي كِتَابٌ نَاطِقٌ بِالَّذِي ... قَدْ كُنْتُ فِي دُنْيَايَ قَدَّمْتُ) (تُمِيلُنِي الدُّنْيَا بِأَهْوَائِهَا ... لَوْلا شَقَاءُ الْحَظِّ ما مات) (وَقَدْ تَحَيَّرْتُ وَلا عُذْرَ لِي ... إِنْ قُلْتُ إني قد تحيرت) قال عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: لا يَنْتَظِرُ امْرُؤٌ بِتَوْبَتِهِ غَدًا , فَإِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ غدٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً , وَأَمْرُ اللَّهِ غَادٍ وَرَائِحُ. بَادِرْ أَيُّهَا الشَّابُّ قَبْلَ الْهَرَمِ , وَاغْتَنِمْ أَيُّهَا الشَّيْخُ الصِّحَّةَ قَبْلَ السَّقَمِ , قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ بَدَنِكَ الأَلَمُ , وَيَقُولَ لِسَانُ الْعِتَابِ: أَلَمْ [أَقُلْ لَكَ أَلَمْ] قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

الكلام على قوله تعالى

" نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ". وَكَانَ الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ يَصُومُ حَتَّى يَصْفَرَّ وَيَخْضَرَّ , وَحَجَّ ثَمَانِينَ حِجَّةً. وَصَامَ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَقَامَ لَيْلَهَا , وَكَانَ يَبْكِي طُولَ اللَّيْلِ , فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ لَعَلَّكَ قَتَلْتَ قَتِيلا؟ فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِمَا صَنَعَتْ نَفْسِي: (جَنَحَتْ شمسُ حَيَاتِي ... وَتَدَلَّتْ لِلْغُرُوبِ) (وَتَوَلَّى ليلُ رَأْسِي ... وَبَدَا فَجْرُ الْمَشِيبِ) (ربِّ خَلِّصْنِي فَقَدْ لَجَجْتُ ... فِي بَحْرِ الذُّنُوبِ) (وأنلني العفو يا أقرب ... رب من كل قريب) الكلام على قوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ الْعَجَائِبَ فِي مَصْنُوعَاتِهِ , وَدَلَّ على عظمته بمبتدعاته , وحث على تصفيح عِبَرِهِ وَآيَاتِهِ , وَأَظْهَرَ قُدْرَتَهُ فِي الْبِنَاءِ وَالنَّقْضِ , والهشيم والغض , {قل انظرو ماذا في السموات والأرض} . سَعِدَ مَنْ تَدَبَّرَ , وَسَلِمَ مَنْ تَفَكَّرَ , وَفَازَ مَنْ نَظَرَ وَاسْتَعْبَرَ , وَنَجَا مِنْ بَحْرِ الْهَوَى مَنْ تَصَبَّرَ , وَهَلَكَ كُلَّ الْهَلاكِ وَأَدْبَرَ , مَنْ نَسِيَ الْمَوْتَ مَعَ الشَّعْرِ الْمُبْيَضِّ {قُلِ انْظُرُوا ماذا في السماوات والأرض} . يَا أَرْبَابَ الْغَفْلَةِ اذْكُرُوا , يَا أَهْلَ الإِعْرَاضِ احْضُرُوا , يَا غَافِلِينَ عَنِ الْمُنْعِمِ اشْكُرُوا , يَا أَهْلَ الْهَوَى خَلُّوا الْهَوَى وَاصْبِرُوا , فَالدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَجُوزُوا وَاعْبُرُوا , وَتَأَمَّلُوا هِلالَ الْهُدَى فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا , فَقَدْ نَادَى مُنَادِي الصَّلاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ , فَأَسْمَعَ أَهْلَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ {قُلِ انظروا ماذا في السماوات والأرض} .

إِخْوَانِي: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مُلاحَظَتَهُ بِالْبَصَرِ , وَإِنَّمَا هُوَ التَّفَكُّرُ فِي قُدْرَةِ الصَّانِعِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الدقاق , أنبأنا أبو الحسين ابن بِشْرَانَ , أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ الصَّفَّارُ , حَدَّثَنَا سَعْدَانُ , حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ , عَنِ الأَعْمَشِ , عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ , عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ , عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " تَفَكُّرُ لَحْظَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ ". وَقِيلَ لَهَا: مَا كَانَ أَفْضَلَ عَمَلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتِ: التَّفَكُّرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَكْعَتَانِ مُقْتَصَدِتَانِ فِي تَفَكُّرٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعُودُونَ بِالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّذَكُّرِ , وَبِالتَّذَكُّرِ عَلَى التَّفَكُّرِ , وَيُنَاطِقُونَ الْقُلُوبَ حَتَّى نَطَقَتْ , فَإِذَا لَهَا أَسْمَاعٌ وَأَبْصَارٌ , فَنَطَقَتْ بِالْحِكْمَةِ وَضَرَبَتِ الأَمْثَالَ , فَأَوْرَثَتِ الْعِلْمَ. وَقَالَ: الْفِكْرُ مِرْآةٌ تُريك حَسَنَاتِكَ وَسَيِّئَاتِكَ. وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ كَلامُهُ حِكْمَةً فَهُوَ لَغْوٌ , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ تَفَكُّرًا فَهُوَ سَهْوٌ , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ نَظَرُهُ اعْتِبَارًا فَهُوَ لَهْوٌ. وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يتكبرون} قَالَ: أَمْنَعُ قُلُوبَهُمْ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي أَمْرِي. وكان لقمان يجلس وحده ويقول: طول الوحدة أفهم للتفكر , وطول التفكر دَلِيلٌ عَلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ منبه: ما طالت فكرة امرىء قَطُّ إِلا عَلِمَ , وَلا عَلِمَ إِلا عَمِلَ. وَبَيْنَمَا أَبُو شُرَيْحٍ الْعَابِدُ يَمْشِي جَلَسَ فَتَقَنَّعَ بِكِسَائِهِ وَجَعَلَ يَبْكِي , فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: تَفَكَّرْتُ فِي ذَهَابِ عُمْرِي وَقِلَّةِ عَمَلِي واقتراب أجلي!.

وَبَيْنَا دَاوُدُ الطَّائِيُّ فِي سَطْحِ دَارِهِ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ تَفَكَّرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَوَقَعَ إِلَى سَطْحِ جَارِهِ , فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: مَا عَلِمْتُ بِذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفَكُّرَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ , وَالثَّانِي بِالْمَعْبُودِ جَلَّ جَلالُهُ. فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَبْدِ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَكَّرَ: هَلْ هُوَ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَمْ لا؟ فَإِنْ رَأَى زَلَّةً تَدَارَكَهَا بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ ثُمَّ يَتَفَكَّرَ فِي نَقْلِ الأَعْضَاءِ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَى الطَّاعَاتِ , فَيَجْعَلَ شُغُلَ الْعَيْنِ الْعَبْرَةَ , وَشُغُلَ اللِّسَانِ الذِّكْرَ , وَكَذَلِكَ سَائِرَ الأَعْضَاءِ. ثُمَّ يَتَفَكَّرَ فِي الطَّاعَاتِ لِيَقُومَ بِوَاجِبِهَا وَيُجْبِرَ وَاهِنَهَا , ثُمَّ يَتَفَكَّرَ فِي مُبَادَرَةِ الأَوْقَاتِ بِالنَّوَافِلِ طَلَبًا لِلأَرْبَاحِ , وَيَتَفَكَّرَ فِي قِصَرِ الْعُمْرِ فَيَنْتَبِهَ حَذِرًا أَنْ يَقُولَ غداً: " يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ". ثُمَّ يَتَفَكَّرَ فِي خِصَالِ بَاطِنِهِ فَيَقْمَعُ الْخِصَالَ الْمَذْمُومَةَ , كَالْكِبْرِ وَالْعَجَبِ وَالْبُخْلِ وَالْحَسَدِ , وَيَتَوَلَّى الْخِصَالَ الْمَحْمُودَةَ , كَالصِّدْقِ وَالإِخْلاصِ وَالصَّبْرِ وَالْخَوْفِ. وَفِي الْجُمْلَةِ يَتَفَكَّرُ فِي زَوَالِ الدُّنْيَا فَيَرْفُضُهَا , وَفِي بَقَاءِ الآخِرَةِ فَيَعْمُرُهَا. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَقْبُرِيُّ , أَنْبَأَنَا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ , أَنْبَأَنَا بُشْرَانُ ابن صَفْوَانَ , أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُبَيْدٍ , قَالَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , حَدَّثَنِي عَمَّارُ بْنُ عُثْمَانَ , حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ , قَالَ: قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْمُنْذِرِ لإِخْوَانِهِ: زُورُوا الآخِرَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِقُلُوبِكُمْ , وَشَاهِدُوا الْمَوْتَ بِتَوَهُّمِكُمْ , وَتَوَسَّدُوا الْقُبُورَ بِفِكْرِكُمْ , وَاعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لا مَحَالَةَ , فَمُخْتَارٌ لِنَفْسِهِ مَا أَحَبَّ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالضَّرَرِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ. وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَعْبُودِ جَلَّ جَلالُهُ فَقَدْ مَنَعَ الشَّرْعَ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاتِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السلام: " تفكروا في خلق الله ولا تتفكرو افي اللَّهِ , فَإِنَّكُمْ لَنْ تَقْدِرُوا قَدْرَهُ ".

فَلَمْ يَبْقَ إِلا النَّظَرُ فِي الآثَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمُؤْثَرِ. وَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ. وَأَعْجَبُ آثَارِهِ الآدَمِيُّ , فَإِنَّكَ إِذَا تَفَكَّرْتَ فِي نَفْسِكَ كَفَى , وَإِذَا نَظَرْتَ فِي خَلْقِكَ شَفَى. أَلَيْسَ قَدْ فَعَلَ فِي قَطْرَةٍ [مِنْ] مَاءٍ مَا لَوِ انْقَضَتِ الأَعْمَارُ فِي شَرْحِ حِكْمَتِهِ مَا وَفَتْ! كَانَتِ النُّقْطَةُ مَغْمُوسَةً فِي دَمِ الْحَيْضِ , وَمِقْيَاسُ الْقُدْرَةِ يَشُقُّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ , خلق منها ثلاثمائة وستين عظماً وخمسمائة وَتِسْعًا وَعِشْرِينَ عَضَلَةً , كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَحْتَهُ حِكْمَةٌ , فَالْعَيْنُ سَبْعُ طَبَقَاتٍ , وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَضَلَةً لِتَحْرِيكِ حَدَقَةِ الْعَيْنِ , وَأَجْفَانِهَا , لَوْ نَقَصَتْ مِنْهَا وَاحِدَةٌ لاخْتَلَّ الأَمْرُ , وَأَظْهَرَ فِي سَوَادِ الْعَيْنِ عَلَى صِغَرِهِ صُورَةَ السَّمَاءِ مَعَ اتِّسَاعِهَا , وَخَالَفَ بَيْنَ أَشْكَالِ الْحَنَاجِرِ فِي الأَصْوَاتِ , وَسَخَّرَ الْمَعِدَةَ لإِنْضَاجِ الْغِذَاءِ , وَالْكَبِدَ لإِحَالَتِهِ إِلَى الدَّمِ , وَالطِّحَالَ لِجَذْبِ السَّوْدَاءِ وَالْمَرَارَةَ لِتَنَاوُلِ الصَّفْرَاءِ [كُلُّهَا] وَالْعُرُوقُ كَالْخَدَمِ لِلْكَبِدِ تَنْفُذُ مِنْهَا الدِّمَاءُ إِلَى أطراف البدن. فيا أيها الْغَافِلُ مَا عِنْدَكَ خَبَرٌ مِنْكَ , فَمَا تَعْرِفُ مِنْ نَفْسِكَ إِلا أَنْ تَجُوعَ فَتَأْكُلَ وَتَشْبَعَ فَتَنَامَ , وَتَغْضَبَ فَتُخَاصِمَ , فَبِمَاذَا تَمَيَّزْتَ عَلَى الْبَهَائِمِ! ارْفَعْ بَصَرَ فِكْرِكَ إِلَى عَجَائِبِ السَّمَوَاتِ , فَتَلَمَّحِ الشَّمْسَ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي مَنْزِلٍ , فَإِذَا انْخَفَضَتْ بَرَدَ الْهَوَاءُ وَجَاءَ الشِّتَاءُ , وَإِذَا ارْتَفَعَتْ قَوِيَ الْحَرُّ , وَإِذَا كَانَتْ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ اعْتَدَلَ الزَّمَانُ , وَالشَّمْسُ مِثْلُ الأَرْضِ مِائَةً وَنَيِّفًا وَسِتِّينَ مَرَّةً وَأَصْغَرُ الْكَوَاكِبِ مِثْلُ الأَرْضِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ اخْفِضْ بَصَرَكَ إِلَى الأَرْضِ تَرَى فِجَاجَهَا مُذَلَّلَةً لِلتَّسْخِيرِ , فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَتَفَكَّرُوا فِي شُرْبِهَا بَعْدَ جَدْبِهَا بِكَأْسِ الْقَطْرِ , وَتَلَمَّحْ خُرُوجَ النَّبَاتِ يَرْفُلُ فِي أَلْوَانِ الْحُلَلِ عَلَى اخْتِلافِ الصُّوَرِ وَالطُّعُومِ وَالأَرَايِيحِ , وَانْظُرْ كَيْفَ نَزَلَ الْقَطْرُ إِلَى عِرْقِ الشَّجَرِ , ثُمَّ عَادَ يَنْجَذِبُ إِلَى فُرُوعِهَا. وَيَجْرِي فِي تَجَاوِيفِهَا بِعُرُوقٍ لا تَفْتَقِرُ إلى كلفة.

سجع على قوله تعالى

فلاحظ لِلْغَافِلِ فِي ذَلِكَ إِلا سَمَاعُ الرَّعْدِ بِأُذُنِهِ ورؤية النبات والمطر بعينيه. كَلا! لَوْ فَتَحَ بَصَرَ الْبَصِيرَةِ لَقَرَأَ عَلَى كل قطرة , ورقة خطاّ بِالْقَلَمِ الإِلَهِيِّ , [تُعْلِمُ] أَنَّهَا رِزْقُ فُلانٍ فِي وَقْتِ كَذَا. ثُمَّ انْظُرْ إِلَى الْمَعَادِنِ لِحَاجَاتِ الْفَقِيرِ إِلَى الْمَصَالِحِ , فَمِنْهَا مُودَعٌ كَالرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ , وَمِنْهَا مَصْنُوعٌ بِسَبَبِ غَيْرِهِ كَالأَرْضِ السَّبَخَةِ يُجْمَعُ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ فَيَصِيرُ مِلْحًا. وَانْظُرْ إِلَى انْقِسَامِ الْحَيَوَانَاتِ مَا بَيْنَ طَائِرٍ وَمَاشٍ وَإِلْهَامِهَا مَا يُصْلِحُهَا. وَانْظُرْ إِلَى بُعْدِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ كَيْفَ مَلأَ ذَلِكَ الْفَرَاغَ هَوَاءً لِتَسْتَنْشِقَ مِنْهُ الأَرْوَاحُ وَتَسْبَحُ الطَّيْرُ فِي تَيَّارِهِ إِذَا طَارَتْ. وَانْظُرْ بِفِكْرِكَ إِلَى سَعَةِ الْبَحْرِ وَتَسْخِيرِ الْفُلْكِ فِيهِ , وَمَا فِيهِ مِنْ دَابَّةٍ. قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: خَلَقَ اللَّهُ ألف أمة , فأسكن ستمائة في البحر وأربعمائة فِي الْبَرِّ. وَاعَجَبًا لَكَ لَوْ رَأَيْتَ خَطًّا مُسْتَحْسَنَ الرَّقْمِ لأَدْرَكَكَ الدَّهَشُ مِنْ حِكْمَةِ الْكَاتِبِ , وَأَنْتَ تَرَى رُقُومَ الْقُدْرَةِ وَلا تَعْرِفُ الصَّانِعَ , فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْهُ بِتِلْكَ الصَّنْعَةِ فَتَعَجَّبْ كَيْفَ أَعْمَى بَصِيرَتَكَ مَعَ رُؤْيَةِ بَصَرِكَ! سَجْعٌ عَلَى قوله تعالى ^ وما تغني الآيات والنذر على قوم لا يؤمنون ^ كَيْفَ تَصِحُّ الْفِكْرَةُ لِقَلْبٍ غَافِلٍ , وَكَيْفَ تَقَعُ الْيَقَظَةُ لِعَقْلٍ ذَاهِلٍ , وَكَيْفَ يَحْصُلُ الْفَهْمُ لِلُبٍّ عَاطِلٍ , عَجَبًا لِمُفَرِّطٍ وَالأَيَّامُ قَلائِلُ وَلِمَائِلٍ إِلَى رُكْنٍ مَائِلٍ , لَقَدْ خَابَ الْغَافِلُونَ وَفَازَ الْمُتَّقُونَ {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يؤمنون} .

سجع على قوله تعالى

مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الشَّقَاءُ كَيْفَ يَسْلَمُ , وَمَنْ عَمِيَ قَلْبُهُ كَيْفَ يَفْهَمُ , وَمَنْ أَمْرَضَهُ طَبِيبُهُ كَيْفَ لا يَسْقَمُ , وَمَنِ اعْوَجَّ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ فَبَعِيدٌ أَنْ يَتَقَوَّمَ , هَيْهَاتَ مَنْ خُلِقَ للشقاء فللشقاء يَكُونُ , {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يؤمنون} . كَمْ عَمَلٍ رُدَّ عَلَى عَامِلِهِ , وَكَمْ أَمَلٍ رَجَعَ بِالْخَيْبَةِ عَلَى آمِلِهِ , وَكَمْ عَامِلٍ بَالَغَ فِي إِتْعَابِ مَفَاصِلِهِ فَهَبَّتْ رِيحُ الشَّقَاءِ لِتَبْدِيدِ حَاصِلِهِ , لَقَدْ نُودِيَ عَلَى الْمَطْرُودِينَ وَلَكِنَّهُمْ مَا يَسْمَعُونَ {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يؤمنون} . (عِشْتُ دَهْرًا بِالتَّظَنِّي ... هَائِمًا فِي كُلِّ فَنِّ) (قَانِعًا مِنْ أُمِّ دَفْرٍ ... بِأَبَاطِيلِ التَّمَنِّي) (أَبْتَغِيهَا وهي تضميني ... مِنْ تَحْتِ الْمِجَنِّ) (فَالْمُنَى تُدْنِي إِلَيْهَا ... وَالْمَدَى فَوْقَ الْمُسِنِّ) (ثُمَّ لا آخُذُ مِنْهَا ... مِثْلَ مَا تَأْخُذُ مِنِّي) (أَيُّهَا الْمُعْجَلُ عَنْهَا ... وَهُوَ شبه المتأني) (ليس للمزعج بالسير ... ركوب المطمأن) (لَيْتَ شِعْرِي وَالَّتِي تُغْرِي ... بِأَنِّي وَلَوْ أَنِّي) (أَيُّ شَيْءٍ صَحَّ مِنْهَا ... لِلْحَرِيصِ الْمُتَعَنِّي) (أَنَا إِذْ أَشْكُو فَلا تَسْمَعُ ... شُكْوَى الْمُتَجَنِّي) (كَمُحِبٍّ ظَلَّ يَبْكِي ... لِلْحَمَامِ الْمُتَغَنِّي) سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تعالى {فهل ينظرون إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} قل للمقيمين على معاصيهم وجهلهم , االناسين مَنْ سَبَقَهُمْ , الْمُصِرِّينَ عَلَى قَبِيحِ فِعْلِهِمْ , كَمْ لَعِبَ الرَّدَى بِمِثْلِهِمْ , لَقَدْ بُولِغَ فِي اجْتِثَاثِ أَصْلِهِمْ , فَتَرَاهُمْ مَا يَكْفِي فِي تَوْبِيخِهِمْ , {فَهَلْ ينظرون إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} .

قُلْ لِلْمُذْنِبِينَ تَأَمَّلُوا الْعَوَاقِبَ , الآثَامُ تَبْقَى وَتَفْنَى الأَطَايِبُ , وَالذُّنُوبُ تُحْصَى وَمَا يَغْفَلُ الْكَاتِبُ , وَالسَّهْمُ مُفَوِّقٌ وَالرَّامِي صَائِبٌ , وَاللَّذَّاتُ وَإِنْ نِيلَتْ فَبَعْدَهَا الْمَصَائِبُ , فَلْيَتَدَبَّرِ الْعَاقِلُ وَلْيَحْضُرِ الْغَائِبُ , قَبْلَ أَنْ يؤخذ الجهال على جهلهم , {فهل ينظرون إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} . (إِنْ كَانَ غَيْرُكَ قَدْ أَجَابَ الدَّاعِي ... فَكَأَنَّنِي بِكَ قَدْ نَعَاكَ النَّاعِي) (قَدْ طَالَ بَاعُكَ وَالْمَنِيَّةُ بَعْدَ ذَا ... لَيْسَتْ إِذَا صَالَتْ قَصيِرَةَ بَاعِ) (وَمَلأْتَ سَمْعَكَ بِالْمَوَاعِظِ ظَاهِرًا ... حَتَّى اشْتُهِرْتَ بِهِ وَلَسْتَ بِوَاعِي) (تَسْعَى بِنَفْسِكَ فِي الْمَتَالِفِ جَاهِدًا ... لا تَفْعَلَنَّ وَارْفُقْ بِهَا يَا سَاعِي) (ولقد جمعت من القبائح باطنا ... مالا تَضَمَّنُهُ جُسُومُ أَفَاعِي) (كَمْ قَدْ غُرِرْتَ بِظَاهِرٍ مُتَجَمِّلٍ ... مِثْلِ السَّرَابِ جَرَى بِبَطْنِ الْقَاعِ) (بِعْتَ الَّذِي يَبْقَى بِمَا يَفْنَى غَدًا ... يَا مَنْ رَضِيَ بِغَبِينَةِ الْمُبْتَاعِ) أَيُّهَا الْعَبْدُ انْظُرْ بِعَيْنِ فِكْرِكَ وَعَقْلِكَ , هَلْ تَجِدُ سَبِيلا لِخَلاصِ مِثْلِكَ مَعَ إِقَامَتِهِ عَلَى فِعْلِكَ , أَيْنَ اعْتِبَارُكَ بِانْطِلاقِ أَسْلافِكَ , أَيْنَ فِكْرُكَ فِي فِرَاقِ أُلافِكَ , مَتَى تنتقل على قَبِيحِ خِلافِكَ. (قُلْ لِلْمُفَرِّطِ يَسْتَعِدُّ ... مَا مِنْ وُرُودِ الْمَوْتِ بُدُّ) (قَدْ أَخْلَقَ الدَّهْرُ الشَّبَابَ ... وما مضى لا يسترد) (أو ما يَخَافُ أَخُو الْمَعَاصِي ... مَنْ لَهُ الْبَطْشُ الأَشَدُّ) (يَوْمًا يُعَايِنُ مَوْقِفًا ... فِيهِ خُطُوبٌ لا تُحَدُّ) (فَإِلامَ يَشْتَغِلُ الْفَتَى ... فِي لَهْوِهِ وَالأَمْرُ جَدُّ) (أَبَدًا مَوَاعِيدُ الزَّمَانِ ... لأَهْلِهِ تَعَبٌ وَكَدُّ) (يَا مَنْ يُؤَمِّلُ أَنْ يُقِيمَ ... بِهِ وَحَادِي الْمَوْتِ يَحْدُو) (وَتَرُوحُ دَاعِيَةُ الْمَنُونِ ... عَلَى مُؤَمِّلِهَا وَتَغْدُو) (يَخْتَالُ فِي ثَوْبِ النَّعِيمِ ... وَدُونَهُ قَبْرٌ وَلَحْدُ) (وَالْعُمْرُ يَقْصُرُ كُلَّ يَوْمٍ ... ثُمَّ فِي الآمَالِ مد)

أَيْقَظَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّقْدَةِ , وَذَكَّرَنَا الْمَوْتَ وَمَا يَأْتِي بَعْدَهُ , وَأَلْهَمَنَا شُكْرَهُ عَلَى النِّعَمِ وَحَمْدِهِ , إِنَّهُ كَرِيمٌ لا يُرَدُّ عَبْدُهُ. [صلى الله عليه وسلم سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصْحِبِهِ , وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل]

المجلس الرابع في ذكر نوح عليه الصلاة والسلام

المجلس الرابع فِي ذِكْرِ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ الْحَمْدُ لله تُسَبِّحُهُ الْبِحَارُ الطَّوَافِحُ , وَالسُّحُبُ السَّوَافِحُ , وَالأَبْصَارُ اللَّوَامِحُ , وَالأَفْكَارُ وَالْقَرَائِحُ , الْعَزِيزِ فِي سُلْطَانِهِ , الْكَرِيمِ فِي امْتِنَانِهِ , سَاتِرِ الْمُذْنِبِ فِي عِصْيَانِهِ , رَازِقِ الصَّالِحِ وَالطَّالِحِ , تَقَدَّسَ عَنْ مِثْلٍ وَشَبِيهٍ , وَتَنَزَّهَ عَنْ نَقْصٍ يَعْتَرِيهِ , يَعْلَمُ خَافِيَةَ الصَّدْرِ وَمَا فِيهِ مِنْ سِرٍّ أَضْمَرَتْهُ الْجَوَانِحُ , لا يَشْغَلُهُ شَاغِلٌ وَلا يُبْرِمُهُ سَائِلٌ وَلا يُنْقِصُهُ نَائِلٌ , تَعَالَى عن الند المماثل والضد المكادح , يسمع تَغْرِيدَ الْوَرْقَاءِ عَلَى الْغُصْنِ , وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ , وَيَتَكَلَّمُ فَكَلامُهُ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ مَسْمُوعٌ بِالأُذُنِ بِغَيْرِ آلاتٍ وَلا أَدَوَاتٍ وَلا جَوَارِحَ. أَنْزَلَ الْقَطْرَ بِقُدْرَتِهِ وَصَبَغَ لَوْنَ النَّبَاتِ بِحِكْمَتِهِ , وَخَالَفَ بَيْنَ الطُّعُومِ بِمَشِيئَتِهِ , وَأَرْسَلَ الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ. مَوْصُوفٌ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ , يُرَى فِي الْجَنَّةِ كَمَا يُرَى الْقَمَرُ , مَنْ شَبَّهَهُ أَوْ كَيَّفَهُ فَقَدْ كَفَرَ. هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالأَثَرِ , وَدَلِيلُهُمْ جَلِيٌّ وَاضِحٌ. يُنَجِّي مَنْ شَاءَ كَمَا شَاءَ وَيُهْلِكُ , فَهُوَ الْمُسَلِّمُ لِلْمُسَلَّمِ وَالْمُسَلِّمُ لِلْمُهْلَكِ , لَمْ يَنْتَفِعْ كَنْعَانُ بِالنَّسَبِ يَوْمَ الْغَرَقِ لأَنَّهُ مُشْرِكٌ , " قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح ". أَحْمَدُهُ عَلَى تَسْهِيلِ الْمَصَالِحِ , وَأَشْكُرُهُ عَلَى سَتْرِ الْقَبَائِحِ , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ أَفْضَلِ غَادٍ وَخَيْرِ رَائِحٍ , وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ ذِي الْفَضْلِ الرَّاجِحِ , وَعَلَى عُمَرَ الْعَادِلِ فَلَمْ يُرَاقِبْ وَلَمْ يُسَامِحْ , وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي بَايَعَ عَنْهُ الرسول فيالها صَفْقَةَ رَابِحٍ , وَعَلَى عَلِيٍّ الْبَحْرِ الْخِضَمِّ الطَّافِحِ , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي أَخَذَ الْبَيْعَةَ

لَهُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَكُلُّ الأَهْلِ نَازِحٌ , اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , وَهَبْ طَالِحَنَا لِصَالِحِنَا وَسَامِحْنَا فَأَنْتَ الْحَلِيمُ الْمُسَامِحُ , وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا قَبْلَ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْنَا الْجَوَارِحُ , وَنَبِّهْنَا مِنْ رَقَدَاتِ الْغَفَلاتِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الصَّائِحُ , وَانْفَعْنِي بِمَا أَقُولُ وَالْحَاضِرِينَ بِمَنِّكَ , فَمِنْكَ الْفَضْلُ وَالْمَنَائِحُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فيها} وُلِدَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ وَفَاةِ آدَمَ بِمِائَةٍ وَسِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَهُوَ نُوحُ بْنُ لمك ابن متوشلَخَ بْنِ إِدْرِيسَ. وَلَمَّا تَمَّ لَهُ خَمْسُونَ سَنَةً بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , وَقِيلَ إِنَّهُ بعث بعد أربعمائة سَنَةٍ مِنْ عُمْرِهِ , وَكَانَ الْكُفْرُ قَدْ عَمَّ , فَكَانَ يَدْعُو قَوْمَهُ فَيَضْرِبُونَهُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ. فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَصْنَعَ سَفِينَةً. فَغَرَسَ السَّاجَ فَتَكَامَلَ فِي أَرْبَعِينَ سَنَةً , ثُمَّ قَطَعَهُ فَصَنَعَهَا وَأَعَانَهُ أَوْلادُهُ , وَفَجَرَ اللَّهُ لَهُ عَيْنَ الْقَارِ تَغْلِي غَلَيَانًا حَتَّى طَلاهَا. وَجَعَلَ لَهَا ثلاث بطون , فحمل في الْبَطْنِ الأَسْفَلِ الْوُحُوشَ وَالسِّبَاعَ وَالْهَوَامَّ , وَفِي الأَوْسَطِ الدَّوَابَّ وَالأَنْعَامَ , وَرَكِبَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْبَطْنِ الأَعْلَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: كل طولها ستمائة ذراع وعرضها ثلاثمائة وَثَلاثِينَ ذِرَاعًا. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: كَانَ طولها ألفا ومائتي ذراع , وعرضها ستمائة ذراعا. ثم ابتدأ الماء بحنبات الأَرْضِ فَدَارَ حَوْلَهَا كَالإِكْلِيلِ , فَجَعَلَتِ الْوُحُوشُ تَطْلُبُ وَسَطَ الأَرْضِ هَرَبًا مِنَ الْمَاءِ , حَتَّى اجْتَمَعَتْ عِنْدَ السَّفِينَةِ , فَحَمَلَ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَارَ التَّنُّورُ فَارْكَبْ. وفي المرااد بِالتَّنُّورِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ اسْمٌ لِوَجْهِ الأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ قَدْ عَلا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَارْكَبْ. وَالثَّانِي تَنُّورُ الصُّبْحِ. قَالَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَالثَّالِثُ: طُلُوعُ الشَّمْسِ. رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا. وَالرَّابِعُ: تَنُّورُ أَهْلِهِ انْبَجَسَ مِنْهُ الْمَاءُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَفِي الْمَكَانِ الَّذِي فَارَ مِنْهُ التَّنُّورُ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا مَسْجِدُ الْكُوفَةِ. رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: فَارَ التُّنُّورُ مِنْ زَاوِيَةِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ الأَيْمَنِ. وَالثَّانِي: بِالْهِنْدِ , قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ بِالشَّامِ مِنْ عَيْنِ وَرْدَةَ. وَهِيَ مَنْزِلُ نُوحٍ قَالَهُ. مُقَاتِلٌ. وَفِي الَّذِينَ حَمَلَهُمْ فِي السَّفِينَةِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: كَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلا مَعَهُمْ أَهْلُوهُمْ. وَالثَّانِي: كَانُوا ثَمَانِينَ وَبَنِيهِ الثَّلاثَةَ وَثَلاثَةَ نِسْوَةٍ لِبَنِيهِ وَامْرَأَةَ نُوحٍ. وَالثَّالِثَ: كلهم كاوا ثَمَانِينَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلا وَأَرْبَعِينَ امْرَأَةً. وَالرَّابِعُ: ثَلاثِينَ رَجُلا. وَالأَقْوَالُ الأَرْبَعَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْخَامِسُ: كَانُوا ثَمَانِيَةً: نُوحٌ , وَامْرَأَتُهُ , وَثَلاثَةُ بَنِينَ لَهُ وَنِسْوَانُهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَكَمِ بن عتيبة والقرظي وابن جريح. وَالسَّادِسُ: كَانُوا سَبْعَةً: نُوحٌ وَبَنِيهِ وَثَلاثُ كَنَائِنَ لَهُ قَالَهُ الأَعْمَشُ. وَالسَّابِعُ: كَانُوا ثَلاثَةَ عَشَرَ: نُوحٌ وَبَنُوهُ وَنِسَاؤُهُمْ وَسِتَّةٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَالثَّامِنُ كَانُوا عَشَرَةً سِوَى نِسَائِهِمْ. رُوِيَ عَنْ إِسْحَاقَ أَيْضًا. فَرَكِبُوا لِعَشْرٍ مضين من رجب , وخرجوا يوم عاشوراء. قوله تعالى: {بسم الله مجريها ومرساها}

قال الزجاج: اأمرهم أَنْ يُسَمُّوا فِي وَقْتِ جَرْيِهَا وَوَقْتِ اسْتِقْرَارِهَا. قوله تعالى: {في موج كالجبال} قِيلَ: إِنَّ الْمَاءَ ارْتَفَعَ عَلَى أَطْوَلِ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا. " وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ " وَاسْمُهُ كَنْعَانُ وَيُقَالُ يامُ , " وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ " أَيْ فِي مَكَانٍ مُنْقَطِعٍ , وَقِيلَ فِي مَعْزِلٍ مِنْ دِينِ أَبِيهِ , وَكَانَ يُنَافِقُهُ بِإِظْهَارِ الإِيمَانِ , فَدَعَاهُ إِلَى الرُّكُوبِ ظَنًّا أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَقَالَ: " {سآوي إلى جبل يعصمني} " أَيْ يَمْنَعُنِي مِنَ الْمَاءِ. " {قَالَ لا عَاصِمَ} " أَيْ لا مَعْصُومَ كَقَوْلِهِ: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي مدفوق " إلا من رحم " الله فإنه معصوم. {وحال بينهما الموج} فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: بَيْنَ كَنْعَانَ وَالْجَبَلِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ يَعْصِمُهُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: بَيْنَ نُوحٍ وَابْنِهِ. قَالَهُ مُقَاتِلٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ابْتَلَعَتْ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وبقي ماء السماء بحاراً وأنهاراً ن {ويا سماء أقلعي} أَيْ أَمْسِكِي عَنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ. {وَغِيضَ الْمَاءُ} نقص {وقضي الأمر} بغرق القوم {واستوت} يعني السفينة {على الجودي} وَهُوَ جَبَلٌ بِالْمَوْصِلِ. وَإِنَّمَا قَالَ نُوحٌ: " {رَبِّ إن ابني من أهلي} " لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ نَجَاةَ أَهْلِهِ. فَقِيلَ له: {إنه ليس من أهلك} أَيْ مِنْ أَهْلِ دِينِكَ. وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَعْدِهِ: {وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القول} . قوله تعالى: {إنه عمل غير صالح} يَعْنِي السُّؤَالُ فِيهِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: {عَمِلَ} بِكَسْرِ الْمِيمِ , يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ مُشْرِكٌ.

أخبرنا المحمدان بابن نَاصِرٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَاقِي , قَالا أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ , قَالَ: لَمَّا عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى نُوحًا فِي ابْنِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ من الجاهلين} بكى ثمانمائة عَامٍ حَتَّى صَارَ تَحْتَ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الْجُدُولِ مِنَ الْبُكَاءِ! قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: لَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ بَنَوْا قَرْيَةً سَمَّوْهَا " ثَمَانِينَ " بِعَدَدِهِمْ , ثُمَّ مَاتُوا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ نَسْلٌ. وَإِنَّمَا النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ أَوْلادِ نُوحٍ , وَكَانُوا ثَلاثَةً: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ. فَمِنْ أَوْلادِ سَامٍ: فَارِسُ وَطسمُ وَعِمْليقُ , وَهُوَ أَبُو الْعَمَالِيقِ كُلِّهِمْ , وَإِرَمُ وأرفخشذ ومن أولاد أرفحشذ: الأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْعَرَبُ كُلُّهَا , وَالْفَرَاعِنَةُ بِمِصْرَ. وَمِنْ أَوْلادِ إِرَمَ عَابِرُ وَعَوْصُ , وَمِنْ وَلَدِ عَابِرَ: ثَمُودُ وَجُدَيْسُ وَكَانُوا عَرَبًا , وَوَلَدَ عَوْصُ عَادًا , وَكَانَتْ طسمُ وَعِمْلِيقُ وَجَاسِمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ , وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لَهُمُ الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ , لأَنَّهُ كَانَ لِسَانَهُمُ الَّذِي جُبِلُوا عَلَيْهِ وَتَقُولُ لِبَنِي إِسْمَاعِيلَ: العرب المتعربة. لأنهم تكلموا بلسان الأمم الذين سَكَنُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. وَوُلِدَ لِعَابِرَ فَالِغُ وَمَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ قَاسِمٌ , لأَنَّهُ قَسَمَ الأَرْضَ بَيْنَ بَنِي نُوحٍ. وَوُلِدَ لِفَالِغَ أَرْغُو , وَلأَرْغُو سَارُوغُ , وَلِسَارُوغَ نَاحُورُ , وَلِنَاحُورَ تَارِخُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَوُلِدَ لِعَابِرَ أَيْضًا قَحْطَانُ , وَقَحْطَانُ أَوَّلُ مَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ , وَأَوَّلُ مَنْ سُلِّمَ عَلَيْهِ بِأَبَيْتَ اللَّعْنَ. وَمِنْ أَوْلادِ حَامٍ كُوشُ وَوُلِدَ لِكُوشَ نُمْرُودُ الْجَبَّارُ. وَمِنْ أَوْلادِ نُمْرُودَ هَذَا نُمْرُودُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ الْخَلِيلُ.

الكلام على البسملة

وَمِنْ أَوْلادِ حَامٍ السُّودَانُ وَالْبَرْبَرُ وَالْقِبْطُ وَمِنْ أَوْلادِ يَافِثَ التُّرْكُ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالصَّقَالِبَةُ. وَلَمَّا كَثُرَ أَوْلادُ نُوحٍ اقْتَسَمُوا الأَرْضَ، فَنَزَلَ بَنُو سَامٍ سُرَّةَ الأَرْضِ , فَجُعِلَ فِيهِمُ النُّبُوَّةُ وَالْكِتَابُ وَالْجَمَالُ - وَنَزَلَ بَنُو حَامٍ مَجْرَى الْجَنُوبِ وَالدَّبُورِ. وَنَزَلَ بَنُو يَافِثَ مَجْرَى الشَّمَالِ وَالصَّبَا , فَاشْتَدَّ بَرْدُهُمْ. وَلَمَّا قُصَّتْ قِصَّةُ نُوحٍ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: " {فَاصْبِرْ إن العاقبة للمتقين} " وَالْمَعْنَى: اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ نُوحٌ فَإِنَّ الظَّفْرَ وَالتَّمْكِينَ لِمَنِ اتَّقَى. وَالْمُرَادُ: لِيَحْصُلَ لَكَ كَمَا حَصَلَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وَالْمُؤْمِنِينَ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (عَجَبًا لِعَيْنِي كَيْفَ يَطْرُقُهَا الْكَرَى ... وَلِحِيلَتِي وَقَدِ انْجَلَى عَنِّي الْمَرَا) (أَلْهُو وَأَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ فُوِّقَتْ ... نَحْوِي سِهَامُ الْحَتْفِ أَمْ حِينِي كَرَى) (وَإِذَا هَمَمْتُ بِتَوْبَةٍ وَإِنَابَةٍ ... عَرَضَتْ لِيَ الدُّنْيَا فَعُدْتُ الْقَهْقَرَى) (كَمْ قَدْ سَمِعْتُ وَقَدْ رَأَيْتُ مَوَاعِظًا ... لَوْ كُنْتُ أَعْقِلُ حِينَ أَسْمَعُ أَوْ أَرَى) (أَيْنَ الَّذِينَ طَغَوْا وَجَارُوا وَاعْتَدَوْا ... وعتوا وطالوا واستخفوا بالورى) (أو ليس أَعْطَتْهُمْ مَقَالِيدَ الْعُلا ... حَتَّى لَقَدْ خَضَعَتْ لَهُمْ أُسْدُ الشَّرَى) (وَتَمَسَّكُوا بِحِبَالِهَا لَكِنَّهَا ... فُصِمَتْ لَهُمْ مِنْهَا وَثِيقَاتُ الْعُرَى) (مَا أَخْلَدَتْهُمْ بَعْدَ سَالِفِ رِفْعَةٍ ... بَلْ أَنْزَلَتْهُمْ مِنْ شَمَارِيخِ الذُّرَى) (وَإِلَى الْبِلَى قَدْ نُقِّلُوا وَتَشَوَّهَتْ ... تِلْكَ الْمَحَاسِنُ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى) (لَوْ أَخْبَرُوكَ بِحَالِهِمْ وَمَآلِهِمْ ... أَبْكَاكَ دَهْرَكَ مَا عَلَيْهِمْ قَدْ جَرَى) (أَفْنَاهُمُ مَنْ لَيْسَ يَفْنَى مُلْكُهُ ... ذُو الْبَطْشَةِ الْكُبْرَى إِذَا أَخَذَ الْقُرَى) (فَاصْرِفْ عَنِ الدُّنْيَا طَمَاعَكَ إِنَّمَا ... مِيعَادُهَا أَبَدًا حَدِيثٌ يُفْتَرَى) (وَصِلِ السُّرَى عَنْهَا فَمَا يُنْجِيكَ مِنْ ... آفَاتِهَا إِلا مُوَاصَلَةُ السُّرَى) يَا حَامِلا مِنَ الدُّنَيْا أَثْقالا ثِقَالا , يَا مُطْمَئِنًّا لا بُدَّ أَنْ تَنْتَقِلَ انْتِقَالا , يَا مرسلا

عنان لهوه في ميدان زهوه إرسالا؛ كألك بحفنيك حِينَ عُرِضَ الْكِتَابُ عَلَيْكَ قَدْ سَالا. أَيْنَ الْمُعْتَرِفُ بِمَا جَنَاهُ , أَيْنَ الْمُعْتَذِرُ إِلَى مَوْلاهُ , أَيْنَ التَّائِبُ مِنْ خَطَايَاهُ , أَيْنَ الآيِبُ مِنْ سَفَرِ هَوَاهُ , نِيرَانُ الاعْتِرَافِ تَأْكُلُ خَطَايَا الاقْتِرَافِ , مَجَانِيقُ الزَّفَرَاتِ تَهْدِمُ حُصُونَ السَّيِّئَاتِ , مِيَاهُ الْحَسَرَاتِ تَغْسِلُ أَنْجَاسَ الْخَطِيئَاتِ. يَا طَالِبَ النَّجَاةِ دُمْ عَلَى قَرْعِ الْبَابِ , وَزَاحِمْ أَهْلَ التُّقَى أُولِي الأَلْبَابِ , وَلا تَبْرَحْ وَإِنْ لَمْ يُفْتَحْ فَرُبَّ نَجَاحٍ بَعْدَ الْيَأْسِ , وَرُبَّ غِنًى بَعْدَ الإِفْلاسِ. (صَبْرًا فَمَا يَظْفَرُ إِلا مَنْ صَبَرْ ... إِنَّ الليالي واعدات بِالظَّفَرْ) (وَرُبَّمَا يَنْهَضُ جِدُّ مَنْ عَثَرْ ... وَرُبَّ عَظْمٍ هِيضَ حِينًا وَانْجَبَرْ) إِذَا تُبْتَ مِنْ ذُنُوبِكَ فَانْدَمْ عَلَى عُيُوبِكَ , وَامْحُ بِدُمُوعِكَ قَبِيحَ مَكْتُوبِكَ , وَالْبَسْ جِلْبَابَ الْفَرَقِ , وَتَضَرَّعْ عَلَى بَابِ الْقَلَقِ , وَقُلْ بِلِسَانِ الْمُحْتَرِقِ: (قَدْ فَعَلْتُ الْقَبِيحَ وَهُوَ شَبِيهِي ... خَطَأً فَافْعَلِ الْجَمِيلَ بِعَفْوِكَ) (وَفَدَتْ رَغْبَتِي إِلَيْكَ وَمَا زِلْتَ ... تُحْيِي بِالنُّجْحِ أَوْجُهَ وَفْدِكَ) قِفْ وُقُوفَ الْمُنْكَسِرِينَ , وَتَبَتَّلْ تَبَتُّلَ الْمُعْتَذِرِينَ , وَاسْتَشْعِرِ الْخُضُوعَ , وَاسْتَجْلِبِ الدُّمُوعَ , وَاحْتَلْ وَاحْذَرْ سَهْمَ الْغَضَبِ أَنْ يُصِيبَ الْمَقْتَلَ. (يَا سَيِّدِي مَا هَفْوَتِي بِغَرِيبَةٍ ... مِنِّي وَلا غُفْرَانُهَا بِطَرِيفِ) (فَإِنْ تَقْبَلِ الْعَبْدَ الضَّعِيفَ تَطَوُّلا ... فَإِنَّ رَجَائِي فِيكَ غَيْرُ ضَعِيفِ) كَمْ أَتَيْتُ ذَنْبًا فَسُتِرْتُ , وَكَمْ جَنَيْتُ جِنَايَةً فَنُظِرْتُ , فَبِالْحِلْمِ وَالْكَرَمِ إِلا غَفَرْتَ. (فَقَدْ طَالَمَا أَنْقَذَتْنِي يَدَاكَ ... وَقَدْ قَلْقَلَتْنِي حِبَالُ الرَّدَى) (فَوَاللَّهِ لا شِمْتُ غَيْثًا سِوَاكَ ... فَإِمَّا نَدَاكَ وَإِمَّا الصَّدَى) إِخْوَانِي: إِنَّمَا مَرَضُ الْقُلُوبِ مِنَ الذُّنُوبِ , وَأَصْلُ الْعَافِيَةِ أَنْ تَتُوبَ , دَوَامُ التخليط بوقع في صعاب العلل , أسمعت يا مربض الشَّرَهِ، كَمْ رَأَيْتَ صَرِيعًا لِلْهَوَى!

سجع على قوله تعالى

اقْرَعْ بَابَ الطَّبِيبِ يَصِفْ لِمَرَضِكَ نُسْخَةً , قَبْلَ أَنْ تَسْرِيَ سَكْتَةُ التَّفْرِيطِ إِلَى مَوْتِ الْهَلاكِ. تِلاوَةُ الْقُرْآنِ تَعْمَلُ فِي أَمْرَاضِ الْفُؤَادِ مَا يَعْمَلُهُ الْعَسَلُ فِي عِلَلِ الأَجْسَادِ , مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ لأَمْرَاضِ الْقُلُوبِ شَافِيَةٌ , وَأَدِلَّةُ الْقُرْآنِ لِطَلَبِ الْهُدَى كافية , أين السالكون طريق السلامة والعافية , مالي أَرَى السُّبُلَ مِنَ الْقَوْمِ عَافِيَةً. (إِنَّ السَّعِيدَ لَمُدْرِكٌ دَرَكًا ... وَأَخُو الشَّقَاوَةِ فَهْوَ فِي الدَّرَكِ) (وَإِلَى الْخُمُولِ مَآلُ ذِي لَعِبٍ ... وَإِلَى السُّكُونِ مَصِيرُ ذِي حَرَكِ) (طَارَ الْحَمَامُ وَغَاصَ مُقْتَدِرًا ... فَأَمَاتَ حَتَّى الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ) (إِنَّ الزَّمَانَ إِذَا غَدَا وَعَدَا ... قَتَلَ الْمُلُوكَ بِكُلِّ مُعْتَرَكِ) (وَالْعَيْنُ تُبْصِرُ أَيْنَ حَبَّتُهَا ... لَكِنَّهَا تَعْمَى عَنِ الشَّرَكِ) (أَنَكِرْتَ هَذَا الْمَوْتَ مَا ارْتَبَكَتْ ... نَفْسِي هُنَاكَ أَشَدَّ مُرْتَبَكِ) (مَا ضَرَّ ذَاكِرَهُ وَنَاظِرَهُ ... أَنْ لا يَنَامَ عَلَى سِوَى الْحَسَكِ) سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عملت من خير محضرا} يَا مَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمٌ لا شَكَّ فِيهِ وَلا مِرَا , يَقَعُ فِيهِ الْفِرَاقُ وَتَنْفَصِمُ الْعُرَى , تَدَبَّرْ أَمْرَكَ قَبْلَ أَنْ تُحْضَرَ فَتَرَى , وَانْظُرْ لِنَفْسِكَ نَظَرَ مَنْ قَدَّ فَهِمَ مَا جَرَى , قَبْلَ أَنْ يَغْضَبَ الْحَاكِمُ وَالْحَاكِمُ رَبُّ الْوَرَى , {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ من خير محضرا} . يَوْمَ تَشِيبُ فِيهِ الأَطْفَالُ , يَوْمَ تَسِيرُ فِيهِ الجبال , يوم تظهر فِيهِ الْوَبَالُ , يَوْمَ تَنْطِقُ فِيهِ الأَعْضَاءُ بِالْخِصَالِ , يَوْمَ لا تُقَالُ فِيهِ الأَعْثَارُ , وَكَمْ مِنْ أَعْذَارٍ تُقَالُ فَتَرَى مَنْ قَدِ افْتَرَى , يُقَدِّمُ قَدَمًا وَيُؤَخِّرُ أُخْرَى {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عملت من خير محضرا} .

فَيُنْصَبُ الصِّرَاطُ فَنَاجٍ وَوَاقِعٌ , وَيُوضَعُ الْمِيزَانُ فَتَكْثُرُ الْفَظَائِعُ , وَتُنْشَرُ الْكُتُبُ وَتَسِيلُ الْمَدَامِعُ , وَتَظْهَرُ الْقَبَائِحُ بَيْنَ تِلْكَ الْمَجَامِعِ , وَيُؤْلِمُ الْعِقَابُ وَتُمْلَى الْمَسَامِعُ , وَيَخْسَرُ الْعَاصِي وَيَرْبَحُ الطَّائِعُ , فَكَمْ غَنِيٍّ قَدْ عَادَ مِنَ الْخَيْرِ مُفْتَقِرًا {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نفس ما عملت من خير محضرا} . أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ , حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عبيد الله ابن أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ , حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ , عَنْ نَافِعٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يوم يقوم الناس لرب العالمين " يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ , قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ , عَنْ خَيْثَمَةَ , عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ , فَيَنْظُرُ عَنْ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ وَيَنْظُرُ عَنْ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ , وَيَنْظُرُ أَمَامَهُ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ , فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ ثَمَرَةٍ فَلْيَفْعَلْ ". هَذَانِ الْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. رَوَى عُتْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ يَمُوتُ هَرَمًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ لَحَقَّرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. يَا لَهُ مِنْ يَوْمٍ يُقْتَصُّ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ , وَتُحِيطُ بِالظَّالِمِ الْمَظَالِمُ , وَتَصْعَدُ الْقُلُوبُ إِلَى الْغَلاصِمِ , وَلَيْسَ لِمَنْ لا يَرْحَمُهُ الإِلَهُ عَاصِمٌ. قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ , مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا , حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ ".

الكلام على قوله تعالى

(كَمْ مِنْ وَعِيدٍ يَخْرِقُ الآذَانَا ... كَأَنَّمَا يُعْنَى بِهِ سِوَانَا) (أَصَمَّنَا الإِهْمَالُ بَلْ أَعْمَانَا ... ) يَا كَثِيرَ السَّيِّئَاتِ غَدًا تَرَى عَمَلَكَ , يَا هَاتِكَ الْحُرُمَاتِ , إِلَى مَتَى تُدِيمُ زَلَلَكَ. (تَيَقَّظْ فَإِنَّكَ فِي غَفْلَةٍ ... يُمِيدُ بِكَ السُّكْرُ فِيمَنْ يُمِيدُ) (وَأَيُّ مَنِيعٍ يَفُوتُ الْبِلَى ... إِذَا كَانَ يَبْلَى الصَّفَا وَالْحَدِيدُ) (إِذَا الْمَوْتُ دَبَّتْ لَهُ حِيلَةٌ ... فتلك التي كنت منها تَحِيدُ) (أَرَاكَ تُؤَمِّلُ وَالشَّيْبُ قَدْ ... أَتَاكَ بِنَعْيِكَ مِنْهُ بَرِيدُ) (وَتَنْقُصُ فِي كُلِّ تَنْفِيسَةٍ ... وَعِنْدَكَ أَنَّكَ فِيهَا تَزِيدُ) أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ يَسْعَى فِي تَبْدِيدِ شَمْلِكَ , أَما تَخَافُ أَنْ تُؤْخَذَ عَلَى قَبِيحِ فِعْلِكَ , وَاعَجَبًا لَكَ مِنْ رَاحِلٍ تَرَكْتَ الزَّادَ فِي غَيْرِ رَحْلِكَ , أَيْنَ فِطْنَتُكَ وَيَقَظَتُكَ وَتَدْبِيرُ عَقْلِكَ , أَمَا بَارَزْتَ بِالْقَبِيحِ فَأَيْنَ الْحُزْنُ , أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْحَقَّ يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْعَلَنَ , سَتَعْرِفُ خَبَرَكَ يَوْمَ تَرْحَلُ عَنِ الْوَطَنِ , وَسَتَنْتَبِهُ مِنْ رُقَادِكَ وَيَزُولُ هَذَا الْوَسَنُ. (إِلَى اللَّهِ تُبْ قَبْلَ انْقِضَاءٍ مِنَ الْعُمْرِ ... أَخِي وَلا تَأْمَنْ مُسَاوَرَةَ الدَّهْرِ) (فَقَدْ حَدَّثَتْكَ الْحَادِثَاتُ نُزُولَهَا ... وَنَادَتْكَ إِلا أَنَّ سَمْعَكَ ذُو وَقْرِ) (تَنُوحُ وَتَبْكِي لِلأَحِبَّةِ إِنْ مَضَوْا ... وَنَفْسَكَ لا تَبْكِي وَأَنْتَ عَلَى الإِثْرِ) الْكَلامُ عَلَى قوله تعالى {ويحذركم الله نفسه} يَا مُبَارِزًا بِالذُّنُوبِ خُذْ حِذْرَكَ , وَتَوَقَّ عِقَابَهُ بِالتُّقَى فَقَدْ أَنْذَرَكَ , وَخَلِّ الْهَوَى فَإِنَّهُ كَمَا تَرَى صَيَّرَكَ , قَبْلَ أَنْ يَغْضَبَ الإِلَهُ وَيُضَيِّقَ حبسه , {ويحذركم الله نفسه} . اجْتَهِدْ فِي تَقْوِيَةِ يَقِينِكَ قَبْلَ خُسْرِ مَوَازِينِكَ , وَقُمْ بِتَضَرُّعِكَ وَخِيفَتِكَ قَبْلَ

نَشْرِ دَوَاوِينِكَ , وَابْذُلْ قُوَاكَ فِي ضَعْفِكَ وَلِينِكَ , قَبْلَ أَنْ يَدْنُوَ الْعَذَابُ فَتَجِدَ مَسَّهُ , {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نفسه} . لَمَّا سَمِعَ الْمُتَيَقِّظُونَ هَذَا التَّحْذِيرَ فَتَحُوا أَبْوَابَ الْقُلُوبِ لِنُزُولِ الْخَوْفِ , فَأَحْزَنَ الأَبْدَانَ وَقَلْقَلَ الأَرْوَاحَ فَعَاشَتِ الْيَقَظَةُ بِمَوْتِ الْهَوَى , وَارْتَفَعَتِ الْغَفْلَةُ بِحُلُولِ الْهَيْبَةِ , وَانْهَزَمَ الْكَسَلُ بِجَيْشِ الْحَذَرِ , فَتَهَذَّبَتِ الْجَوَارِحُ مِنَ الزَّلَلِ وَالْعَزَائِمُ مِنَ الْخَلَلِ , فَلا سُكُونٌ لِلْخَائِفِ وَلا قَرَارٌ لِلْعَارِفِ , كُلَّمَا ذَكَرَ الْعَارِفُ تَقْصِيرَهُ نَدِمَ عَلَى مُصَابِهِ , وَإِذَا تَصَوَّرَ مَصِيرَهُ حَذِرَ مِمَّا فِي كِتَابِهِ , وَإِذَا خَطَرَ الْعِتَابُ بِفِنَائِهِ فَالْمَوْتُ مِنْ عِتَابِهِ , فَهُوَ رَهيِنُ الْقَلَقِ بِمَجْمُوعِ أَسْبَابِهِ. كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ نِيَاحَتِهِ عَلَى ذَنْبِهِ أَقْلَعَ مَجْلِسُهُ عَنْ أَلُوفٍ قَدْ مَاتُوا مِنَ الْخَوْفِ عِنْدَ ذِكْرِ رَبِّهِ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمُرُّ بِالآيَةِ فِي وِرْدِهِ فَيَبْكِي حَتَّى يَسْقُطَ وَيَبْقَى فِي الْبَيْتِ مَرِيضًا يُعَادُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ لَيْلَةً عِنْدَ إِفْطَارِهِ {إِنَّ لَدَيْنَا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة} فَبَقِيَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لا يَطْعَمُ. حَقِيقٌ بِمَنْ عَلِمَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ , وَتَيَقَّنَ أَنَّ الْعَمَلَ يُحْصَى عَلَيْهِ , وَأَنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الرَّحِيلِ عمل لَدَيْهِ , إِلَى مَوْقِفٍ صَعْبٍ يُسَاقُ إِلَيْهِ , يَتَجَافَى عَنْ مُضْطَجَعِ الْبَطَالَةِ بِجَنْبَيْهِ. قَالَ حَاتِمٌ الأَصَمُّ: مَنْ خَلا قُلْبُهُ مِنْ ذِكْرِ أَخْطَارِ أَرْبَعَةٍ فَهُوَ مُغْتَرٌّ , فَلا يَأْمَنُ الشَّقَاءَ. الأَوَّلُ: خَطَرُ يَوْمِ الْمِيثَاقِ , حِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَؤُلاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلا أُبَالِي وَهَؤُلاءِ فِي النَّارِ وَلا أُبَالِي؛ وَلا يَعْلَمُ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ؟ وَالثَّانِي: حِينَ خُلِقَ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ , فنودي الْمَلَكُ بِالشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ ,

ولا يدري أمن الأشقياء هم أَمْ مِنَ السُّعَدَاءِ؟ وَالثَّالِثُ: ذِكْرُ هَوْلِ الْمَطْلَعِ , وَلا يَدْرِي أَيُبَشَّرُ بِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِسَخَطِهِ؟ وَالرَّابِعُ: يَوْمَ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا وَلا يَدْرِي أَيَّ الطَّرِيقَيْنِ يَسْلُكُ بِهِ؟ فَمَحْقُوقٌ لِصَاحِبِ هَذِهِ الأَخْطَارِ أَنْ لا يُفَارِقَ الْحُزْنُ قَلْبَهُ! بَكَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً فَأَطَالَ , فَسُئِلَ عَنْ بُكَائِهِ , فَقَالَ: ذَكَرْتُ مَصِيرَ الْقَوْمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ " ثُمَّ صَرَخَ وَغُشِيَ عَلَيْهِ. (كَمْ ذَا أُغَالِطُ أَمْرِي ... كَأَنَّنِي لَسْتُ أَدْرِي) (أَغْفَلْتُ ذَا الَّذِي كَانَ ... فِي مُقَدَّمِ عُمْرِي) (وَلَمْ أَزَلْ أَتَمَادَى ... حَتَّى تَصَرَّمَ دَهْرِي) (مَنْ لِي إِذَا صِرْتُ رِهْنًا ... بِالذَّنْبِ فِي رَمْسِ قَبْرِي) (بِأَيِّ عُذْرٍ أُلاقِي ... رَبِّي لِيَقْبَلَ عُذْرِي) (فَلَيْتَ شِعْرِي مَتَى أُدْرِكُ ... الْمُنَى لَيْتَ شِعْرِي) يَا مَنْ قَدْ وَهَى شَبَابُهُ , وَامْتَلأَ بِالزَّلَلِ كِتَابُهُ , أَمَا بَلَغَكَ أَنَّ الْجُلُودَ إِذَا اسْتُشْهِدَتْ نَطَقَتْ , أَمَا عَلِمْتَ أن النار للعصاة خلقت , إنها لتحرق كُلَّ مَا يُلْقَى فِيهَا , فَيَصْعُبُ عَلَى خَزَنَتِهَا كَثْرَةُ تَلاقِيهَا , التَّوْبَةُ تَحْجُبُ عَنْهَا , وَالدَّمْعَةُ تُطْفِيهَا , قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قَطَرَتْ فِي الأَرْضِ لأَمَرَّتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا مَعِيشَتَهُمْ " فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ طَعَامُهُ لا طَعَامٌ لَهُ غَيْرُهُ! أَسَفًا لأَهْلِ النار قد هَلَكُوا وَشَقُوا , لا يَقْدِرُ الْوَاصِفُ أَنْ يَصِفَ مَا قَدْ لَقُوا , كُلَّمَا عَطِشُوا جِيءَ بِالْحَمِيمِ فَسُقُوا , وَهَذَا جَزَاؤُهُمْ إِذْ خَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ وَفَسَقُوا , قُطِّعُوا وَاللَّهِ بِالْعَذَابِ وَمُزِّقُوا , وَأُفْرِدَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَنْ فَرِيقِهِ وَفُرِّقُوا , فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ قَدْ كُلِّبُوا فِي السَّلاسِلِ وَأُوثِقُوا وَاشْتَدَّ زَفِيرُهُمْ وَتَضَرَّعَ أسيرهم وقلقوا ,

وَتَمَنَّوْا أَنْ لَمْ يَكُونُوا وَتَأَسَّفُوا كَيْفَ خُلِقُوا , وندموا إذا أَعْرَضُوا عَنِ النُّصْحِ وَقَدْ صَدَقُوا , فَلا اعْتِذَارُهُمْ يُسْمَعُ , وَلا بُكَاؤُهُمْ يَنْفَعُ وَلا أُعْتِقُوا. (لَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَهْلَ الشَّقَا ... فِي النَّارِ قَدْ غُلُّوا وَقَدْ طُوِّقُوا) (تَقُولُ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ ... فِي لُجَجِ الْمُهْلِ وَقَدْ أُغْرِقُوا) (قَدْ كُنْتُمْ حُذِّرْتُمْ حَرَّهَا ... لَكِنْ مِنَ النِّيرَانِ لَمْ تَفْرَقُوا) (وَجِيءَ بِالنِّيرَانِ مَزْمُومَةً ... شِرَارُهَا مِنْ حَوْلِهَا مُحْدِقُ) (وَقِيلَ لِلنِّيرَانِ أَنْ أَحْرِقِي ... وَقِيلَ لِلْخُزَّانِ أَنْ أَطْبِقُوا) (وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ فِي جَنَّةٍ ... قَدْ تُوِّجُوا فِيهَا وَقَدْ مُنْطِقُوا) (تَدَبَّرُوا كَمْ بَيْنَهُمْ إِخْوَتِي ... ثُمَّ أجيلوا فكركم وانتقوا)

المجلس الخامس في قصة عاد

المجلس الخامس فِي قِصَّةِ عَادٍ الْحَمْدُ للَّهِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الأَشْبَاهِ فِي الأَسْمَاءِ وَالأَوْصَافِ , الْمُقَدَّسِ عَنِ الْجَوَارِحِ وَالآلاتِ وَالأَطْرَافِ , خَضَعَتْ لِعِزَّتِهِ الأَكْوَانُ وَأَقَرَّتْ عَنِ اعْتِرَافٍ , وَانْقَادَتْ لَهُ الْقُلُوبُ وَهِيَ فِي انْقِيَادِهَا تَخَافُ , أَنْزَلَ الْقَطْرَ فَمِنْهُ الدُّرُّ تَحْوِيهِ الأَصْدَافُ , وَمِنْهُ قُوتُ الْبُذُورِ يُرَبِّي الضِّعَافَ. كَشَفَ لِلْمُتَّقِينَ الْيَقِينَ فَشَهِدُوا , وَأَقَامَهُمْ فِي اللَّيْلِ فَسَهِرُوا وَشَهِدُوا , وَأَرَاهُمْ عَيْبَ الدُّنْيَا فَرَفَضُوا وَزَهِدُوا , وَقَالُوا نَحْنُ أَضْيَافٌ. وَقَضَى عَلَى الْمُخَالِفِينَ بِالْبِعَادِ فَأَفَاتَهُمُ التَّوْفِيقَ وَالإِسْعَادَ , فَكُلُّهُمْ هَامَ فِي الضَّلالِ وَمَا عَادَ {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} . أَحْمَدُهُ عَلَى سَتْرِ الْخَطَايَا وَالاقْتِرَافِ , وَأُصَلِّي عَلَى رسوله محمد الذي أنزل عليه قاف , وعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي أُمِنَ بِبَيْعَتِهِ الْخِلافُ , وَعَلَى عُمَرَ صَاحِبِ الْعَدْلِ وَالإِنْصَافِ , وَعَلَى عُثْمَانَ الصَّابِرِ عَلَى الشَّهَادَةِ صَبْرَ النِّظَافِ , وَعَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مَحْبُوبِ أَهْلِ السُّنَّةِ الظِّرَافِ , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ مُقَدَّمِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالأَشْرَافِ. [جَدِّ سَيِّدِنَا وَمَوْلانَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَلَّغَهُ الله ما يرجو وأمنه ما يَخَافُ] . قَالَ اللَّهُ: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أنذر قومه بالأحقاف} الأَخُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا الأَخُ مِنَ الأَبِ وَالأُمِّ أَوْ مِنْ

أَحَدِهِمَا. وَمِنْهُ: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} والثاني: الأخ من القبيلة ومنه. {واذكر أخا عاد} . وَالثَّالِثُ: الإِخَاءُ فِي الْمُتَابَعَةِ. وَمِنْهُ: {كَانُوا إِخْوَانَ الشياطين} وَالرَّابِعُ: الصَّاحِبُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا أخي} . وَالإِنْذَارُ: الإِعْلامُ مَعَ التَّخْوِيفِ. وَالأَحْقَافُ: الرِّمَالُ الْعِظَامُ. وَاحِدُهَا حِقْفٌ. وَفِي مَكَانِ هَذِهِ الأَحْقَافِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: بِالشَّامِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: بَيْنَ عُمَانَ وَمُهَيْرَةَ. قَالَهُ عَطِيَّةُ. وَالثَّالِثُ: أَرْضٌ يُقَالُ لَهَا الشِّحْرُ نَحْوَ الْبَحْرِ. قَالَهُ قَتَادَةُ: وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ بِالْيَمَنِ كُلِّهِ، وَكَانُوا قَدْ فَسَدُوا فِي الأَرْضِ وَقَهَرُوا أَهْلَهَا بِفَضْلِ قُوَّتِهِمْ، وَكَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ فَاتَّبَعَهُ نَاسٌ يَسِيرٌ، وَكَتَمُوا إِيمَانَهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ طُولُ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لا يَحْتَلِمُ حَتَّى يَبْلُغَ مِائَتَيْ سنة! {وقد خلت النذر} أَيْ مَضَتْ مِنْ قَبْلِ هُودٍ وَمِنْ بَعْدِهِ. وقوله: {لتأفكنا عن آلهتنا} أَيْ لِتَصْرِفَنَا عَنْ آلِهَتِنَا بِالإِفْكِ. {قَالَ إِنَّمَا العلم عند الله} أَيْ هُوَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِيكُمُ الْعَذَابُ {فَلَمَّا رأوه} يعني ما يوعدون {عارضا} أي سحابا يَعْرِضُ فِي نَاحِيَةِ السَّمَاءِ. وَقَوْمُ عَادٍ هَؤُلاءِ أولاد عوص بن إرم ابن سَامِ بْنِ نُوحٍ , وَهِيَ عَادٌ الأُولَى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ هُودَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بن رباح ابن الْخُلُودِ بْنِ عَادِ بْنِ شَالِخَ بْنِ

أَرفخشِذَ بْنِ سَامٍ. كَانُوا يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ فَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ , فَكُلَّمَا أَنْذَرَهُمْ زَادَ طُغْيَانُهُمْ. فَحَبَسَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمُ الْقَطْرَ ثَلاثَ سِنِينَ , حَتَّى جَهِدُوا فَبَعَثُوا إِلَى مَكَّةَ وَفْدًا يَسْتَسْقِي لَهُمْ، لَهُمْ، وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلا , مِنْهُمْ قَيْلُ وَنُعَيْمٌ وَجَلْهَمَةُ وَلُقْمَانُ بْنُ عَادٍ وَمَرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ , وَكَانَ مَرْثَدٌ مُؤْمِنًا يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَكَانَ النَّاسُ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ إِذَا جَهِدُوا سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ الْكَعْبَةِ , فَنَزَلُوا عَلَى بَكْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ , وَكَانَ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ فَأَكْرَمَهُمْ , وَكَانُوا أَصْهَارَهُ وَأَخْوَالَهُ , وَكَانَ سُكَّانُ مَكَّةَ الْعَمَالِيقَ , أَوْلادَ عِمْلِيقَ بْنِ لاوِذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ , فَجَعَلَ بَكْرٌ يَسْقِيهِمُ الْخَمْرَ وَتُغَنِّيهِمُ الْجَرَادَتَانِ شَهْرًا , فَلَمَّا رَأَى بَكْرٌ طُولَ مُقَامِهِمْ عِنْدَهُ قَالَ: هَلَكَ أَخْوَالِي وَأَصْهَارِي , هَؤُلاءِ ضَيْفِي , فَمَا أَدْرِي مَا أصنع , وأستحي أَنْ آمُرَهُمْ بِالْخُرُوجِ. فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى قَيْنَتَيْهِ الجرادتين , فقالتا: قل شعراً تغنيهم بِهِ لا يَدْرُونَ مَنْ قَالَهُ. فَقَالَ: (أَلا يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ ... لَعَلَّ اللَّهَ يمنحنا غماما) (فتسقي أَرْضَ عَادٍ إِنَّ عَادًا ... قَدْ أَمْسَوْا لا يَبِينُونَ الْكَلامَا) (مِنَ الْعَطَشِ الشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو ... بِهِ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَلا الْغُلامَا) (وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمْ بِخَيْرٍ ... وَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمْ عَيَامَى) (وَإِنَّ الوحش تأتيهم نهارا ... ولا تخشى لعادي سهاما) (وأنتم ها هنا فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ ... نَهَارَكُمْ وَلَيْلَكُمُ الْتِمَامَا) (فَقَبَّحَ وَفْدَكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ ... وَلا لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلامَا) فَلَمَّا سَمِعُوا هَذَا قَالُوا: وَيْحَكُمُ ادْخُلُوا الْحَرَمَ فَاسْتَسْقُوا لِقَوْمِكُمْ. فَقَالَ مَرْثَدٌ: إِنَّكُمْ وَاللَّهِ لا تُسْقَوْنَ بِدُعَائِكُمْ وَلَكِنْ إِنْ أَطَعْتُمْ نَبِيَّكُمْ سُقِيتُمْ. فَقَالَ جَلْهَمَةُ: احْبِسُوا عَنَّا هَذَا وَلا يَقْدُمَنَّ مَعَنَا مَكَّةَ , فَإِنَّهُ قَدِ اتَّبَعَ دِينَ هُودٍ. ثُمَّ خَرَجُوا يَسْتَسْقُونَ , فَنَشَأَتْ ثَلاثُ سَحَائِبَ: بَيْضَاءَ وَحَمْرَاءَ وَسَوْدَاءَ. ثُمَّ نُودِيَ مِنْهَا: يَا قَيْلُ اخْتَرْ. فَقَالَ: أَخْتَارُ السَّوْدَاءَ لأَنَّهَا أَكْثَرُ مَاءً. وَقِيلَ لِلْوَفْدِ: اخْتَارُوا. فَقَالَ مَرْثَدٌ: يَا رَبِّ أَعْطِنِي صِدْقًا وَبِرًّا. فَأُعْطِيَ. وَقَالَ لُقْمَانُ بْنُ عَادٍ: أَعْطِنِي عُمْرًا. فَاخْتَارَ عُمْرَ سَبْعَةِ أَنْسُرٍ , فَكَانَ يَأْخُذُ الْفَرْخَ حِينَ يَخْرُجُ مِنَ الْبَيْضَةِ ويأخذ

الذَّكَرَ لِقُوَّتِهِ , حَتَّى إِذَا مَاتَ أَخَذَ غَيْرَهُ إِلَى أَنْ مَاتَتِ السَّبْعَةُ. فَمَاتَ. وَأَمَّا السَّحَابَةُ فَسَاقَهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عَادٍ , حَتَّى خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ , فَلَمَّا رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا بِهَا وَقَالُوا: {هَذَا عَارِضٌ ممطرنا} . فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ رَأَى مَا فِيهَا امْرَأَةٌ مِنْهَا فَصَاحَتْ وَصُعِقَتْ , فَقِيلَ لَهَا: مَا رَأَيْتِ؟ فَقَالَتْ: رِيحًا فِيهَا كَشُهُبِ النَّارِ , أَمَامَهَا رِجَالٌ يَقُودُونَهَا. فَسَخَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أيام حسوما} أَيْ مُتَتَابِعَةً ابْتَدَأَتْ غُدْوَةَ الأَرْبَعَاءِ آخِرَ أَرْبَعَاءَ فِي الشَّهْرِ وَسَكَنَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ. وَاعْتَزَلَ هُودٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَظِيرَةٍ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْهَا إِلا مَا يُلَيِّنُ الْجُلُودَ وَتَلْتَذُّ عَلَيْهِ النُّفُوسُ. فَكَانَتِ الرِّيحُ تَقْلَعُ الشَّجَرَ وَتَهْدِمُ الْبُيُوتَ وَتَرْفَعُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَتَدُقُّ رِقَابَهُمْ فَيَبِينُ الرَّأْسُ عَنِ الْجَسَدِ. فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} ثُمَّ تُدْمِغُهُمْ بِالْحِجَارَةِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ مَيْمُونٍ: كَانَتِ الرِّيحُ تَحْمِلُ الظَّعِينَةَ فَتَرْفَعُهَا حَتَّى تَرَى كأنها جرادة. حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ , أَنْبَأَنَا عَاصِمُ بْنُ الحسن , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ , حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَفْوَانَ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ , حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ , عَنْ جُوَيْبِرٍ , حَدَّثَنِي أَبُو دَاوُدَ , أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَوَّلُ مَا عَرَفُوا أَنَّهُ عَذَابٌ: رَأَوْا مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ رِجَالِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ يَطِيرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ مِثْلَ الرِّيشِ , فَدَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَهُمْ , فَجَاءَتِ الرِّيحُ فَفَتَحَتْ أَبْوَابَهُمْ وَهَالَتْ عَلَيْهِمْ بِالرَّمْلِ , فَكَانُوا تَحْتَ الرَّمْلِ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَهُمْ أَنِينٌ , ثُمَّ قُبِضَتْ أَرْوَاحُهُمْ وَطَرَحَتْهُمُ الرِّيحُ وأُلقوا فِي البحر , {فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَعَثَ اللَّهُ طَيْرًا أَسْوَدَ فَالْتَقَطَهُمْ حَتَّى أَلْقَاهُمْ فِي الْبَحْرِ.

الكلام على البسملة

فَانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ كَيْفَ أَهْلَكَ الْخَلْقَ الْعَظِيمَ بِالرِّيحِ الَّتِي هِيَ أَلْطَفُ الأَشْيَاءِ , لِيُبَيِّنَ أَثَرَ الْقُدْرَةِ , جَلَّ جَلالُهُ , وَكَذَلِكَ يُمِيتُ الْخَلْقَ عِنْدَ نَفْخَةٍ وَيُحْيِيهِمْ عِنْدَ نَفْخَةٍ , فَسُبْحَانَ مَنْ بَانَتْ سَطْوَتُهُ لِلْمُعَانِدِينَ فَقَهَرَتْ، وَظَهَرَتْ آثَارُ قُدْرَتِهِ لِلْمُتَّقِينَ فَبَهَرَتْ , كَمْ عُذِّبَ مَرِيضٌ بِرِيحٍ فِي حَشَاهُ يَخْتَلِفُ إِلَى أَنْ تَلِفَ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (سُلْطَانُهُ فِي خَلْقِهِ قَاهِرٌ ... وَأَمْرُهُ فِي مُلْكِهِ بَاهِرُ) (سَطْوَتُهُ بَاطِشَةٌ بِالْوَرَى ... فِي ذَرَّةٍ مُعْجِزُهَا ظَاهِرُ) (إِذَا تَجَلَّى فِي جَلالِ الْعُلا ... ذَلَّ لَهُ الأَوَّلُ وَالآخِرُ) (كُنْ حَاذِرًا مِنْ بَطْشِهِ إِنَّهُ ... فِي أَمْرِهِ وَقَهْرِهِ قَادِرُ) (وَلُطْفُهُ فِي عَطْفِهِ رَاحِمٌ ... وَسَيْفُهُ فِي خَلْقِهِ بَاتِرُ) أَيُّهَا النَّائِمُ وَهُوَ مُنَتْبِهٌ , الْمُتَحَيِّرُ فِي أَمْرٍ لا يُشْتَبَهُ , يَا مَنْ قَدْ صَاحَ بِهِ الْمَوْتُ فِي سَلْبِ صَاحِبِهِ , يَا إِخْوَانَ الْغَفْلَةِ تَيَقَّظُوا , يَا أَقْرَانَ الْبَطَالَةِ تَحَفَّظُوا , يَا أَهْلَ الْمُخَالَفَةِ اقْبَلُوا , يَا مُعْرِضِينَ عَنَّا أَقْبِلُوا , يَا مُبَارِزِينَ بِالذُّنُوبِ لا تَفْعَلُوا. (أَيْنَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا أَيْنَ أَيْنَا ... مِنْ أُنَاسٍ كَانُوا حُجَّالا وَزَيْنَا) (إِنَّ دَهْرًا أَتَى عَلَيْهِمْ فَأَفْنَى ... عَدَدًا مِنْهُمْ سَيَأْتِي عَلَيْنَا) (خَدَعَتْنَا الآمَالُ حَتَّى جَمَعْنَا ... وَطَلَبْنَا لِغَيْرِنَا وَسَعَيْنَا) (وَابْتَغَيْنَا مِنَ الْمَعَاشِ فُضُولا ... لَوْ قَنَعْنَا بِدُونِهَا لاكْتَفَيْنَا) (وَلَعَمْرِي لَنَمْضِيَنَّ وَلا نَمْضِي ... بِشَيْءٍ مِنْهَا إِذَا مَا مَضَيْنَا) (كَمْ رَأَيْنَا مِنْ مَيِّتٍ كَانَ حَيًّا ... وَوَشِيكًا يُرَى بِنَا مَا رَأَيْنَا) (مَا لَنَا نَأْمَنُ الْمَنَايَا كَأَنَّا ... لا نُرَاهِنُ يَهْتَدِينَ إِلَيْنَا) (عَجَبًا لامْرِئٍ تَيَقَّنَ أَنَّ الْمَوْتَ ... حَقٌّ فَقَرَّ بِالْعَيْشِ عَيْنَا) أَسَفًا لِمَنْ ضَيَّعَ الأَوْقَاتَ وَقَدْ عَرَفَهَا , وَسَلَكَ بِنَفْسِهِ طَرِيقَ الْهَوَى فَأَتْلَفَهَا , أَنِسَ بِالدُّنْيَا فَكَأَنَّهُ خُلِقَ لَهَا , وَأَمَلُهُ لا يَنْتِهِي وَأَجَلُهُ قَدِ انْتَهَى , سُلِّمَتْ إِلَيْهِ بَضَائِعُ الْعُمْرِ فَلَعِبَ بِهَا , لَقَدْ رَكَنَ إِلَى رُكْنٍ مَا لَبِثَ أَنْ وَهَى , عَجَبًا لِعَيْنٍ أَمْسَتْ

بِاللَّيْلِ هَاجِعَةً , وَنَسِيَتْ أَهْوَالَ يَوْمِ الْوَاقِعَةِ , وَلأُذُنٍ تقر عنها الْمَوَاعِظُ فَتُضْحِي لَهَا سَامِعَةً , ثُمَّ تَعُودُ الزَّوَاجِرُ عِنْدَهَا ضَائِعَةً , وَلِنُفُوسٍ أَضْحَتْ فِي كَرَمِ الْكَرِيمِ طَامِعَةً , وَلَيْسَتْ لَهُ فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ طَائِعَةً , وَلأَقْدَامٍ سَعَتْ بِالْهَوَى فِي طُرُقٍ شَاسِعَةٍ , بَعْدَ أَنْ وَضَحَتْ لَهَا سُبُلٌ فَسِيحَةٌ وَاسِعَةٌ , وَلِهَمَمٍ أَسْرَعَتْ فِي شَوَارِعِ اللَّهْوِ شَارِعَةً , لَمْ تَكُنْ مَوَاعِظُ الْعُقُولِ لَهَا نَافِعَةً , وَلِقُلُوبٍ تُضْمِرُ التَّوْبَةَ عِنْدَ الزَّوَاجِرِ الرَّائِعَةِ , ثُمَّ يَخْتَلُّ الْعَزْمُ بِفِعْلِ مَا لا يَحِلُّ مِرَارًا مُتَتَابِعَةً , ثَالِثَةً بَعْدَ ثَانِيَةٍ وَخَامِسَةً بَعْدَ رَابِعَةٍ. كَمْ يَوْمٍ غَابَتْ شَمْسُهُ وَقَلْبُكَ غَائِبٌ , وَكَمْ ظَلامٍ أَسْبَلَ سِتْرَهُ وَأَنْتَ فِي عَجَائِبَ , وَكَمْ أُسْبِغَتْ عَلَيْكَ نعمه وأنت للمعاصي توائب , وَكَمْ صَحِيفَةٍ قَدْ مَلأَهَا بِالذُّنُوبِ الْكَاتِبُ , وَكَمْ يُنْذِرُكَ سَلْبُ رَفِيقِكَ وَأَنْتَ لاعِبٌ , يَا مَنْ يَأْمَنُ الإِقَامَةَ قَدْ زُمَّتِ الرَّكَائِبُ , أَفِقْ مِنْ سكرتك قبل حسرتك عَلَى الْمَعَايِبِ , وَتَذَكَّرْ نُزُولَ حُفْرَتِكَ وَهُجْرَانَ الأَقَارِبِ , وانهض على بِسَاطِ الرُّقَادِ وَقُلْ: أَنَا تَائِبٌ , وَبَادِرْ تَحْصِيلَ الْفَضَائِلِ قَبْلَ فَوْتِ الْمَطَالِبِ , فَالسَّائِقُ حَثِيثٌ وَالْحَادِي مُجِدٌّ وَالْمَوْتُ طَالِبٌ. (لأَبْكِيَنَّ عَلَى نَفْسِي وَحَقٌّ لِيَهْ ... يَا عَيْنُ لا تَبْخَلِي عَنِّي بِعَبْرَتِيَهْ) (لأَبْكِيَنَّ فَقْدَ بَانِ الشَّبَابِ وَقَدْ ... جَدَّ الرَّحِيلُ عَنِ الدُّنْيَا بِرِحْلَتِيَهْ) (يَا نَأْيَ مُنْتَجَعِي يَا هَوْلَ مُطَّلَعِي ... يَا ضِيقَ مُضْطَجَعِي يَا بُعْدَ شُقَّتِيَهْ) (الْمَالُ مَا كَانَ قُدَّامِي لآخِرَتِي ... مَا لا أُقَدِّمُ مِنْ مَالِي فَلَيْسَ لِيَهْ) أَسَفًا لِغَافِلٍ لا يَفِيقُ بِالتَّعْرِيضِ حَتَّى يَرَى التَّصْرِيحَ , وَلا تَبِينُ لَهُ جَلِيَّةُ الْحَالِ إِلا فِي الضَّرِيحِ , كَأَنَّهُ وَقَدْ ذَكَّرَهُ الْمَوْتُ فَأَفَاقَ , فَانْتَبَهَ لِنَفْسِهِ وَهُوَ فِي السِّبَاقِ , وَاشْتَدَّ بِهِ الْكَرْبُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ , وَتَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ وَضَاقَ الْخِنَاقُ , وَصَارَ أَكْبَرَ شَهَوَاتِهِ تَوْبَةٌ مِنْ شِقَاقٍ , هَيْهَاتَ مَضَى بِأَوْزَارِهِ الثَّقِيلَةِ، وَخَلا بِأَعْمَالِهِ وَاسْتَوْدَعَ مَقِيلَهُ , وَغُيِّبَ فِي الثَّرَى وَقِيلَ لا حِيلَةَ , وبات الندم يَلْزَمُهُ وَبِئْسَ اللاحِي لَهُ. فَتَفَكَّرُوا إِخْوَانِي فِي ذَلِكَ الْغَرِيبِ , وَتَصَوَّرُوا أَسَفَ النَّادِمِ وَقَلَقَ الْمُرِيبِ ,

الكلام على قوله تعالى

فَلِمِثْلِ حَالِهِ فَلْيَحْذَرِ اللَّبِيبُ , وَهَذَا أَمْرٌ تُبْعِدُهُ الآمَالُ وَهُوَ وَاللَّهِ قَرِيبٌ. (أَبْصَرْتُهُ مُلْقَى يَجُودُ بِنَفْسِهِ ... قَدْ كَلَّلَ الرَّشْحُ الْغَزِيرُ جَبِينَهُ) (لا يَسْتَطِيعُ إِجَابَتِي مِنْ ضَعْفِهِ ... طَوْرًا يَكُفُّ شِمَالَهُ وَيَمِينَهُ) (وَطَبِيبُهُ قَدْ حَارَ فِيهِ وَقَدْ رَأَى ... أَنْفَاسَهُ تَعْلُو مَعًا وَأَنِينَهُ) (قَدْ عَافَ مَشْرُوبَاتَهُ وَطَعَامَهُ ... وَقَلَى لِذَاكَ صَدِيقَهُ وَخَدِينَهُ) إِخْوَانِي: سَلُوا الْقُبُورَ عَنْ سُكَّانِهَا , وَاسْتَخْبِرُوا اللُّحُودَ عَنْ قُطَّانِهَا , تُخْبِرُكُمْ بِخُشُونَةِ الْمَضَاجِعِ , وَتُعْلِمُكُمْ أَنَّ الْحَسْرَةَ قَدْ ملأت واضع , فَإِنَّ الْمُسَافِرَ يَوَدُّ لَوْ أَنَّهُ رَاجِعٌ , فَلْيَتَّعِظِ الْغَافِلُ وَلْيُرَاجِعْ. (يَا وَاقِفًا يَسْأَلُ الْقُبُورَ أَفِقْ ... فَأَهْلُهَا الْيَوْمَ عَنْكَ قَدْ شُغِلُوا) (قَدْ هَالَهُمْ مُنْكَرٌ وَصَاحِبُهُ ... وَخَوْفُ مَا قَدَّمُوا وَمَا عَمِلُوا) (رَهَائِنُ لِلثَّرَى عَلَى مَدَرٍ ... يُسْمَعُ لِلدُّودِ بَيْنَهُمْ زَجَلُ) (سَرَى الْبِلَى فِي جُسُومِهِمْ فَجَرَتْ ... دَمًا وَقَيْحًا وَسَالَتِ الْمُقَلُ) (سَكْرَى وَلَمْ يَشْرَبُوا الْفِقَارَ ومن ... كؤوس الْمَنُونِ مَا نَهَلُوا) (يَنْتَظِرُونَ النُّشُورَ إِذْ يَقِفُ ... الأَمْلاكُ وَالأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ) (يَوْمًا تُرَى الصُّحُفُ فِيهِ طَائِرَةً ... وَكُلُّ قَلْبٍ مِنْ أَجْلِهِ وَجِلُ) (قَدْ دَنَتِ الشَّمْسُ مِنْ رُءُوسِهِمُ ... وَالنَّارُ قَدْ أُبْرِزَتْ لَهَا شُعَلُ) (وَأُزْلِفَتْ جَنَّةُ النَّعِيمِ فَيَا ... طُوبَى لِقَوْمٍ بِرَبْعِهَا نَزَلُوا) (أَكْوَابُهُمْ عَسْجَدٌ يُطَافُ بِهَا ... وَالْخَمْرُ وَالسَّلْسَبِيلُ وَالْعَسَلُ) (وَالْحُورُ تَلْقَاهُمْ وَقَدْ هُتِكَتْ ... عَنْ وَجْهِهَا الأَسْتَارُ وَالْكِلَلُ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: هَذَا وَعِيدٌ لِلظَّالِمِ وَتَعْزِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ.

أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الظُّلْمُ ظلماتٌ يومَ القيامة ". أخبرنا يحيى ابن علي المدير، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمَأْمُونِ , حَدَّثَنَا الدَّارَقُطْنِيُّ , أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ الْمَرْوَزِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ , عَنْ يَزِيدَ , عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى , قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ يُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ". ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} . الْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ , أَخْبَرَنَا ابْنُ النَّقُّورِ , أَنْبَأَنَا الْمُخَلِّصُ , أَنْبَأَنَا الْبَغَوِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٌ الْبَلَدِيُّ , حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ الْخَيَّاطُ , عَنِ ابْنِ عَوْنٍ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ , عَنِ ابْنِ شُرَيْحٍ , قَالَ: سَيَعْلَمُ الظَّالِمُونَ حَظَّ مَنْ نَقَصُوا! إِنَّ الظَّالِمَ يَنْتَظِرُ الْعِقَابَ وَالْمَظْلُومَ يَنْتَظِرُ النَّصْرَ! أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ أَيُّوبَ , أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ , أَخْبَرَنَا الطُّومَارِيُّ , حَدَّثَنَا ابْنُ الْبَرَاءِ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمُنْعِمِ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ وَهْبٍ , قَالَ: بَنَى جَبَّارٌ قَصْرًا وَشَيَّدَهُ فَجَاءَتْ عَجُوزٌ مُسْلِمَةٌ فَبَنَتْ إِلَى ظَهْرِ قَصْرِهِ كُوخًا تَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ , فَرَكِبَ الْجَبَّارُ يَوْمًا فَطَافَ بِفِنَاءِ الْقَصْرِ , فَرَأَى الْكُوخَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ له: امرأة ها هنا ثَاوِيَةٌ , فَأَمَرَ بِهِ فَهُدِمَ وَلَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ حَاضِرَةً , فَجَاءَتْ فَرَأَتْهُ قَدْ هُدِمَ , فَقَالَتْ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ فَقِيلَ لَهَا: إِنَّ الْمَلِكَ رَكِبَ فَرَآهُ فَأَمَرَ بِهَدْمِهِ فَرَفَعَتْ طَرْفَهَا إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَنَا لَمْ أَكُنْ , فَأَنْتَ أَيْنَ كُنْتَ! قَالَ: فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جِبْرِيلَ أَنْ يَقْلِبَ الْقَصْرَ عَلَى مَنْ فِيهِ! (لا تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا ... فَالظُّلْمُ آخِرُهُ يَأْتِيكَ بِالنَّدَمِ) (تَنَامُ عَيْنَاكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَصِبٌ ... يدعو عليك وعين الله لم تنم)

السجع عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فيه الأبصار} الْمَعْنَى: تَشْخَصُ أَبْصَارُ الْخَلائِقِ لِظُهُورِ الأَهْوَالِ فَلا تَغْمُضُ. الْوَيْلُ لأَهْلِ الظُّلْمِ مِنْ ثِقَلِ الأَوْزَارِ , ذِكْرُهُمْ بِالْقَبَائِحِ قَدْ مَلأَ الأَقْطَارَ , يَكْفِيهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ وُسِمُوا بِالأَشْرَارِ , ذَهَبَتْ لَذَّاتُهُمْ بِمَا ظَلَمُوا وَبَقِيَ الْعَارُ , وَدَارُوا إِلَى دَارِ الْعِقَابِ وَمَلَكَ الْغَيْرُ الدَّارَ , وَخَلَوْا بِالْعَذَابِ فِي بُطُونِ تِلْكَ الأَحْجَارِ , فَلا مُغِيثٌ وَلا أَنِيسٌ وَلا رَفِيقٌ وَلا جَارٌ , وَلا رَاحَةٌ لَهُمْ وَلا سُكُونٌ وَلا مَزَارٌ , سَالَتْ دُمُوعُ أَسَفِهِمْ عَلَى مَسْلَفِهِمْ كَالأَنْهَارِ , شَيَّدُوا بُنْيَانَ الأَمَلِ فَإِذَا بِهِ قَدِ انْهَارَ , أَمَا عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ جَارَ الْمَظْلُومَ مِمَّنْ جَارَ , فَإِذَا قَامُوا فِي الْقِيَامَةِ زَادَ البلاء على المقدار {سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار} , لا يَغُرَّنَّكَ صَفَاءُ عَيْشِهِمْ كُلُّ الأَخِيرِ أَكْدَارٌ {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} قوله تعالى: {مهطعين} فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الإِهْطَاعَ النَّظَرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْرِفَ النَّاظِرُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي أَنَّهُ الإِسْرَاعُ. قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَهْطَعَ الْبَعِيرُ فِي سَيْرِهِ إِذَا أَسْرَعَ. وَفِيمَا أَسْرَعُوا إِلَيْهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا الدَّاعِي. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالثَّانِي النَّارُ قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُهْطِعَ الَّذِي لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {مُقْنِعِي رءوسهم} فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: رَافِعِي رُءُوسِهِمْ: قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُقْنِعُ: الَّذِي رَفَعَ رَأْسَهُ وَأَقْبَلَ

بِطَرْفِهِ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: رَافِعِي رُءُوسِهِمْ مُلْتَصِقَةٍ بِأَعْنَاقِهِمْ. وَالثَّانِي: نَاكِسِي رُءُوسِهِمْ. قَالَهُ الْمُؤَرِّجُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طرفهم} والمعنى: أن نظرهم إلى شيء واحد. قال الْحَسَنُ: وُجُوهُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى السَّمَاءِ لا يَنْظُرُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وأفئدتهم هواء} فِي مَعْنَى الْكَلامِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُلُوبَ خَرَجَتْ مِنْ مَوَاضِعِهَا , فَصَارَتْ فِي الْحَنَاجِرِ. رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَرَجَتْ مِنْ صُدُورِهِمْ فَنَشَبَتْ فِي حُلُوقِهِمْ {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} . أي ليس فيها شَيْءٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَفْئِدَتَهُمْ مُتَجَوِّفَةٌ لا تُغْنِي شَيْئًا مِنَ الْخَوْفِ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفْئِدَتُهُمْ جَوْفٌ لا عُقُولَ لَهَا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مُتَجَوِّفَةٌ مِنَ الْخَوْفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وأنذر الناس} أي خوفهم {يوم يأتيهم العذاب} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أخرنا إلى أجل قريب} أَيْ أَمْهِلْنَا مُدَّةً يَسِيرَةً. قَالَ مُقَاتِلٌ: سَأَلُوا الرجوع إلى الدنيا {نجب دعوتك} يَعْنُونَ التَّوْحِيدَ. فَقَالَ لَهُمْ: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ من قبل} . أَيْ حَلَفْتُمْ بِالدُّنْيَا أَنَّكُمْ لا تُبْعَثُونَ. {وَسَكَنْتُمْ في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} أَيْ نَزَلْتُمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ وَقُرَاهُمْ , كَالْحِجْرِ وَمَدْيَنَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْقُرَى الَّتِي عُرِفَتْ. وَمَعْنَى ظَلَمُوا أنفسهم: ضَرُّوهَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بهم} أي حربناهم] . وَكَانَ يَنْبَغِي لَكُمْ

أَنْ تَنْزَجِرُوا عَنِ الْخِلافِ {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} أَيْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأَشْبَاهَ. {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نُمْرُودُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ نُمْرُودُ: لا أَنْتَهِي حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى السَّمَاءِ. فَأَمَرَ بِأَرْبَعَةٍ مِنَ النُّسُورِ فَرُبِّيَتْ وَاسْتُعْجِلَتْ , ثُمَّ أَمَرَ بِتَابُوتٍ فَنُحِتَ , ثُمَّ جَعَلَ فِي وَسَطِهِ خَشَبَةً , وَجَعَلَ [عَلَى] رَأْسِ الْخَشَبَةِ لَحْمًا شَدِيدَ الْحُمْرَةِ , ثُمَّ جَوَّعَهَا وَرَبَطَ أَرْجُلَهَا بِأَوْتَارٍ إِلَى قَوَائِمِ التَّابُوتِ , وَدَخَلَ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ فِي التَّابُوتِ , وَأَغْلَقَ بَابَهُ ثُمَّ أَرْسَلَهَا , فَجَعَلَتْ تُرِيدُ اللَّحْمَ , فَصَعِدَتْ فِي السَّمَاءِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , ثُمَّ قَالَ لِصَاحِبِهِ: افْتَحْ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى. فَفَتَحَ فَقَالَ: أَرَى الأَرْضَ كَأَنَّهَا الدُّخَانَ. فَقَالَ: أَغْلِقْ. فَصَعِدَ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , ثُمَّ قَالَ: افْتَحْ فَقَالَ: مَا أَرَى إِلا السَّمَاءَ وَمَا تَزْدَادُ مِنْهَا إِلا بُعْدًا. فَقَالَ: صَوِّبْ خَشَبَتَكَ. فَصَوَّبَهَا فَانْقَضَّتِ النُّسُورُ تُرِيدُ اللَّحْمَ , فَسَمِعَتِ الْجِبَالُ هَدَّتَهَا فَكَادَتْ تَزُولُ عَنْ مَوَاضِعِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بُخْتَنَصَّرَ , وَأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ لَهُ جَرَتْ , وَأَنَّ النُّسُورَ لَمَّا ارْتَفَعَتْ نُودِيَ: يَا أَيُّهَا الطَّاغِي أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَفَرَقَ فَنَزَلَ. فَلَمَّا رَأَتِ الْجِبَالُ ذَلِكَ ظَنَّتْ أَنَّهُ قِيَامُ السَّاعَةِ , فَكَادَتْ تَزُولُ. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الإِشَارَةَ إِلَى الأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَمَكْرُهُمْ شِرْكُهُمْ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالرَّابِعُ: [أَنَّهُمُ] الَّذِينَ مَكَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِهِ وَأَخْرَجُوهُ. ذَكَرَهُ بَعْضُ المفسرين. قوله تعالى: {وعند الله مكرهم} أَيْ جَزَاؤُهُ {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} مَنْ كَسَرَ اللامَ الأُولَى فَإِنَّ الْمَعْنَى: وَمَا كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ. أَيْ هُوَ أَضْعَفُ وَأَهْوَنُ وَمَنْ فَتَحَ [تِلْكَ] اللامَ أَرَادَ: قَدْ كَادَتِ الْجِبَالُ تَزُولُ مِنْ مَكْرِهِمْ. وَفِي الْمُرَادِ بِالْجِبَالِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: الْجِبَالُ الْمَعْرُوفَةُ. قَالَهُ الجمهور.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا ضُرِبَتْ مَثَلا لأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَثُبُوتُ دِينِهِ كَثُبُوتِ الْجِبَالِ الراسية. والمعنى: لو بلغ كَيْدُهُمْ إِلَى إِزَالَةِ الْجِبَالِ لَمَا زَالَ أَمْرُ الإِسْلامِ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وعده رسله} وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ وَعَدَكَ بِالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ {إِنَّ الله عزيز ذو انتقام} مِنَ الْكَافِرِينَ. {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} وَفَيِ مَعْنَى تَبْدِيلِهَا قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: [أَنَّهُ] تُبَدَّلُ بِأَرْضٍ بَيْضَاءَ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو طَالِبٍ الْعُشَارِيُّ , أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ , أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَصَمُّ , حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ الدُّورِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو العتاب الدلال. حدثنا جرير ابن أَيُّوبَ الْبَجَلِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ , عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ , قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض} قَالَ: (أَرْضٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ حَرَامٌ , وَلَمْ يُعْمَلْ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُبَدَّلُ بأرض من فضة. قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تُبَدَّلُ بِخُبْزَةٍ بَيْضَاءَ فَيَأْكُلُ الْمُؤْمِنُ مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ - قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْقُرْطُبِيُّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا تُبَدَّلُ نَارًا. قَالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ تَبْدِيلَهَا: تَغْيِيرُ أَحْوَالِهَا. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يَبْسُطُهَا وَيَمُدُّهَا مَدَّ الأَدِيمِ " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُزَادُ فِيهَا وَيُنْقَصُ مِنْهَا , وَتَذْهَبُ آكَامُهَا وَجِبَالُهَا وَأَوْدِيَتُهَا وَشَجَرُهَا وَتُمَدُّ. وَفِي تَبْدِيلِ السماوات سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهَا تُجْعَلُ مِنْ ذَهَبٍ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه.

وَالثَّانِي: تَصِيرُ جِنَانًا. قَالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَبْدِيلَهَا تَكْوِيرُ شَمْسِهَا وَتَنَاثُرُ نُجُومِهَا. قاله ابن عباس. والرابع: أنها تبدل بسماوات كَأَنَّهَا الْفِضَّةُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالْخَامِسُ: [أَنَّ تَبْدِيلَهَا تَغْيِيرُ أَحْوَالِهَا , فَمَرَّةً تَكُونُ كَالْمُهْلِ , وَمَرَّةً كَالدِّهَانِ. قَالَهُ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ. وَالسَّادِسُ:] أَنَّ تَبْدِيلَهَا أَنْ تُطْوَى كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ. وَالسَّابِعُ: أَنْ تَنْشَقَّ فَلا تُظِلُّ. ذَكَرَهُما الْمَاوَرْدِيُّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ , فَأَيْنَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " عَلَى الْجِسْرِ , فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا ". قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} يعني الكفار {يومئذ مقرنين} فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا يُقْرَنُونَ مَعَ الشَّيَاطِينِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: تُقْرَنُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ إِلَى رِقَابِهِمْ. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَالثَّالِثُ: يُقْرَنُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَالأَصْفَادُ: الأغلال. قوله تعالى: {سرابيلهم من قطران} وَهِيَ الْقُمُصُ , وَاحِدُهَا سِرْبَالٌ , وَالْقَطِرَانُ: مَعْرُوفٌ , وَهُوَ شَيْءٌ يُتَحَلَّبُ مِنْ شَجَرٍ تُهْنَأُ بِهِ الإِبِلُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا جُعِلَ الْقَطِرَانُ لأَنَّهُ يُبَالِغُ فِي اشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْجُلُودِ , فَحَذَّرَهُمْ مَا يَعْرِفُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ {مِنْ قِطْرٍ} بكسر القاف وسكون الطاء والتنوين {وأن} بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا وَمَدِّهَا. وَالْقِطْرُ: الصُّفْرُ وَالنُّحَاسُ وآن [قد] انتهى حره.

{وتغشى وجوههم النار} أي تعلوها. {ليجزي الله} اللام متعلقة بقوله تعالى: {وبرزوا} وَفِي سُرْعَةِ حِسَابِهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: عَجَلَةُ حُضُورِهِ وَمَجِيئُهُ. وَالثَّانِي: سُرْعَةُ فَرَاغِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَفْرُغُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حِسَابِ الْخَلْقِ فِي قَدْرِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. أَيْنَ مَنْ لَعِبَ وَلَهَا , أَيْنَ مَنْ غَفَلَ وَسَهَا , دَهَاهُ أَفْظَعُ مَا دَهَى , وَحُطَّ رُكْنُهُ فَوَهَى , ذَهَبَتْ لَذَّةُ ذُنُوبِهِ وَحُبِسَ بِهَا , نَظَرَ في عاجله ونسي المنتهى. (نادى الْقُصُورَ الَّتِي أَقْوَتْ مَعَالِمُهَا ... أَيْنَ الْجُسُومُ الَّتِي طَابَتْ مَطَاعِمُهَا) (أَيْنَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَمَنْ ... أَلْهَاهُ نَاضِرُ دُنْيَاهُ وَنَاعِمُهَا) (أَيْنَ الأُسُودُ الَّتِي كَانَتْ تُحَاذِرُهَا ... أُسْدُ الْعَرِينِ وَمِنْ خَوْفٍ تُسَالِمُهَا) (أَيْنَ الْجُيُوشُ الَّتِي كَانَتْ لَوِ اعْتَرَضَتْ ... لَهَا الْعُقَابُ لَخَانَتْهَا قَوَادِمُهَا) (أَيْنَ الْحِجَابُ وَمَنْ كَانَ الْحِجَابُ لَهُ ... وَأَيْنَ رُتْبَتُهُ الْكُبْرَى وَخَادِمُهَا) (أَيْنَ اللذين لَهَوْا عَمَّا لَهُ خُلِقُوا ... كَمَا لَهَتْ فِي مَرَاعِيهَا سَوَائِمُهَا) (أَيْنَ الْبُيُوتُ الَّتِي مِنْ عَسْجَدٍ نُسِجَتْ ... هَلِ الدَّنَانِيرُ أَغْنَتْ أَمْ دَرَاهِمُهَا) (أَيْنَ الأسرة تَعْلُوهَا ضَرَاغِمُهَا ... هَلِ الأَسِرَّةُ أَغْنَتْ أَمْ ضَرَاغِمُهَا) (هذي الْمَعَاقِلُ كَانَتْ قَبْلُ عَاصِمَةً ... وَلا يَرَى عِصَمَ الْمَغْرُورِ عَاصِمُهَا) (أَيْنَ الْعُيُونُ الَّتِي نَامَتْ فَمَا انْتَبَهَتْ ... وَاهًا لَهَا نَوْمَةً مَا هَبَّ نَائِمُهَا)

سجع على قوله تعالى

سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ ولينذروا به} يَعْنِي الْقُرْآنَ يَا مَشْغُولا بِذُنُوبِهِ , مَغْمُورًا بِعُيُوبِهِ , غَافِلا عَنْ مَطْلُوبِهِ , أَمَا نَهَاهُ الْقُرْآنُ عَنْ حوبه هذا بلاغ للناس ولينذروا به. أنسي العاصي قبيح مكتوبه , لا بد عن سُؤَالِهِ عَنْ مَطْعُومِهِ وَمَشْرُوبِهِ , وَحَرَكَاتِهِ وَخُطَوَاتِهِ فِي مَرْغُوبِهِ , أَلا يَذْكُرُ فِي زَمَانِ رَاحَتِهِ أَحْيَانَ كُرُوبِهِ , أَلا يَحْذَرُ مِنَ الأَسَدِ قَبْلَ وَقْتِ وُثُوبِهِ , أَلا يَتَّخِذُ تُقَاهُ تُقْيَةً مِنْ شَرِّ هُبُوبِهِ , أَلا يَدَّخِرُ مِنْ خِصْبِهِ لأَيَّامِ جُدُوبِهِ , أَلا يَتَفَكَّرُ فِي فِرَاقِهِ لِمَحْبُوبِهِ , أَلا يَتَذَكَّرُ النَّعْشَ قَبْلَ رُكُوبِهِ , كَيْفَ يَغْفَلُ مَنْ هُوَ فِي صَفِّ حُرُوبِهِ , رُبَّ إِشْرَاقٍ لَمْ يُدْرَكْ زَمَنُ غُرُوبِهِ، إِلَى مَتَى فِي حِرْصِهِ عَلَى الفاني ودؤوبه , مَتَى يَرُدُّ يُوسُفُ قَلْبَهُ عَلَى يَعْقُوبِهِ , لَقَدْ وَعَظَهُ الزَّمَانُ بِفُنُونِ ضُرُوبِهِ , وَحَذَّرَهُ اسْتِلابَهُ بِأَنْوَاعِ خُطُوبِهِ , وَلَقَدْ زَجَرَهُ الْقُرْآنُ بِتَخْوِيفِهِ مَعَ لَذَّةِ أسلوبه , هذا بلاغ للناس ولينذروا به. أَيْقَظَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ رَقْدَةِ الْغَفْلَةِ , وَوَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِلتَّزَوُّدِ قَبْلَ النُّقْلَةِ , وَأَلْهَمَنَا اغْتِنَامَ الزمان ووقت المهلة. إنه سميع قريب.

المجلس السادس في قصة ثمود

المجلس السادس فِي قِصَّةِ ثَمُودَ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي مَهَّدَ لِطَالِبِيهِ سَبِيلا وَاضِحًا , وَكَمِ ابْتَعَثَ نَبِيًّا مُرْشِدًا نَاصِحًا , فَأَرْسَلَ آدَمَ غَادِيًا عَلَى بَنِيهِ بِالتَّعْلِيمِ ورائحا , فخلفه شِيثَ ثُمَّ إِدْرِيسَ , وَجَاءَ نُوحٌ نَائِحًا , وَأَمَرَ هُودًا بِهِدَايَةِ عَادٍ فَلَمْ يَزَلْ مُكَادِحًا {وَإِلَى ثمود أخاهم صالحا} . أَحْمَدُهُ مَا بَدَا بَرْقٌ لائِحًا , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ مَا دَامَ الْفُلْكُ سَابِحًا , وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ , وَقُلْ فِي الصِّدِّيقِ مَادِحًا , وَعَلَى عُمَرَ الْفَارُوقِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ بِنُورِ الْحَقِّ لامِحًا , وَعَلَى عُثْمَانَ وَاعْجَبْ بِمِثْلِ دَمِهِ طَائِحًا , وَعَلَى عَلِيٍّ وَأَعْلِنْ بِفَضَائِلِهِ صَائِحًا , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَمَا زَالَ عَرْفُ طِيبِهِ نَافِحًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا} . ثَمُودُ: هُوَ ابْنُ عَابِرِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. أَرْسَلَ إِلَى أَوْلادِهِ وَهُوَ: صَالِحُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أُنَيْفِ [بْنِ مَاشِحَ بن عبيد بن جادر ابن ثَمُودَ] . وَالثَّمْدُ: الْمَاءُ الْقَلِيلُ الَّذِي لا مَادَّةَ لَهُ , وَإِنَّمَا قَالَ " أَخَاهُمْ " لأَنَّهُ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ. {قال يا قوم اعبدوا الله} أَيْ " وَحِّدُوهُ " فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَاؤُهُ إِلا طُغْيَانًا , فَقَالُوا: ائْتِنَا بِآيَةٍ فَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ نَاقَةً , فَأَخْرَجَهُمْ إِلَى صَخْرَةٍ مَلْسَاءَ فَتَمَخَّضَتْ تَمَخُّضَ الْحَامِلِ , ثُمَّ انفلقت عن ناقة على الضفة الَّتِي طَلَبُوهَا , ثُمَّ انْفَصَلَ عَنْهَا فَصِيلٌ فَقَالَ {ذَرُوهَا تَأْكُلُ فِي أَرْضِ اللَّهِ} أَيْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ مُؤْنَتُهَا وَلا عَلَفُهَا. وَتَأْكُلْ مَجْزُومَةٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ , وَالْمَعْنَى إِنْ تَذَرُوَهَا تَأْكُلْ.

{ولا تمسوها بسوء} . وَالسُّوءُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا الشدة {يسومونكم سوء العذاب} وَالثَّانِي: الزِّنَا: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} . وَالثَّالِثُ: الْبَرَصُ {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} والرابع: العذاب {لا يمسهم السوء} وَالْخَامِسُ الشِّرْكُ: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} والسادس السب: {وألسنتهم بالسوء} والسابع الضر: {ويكشف السوء} والثامن الذنب: {يعملون السوء بجهالة} والتاسع القتل والهزيمة: {لم يمسهم سوء} والعاشر العقر: {ولا تمسوها بسوء} . فَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَ الْوَادِي كُلَّهُ [فِي يَوْمٍ] . وَتَسْقِيهِمُ الدَّرَّ مَكَانَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض} أي أنزلكم {تتخذون من سهولها قصورا} السَّهْلُ: ضِدُّ الْحَزْنِ. وَالْقَصْرُ: مَا شُيِّدَ وَعَلا مِنَ الْمَنَازِلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: اتَّخَذُوا الْقُصُورَ فِي سُهُولِ الأَرْضِ لِلصَّيْفِ وَنَقَّبُوا فِي الْجِبَالِ لِلشِّتَاءِ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَبْنِي الْبُنْيَانَ فَيَمُرُّ عَلَيْهِ مِائَةُ سَنَةٍ , فَيَخْرُبُ ,

ثُمَّ يُجَدِّدُهُ فَيَمُرُّ عَلَيْهِ مِائَةُ سَنَةٍ فَيَخْرُبُ , فَأَضْجَرَهُمْ ذَلِكَ , فَاتَّخَذُوا مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا. قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى قَوْلِ صَالِحٍ وَاحْتَالُوا عَلَى قَتْلِهِ , فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهله} وَقَعَدُوا فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَنْتَظِرُونَهُ , فَوَقَعَ الْجَبَلُ عَلَيْهِمْ فَهَلَكُوا , ثُمَّ أَقْبَلَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَ النَّاقَةِ فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: {نَاقَةَ اللَّهِ وسقياها} أَيِ احْذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ وَشِرْبَهَا مِنَ الْمَاءِ. فَكَمَنَ لَهَا قَاتِلُهَا وَهُو قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ فِي [أَصْلِ] شَجَرَةٍ فَرَمَاهَا بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ بِهِ عَضَلَةُ سَاقِهَا , ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهَا بِالسَّيْفِ فَكَشَفَ عُرْقُوبَهَا , ثُمَّ نَحَرَهَا. وَقَالُوا: يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا مِنَ الْعَذَابِ. فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. قَالَ [الْمُفَسِّرُونَ] : لَمَّا عَقَرُوهَا صَعِدَ فَصِيلُهَا إِلَى الْجَبَلِ فَرَغَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ , فَقَالَ صَالِحٌ: لِكُلِّ رَغْوَةٍ أَجَلُ يَوْمٍ , أَلا إِنَّ الْيَوْمَ الأَوَّلَ تُصْبِحُ وُجُوهُكُمْ مُصْفَرَّةً , وَالْيَوْمَ الثَّانِي مُحْمَرَّةً , وَالْيَوْمَ الثَّالِثَ مُسْوَدَّةً. فَلَمَّا أَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ إِذَا وُجُوهُهُمْ مُصْفَرَّةٌ , فَصَاحُوا وَبَكَوْا وَعَرَفُوا أَنَّهُ الْعَذَابُ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِذَا وُجُوهُهُمْ مُحْمَرَّةٌ , فَضَجُّوا وَبَكَوْا. فَلَمَّا أَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إِذَا وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ , كَأَنَّمَا طُلِيَتْ بِالْقَارِ , فَصَاحُوا بِأَجْمَعِهِمْ: أَلا قَدْ حَضَرَكُمُ الْمَوْتُ. فَتَكَفَّنُوا وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ بِالأَرْضِ لا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَتَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيهَا صَوْتُ كُلِّ صَاعِقَةٍ , فَتَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: حَفَرُوا لأَنْفُسِهِمْ قُبُورًا. فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ [وَلَمْ يَأْتِهِمُ الْعَذَابُ] ظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ رَحِمَهُمْ , فَخَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَقَامَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَوْقَ الْمَدِينَةِ فَسَدَّ ضَوْءَ الشَّمْسِ , فَرَجَعُوا إِلَى قُبُورِهِمْ , فَصَاحَ [بِهِمْ] صَيْحَةً عَظِيمَةً: مُوتُوا عَلَيْكُمُ اللَّعْنَةُ. فَمَاتُوا وزلزلت

الكلام على البسملة

بيوتهم فوقعت عليهم {فدمدم عليهم ربهم} أَيْ أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ. وَلَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دِيَارِهِمْ قَالَ: " لا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ ". اعْتَبِرُوا إِخْوَانِي بِهَؤُلاءِ الْهَالِكِينَ , وَانْظُرُوا سُوءِ تَدْبِيرِ الْخَاسِرِينَ , لا بِالنَّاقَةِ اعْتَبَرُوا , وَلا لِتَعْوِيضِهِمُ اللَّبَنَ شَكَرُوا , وَعَتَوْا عَنِ النِّعَمِ وَبَطِرُوا , وَعَمُوا عَنِ الْكَرَمِ فَمَا نَظَرُوا , وَأُوعِدُوا بِالْعَذَابِ فَمَا حَذِرُوا , كُلَّمَا رَأَوْا آيَةً مِنَ الآيَاتِ كَفَرُوا. الطَّبْعُ الْخَبِيثُ لا يَتَغَيَّرُ , وَالْمُقَدَّرُ ضَلالُهُ لا يَزَالُ يَتَحَيَّرُ , خَرَجَتْ إِلَيْهِمْ نَاقَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّعَمِ , وَدُرَّ لَبَنُهَا لَهُمْ فَتَوَاتَرَتِ النِّعَمُ فَكَفَرُوا وَمَا شَكَرُوا , فَأَقْبَلَتِ النِّقَمُ. أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الْكُفْرَانِ , وَحَفِظَنَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْخُسْرَانِ , إِنَّهُ إِذَا لَطَفَ صَانَ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (أَيُّهَا السَّكْرَانُ بِالآمَالِ ... قَدْ حَانَ الرَّحِيلُ) (وَمَشِيبُ الرَّأْسِ وَالْفَوْدَيْنِ ... لِلْمَوْتِ دَلِيلُ) (فَانْتَبِهْ مِنْ رَقْدَةِ الفغفلة ... فَالْعُمْرُ قَلِيلُ) (وَاطْرَحْ سَوْفَ وَحَتَّى ... فَهُمَا دَاءٌ دَخِيلُ) يَا مَنْ صُبْحُ شَيْبِهِ بَعْدَ لَيْلِ شَبَابِهِ قَدْ تَبَلَّجَ , وَنَذِيرُهُ قَدْ حَامَ حَوْلَ حِمَاهُ وَعَرَّجَ , كَأَنَّكَ بِالْمَوْتِ قَدْ أَتَى سَرِيعًا وَأَزْعَجَ , وَنَقَلَكَ عَنْ دَارٍ أَمِنْتَ مَكْرَهَا وَأَخْرَجَ , وحملك على خشونة النَّعْشِ بَعْدَ لِينِ الْهَوْدَجِ , وَأَفْصَحَ بِهَلاكِكَ وَقَدْ طَالَ مَا مَجْمَجَ , وَأَفْقَرَكَ إِلَى قَلِيلٍ مِنَ الزَّادِ وَأَحْوَجَ , يَا لاهِيًا فِي دَارِ الْبَلاءِ مَا أَقْبَحَ فِعْلَكَ وَمَا أَسْمَجَ , وَيَا عَالِمًا نَظَرَ النَّاقِدُ وَبِضَاعَتُهُ كُلُّهَا بَهْرَجٌ , وَيَا غَافِلا عَنْ رَحِيلِهِ سَلْبُ الأَقْرَانِ أُنْمُوذَجٌ.

(سَيَقْطَعُ رَيْبُ الدَّهْرِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ ... لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ فُرْقَةٌ مِنْ يَدِ الْبَيْنِ) (وَكُلٌّ يَقْضِي سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ ... تُخَاتِلُهُ عَنْ نَفْسِهِ سَاعَةُ الْحِينِ) (وَمَا الْعَيْشُ إِلا يَوْمُ مَوْتٍ لَهُ غَدٌ ... وَمَا الْمَوْتُ إِلا رَقْدَةٌ بَيْنَ يَوْمَيْنِ) (وَمَا الْحَشْرُ إِلا كَالصَّبَاحِ إِذَا انْجَلَى ... يَقُومُ لَهُ الْيَقْظَانُ مِنْ رَقْدَةِ الْعَيْنِ) (فَيَا عَجَبًا مِنِّي وَيَا طُولَ غَفْلَتِي ... أُؤَمِّلُ أَنْ أَبْقَى وَأَنَّى وَمِنْ أَيْنِ) يَا مَنْ يُبَارِزُ مَوْلاهُ بِمَا يَكْرَهُ , وَيُخَالِفُهُ فِي أَمْرِهِ آمِنًا مَكْرَهُ , وَيُنْعِمُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَنْسَى شُكْرَهُ , وَالرَّحِيلُ قَدْ دَنَا وماله فِيهِ فِكْرَةٌ , يَا مَنْ قَبَائِحُهُ تُرْفَعُ عَشِيًّا وَبُكْرَةً , يَا قَلِيلَ الزَّادِ مَا أَطْوَلَ السَّفْرَةَ , وَالنُّقْلَةُ قَدْ دَنَتْ وَالْمَصِيرُ الْحُفْرَةُ , مَتَى تَعْمَلُ فِي قَلْبِكَ الْمَوَاعِظُ , مَتَى تُرَاقِبُ الْعَوَاقِبَ وَتُلاحِظُ , أَمَا تَحْذَرُ مَنْ أَوْعَدَ وَهَدَّدَ , أَمَا تَخَافُ مَنْ أَنْذَرَ وَشَدَّدَ , مَتَى تَضْطَرِمُ نَارُ الْخَوْفِ فِي قَلْبِكَ وَتَتَوَقَّدُ , إِلَى مَتَى بَيْنَ الْقُصُورِ وَالتَّوَانِي تَتَرَدَّدُ , مَتَى تَحْذَرُ يَوْمًا فِيهِ الْجُلُودُ تَشْهَدُ , مَتَى تَتْرُكُ مَا يَفْنَى رَغْبَةً فِيمَا لا ينفد , متى تهب بك رِيحُ الْخَوْفِ كَأَنَّكَ غُصْنٌ يَتَأَوَّدُ , الْبِدَارَ الْبِدَارَ إِلَى الْفَضَائِلِ , وَالْحِذَارَ الْحِذَارَ مِنَ الرَّذَائِلِ , فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ قَلائِلُ: (اغْتَنِمْ فِي الْفَرَاغِ فَضْلَ رُكُوعٍ ... فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَةْ) (كَمْ صَحِيحٍ رَأَيْتَ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ ... ذَهَبَتْ نَفْسُهُ السَّلِيمَةُ فَلْتَةْ) حَجَّ مَسْرُوقٌ فَمَا نَامَ إِلا سَاجِدًا , وَكَانَ مُجِيرُ بْنُ الرَّبِيعِ يُصَلِّي حَتَّى مَا يَأْتِي فِرَاشَهُ إِلا حَبْوًا. (اغْتَنِمْ رَكْعَتَيْنِ زُلْفَى إِلَى اللَّهِ ... إِذَا كُنْتَ فَارِغًا مُسْتَرِيحَا) (وَإِذَا مَا هَمَمْتَ أَنْ تَفْعَلَ الْبَاطِلَ ... فَاجْعَلْ مَكَانَهُ تَسْبِيحَا) يَا سَكْرَانَ الْهَوَى وَإِلَى الآنَ مَا صَحَّا , يَا مُفْنِيًا زَمَانَهُ الشَّرِيفَ لَهْوًا وَمَرَحًا , يَا مُعْرِضًا عَنْ لَوْمِ مَنْ لامَ وَعَتْبِ مَنْ لَحَا , مَتَى يَعُودُ هَذَا الْفَاسِدُ مُصْلِحًا , مَتَى يَرْجِعُ هَذَا الْهَالِكُ مُفْلِحًا. لَقَدْ أتعبت النصحاء الفصحاء , أما وعظمت بِمَا يَكْفِي , أَمَا رَأَيْتَ مِنَ الْعِبْرَةِ مَا يَشْفِي , فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَى النَّاظِرُ , وَتَفَكَّرْ فِي أَمْرِكَ بِالْقَلْبِ

الكلام على قوله تعالى

الْحَاضِرِ , وَلا تُسَاكِنِ الْفُتُورَ فَإِنَّكَ إِلَى [مَسْكَنِ] الْقُبُورِ صَائِرٌ , فَالْحَيُّ لِلْمَمَاتِ , وَالْجَمْعُ لِلشَّتَاتِ [وَالأَمْرُ] ظَاهِرٌ. (عَاصِ الْهَوَى إِنَّ الْهَوَى مَرْكَبٌ ... يَصْعُبُ بَعْدَ اللِّينِ مِنْهُ الذَّلُولُ) (إِنْ يَجْلُبِ الْيَوْمَ الْهَوَى لَذَّةً ... فَفِي غَدٍ مِنْهُ الْبُكَا وَالْعَوِيلُ) (ما بين ما يحمد فيها وَمَا ... يَدْعُو إِلَيْهِ الذَّمُّ إِلا الْقَلِيلُ) الْكَلامُ على قوله تعالى {واستمع يوم ينادي المنادي} وَالْمَعْنَى: اسْتَمِعْ حَدِيثَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَالْمُنَادِي: إِسْرَافِيلُ , يقف على صخرة بيت المقدس فينادي: يا أيها النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى الْحِسَابِ. إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَجْتَمِعُوا لِفَصْلِ الْقَضَاءِ. وَهَذِهِ الصَّيْحَةُ هِيَ الأَخِيرَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} الْمَكَانُ الْقَرِيبُ هُوَ الصَّخْرَةُ. قَالَ كَعْبٌ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ أَقْرَبُ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلا. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: بِاثْنَيْ عَشَرَ مِيلا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيُقَالُ: إِنَّ تِلْكَ الصَّخْرَةِ فِي وَسَطِ الأَرْضِ. سَجْعٌ يَا مَنْ يُدعى إِلَى نَجَاتِهِ فَلا يُجِيبُ , يَا مَنْ قَدْ رَضِيَ أَنْ يَخْسَرَ وَيَخِيبَ , إِنَّ أَمْرَكَ طَرِيفٌ وَحَالَكَ عَجِيبٌ , اذْكُرْ فِي زَمَانِ رَاحَتِكَ سَاعَةَ الْوَجِيبِ {واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب} . وَيْحَكَ إِنَّ الْحَقَّ حَاضِرٌ مَا يَغِيبُ , تُحْصَى عَلَيْكَ أَعْمَالُ الطُّلُوعِ وَأَفْعَالُ الْمَغِيبِ , ضَاعَتِ الرِّيَاضَةُ فِي غَيْرِ نَجِيبٍ [سِيمَاكَ تَدُلُّ وَمَا يَخْفَى المريب] اسمع

لا بُدَّ لِغِرْبَانِ الْفِرَاقِ مِنْ نَعِيبِ , أَنُسَاكِنُ الْغَفْلَةَ وَلِغَيْرِنَا نَعِيبُ , يَا مَنْ سِلَعُهُ كُلُّهَا مَعِيبُ , اذْكُرْ يَوْمَ الْفَزَعِ وَالتَّأْنِيبِ {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ ينادي المنادي من مكان قريب} . لا بُدَّ وَاللَّهِ مِنْ فِرَاقِ الْعَيْشِ الرَّطِيبِ , وَالْتِحَافِ الْبِلَى مَكَانَ الطِّيبِ , وَاعَجَبًا لِلَذَّاتٍ بَعْدَ هَذَا كَيْفَ تَطِيبُ , وَيْحَكَ أَحْضِرْ قَلْبَكَ لِوَعْظِ الخطيب {واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب} . تَذَكَّرْ مَنْ قَدْ أُصِيبَ كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ يَوْمٌ عَصِيبٌ , وَانْتَبِهْ لأَحَظِّ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ [وَاحْتَرِزْ] فَعَلَيْكَ شَهِيدٌ وَرَقِيبٌ , إِذَا حَلَّ الْمَوْتُ حَلَّ الترركيب , وَتُقْلَبُ مُقَلُ الْقُلُوبِ فِي قَلْبِ التَّقْلِيبِ , فَتَنْزَعِجُ الرُّوحُ انْزِعَاجَ الصِّرْمَةِ [إِذَا] أَحَسَّتْ بِذِيبٍ , فَالْتَفِتْ يَا مُحِبَّ الْهَوَى عَنْ هَذَا الْحَبِيبِ {وَاسْتَمِعْ يوم ينادي المنادي من مكان قريب} . سَتَخْرُجُ وَاللَّهِ مِنْ هَذَا الْوَادِي الرَّحِيبِ , وَلا يَنْفَعُكَ الْبُكَاءُ وَالنَّحِيبُ , لا بُدَّ مِنْ يَوْمٍ يَتَحَيَّرُ فِيهِ الشُّبَّانُ وَالشِّيبُ , وَيَذْهَلُ فِيهِ الطِّفْلُ لِلْهَوْلِ وَيَشِيبُ , يَا مَنْ عَمَلُهُ كُلُّهُ رَدِيءٌ فليته قد شيب {واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب} . كَيْفَ بِكَ إِذَا أُحْضِرْتَ فِي حَالٍ كَئِيبٍ وَعَلَيْكَ ذُنُوبٌ أَكْثَرُ مِنْ رَمْلٍ كَثِيبٍ , وَالْمُهَيْمِنُ الطَّالِبُ وَالْعَظِيمُ الْحَسِيبُ , فَحِينَئِذٍ يَبْعُدُ عَنْكَ الأَهْلُ وَالنَّسِيبُ , النَّوْحُ أَوْلَى بِكَ يَا مَغْرُورُ مِنَ التَّشْبِيبِ , أَتُؤْمِنُ أَمْ عِنْدَكَ تَكْذِيبٌ , أَمْ [تُرَاكَ] تَصْبِرُ عَلَى التَّعْذِيبِ كَأَنَّكَ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَمَائِهَا قَدْ أُذِيبَ , اقْبَلْ نُصْحِي وَأَقْبِلْ عَلَى التَّهْذِيبِ {واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب} يَا مُطَالَبًا بِأَعْمَالِهِ , يَا مَسْئُولا عَنْ أَفْعَالِهِ , يَا مَكْتُوبًا [عَلَيْهِ] جَمِيعُ أَقْوَالِهِ , يَا مُنَاقَشًا عَلَى كُلِّ أَحْوَالِهِ , نِسْيَانُكَ لِهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ , أَتَسْكُنُ إِلَى الْعَافِيَةِ وَتُسَاكِنُ الْعَيْشَةَ الصَّافِيَةَ وَتَظُنُّ أَيْمَانَ الْغُرُورِ وَاقِيَةً , لا بُدَّ مِنْ سَهْمٍ مصيب {واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب} .

لَوْ أَحْسَنْتَ الْخَلاصَ أَحْسَنْتَ , لَوْ آمَنْتَ بِالْعَرْضِ لَتَجَمَّلْتَ وَتَزَيَّنْتَ , يَا مَنْ قَدِ انْعَجَمَتْ عَلَيْهِ الأُمُورُ لَوْ سَأَلْتَ لَتَبَيَّنْتَ , وَيْحَكَ أَحْضِرْ قَلْبَكَ إِنَمَّا أَنْتَ فِي الدُّنْيَا غَرِيبٌ {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ ينادي المنادي من مكان قريب} . إِلَى مَتَى أَنْتَ مَعَ أَغْرَاضِكَ , مَتَى يَنْقَضِي زَمَانُ إِعْرَاضِكَ , يَا زَمَنَ الْبِلَى مَتَى زَمَنُ إنهاضك , تاالله لَقَدْ كَعَّ مِنْ أَمْرَاضِكَ الطَّبِيبُ. قَوْلُهُ تَعَالَى {يوم يسمعون الصيحة} وهي النفخة الثانية {بالحق} أَيْ بِالْبَعْثِ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ {ذَلِكَ يوم الخروج} مِنَ الْقُبُورِ , تَنْشَقُّ السَّمَاءُ ذَاتُ الْبُرُوجِ انْشِقَاقَ الثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ , بِأَعْجَبِ فُطُورٍ وَأَظْرَفِ فُرُوجٍ , وَيُنْثَرُ حَبُّ السَّمَاءِ وَيَسْقُطُ الدُّمْلُوجُ وَتُقْبِلُ الْمَلائِكَةُ إِقْبَالَ الْفُيُوجِ وَتَمِيدُ الأَرْضُ فَتُفْلَقُ وَتَمُوجُ , وَتَعُودُ جَرْدَاءَ بَعْدَ الرِّيَاضِ وَالْمُرُوجِ , وَتُذَلُّ الْعُتَاةُ وَتَنْكَسِرُ الْعُلُوجُ , وَتَسْتَوِي أَقْدَامُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالزُّنُوجِ , فَأَخَسُّ الْخَلائِقِ يَوْمَئِذٍ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ , وَأَحْقَرُ النَّاسِ عَلَى طُولِهِ عُوجُ , وَيَقْرُبُ الْحِسَابُ وَيَرُوجُ , وَيُنْصَبُ الصِّرَاطُ وَالرِّيحُ خَجُوجٌ , أَيْنَ حَرَارَةُ الْقُلُوبِ أَضُرِبَتْ بِالثُّلُوجِ {يَوْمَ يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج} . قوله تعالى: {إنا نحن نحيي ونميت} أَيْ نُمِيتُ فِي الدُّنْيَا وَنُحْيِي بِالْبَعْثِ {وَإِلَيْنَا المصير} بَعْدَ الْبَعْثِ {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} الْمَعْنَى: فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا سِرَاعًا. يَا لَهُ مِنْ يَوْمٍ لا تَسْتَطِيعُ لَهُ دِفَاعًا , صَاحَ بِهِمْ مَنْ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ مُطَاعًا , فَنَازَلَتْهُمُ الْحَسَرَاتُ فأسرتهم فزاعاً , وَاسْتَسْلَمُوا لِلْهَلاكِ وَمَا مُدَّ بَعْدُ بَاعًا , سَمَاعًا لِمَا يَجْرِي يَوْمَئِذٍ سَمَاعًا {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عنهم سراعا} . مَزَّقَتْهُمُ اللُّحُودُ تَمْزِيقًا مُشَاعًا , وَصُيِّرَتْ تِلْكَ الأَبْدَانُ رُفَاتًا شِيَاعًا , وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَقَامُوا عِطَاشًا جِيَاعًا , وَعَلِمُوا أَنَّ الْهَوَى كَانَ لَهُمْ خِدَاعًا , فَتَدَاعَى بِالْوَيْلِ مَنْ كَانَ بِالسُّرُورِ تَدَاعَى {يَوْمَ تشقق الأرض عنهم سراعا} .

حَضَرُوا مِنْ صَحْرَاءِ الْقِيَامَةِ قَاعَا , فَوَجَدُوهُ أَصْعَبَ الْبِقَاعِ بِقَاعًا , وَتَنَاوَلُوا بِالأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ رِقَاعًا , حُفِظَتْ أَعْمَالُهُمْ فَمَا وَجَدُوا شَيْئًا مُضَاعًا , وَكِيلَ الْجَزَاءُ بِكَفِّ الْوَكِيلِ كَمَا كَالُوا صَاعًا بِصَاعًا , ذَلِكَ يَوْمٌ لا يُرَاعَى فِيهِ إِلا مَنْ كَانَ راعى {يوم تشقق الأرض عنهم سراعا} . قوله تعالى: {ذلك حشر علينا يسير} أي هين {نحن أعلم بما يقولون} أَيْ فِي تَكْذِيبِكَ. وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ لَهُ {وَمَا أنت عليهم بجبار} أَيْ بِمُسَلَّطٍ فَتَقْهِرُهُمْ عَلَى الإِسْلامِ , وَهَذَا مَنْسُوخٌ بآية السيف. قوله تعالى: {فذكر بالقرآن} أَيْ فَعِظْ بِهِ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ لَمْ يَعِظْهُ الْقُرْآنُ وَلا الشَّيْبُ فَلَوْ تَنَاطَحَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ الْجِبَالُ مَا اتَّعَظَ! يَا ذَا النفس اللاهية , تقرأ القرآن وهي ساهية , أمالك نَاهِيَةٌ فِي الآيَةِ النَّاهِيَةِ , كَمْ خَوَّفَكَ الْقُرْآنُ مِنْ دَاهِيَةٍ , أَمَا أَخْبَرَكَ أَنَّ أَرْكَانَ الْحَيَاةِ وَاهِيَةٌ , أَمَا أَعْلَمَكَ أَنَّ أَيَّامَ الْعُمْرِ مُتَنَاهِيَةٌ , أَمَا عَرَّفَكَ أَسْبَابَ الْغُرُورِ كَمَا هِيَهْ؟ (قَدْ يَرْعَوِي الْمَرْءُ يَوْمًا بَعْدَ هَفْوَتِهِ ... وَيَحْكُمُ الْجَاهِلَ الأَيَّامُ وَالْعِبَرُ) (وَالْعِلْمُ يُجْلِي الْعَمَى عَنْ قَلْبِ صَاحِبِهِ ... كَمَا يُجْلِي سَوَادَ الظُّلْمَةِ الْقَمَرُ) (وَالذِّكْرُ فِيهِ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ كَمَا ... يُحْيِي الْبِلادَ إِذَا مَا مَاتَتِ الْمَطَرُ) (لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ قَلْبًا قَاسِيًا أَبَدًا ... وَهَلْ يَلِينُ لِقَوْلِ الْوَاعِظِ الْحَجَرُ) (وَالْمَوْتُ جِسْرٌ لِمْنَ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ ... إِلَى الأُمُورِ الَّتِي تُخْشَى وَتُنْتَظَرُ) (فَهُمْ يَجُوزُونَ أَفْوَاجًا وَتَجْمَعُهُمْ ... دَارٌ إِلَيْهَا يَصِيرُ الْبَدْوُ وَالْحَضَرُ) (لا يَلْبَثُ الشَّيْءُ أَنْ يَبْلَى إِذَا اخْتَلَفَتْ ... يَوْمًا عَلَى نَقْصِهِ الرَّوْحَاتُ وَالْبُكَرُ) (وَكُلُّ بَيْتٍ خَرَابٌ بَعْدَ جِدَّتِهِ ... وَمِنْ وَرَاءِ الشَّبَابِ الْمَوْتُ وَالْكِبَرُ) (بينا يُرَى الْغُصْنُ لَدْنًا فِي أَرُومَتِهِ ... رَيَّانَ صَارَ حُطَامًا جَوْفُهُ نَخِرُ) (كَمْ مِنْ جَمِيعٍ أَشَتَّ الدَّهْرُ شَمْلَهُمُ ... وَكُلُّ شَمْلٍ جَمِيعٌ سَوْفَ يَنْتَشِرُ) (أبعد آدم ترجون البقاء وهل ... تبق فُرُوعٌ لأَصْلٍ حِينَ يَنْقَعِرُ) (لَكُمْ بُيُوتٌ بِمُسْتَنِّ السُّيُولِ وَهَلْ ... يَبْقَى عَلَى الْمَاءِ بَيْتٌ أُسُّهُ مدر)

(إِلَى الْفَنَاءِ وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُمْ ... مَصِيرُ كُلِّ بَنِي أُمٍّ وَإِنْ كَثُرُوا) (وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ فِي الدُّنْيَا لَهُ أَمَلٌ ... إِذَا انْقَضَى سَفَرٌ منهما أَتَى سَفَرُ) (لَهَا حَلاوَةُ عَيْشٍ غَيْرُ دَائِمَةٍ ... وَفِي الْعَوَاقِبِ مِنْهَا الْمُرُّ وَالصَّبِرُ) (إِذَا قَضَتْ زُمَرٌ آجَالَهَا نَزَلَتْ ... عَلَى مَنَازِلِهَا مِنْ بَعْدِهَا زمر) (وليس بزجركم مَا تُوعَظُونَ بِهِ ... وَالْبُهْمُ يَزْجُرُهَا الرَّاعِي فَتَنْزَجِرُ) (مَا لِي أَرَى النَّاسَ وَالدُّنْيَا مُوَلِّيَةٌ ... وَكُلُّ جِيلٍ عَلَيْهَا سَوْفَ يَنْبَتِرُ) (لا يَشْعُرُونَ بِمَا فِي دِينِهِمْ نَقَصُوا ... جَهْلا وَإِنْ نَقَصَتْ دُنْيَاهُمُ شَعَرُوا) يَا مُتَحَيِّرًا فِي طَرِيقِهِ قَدْ بَانَ الْبَيَانُ , يَا بَلِيدَ الاعْتِبَارِ وَقَدْ أَنْذَرَهُ الأَقْرَانُ , يَا مَنْ تَقْرَعُ قَلْبَهُ الْمَوَاعِظُ وَهُو قَاسٍ مالأن , لَوْ حَضَرَتْ بِالذِّهْنِ كَفَاكَ زَجْرُ الْقُرْآنِ. كَتَبَ زر بن حبش إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: لا يُطْمِعَنَّكَ فِي طُولِ الْحَيَاةِ مَا تَرَى مِنْ صِحَّةِ بَدَنِكَ وَاذْكُرْ قَوْلَ الأَوَّلِ: (إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلادَهَا ... وَبَلِيَتْ مِنْ كِبَرٍ أَجْسَادُهَا) (وَجَعَلَتْ أَسْقَامُهَا تَعْتَادُهَا ... تِلْكَ زُرُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا) فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ بَكَى حَتَّى بُلَّ طَرَفُ ثَوْبِهِ. كَانَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ فَأَعِدَّ زَادَكَ وَجِدَّ فِي جَهَازِكَ , وَكُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ. وَكَانَ إِذَا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ لا يَنَامُ , فَتُنَادِيهِ أُمُّهُ: أَلا تَنَامُ؟ فَيَقُولُ: يَا أُمَّاهُ مَنْ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَهُو يَخَافُ الْبَيَاتَ حَقٌّ لَهُ أَنْ لا يَنَامَ! فَلَمَّا بَلَغَ وَرَأَتْ مَا يَلْقَى مِنَ الْبُكَاءِ وَالسَّهَرِ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ لَعَلَّكَ قَتَلْتَ قَتِيلا! فَقَالَ: نَعَمْ يَا أُمَّاهُ. فَقَالَتْ: وَمَنْ هَذَا الْقَتِيلُ , فَلَوْ عَلِمَ أَهْلُهُ مَا تَلْقَى مِنَ الْبُكَاءِ وَالسَّهَرِ لَرَحِمُوكَ. فَقَالَ: هِيَ نَفْسِي! وَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ: يَا أَبَتِ أَلا تَنَامُ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ إِنَّ جَهَنَّمَ لا تَدَعُنِي أَنَامُ! أَيُّهَا الْغَافِلُ زَاحِمْ أَهْلَ الْعَزْمِ وَبَادِرْ , فَكَأَنَّ قَدْ نَزَلَ بِكَ مَا تَخَافُ وَتُحَاذِرُ ,

فَيُخْتَمُ الْكِتَابُ عَلَى الرَّذَائِلِ , وَيَفُوتُ تَحْصِيلُ الْفَضَائِلِ [فالدنيا منزل قلعة كأنها يَوْمٌ أَوْ جُمُعَةٌ] . (كُلُّ حَيٍّ إِلَى فَنَاءٍ وَمَا الدَّارُ ... بِدَارٍ وَلا الْمَقَامُ مَقَامُ) (يَسْتَوِي سَاعَةَ الْمَنِيَّةِ فِي الرُّتْبَةِ ... وَجْدُ الْغَنِيِّ وَالإِعْدَامُ) (وَالَّذِي زَالَ وَانْقَضَى مِنْ نَعِيمٍ ... أَوْ شَقَاءٍ كأنه أحلام) السجع على قوله تعالى: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} لَقَدْ وَعَظَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ , يُبْدِي التِّذْكَارَ عَلَيْكُمْ وبعيد , غَيْرَ أَنَّ الْفَهْمَ مِنْكُمْ بَعِيدٌ , وَمَعَ هَذَا فقد سبق العذاب التهديد , {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} . إِنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا يُلَيِّنُ الْجَلامِيدَ , لَوْ فَهِمَهُ الصَّخْرُ كَأَنَّ الصَّخْرَ يَمِيدُ , كَمْ أَخْبَرَكَ بإهلااك الملوك الصيد , وأعملك أن الموت بالباب والوصيد {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} . إِنَّ مَوَاعِظَ الْقُرْآنِ تُذِيبُ الْحَدِيدَ , وَلِلْفُهُومِ كُلَّ لَحْظَةٍ زَجْرٌ جَدِيدٌ , وَلِلْقُلُوبِ النَّيِّرَةِ كُلَّ يَوْمٍ بِهِ عِيدٌ , غَيْرَ أَنَّ الْغَافِلَ يَتْلُوهُ وَلا يستفيد {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} . أَمَا الْمَوْتُ لِلْخَلائِقِ مُبِيدٌ , أَمَا تَرَاهُ قَدْ مَزَّقَهُمْ فِي الْبِيدِ , أَمَا دَاسَهُمْ بِالْهَلاكِ دَوْسَ الْحَصِيدِ , لا بِالْبَسِيطِ يَنْتَهُونَ وَلا بِالتَّشْدِيدِ , أَيْنَ مَنْ كَانَ لا يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ , أَيْنَ مَنْ أَبْصَرَ الْعِبَرَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِعَيْنَيْهِ , أَيْنَ مَنْ بَارَزَ بِالذُّنُوبِ الْمُطَّلِعَ عَلَيْهِ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه من حبل الوريد} . أَيْنَ مَنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ فِي أَغْرَاضِهِ وَيَمِيدُ , وَيَغْرِسُ الْجِنَانَ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ,

وَيُعْجِبُهُ نَغَمَاتُ الْوُرْقِ عَلَى الْوَرَقِ بِتَغْرِيدٍ , كَانَ قريباً منا فهو اليوم بعيد {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} . أَحْضِرُوا قُلُوبَكُمْ فَإِلَى كَمْ تَقْلِيدٌ , يَا مَعْشَرَ الشُّيُوخِ فِي عَقْلِ الْوَلِيدِ , أَمَا فِيكُمْ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّهُ فِي قَبْرِهِ وَحِيدٌ , أَمَا فِيكُمْ مَنْ يَتَصَوَّرُ تَمْزِيقَهُ وَالتَّبْدِيدَ , غَدًا يُبَاعُ أَثَاثُ الْبَيْتِ فَمَنْ يَزِيدُ , غَدًا يَتَصَرَّفُ الْوَارِثُ كَمَا يُرِيدُ , غَدًا يَسْتَوِي فِي بُطُونِ اللُّحُودِ الْفَقِيرُ وَالسَّعِيدُ , يَا قَوْمُ سَتَقُومُونَ لِلْمُبْدِئِ الْمُعِيدِ , يَا قَوْمُ سَتُحَاسَبُونَ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ , يَا قَوْمُ الْمَقْصُودُ كُلُّهُ وَبَيْتُ الْقَصِيدِ: " فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ". أَلْهَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مَا أَلْهَمَ الصَّالِحِينَ , وَأَيْقَظَنَا مَنْ رُقَادِ الْغَافِلِينَ , إِنَّهُ أَكْرَمُ مُنْعِمٍ وَأَعَزُّ معين.

المجلس الخامس في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام

المجلس الخامس فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ الْعَلِيِّ الْقَوِيِّ الْمَتِينِ , الْقَاهِرِ الظَّاهِرِ الْمُبِينِ , لا يَعْزُبُ عَنْ سَمْعِهِ أَقَلُّ الأَنِينِ , وَلا يَخْفَى عَلَى بَصَرِهِ حَرَكَاتُ الْجَنِينِ , ذَلَّ لِكِبْرِيَائِهِ جَبَابِرَةُ السَّلاطِينِ , وَقَلَّ عِنْدَ دِفَاعِهِ كَيْدُ الشَّيَاطِينِ , قَضَى قَضَاءَهُ كَمَا شَاءَ عَلَى الْخَاطِئِينَ , وَسَبَقَ اخْتِيَارُهُ لَمَّا اخْتَارَ الْمَاءَ وَالطِّينَ , فَهُؤَلاءِ أَهْلُ الشِّمَالِ وَهَؤُلاءِ أَهْلُ الْيَمِينِ , جَرَى الْقَدَرُ بِذَلِكَ قَبْلَ عَمَلِ الْعَامِلِينَ {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ من قبل وكنا به عالمين} . أَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ , وَأَسْأَلُهُ مَعُونَةَ الصَّابِرِينَ , وَأُصَلِّي على رسوله المقدم على التبيين , وَعَلَى صَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ أَوَّلِ تَابِعٍ لَهُ عَلَى الدِّينِ , وَعَلَى الْفَارُوقِ عُمَرَ الْقَوِيِّ الأَمِينِ , وَعَلَى عُثْمَانَ زَوْجِ ابْنَتِهِ وَنِعْمَ الْقَرِينُ , وَعَلَى عَلِيٍّ بَحْرِ الْعُلُومِ الأَنْزَعِ الْبَطِينِ , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ ذِي الْفَخْرِ الْقَوِيمِ وَالنَّسَبِ الصَّمِيمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وكنا به عالمين} . إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارِخَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ سَارُوغَ بن أرغو بن فالغ [ابن عابر] ابن شَالِخَ بْنِ أَرفخشذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ [بْنِ لامَكَ بْنِ متوشلخَ بْنِ أهنخَ بْنِ يردَ بْنِ مهلاييلَ بْنِ قاينَ بْنِ أنوشَ. وَأُمُّهُ نونَا بِنْتُ كرينَا بْنِ كوثَا] [مِنْ بَنِي] أرفخشذَ. وَكرينا هُوَ الَّذِي كَرَى نَهْرَ كوثى.

وَكَانَ بَيْنَ الطُّوفَانِ وَمَوْلِدِ إِبْرَاهِيمَ أَلْفُ سَنَةٍ وَتِسْعٌ وَسَبْعُونَ. وَقِيلَ أَلْفٌ وَمِائَتَا سَنَةٍ وَثَلاثٌ وَسِتُّونَ , وَذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وَسَبْعٍ وَثَلاثِينَ سَنَةً. وَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِيجَادَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ الْمُنَجِّمُونَ لِنُمْرُودَ: إِنَّا نَجِدُ فِي عِلْمِنَا أَنَّ غُلامًا يُولَدُ فِي قَرْيَتِكَ هَذِهِ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ , يُفَارِقُ دِينَكُمْ وَيَكْسِرُ أَوْثَانَكُمْ فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا دَخَلَتِ السَّنَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعَثَ نُمْرُودُ إِلَى كُلِّ امْرَأَةٍ حَامِلٍ بِقَرْيَتِهِ فَحَبَسَهَا عِنْدَهُ , وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَبَلِ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ , فَجَعَلَ لا يُولَدُ غُلامٌ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ إِلا ذَبَحَهُ , فَلَمَّا أَخَذَ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ الطَّلْقُ خَرَجَتْ لَيْلا إِلَى مَغَارَةٍ فَوَلَدَتْ فِيهَا إِبْرَاهِيمَ وَأَصْلَحَتْ مِنْ شَأْنِهِ , ثُمَّ سَدَّتْ عَلَيْهِ بَابَ الْمَغَارَةِ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا , وَذَلِكَ بِمَدِينَةِ كُوثَى , وَكَانَتْ تَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ فَتَرَاهُ يَمُصُّ إِبْهَامَهُ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ رِزْقَهُ فِي ذَلِكَ , وَكَانَ آزَرُ قَدْ سَأَلَهَا عَنْ حَمْلِهَا فَقَالَتْ: وَلَدْتُ غُلامًا فَمَاتَ. فَسَكَتَ عَنْهَا. وَقِيلَ: بَلْ أَخْبَرَتْهُ فَأَتَاهُ فَحَفَرَ لَهُ سَرَبًا وَسَدَّ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ , وَكَانَتْ أُمُّهُ تَخْتَلِفُ إِلَى رَضَاعِهِ. فَلَمَّا تَكَلَّمَ قَالَ لأُمِّهِ: مَنْ رَبِّي؟ قَالَتْ: أَنَا. قَالَ: فَمَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتْ: أَبُوكَ. قَالَ: فَمَنْ رَبُّ أَبِي؟ قَالَتْ لَهُ: اسْكُتْ. فَسَكَتَ فَرَجَعَتْ إِلَى زَوْجِهَا فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ الْغُلامَ الَّذِي كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ يُغَيِّرُ دِينَ أَهْلِ الأَرْضِ هُوَ ابْنُكَ. فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَدَنَا [إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ] بِاللَّيْلِ مِنْ بَابِ السَّرَبِ فَرَأَى كَوْكَبًا , قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الزُّهْرَةُ. قَالَ: وَكَانَ لَهُ حِينَئِذٍ سَبْعُ سِنِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْمُشْتَرِي. فَقَالَ: هَذَا رَبِّي [أَيْ عَلَى زَعْمِكُمْ] فَلَمَّا خَرَجَ كَانَ أَبُوهُ يَصْنَعُ الأَصْنَامَ وَيَقُولُ لَهُ بِعْهَا. فَيَأْخُذُ الصَّنَمَ وَيَخْرُجُ فَيَقُولُ: مَنْ يَشْتَرِي مَا يَضُرُّهُ وَلا يَنْفَعُهُ! فَشَاعَ بَيْنَ النَّاسِ اسْتِهْزَاؤُهُ بِالأَصْنَامِ. وَجَعَلَ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أنتم لها عاكفون} أَيْ مُقِيمُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لها عابدين} أَيْ إِنَّا نَقْتَدِي بِهِمْ وَنُقَلِّدُهُمْ.

فَخَرَجُوا يَوْمًا إِلَى عِيدٍ لَهُمْ فَخَرَجَ مَعَهُمْ , ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ: {إِنِّي سقيم} فلما مضوا قال: {تالله لأكيدن أصنامكم} والكيد: احتيال الكائد في ضر الكيد وَأَرَادَ لأَكْسِرَنَّهَا. فَسَمِعَ الْكَلِمَةَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَفْشَاهَا عَلَيْهِ. فَدَخَلَ بَيْتَ الأَصْنَامِ , وَكَانَتِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ صَنَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَنُحَاسٍ وَحَدِيدٍ وَخَشَبٍ , فكسرها وجعلهم جُذَاذًا أَيْ فُتَاتًا. ثُمَّ وَضَعَ الْفَأْسَ فِي عنق الصنم الكبير {لعلهم إليه يرجعون} . فِي هَاءِ الْكِنَايَةِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الصَّنَمِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ فَعَلَ. وَالثَّانِي: إِلَى إِبْرَاهِيمَ , وَالْمُرَادُ الرُّجُوعُ إِلَى دِينِهِ. فَلَمَّا رَجَعُوا " قالوا: من فعل هذا بآلهتنا " فنم عليه الذي سمع منه: {لأكيدن} فَقَالُوا: " سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ " أَيْ يَعِيبُهُمْ. {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ الناس} أي بمرأى منهم {لعهلم يشهدون} فيه ثلاثة اٌ قوال: أَحَدُهَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَالَ لآلِهَتِنَا مَا قَالَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ. قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَالثَّالِثُ: يَشْهَدُونَ عِقَابَهُ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إبراهيم} قال: {بل فعله كبيرهم} وَالْمَعْنَى أَنَّهُ غَضِبَ أَنْ تُعْبَدَ مَعَهُ الصِّغَارُ فَكَسَرَهَا. وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ: {بَلْ فعله} وَيَقُولُ مَعْنَاهُ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ , ثُمَّ يَبْتَدِئُ {كبيرهم هذا} وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذَا مِنَ الْمَعَارِيضِ , فَتَقْدِيرُهُ: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَقَدْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} حِينَ عَبَدْتُمْ مَنْ لا يَتَكَلَّمُ {ثُمَّ نُكِسُوا على رءوسهم} أَيْ أَدْرَكَتْهُمْ حَيْرَةٌ.

فَلَمَّا أَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ حَمَلُوهُ إِلَى نُمْرُودَ فَقَالَ لَهُ: مَا إِلَهُكَ الَّذِي تَعْبُدُ؟ قَالَ رَبِّيَ الذي يحيي ويميت. قال: أنا أحيي وأميت , آخُذُ رَجُلَيْنِ قَدِ اسْتَوْجَبَا الْقَتْلَ , فَأَقْتُلُ أَحَدُهُمَا فَأَكُونُ قَدْ أَمَتُّهُ , وَأَعْفُو عَنِ الآخَرِ , فَأَكُونُ قَدْ أَحْيَيْتُهُ , قَالَ: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ من المشرق فأت بها من المغرب} . فَبُهِتَ نُمْرُودُ وَحَبَسَهُ سَبْعَ سِنِينَ وَجَوَّعَ لَهُ أَسَدَيْنِ , وَأَرْسَلَهُمَا عَلَيْهِ فَكَانَا يَلْحَسَانِهِ وَيَسْجُدَانِ لَهُ ثُمَّ أَوْقَدَ لَهُ نَارًا وَرَمَاهُ فِيهَا فَسَلِمَ. فَكَفَّ نُمْرُودُ عَنْهُ. فَخَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى الشَّامِ فَتَزَوَّجَ سَارَّةَ وَهِيَ بِنْتُ مَلِكِ حَرَّانَ , وَكَانَتْ قَدْ خَالَفَتْ دِينَ قَوْمِهَا. وَمَضَى فَنَزَلَ أَرْضَ فِلَسْطِينَ فَاتَّخَذَ مَسْجِدًا , وَبُسِطَ لَهُ الرِّزْقُ , وَكَانَ يُضَيِّفُ كُلَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ , وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ صُحُفًا. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عبد الباقي , أنبأنا أبو الحسين ابن المهتدي , أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْهَمَانِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشِّمْشَاطِيُّ , حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ , حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ , حَدَّثَنَا أَبِي , عَنْ جَدِّي عَنْ إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ , عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَشْرَ صَحَائِفَ ". قُلْتُ: مَا كَانَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: " كَانَتْ أَمْثَالا كُلَّهَا: أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ , إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ , وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لَتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ , فَإِنِّي لا أَرُدُّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ. وَكَانَ فِيهَا: " وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ , وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ , وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ , وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا بِحَاجَتِهِ مِنَ الْحَلالِ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لا يَكُونَ ظَاعِنًا إِلا فِي ثَلاثٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ , وَمَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ وَلَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ , وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ مُقْبِلا عَلَى شَانِهِ , حَافِظًا لِلِسَانِهِ. وَمَنْ حَسِبَ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلامُهُ إِلا فِيمَا يَعْنِيهِ ". ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَهُ خَلِيلا , وَفِي سَبَبِ ذَلِكَ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ.

أحدها: لإطعامه الطعام , وكان لا يأكل إلا مع ضيف. روى عبد الله بن عمرو ابن الْعَاصِ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ لِمَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا؟ قَالَ: لإِطْعَامِهِ الطَّعَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ فَأَقْبَلُوا إِلَى بَابِ إِبْرَاهِيمَ يَطْلُبُونَ الطَّعَامَ , وَكَانَتْ لَهُ مِيرَةٌ مِنْ صَدِيقٍ لَهُ بِمِصْرَ فِي كُلِّ سَنَةٍ , فَبَعَثَ غِلْمَانَهُ بِالإِبِلِ إِلَى صَدِيقِهِ فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا , فَقَالُوا: لَوِ احْتَمَلْنَا مِنْ هَذِهِ الْبَطْحَاءِ لِيَرَى النَّاسُ أنا قد جئنا بميرة. فملأوا الْغَرَائِرَ رَمْلا , ثُمَّ أَتَوْا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَأَعْلَمُوهُ , فَاهْتَمَّ لأَجْلِ الْخَلْقِ. فَنَامَ , وَجَاءَتْ سَارَّةُ وَهِيَ لا تَعْلَمُ مَا كَانَ , فَفَتَحَتِ الْغَرَائِرُ فَإِذَا دَقِيقٌ حُوَّارَى فَأَمَرَتِ الْخَبَّازِينَ فَخَبَزُوا وَأَطْعَمُوا النَّاسَ , فَاسْتَيْقَظَ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا الطَّعَامُ؟ فَقَالَتْ: مِنْ عِنْدِ خَلِيلِكَ الْمِصْرِيِّ. فَقَالَ: لا بَلْ مِنْ عِنْدِ خَلِيلِي اللَّهِ! فَحِينَئِذٍ اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلا! رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلا لِكَسْرِهِ الأَصْنَامِ وَجِدَالِهِ قَوْمِهِ. قَالَهُ مُقَاتِلٌ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّارُ , أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيُّ , أنبأنا أبو عمر ابن حَيْوَةَ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ , حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ , حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي صَالِحٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ونبأه وله يومئذ ثلاثمائة عَبْدٍ أَعْتَقَهُمْ للَّهِ وَأَسْلَمُوا , فَكَانُوا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ بِالْعِصِيِّ. وَابْتَلاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْكَلِمَاتِ فَأَتَمَّهُنَّ. رَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ابْتَلاهُ اللَّهُ بِالطَّهَارَةِ , خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ: قَصُّ الشَّارِبِ , وَالْمَضْمَضَةُ , وَالاسْتِنْشَاقُ , وَالسِّوَاكُ , وَفَرْقُ الرَّأْسِ. وَخَمْسٌ فِي الجسد: تقليم الأظافر , وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَالْخِتَانُ وَنَتْفُ الإِبْطِ , وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْقَدُومِ. وَالْقَدُومُ مَوْضِعٌ , وَكَانَ لَهُ يَوْمَ اخْتُتِنَ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَقِيلَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً , وَهُوَ خَتَنَ نَفْسَهُ. وَسَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى. وَفِي سَبَبِ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَأَى مَيْتَةً تُمَزِّقُهَا السِّبَاعُ وَالْهَوَامُّ , فَسَأَلَ ذَلِكَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِاتِّخَاذِهِ خَلِيلا سَأَلَ لِيَعْلَمَ بِإِجَابَتِهِ صِحَّةَ الْبِشَارَةِ. قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُزِيلَ عَوَارِضَ الْوَسْوَاسِ. قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا قال لنمرود: ربي الذي يحيي ويميت. أحب أن يرى ما أخبر بِهِ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَأَمَّا نُمْرُودُ فَإِنَّهُ بقي بعد إلقاء الخليل في النار أربعمائة عَامٍ لا يَزْدَادُ إِلا عُتُوًّا , ثُمَّ حَلَفَ لَيَطْلُبَنَّ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: أَخَذَ أَرْبَعَةَ أَفْرَاخٍ مِنْ أَفْرَاخِ النُّسُورِ , فَرَبَّاهُنَّ بِاللَّحْمِ وَالْخَمْرِ. حَتَّى إِذَا كَبِرْنَ وَاسْتَفْحَلْنَ قَرَنَهُنَّ بِتَابُوتٍ , وَقَعَدَ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ , ثُمَّ رَفَعَ لَهُنَّ اللَّحْمَ فَطِرْنَ بِهِ , حَتَّى إِذَا ذَهَبَ فِي السَّمَاءِ أَشْرَفَ يَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ , فَرَآهَا كَأَنَّهَا فُلْكٌ فِي مَاءٍ , ثُمَّ صَعِدَ فَوَقَعَ فِي ظُلْمَةٍ فَلَمْ يَرَ مَا فَوْقَهُ وَلا مَا تَحْتَهُ , فَفَزِعَ فَنَكَّسَ اللَّحْمَ فَاتَّبَعْنَهُ مُنْقَضَّاتٍ , فلما نزل أخذ بيني الصَّرْحَ فَسَقَطَ الصَّرْحُ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نُمْرُودَ مَلَكًا فَقَالَ لَهُ: آمِنْ بِي وَأَتْرُكُكَ عَلَى مُلْكِكَ. فَقَالَ: وهل رب غيري. فأتاه ثايناً وَثَالِثًا , فَأَبَى. فَفَتَحَ عَلَيْهِ بَابًا مِنَ الْبَعُوضِ فَأَكَلَتْ لُحُومَ قَوْمِهِ وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ. وَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ بَعُوضَةً فَدَخَلَتْ فِي مَنْخِرِهِ فمكث أربعمائة عَامٍ يُضْرَبُ رَأْسُهُ بِالْمَطَارِقِ , وَأَرْحَمُ النَّاسِ بِهِ مَنْ يَجْمَعُ يَدَيْهِ ثُمَّ يَضْرِبُ بِهِمَا رَأْسَهُ , فَعُذِّبَ بِذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عُذِّبَ بِالْبَعُوضَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ مَاتَ.

الكلام على البسملة

الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ إِخْوَانِي: السَّعِيدُ مَنِ اعْتَبَرَ , وَتَفَكَّرَ فِي الْعَوَاقِبِ وَنَظَرَ , أَضَرَّ الْخَلِيلَ مَا عَلَيْهِ جَرَى وَهَذِهِ مَدَائِحُهُ كَمَا تَرَى , مَنْ صابر الهوى ربح واستفاد , ومن غفل فإنه الْمُرَادُ. (يَا فُؤَادِي غَلَبْتَنِي عِصْيَانًا ... فَأَطِعْنِي فَقَدْ عصيت زمانا) (يا فؤادي أما تحن طوبى إلى ... إِذَا الرِّيحُ حَرَّكَتْ أَغْصَانَا) (مِثْلُ الأَوْلِيَاءِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ ... إِذَا مَا تَقَابَلُوا إِخْوَانَا) (قَدْ تَعَالَوْا عَلَى أَسِرَّةِ دُرٍّ ... لابِسِينَ الْحَرِيرَ وَالأُرْجُوَانَا) (وَعَلَيْهِمْ تِيجَانُهُمْ وَالأَكَالِيلُ ... تُبَاهِي بِحُسْنِهَا التِّيجَانَا ... ) (ثُمَّ آووا فاستقبلتهم حسان ... من بنات النعيم فقن الْحِسَانَا) (بِوُجُوهٍ مِثْلِ الْمَصَابِيحِ نُورًا ... مَا عَرَفْنَ الظِّلالَ وَالأَكْنَانَا) (فَهُمُ الدَّهْرَ فِي سُرُورٍ عَجِيبٍ ... وَيَزُورُونَ رَبَّهُمْ أَحْيَانَا) يَا غَافِلِينَ عَمَّا نَالُوا , مِلْتُمْ عَنِ التَّقْوَى وَمَا مَالُوا , مَا أَطْيَبَ ليلهم في المناجاة , وما أقربهم من طريق النَّجَاةِ. كَانَ بِشْرٌ الْحَافِي طَوِيلَ السَّهَرِ يَقُولُ: أَخَافُ أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَأَنَا نَائِمٌ. كَمْ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ شَهْوَةٍ فَمَا أَنَالَهَا , حَتَّى سَمِعَ كُلْ يَا مَنْ لَمْ يَأْكُلْ لِمَا أَتَى لَهَا , كَمْ حَمَلَ عَلَيْهَا حِمْلا ومارثى لَهَا , كَمْ هَمَّتْ بِنَيْلِ غَرَضٍ بَدَا لَهَا لَمَّا خَافَتْ عُقْبَى مَرَضٍ يَنَالُهَا , أَصْبَحَ زَاهِدًا وَأَمْسَى عَفِيفًا , مَا أَخَذَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا طَفِيفًا , وَمَا خَرَجَ عَنْهَا إِلا نَظِيفًا , هَذَا وَكَمْ وَجَدَ مِنَ الدُّنْيَا سَعَةً وَرِيفًا , تَقَلَّبَ فِي ثِيَابِ الصَّبْرِ نَحِيفًا , وَتَوَغَّلَ فِي طَرِيقِ التَّقْوَى لَطِيفًا تَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ رَأْيُهُ حَصِيفًا , وَمَا قَدَرَ حَتَّى أَعَانَهُ الرَّحْمَنُ {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضعيفا} . (بَكَتْ عَيْنُهُ رَحْمَةً لِلْبَدَنِ ... فَعَفَى الْبُكَاءُ مَكَانَ الوسن)

(وَأَلْبَسَهُ الشَّوْقُ ثَوْبَ السِّقَامِ ... كَأَنَّ السِّقَامَ عَلَيْهِ حَسَنْ) (وَأَنَّسَ مَدَامِعَهُ بِالدُّمُوعِ ... لَمْ يَدَعِ السِّرَّ حَتَّى عَلَنْ) (فَيَا طُولَ عِصْيَانِهِ لِلْغَرَامِ ... وَيَا حُسْنَ طَاعَتِهِ لِلْحَزَنْ) إِخْوَانِي: مَنْ عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ هَانَتِ الدُّنْيَا كَلُّهَا لَدَيْهِ , إِنَّ الْعُقَلاءَ نَظَرُوا إِلَى مَشَارِعِ الدُّنْيَا فَرَأَوْهَا مُتَوَشِّحَةً بِأَقْذَارِ الْفُرَّاطِ فَاقْتَنَعُوا بِثَغَبِ الْغُدْرَانِ (للَّهِ سَاعٍ بَلَّغَتْهُ قَدَمُهْ ... حَيْثُ تَعَدَّتْ عَالِيَاتٍ هِمَمُهْ) (أَوْ قَاعِدٌ مَعَ الْعَفَافِ قَانِعٌ ... بِبُلْغَةِ الزَّادِ حَشَاهُ وَفَمُهُ) (لَمْ يَنْتَقِصْ طِلاوَةً مِنْ وَجْهِهِ ... وَرِقَّةً ذلك سؤال يَصِمُهْ) (تَلَوَّنَتْ خَلائِقُ الدَّهْرِ بِهِ ... فَحَنَّكَتْهُ صُهْبُهُ وَدُهُمُهْ) (وَاخْتَبِرِ النَّاسَ فَلَوْ سَاوَمْتَهُ ... قُرْبَ أَخِيهِ عَلَّهُ يَحْتَشِمُهْ) (وَاللَّهِ مَا عِفْتُكِ يَا دُنْيَا بِلًى ... وَإِنَّ فِيكِ لَمَتَاعًا أَعْلَمُهْ) (لَكِنَّ أَبْنَاءَكِ مَنْ لا صِبْغَتِي ... صِبْغَتُهُ وَلا وَفَائِي شِيَمُهْ) (أُخْرِجُ مِنْ حِكْمَةِ الصَّدْرِ وَمَا ... فِيهِمْ بِسَحْرِي مَنْ يَصِحُّ سَقَمُهْ) (كَمْ بَاسِمٍ لِي مِنْ وراء سره ... والليث لا يغرني تبسمه) (وحاطب على اتخاذي صحبتي ... والبدر مولود بغير توأمه) سُبْحَانَ مَنْ كَشَفَ لأَحْبَابِهِ مَا غَطَّى عَنِ الْغَيْرِ , وَأَعْطَاهُمْ مِنْ جُودِهِ كُلَّ خَيْرٍ وَمَيْرٍ , فَقَطَعُوا مَفَاوِزَ الدُّنْيَا بِالصَّبْرِ وَلا ضَيْرَ , وَكَابَدُوا الْمَجَاعَةَ حَتَّى اسْتَحْيَا رَاهِبُ الدَّيْرِ , أَفِي أَحْوَالِ هذه الدنيا تمارى , أَمَا تَرَى زِيَّهَا مُسْتَرَدًّا مُسْتَعَارًا , وَسَلْبُ الْقَرِينِ يَكْفِي وَعْظًا وَاعْتِبَارًا. أَمَّا اللَّذَّاتُ فَقَدْ فَنِيَتْ وَأَبْقَتْ عَارًا , وَأَمَّا الْعُمْرُ فَمُنْتَهَبٌ جِهَارًا. إِيَّاكَ وإيا الدُّنْيَا فِرَارًا فِرَارًا , لَقَدْ قَرَّتْ عُيُونُ الزَّاهِدِينَ وَمَاتُوا أَحْرَارًا , قَتَلَتْ أَقْرَانَهُمْ فَانْتَهَضُوا يَأْخُذُونَ ثَارًا , وَبَاعُوهَا بِمَا يَبْقَى لا كَرْهًا بَلِ اخْتِيَارًا , قطعوا بِالْقِيَامِ لَيْلا وَبِالصِّيَامِ نَهَارًا , وَاتَّخَذُوا الْجِدَّ لِحَافًا وَالصَّبْرَ شِعَارًا , وَرَكِبُوا مِنَ الْعَزْمِ أَمْضَى مِنَ الْعُرْبَانِ الْمَهَارَى , وَاهْتَدَوْا إِلَى نَجَاتِهِمْ وَالنَّاسُ فِي الجهل حيارى.

الكلام على قوله تعالى

رَبِحَ الْقَوْمُ وَخَسِرْتَ , وَسَارُوا إِلَى الْمَحْبُوبِ وَمَا سِرْتَ , وَأُجِيرُوا مِنَ اللَّوْمِ وَمَا أُجِرْتَ , وَاسْتُزِيدُوا إِلَى الْقُرْبِ وَمَا اسْتُزِدْتَ , ذُنُوبُكَ طَرَدَتْكَ عَنْهُمْ , وَخَطَايَاكَ أَبْعَدَتْكَ مِنْهُمْ , قُمْ فِي اللَّيْلِ تَرَى تِلْكَ الرُّفْقَةَ , وَاسْلُكْ طَرِيقَتَهُمْ وَإِنْ بَعُدَتِ الشُّقَّةُ , وَابْكِ عَلَى تَأَخُّرِكَ وَاحْذَرِ الْفُرْقَةَ. (شَمِّرْ عَسَى أَنْ يَنْفَعَ التَّشْمِيرُ ... وَانْظُرْ بِفِكْرِكَ مَا إِلَيْهِ تَصِيرُ) (طَوَّلْتَ آمَالا تَكَنَّفَهَا الْهَوَى ... وَنَسِيتَ أَنَّ الْعُمْرَ مِنْكَ قَصِيرُ) (قَدْ أَفْصَحَتْ دُنْيَاكَ عَنْ غَدَرَاتِهَا ... وَأَتَى مَشِيبُكَ وَالْمَشِيبُ نَذِيرُ) (دَارٌ لَهَوْتَ بِزَهْوِهَا مُتَمَتِّعًا ... تَرْجُو الْمُقَامَ بِهَا وَأَنْتَ تَسِيرُ) (وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ رَاحِلٌ عَنْهَا وَلَوْ ... عُمِّرْتَ فِيهَا مَا أَقَامَ ثَبِيرُ) (لَيْسَ الْغِنَى فِي الْعَيْشِ إِلا بُلْغَةً ... وَيَسِيرُ مَا يَكْفِيكَ مِنْهُ كَثِيرُ) (لا يَشْغَلَنَّكَ عَاجِلٌ عَنْ آجِلِ ... أَبَدًا فَمُلْتَمِسُ الحقير حقير) (ولقد تَسَاوَى بَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرَى ... فِي الأَرْضِ مَأْمُورٌ بِهَا وَأَمِيرُ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} لَمَّا كَسَرَ الْخَلِيلُ الأَصْنَامَ حَمَلُوهُ إِلَى نُمْرُودَ , فَعَزَمَ عَلَى إِهْلاكِهِ , فَقَالَ رَجُلٌ: حَرِّقُوهُ. قَالَ شُعَيْبٌ الْجُبَّائِيُّ: خَسَفَتِ الأَرْضُ بِالَّذِي قَالَ حَرِّقُوهُ , فَهُو يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأُلْقِيَ الْخَلِيلُ فِي النَّارِ وَهُو ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: حَبَسَهُ نُمْرُودُ , ثُمَّ بنوا له حَوَالَيْ سَفْحِ جَبَلٍ مُنِيفٍ طُولُ جِدَارِهِ سِتُّونَ ذِرَاعًا , وَنَادَى مُنَادِي نُمْرُودَ: أَيُّهَا النَّاسُ احْتَطِبُوا لإِبْرَاهِيمَ , وَلا يَتَخَلَّفَنَّ عَنْ ذَلِكَ صَغِيرٌ وَلا كَبِيرٌ , فَمَنْ تَخَلَّفَ أُلْقِيَ فِي تِلْكَ النَّارِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتَقُولُ: إِنْ ظَفِرْتُ بِكَذَا

لأَحْتَطِبَنَّ لِنَارِ إِبْرَاهِيمَ. حَتَّى إِذَا كَانَ الْحَطَبُ يساوي رأس الجدار قذفوا فيه النار فارتفع لهيباً , حَتَّى كَانَ الطَّائِرُ يَمُرُّ بِهَا فَيَحْتَرِقُ. ثُمَّ بَنَوْا بُنْيَانًا شَامِخًا وَبَنَوْا فَوْقَهُ مِنْجَنِيقًا. ثُمَّ رَفَعُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَى رَأْسِ الْبُنْيَانِ , فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْوَاحِدُ فِي السَّمَاءِ [وَأَنَا الْوَاحِدُ فِي الأَرْضِ] لَيْسَ فِي الأَرْضِ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرِي , حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. ثُمَّ رُمِيَ بِهِ فَاسْتَقْبَلَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ لَهُ أَمَّا إِلَيْكَ فَلا. فَقَالَ جِبْرِيلُ: سَلْ رَبَّكَ. فَقَالَ حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي! أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ , حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ , أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ , أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ , حَدَّثَنَا شَيْبَانُ , حَدَّثَنَا أَبُو هِلالٍ: قَالَ حَدَّثَنَا بَكْرٌ , قَالَ لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ جَأَرَتْ عَامَّةُ الْخَلِيقَةِ إِلَى رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ فَقَالُوا: يَا رَبِّ خَلِيلُكَ يُلْقَى فِي النَّارِ , فَأْذَنْ لنا أن نطفىء عَنْهُ. فَقَالَ: هُوَ خَلِيلِي , وَلَيْسَ لِي فِي الأَرْضِ خَلِيلٌ غَيْرَهُ , وَأَنَا رَبُّهُ لَيْسَ لَهُ رَبٌّ غَيْرِي , فَإِنِ اسْتَغَاثَ بِكُمْ فَأَغِيثُوهُ , وَإِلا فَدَعُوهُ! قَالَ: فَجَاءَ مَلَكُ الْقَطْرِ فَقَالَ: يَا رَبِّ خَلِيلُكَ يُلْقَى فِي النَّارِ , فَأْذَنْ لِي أطفىء عنه بالقطر. فقال: هو خليلي ليس لِي فِي الأَرْضِ خَلِيلٌ غَيْرَهُ وَأَنَا رَبُّهُ لَيْسَ لَهُ رَبٌّ غَيْرِي , فَإِنِ اسْتَغَاثَ بِكَ فَأَغِثْهُ وَإِلا فَدَعْهُ! فَلَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ دَعَا رَبَّهُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا نَارُ كوني بردا وسلاما على إبراهيم} فَبَرَدَتْ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَلَمْ يَنْضُجْ بِهَا كُرَاعٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يبق في الأرض يومئذ نار إلى طُفِئَتْ , ظَنَّتْ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُعْنَى , وَلَوْ لَمْ يُتْبِعْ بَرْدَهَا سَلامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بردها. أخبرنا أبو بكر ابن حَبِيبٍ , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ صَادِقٍ , أَنْبَأَنَا أَبُو عبد الله

سجع على قوله تعالى

الشِّيرَازِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْخَشَّابُ , حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مُوسَى , حَدَّثَنَا يعقوب ابن إِسْحَاقَ , قَالَ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ التَّوَكُّلِ قَالَ: هُوَ قَطْعُ الاسْتِشْرَافِ بِالْيَأْسِ مِنَ الْخَلْقِ. قِيلَ لَهُ: فَمَا الْحُجَّةُ فِيهِ؟ قَالَ: قِصَّةُ الْخَلِيلِ , لَمَّا وُضِعَ فِي الْمِنْجَنِيقِ مَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ , لَمَّا قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلا , فَقَالَ لَهُ: فَسَلْ مَنْ لَكَ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ. قَالَ: أَحَبُّ الأَمْرَيْنِ إِلَيَّ أَحَبُّهُمَا إِلَيْهِ. قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ أَخَذَتِ الْمَلائِكَةُ بِضَبْعَيْهِ وَأَجْلَسُوهُ عَلَى الأَرْضِ , فَإِذَا عَيْنٌ مِنْ ماء عذب وورد أحمر ولم تحدق النار إلى وثاقه. ونزل جبريل بقميص مِنَ الْجَنَّةِ وَطُنْفُسَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ فَأَلْبَسَهُ الْقَمِيصَ وَأَجْلَسَهُ عَلَى الطُّنْفُسَةِ وَقَعَدَ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ , فَأَقَامَ هُنَاكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَجَاءَ آزَرُ إِلَى نُمْرُودَ فَقَالَ: ائْذَنْ لِي أَنْ أُخْرِجَ عِظَامَ إِبْرَاهِيمَ وَأَدْفِنَهَا فَخَرَجَ نُمْرُودُ وَمَعَهُ النَّاسُ , فَأَمَرَ بِالْحَائِطِ فنقب , فإذا إبراهيم يمشي فِي رَوْضَةٍ تَهْتَزُّ وَنَبَاتُهَا يَنْدَى وَعَلَيْهِ الْقَمِيصُ وَتَحْتَهُ الطُّنْفُسَةُ , وَالْمَلَكُ إِلَى جَنْبِهِ [وَالْمَاءُ يَجْرِي فِي جَبِينِهِ] فَنَادَاهُ نُمْرُودُ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّ إِلَهَكَ الَّذِي بَلَغَتْ قُدْرَتُهُ هَذَا لَكَبِيرٌ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْرُجَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ يَمْشِي حَتَّى خَرَجَ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ مَعَكَ؟ قَالَ مَلَكٌ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِيُؤْنِسَنِي. فَقَالَ نُمْرُودٌ: إِنِّي مُقَرِّبٌ إِلَى إِلَهِكَ قُرْبَانًا لِمَا رَأَيْتُ مِنْ قُدْرَتِهِ فَقَالَ: إِذًا لا يُقْبَلُ مِنْكَ مَا كُنْتَ عَلَى دِينِكَ. فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتْرُكَ مُلْكِي وَلَكِنْ سَوْفَ أَذْبَحُ لَهُ. فَذَبَحَ أَرْبَعَةَ آلافِ بَقَرَةٍ وَكَفَّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ. سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وسلاما على إبراهيم} سُبْحَانَ مَنْ أَخْرَجَ هَذَا السَّيِّدَ مِنْ آزَرَ , ثم أعانه بالتوفيق فقصد وآزر , ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ الْبَيَانَ فَأَعَانَ وَوَازَرَ , فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ قَدْ رَحَلَ عَنِ الْمِنْجَنِيقِ وَسَافَرَ وَلَمْ يتزود

إِلا التَّسْلِيمَ , {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وسلاما على إبراهيم} . عَبْدٌ بَذَلَ نَفْسَهُ لَنَا فَبَلَّغْنَاهُ مِنَّا الْمُنَى , وَعَرَّفْنَاهُ الْمَنَاسِكَ عِنْدَ الْبَيْتِ وَمِنًى , وَلَمَّا رُمِيَ فِي النَّارِ لأَجْلِنَا قُلْنَا لَهُ بِلِسَانِ التَّفْهِيمِ: {كوني بردا وسلاما على إبراهيم} . قَدَّمَ مَالَهُ إِلَى الضَّيْفَانِ , وَسَلَّمَ وَلَدَهُ إِلَى الْقُرْبَانِ , وَاسْتَسْلَمَ لِلرَّمْيِ فِي النِّيرَانِ , فَلَمَّا رَأَيْنَا مُحِبَّنَا فِي بَيْدَاءِ الْوَجْدِ يَهِيمُ {قُلْنَا يَا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} . ابْتَلَيْنَاهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ , وَأَرَيْنَاهُ قُدْرَتَنَا يَوْمَ " فَصُرْهُنَّ " وَكَسَرَ الأَصْنَامَ غَيْرَةً لَنَا مِنْهُنَّ , فَلَمَّا أُجِّجَتِ النِّيرَانُ ذَهَبَتْ بِلُطْفِنَا حَرَارَتُهُنَّ , وَغَرَسْنَا شَجَرَ الْجَنَّةِ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بردا وسلاما على إبراهيم} . بَنَوْا لَهُ بُنْيَانًا إِلَى سَفْحِ جَبَلٍ , وَاحْتَطَبَ مِنْ أَجْلِهِ مَنْ شَرِبَ وَأَكَلَ , وَأَلْقَوْهُ فِيهَا وقالوا قد اشتعل , فخرج نمرود ينظر ماذاا فَعَلَ , وَقَدْ خَرَجَ تَوْقِيعُ الْقِدَمِ مِنَ الْقَدِيمِ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} . اعْتَرَضَهُ وَتَعَرَّضَ لِحَوَائِجِهِ الْمَلِكُ , حِينَ قَطَعَ بَيْدَاءَ الْهَوَى وَسَلَكَ , فَقَالَ لَهُ بِلِسَانِ الْحَالِ: مَعِي مَنْ مَلَكَ , إِيَّاكَ وَالتَّعْرِيضَ بِمَا لَيْسَ لَكَ , فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِخَلْقٍ دُونِي إِذْ أُضِيمَ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إبراهيم} . تَعَرَّضَتْ لَهُ الأَمْلاكُ فَكَفَّهَا كَفًّا فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ لا يَمُدُّ إِلَى غَيْرِنَا كَفًّا , مَدَحْنَاهُ وَيَكْفِي في مدحناه [له:] " الذي وفى " واجتمع الخلائق صفاً ينظرون من من صفا , فَلَمَّا أَتَانَا فِي وَقْتِ الْقَلْبِ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إبراهيم} . تنح يا جبريل فماذا موضع زحمة , وخلني وخليلي فإليه رحمة , وَهَلْ بَذَلْتُ لَهُ إِلا لَحْمَةً تُبْلَى أَوْ شَحْمَةً , فَلَمَّا وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَصِيرَ فَحْمَةً , وَحُوشِيَ مِنْ ذَاكَ الْكَرِيمُ {قُلْنَا يَا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} . كَانَتِ الْمَلائِكَةُ تَدَّعِي الْفَنَاءَ بِالطَّاعَةِ , فَخَرَجَ هَارُوتُ وماروت فخسرت

الْبِضَاعَةُ , وَشَاهَدُوا يَوْمَ الْخَلِيلِ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ اسْتِطَاعَةٌ , رَأَى مَا رَأَى وَمَا أَزْعَجَهُ وَلا رَاعَهُ , فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ سَاكِنًا وَالأَمْلاكُ فِي مَقْعَدٍ مُقِيمٍ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وسلاما على إبراهيم} . [قَابَلَ الْقَوْمُ رَسُولَنَا بِأَقْبَحِ تَكْذِيبٍ , وَقَصَدُوا خَلِيلَنَا بِأَشَدِّ تَعْذِيبٍ، وَنَسُوا يَوْمَ الْفَزَعِ وَالتَّأْنِيبِ , وَالْخَلِيلُ سِرُّهُ صَافٍ وَالْحَالُ مُسْتَقِيمُ {قُلْنَا يَا نَارُ كوني بردا وسلاما على إبراهيم} ] . اللَّهُمَّ إِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِالْخَلِيلِ فِي مَنْزِلَتِهِ , وَالْحَبِيبِ فِي رُتْبَتِهِ , وَكُلِّ مُخْلِصٍ فِي طَاعَتِهِ , أَنْ تَغْفِرَ لِكُلٍّ مِنَّا زَلَّتَهُ يَا كَرِيمُ برحمتك يا أرحم الراحمين.

المجلس الثامن في قصة بناء الكعبة

المجلس الثامن فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ الْحَمْدُ للَّهِ الْمَلِكِ الْجَلِيلِ , الْمُنَزَّهِ عَنِ النَّظِيرِ وَالْعَدِيلِ الْمُنْعِمِ بِقَبُولِ الْقَلِيلِ , الْمُتَكَرِّمِ بِإِعْطَاءِ الْجَزِيلِ , تَقَدَّسَ عَمَّا يَقُولُ أَهْلُ التَّعْطِيلِ , وَتَعَالَى عَمَّا يَعْتَقِدُ أَهْلُ التَّمْثِيلِ , نصب لِلْعَقْلِ عَلَى وُجُودِهِ أَوْضَحُ دَلِيلٍ , وَهَدَى إِلَى وُجُودِهِ أَبْيَنُ سَبِيلٍ , وَجَعَلَ لِلْحَسَنِ حَظًّا إِلَى مِثْلِهِ يَمِيلُ , فَأَمَرَ بِبِنَاءِ بَيْتٍ وَجَلَّ عَنِ السكنى الجليل " وإذا يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ". ثُمَّ حَمَاهُ لَمَّا قَصَدَهُ أَصْحَابُ الْفِيلِ , فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. أَحْمَدُهُ كُلَّمَا نَطَقَ بِحَمْدِهِ وَقِيلَ , وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْمُنَزَّهُ عَنْ مَا عَنْهُ قِيلَ , وَأُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ النَّبِيلِ , وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الَّذِي لا يُبْغِضُهُ إِلا ثَقِيلٌ , وَعَلَى عُمَرَ وَفَضْلُ عُمَرَ فَضْلٌ طَوِيلٌ , وَعَلَى عُثْمَانَ وَكَمْ لِعُثْمَانَ مِنْ فِعْلٍ جَمِيلٍ , وَعَلَى عَلِيٍّ وَجَحْدُ قَدْرِ عَلِيٍّ تَغْفِيلٌ , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الْمُسْتَسْقَى بِشَيْبَتِهِ فَإِذَا السُّحُبُ تَسِيلُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُبْتَدِئِ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَهُ لا بِبِنَاءِ أَحَدٍ. ثُمَّ فِي زَمَنِ وَضْعِهِ إياه قولان: أحدهما: قَبْلَ خَلْقِ الدُّنْيَا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ حَشَفَةً عَلَى الْمَاءِ , عَلَيْهَا مَلَكَانِ يُسَبِّحَانِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قَبْلَ خَلْقِ الأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ. الْحَشَفَةُ: الأَكَمَةُ الْحَمْرَاءُ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا كان العرش على الماء قبل خلق السماوات بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رِيحًا فَصَفَقَتِ الْمَاءَ فَأَبْرَزَتْ عَنْ حَشَفَةٍ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ كَأَنَّهَا قُبَّةٌ , فَدَحَا الأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ , وَإِنَّ قَوَاعِدَهُ لَفِي الأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى. وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ غُثَاءً عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أن يخلق الله السماوات وَالأَرْضَ. بِأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْبَيْتُ قَبْلَ هُبُوطِ آدَمَ يَاقُوتَةً مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ , وَفِيهِ قَنَادِيلُ مِنَ الْجَنَّةِ فَلَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ فَأَخَذَهُ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ اسْتِئْنَاسًا بِهِ , وَحَجَّ آدَمُ فَقَالَتْ لَهُ الْمَلائِكَةُ بَرَّ حَجُّكَ , لَقَدْ حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ. فقال: يا رب اجعل له عُمَّارًا مِنْ ذُرِّيَّتِي. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي مُعَمِّرُهُ بِأَبْنَاءِ نَبِيٍّ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلائِكَةَ بَنَتْهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: لَمَّا قَالَتِ الْمَلائِكَةُ: " أَتَجْعَلُ فِيهَا من يفسد فيها " غَضِبَ عَلَيْهِمْ , فَعَاذُوا بِالْعَرْشِ يَطُوفُونَ حَوْلَهُ يَسْتَرْضُونَ رَبَّهُمْ , فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَقَالَ: ابْنُوا فِي الأَرْضِ بَيْتًا يَعُوذُ بِهِ كُلُّ مَنْ سَخِطْتُ عَلَيْهِ وَيَطُوفُونَ حَوْلَهُ , كَمَا فَعَلْتُمْ بِعَرْشِي. فَبَنَوْا هَذَا الْبَيْتَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ آدَمَ لَمَّا أُهْبِطَ أَوْحَى الله إليه: ابن لي بيتاً واصنع جوله كَمَا رَأَيْتَ الْمَلائِكَةَ تَصْنَعُ حَوْلَ عَرْشِي. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ أَنَّهُ بَنَاهُ آدَمُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ: لُبْنَانَ وَطُورِ سِينَاءَ وَطُورِ زَيْتَا وَالْجُودِيِّ وَحِرَاءٍ. قَالَ وَهْبٌ: فَلَمَّا مَاتَ آدَمُ بَنَاهُ بَنُوهُ بِالطِّينِ وَالْحِجَارَةِ , فَنَسَفَهُ الْغَرَقُ. قال

مُجَاهِدٌ: وَكَانَ مَوْضِعُهُ بَعْدَ الْغَرَقِ أَكَمَةً حَمْرَاءَ لا تَعْلُوهَا السُّيُولُ وَكَانَ يَأْتِيهَا الْمَظْلُومُ وَيَدْعُو عِنْدَهَا الْمَكْرُوبُ. قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: لَمَّا سَلِمَ الْخَلِيلُ مِنَ النَّارِ خَرَجَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُهَاجِرًا , فَتَزَوَّجَ سَارَّةَ بِحَرَّانَ , وَقَدِمَ مِصْرَ وَبِهَا فِرْعَوْنُ مِنَ الْفَرَاعِنَةِ , فَوُصِفَ لَهُ حُسْنُهَا فَبَعَثَ فَأَخَذَهَا , فَلَمَّا دَخَلَتْ قَامَ إِلَيْهَا فَقَامَتْ تصلي وتقول: اللهم إني آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلا عَلَى زَوْجِي , فَلا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ. فَغَطَّ حَتَّى رَكَضَ الأَرْضَ بِرِجْلِهِ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ هِيَ الَّتِي قَتَلَتْهُ. فَأَرْسِلْ. ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَدَعَتْ فَغَطَّ حَتَّى رَكَضَ الأَرْضَ بِرِجْلِهِ , ثُمَّ أَرْسَلَ فَقَالَ: رُدُّوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَعْطُوهَا هَاجَرَ. فَوَهَبَتْهَا لإِبْرَاهِيمَ وَقَالَتْ: لَعَلَّهُ يَأْتِيكَ مِنْهَا وَلَدٌ , وَكَانَتْ سَارَّةُ قَدْ مُنِعَتِ الْوَلَدَ , فَوَلَدَتْ لَهُ إِسْمَاعِيلَ فَهُوَ بِكْرُ أَبِيهِ , وُلِدَ لَهُ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا وَلَدَتْ غَارَتْ سَارَّةُ وَأَخْرَجَتْهَا , وَحَلَفَتْ لَتَقْطَعَنَّ مِنْهَا بَضْعَةً. فَحَفِظَتْهَا ثُمَّ قَالَتْ: لا تُسَاكِنَنِّي فِي بَلَدِي. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ مَكَّةَ , فَذَهَبَ بِهَا وَبِابْنِهَا , وَالْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ رَبْوَةٌ حَمْرَاءُ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ أَهُنَا أُمِرْتُ أَنْ أَضَعَهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَنْزَلَهُمَا مَوْضِعَ الْحَجَرِ وَأَمَرَ هَاجَرَ أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِ عَرِيشًا. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ , قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الدَّاوُدِيُّ , قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ أَعْيَنَ السَّرَخْسِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعُزَيْزِيُّ , حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ , وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ , يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرَ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَوَّلُ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَةَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ , اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَّةَ. ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ , وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ , وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ , فَوَضَعَهُمَا هُنَاكَ , وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ , ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا , فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إبراهيم أين

تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا فِي هَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَنِيسٌ وَلا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. فَقَالَتْ لَهُ: اللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ إِذًا لا يُضَيِّعُنَا اللَّهُ! ثُمَّ رَجَعَتْ. فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: رَبِّ {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بيتك المحرم} حتى بلغ: يشكرون. وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السقا , عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا , وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى مِنَ الْعَطَشِ , أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ , فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا , فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا , فَلَمْ تَرَ أحد. فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا , حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا , ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ , حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا , فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا. فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سمعت صوتاً فقالت: صه. تريد نفسها ثُمَّ تَسَمَّعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ: قَدْ أُسْمِعْتُ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غُوَاثٌ فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ. فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ. فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا , وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَمَا تَغْرِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا. قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لا تَخَافِي الضَّيْعَةَ , فَإِنَّ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ يَبْنِيهِ هَذَا الْغُلامُ وَأَبُوهُ , وَإِنَّ اللَّهَ لا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ. وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يمينه وعن

شِمَالِهِ. فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كُدَى فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ. فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ , فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا. قَالَ وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ قَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ. قَالَتْ: نَعَمْ , وَلَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الأُنْسَ فَنَزَلُوا. وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهْمُ. حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ وَشَبَّ الْغُلامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ. فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ. فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ , فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشتهم وهيأتهم فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ , نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ وَشَكَتْ إِلَيْهِ. قَالَ: إِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ , وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ , أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلامَ وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكَ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ. الْحَقِي بِأَهْلِكِ. فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى. فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ , ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ , فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. فَسَأَلَهَا عن عيشتهم وهيأتهم فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ: اللَّحْمُ. قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ , وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ. قَالَ: فَهُمَا لا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلا لَمْ يُوَافِقَاهُ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلامَ وَمُرِيهِ يُثَبِّتُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ , قَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ

أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ حَسَنُ الْوَجْهِ , وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ , فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ , فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ. قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكَ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ , أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ. ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ , فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَفْعَلُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ , ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ. قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ. قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ. قَالَ: فَإِنَّ الله تعالى قد أمرني أن أبني ها هنا بَيْتًا. وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حولها. فعند ذَلِكَ رَفَعَ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ. فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي , حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ , فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ , وَهُمَا يَقُولانِ: " رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العليم ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ. قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: لَمَّا أُمِرَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ: يَا رَبِّ بَيِّنْ لِي صِفَتَهُ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى سَحَابَةً عَلَى قَدْرِ الْكَعْبَةِ , فَسَارَتْ مَعَهُ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ , حَتَّى وَقَفَتْ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ وَنُودِيَ: ابْنِ عَلَى ظِلِّهَا لا تُزِدْ وَلا تُنْقِصْ. وَكَانَ جِبْرِيلُ حِينَ الْغَرَقِ قَدِ اسْتَوْدَعَ أَبَا قُبَيْسٍ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ , فَلَمَّا بَنَى إِبْرَاهِيمُ الْبَيْتَ أَخْرَجَهُ إِلَيْهِ فَوَضَعَهُ. أَخْبَرَنَا الْكَرُوخِيُّ , أَنْبَأَنَا الْغُورَجِيُّ , أَنْبَأَنَا الْجَرَّاحِيُّ , حَدَّثَنَا الْمَحْبُوبِيُّ , حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ , حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ , حَدَّثَنَا جَرِيرٌ , عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَزَلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ.

قَالُوا: وَوُلِدَ لإِسْمَاعِيلَ اثْنَا عَشَرَ وَلَدًا وَاتَّخَذَهُ اللَّهُ نَبِيًّا , وَبَعَثَهُ إِلَى الْعَمَالِيقِ وَجُرْهُمٍ وَقَبَائِلَ الْيَمَنِ , فَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ وَتُوُفِّيَتْ هَاجَرُ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِينَ سَنَةً وَلإِسْمَاعِيلَ عِشْرُونَ سَنَةً , فدفنها في الحجر وعاش مِائَةً وَسَبْعًا وَثَلاثِينَ سَنَةً , وَكَانَ قَدْ شَكَا إِلَى رَبِّهِ حَرَّ مَكَّةَ , فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنِّي أَفْتَحُ لَكَ بَابًا مِنَ الْجَنَّةِ في الْحِجْرَ يَجْرِي عَلَيْكَ مِنْهُ الرَّوْحُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَفِي الْحِجْرِ قَبْرُهُ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ دَبَّرَ أَهْلُ الْحَرَمِ بَعْدَهُ ابْنَهُ نَابِتَ , وَيُقَالُ نبتُ , ثُمَّ غَلَبَتْ جُرْهُمٌ عَلَى الْبَيْتِ وَانْهَدَمَ , فَبَنَتْهُ الْعَمَالِقَةُ , ثُمَّ بَنَتْهُ جُرْهُمٌ. وَقَصَدَهُ أَصْحَابُ الْفِيلِ. وَكَانَ السَّبَبُ أَنَّ أَبْرَهَةَ بَنَى كَنِيسَةً وَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ إِلَيْهَا الْحَجَّ , فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ فَأَحْدَثَ فِيهَا , فَغَضِبَ أَبْرَهَةُ وَقَصَدَ الْكَعْبَةَ , فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ أَغَارَ أَصْحَابُهُ عَلَى نَعَمِ النَّاسِ فَأَصَابُوا إِبِلا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ , ثُمَّ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: سَلْ عَنْ شَرِيفِ مَكَّةَ. فَأُتِيَ بِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ , فَقَالَ لَهُ: مَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ إِبِلِي. قَالَ: أَوَّلا تَسْأَلُنِي عَنْ بَيْتٍ هُوَ دِينُكَ ودين آبائك؟ فقال: أنا رب هذا الإِبِلِ , وَلِهَذَا الْبَيْتِ رَبٌّ يَمْنَعُهُ! فَأَمَرَ قُرَيْشًا أَنْ يَتَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: (يَا رَبِّ لا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمْ حِمَاكَا) (إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا ... امْنَعْهُمْ أَنْ يُخْرِبُوا قراكا) ثم قال: (لا هم إِنَّ الْمَرْءَ يَمْنَعُ رَحْلَهُ ... وَحِلالَهُ فَامْنَعْ رِحَالَكَ) (لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدواً مِحَالَكَ) (جَرُّوا جُمُوعَ بِلادِهِمْ ... وَالْفِيلَ كَيْ يَسْبُوا عِيَالَكَ) (عَمَدُوا حِمَاكَ بِكَيْدِهِمْ ... جَهْلا وَمَا رَقَبُوا جَلالَكَ) (إِنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَكَعْبَتَنَا ... فَأْمُرْ مَا بدا لك)

الكلام على البسملة

فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ طُيُورًا رُءُوسُهَا كَرُءُوسِ السِّبَاعِ , وَقِيلَ كَأَمْثَالِ الْخَطَاطِيفِ مَعَ كُلِّ طَيْرٍ ثَلاثَةُ أَحْجَارٍ: حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ , وَكَانَتْ كَأَمْثَالِ الْحِمَّصِ , وَقِيلَ كَرَأْسِ الْجَمَلِ , فَكَانَتْ تَقَعُ عَلَى الرَّجُلِ فَتَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ. وَالأَبَابِيلُ: جَمَاعَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ , وَالسِّجِّيلُ: الشَّدِيدُ الصَّلَبُ , وَالْعَصْفُ: تِبْنُ الزَّرْعِ وَوَرَقُهُ. ثُمَّ بَنَتْهُ قُرَيْشٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ شَابٌّ , ثُمَّ بَنَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ , ثُمَّ نَقَضَهُ الْحَجَّاجُ وَبَنَاهُ. سُبْحَانَ مَنِ اخْتَصَّ مِنْ عِبَادَهِ الأَخْيَارَ , فَجَعَلَ مِنْهُمُ الأَنْبِيَاءَ وَالأَبْرَارَ , وَأَبْعَدَ الْعُصَاةَ وَالْفُجَّارَ {وربك يخلق ما يشاء ويختار} . الكلام على البسملة (تزين أعمالاً خواتيمها ... فإنك وَزَيِّنْ عَمَلا بِالْخِتَامْ) (أَفْضَلُ مَا زُوِّدْتَ زَادُ التُّقَى ... وَشَرُّ مَا تَحْمِلُ زَادُ الأَثَامْ) (وَالْجِسْمُ يُنْسِيهِ الْبِلَى فِي الثَّرَى ... مَا كَانَ عَانَى مِنْ خُطُوبٍ جِسَامْ) (أُخَاصِمُ الْقَلْبَ لإِعْرَاضِهِ ... عَنِ الْهُدَى وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامْ) (وَيَحْطِمُ السِّنُّ أَخَا كَثْرَةٍ ... وَهَمُّهُ مُتَّصِلٌ بِالْحُطَامْ) (كَانَ عُمْرِي مَرْكِبٌ سَارَ بِي ... حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْحِينُ قَامْ) (سَهِّدْ هَذَا الْخَلْقَ فِي شَأْنِهِمْ ... تَمَّتْ لأَقْوَامٍ أَنَامُوا الأَنَامْ) لَيَأْتِيَنَّكَ مِنَ الْمَوْتِ مَا لا يَقْبَلُ رِشْوَةً وَمَالا , إِذَا مَالَ عَلَى الْقَوْمِ وَالْقَوِيمِ مَالا , يَا مُخْتَارَ الْهَوَى جَهْلا وَضَلالا , لَقَدْ حَمَّلْتَ أَزْرَكَ أَوْزَارًا ثِقَالا , إِيَّاكَ وَالْمُنَى فَكَمْ وَعَدَ الْمُنَى مُحَالا , كَمْ قَالَ الطَّالِبُ نَعَمْ نَعَمْ سَأُعْطِي نَوَالا ثُمَّ نَوَالا , كَمْ سقا من الحسرات كؤوساً , وَفَرَّغَ رَبْعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَأْنُوسًا , وَطَمَسَ بِهَوْلِهِ بُدُورًا وَشُمُوسًا , وَأَغْمَضَ عُيُونًا وَنَكَّسَ رُءُوسًا , وَأَبْدَلَ التُّرَابَ عَنِ الثِّيَابِ مَلْبُوسًا:

(إِذَا كَانَ مَا فِيهِ الْفَتَى عَنْهُ زَائِلا ... فَسِيَانٌ فِيهِ أَدْرَكَ الْحَظَّ أَوْ أَخْطَا) (وَلَيْسَ يفي يوماً سرور وَغِبْطَةً ... بِحُزْنٍ إِذَا الْمُعْطِي اسْتَرَدَّ الَّذِي أَعْطَى) لَقَدْ وَعَظَ الزَّمَنُ بِالآفَاتِ وَالْمِحَنِ , لَقَدْ حَدَّثَ مَنْ لَمْ يُظْعِنْ بِالظَّعْنِ , وَخَوَّفَ الْمُطْلَقَ بِالْمُرْتَهَنِ , تَاللَّهِ لَوْ صَفَتِ الْفِطَنُ لأَبْصَرَتْ مَا بَطَنَ , إِخْوَانِي: أَمْرُ الْمَوْتِ قَدْ عَلَنَ , كَمْ طَحْطَحَ الرَّدَى وَكَمْ طَحَنَ , يَا بَائِعًا لِلْيَقِينِ مُشْتَرِيًا لِلظِّنَنِ , يَا مُؤْثِرًا الرَّذَائِلَ فِي اخْتِيَارِ الْفِتَنِ , إِنَّ السُّرُورَ وَالشُّرُورَ فِي قَرَنٍ. (أَجَلُّ هِبَاتِ الدهر ترك المواهب ... تمد لِمَا أَعْطَاكَ رَاحَةَ نَاهِبِ) (وَأَفْضَلُ مِنْ عَيْشِ الْغِنَى عَيْشُ فَاقَةٍ ... وَمِنْ زِيِّ مَلِكٍ رَائِقٍ زِيُّ رَاهِبِ) (وَلِي مَذْهَبٌ فِي هَجْرِي الإِنْسِ نَافِعٌ ... إِذَا الْقَوْمُ خَاضُوا فِي اخْتِيَارِ الْمَذَاهِبِ) (أَرَانَا عَلَى السَّاعَاتِ فُرْسَانُ غَارَةٍ ... وَهُنَّ بِنَا يَجْرِينَ جَرْيَ السَّلاهِبِ) (وَمِمَّا يَزِيدُ الْعَيْشَ إِخْلاقَ مَلْبَسٍ ... تَأَسُّفُ نَفْسٍ لَمْ تُطِقْ رَدَّ ذَاهِبِ) لَقَدْ تَكَاثَفَتْ ذُنُوبُكَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا , وَتَعَاظَمَتْ عُيُوبُكَ فَمَلأَتِ الأَرْضَ طُولا وَعَرْضًا , وَهَذَا الْمَوْتُ يَرْكُضُ نَحْوَ رُوحِكَ رَكْضًا , وَعِنْدَكَ مِنَ الدُّنْيَا فَوْقَ مَا يَكْفِي وَمَا تَرْضَى , أَأَمِنْتَ عَلَى مَبْسُوطِ الأَمَلِ بَسْطًا وَقَبْضًا , كَمْ حَصَرَ الرَّدَى إذا أتى غصناً غصاً , كَمْ بُلْبُلٍ بَالا وَمَا بَالَى هَدْمًا وَنَقْضًا , اسْمَعْ مِنِّي قَوْلا نُفُوعًا وَنُصْحًا مَحْضًا , كَمْ قَدْ جَنَيْتَ طَوِيلا فَكُنْ مِنَ الْيَوْمِ ذَلِيلا أَرْضًا. قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: لَقِيتُ جَارِيَةً سَوْدَاءَ قَدِ اسْتَلَبَهَا الْوَلَهُ مِنْ حُبِّ الرَّحْمَنِ شَاخِصَةً بِبَصَرِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ فَقُلْتُ: عَلِّمِينِي شَيْئًا مِمَّا عَلَّمَكِ اللَّهُ. فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْفَيْضِ , ضَعْ عَلَى جَوَارِحِكَ نِيرَانَ الْقِسْطِ حَتَّى يَذُوبَ كُلُّ مَا كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ , فَيَبْقَى الْقَلْبُ مُصَفَّى لَيْسَ فِيهِ غَيْرُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ , فَعِنْدَ ذَلِكَ يُقِيمُكَ عَلَى الْبَابِ وَيُوَلِّيكَ وَلايَةً جَدِيدَةً وَيَأْمُرُ الْخُزَّانَ لَكَ بِالطَّاعَةِ. فَقُلْتُ: زِيدِينِي رَحِمَكِ اللَّهُ! فَقَالَتْ: خُذْ مِنْ نَفْسِكَ لِنَفْسِكَ وَأَطْلِعِ اللَّهَ إِذَا خَلَوْتَ بِحُبِّكَ إِذَا دَعَوْتَ.

ثُمَّ وَلَّتْ عَنِّي وَتَرَكَتْنِي. إِخْوَانِي: مِنَ النُّفُوسِ نُفُوسٌ خُلِقَتْ طَاهِرَةً , وَنُفُوسٌ خُلِقَتْ كَدِرَةً. وَإِنَّمَا تَصْلُحُ الرِّيَاضَةُ فِي نَجِيبٍ. الْجُلُودُ الطَّاهِرَةُ إِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهَا النَّجَاسَةُ يُطَهِّرُهَا الدِّبَاغُ لأَنَّ الأَصْلَ طَاهِرٌ , بِخِلافِ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ! لِلنُّفُوسِ الْخَيِّرَةِ عَلامَاتٌ: الْجِدُّ فِي الْغَالِبِ , وَالْحَذَرُ مِنَ الزَّلَلِ , وَالاحْتِقَارُ لِلْعَمَلِ , وَالْقَلَقُ مِنْ خَوْفِ السَّابِقَةِ , وَالْجَزَعُ مِنْ حذر الخاتمة , فترى أحدهم يستغيث استغاثة الفريق , وَيَلْجَأُ لَجْأَ الأَسِيرِ , الذُّلُّ لِبَاسُهُ وَسَهَرُ اللَّيْلِ فِرَاشُهُ , وَذِكْرُ الْمَوْتِ حَدِيثُهُ , وَالْبُكَاءُ دَأْبُهُ. بَاتَ عُتْبَةُ الْغُلامُ لَيْلَةً عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ , فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ تُعَذِّبْنِي فَإِنِّي لَكَ مُحِبٌّ , وَإِنْ تَرْحَمْنِي فَإِنِّي لَكَ مُحِبٌّ. فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا وَيَبْكِي إِلَى الصَّبَاحِ. وَكَانَ عَابِدٌ يَقُولُ: يَا إِخْوَتَاهُ ابْكُوا عَلَى خَوْفِ فَوَاتِ الآخِرَةِ حَيْثُ لا رَجْعَةٌ وَلا حِيلَةٌ. لَمَّا أَسَرَ النَّوْمُ سَارَ الْقَوْمُ , فَقَطِّعْ نَفْسَكَ بِاللَّوْمِ الْيَوْمَ: (يَا مُقْلَةً رَاقِدَةً ... لَمْ تَدْرِ بِالسَّاهِدَةْ) (كَأَنَّهَا سَهِرَتْ ... نُجُومُهَا الرَّاكِدَةْ) (بَدَا سُهَيْلٌ لَهَا ... فَانْحَرَفَتْ عَائِدَةْ) (كَأَنَّهُ دِرْهَمٌ ... رَمَتْ بِهِ النَّاقِدَةْ) (يَا نَفْسُ لا تجزعي ... قد تجد الْفَاقِدَةْ) (أَيُّ الْوَرَى خَالِدٌ ... أَنْفُسُهُمْ وَاحِدَةْ) (وَالْمَوْتُ حَوْضٌ لَهَا ... وَهْيَ لَهُ وَارِدَةْ) (حَائِدَةٌ جَهْدَهَا ... إِنْ سَلِمَتْ حَائِدَةْ) (فِي كُلِّ فَجٍّ لَهَا ... مَنِيَّةٌ رَاصِدَةْ) (تَفِرُّ مِنْ حَتْفِهَا ... وَهِيَ لَهُ قَاصِدَةْ) (لا تُخْدَعَنَّ بِالْمُنَى ... قَدْ تَكْذِبُ الرَّائِدَةْ) (هَانَ عَلَى مَيِّتٍ ... مَا تَجِدُ الْوَاجِدَةْ)

الكلام على قوله تعالى

الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} البيوت هاهنا: المساجد و {إذن} بمعنى أمر. و {ترفع} بمعنى تعظم و {اسمه} تَوْحِيدُهُ وَكِتَابُهُ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " أَحَبُّ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَسْوَاقُهَا ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ بَنَى للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ ". وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ ". أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ , وَأَنْبَأَنَا سعيد بن أحمد , حدثنا علي ابن أَحْمَدَ بْنِ السَّيِّدِيِّ , قَالا أَخْبَرَنَا الْمُخَلِّصُ , حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَاصِمٍ , حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو , عَنْ زَيْدِ بْنِ أُنَيْسَةَ , عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ , عَنْ أَبِي حَازِمٍ الأَشْجَعِيِّ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله كانت خطوتاه إحداهما تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً ". أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابن أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا هَاشِمٌ , حَدَّثَنَا لَيْثٌ , حَدَّثَنِي سَعِيدٌ , يَعْنِي الْمَقْبُرِيَّ , عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ , أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: " لا يتوضأ أحد فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُسْبِغُهُ ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ لا يُرِيدُ إِلا اللَّهَ فِيهِ إِلا تَبَشْبَشَ اللَّهُ بِهِ كَمَا تَبَشْبَشَ أَهْلُ الْغَائِبِ بِطَلْعَتِهِ ".

قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} : قَالَ الزَّجَّاجُ لا خِلافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ التَّنْزِيهُ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ. وَالْغُدُوُّ جَمْعُ غُدْوَةٍ. وَالآصَالُ جَمْعُ أُصُل , وأُصل جَمْعُ أَصِيلٍ , فَالآصَالُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَالآصَالُ: الْعَشِيَّاتُ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا التَّسْبِيحِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الصَّلاةُ. ثُمَّ فِي صَلاةِ الْغُدُوِّ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا الْفَجْرُ؛ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: صَلاةُ الضُّحَى وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ صَلاةَ الضُّحَى لَفِي كِتَابِ اللَّهِ وَمَا يغوص عليهما غواص ثم قرأ: {يسبح الله له فيها بالغدو والآصال} . وَفِي صَلاةِ الآصَالِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ. قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ. وَالثَّانِي: صَلاةُ الْعَصْرِ. قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عن ذكر الله} أي لا تشغلهم. قال ابن السائب: التجار الْجَلابُونَ وَالْبَاعَةُ الْمُقِيمُونَ. وَفِي الْمُرَادِ بِذِكْرِ اللَّهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: الصَّلاةُ الْمَكْتُوبَةُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرَوَى سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي السُّوقِ فَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَأَغْلَقُوا حَوَانِيتَهُمْ وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فيِهِمْ. نَزَلَتْ: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذكر الله} . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْقِيَامُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالثَّالِثُ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِاللِّسَانِ. قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِقَامِ الصَّلاةِ وإيتاء الزكاة} أَيْ أَدَاؤُهَا لِوَقْتِهَا وَإِتْمَامِهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً إِلا وَأَنَا

فِي الْمَسْجِدِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لا تَكُنْ مِثْلَ عَبْدِ السُّوءِ لا يَأْتِي حَتَّى يُدْعَى , ايتِ الصَّلاةَ قَبْلَ النِّدَاءِ. أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ أَحْمَدَ الأَنْصَارِيُّ , أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الجبار , أخبرنا محمد ابن عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بن سُكَيْنَةَ , أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ , حَدَّثَنَا أَبُو بكر ابن عبيد , أنبأنا أبو الحسين ابن أَبِي قَيْسٍ , أَنْبَأَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ , عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ , عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. جَاءَ مُنَادٍ يُنَادِي بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلائِقَ: سَيَعْلَمُ الْخَلائِقُ الْيَوْمَ مَنْ أَوْلَى بِالْكَرَمِ. ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُنَادِي: فَلْيَقُمِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ. ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُنَادِي: أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [فَيَقُومُونَ] وَهُمْ قَلِيلُونَ. ثُمَّ يُحَاسَبُ النَّاسُ. قَالَ بَعْضُ الزُّهَّادِ: رَأَيْتُ رَجُلا قَدْ أَقْبَلَ مِنْ بَعْضِ جِبَالِ الشَّامِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ وَوَقَفَ يَنْظُرُ كَالْحَيْرَانِ , فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ. فَقَالَ: مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: إِلَى قَوْمٍ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ. ثم قال: واأسفاً! قُلْتُ: عَلَى مَاذَا؟ قَالَ: عَلَى مَا هُمْ فِيهِ إِذْ كَانُوا بِأَعْمَالِهِمْ عَلَى طَرِيقِ نَجَاتِهِمْ. (النَّاسِكُونَ يُحَاذِرُونَ ... وَمَا بِسَيِّئَةٍ أَلَمُّوا) (كَانُوا إِذَا رامو كلاماً ... مُطْلَقًا خَطَمُوا وَزَمُّوا) (إِنْ قِيلَتِ الْفَحْشَاءُ أَوْ ... ظهرت عموا عنها وصموا) (فمضوا وجاء معاً شر ... بِالْمُنْكَرَاتِ طَمُوا وَطَمُّوا) (فَفَمٌ لِطُعْمٍ فَاغِرٌ ... وَيَدٌ عَلَى مَالٍ تُضَمُّ) (عَدَلُوا عَنِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ ... وَلِلْخَنَا عَمَدُوا وَأَمُّوا)

(وَإِذَا هُمْ أَعْيَتْهُمُ ... شَنْعَاهُمْ كَذَبُوا وَنَمُّوا) (فَالصَّدْرُ يَغْلِي بِالْهَوَاجِسِ ... مِثْلُ مَا يَغْلِي الْمُحَمُّ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} تَصْعَدُ الْقُلُوبُ إِلَى الْحَنَاجِرِ وَتَنْقَلِبُ الأَبْصَارُ إِلَى الزَّرَقِ عَنِ الْكَحَلِ , وَالْعَمَى بَعْدَ النَّظَرِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ أَنْبَأَنَا أحمد بن جعفر , أخبرنا عبد الله ابن أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ , أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ , عَنْ نَافِعٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أذنيه ". أخبرنا عبد الأول , حدثنا الداوودي , حَدَّثَنَا ابْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ , حدثنا عبد العزيز بن عبد الله , حدثني سُلَيْمَانُ , عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ , عَنْ أَبِي الْغَيْثِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: " يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُلْجِمَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ ". الْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي لَفْظٍ: " سَبْعِينَ بَاعًا " قَالَ. مُغِيثُ بْنُ سُمَيٍّ: تُرَكَّزُ الشَّمْسُ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ وَتُفْتَحُ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ فَيَهُبُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رِيَاحِهَا وَسَمُومِهَا وَيَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ نَفَاحِهَا حَتَّى تَجْرِيَ الأَنْهَارُ مِنْ عَرَقِهِمْ. وَالصَّائِمُونَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ. يَا مَنْ لا يَرْدَعُهُ مَا يَسْمَعُهُ , يَا مَنْ لا يُقْنِعُهُ مَا يَجْمَعُهُ , أَمَا الْقَبْرُ عَنْ قَرِيبٍ مَوْضِعُهُ , أَمَا اللَّحْدُ عَنْ قَرِيبٍ مَضْجَعُهُ , أَمَا يَرْجِعُ عَنْهُ مَنْ يُشَيِّعُهُ وَيَأْخُذُ مَا جَمَعَهُ أَجْمَعُهُ , كَمْ يَخْرِقُ خَرْقًا بِالْخَطَإِ ثُمَّ لا يرفعه , كَمْ يَحُطُّهُ الْقَبِيحُ وَالنُّصْحُ يَرْفَعُهُ , كَمْ يَعْلَمُ غُرُورَ الْهَوَى وَهُوَ يَتْبَعُهُ: (لا تَعْذِلَنَّهُ فَإِنَّ الْعَذْلَ يُولِعُهُ ... قَدْ قُلْتَ حَقًّا وَلَكِنْ لَيْسَ يَسْمَعُهُ) أَشْرَفَ رَاهِبٌ مِنَ الرُّهْبَانِ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فإذا رجل جالس فقال: يا هذا ما جلوسك ها هنا؟ فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ يَا فَارِغَ الْقَلْبِ وَدَعِ التَّشَاغُلَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ مِنْكَ

سجع على قوله تعالى

قَرِيبٌ! فَصَرَخَ الرَّاهِبُ وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ , فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: سَيِّدِي لَكَ الْعُتْبَى لا أَعُودُ فِيمَا يَقْطَعُنِي عَنْكَ. فَصَمَتَ عَنِ الْكَلامِ حَتَّى مَاتَ. كَمْ غَرَّ الْغُرُورُ غِرًّا , أَمَدَّ لَهُ أَطْنَابَ الطَّمَعِ عَلَى أَوْتَادِ الْهَوَى , وَسَامَرَهُ فِي خَيْمَةِ الْمُنَى يُمْلِي عَلَيْهِ أَمَالِيَ الآمَالِ , وَمَا أَجَالَ فِيمَا جَالَ سَهْوَ ذِكْرِ الآجَالِ , ثُمَّ وَجَّهَ إِلَى جِهَةِ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ , فَسَلَّمَا إِلَيْهِ مَنْشُورَ التَّسْوِيفِ , فَلَمَّا ضُرِبَ بُوقُ الرِّحْلَةِ وَقَرُبَتْ نُوقُ النُّقْلَةِ سَلَّ مَا سَلَّمَا إِلَيْهِ , فَأُلْقِيَ كَاللَّقَى عَلَى بَابِ النَّدَمِ! (إِلامَ أُمَنِّي النَّفْسَ مالا تَنَالُهُ ... وَأَذْكُرُ عَيْشًا لَمْ يَعُدْ مُذْ تَصَرَّمَا) (وَقَدْ قَالَتِ السِّتُّونَ لِلَّهْوِ وَالصِّبَا ... دَعَا لِي أَسِيرِي وَاذْهَبَا حَيْثُ شِئْتُمَا) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الشَّاهِدُ , حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ , أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَصْرٍ , حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ , قَالَ سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ يَقُولُ لِرَجُلٍ رَآهُ يَضْحَكُ: لا تَطْمَعَنَّ فِي بَقَائِكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَصِيرَكَ إِلَى الْمَوْتِ , فَلَمْ يَضْحَكْ مَنْ يَمُوتُ وَلا يَدْرِي أَيْنَ مَصِيرُهُ: إِلَى الْجَنَّةِ أَمْ إِلَى النَّارِ , وَلا يَدْرِي أَيَّ وَقْتٍ يَكُونُ الْمَوْتُ: صَبَاحًا أَوْ مَسَاءً، بِلَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ. ثُمَّ قَالَ: أُوهْ وَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فيه القلوب والأبصار} لَوْ رَأَيْتَ أَرْبَابَ الْقُلُوبِ وَالأَسْرَارِ , وَقَدْ أَخَذُوا أُهْبَةَ التَّعَبُّدِ فِي الأَسْحَارِ , وَقَامُوا فِي مَقَامِ الْخَوْفِ عَلَى قَدَمِ الاعْتِذَارِ {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فيه القلوب والأبصار} . عَقَدُوا عَزْمَ الصِّيَامِ وَمَا جَاءَ النَّهَارُ , وَسَجَنُوا الألسنة فليس فيهم مهذار , وغضوا أبصارهم ولازم غَضَّ الأَبْصَارِ , فَانْظُرْ مَدْحَهُمْ إِلَى أَيْنَ انْتَهَى وصار , أحزانهم أحزان ثكلى ما لهذا اصْطِبَارٌ , وَدُمُوعُهُمْ لَوْلا التَّحَرِّي لَقُلْتُ كَالأَنْهَارِ ,

وَوُجُوهُهُمْ مِنَ الْخَوْفِ قَدْ عَلاهَا الصَّفَارُ , وَالْقَلَقُ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ وَدَارَ , {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فيه القلوب والأبصار} . جدوا في انطلاقهم إلى خلاقهم , وَرَاضُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَحْسِينِ أَخْلاقِهِمْ , فَإِذَا بِهِمْ قَدْ أَذَابَهُمْ كَرْبُ اشْتِيَاقِهِمْ , أَتَدْرِي مَا الَّذِي حَبَسَكَ عَنْ لِحَاقِهِمْ: حُبُّ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ. أَيْقَظَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذِهِ السِّنَةِ , وَرَزَقَنَا اتِّبَاعَ النُّفُوسِ الْمُحْسِنَةِ , وَآتَانَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حسنة , ووقانا عذاب النار.

المجلس التاسع في ذكر إسحاق وقصة الذبح

المجلس التاسع فِي ذِكْرِ إِسْحَاقَ وَقِصَّةِ الذَّبْحِ الْحَمْدُ للَّهِ الذي أنشأ وبنا , وخلق الماء والثرى , وأبدع كل شيء ذرا , لا يَغِيبُ عَنْ بَصَرِهِ دَبِيبُ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ إِذَا سَرَى , وَلا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مَا عَنَّ وَمَا طَرَا , اصْطَفَى آدَمَ ثُمَّ عَفَا عَمَّا جَرَى , وَابْتَعَثَ نُوحًا فَبَنَى الْفُلْكَ وَسَرَى , وَنَجَّى الْخَلِيلَ مِنَ النَّارِ فَصَارَ حَرُّهَا ثَرَى , ثُمَّ ابْتَلاهُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ فَأَدْهَشَ بَصَبْرِهِ الْوَرَى {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أني أذبحك فانظر ماذا ترى} . أَحْمَدُهُ مَا قُطِعَ نَهَارٌ بِسَيْرٍ وَلَيْلٌ بِسُرَى , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ فِي أُمِّ الْقُرَى , وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ صَاحِبِهِ فِي الدَّارِ وَالْغَارِ بِلا مِرَا , وَعَلَى عُمَرَ الْمُحَدَّثِ عَنْ سِرِّهِ فَهُوَ بِنُورِ اللَّهِ يَرَى , وَعَلَى عُثْمَانَ زَوْجِ ابْنَتِهِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى , وَعَلَى عَلِيٍّ بَحْرِ الْعُلُومِ وَأَسَدِ الشَّرَى , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الرَّفِيعِ الْقَدْرِ الشَّامِخِ الذُّرَى. قَالَ اللَّهُ: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا ترى} . الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ: مَشْيُهُ مَعَهُ وَتَصَرُّفُهُ , وَكَانَ حِينَئِذٍ ابْنَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً , وَهَذَا الزَّمَانُ أَحَبُّ ما يكون الولد إلى والده , لأَنَّهُ وَقْتٌ يَسْتَغْنِي فِيهِ عَنْ مَشَقَّةِ الْحَضَانَةِ وَالتَّرْبِيَةِ , وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ وَقْتَ الأَذَى وَالْعُقُوقِ , فَكَانَتِ الْبَلْوَى أَشَدَّ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الذَّبِيحِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ. قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ , وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ المسيب وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ وَالْقُرَظِيُّ , فِي آخرين.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِسْحَاقُ. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ , وَأَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ. قَالُوا: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ الْمَأْمُونُ , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَرْبِيُّ , حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ كعب , حدثنا عبد الله ابن عَبْدِ الْمُؤْمِنِ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ , عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ , عَنِ الْحَسَنِ , عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ , عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْحَاقُ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَكَعْبٍ وَوَهْبٍ وَمَسْرُوقٍ , فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ , وَهُوَ الصَّحِيحُ. أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ , أَنْبَأَنَا أَبُو طَالِبِ بْنُ غَيْلانَ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ حدثنا الهيثم ابن خلف , حدثنا أبو كريت , حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ , عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دينار , عن علي ابن زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ , عَنِ الْحَسَنِ , عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ , عَنِ الْعَبَّاسِ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَأَلَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَبَّهُ فَقَالَ: إِلَهِي أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. فَاجْعَلْنِي رَابِعًا. فَقَالَ: لَسْتَ هُنَاكَ , إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَعْدِلْ بِي شَيْئًا إِلا اخْتَارَنِي عَلَيْهِ , وَإِنَّ إِسْحَاقَ جَادَ لِي بِنَفْسِهِ , وَإِنَّ يَعْقُوبَ فِي طُولِ ما كان لم ييأس مِنْ يُوسُفَ ". وَأَمَّا سَبَبُ أَمْرِهِ بِذَبْحِهِ: فَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ , أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا بَشَّرَ سَارَّةَ بِإِسْحَاقَ قَالَتْ: مَا آيَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَأَخَذَ عُودًا يَابِسًا فِي يَدِهِ فَلَوَاهُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَاهْتَزَّ خَضِرًا , فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ , هُوَ للَّهِ إِذًا ذَبِيحٌ. فَلَمَّا كَبِرَ إِسْحَاقُ أُتِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ لَهُ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ. فَقَالَ لإِسْحَاقَ: انْطَلِقْ نُقَرِّبْ قُرْبَانًا إِلى اللَّهِ. وَأَخَذَ سِكِّينًا وَحَبْلا , ثُمَّ انْطَلَقَ مَعَهُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ بَيْنَ الْجِبَالِ فَقَالَ لَهُ الْغُلامُ: يَا أَبَتِ أَيْنَ قُرْبَانُكَ؟ قَالَ: " يَا بُنَيَّ إِنِّي أرى في المنام أني أذبحك " فَقَالَ إِسْحَاقُ: أَشْدِدْ رِبَاطِي كَيْ لا أَضْطَرِبُ , واكفف ثيابي لا يَنْتَضِحُ عَلَيْهَا مِنْ دَمِي فَتَرَاهُ سَارَّةُ فتحزن , وأٍ سرع مَرَّ السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ أَهْوَنَ لِلْمَوْتِ عَلَيَّ , وَإِذَا أَتَيْتَ سَارَّةَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مني.

فأقبل عليه إبراهيم يقبله ويبكي , وربطه وجر السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ فَلَمْ تَذْبَحِ السِّكِّينُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: انْقَلَبَتْ. فَنُودِيَ: " يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا " فَإِذَا بِكَبْشٍ فَأَخَذَهُ وَخَلَّى عَنِ ابْنِهِ وَأَكَبَّ عَلَيْهِ يُقَبِّلُهُ وَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ الْيَوْمَ وُهِبْتَ لِي. وَرَجَعَ إِلَى سَارَّةَ فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ فَقَالَتْ: أَرَدْتَ أَنْ تَذْبَحَ ابْنِي وَلا تُعْلِمَنِي؟! قَالَ شُعَيْبٌ الْجُبَّائِيُّ: لَمَّا عَلِمَتْ بِذَلِكَ مَاتَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَإِنَّمَا قَالَ: " فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى " أَيْ مَا عِنْدَكَ مِنَ الرَّأْيِ , وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُؤَامَرَةِ فِي أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ " قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ " أي ما أمرت. " فلما أسلما " أَيِ اسْتَسْلَمَا لأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرَضِيَا وَفِي جَوَابِ هَذَا قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ جَوَابَهُ " نَادَيْنَاهُ " وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ. قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ سَعِدَ وَأُثِيبَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: صَرَعَهُ عَلَى جَبِينِهِ فَصَارَ على أحد جبينيه على الأرض وهما جبينان والجبهة بينهما. {وناديناه} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نُودِيَ مِنَ الْجَبَلِ: {يَا إِبْرَاهِيمُ قد صدقت الرؤيا} وَفِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا قَدْ عَمِلْتَ بِمَا أُمِرْتَ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قَصَدَ الذَّبْحَ بِمَا أَمْكَنَهُ , فَطَاوَعَهُ الابْنُ بِالتَّمْكِينِ مِنَ الذَّبْحِ , إِلا أَنَّ اللَّهَ صَرَفَ ذَلِكَ كَمَا شَاءَ , فَصَارَ كَأَنَّهُ ذُبِحَ , وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الذَّبْحُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ مُعَالَجَةَ الذَّبْحِ وَلَمْ يَرَ إِرَاقَةَ الدَّمِ , فَلَمَّا فَعَلَ فِي الْيَقَظَةِ مَا رَأَى فِي الْمَنَامِ قِيلَ لَهُ: " قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا " وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَأَبُو عِمْرَانَ والجحدري: " قد صدقت الرؤيا " بتخفيف الدال. {إنا كذلك} أَيْ كَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعَفْوِ عَنْ ذَبْحِ ولده , كذلك {نجزي المحسنين} .

{إن هذا لهو البلاء المبين} وَفِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: النِّعْمَةُ الْبَيِّنَةُ وَهُوَ الْعَفْوُ عَنِ الذَّبْحِ. وَالثَّانِي: الاخْتِبَارُ الْعَظِيمُ , وَهُوَ امْتِحَانُهُ بالذبح {وفديناه بذبح} وَهُوَ بِكَسْرِ الذَّالِ اسْمُ مَا ذُبِحَ وَبِفَتْحِهَا مَصْدَرُ ذَبَحْتَ. وَالْمَعْنَى: خَلَّصْنَاهُ مِنَ الذَّبْحِ بِأَنْ جَعَلْنَا الذَّبْحَ فِدَاءً لَهُ. وَفِي هَذَا الذَّبْحِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ كَبْشًا أَقْرَنَ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ عَامًا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ. و [قال] فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: هُوَ الْكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَهُ ابْنُ آدَمَ فَتُقُبِّلَ مِنْهُ , كَانَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى فُدِيَ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فَدَى ابْنَهُ بِكَبْشَيْنِ أَبْيَضَيْنِ أَعْيَنَيْنِ أَقْرَنَيْنِ. رَوَاهُ الطُّفَيْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ ذَكَرًا مِنَ الأَرْوَى أُهْبِطَ عَلَيْهِ مِنْ ثبير قاله الحسن. وفي قوله {عظيم} قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: لأَنَّهُ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَقَبَّلٌ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ ذَلِكَ بِإِيلِيَاءَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ. سُبْحَانَ الْمُفَاوِتِ بَيْنَ الْخَلْقِ! يُقَالُ لِلْخَلِيلِ: اذْبَحْ وَلَدَكَ. فَيَأْخُذُ الْمُدْيَةَ وَيُضْجِعُهُ لِلذَّبْحِ , وَيُقَالُ لِقَوْمِ مُوسَى: {اذْبَحُوا بَقَرَةً} فذبحوها وما كادوا يفعلون! وَيُخْرِجُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ , وَيَبْخَلُ ثَعْلَبَةُ بِالزَّكَاةِ! وَيَجُودُ حَاتِمٌ بِقُوتِهِ , وَيَبْخَلُ بِضَوْءِ نَارِهِ الحُباحِب. وَكَذَلِكَ فَاوَتَ بَيْنَ الْفُهُومِ فَسَحْبَانُ أَنْطَقُ مُتَكَلِّمٍ , وَبَاقِلٌ أَقْبَحُ مِنْ أَخْرَسَ. وَفَاوَتَ بَيْنَ الأَمَاكِنِ فَزَرُودٌ تَشْكُو الْعَطَشَ وَالْبَطَائِحُ تَصِيحُ: الْغَرَقَ. قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: لَمْ يَمُتْ إِبْرَاهِيمُ حتى نبىء إِسْحَاقُ وَبُعِثَ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ زَوَّجَ إِسْحَاقَ أروقَةَ بِنْتَ بتاويلَ , فَوَلَدَتْ لَهُ الْعَيْصَ وَيَعْقُوبَ , وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً. فَأَمَّا الْعَيْصُ فَتَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ إِسْمَاعِيلَ , فَوَلَدَتْ لَهُ الرُّومَ , فَكُلُّ بَنِي الأَصْفَرِ مِنْ وَلَدِهِ وَكَثُرَ أَوْلادُهُ حَتَّى غَلَبُوا الْكَنْعَانِيِّينَ بِالشَّامِ وَصَارُوا إِلَى الْبَحْرِ وَالسَّوَاحِلِ وَصَارَ الْمُلُوكُ مِنْ وَلَدِهِ وَهُمُ الْيُونَانِيَّةُ. وَأَمَّا يَعْقُوبُ فَتَزَوَّجَ ليَا فَوَلَدَتْ أَكْثَرَ أَوْلادِهِ , ثُمَّ تَزَوَّجَ رَاحِيلَ فَوَلَدَتْ لَهُ

الكلام على البسملة

يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ. وَعَاشَ إِسْحَاقُ مِائَةً وَسِتِّينَ سَنَةً , وَتُوُفِّيَ بِفَلَسْطِينَ وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ. إِخْوَانِي: تَأَمَّلُوا عَوَاقِبَ الصَّبْرِ , وَتَخَايَلُوا فِي الْبَلاءِ نُورَ الأَجْرِ , فَمَنْ تَصَوَّرَ زَوَالَ الْمِحَنِ وَبَقَاءَ الثَّنَاءِ هَانَ الابْتِلاءُ عَلَيْهِ , وَمَنْ تَفَكَّرَ فِي زَوَالِ اللَّذَّاتِ وَبَقَاءِ الْعَارِ هَانَ تَرْكُهَا عِنْدَهُ , وَمَا يُلاحِظُ الْعَوَاقِبَ إِلا بَصَرٌ ثَاقِبٌ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (فِرَاكَ مِنَ الأَيَّامِ نَابٌ وَمِخْلَبٌ ... وَخَانَكَ لَوْنُ الرَّأْسِ وَالرَّأْسُ أَشْيَبُ) (فَحَتَّامَ لا تَنْفَكُّ جَامِحَ هِمَّةٍ ... بَعِيدَ مَرَامِي النَّفْسِ وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ) (تُسَرُّ بِعَيْشٍ أَنْتَ فِيهِ مُنَغَّصٌ ... وَتَسْتَعْذِبُ الدُّنْيَا وأنت معذب) (تغذيك والأوقات جسمك تغتدي ... وَتَسْقِيكَ وَالسَّاعَاتُ رُوحَكَ تَشْرَبُ) (وَتَعْجَبُ مِنْ آفَاتِهَا مُتَلَفِّتًا ... إِلَيْهَا، لَعَمْرُ اللَّهِ فِعْلُكَ أَعْجَبُ) (وَتَحْسَبُهَا بِالْبِشْرِ تُبْطِنُ خَلَّةً ... فَيَظْهَرُ مِنْهَا غَيْرُ مَا تتحسب) (إذا رضيت أعمتك عن طُرُقِ الْهُدَى ... فَمَا ظَنُّ ذِي لُبٍّ بِهَا حِينَ تَغْضَبُ) (وَفِي سَلْبِهَا ثَوْبَ الشَّبَابِ دَلالَةٌ ... عَلَى أَنَّهَا تُعْطِي خِدَاعًا وَتَسْلُبُ) (أَتَرْضَى بِأَنْ يَنْهَاكَ شَيْبُكَ وَالْحِجَا ... وَأَنْتَ مَعَ الأَيَّامِ تَلْهُو وَتَلْعَبُ) (أَجِدُكَ لا تَسْمَعُ لِدُنْيَاكَ مَوْعِدًا ... وَلا تَتَرَجَّ الرِّيَّ وَالْبَرْقُ خُلَّبُ) (وَدُونَكَ دِرْيَاقُ التَّرَجِّي مِنَ الْوَرَى ... فَكُلٌّ عَلَى التَّجْرِيبِ صِلٌّ وَعَقْرَبُ) إِخْوَانِي: الأَيَّامُ لَكُمْ مَطَايَا , فَأَيْنَ الْعُدَّةُ قَبْلَ الْمَنَايَا , أَيْنَ الأَنَفَةُ مِنْ دَارِ الأَذَايَا , أَيْنَ الْعَزَائِمُ؟ أَتَرْضَوْنَ الدَّنَايَا , إِنَّ بَلِيَّةَ الْهَوَى لا تُشْبِهُ الْبَلايَا , وَإِنَّ خَطِيئَةَ الإِصْرَارِ لا كَالْخَطَايَا , وَسَرِيَّةَ الْمَوْتِ لا تُشْبِهُ السَّرَايَا , وَقَضِيَّةَ الأَيَّامِ لا كَالْقَضَايَا , رَاعِي السَّلامَةِ يَقْتُلُ الرَّعَايَا [رَامِي التَّلَفِ يُصْمِي الرَّمَايَا] , مَلَكُ الْمَوْتِ لا يَقْبَلُ الْهَدَايَا , يَا مَسْتُورِينَ سَتَظْهَرُ الْخَبَايَا. اسْتَغْفِرُوا [اللَّهَ] خَجَلا مِنَ الْعَثَرَاتِ , ثُمَّ اسْكُبُوا حُزْنًا لَهَا الْعَبَرَاتِ , عَجَبًا لِمُؤْثِرِ الْفَانِيَةِ عَلَى الْبَاقِيَةِ , وَلِبَائِعِ الْبَحْرِ الْخِضَمِّ بِسَاقِيَةٍ , وَلِمُخْتَارِ دَارِ الْكَدَرِ عَلَى

الصَّافِيَةِ , وَلِمُقَدِّمِ حُبِّ الأَمْرَاضِ عَلَى الْعَافِيَةِ , أَيُّهَا الْمُسْتَوْطِنُ بَيْتَ غُرُورِهِ تَأَهَّبْ لإِزْعَاجِكَ , أَيُّهَا الْمُسْرُورُ بِقُصُورِهِ تَهَيَّأْ لإِخْرَاجِكَ , خُذْ عُدَّتَكَ وَقُمْ فِي قَضَاءِ حَاجَتِكَ قَبْلَ فِرَاقِ أَوْلادِكَ وَأَزْوَاجِكَ , مَا الدُّنْيَا دَارُ مَقَامِكَ , بَلْ حَلْبَةُ إِدْلاجِكَ: (أَيُّهَا النَّاكِبُ عَنْ نَهْجِ الْهُدَى ... وَهُوَ بَادٍ وَاضِحٌ لِلسَّالِكِينْ) (إِلْهُ عَنْ ذِكْرِ التَّصَابِي إِنَّهُ ... سَرَفٌ بَعْدَ بُلُوغِ الأَرْبَعِينْ) (وَاجْعَلِ التَّقْوَى مَعَاذًا تَحْتَمِي ... بِحِمَاهُ إِنَّهُ حِصْنٌ حَصِينْ) (وَاسْأَلِ اللَّهَ تَعَالَى عَفْوَهُ ... وَاسْتَعِنْهُ إِنَّهُ خَيْرُ مُعِينْ) أَتَأْمَنُ بَطْشَ ذِي الْبَطْشِ , وَتُبَارِزُهُ عَالِمًا بِرُؤْيَتِهِ وَلَمْ تَخْشَ , يَا مَنْ إِذَا وَزَنَ طَفَّفَ وَإِذَا بَاعَ غش , أنسيت النزول فِي بَيْدَاءِ الدَّبِيبِ وَالْوَحْشِ , أَنَسِيتَ الْحُلُولَ فِي لَحْدٍ خَشِنِ الْفَرْشِ , يَا مُغْتَرًّا بِزُخْرُفِ الْهَوَى قَدْ أَلْهَاهُ النَّقْشُ , إِذَا جَنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ فَعَلَى مَنِ الأَرْشُ , يَا مَنْ إِذَا جَاءَ الْفَرْضُ الْتَوَى وَإِذَا حَانَ اللَّهْوُ هَشَّ , يَا من لا يصبر لِلْقَضَاءِ وَلَوْ عَلَى خَدْشٍ , كُنْ مُسْتَيْقِظًا فَإِنَّكَ بِعَيْنِ ذِي الْعَرْشِ: (تَعَلَّلُ بِالآمَالِ وَالْمَوْتُ أَسْرَعُ ... وَتَغْتَرُّ بِالأَيَّامِ وَالْوَعْظُ أَنْفَعُ) (وَمَا الْمَرْءُ إِمَّا لَمْ يَمُتْ فَهُوَ ذَائِقٌ ... فِرَاقَ الأَخِلاءِ الَّذِي هُوَ أَوْجَعُ) (فَوَدِّعْ خَلِيلَ النَّفْسِ قَبْلَ فِرَاقِهِ ... فَمَا النَّاسُ إِلا ظَاعِنٌ أَوْ مُوَدِّعُ) يَا حَزِينًا عَلَى فِرَاقِ مَوْتَاهُ , كَئِيبًا لِمَطْلُوبِ مَا وَاتَاهُ , كَأَنَّهُ بِالْمَوْتِ قَدْ أَتَاهُ , فَأَلْحَقَهُ مَا أباه أباه , ووافاه ما أطيق [فَاهُ] فَمَا فَاهَ: (يَا كَثِيرَ الْحِرْصِ مَشْغُولا ... بِدُنْيَا لَيْسَ تَبْقَى) (مَا رَأَيْنَا الْحِرْصَ أَدْنَى ... مِنْ حَرِيصٍ قَطُّ رِزْقَا) (لا وَلَكِنْ فِي قَضَاءِ اللَّهِ ... أَنْ نَعْنَى وَنَشْقَى) (قَدْ رَأَيْنَا الْمَوْتَ أَفْنَى ... قَبْلَنَا خَلْقًا فَخَلْقَا) (دُرِّجُوا قَرْنًا فَقَرْنًا ... وَبَقَى مَنْ لَيْسَ يَبْقَى) قَدِمَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ ابْنُ عَمٍّ لَهُ فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا. فَقَالَ: هَلْ أَدْرَكْتَهَا؟ قَالَ: لا. قَالَ: واعجبا! أَنْتَ تَطْلُبُ شَيْئًا لَمْ تُدْرِكْهُ ,

فَكَيْفَ تُدْرِكُ شَيْئًا لَمْ تَطْلُبْهُ. يَا هَذَا عَلَيْكَ بِالْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ , وَخَلِّ [هَذَا] الْكَسَلَ وَالرُّقَادَ فَطَرِيقُكَ لا بُدَّ لَهَا مِنْ زَادٍ. (انْهَضْ إِلَى الْمَعَالِي ... وَأَقْبِلْ وَلا تُبَالِي) (وَخُذْ مِنَ الزَّمَانِ ... حَظًّا فَأَنْتَ فَانِي) (الْهِمَمُ الْعَلِيَّةْ ... وَالْمُهَجُ الأَبِيَّةْ) (تُقَرِّبُ الْمَنِيَّةْ ... مِنْكَ أَوِ الأُمْنِيَّةْ) (الْمَجْدُ بِالْمُخَاطَرَةْ ... وَالنَّصْرُ بِالْمُصَابَرَةْ) (كَمْ رَاحَةٍ فِي الْعُزْلَةْ ... وَعَمَلٍ فِي الْعُطْلَةْ) (لَيْسَ يَدُومُ حَالٌ ... شَحْمُ الْمُنَى هُزَالٌ) (مَا لِلْوَرَى فِي غَفْلَةْ ... قَدْ خُدِعُوا بِالْمُهْلَةْ) (أَلا لَبِيبٌ يَعْقِلُ ... أَلا جَهُولٌ يَسْأَلُ) (أَأَنْتُمُ فِي رِيبَةْ ... مَا أَعْظَمُ الْمُصَيِبةْ) (دُنْيَاكُمُ حَبِيبَةْ ... لِحُسْنِهَا وَالطِّيبَةْ) (لَكِنَّهَا غَدَّارَةْ ... خَدَّاعَةٌ غَرَّارَةْ) (لَيْسَ لَهَا حَبِيبُ ... زَوَالُهَا قَرِيبُ) (كَالْمُومِسِ الْبَغِيِّ ... تَلْبَسُ كُلَّ زِيِّ) (خَلَوبَةٌ خَوَّانَةْ ... لَيْسَ لَهَا أَمَانَةْ) (عَزِيزُهَا ذَلِيلُ ... كَثِيرُهَا قَلِيلُ) (تُفَرِّقُ الأَحْبَابَا ... تُشَتِّتُ الأَتْرَابَا) (حَرْبٌ لِمَنْ سَالَمَهَا ... تَمَلُّ مَنْ لازَمَهَا) (لِقَاؤُهَا فِرَاقُ ... وَعُرْسُهَا طَلاقُ) (وِصَالُهَا صدود ... ووعدها وعيد) (وصالها عنا ... صدودها بلا) (عُقُودُهَا مَنْقُوضَةْ ... عُهُودُهَا مَرْفُوضَةْ) (شَرَابُهَا سَرَابُ ... نَعِيمُهَا عذاب)

الكلام على قوله تعالى

(إِنْ أَقْبَلَتْ فَفِتْنَةْ ... أَوْ أَدْبَرَتْ فَمِحْنَةْ) (أَخْلاقُهَا مَذْمُومَةْ ... لَذَّاتُهَا مَسْمُومَةْ) (يَحْظَى بِهَا الْجُهَّالُ ... وَيَنْعَمُ الأنذال) (يشقى بها اللبيب ... ويتعب الأريب) (فحل عَنْهَا يَا فَتَى ... إِلَى مَتَى إِلَى مَتَى!) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ به} فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ الأَدْيَانِ اخْتَصَمُوا. فَقَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ: كِتَابُنَا خَيْرُ الْكُتُبِ , وَنَبِيُّنَا خَيْرُ الأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ: مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُنَا نَسَخَ كُلَّ كِتَابٍ. وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ قَالَتْ لا نُبْعَثُ وَلا نُحَاسَبُ وَلا نُعَذَّبُ. فَنَزَلَتْ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالُوا: لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ غَيْرُنَا. وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: لا نُبْعَثُ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اسْمُ لَيْسَ مُضْمَرٌ. وَالْمَعْنَى لَيْسَ ثَوَابُ اللَّهِ بِأَمَانِيِّكُمْ. وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَى الثَّوَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحتها الأنهار} وانسوا المعاصي والجزاء واقع بالعاصي. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي خَالِدٍ , عَنْ أَبِي

بَكْرِ بْنِ زُهَيْرٍ الثَّقَفِيِّ , قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: " لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يعمل سوءا يجزبيه " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنُجَازَى بِكُلِّ سُوءٍ نَعْمَلُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَلَسْتَ تنصب ألست تحزن , أليس تصيبك اللأْوَاءُ؟. فَهَذَا مَا تُجْزَوْنَ بِهِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {مَنْ يَعْمَلْ سوءا يجر به} بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا وَالشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا ". وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا جُوزِيَ بِذَنْبٍ عُجِّلَ لَهُ جَزَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابن نَصْرٍ , أَنْبَأَنَا طِرَادٌ , أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيُّ , أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ , أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُلاعِبٍ , حَدَّثَنَا عَفَّانُ , عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ , حَدَّثَنَا يُونُسُ , عَنِ الْحَسَنِ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ , أَنَّ رَجُلا أَتَى امْرَأَةً كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَغِيًّا فَجَعَلَ يُلاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا , فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: مَهْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَهَبَ بِالشِّرْكِ وَجَاءَ بِالإِسْلامِ. فَوَلَّى الرَّجُلُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ جِدَارٌ فَأَدْمَاهُ , فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: " أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا، إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ , وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ عَنْهُ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ بَعِيرٌ ". وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَفَكَّرَ فِي ذَنْبِهِ وَجَدَ الزَّمَانَ الَّذِي عَصَى فِيهِ قد خلا عن طاعة وَامْتَلأَ بِخَطِيئَةٍ , ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ يَتَشَاغَلُ فِيهِ بِالتَّوْبَةِ , ثُمَّ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا سَبَقَ. وَيَكْفِي هَذَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ: لَوْ أَنَّ عِبَادِيَ أَطَاعُونِي لأَسْقَيْتُهُمُ الْمَطَرَ بِاللَّيْلِ وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ، وَلَمَا أَسْمَعْتُهُمْ صَوْتَ الرَّعْدِ ". أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَحَلِّيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ , أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ بِشْرَانَ ,

أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْبَرْدَعِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ , حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ , حَدَّثَنِي أَبُو ضَمْرَةَ , عَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , عَنْ فَرْوَةَ بْنِ قَيْسٍ , عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا ظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى أَعْلَنُوهَا إِلا ابْتُلُوا بِالطَّوَاعِينِ وَالأَوْجَاعِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا , وَلا نَقَصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلا ابْتُلُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمُؤْنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ , وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا , وَلا خَفَرَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذَ بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. قَالَ الْقُرَشِيُّ: وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ , قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ , قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الأَبَّارُ , عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ , عَنْ كُرْدُوسٍ التَّغْلِبِيِّ , قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ , وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا قَالَ: مَرَرْتُ عَلَى قَرْيَةٍ تَتَزَلْزَلُ فَوَقَفْتُ قَرِيبًا أَنْظُرُ , فَخَرَجَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَقُلْتُ: ما وراءك؟ فقال: تركتها تتزلزل وإن الحائطان لَيَصْطَكَّانِ وَيُرْمَى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ , فَقُلْتُ: وَمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ؟ قَالَ: كَانُوا يَأْكُلُونَ الرِّبَا. وَقَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: أَعْيَانِي قِيَامُ اللَّيْلِ؟ قَالَ: قَيَّدَتْكَ خَطَايَاكَ! أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ , عَنْ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ , أَنْبَأَنَا أَبُو الْفَضْلِ لزهري , حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الذَّهَبِيُّ , حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ , حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ المثنى , حدثنا عَبْدُ الْقُدُّوسِ الْحَوَارِيُّ , عَنْ هِشَامٍ قَالَ: اغْتَمَّ ابْنُ سِيرِينَ مَرَّةً فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا هَذَا الْغَمُّ؟ قَالَ: هَذَا بِذَنْبٍ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ , قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي صَادِقٍ , قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ , قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ فَارِسٍ يَقُولُ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ قَرِينٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ يَقُولُ: مَنْ هَمَّ بِذَنْبٍ لَمْ يَعْمَلْهُ عُوقِبَ بِذَنْبٍ لَمْ يَعْرِفْهُ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ , أَنْبَأَنَا أَبُو الْغَنَائِمِ الدَّجَاجِيُّ , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْرُوفٍ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الْجَوْهَرِيُّ , حَدَّثَنَا هَاشِمُ

بْنُ الْقَاسِمِ , عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ , عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي الإِنْجِيلِ: تَعْمَلُونَ الْخَطَايَا وَتُنْكِرُونَ الْعُقُوبَةَ! يَا مَنْ مَعَاصِيهِ جَمَّةٌ مَشْهُورَةٌ وَنَفْسُهُ بِمَا يَجْنِي عَلَيْهَا مَسْرُورَةٌ , أَفِي الْعَيْنِ كَمَهٌ أَمْ عَشَى , أَإِلَيْكَ الأَمْرُ كَمَا تشاء , أَعَلَى الْقَلْبِ حِجَابٌ أَمْ غِشَا , يَا كَثِيرَ الْمَعَاصِي قَعَدَ أَوْ مَشَى , عَظُمَتْ ذُنُوبُكَ فَمَتَى تَقْضِي , يَا مُقِيمًا وَهُوَ فِي الْمَعْنَى يَمْضِي , أَفْنَيْتَ الزَّمَانَ فِي الْخَطَايَا ضِيَاعًا , وَسَاكَنْتَ غُرُورًا مِنَ الأَمَلِ وَأَطْمَاعًا , وَصِرْتَ فِي تَحْصِيلِ الدُّنْيَا مُحْتَرِفًا صَنَّاعًا , تُصْبِحُ جَامِعًا وَتُمْسِي مَنَّاعًا , فَتِّشْ عَلَى قَلْبِكَ وَلُبِّكَ قَدْ ضَاعَا تَفَكَّرْ فِي عُمْرِكَ مَضَى نَهْبًا , مُشَاعًا لا فِي الشَّبَابِ أَصْلَحْتَ وَلا فِي الْكُهُولَةِ أَفْلَحْتَ , كَمْ حَمَّلْتَ أَزْرَكَ وِزْرًا ثَقِيلا , وَاجْتَرَحْتَ يَا بُعْدَ صَلاحِ ما جرحت، يا سيء السَّرِيرَةِ كَمْ عَلَيْكَ جَرِيرَةٍ , وَيْحَكَ أَتَنْسَى الْحَفِيرَةَ , أَمْ هِيَ عِنْدَكَ حَقِيرَةٌ , أَيَّامُ عُمْرِكَ قَصِيرَةٌ وَتُضَيِّعُهَا عَلَى بَصِيرَةٍ لَقَدْ قَطَعَ الأَجَلُ مَسِيرَةً وَلَكِنْ عَلَى أَقْبَحِ سِيرَةٍ , ذُنُوبُكَ جَمَّةٌ كَثِيرَةٌ , وعينك به قَرِيرَةٌ , مَا تُظْلَمُ بِهَا مِقْدَارَ شَعِيرَةٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: إِنَّمَا الدُّنْيَا سُوقٌ خَرَجَ النَّاسُ مِنْهَا بِمَا يَضُرُّهُمْ وَبِمَا يَنْفَعُهُمْ , وَكَمِ اغْتَرَّ نَاسٌ فَخَرَجُوا مَلُومِينَ وَاقْتَسَمَ مَا جَمَعُوا مَنْ لَمْ يَحْمَدْهُمْ , وَصَارُوا إِلَى مَنْ لا يَعْذِرُهُمْ فَيَحِقُّ لَنَا أَنْ نَنْظُرَ إِلَى مَا نَغْبِطُهُمْ بِهِ مِنَ الأَعْمَالِ فَنَعْمَلُهَا وَإِلَى مَا نَتَخَوَّفُ فَنَجْتَنِبُهَا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْمَغْبُونُ مَنْ عَطَّلَ أَيَّامَهُ بِالْبَطَالاتِ وَسَلَّطَ جَوَارِحَهُ عَلَى الْهَلَكَاتِ , وَمَاتَ قَبْلَ إِفَاقَتِهِ مِنَ الْجِنَايَاتِ: (بَدَتْ دَهْيَاءُ تُنْذِرُ بِالْخُطُوبِ ... نُلاحِظُهَا بِأَبْصَارِ الْقُلُوبِ) (وَقَدْ دَلَّ الْمَجِيءُ عَلَى ذَهَابٍ ... كَمَا دَلَّ الطلوع على الغروب) يا هذا الطالب حييت فَبَادِرْ , وَالْفَضَائِلُ مُعْرِضَةٌ فَثَابِرْ , اتْرُكِ الْهَوَى مَحْمُودًا , قبل أن يتركك مَذْمُومًا , إِنْ فَاتَتْكَ قَصَبَاتُ السَّبْقِ فِي الْوَلايَةِ , فلا تفوتنك

سجع على قوله تعالى

سَاعَاتُ النَّدَمِ فِي الإِنَابَةِ , آهٍ لِلِسَانٍ نَطَقَ بِإِثْمٍ كَيْفَ غَفَلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نختم على أفواههم} آهٍ لَيَدٍ امْتَدَّتْ لِلْحَرَامِ كَيْفَ نَسِيَتْ: {وَتُكَلِّمُنَا أيديهم} آهٍ لَقَدَمٍ سَعَتْ فِي الآثَامِ كَيْفَ لَمْ تتدبر: {وتشهد أرجلهم} آه لجسد ربا عَلَى الرِّبَا , أَمَا سَمِعَ مُنَادِيَ التَّحْذِيرِ عَلَى ربى: {فلا يربو عند الله} آهٍ لِذِي فَمٍ فَغَرَهُ لِتَفْرِيغِ كَأْسِ الْخَمْرِ , أما بلغه زجر: {فاجتنبوه} . (قَدْ كَانَ عُمْرُكَ مِيلا ... فَأَصْبَحَ الْمِيلُ شِبْرَا) (وَأَصْبَحَ الشِّبْرُ عُقْدًا ... فَاحْفِرْ لِنَفْسِكَ قَبْرَا) يَا مَنْ رَاحَ فِي الْمَعَاصِي وَغَدَا , وَيَقُولُ: سَأَتُوبُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا , كَيْفَ تَجْمَعُ قَلْبًا قَدْ صَارَ فِي الْهَوَى مُبَدَّدًا , كَيْفَ تُلِينُهُ وَقَدْ أَمْسَى بِالْجَهْلِ جَلْمَدًا , كَيْفَ تَحُثُّهُ وَقَدْ رَاحَ بِالشَّهَوَاتِ مُقَيَّدًا , لَقَدْ ضَاعَ قَلْبُكَ فَاطْلُبْ لَهُ ناشدا , تفكر بأي وجه تتلقى اردى , تَذَكَّرْ لَيْلَةَ تَبِيتُ فِي الْقَبْرِ مُنْفَرِدًا: (أَيُّهَا الْمَشْغُوفُ بِالدُّنْيَا ... صُبُوًّا وَغَرَامَا) (أَبَدًا هِيَ أَبَدًا تبطن ... في الشهد سماما) (تخضع الراضع بالدرر ... وَتُنْسِيهِ الْفِطَامَا) (فَإِذَا هَزَّ بِوَعْظٍ ... صَمَّ عَنْهُ وَتَعَامَى) (فَهُوَ كَالشَّاكِي الَّذِي يَزْدَادُ ... بِالطِّبِّ سِقَامَا) (وَكَمِثْلِ الطِّفْلِ فِي الْمَهْدِ إِذَا حُرِّكَ نَامَا ... ) سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يجز به} يَا مُعْرِضًا عَنِ الْهُدَى لا يَسْعَى فِي طَلَبِهِ , يَا مَشْغُولا بِلَهْوُهِ مَفْتُونًا بِلُعَبِهِ , يَا مَنْ قَدْ صَاحَ بِهِ الْمَوْتُ عِنْدَ أَخْذِ صاحبه {من يعمل سوءا يجز به} . جُزْ عَلَى قَبْرِ الصَّدِيقِ , وَتَلَمَّحْ آثَارَ الرَّفِيقِ , يُخْبِرْكَ عَنْ حُسْنِهِ الأَنِيقُ , أَنَّهُ

اسْتُلِبَ بِكَفِّ التَّمْزِيقِ , هَذَا لَحْدُهُ وَأَنْتَ غَدًا به {من يعمل سوءا يجز به} . كَمْ نُهِيَ عَنِ الْخَطَايَا وَمَا انْتَهَى , وَكَمْ زجرته الدنيا وهو يسعى لها , هذا ركنه الْقَوِيمُ قَدْ وَهَى , وَهَا أَنْتَ فِي سَلْبِهِ {من يعمل سوءا يجز به} . أَيْنَ مَنْ عَتَا وَظَلَمَ , وَلَقِيَ النَّاسُ مِنْهُ الأَلَمَ , اقْتَطَعَهُ الرَّدَى اقْتِطَاعَ الْجَلَمِ , فَمَا نَفَعَهُ مَا جَمَعَهُ , لا وَاللَّهِ وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ عِزُّ مَنْصِبِهِ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} . بَاتَ فِي لَحْدِهِ أَسِيرًا , لا يَمْلِكُ مِنَ الدُّنْيَا نَقِيرًا , بَلْ عَادَ بِوِزْرِ ذَنْبِهِ عَقِيرًا , وَأَصْبَحَ مِنْ مَالِهِ فَقِيرًا عَلَى عِزِّ نَسَبِهِ وَكَثْرَةِ نَشَبِهِ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} . اللذات تفنى عن قَلِيلٍ وَتَمُرُّ , وَآخِرُ الْهَوَى الْحُلْوِ مَرٌّ وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يُسِرُّ إِلا يَغُرُّ وَيَضُّرُ , ثُمَّ يَخْلُو ذُو الزَّلَلِ بِمُكْتَسَبِهِ {مَنْ يَعْمَلْ سوءا يجز به} . الْكِتَابُ يَحْوِي حَتَّى النَّظْرَةِ , وَالْحِسَابُ يَأْتِي عَلَى الذَّرَّةِ , وَخَاتِمَةُ كَأْسِ اللَّذَّاتِ مُرَّةٌ , وَالأَمْرُ جَلِيٌّ لِلْفُهُومِ مَا يُشْتَبَهُ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ به} . تَقُومُ فِي حَشْرِكَ ذَلِيلا , وَتَبْكِي عَلَى الذُّنُوبِ طَوِيلا , وَتَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِكَ وِزْرًا ثَقِيلا , وَالْوَيْلُ لِلْعَاصِي مِنْ قَبِيحِ مُنْقَلَبِهِ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يجز به} . يُجْمَعُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَعِيدٍ , وَيَنْقَسِمُونَ إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ , فَقَوْمٌ قَدْ حَلَّ بِهِمُ الْوَعِيدُ , وَقَوْمٌ قِيَامَتُهُمْ نُزْهَةٌ وَعِيدٌ , وَكُلُّ عَامِلٍ يَغْتَرِفُ مِنْ مَشْرَبِهِ. {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} . إِنَّمَا يَقَعُ الْجَزَاءُ عَلَى أَعْمَالِكَ , وَإِنَّمَا تَلْقَى غَدًا غِبَّ أَفْعَالِكَ وَقَدْ قَصَدْنَا إِصْلاحَ حَالِكَ , فَإِنْ كُنْتَ مُتَيَقِّظًا فَاعْمَلْ لِذَلِكَ وَإِنْ كُنْتَ نَائِمًا فَانْتَبِهْ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} .

المجلس العاشر في قصة لوط عليه السلام

المجلس العاشر فِي قِصَّةِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَحْكَمَ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا صُنْعًا , وَتَصَرَّفَ كَمَا شَاءَ إِعْطَاءً وَمَنْعًا , أَنْشَأَ الآدَمِيَّ مِنْ قَطْرَةٍ فَإِذَا هُوَ يَسْعَى , وَخَلَقَ لَهُ عَيْنَيْنِ لِيُبْصِرَ الْمَسْعَى , وَوَالَى لَدَيْهِ النِّعَمَ وَتْرًا وَشَفْعًا , وَضَمَّ إاليه زَوْجَةً تُدَبِّرُ أَمْرَ الْبَيْتِ وَتَرْعَى , وَأَبَاحَهُ مَحَلَّ الْحَرْثِ وَقَدْ فَهِمَ مَقْصُودَ الْمَرْعَى , فَتَعَدَّى قَوْمٌ إِلَى الْفَاحِشَةِ الشَّنْعَا , وَعَدُّوا سِتًّا سَبْعًا , فَرُجِمُوا بِالْحِجَارَةِ فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ صَرْعَى {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً} . أَحْمَدُهُ مَا أَرْسَلَ سَحَابًا وَأَنْبَتَ زَرْعًا , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ أَفْضَلِ نَبِيٍّ عَلَّمَ أُمَّتَهُ شَرْعًا , وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ الَّذِي كَانَتْ نَفَقَتُهُ لِلإِسْلامِ نَفْعًا وَعَلَى عُمَرَ ضَيْفِ الإِسْلامِ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ الْمُسْتَدْعَى وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي ارْتَكَبَ مِنْهُ الْفُجَّارُ بِدَعًا , وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي يُحِبُّهُ أَهْلُ السُّنَّةِ طَبْعًا , وَعَلَى الْعَبَّاسِ أَبِي الْخُلَفَاءِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَطْعًا. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذرعاً} هو لوط بن هاران بن تارخ , هو ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ , وَقَدْ آمَنَ بِهِ وَهَاجَرَ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ نَجَاتِهِ مِنَ النَّارِ , وَاخْتَتَنَ لُوطٌ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً , فَنَزَلَ إِبْرَاهِيمُ فِلَسْطِينَ وَنَزَلَ لُوطٌ الأُرْدُنَّ. فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى لُوطًا إِلَى أَهْلِ سَدُومَ , وَكَانُوا مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَرْتَكِبُونَ الْفَاحِشَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى عبادة الله ونهاهم عن الفاحشة. لم يزدهم ذلك

إِلا عُتُوًّا. فَدَعَا اللَّهَ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ , فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَأَقْبَلُوا مُشَاةً فِي صُورَةِ رِجَالٍ شَبَابٍ , فَنَزَلُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَقَامَ يَخْدِمُهُمْ , وَقَدَّمَ إِلَيْهِمُ الطَّعَامَ فلم يأكلوا , فقالوا: لا نأكل طعاماً إلى بِثَمَنِهِ. قَالَ: فَإِنَّ لَهُ ثَمَنًا. قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ: تَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَوَّلِهِ وَتَحْمَدُونَهُ عَلَى آخِرِهِ. فَنَظَرَ جِبْرِيلُ إِلَى مِيكَائِيلَ وَقَالَ: حَقٌّ لِهَذَا أَنْ يَتَّخِذَهُ اللَّهُ خَلِيلا! فَلَمَّا رَأَى امْتِنَاعَهُمْ خَافَ أَنْ يَكُونُوا لُصُوصًا , فَقَالُوا: " لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قوم لوط " فَضَحِكَتْ سَارَّةُ تَعَجُّبًا وَقَالَتْ: نَخْدِمُهُمْ بِأَنْفُسِنَا وَلا يَأْكُلُونَ طَعَامَنَا! فَقَالَ جِبْرِيلُ: أَيَّتُهَا الضَّاحِكَةُ أَبْشِرِي بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ , وَكَانَتْ بِنْتَ تِسْعِينَ سَنَةً وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. فَلَمَّا سَكَنَ رَوْعُ إِبْرَاهِيمَ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ مَلائِكَةٌ أخذ يناظرهم , فقال: أتهلكون قرية فيها أربعمائة مؤمن؟ قالوا: لا. قال: ثلاثمائة؟ قَالُوا: لا. قَالَ: مِائَتَانِ؟ قَالُوا: لا. قَالَ: أَرْبَعُونَ؟ قَالُوا: لا. قَالَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ؟ قَالُوا: لا. وَكَانَ يَعُدُّهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَعَ امْرَأَةِ لوط. فقال: إن فيها لوطاً. قالوا: نحن أعلم بمن فيها. فَسَكَتَ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ. ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ فَجَاءُوا إِلَى لُوطٍ وَهُوَ فِي أَرْضٍ لَهُ يَعْمَلُ , فَقَالُوا: إِنَّا مُتَضَيِّفُونَ اللَّيْلَةَ بِكَ. فَانْطَلَقَ بِهِمْ وَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمُونَ مَا يَعْمَلُ أَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَخْبَثَ مِنْهُمْ! فَلَمَّا دَخَلُوا مَنْزِلَهُ انْطَلَقَتِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْ قومها. قوله تعالى: {سيء بهم} أَيْ سَاءَهُ مَجِيءُ الرُّسُلِ , لأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُمْ وَخَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ ضَاقَ بِفُلانٍ أَمْرُهُ ذَرْعًا إِذَا لَمْ يَجِدْ مِنَ الْمَكْرُوهِ مَخْلَصًا. وَقَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: ضَاقَ بِهِمْ وِسْعُهُ , فَنَابَ الذَّرْعُ عن الوسع {وقال هذا يوم عصيب} يُقَالُ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [وَعَصَبْصَبٌ] إِذَا كَانَ شديداً.

{وجاءه قومه يهرعون إليه} قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: لا يَكُونُ الإِهْرَاعُ إِلا إِسْرَاعًا مَعَ رِعْدَةٍ. قَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: الإِهْرَاعُ فِعْلٌ وَاقِعٌ بِالْقَوْمِ , وَهُوَ لَهُمْ فِي الْمَعْنَى , كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ: قَدْ أُولِعَ الرَّجُلُ بِالأَمْرِ فَجَعَلُوهُ مَفْعُولا وَهُوَ صَاحِبُ الْفِعْلِ , وَمِثْلُهُ: " أُرْعِدَ زيد " و " سهى عَمْرٌو " مِنَ السَّهْوِ. كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَفَاعِيلِ خَرَجَ الاسْمُ مَعَهُ مُقَدَّرًا تَقْدِيرَ الْمَفْعُولِ , وَهُوَ صَاحِبُ الْفِعْلِ لا يُعْرَفُ لَهُ فَاعِلٌ غيره. قوله تعالى: {ومن قبل} أي مجيء الأضياف {كانوا يعملون السيئات} فقال لوط: {هؤلاء بناتي} يَعْنِي النِّسَاءَ وَلِكَوْنِهِنَّ مِنْ أُمَّتِهِ صَارَ كَالأَبِّ لهن {أطهر لكم} أي أحل {فاتقوا الله} أَيِ احْذَرُوا عُقُوبَتَهُ {وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} أَيْ لا تَفْعَلُوا بِهِمْ فِعْلا يُوجِبُ حَيَائِي {أليس منكم رجل رشيد} فَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ {قَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أَيْ مِنْ حَاجَةٍ {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} أَيْ إِنَّمَا نُرِيدُ الرِّجَالَ لا النِّسَاءَ. قَالَ: {لو أن لي بكم قوة} أَيْ جَمَاعَةً أَقْوَى بِهِمْ عَلَيْكُمْ {أَوْ آوِي إلى ركن شديد} أَيْ إِلَى عَشِيرَةٍ مَنِيعَةٍ. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَغْلَقَ بَابَهُ وَهُمْ يُعَالِجُونَ الْبَابَ وَيَرُومُونَ تَسَوُّرَ الْجِدَارِ فَلَمَّا رَأَتِ الْمَلائِكَةُ مَا يَلْقَى مِنَ الْكَرْبِ {قَالُوا: يَا لُوطُ إنا رسل ربك} فَافْتَحِ الْبَابَ وَدَعْنَا وَإِيَّاهُمْ. فَفَتَحَ الْبَابَ وَدَخَلُوا. وَاسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي عُقُوبَتِهِمْ فَأَذِنَ [لَهُمْ] فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ وُجُوهَهُمْ فَأَعْمَاهُمْ فَانْصَرَفُوا يَقُولُونَ النَّجَاءَ النَّجَاءَ إِنَّ فِي دَارِ لُوطٍ أَسْحَرَ قَوْمٍ فِي الأَرْضِ. وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا لُوطُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى تُصْبِحَ. [يُوعِدُونَهُ] . فَقَالَ لهم لوط: متى موعد هلاكهم؟ قالوا: لصبح. قَالَ لَوْ أَهْلَكْتُمُوهُمُ الآنَ؟ فَقَالُوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بقريب! ثم قالت له الملائكة: " فأسر بأهلك ". فَخَرَجَ بِامْرَأَتِهِ وَابْنَتَيْهِ وَأَهْلِهِ وَبَقَرِهِ وَغَنَمِهِ {بِقِطْعٍ من الليل} أَيْ بِبَقِيَّةٍ تَبْقَى مِنْ آخِرِهِ.

الكلام على البسملة

وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جِبْرِيلَ: تَوَلَّ هَلاكَهُمْ. فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ غَدَا عَلَيْهِمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام فاحتمل بلادهم على جناحه , وكان خَمْسَ قُرَى أَعْظَمُهَا سَدُومُ , فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مِائَةُ أَلْفٍ , فَلَمْ يَنْكَسِرْ فِي وَقْتِ رَفْعِهِمْ إِنَاءٌ , ثُمَّ صَعِدَ بِهِمْ حَتَّى خَرَجَ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ لا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ وَسَمِعَتِ الْمَلائِكَةُ نُبَاحَ كِلابِهِمْ , ثُمَّ كَفَأَهَا عَلَيْهِمْ وَسَمِعُوا وَجْبَةً شَدِيدَةً , فَالْتَفَتَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ فَرَمَاهَا جِبْرِيلُ بِحَجَرٍ , فَقَتَلَهَا , ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ جَعَلَ يَتْبَعُ مُسَافِرَهُمْ وَرُعَاتَهُمْ وَمَنْ تَحَوَّلَ عَنِ الْقَرْيَةِ , فَرَمَاهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلَهُمْ. وَكَانَتِ الْحِجَارَةُ مِنْ سِجِّيلٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هو الشديد الصلب من الحجارة " مسومة ". أَيْ مُعَلَّمَةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْحَجَرُ أَسْوَدُ وَفِيهِ نُقْطَةٌ بَيْضَاءُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: كَانَ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ مِنْهَا اسْمُ صَاحِبِهِ. وَحَكَى عَنْ مَنْ رَآهَا قَالَ: كَانَتْ مِثْلَ رُءُوسِ الإِبِلِ وَمِثْلَ قَبْضَةِ الرَّجُلِ. {وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين ببعيد} تَخْوِيفٌ لِلْمُخَالِفِينَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الله ابن أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ , عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ". وَرَوَى أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ نَقَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَحْشُرَهُ مَعَهُمْ ". فَلْتَحْذَرْ مَغَبَّةَ الخطايا والذنوب فإنها بصاحبها إلى الغضب تؤوب , الْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ عَلامِ الْغُيُّوبِ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (يَا عَامِرًا لِخَرَابِ الدَّهْرِ مُجْتَهِدًا ... تَاللَّهِ مَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ عُمْرَانُ)

(وَكُلُّ وِجْدَانِ حَظٍّ لا ثَبَاتَ لَهُ ... فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي التَّحْقِيقِ فُقْدَانُ) (صُنِ الْفُؤَادَ عَنِ الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... فَصَفْوُهَا كَدَرٌ وَالْوَصْلُ هُجْرَانُ) يَا هَذَا الأَيَّامُ ثَلاثَةٌ: أَمْسِ قَدْ مَضَى بِمَا فِيهِ , وَغَدًا لَعَلَّكَ لا تُدْرِكُهُ , وَإِنَّمَا هُوَ يَوْمُكَ هَذَا فَاجْتَهِدْ فِيهِ. للَّهِ دَرُّ مَنْ تَنَبَّهَ لِنَفْسِهِ وَتَزَوَّدَ لِرَسْمِهِ، وَاسْتَدْرَكَ مَا مَضَى من أمسه قبل طول حبسه. (فَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِ بَلاغَةٍ ... سَتَتْرُكُهَا , فَانْظُرْ لِمَنْ أَنْتَ جَامِعُ) (لَوْ أَنَّ ذَوِي الأَبْصَارِ يُوعُونَ كُلَّ مَا ... يَرَوْنَ لَمَا جَفَّتْ لِعَيْنٍ مَدَامِعُ) (وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا مُنَاهُ وَهَمَّهُ ... سَبَاهُ الْمُنَى وَاسْتَعْبَدَتْهُ الْمَطَامِعُ) يَا نَائِمًا فِي لَهْوِهِ وما نام الحافظ , لاحظ نور الهدى فلاحظ إِلا لِلْمُلاحِظِ , وَحَافِظْ عَلَى التُّقَى فَقَدْ فَازَ المحافظ , وخذ حذرك فقد أنذرك العاتبان الْغَلائِظُ , وَلا تَغْتَرَّ بِبَرْدِ الْعَيْشِ فَزَمَانُ الْحِسَابِ قَائِظٌ , وَتَذَكَّرْ وَقْتَ الرِّحْلَةِ حَمْلَ الثَّقِيلِ الْبَاهِظِ , وَلا تَلْتَفِتْ إِلَى الْمَادِحِ فَكَمْ قَدْ ضَرَّ مَدْحٌ قَارِظٌ , وَتَيَقَّظْ لِلْخَلاصِ فَمَا يَنْجُو إِلا مُتَيَاقِظٌ , يَا مُدَبِّرًا أَمْرَ دُنْيَاهُ وَنَسِيَ أُخْرَاهُ فَخَفَّفَ النِّدَاءَ اللافِظَ , عَجَائِبُ الدَّهْرِ تُغْنِي عَنْ وَعْظِ كُلِّ وَاعِظٍ: (أَلِلْعُمْرِ فِي الدُّنْيَا تَجِدُّ وتعمر ... وأنت غداً فيها تموت وتقبر) (تلقع آمااً وَتَرْجُو نِتَاجَهَا ... وَعُمْرُكَ مِمَّا قَدْ تُرْجِيهِ أَقْصَرُ) (وهذا صباح اليوم ينعاك ضوؤه ... وَلَيْلَتُهُ تَنْعَاكَ إِنْ كُنْتَ تَشْعُرُ) (تَحُومُ عَلَى إِدْرَاكِ مَا قَدْ كُفِيتَهُ ... وَتُقْبِلُ بِالآمَالِ فِيهِ وَتُدْبِرُ) (وَرِزْقُكَ لا يَعْدُوكَ إِمَّا مُعَجَّلٌ ... عَلَى حَالِهِ يَوْمًا وَإِمَّا مُؤَخَّرُ) (فَلا تَأْمَنِ الدُّنْيَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ ... عَلَيْكَ فَمَا زَالَتْ تَخُونُ وَتَغْدِرُ) (فَمَا تَمَّ فِيهَا الصَّفْوُ يَوْمًا لأَهْلِهِ ... وَلا الرِّفْقُ إِلا رَيْثَمَا يَتَغَيَّرُ) (تَذَكَّرْ وَفَكِّرْ فِي الَّذِي أَنْتَ صَائِرٌ ... إِلَيْهِ غَدًا إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يُفْكِرُ) (فَلا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تَصِيرَ لِحُفْرَةٍ ... بِأَثْنَائِهَا تُطْوَى إِلَى يَوْمِ تُحْشَرُ)

إِخْوَانِي: تَدَبَّرُوا الأُمُورَ تَدُبَّرَ نَاظِرٍ , وَأَصْغُوا إِلَى نَاصِحِكُمْ وَالْقَلْبُ حَاضِرٌ , وَاحْذَرُوا غَضَبَ الْحَلِيمِ وَهَتْكَ السَّاتِرِ , وَتَأَهَّبُوا للحِمام فَسُيُوفُهُ بَوَاتِرُ , وَهَاجِرُوا إِلَى دَارِ الإِنَابَةِ بِهِجْرَانِ الْجَرَائِرِ , وَصَابِرُوا عَدُوَّكُمْ مُصَابَرَةَ صابر , وتهيأوا لِلرَّحِيلِ إِلَى عَسْكَرِ الْمَقَابِرِ , قَبْلَ أَنْ يَبُلَّ وَابِلُ الدُّمُوعِ ثَرَى الْمَحَاجِرِ , وَيَنْدَمَ الْعَاصِي وَيَخْسَرَ الْفَاجِرُ , وَيَتَكَاثَفَ الْعَرَقُ وَتَقَوَى الْهَوَاجِرُ , وَتَصْعَدَ الْقُلُوبُ إِلَى أَعْلَى الْحَنَاجِرِ , وَيَعُزَّ الأَمْنُ وَيُعْرِضَ النَّاصِرُ , وَيَفْرَحَ الْكَامِلُ وَيَحْزَنَ الْقَاصِرُ , وَيَفُوتَ اكْتِسَابُ الْفَضَائِلِ وَتَحْصِيلُ الْمَفَاخِرِ , فَتَأَمَّلُوا عَوَاقِبَ مَصِيرِكُمْ فَاللَّبِيبُ يَرَى الآخِرَ. (وَقَائِلَةٍ لَوْ كُنْتَ تَلْتَمِسُ الْغِنَى ... رَشَدْتَ , وَمَا أَوْصَتْ بِمَا كَانَ رَاشِدَا) (أَبَى النَّاسُ إِلا حُبَّ دُنْيَا ذَمِيمَةٍ ... تُقَضَّى وَيَأْبَى الْمَوْتُ إِلا التَّزَوُّدَا) (فَقُلْتُ سَلِي عَنْ ذِي الثَّرَاءِ تُخَبَّرِي ... وَذِي الْمُلْكِ بَعْدَ الْمُلْكِ مَاذَا تَوَسَّدَا) (يَمُرُّونَ أَرْسَالا وَنَضْحَى كَأَنَّنَا ... لِمَا نَالَهُمْ بِالأَمْسِ لَمْ نَكُ شُهَّدَا) (فَهَلْ يَنْفَعُنَا مَا نَرَى أو يَرُوعَنَا ... وَهَلْ نَذْكُرَنَّ الْيَوْمَ مَنْزِلَنَا غَدَا) أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ , حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ السمناني , حدثنا أبو الحسن ابن الصَّامِتِ , حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَحَامِلِيُّ , حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ , حَدَّثَنَا الْجُنَيْدُ بْنُ أَبِي الْعَلاءِ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ , عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ , عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ , عَنْ عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ , عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَفَرَّغُوا مِنَ الدُّنْيَا مَا اسْتَطَعْتُمْ , فَإِنَّهُ مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ همه أفشى اللَّهُ ضَيْعَتَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ , وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ أَكْبَرَ هَمِّهِ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أُمُورَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ , وَمَا أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا جَعَلَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ تُقْبِلُ إِلَيْهِ بِالْوُدِّ وَالرَّحْمَةِ , وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ بِكُلِّ خَيْرٍ أَسْرَعَ ". أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ , أَنْبَأَنَا رِزْقُ اللَّهِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ شَاذَانَ , أَنْبَأَنَا أَبُو جعفر ابن يَزِيدَ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ , أَنْبَأَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ , حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ , حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ , عَنْ زَيْدٍ الشَّامِيِّ , عَنْ مُهَاجِرٍ الْعَامِرِيِّ , قَالَ قَالَ

الكلام على قوله تعالى

عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الأَمَلِ. فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ , وَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ , أَلا وَإِنَّ الآخِرَةَ قَدِ ارْتَحَلَتْ مُقْبِلَةً أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ مُدْبِرَةً , وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ , فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا , فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ , وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلَ. (يَا صِحَاحَ الأَجْسَادِ كَيْفَ بَطَلْتُمْ ... لا لِعُذْرٍ عَنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ) (لَوْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْبَطَالَةَ تُجْدِي ... حَسْرَةً فِي مَعَادِكُمْ وَالْمَآلِ) (لَتَبَادَرْتُمْ إِلَى مَا يَقِيكُمْ ... مِنْ جَحِيمٍ فِي بَعْثِكُمْ وَنَكَالِ) (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ غُرُورٌ ... أَبَدًا تُطْمِعُ الْوَرَى فِي الْمُحَالِ) (كَيْفَ يَهْنِيكُمُ الْقَرَارُ وَأَنْتُمْ ... بَعْدَ تَمْهِيدِكُمْ عَلَى الارْتِحَالِ) (الْهُدَى وَاضِحٌ فَلا تَعْدِلُوا عَنْهُ ... وَلا تَسْلُكُوا سَبِيلَ الضَّلالِ) (وَأَنِيبُوا قَبْلَ الْمَمَاتِ وَتُوبُوا ... تَسْلَمُوا فِي غَدٍ مِنَ الأَهْوَالِ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أبصارهم} اعْلَمُوا أَنَّ إِطْلاقَ الْبَصَرِ سَبَبٌ لأَعْظَمِ الْفِتَنِ , وَهَذَا الْقُرْآنُ يَأْمُرُكَ بِاسْتِعْمَالِ الْحِمْيَةِ عَنْ مَا هُوَ سَبَبُ الضَّرَرِ , فَإِذَا تَعَرَّضْتَ بِالتَّخْلِيطِ فَوَقَعْتَ إِذًا فِي أَذًى , فَلَمْ تَضِجَّ مِنْ أَلِيمِ الألم. أخبرنا إسماعيل ابن أحمد المقري , وعبيد الله بن محمد القاضي , ويحيى ابن عَلِيٍّ الْمُدَبّرُ , قَالُوا: أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ النَّقُّورِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ حُبَابَةَ , حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ , حَدَّثَنَا هُدْبَةُ , حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ , عن سلمة ابن أبي الطفيل , عن علي عليه السلام أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَا عَلِيُّ إِنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ كَنْزًا , وَإِنَّكَ ذُو قَرْنَيْهَا , فَلا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النظرة , فإن

لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ ". فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ مِنْ أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مِنْ حَيْثُ إِسْنَادِهِ , فَرُبَّمَا خُيِّلَ إِلَى السَّامِعِ أَنَّهُ قَدْ سَقَطَ مِنْهُ رَجُلٌ , لأَنَّهُ إِذَا سَمِعَ سَلَمَةَ بْنَ أَبِي الطُّفَيْلِ , عَنْ عَلِيٍّ , وَقَدْ عَرَفَ أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ يَرْوِي عَنْ عَلِيٍّ يَظُنُّ ذَلِكَ بَلْ هُوَ صَحِيحٌ. وَسَلَمَةُ يَرْوِي عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا. وَالثَّانِي: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: " وَإِنَّكَ ذُو قَرْنَيْهَا " وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ , كَنَّى عَنْهَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ تَقَدَّمَ لَهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: {حتى توارت بالحجاب} يَعْنِي الشَّمْسَ , وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ. وَالثَّانِي: عَنِ الْجَنَّةِ. وَالثَّالِثُ: يَعْنِي تَسْمِيَتَهُ بِذِي الْقَرْنَيْنِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْكِنَايَةَ عَنِ الأُمَّةِ فَإِنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ضَرْبَتَيْنِ الأُولَى ضَرْبَةُ عَمْرِو بْنِ وَدٍّ وَالثَّانِيَةُ ابْنِ مُلْجِمٍ , كَمَا ضُرِبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ ضَرْبَةً بَعْدَ ضَرْبَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا: الْكِنَايَةُ عَنِ الْجَنَّةِ فَقَرْنَاهَا: جَانِبَاهَا. ذَكَرَهُ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ. وَالرَّابِعُ قَوْلُهُ: " فَلا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ " رُبَّمَا تَخَايَلَ أَحَدٌ جَوَازَ الْقَصْدِ لِلأُولَى , وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا الأُولَى الَّتِي لَمْ تُقْصَدْ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: " اصْرِفْ بَصَرَكَ ". وَهَذَا لأَنَّ النَّظْرَةَ الأُولَى لَمْ يَحْضُرْهَا الْقَلْبُ فَلا يَتَأَمَّلُ بِهَا الْمَحَاسِنَ وَلا يَقَعُ الالْتِذَاذُ , فَمَتَى اسْتَدَامَهَا بِمِقْدَارِ حُضُورِ الذِّهْنِ كَانَتْ كَالثَّانِيَةِ فِي الإِثْمِ. وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ , عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَلِيُّ اتَّقِ النَّظْرَةَ بَعْدَ النَّظْرَةِ , فَإِنَّهَا سَهْمٌ مَسْمُومٌ تُورِثُ شَهْوَةً فِي الْقَلْبِ ".

وَرَوَى أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ , مَنْ تركه ابتغاء وجه الله أعطاه الله عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَةً يَجِدُ طَعْمَ لَذَّتِهَا ". وَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: النَّظْرَةُ تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ وَكَفَى بِهَا خَطِيئَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا كَانَ مِنْ نَظْرَةٍ فَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيهَا مَطْمَعًا , وَالإِثْمُ خَرَّازُ الْقُلُوبِ. وَقَالَ: مَنْ أَطْلَقَ طَرْفَهُ كَانَ كَثِيرًا أَسَفُهُ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ يُبَالِغُونَ فِي الاحْتِرَازِ مِنَ النَّظَرِ. وَكَانَ فِي دَارِ مُجَاهِدٍ عُلِّيَّةٌ قَدْ بُنِيَتْ , فَبَقِيَ ثَلاثِينَ سَنَةً وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا. وَخَرَجَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ يَوْمَ عِيدٍ , فَلَمَّا عَادَ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: كَمْ مِنَ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ قَدْ رَأَيْتَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا نَظَرْتُ إِلا فِي إِبْهَامِي مُنْذُ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ إِلَى أَنْ رَجَعْتُ إِلَيْكِ! وَإِنَّمَا بَالَغَ السَّلَفُ فِي الغض حذراً من فتنة النظر وَخَوْفًا مِنْ عُقُوبَتِهِ. فَأَمَّا فِتْنَتُهُ فَكَمْ مِنْ عَابِدٍ خَرَجَ عَنْ صَوْمَعِتِهِ بِسَبَبِ نَظْرَةٍ , وَكَمِ اسْتَغَاثَ مَنْ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ. قَالَ إبراهيم بن صول: (من كَانَ يُؤْتَى مِنْ عَدُوٍّ وَحَاسِدٍ ... فَإِنِّي مِنْ عَيْنَيَّ أُتِيتُ وَمِنْ قَلْبِي) (هُمَا اعْتَوَرَانِي نَظْرَةً بَعْدَ نَظْرَةٍ ... فَمَا أَبْقَيَا لِي مِنْ رُقَادٍ وَلا لُبِّ) وَقَالَ آخَرُ: (وَأَنَا الَّذِي اجْتَلَبَ الْمَنِيَّةَ طَرْفُهُ ... فَمَنِ الْمُطَالَبُ وَالْقَتِيلُ الْقَاتِلُ) وَقَالَ آخَرُ: (عَاتَبْتُ قَلْبِي لَمَّا ... رَأَيْتُ جِسْمِي نَحِيلا)

(أَجَابَ قَلْبِي طَرْفِي ... وَقَالَ كُنْتَ الرَّسُولا) (فَأَلْزَمَ الْقَلْبَ طَرْفِي ... بَلْ كُنْتَ أَنْتَ الدَّلِيلا) (فَقُلْتُ كُفَّا جَمِيعًا ... تَرَكْتُمَانِي قَتِيلا) وَقَالَ آخَرُ: (يَا مَنْ يَرَى سُقْمِي يَزِيدُ ... وَعِلَّتِي تُعْيِي طَبِيبِي) (لا تَعْجَبَنَّ فَهَكَذَا ... تَجْنِي الْعُيُونُ عَلَى الْقُلُوبِ) وَقَالَ آخَرُ: (لَوَاحِظُنَا تَجْنِي وَلا عِلْمَ عِنْدَهَا ... وَأَنْفُسُنَا مَأْخُوذَةٌ بِالْجَرَائِرِ) (وَلَمْ أَرَ أَغْبَى مِنْ نُفُوسٍ عَفَائِفٍ ... تُصَدِّقُ أَخْبَارَ الْعُيُونِ الْفَوَاجِرِ) (وَمَنْ كَانَتِ الأَجْفَانُ حُجَّابَ قَلْبِهِ ... أَذِنَّ عَلَى أَحْشَائِهِ بِالْفَوَاقِرِ) وَقَالَ آخَرُ: (إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْعَ الْبُرُوقَ اللَّوَامِحَا ... وَنِمْتَ جَرَى مِنْ تَحْتِكَ الْمَاءُ سَائِحَا) (غَرَسْتَ الْهَوَى بِاللَّحْظِ حَتَّى احْتَقَرْتَهُ ... فَأَمْهَلْتَهُ مُسْتَأْنِسًا مُتَسَامِحَا) (وَلَمْ تَدْرِ حَتَّى أَيْنَعَتْ شَجَرَاتُهُ ... وَهَبَّتْ رِيَاحُ الْهَجْرِ فِيهِ لَوَاقِحَا) (وَأَمْسَيْتَ تَسْتَدْعِي مِنَ الصَّبْرِ عَازِبًا ... عَلَيْكَ وَتَسْتَدْنِي مِنَ النَّوْمِ نَازِحَا) وَقَالَ آخَرُ: (وَالْمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا ... فِي أَعْيُنِ الْعَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْخَطَرِ) (يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ ... لا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ جَاءَ بِالضَّرَرِ) وَقَالَ آخَرُ: (لأُعَذِّبَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ مُفَكِّرٍ ... فِيهَا جَرَتْ بِالدَّمْعِ أَوْ فَاضَتْ دَمَا) (وَلأَهْجُرَنَّ مِنَ الرُّقَادِ لَذِيذَهُ ... حَتَّى يصير على الجفون محرما) (سفكت دمي فلأسفكن دُمُوعَهَا ... وَهِيَ الَّتِي بَدَأَتْ فَكَانَتْ أَظْلَمَا) (هِيَ أَوْقَعَتْنِي فِي حَبَائِلِ فِتْنَةٍ ... لَوْ لَمْ تَكُنْ نَظَرَتْ لَكُنْتُ مُسَلَّمَا)

وقال آخر: (وسهام اللحظ يستحلين في وقت الوقوع ... ) (ثم يصرفن فلا يقلعن إلا عن صريع ... ) وقال آخر: (إن كَانَ طَرْفِي أَصْلَ سُقْمِي فِي الْهَوَى ... لا أَذَاقَ اللَّهُ عَيْنِي الْوَسَنَا) (لَوْ تَحَرَّى فِي مَرَامِي لَحْظِهِ ... يَوْمَ سَلْعٍ مَا عَنَانِي مَا عَنَا) غَيْرُهُ: (يَا عَيْنُ أَنْتِ قَتَلْتِنِي ... وَجَعَلْتِ ذَنْبِكِ مِنْ ذُنُوبِي) (وَأَرَاكِ تَهْوِينَ الدُّمُوعَ ... كَأَنَّهَا رِيقُ الْحَبِيبِ) (تَاللَّهِ أَحْلِفُ صَادِقًا ... وَالصِّدْقُ مِنْ شِيَمِ الأَرِيبِ ... ) (لَوْ مُيِّزَتْ نُوَبُ الزَّمَانِ ... مِنَ الْبَعِيدِ إِلَى الْقَرِيبِ) (مَا كُنَّ إِلا دُونَ مَا ... جَنَتِ الْعُيُونُ عَلَى الْقُلُوبِ) وَأَمَّا عُقُوبَةُ النَّظَرِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَشَلْشَلُ دَمًا , فَقَالَ لَهُ مالك؟ فَقَالَ: مَرَّتْ بِيَ امْرَأَةٌ فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا فَلَمْ أَزَلْ أُتْبِعُهَا بَصَرِي فَاسْتَقْبَلَنِي جِدَارٌ فَضَرَبَنِي فَصَنَعَ بي ما ثرى. فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا ". أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْحَبِيرِيُّ , أَنْبَأَنَا ابْنُ بَاكَوِيَةَ , أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيِّ , قَالَ: رَأَيْتُ فِي الطَّوَافِ رَجُلا بِفَرْدِ عَيْنٍ وَهُوَ يَقُولُ فِي طَوَافِهِ: أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ. فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا الدُّعَاءُ؟ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ مُجَاوِرًا مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً فَنَظَرْتُ إِلَى شَخْصٍ يَوْمًا فَاسْتَحْسَنْتُهُ , فَإِذَا بِلَطْمَةٍ وَقَعَتْ عَلَى عَيْنِي فَسَالَتْ عَلَى خَدِّي , فَقُلْتُ: آهْ. فَوَقَعَتْ أُخْرَى , وَقَائِلٌ يَقُولُ: لَوْ زِدْتَ لَزِدْنَاكَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزَّازُ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بن علي الحافظ , قال كتب لي أبوحاتم أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّازِيُّ , يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ

الْحَافِظَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى , عَنْ أَبِي الأَدْيَانِ قَالَ كُنْتُ مَعَ أُسْتَاذِي أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ فَمَرَّ حَدَثٌ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ , فَرَآنِي أُسْتَاذِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَتَجِدَنَّ غِبَّهَا وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. فَبَقِيَتْ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَنَا أُرَاعِي الْغِبَّ , فَنِمْتُ لَيْلَةً وَأَنَا مُتَفَكِّرٌ فِيهِ فَأَصْبَحْتُ وَقَدْ نُسِّيتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي صَادِقٍ , حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ , أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أحمد النجار , أخبرني أَبُو بَكْرٍ الْكَتَّانِيُّ , قَالَ: رَأَيْتُ بَعْضَ أَصْحَابِي فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: عَرَضَ عَلَيَّ سَيِّئَاتِي وَقَالَ: فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَفَعَلْتَ كَذَا؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَفَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أُقِرَّ , فَقُلْتُ لَهُ: مَا كَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ؟ فَقَالَ: مَرَّ بِي غُلامٌ حَسَنُ الْوَجْهِ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّرَّادِ أَنَّهُ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي كُلَّ ذَنْبٍ أَقْرَرْتُ بِهِ إِلا وَاحِدًا اسْتَحْيَيْتُ أَنْ أُقِرَّ بِهِ , فَأَوْقَفَنِي فِي الْعَرَقِ حَتَّى سَقَطَ لَحْمُ وَجْهِي. قِيلَ: مَا كَانَ الذَّنْبُ؟ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى شَخْصٍ جَمِيلٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: كل عين باكية يوم القيامة إلا عين غضت عن محارم الله , وعين سهرت في سبيل الله , وعين يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ - يَعْنِي الدُّمُوعَ - مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ". إِخْوَانِي: تَذَكَّرُوا مَصِيرَ الصُّوَرِ , وَتَفَكَّرُوا فِي نُزُولِ بَيْتِ الْمَدَرِ , وَتَلَمَّحُوا بِعَيْنِ لفكر فِي حَالِ الصَّفَا وَالْكَدَرِ , وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ فِي دَارِ الْبَلاءِ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ. أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ الْهَاشِمِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ , أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَاذَانَ؛ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيَّ يَقُولُ: كَانَ لِي جَارٌ شَابٌّ وَكَانَ أَدِيبًا , وَكَانَ يَهْوَى غُلامًا أَدِيبًا , فَنَظَرَ يَوْمًا إِلَى طَاقَاتِ شَعَرٍ بِيضٍ فِي عَارِضَيْهِ فَوَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْفِكْرِ فهجر الغلام ,

سجع على قوله تعالى

فكتب إليه الغلام: (مالي جُفِيتُ وَكُنْتُ لا أُجْفَى ... وَدَلائِلُ الْهِجْرَانِ لا تَخْفَى) (وَأَرَاكَ تَمْزُجُنِي وَتَشْرَبُنِي ... وَلَقَدْ عَهِدْتُكَ شَارِبِي صَرْفَا) فَقَلَبَ الرُّقْعَةَ وَكَتَبَ فِي ظَهْرِهَا: (التَّصَابِي مَعَ الشَّمَطِ ... سَمَتْنِي خَطَّةَ شَطَطِ) (لا تَلُمْنِي عَلَى جَفَايَ ... فَحَسْبِي الَّذِي فَرَطِ) (أَنَا رِهْنٌ بِمَا جَنَيْتُ ... فَذَرْنِي مِنَ الْغَلَطِ) (قَدْ رَأَيْنَا أَبَا الْخَلائِقِ ... فِي زَلَّةٍ هَبَطِ) إِخْوَانِي: الدُّنْيَا سُمُومٌ قَاتِلَةٌ , وَالنُّفُوسُ عَنْ مَكَائِدِهَا غَافِلَةٌ , كَمْ مَنْ نَظْرَةٍ تَحْلُو فِي الْعَاجِلَةِ , مَرَارَتُهَا لا تطاق في الآجلة , يا بن آدَمَ قَلْبُكَ قَلْبٌ ضَعِيفٌ , وَرَأْيُكَ فِي إِطْلاقِ الطَّرْفِ رَأْيٌ سَخِيفٌ , يَا طِفْلَ الْهَوَى مَتَى يُؤْنَسُ مِنْكَ رَشَدٌ , عَيْنُكَ مُطْلَقَةٌ فِي الْحَرَامِ , وَلِسَانُكَ مُهْمَلٌ فِي الآثَامِ وَجَسَدُكَ يَتْعَبُ فِي كَسْبِ الْحُطَامِ , كَمْ نَظْرَةٍ مُحْتَقَرَةٍ زَلَّتْ بِهَا الأَقْدَامُ. (فَتَبَصَّرْ وَلا تَشِمْ كُلَّ بَرْقٍ ... رُبَّ بَرْقٍ فِيهِ صَوَاعِقُ حِينِ) (وَاغْضُضِ الطَّرْفَ تَسْتَرِحْ مِنْ غَرَامٍ ... تَكْتَسِي فِيهِ ثَوْبَ ذُلٍّ وَشَيْنِ) (فَبَلاءُ الْهَوَى مُوَافَقَةُ النَّفْسِ ... وَبَدْءُ الْهَوَى طُمُوحُ الْعَيْنِ) سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يغضوا من أبصارهم} يَا عَجَبًا لِلْمَشْغُولِينَ بِأَوْطَارِهِمْ عَنْ ذِكْرِ أَخْطَارِهِمْ , لَوْ تَفَكَّرُوا فِي حَالِ صَفَائِهِمْ فِي أَكْدَارِهِمْ , لما سلكوا طريق اغترارهم , ما يَكْفِي فِي وَعْظِهِمْ وَازْدِجَارِهِمْ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا من أبصارهم} .

الدُّنْيَا دَارُ الآفَاتِ وَالْفِتَنِ , كَمْ غَرَّتْ غِرًّا وَمَا فَطَنَ , أَرَتْهُ ظَاهِرَهَا وَالظَّاهِرُ حَسَنٌ , فَلَمَّا فَتَحَ عَيْنَ الْفِكْرِ مِنَ الْوَسَنِ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونَ وَلَنْ , وَيْحَ الْمَقْتُولِينَ بِسَيْفِ اغْتِرَارِهِمْ , وَالشَّرْعُ يَنْهَاهُمْ عَنْ أَوْزَارِهِمْ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أبصارهم} . أَيْنَ أَرْبَابَ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ , ذَهَبَتْ وَاللَّهِ اللَّذَّاتُ دُونَ التَّبِعَاتِ , وَنَدِمُوا إِذْ قَدِمُوا عَلَى مَا فَاتَ وَتَمَنَّوْا بَعْدَ يُبْسِ الْعُودِ الْعَوْدَ وَهَيْهَاتَ , فَتَلَمَّحْ فِي الآثَارِ سُوءَ أَذْكَارِهِمْ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يغضوا من أبصارهم} . نَازَلَهُمُ الْمَوْتُ عَلَى الذُّنُوبِ , فَأُسِرُوا فِي قُيُودِ الْجَهْلِ وَالْعُيُوبِ , فَرَحَلَتْ لَذَّاتٌ خَلَتْ عَنِ الأَفْوَاهِ وَالْقُلُوبِ , وَحَزِنُوا عَلَى الْفَائِتِ وَلا حُزْنَ يَعْقُوبَ , حِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِي ثِيَابِ إِدْبَارِهِمْ [وَعِصِيُّ التَّوْبِيخِ فِي أَدْبَارِهِمْ] {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا من أبصارهم} . قُلْ لِلنَّاظِرِينَ إِلَى الْمُشْتَهَى فِي دِيَارِهِمْ , هَذَا أُنْمُوذَجٌ مِنْ دَارِ قَرَارِهِمْ , فَإِنِ اسْتَعْجَلَ أَطْفَالُ الْهَوَى فَدَارِهِمْ , وَعِدْهُمْ قُرْبَ الرَّحِيلِ إِلَى دَارِهِمْ {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} . احْذَرُوا نَظْرَةً تُفْسِدُ الْقُلُوبَ , وَتَجْنِي عَلَيْكُمُ الذَّمَّ وَالْعُيُوبَ , تُسْخِطُ مَوْلاكُمْ عَالِمَ الْغُيُوبِ , لَقَدْ وَصَفَ الطَّبِيبُ حِمْيَةً لِلْمَطْبُوبِ , فَلَوِ اسْتَعْمَلُوا الْحِمْيَةَ لَمْ تَتَعَرَّضِ الْحُمَّى بِأَبْشَارِهِمْ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أبصارهم} . وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِلْهُدَى , وَعَصَمَنَا مِنْ أَسْبَابِ الْجَهْلِ وَالرَّدَى , وَسَلَّمَنَا مِنْ شَرِّ النُّفُوسِ فَإِنَّهَا شَرُّ الْعِدَى , وَجَعَلَنَا مِنَ الْمُنْتَفِعِينَ بِوَعْظِ أَخْيَارِهِمْ {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصْحِبِهِ.

المجلس الحادي عشر في قصة ذي القرنين

المجلس الحادي عشر فِي قِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَسْرَى لُطْفَهُ فَفَكَّ الأَسْرَى , وَأَجْرَى بِإِنْعَامِهِ لِلْعَامِلِينَ أَجْرًا , وَأَسْبَلَ بِكَرَمِهِ عَلَى الْعَاصِينَ سِتْرًا , وَقَسَّمَ بني آدم عبدا وحرا , ودبر أحوالهم غنى وفقرا [كَمَا رَتَّبَ الْبَسِيطَةَ عَامِرًا وَقَفْرًا] وَقَوَّى بَعْضَ عِبَادِهِ [عَلَى السِّيَاحَةِ] فَقَطَعَهَا شِبْرًا شِبْرًا {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذكرا} . أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَكُونُ لِي عِنْدَهُ ذُخْرًا , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُقَدَّمِ الأَنْبِيَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالأُخْرَى وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ الَّذِي أَنْفَقَ الْمَالَ عَلَى الإِسْلامِ حَتَّى مَالَ الْكَفُّ صِفْرًا , وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي كَسَرَتْ هَيْبَتُهُ كِسْرَى , وَعَلَى عُثْمَانَ الْمَقْتُولِ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ صَبْرًا , وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي كَانَ الرَّسُولُ يُعِزُّهُ بِالْعِلْمِ عِزًّا , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَعْلاهُمْ فِي النَّسَبِ قَدْرًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: {ويسألونك عن ذي القرنين} . الَّذِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمُ الْيَهُودُ. وَفِي اسْمِ ذِي الْقَرْنَيْنِ أربعة أقوال: أحدها: عبد الله. قاله علي عليه السلام. وَالثَّانِي: الإِسْكَنْدَرُ. قَالَهُ وَهْبٌ. وَالثَّالِثُ: عَبَّاسٌ. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. وَالرَّابِعُ الصَّعْبُ بن جابر. ذكره ابن أبي خيثمة. في تَسْمِيَتِهِ بِذِي الْقَرْنَيْنِ عَشْرَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَهَلَكَ فَغَبَرَ زَمَانًا ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى , فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ الآخَرِ فَهَلَكَ , فَذَانِكَ قَرْنَاهُ. قاله علي عليه السلام. وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُمِّيَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ لأَنَّهُ سَارَ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إِلَى مَطْلِعِهَا. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: لأَنَّ صَفْحَتَيْ رَأْسِهِ كَانَتَا مِنْ نُحَاسٍ. وَالرَّابِعُ: لأَنَّهُ رَأى فِي النَّوْمِ كَأَنَّهُ امْتَدَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فَأَخَذَ بِقَرْنَيِ الشَّمْسِ , فَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى قَوْمِهِ فَسُمِّيَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ. وَالْخَامِسُ: لأَنَّهُ مَلَكَ الرُّومَ وَفَارِسَ. وَالسَّادِسُ: لأَنَّهُ كَانَ فِي رَأْسِهِ شِبْهُ الْقَرْنَيْنِ. رُوِيَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ الأَرْبَعَةُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالسَّابِعُ: لأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ مِنْ شَعَرٍ. قَالَهُ الْحَسَنُ. قَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الضَّفِيرَتَيْنِ مِنَ الشَّعَرِ غَدِيرَتَيْنِ وَقَرْنَيْنِ. [قَالَ: وَمَنْ قَالَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنَّهُ مَلَكَ فَارِسَ وَالرُّومَ قَالَ لأَنَّهُمَا عَالِيَانِ عَلَى جَانِبَيْنِ مِنَ الأَرْضِ يُقَالُ لَهُمَا قَرْنَانِ] وَالثَّامِنُ: لأَنَّهُ كَانَ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ من أهل البيت ذِي شَرَفٍ. وَالتَّاسِعُ: لأَنَّهُ انْقَرَضَ فِي زَمَانِهِ قَرْنَانِ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ حَيٌّ. وَالْعَاشِرُ: لأَنَّهُ مَلَكَ الظُّلْمَةَ وَالنُّورَ: ذَكَرَ هَذِهِ الأَقْوَالَ الثَّلاثَةَ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ. وَاخْتَلَفُوا: هَلْ كَانَ نَبِيًّا أَمْ لا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ نبياً. قاله عبد الله ابن عَمْرٍو وَالضَّحَّاكُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلا مَلِكًا , قَالَهُ عَلِيٌّ عليه السلام. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ مَلِكًا وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ.

وَفِي زَمَانِ كَوْنِهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ الأُولَى مِنْ وَلَدِ يَافِثَ بن نوح. قاله علي عليه السلام. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ ثَمُودَ. قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالثَّالِثُ: كَانَ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلامُ. قَالَهُ وَهْبٌ وَفِيهِ بُعْدٌ. قَوْلُهُ تعالى: {سأتلو عليكم منه ذكرا} أَيْ خَبَرًا يَتَضَمَّنُ ذِكْرَهُ {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ في الأرض} أَيْ سَهَّلْنَا عَلَيْهِ السَّيْرَ فِيهَا. قَالَ عَلِيٌّ عليه السلام: إِنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ فَسَخَّرَ لَهُ السَّحَابَ , فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ وَمَدَّ لَهُ فِي الأَسْبَابِ وَبَسَطَ لَهُ النُّورَ , فَكَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ. قَالَ محاهد: مَلَكَ الأَرْضَ مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ. فَالْمُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَذُو الْقُرْنَيْنِ. وَالْكَافِرَانِ: نُمْرُودُ وَبُخْتُنَصَّرُ. قَوْلُهُ تعالى: {وآتيناه من كل شيء سبباً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِلْمُ مَا يُتَسَبَّبُ بِهِ إِلَى مَا يُرِيدُ. وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ بِالطُّرُقِ والمسالك {فأتبع سببا} أَيْ قَفَا الأَثَرَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وحمزة والكسائي: {فاتبع} فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلاثَةِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: التَّقْدِيرُ فأتبع سبباً سبباً. والسبب: الطريق. قوله تعالى: {في عين حمئة} أَيْ ذَاتِ حَمْأَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ: {حَامِيَةٍ} أَيْ حَارَّةٍ. قَالَ الْحَسَنُ: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي مَاءٍ يَغْلِي كَغَلَيَانِ الْقِدْرِ وَيَفِيضُ مِنَ الْمَاءِ تِلْكَ الْعَيْنُ الْحَارَّةُ حَتَّى يَفِيضَ حَوْلَهَا مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فَلا يَأْتِي عَلَى شَيْءٍ إِلا احْتَرَقَ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا لِبَاسُهُمْ جُلُودُ السِّبَاعِ وَلَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مَا أَحْرَقَتِ الشَّمْسُ مِنَ الدَّوَابِّ إِذَا غَرَبَتْ نَحْوَهَا وَمَا لَفِظَتِ الْعَيْنُ مِنَ الْحِيتَانِ. {قُلْنَا يَا ذَا القرنين} مَنْ قَالَ هُوَ نَبِيٌّ قَالَ: هَذَا وَحْيٌ , وَمَنْ قَالَ لَيْسَ بِنَبِيٍّ قَالَ: إِلْهَامٌ {إِمَّا أن تعذب} أَيْ تَقْتُلُهُمْ إِنْ أَبَوْا مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ , وَإِمَّا أَنْ تَأْسِرَهُمْ فَتُبَصِّرَهُمُ الرَّشَدَ. {قَالَ أَمَّا من ظلم} أي أشرك {فسوف نعذبه} بِالْقَتْلِ إِذَا لَمْ يَرْجِعْ عَنِ الشِّرْكِ {ثُمَّ يرد إلى ربه} فَيُعَذِّبُهُ بِالنَّارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحُسْنَى الْجَنَّةُ وَأُضِيفَ الْجَزَاءُ

إِلَيْهَا. وَهِيَ الْجَزَاءُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين} {ولدار الآخرة} قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْمَعْنَى فَلَهُ جَزَاءُ الخلال الْحُسْنَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {فَلَهُ جَزَاءً} بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الحال. والمعنى: فله الحسنى مجزياً بها جزاه , {وسنقول له من أمرنا يسرا} أي قولاً جميلاً. {ثم أتبع سببا} أَيْ طَرِيقًا آخَرَ تُوَصِّلُهُ إِلَى الْمَشْرِقِ. قَالَ قَتَادَةُ: مَضَى يَفْتَحُ الْمَدَائِنَ وَيَجْمَعُ الْكُنُوزَ وَيَقْتُلُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ حَتَّى أَتَى مَطْلِعَ الشَّمْسِ , فَوَجَدَ أَقْوَامًا عُرَاةً فِي أَسْرَابٍ لَهُمْ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مَا أَحْرَقَتِ الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ فَإِذَا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ خَرَجُوا مِنْ أَسْرَابِهِمْ فِي طَلَبِ مَعَايِشِهِمْ مِمَّا أَحْرَقَتْهُ , وَبَلَغَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَكَانٍ لا يَثْبُتُ عَلَيْهِ بُنْيَانٌ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ خَرَجُوا يَرْعَوْنَ كَمَا يَرْعَى الْوَحْشُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {كذلك} أَيْ كَمَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ بَلَغَ مَطْلِعَهَا {وقد أحطنا بما لديه} أَيْ بِمَا عِنْدَهُ وَمَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ {خُبْرًا ثم أتبع سببا} أَيْ طَرِيقًا ثَالِثًا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ {حَتَّى إذا بلغ بين السدين} قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هُمَا جَبَلانِ مُنِيفَانِ فِي السَّمَاءِ مِنْ وَرَائِهِمَا الْبَحْرُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِضَمِّ السِّينِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: هُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَضْمُومٌ. وَمَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الآدَمِيِّينَ فَمَفْتُوحٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قولا} أَيْ لا يَفْهَمُونَهُ إِلا بَعْدَ إِبْطَاءٍ. وَأَمَّا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فَهُمَا رَجُلانِ مِنْ أَوْلادِ يَافِثَ بن نوح قال علي عليه السلام: مِنْهُمْ مَنْ طُولُهُ شِبْرٌ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُفْرِطٌ فِي الطُّولِ , وَلَهُمْ شَعَرٌ يُوَارِيهِمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ , وَكَانَ فَسَادُهُمْ قَتْلَ النَّاسِ {فَهَلْ تجعل لك خرجاً} وَقَرَأَ حَمْزَةٌ: خَرَاجًا. قَالَ اللَّيْثُ: هُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلاءِ: الْخَرْجُ مَا تبرعت

بِهِ , وَالْخَرَاجُ: مَا لَزِمَكَ أَدَاؤُهُ. {قَالَ مَا مكني فيه ربي خير} مما تبذلون {فأعينوني بقوة} قَالَ مُجَاهِدٌ: بِالرِّجَالِ وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: بِالآلَةِ. وَالرَّدْمُ: الْحَاجِزُ. وَالزُّبَرُ: الْقِطَعُ وَالصَّدَفَانِ: جَانِبَا الْجَبَلِ. قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: لَمَّا وَصَلَ إِلَى مُدُنٍ ممطلة قَدْ بَقِيَ فِيهَا بَقَايَا سَأَلُوهُ أَنْ يَسُدَّ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ , فَأَمَرَ الصُّنَّاعَ فَضَرَبُوا اللَّبِنَ مِنَ الْحَدِيدِ , طُولُ كُلِّ لَبِنَةٍ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ وَسُمْكُهَا شِبْرٌ. وَرَوَى سَلامٌ التَّرْجُمَانُ قَالَ: بَعَثَنِي الْوَاثِقُ إِلَى السَّدِّ وَضَمَّ إِلَيَّ خَمْسِينَ رَجُلا , وَأَعْطَانَا مَالا , فَمَا زِلْنَا نَتَنَقَّلُ الْبِلادَ وَتَبْعَثُ الْمُلُوكُ مَعَنَا الأَدِلاءَ إِلَى أَنْ صِرْنَا إِلَى أَرْضٍ سَوْدَاءَ مُنْتِنَةِ الرِّيحِ , فَسِرْنَا فِيهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ صِرْنَا إِلَى مُدُنٍ خَرَابٍ فَسِرْنَا فِيهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا , وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ يَطْرُقُونَهَا , ثُمَّ صِرْنَا إِلَى حُصُونٍ بِالْقُرْبِ مِنَ السَّدِّ وَفِيهَا قَوْمٌ يتكلمون بالعربية والفارسية مسلمون يقرأون الْقُرْآنَ , فَسَأَلُونَا: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتُمْ؟ قُلْنَا: نَحْنُ رُسُلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالُوا: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا قَطُّ. ثُمَّ صِرْنَا إِلَى جَبَلٍ أَمْلَسَ وَفِيهِ السَّدُّ , وَهُنَاكَ بَابٌ حَدِيدٌ لَهُ مِصْرَاعَانِ مُغْلَقَانِ , عَرْضُ كُلِّ مِصْرَاعٍ خَمْسُونَ ذِرَاعًا فِي ارْتِفَاعِ خَمْسِينَ فِي ثِخَنِ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ , وَقَائِمَتَاهُمَا فِي دَوَّارَةٌ , وَعَلَى الْبَابِ قُفْلٌ طُولُهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ فِي غِلَظِ ذِرَاعٍ , وَارْتِفَاعُ الْقُفْلِ مِنَ الأَرْضِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا , وَفَوْقَ الْقُفْلِ بِقَدْرِ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ غَلَقٌ طُولُهُ أَكْثَرُ مِنْ طُولِ الْقُفْلِ وَقَفِيزٌ , وَعَلَى الْغَلَقِ مِفْتَاحٌ مُعَلَّقٌ فِي سِلْسِلَةٍ طولها ثمان أَذْرُعٍ فِي اسْتِدَارَةِ أَرْبَعَةِ أَشْبَارٍ , وَعَتَبَةُ الْبَابِ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ , وَرَئِيسُ تِلْكَ الْحُصُونِ يَرْكَبُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي عَشَرَةِ فَوَارِسَ , مَعَ كُلِّ فَارِسٍ مِرْزَبَةٌ حَدِيدٌ , فَيُضْرَبُ الْقُفْلُ بِتِلْكَ الْمِرْزَبَاتِ مَرَّاتٍ لِيَسْمَعُوا الصَّوْتَ فَيَعْلَمُوا أَنَّ هُنَاكَ حَفَظَةٌ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ , حَدَّثَنَا أَبُو رَافِعٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى

الكلام على البسملة

إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ؛ ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا. فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ فَيَرَوْنَهُ كَأَشَدِّ مَا كَانَ , حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ وأردا اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ؛ [حَفَرُوا] حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي تَرَكُوهُ فَيَحْفِرُونَهُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ , فَيَرْمُونَ بِسِهَامٍ إِلَى السَّمَاءِ , فَتَرْجِعُ وَعَلَيْهَا كَهَيْئَةِ الدَّمِ فَيَقُولُونَ. قَهَرْنَا أَهْلَ الأَرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ , فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ دَوَابَّ الأَرْضِ لَتَسْمَنُ [وَتَشْكُرُ] مِنْ لُحُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ. ثُمَّ إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا عَادَ بَلَغَ بَابِلَ , فَنَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَكَتَبَ إِلَى أُمِّهِ يُعَزِّيهَا عَنْ نَفْسِهِ , وَكَانَ فِي كِتَابِهِ , اصْنَعِي طَعَامًا وَاجْمَعِي مَنْ قَدَرْتِ عَلَيْهِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمَمْلَكَةِ , وَلا يَأْكُلْ مِنْ طَعَامِكَ مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ. فَفَعَلَتْ فَلَمْ يَأْكُلْ أَحَدٌ , فَعَلِمَتْ مَا أَرَادَ. فَلَمَّا وَصَلَ تَابُوتُهُ إِلَيْهَا قَالَتْ: يَا ذَا الَّذِي بَلَغَتِ السَّمَاءَ حكمته وجاز أقطار الأرض ملكه , مالك الْيَوْمَ نَائِمٌ لا تَسْتَيْقِظُ , وَسَاكِتٌ لا تَتَكَلَّمُ , مَنْ يُبْلِغُكَ عَنِّي أَنَّكَ وَعَظْتَنِي فَاتَّعَظْتُ وَعَزَّيْتَنِي فَتَعَزَّيْتُ , فَعَلَيْكَ السَّلامُ حَيًّا وَمَيِّتًا! الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (أَتُنْكِرُ أَمْرَ الْمَوْتِ أَمْ أَنْتَ عَارِفٌ ... بِمَنْزِلَةٍ تَفْنَى وَفِيهَا الْمَتَالِفُ) (كَأَنَّكَ قَدْ غُيِّبْتَ فِي اللَّحْدِ وَالثَّرَى ... كَمَا لَقِيَ الْمَوْتَ الْقُرُونُ السَّوَالِفُ) (أَرَى الْمَوْتَ قَدْ أَفْنَى الْقُرُونَ الَّتِي مَضَتْ ... فَلَمْ يَبْقَ مَأْلُوفٌ وَلَمْ يَبْقَ آلِفُ) (كَأَنَّ الْفَتَى لَمْ يَصْحَبِ النَّاسَ لَيْلَةً ... إِذَا عُصِّبَتْ يَوْمًا عَلَيْهِ اللَّفَائِفُ) (وَقَامَتْ عَلَيْهِ عُصْبَةٌ يَدْفِنُونَهُ ... فَمُسْتَذْكِرٌ يَبْكِي حَزِينًا وَهَاتِفُ) (وَغُيِّبَ فِي لَحْدٍ كَرِيهٍ فِنَاؤُهُ ... وَنُضِّدَ مِنْ لَبِنٍ عَلَيْهِ السَّقَائِفُ) (وَمَا صَاحِبُ الْبَحْرِ الْقَطِيعِ مَكَانَهُ ... إِذَا هَاجَ آذَى مَنْ عَلَيْهِ وَقَاصِفُ)

(أَحَقُّ بِطُولِ الْحُزْنِ مِنْ ضَيْفِ غُرْبَةٍ ... تَصَدَّعَ عَنْهُ أَهْلُهُ وَالْمَعَارِفُ) أَيْنَ مَنْ رَبِحَ فِي مَتَاجِرِ الدُّنْيَا وَاكْتَسَبَ , أَيْنَ مَنْ أُعْطِيَ وَأُولِيَ ثُمَّ وَالَى وَوَهَبَ , أَمَا رَحَلَ عَنْ قَصْرِهِ الذَّهَبُ فَذَهَبَ , أَمَا حَلَّ بِهِ فِي الْحَرْبِ الْمُصْطَلِمِ الْحَرَبُ , أَمَا نَازَلَهُ التَّلَفُ وَأَسَرَهُ الْعَطَبُ , أَمَا نَابَتْهُ نَائِبَةٌ لا تُشْبِهُ النُّوَبَ , أَنَفَعَهُ بُكَاءُ مَنْ بَكَى أَوْ نَدْبُ مَنْ نَدَبَ , أَمَا نَدِمَ عَلَى كُلِّ مَا جَنَى وَارْتَكَبَ , أَمَا تُوقِنُونَ أَنَّ طَالِبَهُ لَكُمْ فِي الطَّلَبِ , تَدَبَّرُوا قَوْلَ نَاصِحِكُمْ صَدَقَ أَوْ كَذَبَ. قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ , فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْقُبُورِ بَكَى ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: يَا أَبَا أَيُّوبَ: هَذِهِ قُبُورُ آبَائِي كَأَنَّهُمْ لَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي لَذَّتِهِمْ وَعَيْشِهِمْ , أَمَا تَرَاهُمْ صَرْعَى قَدْ حَلَّتْ بِهِمُ الْمَثُلاتُ وَاسْتَحْكَمَ فِيهِمُ الْبَلاءُ , وَأَصَابَ الْهَوَامُّ فِي أَبْدَانِهِمْ مَقِيلا! ثُمَّ بَكَى حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْعَمَ مِمَّنْ صَارَ إِلَى هَذِهِ الْقُبُورِ وَقَدْ أَمِنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (صُوَرٌ طَوَاهَا الْمَوْتُ طَيًّا ... كَانَتْ مُحَبَّبَةً إِلَيَّا) (تَبْلَى وَيَأْكُلُهَا التُّرَابُ ... وَذِكْرُهَا غَضٌّ إِلَيَّا) (صَرْعَى بِأَنْوَاعِ الْحُتُوفِ ... كَأَنَّهُمْ شَرِبُوا الْحُمَيَّا) (لَهْفِي عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ ... وَهَلْ يَرُدُّ اللَّهْفُ شَيَّا) (أَبْكِي عَلَيْهِمْ ثُمَّ أَرْجِعُ ... بَعْدَهُمْ أَبْكِي عَلَيَّا) (أَنَا مَيِّتٌ بَعْدَ الْحَيَاةِ ... وَمَيِّتٌ لِلْحُزْنِ حَيَّا) (بَيْتِي الثَّرَى وَلَوْ أَنَّنِي ... نِلْتُ السَّمَاءَ أَوِ الثُّرَيَّا) (وَلَوِ اعْتَبَرْتُ لَعَادَ لِي ... غَيْلانُ وَهُوَ يَذُمُّ مَيَّا) (مَنْ لِلسَّمَاءِ بِأَنْ تَدُومَ ... وَأَنَّهَا تُدْعَى سُمَيَّا) (هَيْهَاتَ لا تَرْجُو الْبَقَاءَ ... وَابْكِ نَفْسَكَ يَا أُخَيَّا) كَأَنَّكَ بِالْمَوْتِ وَقَدْ فَصَمَ الْعُرَى الَّتِي بِهَا قَدْ تَمَكَّنْتَ , وَنَقَلَكَ إلى قبر ترى فيه

مَا أَسَأْتَ وَمَا أَحْسَنْتَ , ثُمَّ تَقُومُ لِلْجَزَاءِ عَلَى مَا أَسْرَرْتَ وَمَا أَعْلَنْتَ , فَتَزَيَّنْ بِالتَّقْوَى فَطُوبَى لَكَ إِنْ تَزَيَّنْتَ , وَاعْمَلِ الْيَوْمَ مَا يَنْفَعُكَ غَدًا وَإِلا فَمَنْ أَنْتَ. (كَمْ طَوَى الْمَوْتُ مِنْ نَعِيمٍ وَعِزٍّ ... وَدِيَارٍ مِنْ أَهْلِهَا أَخْلاهَا) (وَجُنُودٍ أَحَالَهَا وَجُدُودٍ ... وَوُجُوهٍ أَحَالَ مِنْهَا حَلاهَا) (أَيْنَ مَنْ كَانَ نَاعِمًا فِي قُصُورٍ ... بَعُلا الْمُكْرَمَاتِ شَيَّدَتْ عُلاهَا) (قَدْ جَفَاهَا مَنْ كَانَ يَرْتَاحُ حِينًا ... نَحْوَهَا بَعْدَ إِلْفِهِ وَقِلاهَا) يَا مَنْ فِي حُلَلِ جَهْلِهِ يَرْفُلُ وَيَمِيسُ يَا مُؤْثِرًا الرَّذَائِلَ عَلَى أَنْفَسِ نَفِيسٍ , يَا طويل لأمل مَاذَا صَنَعَ الْجَلِيسُ , يَا كَثِيرَ الْخَطَايَا أَشْمِتْ إِبْلِيسَ , مَنْ لَكَ إِذَا فَاجَأَكَ مُذِلُّ الرَّئِيسِ , وَاحْتَوَشَتْكَ أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ وَحَمِيَ الْوَطِيسُ , وَنُقِلْتَ إلى لحد مالك فيه إلا العمل أَنِيسٌ , أَيْنَ أَمْسُكَ يَا مَنْ أَمْسَكَ عُرَى أَمَلِهِ , أَمَا ذَهَبَ عَنْ كُلِّ عَبْدٍ بِبَعْضِ أَجَلِهِ , أَيْنَ لَذَّاتُ شَهَوَاتِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ عُمْرِكَ , أَمَا تَصَرَّمَتْ وَالْوِزْرُ عَلَى ظَهْرِكَ , أَمَا الدُّنْيَا تَخْدَعُ مُرِيدَهَا , أَمَا الْعِبَرُ تَجَاذَبُ مُسْتَفِيدَهَا , أما زيادات الأيام تنقص الأجل , أما كمال الأَمْنُ قَرِينَ الْوَجَلِ. ( [وَمَنْ لِكِسْرَى لَوْ فَدَى نفسه ... بكل ما أحرره من بدر) (أنصبت العمار ساجاتهم ... ثُمَّ تَخَلَّى عَامِرٌ مِنْ عُمُرْ) (فَاسْمُ بِذِكْرِ اللَّهِ لا غَيْرِهِ ... فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ خَيْرُ السمر) (وشمر الذيل إِلَى عَفْوِهِ ... فَكُلُّ مَسْعُودٍ إِلَيْهِ انْشَمَرْ) كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: الثَّوَاءُ هَاهُنَا قَلِيلٌ , وَأَنْتُمْ آخِرُ أُمَّتِكُمْ , وَأُمَّتُكُمْ آخِرُ الأُمَمِ , وَقَدْ أَسْرَعَ بِخِيَارِكُمْ , فَمَاذَا تَنْظُرُونَ إِلا الْمُعَايَنَةَ , فَكَأَنَّهَا وَاللَّهِ قَدْ كَانَتْ , مَا بَعْدَ نَبِيِّكُمْ نَبِيٌّ وَلا بَعْدَ كتباكم كِتَابٌ , وَلا بَعْدَ أُمَّتِكُمْ أُمَّةٌ، تَسُوقُونَ النَّاسَ وَالسَّاعَةُ تَسُوقُكُمْ , وَمَا يَنْتَظِرُ أَوَّلُكُمْ إِلا أَنْ يلحق آخركم , فيا لها مَوْعِظَةٍ لَوْ وَافَقَتْ مِنَ الْقُلُوبِ حَيَاةً. (رَضِيَ الفتى بعنائه وشائقه ... لَوْ أَنَّ ظِلَّ بَقَائِهِ مَمْدُودُ)

الكلام على قوله تعالى

(ويح له ما إن يعد لنفسه ... ويبيده نَفَسٌ لَهُ مَعْدُودُ) (يُغْذَى بِأَسْقِيَةٍ لَهُ وَأَلِذَّةٍ ... لَوْ كَانَ يَنْفَعُ فِي الْحَيَاةِ لُدُودُ) (مُلْكٌ يشيد مَا بَنَى وَيَشِيدُ أَرْكَانَ ... الْبَنَاءِ وَرُكْنُهُ مَهْدُودُ) (وَيَرَى طَرِيقَ الْحَقِّ كُلَّ أَخِي حِجًا ... وَكَأَنَّهُ عَنْ فِعْلِهِ مَصْدُودُ) (جَسَدٌ يَكِدُّ لأَنْ يَفُوزَ بِقُوتِهِ ... فَإِنِ اسْتَرَاحَ فَقَلْبُهُ الْمَكْدُودُ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تأتيهم بغتة} {فهل ينظرون} بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ. وَالسَّاعَةُ: الْقِيَامَةُ. سُمِّيَتْ سَاعَةً لأَنَّهَا تَكُونُ فِي سَاعَةٍ. وَالْبَغْتَةُ: الْفَجْأَةُ: وَالأَشْرَاطُ: الْعَلامَاتُ. أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الطَّوْسِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْبَنَّاءِ، وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْعَالِمَةِ وَأَبُو الْحَسَنِ الْخَيَّاطُ، قَالُوا أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ النَّقُّورِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ حُبَابَةَ , حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ , حَدَّثَنَا طَالُوتُ بْنُ عَبَّادٍ , حَدَّثَنَا فَضَّالُ بْنُ جُبَيْرٍ , عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ". أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْكَاتِبُ , حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبِي , حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ , عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ , عَنِ الأَعْرَجِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَكَ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي لَفْظٍ: وَمَا بِهِ إِلا الْبَلاءُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ

أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا , وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ قَيِّمَ خَمْسِينَ امْرَأَةً رَجُلٌ وَاحِدٌ. وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ قَالَ: أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْمَشْرِقِ فَتَحْشُرُ النَّاسَ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: لا تقوم لساعة حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ وَتْظَهَرَ الْفِتَنُ وَيَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلانِ ثَوْبَهُمَا فَلا يَتَبَايِعَانِهِ وَلا يَطْوِيَانِهِ , وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ الرَّجُلُ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلا يَطْعَمُهَا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُكَلِّمَ السِّبَاعُ الإِنْسَ وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ وَشِرَاكُ نَعْلِهِ وَتُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ ". أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْكَرُوخِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الأَزْدِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْغُورَجِيُّ , قَالا أَنْبَأَنَا الْجَرَّاحِيُّ، حَدَّثَنَا الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ , حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ , حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ , عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلاءُ. قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ الْمَغْنَمُ دُوَلا , وَالأَمَانَةُ مَغْنَمًا , وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا , وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زوجته وعق أمه , وبر صديقه وجف أَبَاهُ , وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ , وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ , وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ , وَشُرِبَتِ الخمور , ولبس الحرير , واتخذت القيان وَالْمَعَازِفُ , وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا , فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ أَوْ خَسْفًا أَوْ مَسْخًا ". اعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تُدْرِكْ أَشْرَاطَ الْقِيَامَةِ فَقِيَامَتُكَ الْعَاجِلَةُ مَوْتُكَ , فَإِذَا حَانَتْ

سَاعَةُ الْوَفَاةِ فَاتَ زَمَنُ الاسْتِدْرَاكِ وَخَرَجَ رَبِيعُ الْبِدَارِ , فَسُدَّ بَابُ الإِجَابَةِ عَنْ دُعَاءِ الإِنَابَةِ , كما قال عز وجل في القيامة: {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} أَيْ فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ أَنْ يَتَذَكَّرُوا وَيَتُوبُوا إِذَا جَاءَتْ , فَكَذَلِكَ عِنْدَ صَرْعَةِ الْمَوْتِ لا عَثْرَةٌ تُقَالُ وَلا تَوْبَةٌ تُنَالُ. رَوَى مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ الْبُرْجُمِيِّ رَفَعَهُ , قَالَ: احْضَرُوا مَوْتَاكُمْ وَلَقِّنُوهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَبَشِّرُوهُمْ بِالْجَنَّةِ , فَإِنَّ الْحَلِيمَ الْعَلِيمَ يَتَحَيَّرُ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَصْرَعِ , وَإِنَّ إِبْلِيسَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ مِنَ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ عِنْدَ فِرَاقِ الدُّنْيَا وَتَرْكِ الأَحِبَّةِ. (خُذْ لا أبالك لِلْمَنِيَّةِ عُدَّةً ... وَاحْتَلْ لِنَفْسِكَ إِنْ أَرَدْتَ صَلاحَهَا) (لا تَغْتَرِرْ فَكَأَنَّنِي بِعُقَابِ رَيْبِ ... الدَّهْرِ قَدْ نَشَرَتْ عَلَيْكَ جَنَاحَهَا) وَيْحَكَ! أَمِنَ الأُخْرَى عِوَضٌ؟ أَنْتُمْ فِي الدُّنْيَا عَرَضٌ , يَا مَنْ كُلَّمَا بَنَى نَقَضَ , يَا مَنْ كُلَّمَا رَفَعَ انْخَفَضَ , يَا عَجِيبَ الدَّاءِ وَالْمَرَضِ , كَمْ شَاهَدْتَ مَسْلُوبًا , كَمْ عَايَنْتَ مَغْلُوبًا , كَمْ مَخْفُوضٍ بَعْدَ الرَّفْعِ , كَمْ مَضْرُورٍ بَعْدَ النَّفْعِ , كَمْ مَدْفُوعٍ عَنْ أَغْرَاضِهِ أَقْبَحَ الدَّفْعِ , بَيْنَمَا هُوَ فِي ثِيَابِ أَوْجَاعِهِ وَمُنَى السَّلامَةِ تَخْطِرُ فِي أَطْمَاعِهِ , أَسْرَعَ الْمَوْتُ وَنَادَى بِإِسْرَاعِهِ , فَعَجَزَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ أَوْ عَنْ دِفَاعِهِ , فَحَارَتْ مِنْ حَالِهِ قُلُوبُ أَتْبَاعِهِ , وَاشْتَغَلَ بِضَيَاعِ أَمْرِهِ عَنْ ضَيَاعِهِ , وَأَقْبَلَتْ قَبَائِلُهُ عَلَى تَقْبِيلِهِ وَوَدَاعِهِ , وَبَكَى لِمَيْلِهِ إِلَى الْهَوَى عِنْدَ نَزْعِهِ وَنِزَاعِهِ , وَهَذَا مَصِيرُكَ فَانْتَبِهْ لَهُ وَرَاعِهِ. (تَرَدَّ بِالنُّسْكِ وَأَفْعَالِهِ ... يَا مَنْ إِذَا حَانَ مِنْكَ الْمَرَدّ) (وَرَدْتَ دُنْيَاكَ عَلَى غِرَّةٍ ... فَوَيْحُ مَغْرُورٍ عَلَيْهَا وَرَدْ) (إِنْ مَرَّ ذَا الفاتك في جهله ... فليخش يوماً ماله مِنْ مُرِدْ) [إِخْوَانِي] مَا بَالُ النُّفُوسِ تَعْرِفُ حَقَائِقَ الْمَصِيرِ , وَلا تَعْرِفُ عَوَائِقَ التَّقْصِيرِ , وَكَيْفَ رَضِيَتْ بِالزَّادِ الْيَسِيرِ , وَقَدْ عَلِمَتْ طُولَ الْمَسِيرِ , أَمْ كَيْفَ أَقْبَلَتْ عَلَى التَّبْذِيرِ وَقَدْ حُذِّرَتْ غَايَةَ التَّحْذِيرِ , أَمَا تَخَافُ زَلَلَ التَّعْثِيرِ إِذَا حُوسِبَتْ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.

سجع على قوله تعالى

كَانَ خُلَيْدٌ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: كُلُّنَا قَدْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ وَمَا نَرَى لَهُ مُسْتَعِدًّا , وَكُلُّنَا قَدْ أَيْقَنَ بِالْجَنَّةِ وَمَا نَرَى لَهَا عَامِلا , وَكُلُّنَا قَدْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ وَمَا نَرَى لَهَا خَائِفًا , فَعَلامَ تَعْرُجُونَ وَمَاذَا عَسَيْتُمْ تَنْتَظِرُونَ , فَهَذَا الْمَوْتُ أَوَّلُ وَارِدٍ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ. فَيَا إِخْوَتَاهُ سِيرُوا إِلَى رَبِّكُمْ سَيْرًا جَمِيلا. (سَيَكْفِي بَعْضُ مَا فَاتَكْ ... فَلا تَأْسَ لِمَا فَاتَكْ) (وَلا تَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيَا ... أَمَا تذكر أمواتك) دخل بَعْضُ الْعُبَّادِ عَلَى بَعْضِ الأُمَرَاءِ فَقَالَ لَهُ الأَمِيرُ: مَا أَزْهَدَكَ وَأَصْبَرَكَ. فَقَالَ: إِنَّ صَبْرِي جَزَعٌ مِنَ النَّارِ وَزُهْدِيَ رَغْبَةٌ فِي الْجَنَّةِ. يَا غَافِلا فِي بَطَالَتِهِ , يَا مَنْ لا يَفِيقُ مِنْ سَكْرَتِهِ , أَيْنَ نَدَمُكَ عَلَى ذُنُوبِكَ , أَيْنَ حَسْرَتُكَ عَلَى عُيُوبِكَ , إِلَى مَتَى تُؤْذِي بِالذَّنْبِ نَفْسَكَ وَتُضَيِّعُ يَوْمَكَ تَضْيِيعَكَ أَمْسِكَ , لا مَعَ الصَّادِقِينَ لَكَ قَدَمٌ , وَلا مَعَ التَّائِبِينَ لَكَ نَدَمٌ , هَلا بَسَطْتَ فِي الدُّجَى يَدًا سَائِلَةً , وَأَجْرَيْتَ فِي السَّحَرِ دُمُوعًا سَائِلَةً. (خَدَعَتْنَا زَخَارِفُ الآمَالِ ... فَلَهَوْنَا بِهَا عَنِ الآجَالِ) (عَجَبِي مِنْ مُؤَمِّلٍ آمِنِ السِّرْبِ ... بِهَا وَهِيَ خُطَّةُ الأَوْجَالِ) (نَحْنُ سَفْرٌ وَإِنَّمَا أَمْهَلَتْنَا ... رَيْثَمَا نَسْتَعِدُّ لِلتِّرْحَالِ) أَسَفًا لِمَنْ إِذَا رَبِحَ الْعَامِلُونَ خَسِرَ , وَإِذَا أُطْلِقَ الْمُقَيَّدُونَ أُسِرَ , مَنْ لَهُ إِذَا خُوصِمَ فَلَمْ يَنْتَصِرْ , وَنَسِيَ يَوْمَ الرَّحْمَةِ فَمَا ذكر , فالجد جد أَيُّهَا الْغَافِلُ فَأَيَّامُ الْعُمْرِ كُلُّهَا قَلائِلُ. سَجْعٌ على قوله تعالى {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} [لَوْ رَأَيْتَ الْعُصَاةَ وَالْكَرْبُ يَغْشَاهُمْ , وَالنَّدَمُ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ وَكَفَاهُمْ , وَالأَسَفُ عَلَى مَا فَاتَهُمْ قد أضناهم , يتمنون العافية وهيهات مناهم , {فأنى لهم

إذا جاءتهم ذكراهم} .] نَزَلَ بِهِمُ الْمَرَضُ فَأَلْقَاهُمْ كَالْحَرَضِ , فَانْفَكَّ أَمَلُهُمْ وَانْقَبَضَ , وَانْعَكَسَ عَلَيْهِمُ الْغَرَضُ , وَرَحِمَهُمْ فِي صَرْعَتِهِمْ من عاداهم {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} . يَتَمَنَّوْنَ عِنْدَ الْمَوْتِ رَاحَةً , وَيَشْتَهُونَ مِنَ الْكَرْبِ اسْتِرَاحَةً , وَيُنَاقَشُونَ عَلَى الْخَطَايَا وَلا سَمَاحَةَ , فَهُمْ كَطَائِرٍ قَصَرَ الصَّائِدُ جَنَاحَهُ , فِي حَبْسِ النَّزْعِ والكرب يغشاهم {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} . يَتَأَسَّفُونَ وَأَسَفُهُمْ أَشَدُّ مَا فِي الْعِلَّةِ , وَيَتَحَسَّرُونَ وَتَحَسُّرُهُمْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ زَلَّةٍ , وَجَبَلُ نَدَمِهِمْ قَدْ شُقَّ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ , فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ بَعْدَ الْكِبْرِ قَدْ صَارُوا أَذِلَّةً , وَتَمَلَّكَ أَمْوَالَهُمْ بعدهم سواهم {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} . مَا نَفَعَهُمْ مَا تَعِبُوا لِتَحْصِيلِهِ وَجَالُوا , وَلا رَدَّ عَنْهُمْ مَا جَمَعُوا وَاحْتَالُوا , جَاءَ الْمَرَضُ فَأَذَلَّهُمْ بَعْدَ أَنْ صَالُوا , فَإِذَا قَالَ الْعَائِدُ لأَهْلِيهِمْ: كَيْفَ بَاتُوا؟ قَالُوا: إِنَّ السُّقْمَ قَدْ وهاهم وها هم {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} . نَزَلُوا بُطُونَ الْفَلا فَلا يُقْبَلُ عُذْرَهُمْ , وَلا ذُو وُدٍّ يَنْفَعُهُمْ , قَدْ أَضْنَاهُمْ بَلاءُ الْبِلَى , فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ فِي بِلاهِمْ وَهُمْ فِي بِلاهِمْ {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} . فَالْبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ الْفَوَاتِ , وَالْحِذَارَ الْحِذَارَ مِنْ يَوْمِ الْغَفَلاتِ , قَبْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُذْنِبُ رَبِّ ارجعون فيقال فات , ويح الغافلين عن عقباهم ما أعماهم {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} . نَبَّهَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّقْدَةِ وَذَكَّرَنَا وَإِيَّاكُمُ الْمَوْتَ وَمَا بَعْدَهُ إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.

المجلس الثاني عشر في قصة يوسف عليه السلام

المجلس الثاني عشر فِي قِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ أَحْسَنِ الْخَالِقِينَ وَأَكْرَمِ الرَّازِقِينَ , مُكْرِمِ الْمُوَفَّقِينَ وَمُعَظِّمِ الصَّادِقِينَ , وَمُجِلِّ الْمُتَّقِينَ , وَمُذِلِّ الْمُنَافِقِينَ , حَفِظَ يُوسُفَ لعلمه بعلم اليقين , فألبسه عند الهم دروعا يَقِينٍ , وَمَلَّكَهُ إِذْ مَلَكَ عِنَانَ الْهَوَى مَيْدَانَ السَّابِقِينَ , فَذَلَّ لَهُ إِخْوَتَهُ يَوْمَ: " وَمَا كُنَّا سارقين " {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كنا لخاطئين} أَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ الذَّاكِرِينَ , وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ سَابِقِ الْمُبَكِّرِينَ , وَعَلَى عُمَرَ سَيِّدِ الآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكِرِينَ , وَعَلَى عُثْمَانَ الشَّهِيدِ بِأَيْدِي الْمَاكِرِينَ , وَعَلَى عَلِيٍّ إِمَامِ الْعُبَّادِ الْمُتَفَكِّرِينَ , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَبِي الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثرك الله علينا} . كَانَ يَعْقُوبُ قَدْ وُلِدَ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ ونبيء في زمانه أيضا. وكان هو والعيص توأمين فَاخْتَصَمَا فَخَرَجَ هَارِبًا إِلَى خَالِهِ لابَانَ فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ لِيَا , فَوَلَدَتْ لَهُ روبِيلَ ثُمَّ شَمْعُونَ وَلاوِي وَيَشْجُبَ وَيَهُوذَا وَزبالُونَ. ثُمَّ تُوُفِّيَتْ فَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا رَاحِيلَ فَوَلَدَتْ لَهُ يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ , وَمَعْنَاهُ ابْنُ الْوَجَعِ لأَنْهَا مَاتَتْ فِي نُفَاسِهِ , وَوُلِدَ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا أَرْبَعَةٌ فَكَانَ أَوْلادُهُ اثْنَيْ عَشَرَ , وَهُمُ الأَسْبَاطُ. وَكَانَ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ يُوسُفُ , فَحَسَدَهُ إِخْوَتُهُ فَاحْتَالُوا عَلَيْهِ , فَقَالُوا يَا

يُوسُفُ أَمَا تَشْتَاقُ أَنْ تَخْرُجَ مَعَنَا فَتَلْعَبَ وَتَتَصَيَّدَ؟ فَقَالَ: بَلَى. قَالُوا: فَسَلْ أَبَاكَ أَنْ يُرْسِلَكَ مَعَنَا , فَاسْتَأْذَنَهُ فَأَذِنَ لَهُ , فَلَمَّا أَصْحَرُوا أَظْهَرُوا لَهُ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ , فَجَعَلَ كُلَّمَا الْتَجَأَ إِلَى شَخْصٍ مِنْهُمْ آذَاهُ وَضَرَبَهُ , فَلَمَّا فَطِنَ لِمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ قَالَ: يا أبتاه يا يعقوب لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك , يَا أَبَتَاهُ مَا أَسْرَعَ مَا نَسُوا عَهْدَكَ وَضَيَّعُوا وَصِيَّتَكَ. فَأَخَذَهُ روبِيلُ فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ وجثم على صدره ليقتله وقال: يا بن رَاحِيلَ قُلْ لِرُؤْيَاكَ تُخَلِّصُكَ , وَكَانَ قَدْ رَأَى وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ ساجدين له. فصاح: يا يهوذا حل بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلِي. فَقَالَ يَهُوذَا: أَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ. فَنَزَعُوا قَمِيصَهُ لإِلْقَائِهِ , فَقَالَ رُدُّوهُ عَلَيَّ أَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتِي وَيَكُونُ كَفَنًا لِي فِي مَمَاتِي. فَلَمَّا أَلْقَوْهُ أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُ حَجَرًا مُرْتَفِعًا مِنَ الْمَاءِ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ قَدَمَاهُ , وَكَانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ أَدْرَجَ قَمِيصَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِي كَسِيَهُ يَوْمَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فِي قَصَبَةٍ وَجَعَلَهَا فِي عُنُقِ يُوسُفَ , فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكًا فَاسْتَخْرَجَ الْقَمِيصَ فَأَلْبَسَهُ إِيَّاهُ وَأَضَاءَ لَهُ الْجُبَّ وَعَذُبَ مَاؤُهُ وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ يُؤْنِسُهُ , فَلَمَّا أَمْسَى نَهَضَ جِبْرِيلُ لِيَذْهَبَ , فَقَالَ لَهُ يُوسُفُ: إِنَّكَ إِذَا خرجتَ عَنِّي استوحشتُ فَقَالَ إِذَا رَهِبْتَ شَيْئًا فَقُلْ: يَا صَرِيخَ الْمُسْتَصْرِخِينَ وَيَا غَيَّاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ , وَيَا مُفَرِّجَ كَرْبِ الْمَكْرُوبِينَ , قَدْ تَرَى مَكَانِي وَتَعْلَمُ حَالِي وَلا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي. فَلَمَّا قَالَهَا حَفَّتْ بِهِ الْمَلائِكَةُ فَاسْتَأْنَسَ بِهِمْ. وَذَبَحَ إِخْوَتُهُ جَدْيًا فَلَطَّخُوا بِهِ الْقَمِيصَ , وَقَالُوا أَكَلَهُ الذِّئْبُ , وَمَكَثَ فِي الْجُبِّ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَإِخْوَتُهُ يَرْعَوْنَ حَوْلَهُ , وَيَهُوذَا يَأْتِيهِ بِالْقُوتِ. فَلَمَّا جَاءَتِ السَّيَّارَةُ تَسْقِي مِنَ الْجُبِّ تَعَلَّقَ بِالْحَبْلِ فَأَخْرَجُوهُ , فَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَقَالُوا: هَذَا عَبْدٌ أَبَقَ مِنَّا. فَبَاعُوهُ مِنْهُمْ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَحُلَّةٍ وَنَعْلَيْنِ. فَحَمَلُوهُ إِلَى مِصْرَ فَوَقَفُوهُ لِلْبَيْعِ , فَتَزَايَدَ النَّاسُ فِي ثَمَنِهِ , حَتَّى بَلَغَ وَزْنُهُ مِسْكًا وَوَزْنُهُ وَرِقًا وَوَزْنُهُ حَرِيرًا , وَاشْتَرَاهُ بِذَلِكَ قطفيرُ , وَكَانَ أَمِينَ مَلِكِهِمْ وَخَازِنِهِ , وَقَالَ لامْرَأَتِهِ زُلَيْخَا: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ. فَرَاوَدَتْهُ فَعُصِمَ مِنْهَا , فَسَجَنَتْهُ إِذْ لَمْ يُوَافِقْهَا ,

فَبَقِيَ مَسْجُونًا إِلَى حِينِ مَنَامِ الْمَلَكِ , فَلَمَّا أَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ مِصْرَ , فَجَمَعَ الأَقْوَاتَ فِي زَمَنِ الرَّخَاءِ وَبَاعَ فِي زَمَنِ الْقَحْطِ , فَرُوِيَ أَنَّهُ بَاعَ مَكُّوكَ بُرٍّ بِمَكُّوكِ دُرٍّ , وَبَاعَ أَهْلُ مِصْرَ بِأَمْوَالِهِمْ وَحُلِيِّهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَعَقَارِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ , ثُمَّ بِأَوْلادِهِمْ ثُمَّ بِرِقَابِهِمْ , ثم قال: إني قد أعتقهم وَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ. وَكَانَ يُوُسفُ عَلَيْهِ السَّلامُ لا يَشْبَعُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أَنْسَى الْجَائِعَ! وَبَلَغَ الْقَحْطُ إِلَى كَنْعَانَ فَأَرْسَلَ يَعْقُوبُ وَلَدَهُ لِلْمِيرَةِ , وَقَالَ: يَا بَنِيَّ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بِمِصْرَ مَلِكًا صَالِحًا فَانْطَلِقُوا إِلَيْهِ فَأَقْرِئُوهُ مِنِّي السَّلامَ. فَمَضَوْا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَأَنْكَرُوهُ , فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُمْ؟ فَقَالُوا: مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ , وَلَنَا شَيْخٌ يُقَالُ لَهُ يَعْقُوبُ , وَهُو يُقْرِئُكَ السَّلامَ. فَبَكَى وَعَصَرَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: لَعَلَّكُمْ جَوَاسِيسُ. فَقَالُوا: لا وَاللَّهِ. قَالَ: فَكَمْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: أَحَدَ عَشَرَ , وَكُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ , فَأَكَلَ أَحَدَنَا الذِّئْبُ. فَقَالَ ائْتُونِي بِأَخِيكُمُ الَّذِي مِنْ أَبِيكُمْ. ثُمَّ دَرَجَ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ. فَعَادُوا إِلَى أَبِيهِمْ , فَقَالُوا: إِنَّا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ. فَقَالَ يَعْقُوبُ: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ على أخيه من قبل؟! ثم حمله احتياجه إلى الطَّعَامَ إِلَى أَنْ أَرْسَلَهُ مَعَهُمْ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ أَجْلَسَ كُلَّ اثْنَيْنِ عَلَى مَائِدَةٍ , فَبَقِيَ بِنْيَامِينُ وَحِيدًا يَبْكِي , وَقَالَ: لَوْ كَانَ أَخِي حَيًّا لأَجْلَسَنِي مَعَهُ! فَضَمَّهُ يُوسُفُ إِلَيْهِ وَقَالَ: أُتُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَخَاكَ؟ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ وَمَنْ يَجِدُ أَخًا مِثْلَكَ , وَلَكِنْ لَمْ يَلِدْكَ يَعْقُوبُ وَلا رَاحِيلُ. فَبَكَى يُوسُفُ وَقَامَ إِلَيْهِ فَاعْتَنَقَهُ وَقَالَ أَنَا أَخُوكَ. ثُمَّ احْتَالَ عَلَيْهِ فَوَضَعَ الصَّاعَ فِي رَحْلِهِ , فَلَمَّا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى خَلاصِهِ أَقَامَ يَهُوذَا وَرَجَعُوا إِلَى يعقوب يقولون إن ابنك سرق. فَتَلَقَّاهُمْ بِصَبْرٍ جَمِيلٍ وَانْفَرَدَ بِحُزْنِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا فَارَقَهُ الْحُزْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً , وَمَا جَفَّتْ عَيْنَاهُ , وَمَا أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَقِيَ يَعْقُوبَ فَسَأَلَهُ: هَلْ قَبَضْتَ رُوحَ يُوسُفَ؟ قَالَ: لا.

فَأَصْبَحَ يَقُولُ لِبَنِيهِ: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وأخيه} فَلَمَّا عَادُوا إِلَيْهِ بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ وَهِيَ الْقَلِيلَةُ , وقفوا موقف الذل , وقالوا: تصدق علينا. فقال: {هل علمتم ما فعلتم بيوسف} وكشف الحجاب عن نفسه , فعرفوه فقالوا: {أئنك لأنت يوسف} فَحِينَئِذٍ قَالُوا: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ علينا} . قَالَ الزَّجَّاجُ: تَاللَّهِ بِمَعْنَى: وَاللَّهِ. إِلا أَنَّ التَّاءَ لا يُقْسَمُ بِهَا إِلا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلا يَجُوزُ: تَالرَّحْمَنِ وَلا تَرَبِّي. وَالتَّاءُ تُبْدَلُ مِنَ الْوَاوِ كَمَا قَالُوا فِي وُرَاثٍ: تُرَاثٌ. وَقَالُوا: يَتَّزِنُ. وَأَصْلُهُ يُوتَزَنُ , مِنَ الوزن. ومعنى " آثرك الله " اخْتَارَكَ وَفَضَّلَكَ , وَكَانَ قَدْ فُضِّل عَلَيْهِمْ بِالْحُسْنِ وَالْعَقْلِ وَالْحِلْمِ وَالصَّبْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ {وَإِنْ كُنَّا لخاطئين} أَيْ لَمُذْنِبِينَ آثِمِينَ فِي أَمْرِكَ. {قَالَ لا تثريب عليكم اليوم} أَيْ لا أُعَيِّرُكُمْ بِمَا صَنَعْتُمْ. ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ أَبِيهِ فَقَالُوا: ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ. فَأَعْطَاهُمْ قَمِيصَهُ وَقَالَ: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أبي يأت بصيرا} وَهُوَ قَمِيصُ الْخَلِيلِ الَّذِي كَانَ فِي عُنُقِ يُوسُفَ , وَكَانَ مِنَ الْجَنَّةِ , فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ حَمَلَ الْقَمِيصَ يَهُوذَا وَقَالَ: أَنَا حَمَلْتُ قَمِيصَ الدَّمِ وَهَا أَنَا أَحْمِلُ قَمِيصَ الْبِشَارَةِ. فَخَرَجَ حَافِيًا حَاسِرًا يَعْدُو وَمَعَهُ سَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ لَمْ يَسْتَوْفِ أَكْلَهَا , فَقَالَ يَعْقُوبُ لِمَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يوسف لولا أن تفندون} أَيْ تُنْكِرُونَ عَلَيَّ لأَخْبَرْتُكُمْ أَنَّهُ حَيٌّ. {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بصيرا} . ثم خرج في نحو من سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ , وَخَرَجَ يُوسُفُ لِتَلَقِّيهِ , فَلَمَّا الْتَقَيَا قَالَ يَعْقُوبُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مُذْهِبَ الأَحْزَانِ. فَقَالَ يُوسُفُ: بَكَيْتَ يَا أَبَتِي حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُكَ , أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقِيَامَةَ تَجْمَعُنِي وَإِيَّاكَ! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ خَشِيتُ أَنْ يُسْتَلَبَ دِينُكَ فَلا نَجْتَمِعُ! وَكَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ يركب في كل شهر ركبة في ثمانمائة أَلْفٍ , وَمَعَهُ أَلْفُ لِوَاءٍ وَأَلْفَا سَيْفٍ , فَيَدُورُ فِي عَمَلِهِ فَيَنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ. وَكَانَتْ زُلَيْخَا تَلْبَسُ جُبَّةَ صُوفٍ وَتَشُدُّ وَسَطَهَا بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ وَتَقِفُ عَلَى

قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَتُنَادِيهِ فَلا يَسْمَعُ , فَنَادَتْهُ يَوْمًا: أَيُّهَا الْعَزِيزُ سُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ الْعَبِيدَ بِالطَّاعَةِ مُلُوكًا وَجَعَلَ الْمُلُوكَ بِالْمَعْصِيَةِ عَبِيدًا! فَسَمِعَهَا فَبَكَى وَقَالَ لِفَتَاهُ: انْطَلِقْ بِهَذِهِ الْعَجُوزِ إِلَى الدَّارِ وَاقْضِ لَهَا كُلَّ حَاجَةٍ. فَقَالَ لَهَا الْغُلامُ: مَا حَاجَاتُكَ يَا عَجُوزُ؟ فَقَالَتْ: حَاجَتِي مُحَرَّمَةٌ أَنْ يَقْضِيَهَا غَيْرُ يُوسُفَ. فَلَمَّا جَاءَ يُوسُفُ قَالَ: مَنْ أَنْتِ يَا عَجُوزُ؟ فَقَالَتْ: أَنَا زُلَيْخَا. قَالَ: مَا فَعَلَ حُسْنُكِ وَجَمَالُكِ؟ قَالَتْ ذَهَبَ بِهِ الَّذِي أَذْهَبَ ذُلَّكَ وَمَسْكَنَتَكَ. فَقَالَ: يَا زُلَيْخَا عِنْدِي قَضَاءُ ثَلاثِ حَوَائِجَ فَسَلِي , فَوَحَقِّ شَيْبَةِ إِبْرَاهِيمَ لأَقْضِيَنَّهَا. فَقَالَتْ: حَاجَتِي الأُولَى أن تدعوا اللَّهَ لِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي وَشَبَابِي. فَدَعَا لَهَا , فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بَصَرَهَا وَشَبَابَهَا , ثُمَّ قَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ حُسْنِي كَمَا كَانَ. فَدَعَا لَهَا , فَرَدَّ عَلَيْهَا حُسْنَهَا وَزِيدَ فِيهِ. فَصَارَتْ كَأَنَّهَا بِنْتُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَةَ سَنَةً وَكَانَ لَهَا مِنَ الْعُمْرِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. فَقَالَتْ وَحَاجَتِي الثَّانِيَةُ أَنْ تَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لِي مَا كَانَ مِنِّي. وَحَاجَتِي الثَّالِثَةُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِي. فَتَزَوَّجَ بِهَا فَأَصَابَهَا بِكْرًا وَأَوْلَدَهَا اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا. ذَكَرَ هَذَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي وَغَيْرُهُ عَنْ وَهْبٍ. وَأَقَامَ يَعْقُوبُ عِنْدَ يُوسُفَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَهْنَإِ عَيْشٍ , فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى يُوسُفَ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَى الشَّامِ حَتَّى يَدْفِنَهُ عِنْدَ أَبِيهِ إِسْحَاقَ , فَفَعَلَ. ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَأَى أَنَّ أمره قد تم فقال: {توفني مسلما} وَأَوْصَى إِلَى يَهُوذَا. فَتَلَمَّحُوا عُلُوَّ قَدْرِ يَعْقُوبَ بِبَلائِهِ وَعِزَّ يُوسُفَ فِي صَبْرِهِ , وَلْيَكُنْ حَظُّكُمْ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} . وَلْيَتَفَكَّرِ الْعَاصِي فِي لَذَّاتٍ فَنِيَتْ وَتَبِعَاتٍ بَقِيَتْ , وَلْيَتَدَبَّرِ الصَّابِرُ لَذَّةَ مَدِيحَةٍ ثَبَتَتْ وَمَرَارَةَ مُصَابَرَةٍ خَلَتْ , وَالأَمْرُ بِآخِرِهِ وَلِلْعَوَاقِبِ يَعْمَلُ الْمُتَيَقِّظُ. رَزَقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ صَبْرًا يَزِينُنَا , وَعِصْمَةً مِنْ هَوَى يَشِينُنَا , إِنَّهُ إِنْ فَعَلَ سَلِمَتْ دُنْيَانَا وَدِينُنَا , إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.

الكلام على البسملة

الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (إِلَى أَيِّ حِينٍ أَنْتَ في صبوة لاهي ... أمالك مِنْ شَيْءٍ وُعِظْتَ بِهِ نَاهِي) (وَيَا مُذْنِبًا يَرْجُو مِنَ اللَّهِ عَفْوَهُ ... أَتَرْضَى بِسَبْقِ الْمُتَّقِينَ إِلَى اللَّهِ) يَا مُبَارِزًا بِالْعَظَائِمِ كَيْفَ أَمِنْتَ فنمت , يا مصرا على الجرائم عجباً إِنْ سَلِمْتَ , يَا مُبَذِّرًا مُنْذَرًا كَأَنَّهُ مَا يَسْمَعُ , إِنْ فَاجَأَكَ الْعَذَابُ فَمَاذَا تَصْنَعُ , تَدَبَّرْ عُقْبَى أَبِي الآبَاءِ إِلَى مَا آبَ , وَتَفَكَّرْ في حال المذنبين فبئس المآب , بيناهم فِي أَمْنٍ قَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَنَعَقَ بَيْنَهُمْ لِلْبَيْنِ غُرَابٌ , فَتَرَاكَمَ رُكَامُ الْهَوَامِّ عَلَيْهِمْ فِي الْهَوَاءِ وَاللُّعَابِ , وَمَرَّ مَرِيرُ الرِّيقِ فَمَشَى فِي الْمُشَارِعِ الْعَذَابُ , وَامْتَدَّ سَاعِدُ الْبَلاءِ إِلَى إِغْلاقِ بَابِ الْعِتَابِ , وَسُئِلُوا عَنْ جَوْرِهِمْ فَقَوِيَ قَلَقُ الْجَوَى فِي الْجَوَابِ , وَذَاقُوا بَعْدَ حَلاوَةِ الْخِلافِ مِنْ أَخْلافِ الأَوْصَابِ الصَّابِّ , وَانْتَقَى الانْتِقَامُ نَقِيَّ لَذَّاتِهِمْ فَخَلَتْ مِمَّا لَذَّ أَوْ طَابَ , وَنَشَبَتْ فِي شَيْبِهِمْ وَشَبَابِهِمْ شَبَا سُيُوفِ الذَّمِّ وَعَتَا الْعِتَابُ , وَدَخَلُوا إِلَى نَارٍ تُهَابُ أَوْصَافُهَا قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الالْتِهَابِ , فَلَمَّا سَالَتِ الْعُيُونُ دَمًا قَرَّعُوا بِالأَنَامِلِ نَدَمًا لَمَّا نَابَ النَّابُ وَحَطَّ مِنْ رُبًا مِنْهُمْ عَلَى الرُّبَا فَاسْتَبْدَلَ صَوْتَ الأَسَى عَنِ الرَّبَابِ , فَاحْذَرُوا أَنْ يُصِيبَكُمْ من نصيبكم مِثْلُ حِصَصِهِمْ , فَلَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ. (وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا جَمَحَتْ بِهِمْ ... تِلْكَ الطَّبِيعَةُ نَحْوَ كُلِّ تَيَّارِ) (تَهْوَى نُفُوسُهُمْ هَوَى أَجْسَامِهِمْ ... شُغُلا بِكُلِّ دَنَاءَةٍ وَصَغَارِ) (تَبِعُوا الْهَوَى فَهَوَى بِهِمْ وَكَذَا الْهَوَى ... مِنْهُ الْهَوَانُ بِأَهْلِهِ فَحَذَارِ) (فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْحَقِّ لا عَيْنِ الْهَوَى ... فَالْحَقُّ لِلْعَيْنِ الْجَلِيَّةِ عَارِ) (قَادَ الْهَوَى الْفُجَّارُ فَانْقَادُوا لَهُ ... وَأَبَتْ عَلَيْهِ مَقَادَةُ الأَبْرَارِ) إِخْوَانِي: مَنْ فَعَلَ مَا يُحِبُّ لَقِيَ مَا يَكْرَهُ , وَمَنْ صَبَرَ عَلَى مَا يَكْرَهُ نَالَ مَا يُحِبُّ , لا تَقْطَعْ مُشَاوَرَةَ الْعَقْلِ قَبْلَ مُشَاوَرَةِ الْهَوَى , فَإِنَّ الْمُسْتَبِدَّ بِرَأْيِهِ وَاقِفٌ عَلَى مَدَاحِضِ الزَّلَلِ , لَمْ تَزَلْ أَكُفُّ الْعَقْلِ ضَابِطَةً أَعِنَّةَ النُّفُوسِ غَيْرَ أَنَّ الْعَزْمَ يَنْقَلِبُ ,

رُكُوبُ الأَخْطَارِ يَسُوقُ الأَقْدَارَ , مَنْ قَرَأَ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَكَلَّمَ وَالنَّاسُ سُكُوتٌ. وَهَبَ بَعْضُ الْمُلُوكِ جَارِيَةً يُحِبُّهَا. فَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ: لا أُفَرِّقُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ تَهْوَاهُ. فَقَالَ: خُذْهَا وَإِنْ كُنْتُ أُحِبُّهَا لِيَعْلَمَ هَوَايَ أَنِّي غَيْرُ طَائِعٍ لَهُ. وَقِيلَ لِلْمُرْتَعِشِ: إِنَّ فُلانًا يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ: إِنَّ مَنْ مَكَّنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مُخَالَفَةِ هَوَاهُ أَعْظَمُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ! (فَإِنَّ الْمُرَّ حِينَ يُسِرُّ حُلْوٌ ... وَإِنَّ الْحُلْوَ حِينَ يَضُرُّ مُرُّ) (فَخُذْ مُرًّا تُصَادِفُ مِنْهُ نَفْعًا ... وَلا تَعْدِلْ إِلَى حُلْوٍ يَضُرُّ) صَابِرْ لَيْلَ الْبِلا فَقَدْ دَنَا الْفَجْرُ , وَاثْبُتْ لِعَمَلِ نَهَارِ الْعُمْرِ تَسْتَوْفِ الأَجْرَ , وَاحْبِسْ نَفْسَكَ عَنْ هَوَاهَا فَسَيَنْفَعُكَ الْحَجْرُ , وَارْجُزْ لَهَا فَإِنْ لَمْ تُسَرَّ بِالرَّجَزِ فَبِالزَّجْرِ , مَا نَالَ مَنْ نَالَ مَا نَالَ إِلا بِالصَّبْرِ , وَبِهِ عَلا ذِكْرُ كُلِّ عَابِدٍ وَحَبْرٍ , وَهُوَ وَإِنْ مَرَّتْ مَذَاقَتُهُ بَانَتْ حَلاوَتُهُ فِي الْقَبْرِ , أَيُّهَا النَّائِمُ وَهُوَ مُنَتْبِهٌ , الْمُتَحَيِّرُ فِي أَمْرٍ لا يُشْتَبَهُ , يَا مَنْ قَدْ صَاحَ بِهِ الْمَوْتُ فِي سَلْبِ صَاحِبِهِ وَهُوَ مَغْرُورٌ بِجَهْلِهِ مَفْتُونٌ بِلَعِبِهِ , يَا وَاقِفًا مَعَ الْهَوَى وَالطَّبْعِ , أَأَمِنْتَ شَيْنَ الْقَلْبِ بِالْخَتْمِ وَالطَّبْعِ. [يَا عَظِيمَ الشِّقَاقِ يَا قَلِيلَ الْوِفَاقِ يَا مَرِيرَ الْمَذَاقِ , يَا قَبِيحَ الأَخْلاقِ , يَا كَثِيرَ التَّوَانِي قَدْ سَارَ الرِّفَاقُ , يَا شَدِيدَ التَّمَادِي قَدْ صَعُبَ اللِّحَاقُ , إِخْلاصُكَ مَعْدُومٌ وَمَا لِلنِّفَاقِ نِفَاقٌ , وَمَعَاصِيكَ فِي ازْدِيَادٍ وَالْعُمْرُ فِي انْمِحَاقٍ , وَسَاعِي أَجَلِكَ مُجِدٌّ كَأَنَّهُ فِي سِبَاقٍ , لا الْوَعْظُ يُنْذِرُكَ وَلا الْمَوْتُ يُزْجِرُكَ , مَا تُطَاقُ] . (اتْرُكِ الشَّرَّ وَلا تَأْنَسْ بِشَرٍّ ... وَتَوَاضَعْ إِنَمَّا أَنْتَ بَشَرْ) (هَذِهِ الأَجْسَامُ تُرْبٌ هَامِدٌ ... فَمِنَ الْجَهْلِ افْتِخَارٌ وَأَشَرْ) (جَسَدٌ مِنْ أَرْبَعٍ تَلْحَظُهَا ... سَبْعَةٌ مِنْ فَوْقِهَا فِي اثْنَيْ عَشَرْ) (فَعَجِيبٌ فَرَحُ النَّفْسِ إِذَا ... شَاعَ فِي الأَرْضِ ثَنَاهَا وَانْتَشَرْ) (مُسْتَشَارٌ خَائِنٌ فِي نُصْحِهِ ... وَأَمِينٌ نَاصِحٌ لَمْ يُسْتَشَرْ) (فَافْعَلِ الخير وأمل غبه ... فهو الدخر إِذَا اللَّهُ حَشَرْ)

الكلام على قوله تعالى

(أَضْمِرِ الْخِيفَةَ وَأَظْهِرْ نَدَمًا ... قَلَّ مَا أَحْرَزَ الطَّرْفُ الْمَدَى حِينَ ضَمَرْ) (وَهِيَ الدُّنْيَا أَذَاهَا أَبَدًا ... زُمَرًا وَارِدَةً بَعْدَ زُمَرْ) (فِي حَيَاةٍ كَخَيَالٍ طَارِقٍ ... شُغِلَ الْفِكْرُ وَخَلاكَ وَمَرْ) الْكَلامُ على قوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدو إلا إياه} أَصْلُ الْقَضَاءِ الْحَتْمُ. وَهُو فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلاثَةَ عَشَرَ وَجْهًا: أَحَدُهَا الْفَرَاغُ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} والثاني الفعل: {فاقض ما أنت قاض} والثالث: الإعلام: {وقضينا إلى بني إسرائيل} والرابع: الموت: {ليقض علينا ربك} والخامس: وجوب العذاب: {وقضي الأمر} وَالسَّادِسُ التَّمَامُ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وحيه} والسابع الفصل: {وقضي بينهم بالحق} والثامن الخلق: {فقضاهن سبع سماوات} والتاسع الحتم: {وكان أمرا مقضيا} والعاشر ذبح الموت: {إذا قضي الأمر} وَالْحَادِي عَشَرَ: إِغْلاقُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لما قضي الأمر} والثاني عشر الحكم: {حرجا مما قضيت} والثالث عشر: الأمر: {وقضى ربك ألا تعبدو إلا إياه} . قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} وهو البر والإكرام {إما يبلغن} قال

الفراء: جعلت يبلغن فعلا لأحدهما , وَكُرِّرَ عَلَيْهِ " {كِلاهُمَا} " وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: " {يَبْلُغَانِ} " عَلَى التَّثْنِيَةِ , لأَنَّهُمَا قَدْ ذُكِرَا قَبْلَ ذَلِكَ. ثم قال: " {أحدهما أو كلاهما} " على الاستئناف كقوله " {فعموا وصموا} " ثم استأنف فقال: " {كثير منهم} ". {فلا تقل لهما أف} أَيْ لا تَقُلْ لَهُمَا كَلامًا تَتَبَرَّمُ فِيهِ بِهِمَا إِذَا كَبِرَا؛ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ: أَصْلُ أُفٍّ نَفْخُكَ الشَّيْءِ يَسْقُطُ عَلَيْكَ مِنْ تُرَابٍ أَوْ نَحْوِهِ , وَلِلْمَكَانِ تُرِيدُ إِمَاطَةَ الأَذَى عَنْهُ , فَقِيلَتْ لِكُلِّ مُسْتَقِلٍّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تنهرهما} أَيْ لا تُكَلِّمْهُمَا ضَجَرًا صَائِحًا فِي وُجُوهِهِمَا. قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لا تُنْفِضْ يَدَكَ عَلَيْهِمَا. قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الأَذَى لَهُمَا فِي حَالَةِ الْكِبَرِ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ , لأَنَّ حَالَ الْكِبَرِ يَظْهَرُ فِيهَا مِنْهُمَا مَا يُضْجِرُ وَيُؤْذِي , وتكثر خدمتهما. {وقل لهما قولا كريما} أَيْ لَيِّنًا لَطِيفًا أَحْسَنَ مَا تَجِدُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: قَوْلَ الْعَبْدِ الْمُتَذَلِّلِ لِلسَّيِّدِ الفظ. {واخفض لهما جناح الذل} أَيْ أَلِنْ لَهُمَا جَانِبَكَ مُتَذَلِّلا لَهُمَا مِنْ رَحْمَتِكَ إِيَّاهُمَا. وَخَفْضُ الْجَنَاحِ عِبَارَةٌ عَنِ السُّكُونِ وَتَرْكُ التَّصَعُّبِ وَالإِيذَاءِ {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا ربياني صغيرا} أَيْ مِثْلَ رَحْمَتِهِمَا إِيَّايَ فِي صِغَرِي حِينَ رَبَّيَانِي. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ , أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا وَكِيعٌ , حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ وَسُفْيَانُ , عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ , عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمَكِّيِّ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَادِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: " أحي والدك؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين.

وَبِالإِسْنَادِ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ , قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ ". أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ , وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ , قَالُوا حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمَأْمُونِ , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ السُّكَّرِيُّ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ , حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ , حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ. ح. وأنبأنا علي بن عبد الله، ومحمد ابن عَبْدِ الْبَاقِي , أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّرِيفِينِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو حَفْصٍ الْكِنَانِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابن مَخْلَدٍ , حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَعْقُوبَ , حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن عاصم. ح. وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي , أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَاسِيٍّ , أَنْبَأَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ , عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بن معونة بْنِ حِيدَةَ الْقُشَيْرِيِّ , عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ , قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. ثُمَّ أَبَاكَ ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ ". أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفْرٍ , أَنْبَأَنَا أَبُو غَالِبٍ الْبَاقِلاوِيُّ , أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْعَلاءِ الْوَاسِطِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو نَصْرٍ النَّيَازِكِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو الْخَيْرِ الْكِرْمَانِيُّ , حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ , حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ , أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ , عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي , وَخَطَبَهَا غَيْرِي فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ فَغِرْتُ عَلَيْهَا فَقَتَلْتُهَا , فَهَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: أُمُّكَ حَيَّةٌ؟ قَالَ: لا. قَالَ: تُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ. فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟ قَالَ: إِنِّي لا أَعْلَمُ عَمَلا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ وَقَفَ عَلَى بَابِ أُمِّهِ فقال: السلام عليك يَا أُمَّاهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَتَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَيَقُولُ: رَحِمَكِ اللَّهُ كما ربيتيني صَغِيرًا. فَتَقُولُ: رَحِمَكَ اللَّهُ كَمَا بَرَرَتْنِي كَبِيرًا. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ صَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ.

وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ بِأُمِّهِمَا: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَحَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَمَّا عُثْمَانُ فَإِنَّهُ قَالَ: مَا قَدَرْتُ أَتَأَمَّلُ وَجْهَ أُمِّي مُنْذُ أَسْلَمْتُ. وَأَمَّا حَارِثَةُ فَكَانَ يُطْعِمُهَا بِيَدِهِ وَلَمْ يَسْتَفْهِمْهَا كَلامًا قَطُّ تَأْمُرُهُ بِهِ حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ عِنْدَهَا بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ: مَاذَا قَالَتْ أُمِّي؟ وكان حجر بن عدي بن الأدبر يلتمس فِرَاشَ أُمِّهِ بِيَدِهِ فَيَتَّهِمُ غِلَظَ يَدِهِ , فَيَنْقَلِبُ عَلَيْهِ عَلَى ظَهْرِهِ , فَإِذَا أَمِنَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَضْجَعَهَا. وَكَانَ ظَبْيَانُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ أَبَرِّ النَّاسِ بِأُمِّهِ , فَبَاتَتْ لَيْلَةً وَفِي صَدْرِهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ فَقَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ قَائِمًا يَكْرَهُ أَنْ يُوقِظَهَا وَيَكْرَهَ أَنْ يَقْعُدَ , حَتَّى إِذَا ضَعُفَ جَاءَ غُلامَانِ مِنْ غِلْمَانِهِ فَمَا زَالَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا حَتَّى اسْتَيْقَظَتْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهَا. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لا يُكَلِّمُ أُمَّهُ بِلِسَانِهِ كَلِمَةً تَخَشُّعًا لَهَا. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ يَضَعُ خَدَّهُ عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَقُولُ لأُمِّهِ: ضَعِي قَدَمَكِ عَلَيْهِ! وَقَالَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: بِتُّ أَغْمِزُ رِجْلَ أُمِّي وَبَاتَ أَخِي عُمَرُ يُصَلِّي , وَمَا يَسُرُّنِي أَنَّ لَيْلَتِي بِلَيْلَتِهِ! وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَوْنٍ أَنَّ أُمَّهُ نَادَتْهُ فَأَجَابَهَا , فَعَلا صَوْتُهُ عَلَى صَوْتِهَا فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ. وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي: الْوَلَدُ يَقْرُبُ مِنْ أُمِّهِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ أُمَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يَضْرِبُ بِسَيْفِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ! وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْكَبَائِرِ عُقُوقَ الْوَالِدِينَ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ " قَالَ سُفْيَانُ: قَاطِعُ رَحِمٍ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَيْرِيزٍ: مَنْ مَشَى بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ فَقَدْ عَقَّهُ إِلا أَنْ يَمْشِيَ

سجع على قوله تعالى

فَيُمِيطَ الأَذَى عَنْ طَرِيقِهِ , وَمَنْ دَعَا أَبَاهُ باسمه أبو بِكُنْيَتِهِ فَقَدْ عَقَّهُ إِلا أَنْ يَقُولَ يَا أَبَتِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَسِيدٍ أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: " نَعَمْ خِصَالٌ أَرْبَعٌ: الدُّعَاءُ وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِيفَاءُ عَهْدِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا رَحِمَ لَكَ إِلا مِنْ قِبَلِهِمَا ". وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: " أَبَرُّ الْبِرِّ صِلَةُ الْمَرْءِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ تُوُفِّيَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مالك , أنبأنا عبد الله ابن أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلانَ , حدثنا رشدين , عن زيان , عن سهل ابن مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ , عَنْ أَبِيهِ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إن الله تَعَالَى عِبَادًا لا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ. قِيلَ لَهُ: مَنْ أُولَئِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ مُتَبَرِّئٌ مِنْ وَالِدَيْهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا , وَمُتَبَرِّئٌ مِنْ وَلَدِهِ , وَرَجُلٌ أَنْعَمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَكَفَرَ نِعْمَتَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ , فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ". سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِعَاقٍّ وَالِدَيْهِ , وَالْخِزْيُ كُلُّ الْخِزْيِ لِمَنْ مَاتَا غِضَابًا عَلَيْهِ , أُفٍّ لَهُ هَلْ جَزَاءُ الْمُحْسِنِ إِلا الإِحْسَانُ إِلَيْهِ , أَتْبِعِ الآنَ تَفْرِيطَكَ فِي حَقِّهِمَا أَنِينًا وَزَفِيرًا {وَقُلْ رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} .

كم آثرك بِالشَّهَوَاتِ عَلَى النَّفْسِ , وَلَوْ غِبْتَ سَاعَةً صَارَا فِي حَبْسٍ , حَيَاتُهُمَا عِنْدَكَ بَقَايَا شَمْسٍ , لَقَدْ رَاعَيَاكَ طَوِيلا فَارْعَهُمَا قَصِيرًا , {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كما ربياني صغيرا} . كَمْ لَيْلَةٍ سَهِرَا مَعَكَ إِلَى الْفَجْرِ , يُدَارِيَانِكَ مُدَارَاةَ الْعَاشِقِ فِي الْهَجْرِ , فَإِنْ مَرِضْتَ أَجْرَيَا دَمْعًا لَمْ يَجْرِ , تَاللَّهِ لَمْ يَرْضَيَا لِتَرْبِيَتِكَ غَيْرَ الْكَفِّ وَالْحِجْرِ سَرِيرًا {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كما ربياني صغيرا} . يُعَالِجَانِ أَنْجَاسَكَ وَيُحِبَّانِ بَقَاءَكَ , وَلَوْ لَقِيتَ مِنْهُمَا أَذَى شَكَوْتَ شَقَاءَكَ , مَا تَشْتَاقُ لَهُمَا إِذَا غابا ويشتقاقان لِقَاءَكَ , كَمْ جَرَّعَاكَ حُلْوًا وَجَرَّعْتَهُمَا مَرِيرًا {وَقُلْ رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} . أتحسن الإساءة في مقابلة الإحسان , أو ما تَأْنَفُ الإِنْسَانِيَّةُ لِلإِنْسَانِ , كَيْفَ تُعَارِضُ حُسْنَ فَضْلِهِمَا بِقُبْحِ الْعِصْيَانِ , ثُمَّ تَرْفَعُ عَلَيْهِمَا صَوْتًا جَهِيرًا , {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} . تُحِبُّ أَوْلادَكَ طَبْعًا , فَأَحْبِبْ وَالِدَيْكَ شَرْعًا , وَارْعَ أَصْلا أَثْمَرَ لَكَ فَرْعًا , وَاذْكُرْ لُطْفَهُمَا بِكَ وَطِيبَ الْمَرْعَى أَوَّلا وَأَخِيرًا {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كما ربياني صغيرا} . تَصَدَّقْ عَنْهُمَا إِنْ كَانَا مَيِّتَيْنِ , وَصَلِّ لَهُمَا وَاقْضِ عَنْهُمَا الدَّيْنِ , وَاسْتَغْفِرْ لَهُمَا وَاسْتَدِمْ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ , وَما تُكَلَّفُ إِلا أَمْرًا يَسِيرًا {وَقُلْ رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} .

المجلس الثالث عشر في قصة أيوب عليه السلام

المجلس الثالث عشر فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي ابْتَعَثَ بِلُطْفِهِ السَّحَابَ , فَرَوَّى الأَوْدِيَةَ وَالْهِضَابَ , وَأَنْبَتَ الْحَدَائِقَ وَأَخْرَجَ الأَعْنَابَ , وَأَلْبَسَ الأَرْضَ نَبَاتًا أَحْسَنَ مِنْ ثِيَابِ الْعُنَابِ , يَبْتَلِي لِيُدْعَى وَإِذَا دُعِيَ أَجَابَ , قَضَى عَلَى آدَمَ بِالذَّنْبِ ثُمَّ قضى أن تاب , ورفع إدريس بلطفه إِلَى أَكْرَمِ جَنَابٍ , وَأَرْسَلَ الطُّوفَانَ وَكَانَتِ السَّفِينَةُ مِنَ الْعُجَابِ , وَنَجَّى الْخَلِيلَ مِنْ نَارٍ شَدِيدَةِ الإلتهاب , وكان سَلامَةُ يُوسُفَ عِبْرَةً لأُولِي الأَلْبَابِ , وَشَدَّدَ الْبَلاءَ عَلَى أَيُّوبَ فَفَارَقَهُ الأَهْلُ وَالأَصْحَابُ , وَعَضَّهُ الْبَلاءُ إلى أن كل الظُّفْرَ وَالنَّابَ , فَنَادَى مُسْتَغِيثًا بِالْمَوْلَى فَجَاءَ الْجَوَابُ {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} . أَحْمَدُهُ حَمْدَ مَنْ أَخْلَصَ وَأَنَابَ , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ أَفْضَلِ نَبِيٍّ نَزَلَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ كِتَابٍ , وعلى صاحبه أبي بكر مقدم الأصحاب , وَعَلَى الْفَارُوقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَعَلَى عُثْمَانَ شَهِيدِ الدَّارِ وَقَتِيلِ الْمِحْرَابِ , وَعَلَى عَلِيٍّ الْمَهِيبِ وَمَا سَلَّ سَيْفًا بَعْدُ مِنْ قِرَابٍ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الْمُقَدَّمِ نَسَبُهُ عَلَى الأَنْسَابِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نادى ربه أني مسني الشيطان بنضب وعذاب} أَيُّوبُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ , وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ أموصَ بن رزاح بن العيص ابن إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَأَبُوهُ مِمَّنْ آمَنَ بِالْخَلِيلِ يَوْمَ أُحْرِقَ , وَأُمُّهُ بِنْتُ لُوطٍ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَكَانَ أَيُّوبُ فِي زَمَنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ , فَتَزَوَّجَ ابْنَةَ يَعْقُوبَ وَكَانَ غَزِيرَ الْمَالِ كَثِيرَ الضِّيَافَةِ , وَكَانَ إِبْلِيسُ لا يُحْجَبُ يَوْمَئِذٍ من

السَّمَوَاتِ , فَسَمِعَ تَجَاوُبَ الْمَلائِكَةِ بِالصَّلاةِ عَلَى أَيُّوبَ فَحَسَدَهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ لَوْ صَدَمْتَ أَيُّوبَ بالبلاء لكفر , فسلطني عليه. فقالت: قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ. فَجَمَعَ إِبْلِيسُ جُنُودَهُ فَأَرْسَلَ بَعْضَهُمْ إِلَى دَوَابِّهِ وَبَعْضَهُمْ إِلَى زَرْعِهِ وَبَعْضَهُمْ إِلَى أَوْلادِهِ , وَكَانَ لَهُ ثَلاثَةَ عشَرَ وَلَدًا. وَقَالَ إِبْلِيسُ لأَصْحَابِهِ تَابِعُوهُ الْمَصَائِبَ بَعْضَهَا إِثْرَ بَعْضٍ. فَجَاءَ صَاحِبُ الزَّرْعِ فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ أَرْسَلَ إِلَى زَرْعِكَ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُ. وَقَالَ: رَاعِي الإِبِلِ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ أَرْسَلَ غُدَدًا فَذَهَبَتْ الإبل. وَقَالَ كَذَلِكَ صَاحِبُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. فَقَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي وَقَبِلَهُ مِنِّي. وَتَفَرَّدَ إِبْلِيسُ لِبَنِيهِ فَجَمَعَ أَرْكَانَ الْبَيْتِ فَهَدَمَهُ عَلَيْهِمْ وَجَاءَ فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ إِنَّ الْبَيْتَ وَقَعَ عَلَى بَنِيكَ , فَلَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ اخْتَلَطَتْ دِمَاؤُهُمْ وَلُحُومُهُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ. فَقَالَ: لَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ لَقَبَضَكَ مَعَهُمْ فَانْصَرَفَ خَائِبًا. فَقَالَ: يَا رَبِّ سَلِّطْنِي عَلَى جَسَدِهِ فَسُلِّطَ فَنَفَخَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ نَفْخَةً فَقَرَّحَ بَدَنَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَنْ أَصَابَهُ الْجُدَرِيُّ أَيُّوبُ. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ يَخْرُجُ عَلَيْهِ مِثْلُ ثَدَايَا النِّسَاءِ ثُمَّ يَتَفَقَّأُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلا اللِّسَانُ لِلذِّكْرِ وَالْقَلْبُ لِلْمَعْرِفَةِ، وَكَانَ يَرَى مِعَاهُ وَعُرُوقَهُ وَعِظَامَهُ , وَوَقَعَتْ بِهِ حِكَّةٌ لا يَمْلِكُهَا , فَحَكَّ بِأَظْفَارِهِ فَسَقَطَتْ , ثُمَّ بِالْمُسُوحِ ثُمَّ بِالْحِجَارَةِ وَأَنْتَنَ جِسْمُهُ وَتَقَطَّعَ , وَأَخْرَجَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ فَجَعَلُوا لَهُ عَرِيشًا عَلَى كُنَاسَةٍ، وَرَفَضَهُ الْخَلْقُ سِوَى زَوْجَتِهِ رَحْمَةَ بنت أفرايم بن يوسف ابن يَعْقُوبَ , فَكَانَتْ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ بِمَا يُصْلِحُهُ. وَفِي مُدَّةِ لُبْثِهِ فِي الْبَلاءِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً. رَوَاهُ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: سَبْعُ سِنِينَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ. وَالثَّالِثُ: سَبْعُ سِنِينَ وَأَشْهُرٌ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالرَّابِعُ: ثَلاثُ سِنِينَ. قَالَهُ وَهْبٌ. وَفِي سَبَبِ سُؤَالِهِ الْعَافِيَةَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ اشْتَهَى أُدْمًا فَلَمْ تُصِبْهُ امْرَأَتُهُ حَتَّى بَاعَتْ قَرْنًا مِنْ شَعْرِهَا , فَلَمَّا عَلِمَ

ذَلِكَ قَالَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ. رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْسَاهُ الدعاء مع كثرة ذكره الله تَعَالَى , فَلَمَّا انْتَهَى زَمَانُ الْبَلاءِ أَلْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الدُّعَاءَ. رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَرُّوا به فقال بعضهم: ما أصابه هذا إلا بذنب عظيم. فعندها دعا. قاله نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَرَ: كَانَ لَهُ أَخَوَانِ فَأَتَيَاهُ يَوْمًا فَوَجَدَا رِيحًا فَقَالا: لَوْ كَانَ اللَّهُ عَلِمَ مِنْهُ خَيْرًا مَا بَلَغَ بِهِ هَذَا. فَمَا سَمِعَ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ , فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً شَبْعَانَ وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ جَائِعٍ فَصَدِّقْنِي. فَصُدِّقَ وَهُمَا يَسْمَعَانِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُّمَ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَلْبَسْ قَمِيصًا وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ عَارٍ فَصَدِّقْنِي. فَصُدِّقَ وَهُمَا يَسْمَعَانِ , فَخَرَّ سَاجِدًا ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ لا أَرْفَعُ رَأْسِي حَتَّى تَكْشِفَ مَا بِي. فَكَشَفَ مَا بِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ إِبْلِيسَ جَاءَ إِلَى زَوْجَتِهِ بِسَخْلَةٍ فَقَالَ: لِيَذْبَحْ أَيُّوبُ هَذِهِ لِي وَقَدْ بَرَأَ. فَجَاءَتْ فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ: إِنْ شَفَانِيَ اللَّهُ لأَجْلِدَنَّكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ , أَمَرْتِنِي أَنْ أَذْبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ. ثُمَّ طَرَدَهَا عَنْهُ فَذَهَبَتْ فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لا طَعَامٌ وَلا شَرَابٌ وَلا صَدِيقٌ خَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ. قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ: إِنِّي مُبْتَلِيكَ. فَقَالَ: يَا رَبِّ وَأَيْنَ يَكُونُ قَلْبِي. قَالَ: عِنْدِي فَصَبَّ عَلَيْهِ مِنَ الْبَلاءِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْبَلاءُ مُنْتَهَاهُ أَوْحَى اللَّهُ: إِنِّي مُعَافِيكَ قَالَ: يَا رَبِّ وَأَيْنَ يَكُونُ قَلْبِي. قَالَ: عِنْدَكَ. قَالَ مَسَّنِيَ الضُّرُّ. قاله إبراهيم ابن شيبان. والسادس: أَنَّ الْوَحْيَ انْقَطَعَ عَنْهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا , فَخَافَ هِجْرَانَ رَبِّهِ فَقَالَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. ومعنى: {نادى ربه} دَعَا وَإِنَّمَا أَضَافَ الأَمْرَ إِلَى الشَّيْطَانِ لأَنَّ الشيطان سلط عليه. قوله تعالى: {بنصب} قَرَأَ الْحَسَنُ: {بِنَصَبٍ} بِفَتْحِ النُّونِ وَالصَّادِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا كَالرُّشْدِ وَالرَّشَدِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: النُّصْبُ بِتَسْكِينِ الصَّادِ: الشَّرُّ. وَبِتَحْرِيكِهَا الإِعْيَاءُ. وَالْمُرَادُ: بالعذاب الأليم.

قوله تعالى: {اركض برجلك} . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ فَقَالَ: قم: فقام فقال: اركض برجلك. فركض فنبعث عَيْنٌ , فَقَالَ: اغْتَسِلْ. فَاغْتَسَلَ. ثُمَّ نَحَّاهُ قَالَ اركض برجلك فركض. فنبعث عَيْنٌ فَقَالَ اشْرَبْ فَشَرِبَ. قَالَ {هَذَا مُغْتَسَلٌ} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُغْتَسَلُ: الْمَاءُ , وَهُوَ الْمَغْسُولُ أَيْضًا. ثُمَّ أَلْبَسَهُ جِبْرِيلُ حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ. وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَيْنَ المبتلى الذي كان ها هنا لَعَلَّ الذِّئَابُ ذَهَبَتْ بِهِ. فَقَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ. فَقَالَتِ: اتَّقِ اللَّهَ وَلا تَسْخَرْ بِي. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ بِأَعْيَانِهِمْ وَآتَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ لَهُ سَبْعَ بَنِينَ وَسَبْعَ بَنَاتٍ. فَنُشِرُوا لَهُ وَوَلَدَتْ لَهُ تِسْعَةَ بَنِينَ وَسَبْعَ بَنَاتٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: آتَاهُ اللَّهُ أُجُورَ أَهْلِهِ فِي الآخِرَةِ وَآتَاهُ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} كَانَ قَدْ حَلَفَ لَيَجْلِدَنَّ زَوْجَتَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَفِي سَبَبِ هَذِهِ الْيَمِينِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: حَدِيثُ السَّخْلَةِ الَّذِي سَبَقَ. وَالثَّانِي: أَنَّ إِبْلِيسَ جَلَسَ فِي طَرِيقِ زَوْجَتِهِ كَأَنَّهُ طَبِيبٌ , فَقَالَتْ لَهُ: عَبْدَ اللَّهِ هَاهُنَا رَجُلٌ مُبْتَلًى , فَهَلْ لَكَ أَنْ تُدَاوِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنِّي شَافِيهِ عَلَى أَنْ يَقُولَ لِي إِذَا بَرَأَ أَنْتَ شفيتني. جاءت فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ: ذَاكَ الشَّيْطَانُ , للَّهِ عَلَيَّ إِنْ شَفَانِيَ اللَّهُ أَنْ أَجْلِدَكِ مِائَةً. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِبْلِيسَ لَقِيَهَا فَقَالَ: أَنَا الَّذِي فَعَلْتُ بِزَوْجِكَ وَأَنَا إِلَهُ الأَرْضِ , وَمَا أَخَذْتُهُ مِنْهُ فَهُوَ بِيَدِي فَانْطَلِقِي فَأُرِيكِ. فَمَشَى غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ سَحَرَ بَصَرَهَا فَأَرَاهَا وَادِيًا عَمِيقًا فِيهِ أَهْلُهَا وَمَالُهَا وَوَلَدُهَا , فَأَتَتْ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ: ذَاكَ الشَّيْطَانُ , وَيْحَكِ كَيْفَ وَعَى سَمْعُكَ قَوْلَهُ , وَاللَّهِ لَئِنْ شَفَانِيَ الله لأجلدنك مائة جلدة. قَالَهُ وَهْبٌ. وَأَمَّا الضِّغْثُ فَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ هُوَ الْحُزْمَةُ مِنَ الْخِلالِ وَالْعِيدَانِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: جَزَى اللَّهُ زَوْجَتَهُ بِحُسْنِ صَبِرْهَا. أَنْ أَفْتَاهُ فِي ضَرْبِهَا , فَسَهَّلَ الأَمْرَ , فَجَمَعَ لَهَا مِائَةَ

الكلام على البسملة

عُودٍ وَقِيلَ مِائَةَ سُنْبُلَةٍ , وَقِيلَ كَانَتْ أَسَلا , وَقِيلَ كَانَتْ شَمَارِيخَ , فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً. وَهَلْ ذَلِكَ خَاصٌّ لَهُ أَمْ عَامٌّ؟ فِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَامٌّ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ. وَالثَّانِي: خَاصٌّ لَهُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَجَمَعَهَا وَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً. فَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لا يَبَرُّ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إِذَا أصابه في الضربة الواحدة كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَقَدْ بَرَّ , وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قِصَّةِ أَيُّوبَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} قَالَ مُجَاهِدٌ يُجَاءُ بِالْمَرِيضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَعْبُدَنِي؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ ابْتَلَيْتَنِي. فَيُجَاءُ بِأَيُّوبَ فِي ضُرِّهِ فَيَقُولُ: أَنْتَ كُنْتَ أَشَدَّ ضُرًّا أَمْ هَذَا؟ فَيَقُولُ بَلْ هَذَا. فَيَقُولُ: هَذَا لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ عَبَدَنِي! مَا ضَرَّ أَيُّوبَ مَا جَرَى , كَأَنَّهُ سِنَةُ كَرَى , ثُمَّ شَاعَتْ مَدَائِحُهُ بَيْنَ الْوَرَى , وإنما يصير مَنْ فَهِمَ الْعَوَاقِبَ وَدَرَى. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (مُنَافَسَةُ الْهَوَى فِيمَا يَزُولُ ... عَلَى نُقْصَانِ هِمَّتِهِ دَلِيلُ) (وَمُخْتَارُ الْقَلِيلِ أَقَلُّ مِنْهُ ... وَكُلُّ فَوَائِدِ الدُّنْيَا قَلِيلُ) يَا قَلِيلَ الصَّبْرِ عَنِ اللَّهْوِ وَالْعَبَثِ، يَا مَنْ كُلَّمَا عَاهَدَ غَدَرَ وَنَكَثَ , يا مغترا بساحر الهوى كما نَفَثَ , تَاللَّهِ لَقَدْ بُولِغَ فِي تَوْبِيخِهِ وَمَا اكْتَرَثَ , وَبَعَثَ إِلَيْهِ النَّذِيرَ وَلا يَدْرِي مِنَ الْعَبَثِ مَنْ بَعَثَ , سَيَنْدَمُ مَنْ لِلْقَبِيحِ حَرَثَ , سَيَبْكِي زَمَانَ الْهَوَى حِينَ الظَّمَإِ عِنْدَ اللَّهَثِ , سَيَعْرِفُ خَبَرَهُ الْعَاصِي إِذَا حَلَّ الْحَدَثُ , سَيَرَى سِيَرَهُ إِذَا نَاقَشَ الْمَسَائِلَ وَبَحَثَ , سَيَقْرَعُ سِنَّ الندم إذا نادى ولم يعث , عَجَبًا لِجَاهِلٍ بَاعَ تَعْذِيبَ النُّفُوسِ بِرَاحَاتِ الْجُثَثِ.

كَانَ الشِّبْلِيُّ يَقُولُ: لا تَغْتَرِرْ بِدَارٍ لا بُدَّ مِنَ الرَّحِيلِ عَنْهَا , وَلا تُخَرِّبْ دَارًا لا بُدَّ مِنَ الْخُلُودِ [فِيهَا] . أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ الْهَاشِمِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ , أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّوْرَقِيُّ , حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُؤَدِّبُ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ , حَدَّثَنَا شَدَّادُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَرَّابِيُّ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ , قَالَ: مَرَرْتُ بِرَاهِبٍ فَنَادَيْتُهُ: يَا رَاهِبُ مَنْ تَعْبُدُ؟ قَالَ: الَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَكَ. قُلْتُ عَظِيمٌ هُوَ؟ قَالَ: قَدْ جَاوَزَتْ عَظَمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ. قُلْتُ: فَمَتَى يَذُوقُ الْعَبْدُ حَلاوَةَ الأُنْسِ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا صَفَا الْوُدُّ وَخَلَصَتِ الْمُعَامَلَةُ. قُلْتُ: فَمَتَى يَصْفُو الْوُدُّ؟ قَالَ: إِذَا اجْتَمَعَ الْهَمُّ فِي الطَّاعَةِ. قُلْتُ: فَمَتَى تَخْلُصُ الْمُعَامَلَةُ؟ قَالَ: إِذَا كَانَ الهم هماً واحداً. قلت فكيف تخليت بِالْوَحْدَةِ؟ قَالَ: لَوْ ذُقْتَ حَلاوَةَ الْوَحْدَةِ لاسْتَوْحَشْتَ إِلَيْهَا مِنْ نَفْسِكَ. قُلْتُ: فَمَا أَكْثَرُ مَا يَجِدُ الْعَبْدُ مِنَ الْوَحْدَةِ. قَالَ: الرَّاحَةَ مِنْ مُدَارَكَةِ النَّاسِ وَالسَّلامَةَ مِنْ شَرِّهِمْ. قُلْتُ: بِمَاذَا يُسْتَعَانُ عَلَى قِلَّةِ الْمَطْعَمِ؟ قَالَ: بِالتَّحَرِّي فِي الْمَكْسَبِ. قُلْتُ: زِدْنِي خِلالا. قَالَ كُلْ حَلالا وَارْقُدْ حَيْثُ شِئْتَ. قُلْتُ: فَأَيْنَ طَرِيقُ الرَّاحَةِ؟ قَالَ: خِلافُ الْهِوَى. قُلْتُ: لِمَ تَعَلَّقْتَ فِي هَذِهِ الصَّوْمَعَةِ؟ قَالَ: مَنْ مَشَى عَلَى الأَرْضِ عَثَرَ , فَتَحَصَّنْتُ بِمَنْ فِي السَّمَاءِ مِنْ فِتْنَةِ أَهْلِ الأَرْضِ لأَنَّهُمْ سُرَّاقُ الْعُقُولِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا صَفَا ضَاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْضُ فَأَحَبَّ قُرْبَ السَّمَاءِ. قُلْتُ: يَا رَاهِبُ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ قَالَ: مِنْ زَرْعٍ لَمْ أَبْذُرْهُ. قُلْتُ: مَنْ يَأْتِيكَ بِهِ؟ قَالَ: الَّذِي نَصَبَ الرَّحَا يَأْتِيهَا بِالطَّحِينِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَرَى حَالَكَ؟ قَالَ: كَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ أَرَادَ سَفَرًا بِلا أُهْبَةٍ , وَيَسْكُنُ قَبْرًا بِلا مُؤْنِسٍ , وَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ حَكَمٍ عَدْلٍ. ثُمَّ أَرْسَلَ عَيْنَهُ وَبَكَى. قُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: ذَكَرْتُ أَيَّامًا مَضَتْ مِنْ أَجَلِي لَمْ أُحَقِّقْ فِيهَا عَمَلِي , وَفَكَّرْتُ في قلة الزاد وفي عقبة هُبُوطٍ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ. قُلْتُ يَا رَاهِبُ: بِمَ يُسْتَجْلَبُ الْحُزْنُ؟ قَالَ: بِطُولِ الْغُرْبَةِ , وَلَيْسَ الْغَرِيبُ مَنْ مَشَى مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ , وَلَكِنَّ الْغَرِيبَ صَالِحٌ بَيْنَ فُسَّاقٍ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ سُرْعَةَ الاسْتِغْفَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ , لَوْ عَلِمَ اللِّسَانُ مِمَّا يَسْتَغْفِرُ لَجَفَّ فِي الْحَنَكِ , إِنَّ الدُّنْيَا مُنْذُ سَاكَنَهَا الْمَوْتُ مَا قرت بها عين , كلما تزوجت الدنيا زوجا

طَلَّقَهُ الْمَوْتُ , فَمَثَلُهَا كَمَثَلِ الْحَيَّةِ لَيِّنٌ مَسُّهَا وَالسُّمُّ فِي جَوْفِهَا. ثُمَّ قَالَ: عِنْدَ تَصْحِيحِ الضَّمَائِرِ يَغْفِرُ اللَّهُ الْكَبَائِرَ , وَإِذَا عَزَمَ الْعَبْدُ عَلَى تَرْكِ الآثَامِ أَتَتْهُ مِنَ السَّمَاءِ الْفُتُوحُ , وَالدُّعَاءُ الْمُسْتَجَابُ الَّذِي تُحَرِّكُهُ الأَحْزَانُ. قُلْتُ: فَأَكُونُ مَعَكَ يَا رَاهِبُ؟ قَالَ: مَا أَصْنَعُ بِكَ وَمَعِي مُعْطِي الأَرْزَاقِ وَقَابِضُ الأَرْوَاحِ , يَسُوقُ إِلَيَّ الرِّزْقَ فِي كُلِّ وَقْتٍ , لَمْ يُكَلِّفْنِي جَمْعَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرَهُ. اسْمَعْ يَا خَائِنَ الذِّمَمِ يَا مُضَيِّعَ الْحُرَمِ , يَا من على التوبة عزم زعم , غَيْرَ أَنَّهُ كُلَّمَا بَنَى أَنْ يَلُوذَ بِنَا هَدَمَ , يَسْعَى إِلَى الْهُدَى فَإِذَا رَأَى جِيفَةَ الْهَوَى جَثَمَ , وَيْحَكَ إِطْلاقُ الْبَصَرِ فِي سُورِ الْحَذَرِ ثَلَمٌ , عَجَبًا لأَمْنِكَ وَأَنْتَ بَيْنَ فَكَّيْ جَلَمٍ , كَأَنَّكَ بِكَ تَتَمَنَّى الْعَدَمَ , وَتَبْكِي عَلَى تفريطك بندم , إلى كم هذا التواني كم كم وكم , وإياك وَالدُّنْيَا فَمَا تَشْفِي مِنْ قَرَمٍ , لِمَنْ تُحَدِّثُ لَقَدْ نَفَخْنَا مِنْ غَيْرِ ضَرَمٍ. (كَمْ أَسِيرٍ لِشَهْوَةٍ وَقَتِيلٍ ... أُفٍّ لِمُشْتَرٍ خِلافِ الْجَمِيلِ) (شَهَوَاتُ الإِنْسَانِ تُورِثُهُ الذُّلَّ وَتُلْقِيهِ فِي الْبَلاءِ الطَّوِيلِ ... ) يَا حَائِرًا لَمْ يُؤْثِرْ إِلا خِلافًا , يَا وَاعِدًا بِالتَّوْبَةِ وَلَمْ نَرَ إِلا إِخْلافًا , مَتَى سَتَعْمَلُ عَدْلا وَتُورِثُ إِنْصَافًا , أَتُصَافِي الْهَوَى مِنَ اليوم إذا صَافَى , أَمَا تَرَى النَّاسَ بِهَذِهِ الدَّارِ أَضْيَافًا , أتوقن بالحساب وترمي الفعل جُزَافًا , أَتَنْسَى الْمَوْتَ وَكَمْ قَدْ أَقَامَ سَيَّافًا , أَمَا بَقِيَ الْقَلِيلُ ثُمَّ تَلْحَقُ أَسْلافًا , مَتَى تعاملنا باليسير فنضاعفه أَضْعَافًا. (إِذَا كَثُرَتْ مِنْكَ الذُّنُوبُ فَدَاوِهَا ... بِرَفْعِ يَدٍ فِي اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ مُظْلِمُ) (وَلا تَقْنَطَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّمَا ... قُنُوطُكَ مِنْهَا مِنْ خطاياك أعظم) (فرحمته للمحسنين كرامة ... ورحمة لِلْمُسْرِفِينَ تَكَرُّمُ) قَالَ بنَانٌ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ الْعَرْجِيِّ وَهُوَ فِي بَيْتٍ مَمْلُوءٍ كُتُبًا , فَقُلْتُ لَهُ: اخْتَصِرْ لِي مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ كَلِمَتَيْنِ أَنْتَفِعُ بِهِمَا. قَالَ: لِيَكُنْ هَمُّكَ مَجْمُوعًا فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنِ اعْتَرَضَ عَلَيْكَ شَيْءٌ فَتُبْ مِنْ وَقْتِكَ.

الكلام على قوله تعالى

الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بما صبروا} كَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ كَأَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَالْوَلِيدِ قَدِ اتَّخَذُوا فُقَرَاءَ الصَّحَابَةِ كَعَمَّارٍ وَبِلالٍ وَخَبَّابٍ وصهيب سخرياً يستهزءون بِهِمْ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ , فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ لَهُمْ: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} على أذاكم واستهزائكم. أما عَلِمَ الصَّالِحُونَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ رِحْلَةٍ دَافَعُوا زَمَانَ الْبَلاءِ وَأَدْلَجُوا فِي لَيْلِ الصَّبْرِ عِلْمًا مِنْهُمْ بِقُرْبِ فَجْرِ الأَجْرِ , فَمَا كَانَتْ إِلا رَقْدَةٌ حَتَّى صَبَّحُوا مَنْزِلَ السَّلامَةِ , نَفِذَتْ أَبْصَارُ بَصَائِرِهِمْ بِنُورِ الْغَيْبِ إِلَى مُشَاهَدَةِ مَوْصُوفِ الْوَعْدِ , فَتَعَلَقَّتْ يَدُ الآمَالِ بِمَا عَايَنَتْ بَوَاطِنُ الْقُلُوبِ , وَأَخْمَصُوا عَنِ الْحَرَامِ الْبُطُونَ , وَغَضُّوا عَنِ الآثَامِ الْجُفُونَ , وَسَكَبُوا فِي ظَلامِ اللَّيْلِ الدُّمُوعَ , وَتَمْلَمُلوا تململ الملسوع , استقاد قلوبهم زمان التطلف , ثُمَّ جَثَّهَا سَائِقُ التَّعَسُّفِ , فَكُلَّمَا أَلاحَ لَهُمُ الرَّجَاءُ نُورَ الْوِصَالِ طَبَّقَ ظَلامُ الْخَوْفِ سَمَاءَ الأَعْمَالِ , فَهُمْ فِي بَيْدَاءِ التَّحَيُّرِ يَسْرَحُونَ , وَمِنْ بَابِ التَّضَرُّعِ لا يَبْرَحُونَ , وَحُزْنُهُمْ أَوْلَى مِمَّا يَفْرَحُونَ , فَإِذَا عَمَّهُمُ الْغَمُّ فَبِالذِّكْرِ يَتَرَوَّحُونَ , رَفَضُوا الدُّنْيَا فَسَلَّمُوا وَطَلَبُوا الأُخْرَى فَمَا نَدِمُوا , يَا بُشْرَاهُمْ إِذَا قَدِمُوا وَغَنِمُوا. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصوفي , أنبأنا أبو سعد الْحِيرِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ الطَّبَرِيُّ , حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ , حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ , حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ , عن الوليد ابن مُسْلِمٍ , عَنِ الأَوْزَاعِيِّ , قَالَ حَدَّثَنِي حَكِيمٌ مِنَ الحكماء قال مرت بِعَرِيشِ مِصْرَ وَأَنَا أُرِيدُ الرِّبَاطَ , فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ فِي مَظَلَّةٍ قَدْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاهُ وَبِهِ أَنْوَاعُ الْبَلاءِ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ للَّهِ حَمْدًا يُوَافِي

شُكْرَكَ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَفَضَّلْتَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ تَفْضِيلا. فَقُلْتُ: لأَنْظُرَنَّ أَشَيْءٌ عُلِّمَهُ أَوْ أُلْهِمَهُ إِلْهَامًا. فَقُلْتُ: عَلَى أَيِّ نِعْمَةٍ تَحْمَدُهُ , فَوَاللَّهِ مَا أَرَى شَيْئًا مِنَ الْبَلاءِ إِلا وَهُوَ بِكَ! فَقَالَ: أَلا تَرَى مَا قد صَنَعَ بِي؟ فَوَاللَّهِ لَوْ أَرْسَلَ السَّمَاءَ عَلَيَّ نَارًا فَأَحْرَقَتْنِي وَأَمَرَ الْجِبَالَ فَدَكَّتْنِي وَأَمَرَ الْبِحَارَ فَغَرَّقَتْنِي مَا ازْدَدْتُ لَهُ إِلا حَمْدًا وَشُكْرًا , وَلَكِنْ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ , بُنَيَّةٌ لِي كَانَتْ تَخْدِمُنِي وَتَتَعَاهَدُنِي عِنْدَ إِفْطَارِي فَانْظُرْ هَلْ تُحِسُّ بِهَا؟ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجِو أَنْ يَكُونَ لِي فِي قَضَاءِ حَاجَةِ هَذَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَخَرَجْتُ أَطْلُبُهَا بَيْنَ تِلْكَ الرِّمَالِ فَإِذَا السَّبُعُ قَدْ أَكَلَهَا فقلت: إنا لله وإنا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! مِنْ أَيْنَ آتِي هَذَا الْعَبْدَ الصَّالِحَ فَأُخْبِرُهُ بِمَوْتِ ابْنَتِهِ , فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَنْتَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً أَمْ أَيُّوبُ؟ ابْتَلاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَبَدَنِهِ حَتَّى صَارَ غَرَضًا لِلنَّاسِ؟ فَقَالَ: لا بَلْ أَيُّوبُ. فَقُلْتُ: إِنَّ ابْنَتَكَ الَّتِي أَمَرْتَنِي أَنْ أَطْلُبَهَا أَصَبْتُهَا فَإِذَا السَّبُعُ قَدْ أَكَلَهَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يُخْرِجْنِي مِنَ الدُّنْيَا وَفِي قَلْبِي شَيْءٌ. ثُمَّ شَهَقَ شَهْقَةً فَمَاتَ. فَصَلَّيْتُ عَلَيْهِ أَنَا وَجَمَاعَةٌ مَعِي ثُمَّ دَفَنْتُهُ. ثُمَّ بِتُّ لَيْلَتِي حَتَّى إِذَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ قَدْرُ ثُلُثِهِ وَإِذَا بِهِ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَإِذَا عَلَيْهِ حُلَّتَانِ خَضْرَاوَانِ وَهُوَ قَائِمٌ يَتْلُو الْقُرْآنَ , فَقُلْتُ: أَلَسْتَ صَاحِبِي بِالأَمْسِ؟ فَقَالَ: بَلَى. فَقُلْتُ: مَا صَيَّرَكَ إِلَى مَا أَرَى؟ فَلَقَدْ زِدْتَ عَلَى الْعَابِدِينَ دَرَجَةً لَمْ يَنَالُوهَا. قَالَ: بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ , أَنْبَأَنَا أَبُو طَالِبٍ الْيُوسُفِيُّ , أَنْبَأَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِهْرَانِيُّ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَسْنُونٍ , حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ الْخَوَّاصُ , حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْرُوقٍ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بِسْطَامٍ الأَصْغَرُ , حَدَّثَنِي حُرَيْثُ بْنُ طَرَفَةَ قَالَ كَانَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ يَصُومُ الدَّهْرَ وَيُفْطِرُ عَلَى قُرْصٍ وَيَتَسَحَّرُ بِآخَرَ , فَنَحِلَ وَسَقِمَ جِسْمُهُ حَتَّى صَارَ كَهَيْئَةِ الْخَيَالِ , فَلَمَّا مَاتَ وَأُدْخِلَ مُغْتَسَلَهُ لِيُغَسَّلَ كُشِفَ الثَّوْبُ عَنْهُ فَإِذَا هُوَ كَالْخَيْطِ الأَسْوَدِ قَالَ: وَأَصْحَابُهُ يَبْكُونَ حَوْلَهُ. قَالَ حُرَيْثٌ: فحدثني يحيى البكاء وإبراهيم ابن مُحَمَّدٍ الْعُرَنِيُّ قَالا: لَمَّا نَظَرْنَا إِلَى حَسَّانٍ عَلَى مُغْتَسَلِهِ وَمَا قَدْ أَبْلاهُ الدُّءُوبُ اسْتَدْمَعَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَعَلَتْ

أَصْوَاتُهُمْ , فَسَمِعْنَا قَائِلا يَقُولُ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ: (تَجُوعُ لِلإِلَهِ لِكَيْ يَرَاهُ ... نَحِيلَ الْجِسْمِ مِنْ طُولِ الصِّيَامِ) فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا فِي الْبَيْتِ إِلا بَاكِيًا وَنَظَرْنَا فَلَمْ نَرَ أَحَدًا. قَالَ حُرَيْثٌ: فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ بَعْضَ الْجِنِّ قَدْ بَكَاهُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ: جِئْتُ إِلَى بَابِهِ فَإِذَا هُوَ فِي الدِّهْلِيزِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ بِطِّيخَةٌ وَهُوَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: أَكَلْتِيهَا فَكَانَ مَاذَا؟ فَطَرَقْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ وَدَخَلْتُ وَقُلْتُ أَيُّ شَيْءٍ هَذِهِ تُعَاتِبُ نَفْسَكَ فِيهَا. فَقَالَ: (صبرت على الأيام حتى تولت ... وألزمت نفس صَبْرَهَا فَاسْتَمَرَّتْ) (وَمَا النَّفْسُ إِلا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الفتى ... فإن أطمعت تَاقَتْ وَإِلا تَسَلَّتْ) ثُمَّ رَمَى بِالْبِطِّيخَةِ إِلَيَّ وَأَنْشَأَ يَقُولُ: (وَإِنَّ كَدِّي لِشِبَعِ بَطْنِي ... يَبِيعُ دِينِي بِلا مَحَالِ) (مَنْ نَالَ دُنْيَا بِغَيْرِ دين ... بال وَبَالا عَلَى وَبَالِ) أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَيَّاطُ , أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ الحسين بن حمكان , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السَّرَّاجِ , قَالَ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ الْفَتْحِ يَقُولُ: رَأَيْتُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ فِي مَنَامِي وَهُوَ قَاعِدٌ فِي بُسْتَانٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَائِدَةٌ وَهُوَ يَأْكُلُ مِنْهَا فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا نَصْرٍ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: رَحِمَنِي وَغَفَرَ لِي وَأَبَاحَنِي الْجَنَّةَ بِأَسْرِهَا وَقَالَ لِي: كُلْ مِنْ جَمِيعِ ثِمَارِهَا وَاشْرَبْ مِنْ أَنْهَارِهَا وَتَمَتَّعْ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا , كَمَا كُنْتَ تُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِكَ الشَّهَوَاتِ فِي دَارِ الدُّنْيَا. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ , أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ , أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الطَّنَاجِيرِيُّ أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ , أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بن محمد العنبري , أخبرنا عبد الرحمن ابن مُعَاوِيَةَ الْقُرَشِيُّ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ الصَّدَفِيُّ , حدثنا جعر بن هرون , عن مسلمة ابن جَعْفَرٍ , عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّ للَّهِ تَعَالَى عِبَادًا كَمَنْ رَأَى أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ مُخَلَّدِينَ وَكَمَنْ رَأَى أَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ معذبين ,

قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ , وَحَوَائِجُهُمْ خَفِيفَةٌ , صَبَرُوا أَيَّامًا قِصَارًا تَعْقُبُ رَاحَةً طَوِيلَةً , أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافَّةٌ أَقْدَامُهُمْ تَسِيلُ دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ , يَجْأَرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ رَبَّنَا رَبَّنَا. وَأَمَّا النَّهَارَ فَعُلَمَاءُ حُلَمَاءُ بَرَرَةٌ أَتْقِيَاءُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى أَوْ قَدْ خُولِطُوا , وَمَا بِهِمْ مَرَضٌ وَلَكِنْ خَالَطَ الْقَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ الْحِيرِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الزَّنْجَانِيُّ , حَدَّثَنَا عيسى بن هرون , حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْجُنَيْدِ , حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ يَحْيَى , عَنْ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ , قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ عَلَى شَاطِئِ البحر يتحدثون في ملكوت السماء وَفِي خَدْعَةِ الدُّنْيَا لِمَنْ فِيهَا , فَسَمِعُوا هَاتِفًا من البحر يقول: إن للَّهِ عِبَادًا أَخْلَصَتْهُمُ الْخَشْيَةُ وَأَذَابَهُمُ الْحُزْنُ , فَلَمْ تَجِفَّ دَمْعَتُهُمْ وَلَمْ يَشْغَلْهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ شَاغِلٌ , تَفَرَّغُوا لَهُ وَنَصَبُوهُ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ , أُولَئِكَ عَلَى كَرَاسِيٍّ مِنْ نُورٍ عِنْدَ قَائِمَةِ الْعَرْشِ يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَيَضْحَكُونَ إِلَيْهِ فَصُعِقُوا وَسَقَطَ بَعْضُهُمْ فِي الْبَحْرِ وَمَاتَ بَاقِيهِمْ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ , أنبأنا محمد بن علي الْقُرَشِيِّ , حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُسَيْنِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَشَّاءُ , حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جعر , حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ يَحْيَى الدِّهْقَانُ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو , حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حسين بن محمد ابن بَكْرٍ , عَنْ أَبِي الْجَارُودِ , عَنْ عَطِيَّةَ , عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ لَيَبْلُغُ مِنْ كَرَامَةِ الْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ لَيَكُونُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ أَلْفُ بَابٍ , مَا مِنْهَا بَابٌ إِلا عَلَيْهِ خَدَمٌ مِنْ خَدَمِهِ , فَتُقْبِلُ الْمَلائِكَةُ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى تِلْكَ الأَبْوَابِ فَيَقُولُونَ هَلْ عَلَى سَيِّدِكُمْ مِنْ إِذْنٍ؟ فَيَقُولُونَ: مَا نَدْرِي. فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ إِنَّ مَلائِكَةً مِنْ مَلائِكَةِ اللَّهِ عَلَى الأَبْوَابِ يَقُولُونَ: هَلْ عَلَى سَيِّدِكُمْ مِنْ إِذْنٍ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ بِالتَّحِيَّةِ ". يَا قَلِيلَ الصَّبْرِ إِنَّمَا هِيَ مَرَاحِلُ , فَصَابِرْ لُجَّةَ الْبَلاءِ فَالْمَوْتُ سَاحِلٌ , تَأَمَّلْ تَحْتَ سَجْفِ لَيْلِ الصَّبْرِ صُبْحُ الأَجْرِ , وَاحْبِسْ لِسَانَكَ عَنِ الشَّكْوَى فِي سِجْنِ

سجع على قوله تعالى

الصَّبْرِ , وَاقْطَعْ نَهَارَ اللأْوَاءِ بِحَدِيثِ الْفِكْرِ , وَأَوْقِدْ فِي دَيَاجِي الآلامِ مِصْبَاحَ الشُّكْرِ , وَقَلِّبْ قَلْبَكَ بين ذكر النواب وَتَمْحِيصِ الْوِزْرِ , وَتَعَلَّمْ أَنَّ الْبَلاءَ يُمَزِّقُ رُكَامَ الذُّنُوبِ تَمْزِيقَ الشِّبَاكِ , وَيَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْفَضَائِلِ إِلَى كَاهِلِ السَّمَّاكِ , وَمَنْ تَفَكَّرَ فِي سِرِّ: {إِنَّ الله مع الصابرين} . أَنِسَ بِجَلِيسِهِ , وَمَنْ تَذَكَّرَ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أجرهم بغير حساب} فرح بامتلاء كيسه. (إذا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... وَلاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا) (نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لا تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... وَإِنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا) سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {إني جزيتهم اليوم بما صبروا} للَّهِ أَقْوَامٌ امْتَثَلُوا مَا أُمِرُوا , وَزُجِرُوا عَنِ الزَّلَلِ فَانْزَجَرُوا , فَإِذَا لاحَتِ الدُّنْيَا غَابُوا وَإِذَا بَانَتِ الأُخْرَى حَضَرُوا , فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ إِذَا حُشِرُوا {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} . جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ فَسَهِرُوا , وَطَالَعُوا صُحُفَ الذُّنُوبِ فَانْكَسَرُوا , وَطَرَقُوا بَابَ الْمَحْبُوبِ وَاعْتَذَرُوا , وَبَالَغُوا فِي الْمَطْلُوبِ ثُمَّ حَذِرُوا , فَانْظُرْ بِمَاذَا وُعِدُوا فِي الذِّكْرِ وَذَكَرُوا {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} . رَبِحُوا وَاللَّهِ وَمَا خَسِرُوا , وَعَاهَدُوا عَلَى الزُّهْدِ فَمَا غَدَرُوا , وَاحْتَالُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ فَمَلَكُوا وَأَسَرُوا , وتفقدوا أنه الْمَوْلَى فَاعْتَرَفُوا وَشَكَرُوا {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صبروا} . بُيُوتُهُمْ فِي خُلُوِّهَا كَالصَّوَامِعِ , وَعُيُونُهُمْ تَنْظُرُ بِالتُّقَى من طرف [خَاشِعٍ] وَالأَجْفَانُ قَدْ سَحَّتْ سُحُبَ الْمَدَامِعِ تَسْقِي بَذْرَ الْفِكْرِ الَّذِي بَذَرُوا {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بما صبروا} .

اسْتَوْحَشُوا مِنْ كُلِّ جَلِيسٍ , شُغُلا بِالْمَعْنَى النَّفِيسِ , وَزَمُّوا مَطَايَا الْجِدَّ فَسَارَتِ الْعِيسُ , وَبَادَرُوا الْفُرْصَةَ فَفَاتُوا إِبْلِيسَ , لا وَقَفُوا وَلا فَتَرُوا {إِنِّي جزيتهم اليوم بما صبروا} . قُلُوبٌ فِي الْخِدْمَةِ حَضَرَتْ، أَسْرَارٌ بِالصِّدْقِ عَمَرَتْ , كَمْ شَهْوَةٍ فِي صُدُورِهِمُ انْكَسَرَتْ , أَخْبَارُهُمْ تُحْيِي الْقُلُوبَ إِذَا نُشِرَتْ , وَيُقَالُ عَنِ الْقَوْمِ إِذَا نشروا {إني جزيتهم اليوم بما صبروا} . جَدُّوا فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَلْعَبُ , وَرَفَضُوا الدُّنْيَا فَتَرَكُوهَا تَخْرَبُ , وَأَذَابُوا قُلُوبَهُمْ بِقِلَّةِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ , فَغَدًا يُقَالُ: كُلْ يَا مَنْ لَمْ يَأْكُلْ وَاشْرَبْ يَا مَنْ لَمْ يَشْرَبْ أَذْكَارُهُمْ فِي الْحَيَاةِ وَإِنْ كَانُوا قُبِرُوا {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بما صبروا} . عَلِمُوا أَنَّ الدُّنَيْا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ , وَأَنَّ مَنْ وَافَقَ مُرَادَهَا فَارَقَ دِينَهُ , فَحَذِرُوا مِنْ غُرُورٍ يُجْدِي غَبِينَةً , فَرَكِبُوا مِنَ التُّقَى فِي سَفِينَةٍ أَشْحَنُوهَا بِالزَّادِ وَعَبَرُوا " {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بما صبروا} . طُوبَى لَهُمْ وَالأَمْلاكُ تَتَلَقَّاهُمْ , كُشِفَ الْحِجَابُ عَنْ عُيُونِهِمْ فَأَرَاهُمْ , هَذَا أَقْصَى آمَالِهِمْ وَقَدْ ظَفَرُوا {إني جزيتهم اليوم بما صبروا} . بَلَّغَنَا اللَّهُ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ , وَأَسْمَعَنَا زَجْرَ النَّاصِحِ فَقَدْ أَبْلَغَ , وَسَتَرَنَا مِنَ الْعِقَابِ فَإِنَّهُ إِنْ عَفَا أَسْبَغَ , وَلَوْلا عَوْنُهُ مَا قَدَرُوا {إِنِّي جزيتهم اليوم بما صبروا} .

المجلس الرابع عشر في ذكر قصة شعيب عليه السلام

المجلس الرابع عشر فِي ذِكْرِ قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ الْقَدِيمِ فَلا يُقَالُ مَتَى كَانَ , الْعَظِيمِ فَلا يَحْوِيهِ مَكَانٌ , أَنْشَأَ آدَمَ وَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ بِنُعْمَانَ , وَرَفَعَ إِدْرِيسَ إِلَى أَعَالِي الْجِنَانِ , وَنَجَّى نُوحًا وَأَهْلَكَ كَنْعَانَ , وَسَلَّمَ الْخَلِيلَ بِلُطْفِهِ يَوْمَ النِّيرَانِ , وَيُوسُفُ مِنَ الْفَاحِشَةِ حِينَ الْبُرْهَانِ , وَبَعَثَ شُعَيْبًا إِلَى مَدْيَنَ يَنْهَى عَنِ الْبَخْسِ وَالْعُدْوَانِ , وَيُنَادِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ وَلَكِنْ صُمَّتِ الآذَانُ {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} . أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَمْلأُ الْمِيزَانَ , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي فَاقَ دِينُهُ الأَدْيَانَ , وَعَلَى صَاحِبِهِ أبو بَكْرٍ أَوَّلِ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ , وَعَلَى عُمَرَ الْفَارُوقِ الَّذِي كَانَ يَفْرَقُ مِنْهُ الشَّيْطَانُ , وَعَلَى زَوْجِ الابْنَتَيْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ , وَعَلَى عَلِيٍّ بَحْرِ الْعُلُومِ وَسَيِّدِ الشُّجْعَانِ , وَعَلَى عَمِّهِ الْمُسْتَسْقَى بشيبته فأقبح السَّحُّ الْهَتَّانُ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِلَى مدين أخاهم شعيبا} قَالَ قَتَادَةُ: مَدْيَنُ مَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَدْيَنُ هَذَا هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ لِصُلْبِهِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: هُوَ مَدْيَنُ بْنُ مَدْيَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَا إِلَى وَلَدِ مَدْيَنَ. فَعَلَى هَذَا هُوَ اسْمُ قَبِيلَةٍ. وَشُعَيْبُ هُوَ ابْنُ عيفَا بْنِ نويبَ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ , أَرْسَلَ إِلَى مَدْيَنَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً وَكَانُوا مَعَ كُفْرِهِمْ يَبْخَسُونَ الْمَكَايِيلَ وَالْمَوَازِينَ , فَدَعَاهُمْ إِلَى

التَّوْحِيدِ وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ , وَكَانَ يُقَالُ لَهُ خَطِيبُ الأَنْبِيَاءِ لِحُسْنِ مُرَاجَعَتِهِ قَوْمِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {قد جاءتكم بينة من ربكم} وَلَمْ يَذْكُرْ مُعْجِزَتَهُ. {وَلا تَبْخَسُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} أَيْ لا تَنْقُصُوا {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} أَيْ لا تَعْمَلُوا فِيهَا الْمَعَاصِيَ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا بِالأَمْرِ بِالْعَدْلِ {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} أي بكل طريق {توعدون} وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِكَذَا لأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَخْلَتِ الْفِعْلَ مِنَ الْمَفْعُولِ لا يَدُلُّ إِلا عَلَى شَرٍّ , يَقُولُونَ: أَوْعَدْتَ فلاناَ. وَكَذَلِكَ إِذَا أَفْرَدُوا {وَعَدْتَ} مِنْ مَفْعُولٍ فَإِنَّهُ لا يَدُلُّ إِلا عَلَى خَيْرٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَقُولُونَ: وَعَدْتُهُ خَيْرًا وَوَعَدْتُهُ شَرًّا , فَإِذَا أَسْقَطُوا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ قَالُوا: وَعَدْتُهُ فِي الْخَيْرِ. وَأَوْعَدْتُهُ فِي الشَّرِّ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الإِيعَادِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُوعِدُونَ مَنْ آمَنَ بِشُعَيْبٍ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا عَشَّارِينَ قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سبيل الله} أَيْ تُصْرِفُونَ عَنْ دِينِهِ {مَنْ آمَنَ بِهِ وتبغونها عوجاً} أَيْ تَطْلُبُونَ لِلسَّبِيلِ عِوَجًا أَيْ زَيْفًا {وَاذْكُرُوا إذ كنتم قليلاً فكثركم} يَحْتَمِلُ ثَلاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: كُنْتُمْ فُقَرَاءَ فَأَغْنَاكُمْ , وَقَلِيلا عَدَدُكُمْ فَكَثَّرَكُمْ , وَغَيْرَ ذِي مَقْدِرَةٍ فَأَقْدَرَكُمْ. وَكَانُوا مَعَ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ قَدْ أُغْرُوا بِالتَّطْفِيفِ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا رَدُّوا عَلَيْهِ: " أَصَلاتُكَ تأمرك " أَيْ دِينُكَ وَقِرَاءَتُكَ. " أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا " الْمَعْنَى: [أَوْ] أَنْ نَتْرُكَ أَنْ نَفْعَلَ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ: {مَا تَشَاءُ} فَاسْتَغْنَى عَنِ الإِضْمَارِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أَمَرَهُمْ بِالزَّكَاةِ فامتنعوا. وقالوا: {إنك لأنت الحليم الرشيد} استهزاء به.

فَخَوَّفَهُمْ أَخَذَاتِ الأُمَمِ وَقَالَ: {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} أَيْ لا تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَتُكُمْ إِيَّايَ أَنْ تُعَذَّبُوا. وَكَانَ أَقْرَبُ الإِهْلاكَاتِ إِلَيْهِمْ قَوْمَ لُوطٍ فَقَالَ: {وما قوم لوط منكم ببعيد} . فقالوا: " ما نفقه كثيراً مما تقول " أَيْ مَا نَعْرِفُ صِحَّةَ ذَلِكَ {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فينا ضعيفاً} وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ. كَذَا يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنَادِي: وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ كَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ لأَنَّهُ لا يُبْعَثُ نَبِيٌّ أَعْمَى. قَالَ أَبُو رَوْقٍ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا أَعْمَى وَلا مَنْ بِهِ زَمَانَةٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنَادِي: وَهَذا الْقَوْلُ أَلْيَطُ بِالْقُلُوبِ مِنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. {وَلَوْلا رهطك} يعني عشيرتك {لرجمناك} أَيْ لَقَتَلْنَاكَ بِالرَّجْمِ. فَقَالَ لَهُمْ: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عليكم من الله} أَيْ تُرَاعُونَ رَهْطِي فِي وَلا تُرَاعُونَ اللَّهَ في {واتخذتموه وراءكم ظهريا} أَيْ رَمَيْتُمْ أَمْرَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ. ثُمَّ كان آخر أمره أن قال: {فارتقبوا إني معكم رقيب} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ارْتَقِبُوا الْعَذَابَ فَإِنِّي أَرْتَقِبُ الثَّوَابَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عُذِّبَ أَهْلُ مَدْيَنَ بِثَلاثَةِ أَصْنَافٍ: أَخَذَتْهُمْ رَجْفَةٌ فِي دِيَارِهِمْ حَتَّى خَافُوا أَنْ تَسْقُطَ عَلَيْهِمْ , فَخَرَجُوا مِنْهَا فَأَصَابَهُمْ حَرٌّ شَدِيدٌ , فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى الظُّلَّةُ فَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى الظِّلِّ. فَدَخَلُوا فِيهِ فَصِيحَ بِهِمْ صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ فَمَاتُوا كُلُّهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَدْيَنَ أَصْحَابُ الظُّلَّةِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فعلى هذا إنما خذف ذِكْرُ الأَخِ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ تَخْفِيفًا. وَذَهَبَ مُقَاتِلٌ إِلَى أَنَّ أَهْلَ مَدْيَنَ لَمَّا هَلَكُوا بُعِثَ شُعَيْبٌ إِلَى أَصْحَابِ الأَيْكَةِ فَأُهْلِكُوا بِالظُّلَّةِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي: وَكَانَ أَبُو جَادٍ وَهَوازٍ وَحُطِّي وَكَلَمُونَ وَسعفصَ وَقُرَيْشَاتَ بْنِ الأَمْحَضِ بْنِ جَنْدَلِ بْنِ يَعْصُبَ بْنِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ مُلُوكًا , وَكَانَ

أَبُو جَادٍ مَلِكَ مَكَّةَ وَمَا وَالاهَا مِنْ تِهَامَةَ , وَكَانَ هَوازُ وَحُطِّي مَلِكَيْ وَجٍّ وَهُوَ الطَّائِفُ , وَكَانَ سعفصُ وَقُريشَاتُ مَلِكَيْ مَدْيَنَ , ثُمَّ خَلَفَهُمْ كَلَمُونُ فَكَانَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ فِي مُلْكِهِ. فَقَالَتْ حَالِفَةُ بِنْتُ كَلَمُونَ تَرْثِيهِ: (كَلَمُونُ هَدَّ رُكْنِي ... هَلْكُهُ وَسْطَ الْمَحَلَّهْ) (سَيِّدُ الْقَوْمِ أَتَاهُ الْحَتْفُ نَارٌ وَسْطَ ظُلَّهْ ... ) (كُوِّنَتْ نَارًا فَأَضْحَتْ ... دَارُهُمْ كَالْمُضْمَحِلَّهْ) قَالَ ابْنُ الْمُنَادِي: ثُمَّ إن شعيباً مكث في أصحاب الأيكة باقي عُمْرُهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَمَا ازْدَادُوا إِلا عُتُوًّا فَسُلِّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرُّ. فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الأُمَّتَانِ اتَّفَقَتَا فِي التَّعْذِيبِ. وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا أَهْلُ مَدْيَنَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ وَالرَّجْفَةُ , وَأَمَّا أَصْحَابُ الأَيْكَةَ فَسُلِّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرُّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ , ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَكَلَتْهُمْ , فَذَلِكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. ثُمَّ إِنَّ شُعَيْبًا زَوَّجَ مُوسَى ابْنَتَهُ , ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا وَكَانَ عُمْرُهُ مِائَةً وأربعين سنة , ودفن فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حِيَالَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَظَّمَ ذِكْرَ الْبَخْسِ فِي قِصَّتِهِمْ وَشَدَّدَ فِيهِ وَأَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِ وَأَشَارَ إِلَى التَّوْحِيدِ , لِيُنَبِّهَنَا عَلَى مَا نَرْتَكِبُهُ , فَإِذْ قَدْ عَرَفْنَا قُبْحَ الشِّرْكِ لَمْ نَحْتَجْ إِلَى الإِطْنَابِ فِي ذِكْرِهِ , وَكَذَلِكَ عَابَ قَوْمَ لُوطٍ بِالْفَاحِشَةِ وَبَالَغَ فِي ذِكْرِهَا , وَكُلُّ ذَلِكَ لِتَخْوِيفِنَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخَبْثِ النَّاسِ كَيْلا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} . وَاعْلَمْ أَنَّهُ خَوَّفَ الْمُطَفِّفِينَ بِذِكْرِ الْوَيْلِ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} وَالْمَعْنَى: لَوْ ظَنُّوا الْبَعْثَ مَا بَخَسُوا {يَوْمَ يقوم الناس لرب العالمين} أَيْ لأَمْرِ الْجَزَاءِ.

الكلام على البسملة

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إلى أنصاف أذنيه " وقال كعب: يقفون ثلاثمائة عَامٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابن أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , عَنِ الْعَلاءِ , عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَسَأَلَهُ: كَيْفَ تَبِيعُ؟ فَأَخْبَرَهُ , فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَدْخِلْ يَدَكَ فِيهِ. فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مَبْلُولٌ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ ". وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ أَنَّهُ رُئِيَ يَعْرِضُ حِمَارًا لَهُ عَلَى الْبَيْعِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَتَرْضَاهُ لِي؟ فَقَالَ: لَوْ رَضِيتُهُ لَمْ أَبِعْهُ. وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ مِنْ حَلالٍ أَمْ حَرَامٍ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَفْعِ الأَمَانَةِ فَقَالَ: " يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ". الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (يَا أَخِي كُنْ عَلَى حَذَرْ ... قَبْلَ أَنْ تَحْدُثَ الْغِيَرْ) (لا تَكُنْ جَاهِلا كَأَنَّكَ لا تَعْرِفُ الْخَبَرْ ... ) (نَشَرَ الْعَيْشُ صَفْوَهُ ... فَطَوَى الْمَوْتُ مَا نَشَرْ) (فَإِذَا مَا صَفَا لك الدهر فاعمل على الحر ... ) (أَيْنَ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ ... أَيْنَ مَنْ كَانَ ذَا قَصَرْ) (لا الرُّقَى أَخَّرَتْهُمُ ... مِنْ طَبِيبٍ وَلا الْبَشَرْ) (رَحِمَ اللَّهُ مَنْ تَفَكَّرَ فِي الْمَوْتِ وَاعْتَبَرْ ... ) (قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ النُّفُوسُ ... وَلا تُمْكِنُ الْفِكَرْ) (فَكَأَنَّا بِيَوْمِنَا ... قَدْ أَتَانَا بِهِ القدر)

(واستوى عنده المواصل ... فيه ومن هَجَرْ) (وَعُدِمْنَا النَّهَارَ وَاللَّيْلَ ... وَالْحَرَّ وَالَمَطَرْ) (وَانْقَضَى الْعَدُّ بِالنُّجُومِ ... وَبِالشَّمْسِ وَالْقَمَرْ) (مَا انْتِظَارِي وَكُلُّ وحي لَهُ ... الْمَوْتُ يَنْتَظِرْ) (رَقَّ جِلْدِي وَدَقَّ عَظْمِي ... وَقَلْبِي فَمِنْ حَجَرْ) (كُلَّمَا تُبْتُ مِنْ ذُنُوبٍ ... تَقَحَّمْتُ فِي أُخَرْ) يَا غَرِيقًا فِي لُجَجِ لُجَاجِهِ , يَا رَاحِلا عَنْ قَلِيلٍ عَنْ أَهْلِهِ وماله وأزواجه , يا مسئولاً ماله جَوَابٌ فِي احْتِجَاجِهِ , مَتَى يَأْتِي الْهُدَى مِنْ طُرُقِهِ وَفِجَاجِهِ , مَتَى تُنِيرُ الْقُلُوبُ بِإِيقَادِ سِرَاجِهِ , مَتَى يُكْتَمُ هَذَا الْجُرْحُ بِانْتِسَاجِهِ , مَتَى يُفْتَحُ بَابٌ يَا طُولَ ارْتِيَاجِهِ , مَتَى يُسْتَدْرَكُ عُمْرٌ قَدْ مَرَّ بِانْدِمَاجِهِ , مَتَى يَرْجِعُ سِفْرُ النَّدَمِ بِقَضَاءِ حَاجِهِ , إِلَى مَتَى يُقَالُ فَلا تَقْبَلُ , أَمَا الْمَوْتُ نَحْوَكَ قَدْ أَقْبَلَ , أَمَا الْعُمْرُ أَيَّامٌ تُنْهَبُ , أَمَا السَّاعَاتُ أَحْلامٌ تَذْهَبُ , أَمَا الْمَعَاصِي تَضُرُّ الْكَاسِبَ , أَمَا الْخَطَايَا شَرُّ الْمَكَاسِبِ , أَبْعَدَ احْتِجَاجُ الشَّيْبِ مَا تَرْعَوِي , أَبْعَدَ اعْوِجَاجُ الصُّلْبِ مَا تَسْتَوِي. (إِلَى كَمْ يَكُونُ الْعَتْبُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَلِمَ لا تَمَلُّونَ الْقَطِيعَةَ وَالْهَجْرَا) (رُوَيْدَكَ إِنَّ الدَّهْرَ فِيهِ كِفَايَةٌ ... لِتَفْرِيقِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَانْتَظِرِ الدَّهْرَا) للَّهِ دَرُّ أَقْوَامٍ نَظَرُوا إِلَى الأَشْيَاءِ بِعَيْبِهَا , فَكَشَفَتْ لَهُمُ الْعَوَاقِبُ عَنْ غَيْبِهَا , وَأَخْبَرَتْهُمُ الدُّنْيَا بِكُلِّ عَيْبِهَا , فَشَمَّرُوا لِلْجِدِّ عَنْ سُوقِ الْعَزَائِمِ وَأَنْتَ فِي الْغَفْلَةِ نَائِمٌ. أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ , أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُهْتَدِي , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْعَلافُ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ , حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ , عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي اسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ حَقًّا. قَالَ: انْظُرْ مَا تَقُولُ , فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً , فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرَفَتْ نَفْسِي الدُّنْيَا

فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي , وَكَأَنِّي بِعَرْشِ رَبِّي بَارِزًا , وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا , وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَعَاوَوْنَ فيها. قال: أبصرت فالزم. عبد نور الله الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ , ادْعُ اللَّهَ لِي بِالشَّهَادَةِ , فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنُودِيَ يَوْمًا فِي الْخَيْلِ , فَكَانَ أَوَّلَ فَارِسٍ رَكِبَ وَأَوَّلَ فَارِسٍ اسْتُشْهِدَ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهُ فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ , وَلَكِنْ أَحْزَنُ , وَإِنْ يَكُنْ فِي النَّارِ بَكَيْتُ عَلَيْهِ مَا عِشْتُ فِي دَارِ الدُّنْيَا. فَقَالَ: " يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِجَنَّةٍ وَلَكِنْ جَنَّاتٌ , وَالْحَارِثُ فِي الْفِرْدَوْسِ الأَعْلَى ". فَرَجَعَتْ وَهِيَ تَضْحَكُ وَتَقُولُ: بَخٍ بَخٍ لَكَ يَا حَارِثَةُ! يَا هَذَا سَبَقَكَ أَهْلُ الْعَزَائِمِ وأنت في الغفلة نائم , لقد بعث الْمَعَالِي بِالْكَسَلِ , وَآثَرْتَ الْبَطَالَةَ عَلَى الْعَمَلِ , أَزْعَجَ ذِكْرُ الْقِيَامَةِ قُلُوبَ الْخَائِفِينَ , وَقَلْقَلَ خَوْفُ الْعِتَابِ أَفْئِدَةَ الْعَارِفِينَ , فَاشْتَغَلُوا عَنْ طَعَامِ الطَّغَامِ , وَمَالَ بِهِمْ حَذَرُ الْبَاسِ عَنْ تَنَوُّقِ اللِّبَاسِ. كَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ يَلْتَقِطُ الرِّقَاعَ مِنَ الْمَزَابِلِ وَيَغْسِلُهَا فِي الْفُرَاتِ وَيَضَعُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ: (أَطْمَارُهُ رَثَّةٌ فَقَدْ ضَاعَ ... لا ضَاعَ , وَضَاعَ الثَّمِينُ فِي بَلَدِهِ) (لَيْسَ لَهُ نَاقِدٌ فَيَعْرِفُهُ ... وَآفَةُ التِّبْرِ ضَعْفُ مُنْتَقِدِهِ) يَا مُفَرِّطًا فِي سَاعَاتِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ , لَوْ عَلِمْتَ مَا فَاتَ شَابَهَتْ دُمُوعُكَ الأَنْهَارَ , يَا طَوِيلَ النَّوْمِ عَدِمْتَ خَيْرَاتِ الأَسْحَارِ , لَوْ رَأَى طَرْفُكَ مَا نَالَ الأَبْرَارُ حَارَ , يَا مَخْدُوعًا بِالْهَوَى سَاكِنًا فِي دَارٍ , قَدْ حَامَ حَوْلَ سَاكِنِهَا طَارِقُ الْفَنَاءِ وَدَارَ , سَارَ الصَّالِحُونَ فَاجْتَهِدْ فِي اتِّبَاعِ الآثَارِ , وَاذْكُرْ بظلام لليل ظَلامَ الْقَبْرِ وَخُلُوَّ الدِّيَارِ , وَحَارِبْ عَدُوًّا قَدْ قَتَلَكَ بِالْهَوَى وَاطْلُبِ الثَّأْرَ , فَقَدْ أَرَيْتُكَ طَرِيقًا إِنْ سَلَكْتَهَا أَمِنْتَ الْعِثَارَ , فَإِنْ فُزْتَ بِالْمُرَادِ فَالصَّيْدُ لِمَنْ أَثَارَ.

الكلام على قوله تعالى

(مَنْ لِنَفْسٍ أَبَتْ نَاصِحًا إِذْ صَبَتْ ... كَمْ جَدِيدٍ مِنْ صِبًا فِي جَدِيدٍ أَبْلَتْ) (وَأَطَاعَتْ مَنْ هَوَى فَهَوَتْ إِذْ هَفَتْ ... عَدِمَتْ يَقَظَتْهَا فِيهِ حَتَّى قَضَتْ) (وَيْكَ يَا نَفْسُ أَلا حَذَرٌ مِنْ غَفْلَةْ ... إِنَّمَا الدُّنْيَا أَسَى كَمْ دُمُوعٍ أَذْرَتْ) (إِنْ بَنَتْ مَا شَيَّدَتْ هَدَمَتْ ما بنت ... أوحبت سَائِلَهَا رَجَعَتْ فِي الْهِبَةْ) (أَوْ صَفَتْ عِنْدَ فَتًى كَدَّرَتْ مَا أَصْفَتْ ... كَمْ صَرِيعٍ نَقَلَتْ إِذْ قَلَتْ فِي قُلَّةْ) (كَمْ غَبِيٍّ غَافِلٍ أَسْمَعَتْ إِذْ نَعَتْ ... غَادَرَتْهُ جُثَّةً لِرُفَاتِ عِلَّةْ) (لَمْ يَكُنْ يَنْفَعُهُ كُلُّ عَيْنٍ بَكَتْ ... آهٍ يَوْمًا حَسْرَةً لأُمُورٍ جَرَتْ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تعالى {كلا إذا بلغت التراقي} كَلا رَدْعٌ وَزَجْرٌ. وَالْمَعْنَى: ارْتَدِعُوا عَنْ مَا يؤدي إلى العذاب {إذا بلغت} يَعْنِي النَّفْسَ. وَهَذِهِ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ. وَالتَّرَاقِي: الْعِظَامُ الْمُكْتَنِفَةُ لِثَغْرَةِ النَّحْرِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ , وَوَاحِدُ التَّرَاقِي تَرْقُوَةٌ. وَيُكَنَّى بِبُلُوغِ النَّفْسِ إِلَى التَّرَاقِي عَنِ الإِشْفَاءِ عَلَى الْمَوْتِ. {وَقِيلَ من راق} فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَوْلُ الْمَلائِكَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: مَنْ يَرْقِي رُوحَهُ؟ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَوْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِهِ: مَنْ يَرْقِيهِ بِالرُّقَى. وَالْقَوْلانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قوله تعالى: {وظن} أَيْ أَيْقَنَ الَّذِي بَلَغَتْ رُوحُهُ إِلَى التَّرَاقِي {أنه الفراق} للدنيا. {والتفت الساق بالساق} فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَمْرُ الدُّنْيَا بِأَمْرِ الآخِرَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ. قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالثَّالِثُ: الْتَفَّتْ سَاقَاهُ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. وَالرَّابِعُ: الْتَفَّتْ سَاقَاهُ فِي الْكَفَنِ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ.

وَالْخَامِسُ: الْتَفَّتِ الشِّدَّةُ بِالشِّدَّةِ. قَالَهُ قَتَادَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: آخِرُ شِدَّةِ الدُّنْيَا بِأَوَّلِ شِدَّةِ الآخِرَةِ. يَا لَهَا مِنْ سَاعَةٍ لا تُشْبِهُهَا سَاعَةٌ , يَنْدَمُ فِيهَا أَهْلُ التُّقَى فَكَيْفَ أَهْلُ الإِضَاعَةِ , يَجْتَمِعُ فِيهَا شِدَّةُ الْمَوْتِ إِلَى حَسْرَةِ الْفَوْتِ. لَمَّا احْتُضِرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: (لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ) فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ قُولِي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تحيد} وَلِذَلِكَ كَانَ يَقُولُهَا أَبُو بَكْرٍ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ الْمَوْتِ: وَيْلِي وَوَيْلُ أُمِّي إِنْ لَمْ يَرْحَمْنِي رَبِّي! وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ يَتَمَثَّلُ: (أَرَى الْمَوْتَ لا يُبْقِي حَزِينًا وَلا يَدَعُ ... لِعَادٍ مِلاكًا فِي الْبِلادِ وَمُرْتَقى) (يَبِيتُ أَهْلُ الْحِصْنِ وَالْحِصْنُ مُغْلَقٌ ... وَيَأْتِي الْجِبَالَ مِنْ شَمَارِيخِهَا العُلَى) وَلَمَّا جُرِحَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ يَقُولُ: (شُدَّ حَيَازِيمَكَ لِلْمَوْتِ ... فَإِنَّ الْمَوْتَ لاقِيكَ) (وَلا تجرع مِنَ الْمَوْتِ ... إِذَا حَلَّ بِوَادِيكَ) وَلمَّا احْتُضِرَ مُعَاوِيَةُ جَعَلَ يَقُولُ: (إِنْ تُنَاقِشْ يَكُنْ نِقَاشُكَ يَا رَبِّ ... عَذَابًا لا طَوْقَ لِي بِالْعَذَابِ) (أَوْ تَجَاوَزْ فَأَنْتَ رَبُّ عَفْوٍ ... عَنْ مُسِيءٍ ذُنُوبُهُ كَالتُّرَابِ) وَلَمَّا احْتُضِرَ مُعَاذٌ جَعَلَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ لَيْلَةٍ صَبَاحُهَا النَّارُ , مَرْحَبًا بِالْمَوْتِ مَرْحَبًا زَائِرٌ مُغِبٌّ حَبِيبٌ جَاءَ عَلَى فاقة , اللهم إني قد كُنْتُ أَخَافُكَ وَأَنَا الْيَوْمَ أَرْجُوكَ , اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ الدُّنْيَا وَطُولَ الْبَقَاءِ فِيهَا لِكِرَى

الأَنْهَارِ وَلا لِغَرْسِ الأَشْجَارِ , وَلَكِنْ لِظَمَإِ الْهَوَاجِرِ وَمُكَابَدَةِ السَّاعَاتِ وَمُزَاحَمَةِ الْعُلَمَاءِ بِالرَّكْبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ. وَلَمَّا احْتُضِرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ جَعَلَ يَقُولُ: أَلا رَجُلٌ يَعْمَلُ لِمِثْلِ مَصْرَعِي هَذَا؟ أَلا رَجُلٌ يَعْمَلُ لِمِثْلِ سَاعَتِي هَذِهِ , أَلا رَجُلٌ يَعْمَلُ لِمِثْلِ يَوْمِي هَذَا! وَبَكَى. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: تَبْكِي وَقَدْ صَاحَبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم؟ فقال: ومالي لا أَبْكِي وَلا أَدْرِي عَلامَ أُهْجَمُ مِنْ ذُنُوبِي. وَلَمَّا احْتُضِرَ أَبُو هُرَيْرَةَ بَكَى , فَقِيلَ لَهُ: وَمَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: بُعْدُ الْمَفَازَةِ وَقِلَّةُ الزَّادِ وَعَقَبَةٌ كَئُودٌ , الْمَهْبِطُ مِنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ. وَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ فِي مَرَضِهِ: مَا تَشْتَهِي؟ قَالَ الْجَنَّةَ. قِيلَ: فَمَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: الذُّنُوبَ. وَلَمَّا احْتُضِرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قيل له: كيف تجدك؟ فقال: والله لكأن جنبي في تَخْتٍ , وَكَأَنِّي أَتَنَفَّسُ مِنْ سَمِّ الْخِيَاطِ , وَكَأَنَّ غُصْنَ شَوْكٍ يُجَرُّ بِهِ مِنْ قَدَمِي إِلَى هَامَتِي. ثُمَّ قَالَ: (لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَ مَا قَدْ بَدَا لِي ... فِي قِلالِ الْجِبَالِ أَرْعَى الْوُعُولا) لَيْتَنِي كُنْتُ حَمْضًا عَرَكَتْنِي الإِمَاءُ بِذَرِيرِ الإِذْخِرِ. وَنَظَرَ إِلَى صَنَادِيقَ فِيهَا مَالٌ فَقَالَ لِبَنِيهِ: مَنْ يَأْخُذُهَا بِمَا فِيهَا؟ يَا لَيْتَهُ كَانَ بَعْرًا! وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يقول في مرضه: وددت إني عبد لرحل مِنْ تِهَامَةَ أَرْعَى غُنَيْمَاتٍ فِي جِبَالِهَا وَأَنِّي لَمْ أَلِ مِنْ هَذَا الأَمْرِ شَيْئًا. وَلَمَّا احْتُضِرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: إِلَهِي أَمَرْتَنِي فَلَمْ أَئْتَمِرْ وَزَجَرْتَنِي فَلَمْ أَنْزَجِرْ. غَيْرَ أني أقول: لا له إِلا اللَّهُ. وَلَمَّا احْتُضِرَ الرَّشِيدُ أَمَرَ بِحَفْرِ قَبْرِهِ ثُمَّ حُمِلَ إِلَيْهِ فَاطَّلَعَ فِيهِ فَبَكَى حَتَّى رُحِمَ ثُمَّ قَالَ: يَا مَنْ لا يَزُولُ مُلْكُهُ ارْحَمْ مَنْ قَدْ زَالَ مُلْكُهُ. وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ يَقُولُ عِنْدَ مَوْتِهِ: ذَهَبَتِ الْحِيَلُ فلا حيلة.

وَبَكَى عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ لَمَّا احْتُضِرَ وَقَالَ: إِنَّمَا أَبْكِي عَلَى ظَمَإِ الْهَوَاجِرِ وَقِيَامِ لَيْلِ الشِّتَاءِ. وَبَكَى أَبُو الشَّعْثَاءِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: لَمْ أَشْتَفِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَبَكَى يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عِنْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: أَبْكِي عَلَى مَا يَفُوتُنِي مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ. ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: يَا يَزِيدُ مَنْ يُصَلِّي لَكَ وَمَنْ يَصُومُ عَنْكَ , وَمَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالأَعْمَالِ بَعْدَكَ , وَيْحَكُمْ: يَا إِخْوَانِي , لا تَغْتَرُّوا بِشَبَابِكُمْ , فَكَأَنَّ قَدْ حَلَّ بِكُمْ مِثْلُ مَا قَدْ حَلَّ بِي. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي عِلَّتِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا فَقُلْتُ لَهُ: أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مِنَ الدُّنْيَا رَاحِلا وَلإِخْوَانِي مُفَارِقًا وَبِكَأْسِ الْمَنِيَّةِ شَارِبًا , وَعَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَارِدًا , وَلا أَدْرِي نَفْسِي تَصِيرُ إِلَى الْجَنَّةِ فَأُهَنِّئُهَا أَمْ إِلَى النَّارِ فَأُعَزِّيهَا , ثُمَّ بكى وقال: (ولما قسا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ رَجَائِي نَحْوَ عَفْوِكَ سُلَّمَا) (تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا) (وَمَا زِلْتُ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ سَيِّدِي ... تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكُرُّمَا) (ولولاك لم يغوي بِإِبْلِيسَ عَابِدٌ ... فَكَيْفَ وَقَدْ أَغْوَى صَفِيَّكَ آدَمَا) وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: مَرِضَ بَعْضُ الْعُبَّادِ فَدَخَلْنَا نَعُودُهُ , فَجَعَلَ يَتَنَفَّسُ وَيَتَأَسَّفُ فَقُلْتُ لَهُ: عَلَى مَاذَا تَتَأَسَّفُ؟ قَالَ: عَلَى لَيْلَةٍ نِمْتُهَا وَيَوْمٍ أَفْطَرْتُهُ وَسَاعَةٍ غَفَلْتُ فِيهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَبَكَى بَعْضُ الْعُبَّادِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: أَنْ يَصُومَ الصَّائِمُونَ وَلَسْتُ فِيهِمْ , وَيَذْكُرَ الذَّاكِرُونَ وَلَسْتُ فِيهِمْ , وَيُصَلِّيَ الْمُصَلُّونَ وَلَسْتُ فِيهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعجلِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لِي: سَخِرَتْ بِيَ الدُّنْيَا حَتَّى ذهبت أيامي.

وَلَمَّا احْتُضِرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ تَمَثَّلَ: (قَتَلْتُ صَنَادِيدَ الرِّجَالِ فَلَمْ أَدَعْ ... عَدُوًّا وَلَمْ أُمْهِلْ عَلَى ظِنَّةٍ خَلْقَا) (وَأَخْلَيْتُ دُورَ الْمُلْكِ مِنْ كُلِّ نَازِلٍ ... فَشَرَّدْتُهُمْ غَرْبًا وَبَدَدَّتْهُمْ شَرْقَا) (فَلَمَّا بَلَغْتُ الْمَجْدَ عِزًّا وَرِفْعَةً ... وَصَارَتْ رِقَابُ الْخَلْقِ أَجْمَعُ لِي رِقَّا) (رَمَانِي الرَّدَى سَهْمًا فَأَخْمَدَ جَمْرَتِي ... فَهَا أَنَا ذَا فِي جَفْوَتِي عَاطِلا مُلْقَا) (فَأَذْهَبْتُ دُنْيَايَ وَدِينَي سَفَاهَةً ... فَمَنْ ذَا الَّذِي مِنِّي بِمَصْرَعِهِ أَشْقَى) ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: " مَا أغنى عني ماليه , هلك عني سلطانية. ". فَرَددَّهَا إِلَى أَنْ مَاتَ (رَكِبَ الأَمَانُ مِنَ الزَّمَانِ مَطِيَّةً ... لَيْسَتْ كَمَا اعْتَادَ الرَّكَائِبَ تَبْرَكُ) (وَالْمَرْءُ مِثْلُ الْخَوْفِ بَيْنَ سُهَادِهِ ... وَكِرَاهُ يَسْكُنُ تَارَةً وَيُحَرَّكُ) يَا مَشْغُولا قَلْبُهُ بِلُبْنَى وَسُعْدَى , يَا مُسْتَلِذَّ الرُّقَادِ وَهَذِي الرَّكَائِبُ تُحْدَى , يَا عَظِيمَ الْمَعَاصِي يَا مُخْطِئًا جِدًّا , يَا طَالَمَا طال ما عتا وتعدى , كم جاوز حداً وكم أَتَى ذَنْبًا عَمْدًا , يَا أَسِيرَ الْهَوَى قَدْ أَصْبَحَ لَهُ عَبْدًا , يَا نَاظِمًا خَرَزَاتِ الأَمَلِ فِي سَلْكِ الْمُنَى عِقْدًا , يَا مُعْرِضًا عَمَا قَدْ حَلَّ كَمْ حَلَّ عَقْدَا , كَمْ عَاهَدَ مرة وكم نَقَضَ عَهْدَا , مَنْ لَكَ إِذَا سُقِيتَ كَأْسًا لا تجد من شربها بدا مزجت أو صاباً وِصَابًا صَارَ الْمُصَابُ عِنْدَهَا شُهْدًا , مَنْ لَكَ إِذَا لَحِقْتَ أَبًا وَأُمًّا وَأَخًا وَعَمًّا وَجَدًّا , وَتَوَسَّدْتَ بَعْدَ اللِّينِ حَجَرًا صُلْبًا صَلْدًا , وَسَافَرْتَ سفراً يَا لَهُ مِنْ سَفَرٍ بُعْدًا , وَاحْتَوَشَكَ عَمَلُكَ هَزْلا كَانَ أَوْ جَدًّا , وَلَقِيتَ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا فَهَلْ لَقِيتَ أُسْدًا , فَبَادِرْ قَبْلَ الْمَوْتِ فَمَا تَسْتَطِيعُ لِلْفَوْتِ رَدًّا. (نَهَاكَ عَنِ الْبَطَالَةِ وَالتَّصَابِي ... نُحُولُ الْجِسْمِ وَالرَّأْسُ الْخَضِيبُ) (إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضًا ... فَبَعْضُ الشَّيْءِ مِنْ بَعْضٍ قَرِيبُ) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ , أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ , سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ كَاتِبَ اللَّيْثِ يَذْكُرُ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ , عَنِ الأَوْزَاعِيِّ , أَنَّهُ

الكلام على قوله تعالى

وَعَظَ فَقَالَ فِي مَوْعِظَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ تَقَوُّوا بِهَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَصْبَحْتُمْ فِيهَا عَلَى الْهَرَبِ مِنَ النَّارِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ , فَإِنَّكُمْ فِي دَارِ الثَّوَاءِ فِيهَا قَلِيلٌ , وَأَنْتُمْ فِيهَا مُؤَجَّلُونَ وَخَلائِفُ مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ , الَّذِينَ اسْتَقْبَلُوا مِنَ الدُّنْيَا زُخْرُفَهَا وَزَهْرَتَهَا , فَهُمْ كَانُوا أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَارًا وَأَمَدَّ أَجْسَامًا وَأَعْظَمَ آثَارًا , فحددوا الْجِبَالَ وَجَابُوا الصُّخُورَ , وَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ مُؤَيَّدِينَ بِبَطْشٍ شَدِيدٍ وَأَجْسَامٍ كَالْعِمَادِ , فَمَا لَبِثَتِ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي أَنْ طَوَتْ مُدَّتَهُمْ , وَعَفَتْ آثَارَهُمْ , وَأَخْوَتْ مَنَازِلَهُمْ , وَأَنْسَتْ ذِكْرَهُمْ , فَمَا تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ وَلا تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا. كَانُوا بِلَهْوِ الأَمَلِ آمِنِينَ كَبَيَاتِ قَوْمٍ غَافِلِينَ أَوْ كَصَبَاحِ قَوْمٍ نَادِمِينَ , ثُمَّ إِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِي قَدْ نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ بَيَاتًا فَأَصْبَحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ , وَأَصْبَحَ الْبَاقُونَ يَنْظُرُونَ فِي آثَارِ نِقْمَةٍ وَزَوَالِ نِعْمَةٍ وَمَسَاكِنَ خَاوِيَةٍ , فِيهَا آيَةٌ لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَخْشَى , وَأَصْبَحْتُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ فِي أَجَلٍ مَنْقُوصٍ وَدُنْيَا مَقْبُوضَةٍ , فِي زَمَانٍ قَدْ وَلَّى عَفْوُهُ وَذَهَبَ رَجَاؤُهُ , فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلا جُمَّةُ شَرٍّ وَصَبَابَةُ كَدَرٍ وَأَهَاوِيلُ عِبَرٍ [وَعُقُوبَاتُ غُبَرٍ] وَأَرْسَالُ فِتَنٍ وَرَذَالَةُ خَلَفٍ , بِهِمْ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ , فَلا تَكُونُوا أَشْبَاهًا لِمَنْ خَدَعَهُ الأَمَلُ وَغَرَّهُ طُولُ الأَجَلِ , نَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ وَعَى نَذَرَهُ وعقل سراه فمهد لِنَفْسِهِ. (تَزَوَّجَ دُنْيَاهُ الْغَبِيُّ بِجَهْلِهِ ... فَقَدْ نَشَزَتْ مِنْ بَعْدِ مَا قُبِضَ الْمَهْرُ) (تَطَهَّرْ بِبُعْدٍ مِنْ أَذَاهَا وَكَيْدِهَا ... فَتِلْكَ بَغِيٌّ لا يَصِحُّ لَهَا طُهْرُ) (وَنَحْنُ كَرَكْبِ الْمَوْجِ مَا بَيْنَ بَعْضِهِمْ ... وَبَيْنَ الرَّدَى إِلا الذِّرَاعُ أَوِ الشِّبْرُ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وما عند الله باق} يَا كَثِيرَ الْخِلافِ , يَا عَظِيمَ الشِّقَاقِ , يَا سيىء الآدَابِ , يَا قَبِيحَ الأَخْلاقِ , يَا

قَلِيلَ الصَّبْرِ يَا عَدِيمَ الْوِفَاقِ , يَا مَنْ سيبكي كثيراً إِذَا انْتَبَهَ وَفَاقَ , وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. أَيْنَ مَنْ أَنِسَ بِالدُّنْيَا وَنَسِيَ الزَّوَالَ , أَيْنَ مَنْ عَمَّرَ الْقُصُورَ وَجَمَعَ الْمَالَ , تَقَلَّبَتْ بِالْقَوْمِ أَحْوَالُ الأَهْوَالِ , كَمْ أَرَاكَ عِبْرَةً وَقَدْ قَالَ {سَنُرِيهِمْ آياتنا في الآفاق} . أَيْنَ صَدِيقُكَ الْمُؤَانِسُ , أَيْنَ رَفِيقُكَ الْمُجَالِسُ , أَيْنَ الْمَاشِي فَقِيرًا وَأَيْنَ الْفَارِسُ , امْتَدَّتْ إِلَى الْكُلِّ كَفُّ الْمَخَالِسِ , فَنَزَلُوا تَحْتَ الأَطْبَاقِ. وَكَأَنْ قَدْ رحلت كما رحلوا , ونزلت وشيكاً حيث نَزَلُوا , وَحُمِلْتَ إِلَى الْقَبْرِ كَمَا حُمِلُوا , إِلَى ربك يومئذ المساق. مَنْ لَكَ إِذَا أَلَمَّ الأَلَمُ , وَسَكَتَ الصَّوْتُ وَتَمَكَّنَ النَّدَمُ , وَوَقَعَ بِكَ الْفَوْتُ , وَأَقْبَلَ لأَخْذِ الرُّوحِ مَلَكُ الْمَوْتِ , وَجَاءَتْ جُنُودُهُ وَقِيلَ مَنْ راق. وَنَزَلْتَ مَنْزِلا لَيْسَ بِمَسْكُونٍ , وَتَعَوَّضْتَ بَعْدَ الْحَرَكَاتِ السُّكُونَ , فَيَا أَسَفَا لَكَ كَيْفَ تَكُونُ , وَأَهْوَالُ القبر لا تطاق , وفرق مالك وسكنت الدار , وَدَارُ الْبَلاءِ فَمَا دَارٌ إِذْ دَارَ , وَشَغَلَكَ الْوِزْرُ عَمَّنْ هَجَرَ وَزَارَ , وَلَمْ يَنْفَعْكَ نَدَمُ الرِّفَاقِ. أَمَا أَكْثَرُ عُمْرِكَ قَدْ مَضَى , أَمَا أَعْظَمُ زَمَانِكَ قَدِ انْقَضَى , أَفِي أَفْعَالِكَ مَا يَصْلُحُ لِلرِّضَا , إِذَا الْتَقَيْنَا يَوْمَ التَّلاقِ , يَا سَاعِيًا فِي هَوَاهِ تَصَوَّرْ رَمْسَكَ , يَا مُوسِعًا إِلَى خُطَاهُ تَذَكَّرْ حَبْسَكَ , يَا مَأْسُورًا فِي سِجْنِ الشَّهَوَاتِ خَلِّصْ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ تَعِزَّ السلامة وتعتاق الأَعْنَاقُ , وَيُنْصَبَ الصِّرَاطُ وَيُوضَعَ الْمِيزَانُ , وَيُنْشَرَ الْكِتَابُ يَحْوِي مَا قَدْ كَانَ , وَيَشْهَدَ الْجِلْدُ وَالْمِلْكُ وَالْمَكَانُ , وَالنَّارُ الْحَبْسُ وَالْحَاكِمُ الْخَلاقُ , فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْمَوْلُودُ , وَتَخْرَسُ الأَلْسُنُ وَتَنْطِقُ الْجُلُودُ , وَتَظْهَرُ الْوُجُوهُ بَيْنَ بِيضٍ وَسُودٍ , يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ. فَبَادِرْ قَبْلَ أَنْ لا يُمْكِنَ , وَحَاذِرْ قَبْلَ أَنْ يَفُوتَ الْمُمْكِنُ , وَأَحْسِنْ قَبْلَ أَنْ لا تُحْسِنَ , فَالْيَوْمُ الْبُرْهَانُ وَغَدًا السِّبَاقُ. فَانْتَهِبْ عُمْرًا يَفْنَى بِالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ , وَعَامِلْ مَوْلَى يُجْزِلُ الْعَطَايَا والأرباح , ولا تبخل فقد حدث عَلَى السَّمَاحِ {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله باق} .

المجلس الخامس عشر في قصة سيدنا موسى عليه السلام

المجلس الخامس عشر فِي قِصَّةِ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لا نِدٌّ لَهُ فَيُبَارَى , ولا ضِدٌّ لَهُ فَيُجَارَى , وَلا شَرِيكٌ لَهُ فَيُدَارَى , وَلا مُعْتَرِضَ لَهُ فَيُمَارَى , بَسَطَ الأَرْضَ قَرَارًا وَأَجْرَى فِيهَا أَنْهَارًا , وَأَخْرَجَ زَرْعًا وَثِمَارًا , وَأَنْشَأَ لَيْلا وَنَهَارًا , خَلَقَ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ دَارًا , فَغَفَلَ عَنِ النَّهْيِ وَمَا دَارَى , أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ يَمِينًا فَأَخَذَ يَسَارًا , وَأُهْبِطَ فَقِيرًا قَدْ عَدِمَ يَسَارًا غَيْرَ أَنَّهُ جَبَرَ مِنْهُ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ انْكِسَارًا , وَأَقَامَهُ خَلِيفَةً وَيَكْفِيهِ افْتِخَارًا , ثُمَّ ابْتَعَثَ الأَنْبِيَاءَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَنَصَبَ لَهُمْ مِنْ أَدِلَّتِهِ مَنَارًا , وَجَعَلَ إِدْرِيسَ وَنُوحًا وَالْخَلِيلَ رُءُوسًا {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا} . أَحْمَدُهُ سِرًّا وَجِهَارًا , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي أَصْبَحَ وَادِي النُّبُوَّةِ بِرِسَالَتِهِ مِعْطَارًا , وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الْمُنْفِقِ سِرًّا وَجِهَارًا , وَعَلَى عُمَرَ الْفَارُوقِ الَّذِي لاثَ عَنْ وَجْهِهِ الإِسْلامُ خمارا , وعلى عثمان الذي صرف على جَيْشِ الْعُسْرَةِ بِإِنْفَاقِهِ إِعْسَارًا , وعَلَى عَلِيٍّ أَخِيهِ وَابْنِ عَمِّهِ الَّذِي لا يَتَمَارَى , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَبِي الْخُلَفَاءِ وَيَكْفِيهِمُ افْتِخَارًا. قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وهل أتاك حديث موسى} هَلْ بِمَعْنَى قَدْ. كَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ. وَمُوسَى: هو ابن عمران بن قاهث ابن لاوِي بْنِ يَعْقُوبَ , وَاسْمُ أُمِّهِ يوخابِذُ. وَبَيْنَ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ أَلْفُ سَنَةٍ , وَكَانَتِ الْكَهَنَةُ قَدْ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ: يُولَدُ مَوْلُودٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَكُونُ هَلاكُكَ عَلَى يَدِهِ فَأَمَرَ بِذَبْحِ أَبْنَائِهِمْ ثُمَّ شَكَتِ الْقِبْطُ إِلَى

فِرْعَوْنَ فَقَالُوا إِنْ دُمْتَ عَلَى الذَّبْحِ لَمْ يَبْقَ لَنَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ يَخْدِمُنَا. فَصَارَ يَذْبَحُ سَنَةً وَيَتْرُكُ سَنَةً. فَذَبَحَ سَبْعِينَ أَلْفَ مَوْلُودٍ. وَوُلِدَ هَارُونُ فِي السَّنَةِ الَّتِي لا يُذْبَحُ فِيهَا , وَوُلِدَ مُوسَى فِي السَّنَةِ الَّتِي يُذْبَحُ فِيهَا. فَوَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَكَتَمَتْ أَمْرَهُ فَدَخَلَ الطَّلَبُ إِلَى بَيْتِهَا فَرَمَتْهُ فِي التَّنُّورِ , فَسَلِمَ , فَخَافَتْ عَلَيْهِ فَصَنَعَتْ لَهُ تَابُوتًا وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ , فَحَمَلَهُ الْمَاءُ إِلَى أَنْ أَلْقَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ , فَلَمَّا فَتَحَ التَّابُوتَ نَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: عَبْرَانِيٌّ مِنَ الأَعْدَاءِ كَيْفَ أَخْطَأَهُ الذَّبْحُ! فَقَالَتْ آسِيَةُ: دَعْهُ يَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لِي وَلَكَ , وَكَانَ لا يُولَدُ لِفِرْعَوْنَ إِلا الْبَنَاتُ. فتركه. ولما رمته أمه أدركها الجزع فقالت لأخته مريم: قصيه. فَدَخَلَتْ دَارَ فِرْعَوْنَ , وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْمُرْضِعَاتُ , فَلَمْ يَقْبَلْ ثَدْيًا , فَقَالَتْ: " {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أهل بيت يكفلونه لكم} " فَجَاءُوا بِأُمِّهِ فَشَرِبَ مِنْهَا , فَلَمَّا تَمَّ رَضَاعُهُ رَدَّتْهُ إِلَى فِرْعَوْنَ فَأَخَذَهُ يَوْمًا فِي حِجْرِهِ فَمَدَّ يَدَهُ لِلِحْيَتِهِ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالذَّبَّاحِ فَقَالَتْ آسِيَةُ: إِنَّمَا هُوَ صَبِيٌّ لا يَعْقِلُ. وَأَخْرَجَتْ له ياقوتاً وَجَمْرًا فَأَخَذَ جَمْرَةً فَطَرَحَهَا فِي فِيهِ فَأَحْرَقَتْ لِسَانَهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ". فَلَمَّا كَبِرَ كَانَ يَرْكَبُ مَرَاكِبَ فِرْعَوْنَ وَيَلْبَسُ مَلابِسَ فِرْعَوْنَ , فَلَمَّا جَرَى الْقَدَرُ بِقَتْلِ الْقِبْطِيِّ وَعَلِمُوا أَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ خَرَجَ عَنْهُمْ فَهَدَاهُ اللَّهُ إِلَى مَدْيَنَ , فَسَقَى لِبِنْتَيْ شُعَيْبٍ وَاسْمُهُمَا صفورَا وَلِيَا , فَاسْتَدْعَاهُ شُعَيْبٌ وَزَوَّجَهُ صفورَا , ثُمَّ خرج بزوجتته يَقْصِدُ أَرْضَ مِصْرَ فَوَلَدَتْ لَهُ فِي الطَّرِيقِ فقال لأهله: " {امكثوا} " أي أقيموا " {إني آنست نارا} ً " أَيْ أَبْصَرْتُ. وَإِنَّمَا رَأَى نُورًا , وَلَكِنْ وَقَعَ الإِخْبَارُ بِمَا كَانَ فِي ظَنِّهِ. وَالْقَبَسُ: مَا أَخَذْتَهُ مِنَ النَّارِ فِي رَأْسِ عُودٍ أَوْ فتيلة {أو أجد على النار هدى} وَكَانَ قَدْ ضَلَّ الطَّرِيقَ فَعَلِمَ أَنَّ النَّارَ لا تَخْلُو مِنْ وَاقِدٍ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ , أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ , أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُغَفَّلٍ , عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ , قَالَ:

لَمَّا رَأَى مُوسَى النَّارَ انْطَلَقَ يَسِيرُ حَتَّى وَقَفَ مِنْهَا قَرِيبًا فَإِذَا هُوَ بِنَارٍ عَظِيمَةٍ تَفُورُ مِنْ فُرُوعِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ شَدِيدَةِ الْخُضْرَةِ لا تَزْدَادُ النَّارُ فِيمَا يَرَى إِلا عَظْمًا وَتَضَرُّمًا , وَلا تَزْدَادُ الشَّجَرَةُ عَلَى شِدَّةِ الْحَرِيقِ إِلا خُضْرَةً وَحُسْنًا , فَوَقَفَ يَنْظُرُ لا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ أَمْرَهَا , إِلا أَنَّهُ قَدْ ظَنَّ أَنَّهَا شَجَرَةٌ تُحْرَقُ أَوْقَدَ إِلَيْهَا مُوقِدٌ فَنَالَهَا فَاحْتَرَقَتْ , وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَمْنَعُ النَّارَ شِدَّةُ خُضْرَتِهَا وَكَثْرَةُ مَا بِهَا , فَوَقَفَ وَهُوَ يَطْمَعُ أَنْ يَسْقُطَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَقْتَبِسُهُ , فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَهْوَى إِلَيْهَا بِضِغْثٍ فِي يَدِهِ لِيَقْتَبِسَ فَمَالَتْ نَحْوَهُ كَأَنَّهَا تُرِيدُهُ , فَاسْتَأْخَرَ ثُمَّ عَادَ , فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ بِأَوْشَكَ مِنْ خُمُودِهَا فَتَعَجَّبَ وَقَالَ إِنَّ لِهَذِهِ النَّارِ لَشَأْنًا , فَوَقَفَ مُتَحَيِّرًا فَإِذَا بِخُضْرَتِهَا قَدْ صَارَتْ نُورًا عَمُودًا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ , فَاشْتَدَّ خَوْفُهُ وَكَادَ يُخَالِطُ فِي عَقْلِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ , فنودي من الشجرة: " يا موسى " فَأَجَابَ سَرِيعًا وَمَا يَدْرِي مَنْ دَعَاهُ فَقَالَ: لَبَّيْكَ مَنْ أَنْتَ , أَسْمَعُ صَوْتَكَ وَلا أَرَى مَكَانَكَ , فَأَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فَوْقَكَ وَمَعَكَ وَأَمَامَكَ وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْكَ. فَلَمَّا سَمِعَ هَذَا مُوسَى عَلِمَ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي ذَلِكَ إِلا لِرَبِّهِ تَعَالَى فَآمَنَ بِهِ فَقَالَ: كَذَلِكَ أَنْتَ يَا إِلَهِي , فَكَلامَكَ أَسْمَعُ أَمْ كَلامَ رَسُولِكَ فَقَالَ: بَلْ أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكَ فَادْنُ مِنِّي. فَجَمَعَ مُوسَى يَدَيْهِ فِي الْعَصَا ثُمَّ تَحَامَلَ حَتَّى اسْتَقَلَّ قَائِمًا فَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ حَتَّى اخْتَلَفَتْ وَاضْطَرَبَتْ رِجْلاهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ عَظْمٌ يَحْمِلُ الآخَرَ , وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ إِلا أَنَّ رُوحَ الْحَيَاةِ تَجْرِي فِيهِ , ثُمَّ زَحَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَرْعُوبٌ حَتَّى وَقَفَ قَرِيبًا مِنَ الشَّجَرَةِ فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا موسى قال هي عصاي} قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} وَكَانَتْ لَهَا شُعْبَتَانِ وَمِحْجَنٌ تَحْتَ الشُّعْبَتَيْنِ {قَالَ ألقها يا موسى} فَظَنَّ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُ ارْفُضْهَا فَأَلْقَاهَا عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ , ثُمَّ حَانَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ فَإِذَا بِأَعْظَمِ ثُعْبَانٍ نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاظِرُ يَدُبُّ يَلْتَمِسُ كَأَنَّهُ يَبْتَغِي شَيْئًا يُرِيدُ أَخْذَهُ , يَمُرُّ بِالصَّخْرَةِ مِثْلَ الْخَلِفَةِ مِنَ الإِبِلِ فَيَقْتَلِعُهَا , وَيَطْعَنُ بِالنَّابِ من أنيابه في أَصْلِ الشَّجَرَةِ الْعَظِيمَةِ فَيَجْذِبُهَا , وَعَيْنَاهُ تُوقَدَانِ نَارًا وَقَدْ عَادَ الْمِحْجَنُ عُرْفًا فِيهِ

شَعَرٌ مِثْلَ النَّيَازِكِ , وَعَادَتِ الشُّعْبَتَانِ فَمَا مِثْلُ الْقَلِيبِ الْوَاسِعِ فِيهِ أَضْرَاسٌ وَأَنْيَابٌ لَهَا صَرِيفٌ , فَلَمَّا عَايَنَ مُوسَى ذَلِكَ وَلَّى مُدْبِرًا , فَذَهَبَ حَتَّى أَمْعَنَ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَعْجَزَ الْحَيَّةَ , ثُمَّ ذَكَرَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَوَقَفَ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ. ثُمَّ نُودِيَ: يَا مُوسَى إِلَيَّ فَارْجِعْ حَيْثُ كُنْتَ. فَرَجَعَ وَهُوَ شَديِدُ الْخَوْفِ فَقَالَ: {خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} وَعَلَى مُوسَى حِينَئِذٍ مِدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ قَدْ خَلَّلَهَا بِخِلالٍ مِنْ عِيدَانٍ , فَلَمَّا أَمَرَهُ بِأَخْذِهَا ثَنَى طَرَفَ الْمِدْرَعَةِ عَلَى يَدِهِ فَقَالَ لَهُ مَلَكٌ: أَرَأَيْتَ يَا مُوسَى لَوْ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَا تُحَاذِرُ أَكَانَتِ الْمِدْرَعَةُ تُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا؟ قَالَ: لا وَلَكِنِّي ضَعِيفٌ وَمِنْ ضَعْفٍ خُلِقْتُ. فَكَشَفَ عَنْ يَدِهِ ثُمَّ وَضَعَهَا فِي الْحَيَّةِ حَتَّى سَمِعَ حِسَّ الأَضْرَاسِ وَالأَنْيَابِ , ثُمَّ قَبَضَ فَإِذَا هِيَ عَصَاهُ الَّتِي عَهِدَهَا وَإِذَا يَدَاهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يَضَعُهَا فِيهِ إِذَا تَوَكَّأَ بَيْنَ الشُّعْبَتَيْنِ , فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ادْنُ فَلَمْ يَزَلْ يُدْنِيهِ حَتَّى أَسْنَدَ ظَهْرَهُ بِجِذْعِ الشَّجَرَةِ , فَاسْتَقَرَّ وَذَهَبَتْ عَنْهُ الرِّعْدَةُ , ثُمَّ جَمَعَ يَدَيْهِ فِي الْعَصَا وَخَشَعَ بِرَأْسِهِ وَعُنُقِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ أَقَمْتُكَ الْيَوْمَ مَقَامًا لا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ بَعْدَكَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَكَ , أَدْنَيْتُكَ وَقَرَّبْتُكَ حَتَّى سَمِعْتَ كَلامِي وَكُنْتَ بِأَقْرَبِ الأَمْكِنَةِ مِنِّي , فَانْطَلِقْ بِرِسَالَتِي , فَإِنَّكَ بِعَيْنِي وَسَمْعِي وَإِنَّ مَعَكَ يَدِي وَبَصَرِي , فَأَنْتَ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنْدِي بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ ضَعِيفٍ مِنْ خَلْقِي , بَطِرَ نِعْمَتِي وَأَمِنَ مَكْرِي وَغَرَّتْهُ الدُّنْيَا عَنِّي حَتَّى جَحَدَ حَقِّي وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتِي وَعَبَدَ دُونِي وَزَعَمَ أَنَّهُ لا يَعْرِفُنِي , وَإِنِّي أُقْسِمُ بِعِزَّتِي لَوْلا الْعُذْرُ وَالْحُجَّةُ اللَّذَانِ وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي لَبَطَشْتُ بِهِ بَطْشَةَ جَبَّارٍ يَغْضَبُ لِغَضَبِهِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْبِحَارُ , فَإِنْ أَمَرْتُ السَّمَاءَ حَصَبَتْهُ وَإِنْ أَمَرْتُ الأَرْضَ ابْتَلَعَتْهُ , وَإِنْ أَمَرْتُ الْجِبَالَ دَمَّرَتْهُ وَإِنْ أَمَرْتُ الْبِحَارَ غَرَّقَتْهُ , وَلَكِنْ هَانَ عَلَيَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِي وَوَسِعَهُ حِلْمِي وَاسْتَغْنَيْتُ بِمَا عِنْدِي , وَحَقٌّ لِي , أَنِّي أَنَا اللَّهُ الْغَنِيُّ لا غَنِيَّ غَيْرِي , فَبَلِّغْهُ رِسَالاتِي وَادْعُهُ إِلَى عِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي وَالإِخْلاصِ بِاسْمِي , وَذَكِّرْهُ بِأَيَّامِي وَحَذِّرْهُ نِقْمَتِي وَبَأْسِي , وَأَخْبِرْهُ أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ وَالْمَغْفِرَةُ أَسْرَعُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ , وَلا يُرِعْكَ مَا

ألبسه من لباس الدنياا فَإِنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي , لَيْسَ يَطْرِفُ وَلا يَنْطِقُ وَلا يَتَكَلَّمُ وَلا يَتَنَفَّسُ إِلا بِإِذْنِي , قُلْ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ وَاسِعُ المغفرة , وإنه قد أمهلك أربعمائة سَنَةٍ وَفِي كُلِّهَا أَنْتَ مُبَارِزٌ بِمُحَارَبَتِهِ تُشَبِّهُ وَتُمَثِّلُ بِهِ , وَتَصَدُّ عِبَادَهُ عَنْ سَبِيلِهِ , وَهُوَ يُمْطِرُ عَلَيْكَ السَّمَاءَ وَيُنْبِتُ لَكَ الأَرْضَ , لَمْ تَسْقَمْ وَلَمْ تَهْرَمْ وَلَمْ تَفْتَقِرْ وَلَمْ تُغْلَبْ , وَلْو شَاءَ أَنْ يُعَجِّلَ ذَلِكَ لَكَ أَوْ يَسْلُبَكَهُ فَعَلَ , وَلَكِنَّهُ ذُو أَنَاةٍ وَحِلْمٍ. وَجَاهِدْهُ بِنَفْسِكَ وَأَخِيكَ وَأَنْتُمَا مُحْتَسِبَانِ بِجِهَادِهِ , فَإِنِّي لَوْ شِئْتُ أَنْ آتِيَهُ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُ بِهَا لَفَعَلْتُ , وَلَكِنْ لِيَعْلَمْ هَذَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ الَّذِي قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ وَجُمُوعُهُ أَنَّ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ وَلا قَلِيلَ مِنِّي , تَغْلِبُ الْفِئَةَ الْكَثِيرَةَ بِإِذْنِي , وَلا تُعْجِبْكُمَا زِينَتَهُ وَمَا مُتِّعَ بِهِ وَلا تَمُدَّانِ إِلَى ذَلِكَ أَعْيُنَكُمَا , فَإِنَّهَا زَهْرَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَةُ الْمُتْرَفِينَ , فَإِنِّي لَوْ شِئْتُ أَنْ أُزَيِّنَكُمَا مِنَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ يَعْلَمُ فِرْعَوْنُ حِينَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا أَنَّ مَقْدِرَتَهُ تَعْجِزُ عَنْ مثل ما آتيتكما فَعَلْتُ , وَلَكِنْ أَرْغَبُ بِكُمَا عَنْ ذَلِكَ وَأَزْوِيهِ عَنْكُمَا وَكَذَلِكَ أَفْعَلُ بِأَوْلِيَائِي , وَقَدِيمًا مَا خِرْتُ لهم في ذلك فإني أذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الرَّاعِي الشَّفِيقُ إِبِلَهُ عَنْ مَرَاتِعِ الْهَلَكَةِ , وَإِنِّي لأُجَنِّبُهُمْ سُكُونَهَا وَعَيْشَهَا كَمَا يُجَنِّبُ الرَّاعِي الشَّفِيقُ إِبِلَهُ عَنْ مَبَارَكِ العُرّة , وَمَا ذَلِكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ لِيَسْتَكْمِلُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ كَرَامَتِي مُوفَرًا لَمْ تَكْلِمْهُ الدُّنْيَا وَلَمْ يُطْفِهِ الْهَوَى , وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَتَزَيَّنِ الْعِبَادُ بِزِينَةٍ أَبْلَغَ مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا , وَإِنَّهَا زِينَةُ الْمُتَّقِينَ , عَلَيْهِمْ مِنْهَا لِبَاسٌ يُعْرَفُونَ بِهِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْخُشُوعِ , سيماهم في وجوههم من أثر السجود , أُولَئِكَ أَوْلِيَائِي حَقًّا , فَإِذَا لَقِيتَهُمْ فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَذَلِّلْ لَهُمْ قَلْبَكَ وَلِسَانَكَ , وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا أَوْ أَخَافَهُ فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَبَادَأَنِي وَعَرَّضَ نَفْسَهُ وَدَعَانِي إِلَيْهَا , وَأَنَا أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي , أَفَيَظُنُّ الَّذِي يُحَارِبُنِي أَنْ يَقُومَ بِي؟ أَوْ يَظُنُّ الَّذِي يُعَادِينِي أَنْ يُعْجِزَنِي؟ أَمْ يَظُنُّ الَّذِي يُبَارِزُنِي أَنْ يَسْبِقَنِي أَوْ يَفُوتَنِي؟ فَكَيْفَ وَأَنَا الثَّائِرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لا أكِلُ نُصْرَتَهُمْ إِلَى غَيْرِي. قَالَ: فَأَقْبَلَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ فِي مَدِينَةٍ قَدْ جُعِلَ حَوْلَهَا الأُسْدُ في عيضه قَدْ غَرَسَهَا وَالأُسْدُ فِيهَا مَعَ سَاسَتِهَا إِذَا أَسَّدَتْهَا عَلَى أَحَدٍ أُكِل , وَلِلْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ

أَبْوَابٍ فِي الْغَيْضَةِ , فَأَقْبَلَ مُوسَى مِنَ الطَّرِيقِ الأَعْظَمِ الَّذِي يَرَاهُ فِرْعَوْنُ , فَلَمَّا رَأَتْهُ الأُسْدُ صَاحَتْ صِيَاحَ الثَّعَالِبِ , فَأَنْكَرَ ذَلِكَ السَّاسَةُ وَفَرَقُوا مِنْ فِرْعَوْنَ , فَأَقْبَلَ مُوسَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَابِ فَقَرَعَهُ بِعَصَاهُ وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وَسَرَاوِيلُ , فَلَمَّا رَآهُ الْبَوَّابُ عَجِبَ مِنْ جُرْأَتِهِ , فَتَرَكَهُ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَقَالَ: هَلْ تَدْرِي بَابَ مَنْ أَنْتَ تَضْرِبُ! إِنَّمَا تَضْرِبُ بَابَ سَيِّدِكَ! فَقَالَ: أَنَا وَأَنْتَ وَفِرْعَوْنُ عَبِيدُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَا نَاصِرُهُ. فَأَخْبَرَ الْبَوَّابُ الَّذِي يَلِيهِ حَتَّى بَلَغَ ذَلِكَ أَدْنَاهُمْ , وَدُونَهُمْ سَبْعُونَ حَاجِبًا كُلُّ حَاجِبٍ مِنْهُمْ تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الْجُنُودِ مَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَأَعْظَمِ أَمِيرٍ الْيَوْمَ إِمَارَةً , حَتَّى خَلَصَ الْخَبَرُ إِلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ أَدْخِلُوهُ عَلَيَّ , فَأُدْخِلَ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: أَعْرِفُكَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وليدا. فَرَدَّدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ , فَقَالَ: خُذُوهُ. فَبَادَرَهُمْ مُوسَى فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ , فَحَمَلَتْ عَلَى النَّاسِ فَانْهَزَمُوا فَمَاتَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا , قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَقَامَ فِرْعَوْنُ مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ وَقَالَ لِمُوسَى: اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَجَلا نَنْظُرُ فِيهِ. فَقَالَ مُوسَى: لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا أُمِرْتُ بِمُنَاجَزَتِكَ , فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَخْرُجْ إِلَيَّ دَخَلْتُ عَلَيْكَ. فَأَوْحَى الله تعالى إلى موسى: أن اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَجَلا , وَقُلْ لَهُ يَجْعَلُهُ هُوَ. فَقَالَ فِرْعَوْنُ: اجْعَلْهُ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَفَعَلَ. وَكَانَ فِرْعَوْنُ لا يَأْتِي الْخَلاءَ إِلا فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَرَّةً , فَاخْتَلَفَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَرْبَعِينَ مَرَّةً. قَالَ: وَخَرَجَ مُوسَى فَلَمَّا مَرَّ بِالأُسْدِ مَضَغَتْ بِأَذْنَابِهَا وَسَارَتْ مَعَ مُوسَى تُشَيِّعُهُ وَلا تُهِيجُهُ. قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ " {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا} " فَأَلْقَى الْعَصَا ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ وَهِيَ بَيْضَاءُ لَهَا نُورٌ كَالشَّمْسِ , فَبَعَثَ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ السَّحَرَةَ وَكَانُوا سَبْعِينَ أَلْفًا , وَكَانَ رُءُوسُهُمْ سَابُورَ وَعَازُورَ وَحطحطُ ومصفى , وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا , فَجَمَعُوا حِبَالَهُمْ وعصيهم وتواعدوا يوم الزينة وكان عيداً لهم فألقوا

يَوْمَئِذٍ مَا مَعَهُمْ , فَإِذَا حَيَّاتٌ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ قَدْ مَلأَتِ الْوَادِي فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَتَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا , فَسَجَدَتِ السَّحَرَةُ فَقَتَلَهُمْ فِرْعَوْنُ. ثُمَّ جَاءَ الطُّوفَانُ وَهُوَ مَطَرٌ أَغْرَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَهُمْ , ثُمَّ الْجَرَادُ فَأَكَلَ زَرْعَهُمْ , وَالْقُمَّلُ وَهُوَ الدَّبَا , وَالضَّفَادِعُ فَمَلأَتِ الْبُيُوتَ وَالأَوَانِيَ , وَالدَّمُ فَكَانَ الإِسْرَائِيلِيُّ يَسْتَقِي مَاءً وَيَسْتَقِي الْقِبْطِيُّ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ دَمًا , فَمَكَثَ مُوسَى يُرِيهِمْ هَذِهِ الآيَاتِ عِشْرِينَ سَنَةً. ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يخرج ببني إسرائيل , فخرج ومعه ستمائة أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا , وَدَعَا عَلَيْهِمْ حِينَ خَرَجَ فقال: {ربنا اطمس على أموالهم} فَجُعِلَتْ دَرَاهِمُهُمْ وَدَنَانِيرُهُمْ حِجَارَةً حَتَّى الْحِمَّصُ وَالْعَدَسُ , وَأُلْقِيَ الْمَوْتُ عَلَيْهِمْ لَيْلَةَ خُرُوجِ مُوسَى , فَشُغِلُوا بِدَفْنِ مَوْتَاهُمْ , ثُمَّ تَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ هامان في ألف ألف وسبعمائة أَلْفِ حِصَانٍ {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ موسى إنا لمدركون} هَذَا الْبَحْرُ بَيْنَ أَيْدِينَا وَهَذَا فِرْعَوْنُ مِنْ خلفنا {قال} موسى {كلا إن معي ربي سيهدين} فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا , عَلَى عَدَدِ الأَسْبَاطِ. فَسَارَ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ عَلَى طَرِيقِ يُبْسٍ وَالْمَاءُ قَائِمٌ بَيْنَ كُلِّ فِرْقَتَيْنِ , فَلَمَّا دَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَقْبَلَ فِرْعَوْنُ عَلَى حِصَانٍ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَفِيرِ الْبَحْرِ , فَهَابَ الْحِصَانُ أَنْ يَتَقَدَّمَ فَعَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى فرس أنثى [فَدَخَلَ] فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَجِبْرِيلُ أَمَامَهُمْ وَمِيكَائِيلُ عَلَى فَرَسٍ خَلْفَ الْقَوْمِ يَسْتَحِثُّهُمْ , فَلَمَّا أَرَادَ أَوَّلُهُمْ أَنْ يَصْعَدَ وَتَكَامَلَ نُزُولُ آخِرِهِمُ انْطَبَقَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ , فَنَادَى فِرْعَوْنُ: آمَنْتُ. قَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَمْأَةِ الْبَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِي فِرْعَوْنَ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ! ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , فَوَعَدَهُ اللَّهُ ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتَمَّهَا بِعَشْرٍ , فَعَبَدُوا الْعِجْلَ فِي غَيْبَتِهِ , فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ وما

الكلام على البسملة

فِيهَا مِنَ التَّثْقِيلِ أَبَوْهَا فَنَتَقَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ , فَلَمَّا سَكَنُوا خَرَجَ يَعْتَذِرُ عَنْ مَنْ عَبْدَ الْعِجْلَ فَأُمِرُوا بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ , فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ ظُلْمَةً فَاقْتَتَلُوا فِيهَا فَانْكَشَفَتْ عَنْ سَبْعِينَ أَلْفَ قَتِيلٍ , فَجُعِلَ الْقَتْلُ لِلْمَقْتُولِ شَهَادَةً وَلِلْحَيِّ تَوْبَةً , وَلَمْ يَزَلْ يَلْقَى مِنْ أَصْحَابِهِ الشَّدَائِدَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِأَرْضِ التِّيهِ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (يَا نَفْسُ أَنَّى تُؤْفَكِينَا ... حَتَّى مَتَى لا تَرْعَوِينَا) (حَتَّى مَتَى لا تَعْقِلِينَ ... وَتَسْمَعِينَ وَتُبْصِرِينَا) (يَا نَفْسُ إِنْ لَمْ تَصْلُحِي ... فَتَشَبَّهِي بِالصَّالِحِينَا) (وَتَفَكَّرِي فِيمَا أَقُولُ ... لَعَلَّ رُشْدَكِ أَنْ يَحِينَا) (فَلْيَأْتِيَنَّ عَلَيْكِ مَا ... أفنى القرون الأولينا) (أين الأُولى جَمَعُوا وَكَانُوا ... لِلْحَوَادِثِ آمِنِينَا) (أَفْنَاهُمُ الْمَوْتُ الْمُطِلُّ ... عَلَى الْخَلائِقِ أَجْمَعِينَا) (فَإِذَا مَسَاكِنُهُمْ وَمَا ... جَمَعُوا لِقَوْمٍ آخَرِينَا) يَا مَنْ يُؤْمَرُ بِمَا يُصْلِحُهُ فَلا يَقْبَلُ , أَمَا الشَّيْبُ نَذِيرٌ بِالْمَوْتِ قَدْ أَقْبَلَ , أَمَا أَنْتَ الَّذِي عَنْ أَفْعَالِهِ تُسْأَلُ , أَمَا أَنْتَ تَخْلُو فِي اللَّحْدِ بِمَا تَعْمَلُ , سَتَعْلَمُ يَوْمَ الْحِسَابِ عِنْدَ الْعِتَابِ مَنْ يَخْجَلُ , يَا مُبَادِرًا بِالْخَطَايَا تَوَقَّفْ لا تَعْجَلْ , يَا مُفْسِدًا مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ لا تَفْعَلْ. [ (تَرَى الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَصْبُو ... وَمَا يَخْلُو مِنَ الشَّهَوَاتِ قلب) ] (فضول العيش أكثرها هموم ... وَأَكْثَرُ مَا يَضُرُّكَ مَا تُحِبُّ) (فَلا يَغْرُرْكَ زُخْرَفَ مَا تَرَاهُ ... وَعَيْشٌ لَيِّنُ الأَطْرَافِ رَطْبُ) (إِذَا مَا بُلْغَةٌ جَاءَتْكَ عَفْوًا ... فَخُذْهَا فَالْغِنَى مَرْعًى وَشُرْبُ) (إِذَا اتَّفَقَ الْقَلِيلُ وَفِيهِ سَلْمٌ ... فَلا تَرِدِ الْكَثِيرَ وَفِيهِ حَرْبُ) إِخْوَانِي: أَيَّامُكُمْ قَلائِلُ , وَآثَامُكُمْ غَوَائِلُ , وَمَوَاعِظُكُمْ قَوَائِلُ , وَأَهْوَاؤُكُمْ قَوَاتِلُ , فَلْيَعْتَبِرِ الأَوَاخِرُ بِالأَوَائِلِ. يَا مَنْ يُوقِنُ أَنَّهُ لا شَكَّ رَاحِلٌ , وَمَا لَهُ زَادٌ وَلا

رَوَاحِلُ , يَا مَنْ لَجَّ فِي لَجَّةِ الْهَوَى متى يرتقي إلى الساحل , هل لا تَنَبَّهْتَ مِنْ رُقَادٍ شَامِلٍ , وَحَضَرْتَ الْمَوَاعِظَ بِقَلْبٍ قَابِلٍ , وَقُمْتَ فِي الدُّجَى قِيَامَ عَاقِلٍ , وَكَتَبْتَ بِالدُّمُوعِ سُطُورَ الرَّسَائِلِ , تُحِفُّ بِهَا زَفَرَاتِ النَّدَمِ كالوسائل , وبعثتها في سفينة دَمْعٌ سَائِلٌ , لَعَلَّهَا تُرْسَى بِسَاحِلٍ " هَلْ مِنْ سائل " واأسفا لِمَغْرُورٍ غَفُولٍ جَاهِلٍ قَدْ أَثْقَلَ بَعْدَ الْكُهُولَةِ بِالذَّنْبِ الْكَاهِلَ , وَضَيَّعَ فِي الْبِضَاعَةِ وَبَذَّرَ الْحَاصِلَ , وَرَكَنَ إِلَى رُكْنٍ لَوْ رَآهُ مَائِلٍ , يَبْنِي الْحُصُونَ وَيُشَيِّدُ الْمَعَاقِلَ , وَهُوَ عَنْ شَهِيدِ قَبْرِهِ مُتَثَاقِلٌ , ثُمَّ يَدَّعِي بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ عَاقِلٌ , تَاللَّهِ لَقَدْ سَبَقَهُ الأَبْطَالُ إِلَى أَعْلَى الْمَنَازِلِ , وَهُوَ يُؤَمِّلُ فِي بَطَالَتِهِ فَوْزَ الْعَامِلِ , هَيْهَاتَ مَا عَلَّقَ بَطَّالُ بَطَائِلَ. (إِذَا بَكَيْتَ مَا مضى من زمن ... فحق لي أن أَبْكِي وَمَنْ لِي بِالْبُكَا) (مَنْ أَبْصَرَ الدُّنْيَا بِعَيْنِ عَقْلِهِ ... أَدْرَكَ أَنَّ الدَّارَ لَيْسَتْ لِلْبَقَا) (مطية وَارِدَةٌ إِلَى الرَّدَى ... وَإِنْ تَرَاخَى الْعُمْرُ وَامْتَدَّ الْمَدَى) (إِنْ هِيَ أَعْطَتْ كَانَ هَمًّا حَاضِرًا ... أَوْ مَنَعَتْ كَانَ عَذَابًا وَأَذَى) (وَالْمَرْءُ رِهْنُ أَمَلٍ مَا يَنْتَهِي ... حَتَّى يُوَافِيَ أَجَلا قَدِ انْتَهَى) كَانَ بِشْرٌ الْحَافِي إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ الْمَوْتُ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمُوتُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَمَعَ زَادَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى رَحْلِهِ لَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلا وَضَعَهُ عَلَيْهِ. أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ الْهَاشِمِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ , أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الأَهْوَازِيُّ , سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الدَّنَفَ الصُّوفِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ جَامِعِ بْنِ أَحْمَدَ قال: سمعت يحيى ابن مُعَاذٍ يَقُولُ: لِيَكُنْ بَيْتُكَ الْخَلْوَةَ وَطَعَامُكَ الْجُوعَ وَحَدِيثُكَ الْمُنَاجَاةَ , فَإِمَّا أَنْ تَمُوتَ بِدَائِكَ أَوْ تَصِلَ إِلَى دَوَائِكَ. أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفْرٍ , أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ , أَنْبَأَنَا ابْنُ جَهْضَمٍ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ , حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَكِّيُّ , قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِي النَّوْمِ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ: ألست حامل القرآن؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ فَتَنَامُ

سجع على قوله تعالى

بالليل وأنت حامل القرآن! أَمَا تَخَافُ أَنْ يَأْخُذَكَ وَأَنْتَ نَائِمٌ. يَا غَافِلا طُولَ دَهْرِهِ عَنْ مَمَرِّ يَوْمِهِ وَشَهْرِهِ , يَا مَوْعُوظًا فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ بِجَفَافِ النَّبَاتِ وَزَهْرِهِ , يَا مُنَبَّهًا فِي أَمْرِهِ بِأَسْرِهِ عَلَى حَبْسِهِ وَأَسْرِهِ , يَا مَذْكُورًا فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ , سَلْ حَادِثَاتِ الزَّمَانِ عَنْ يُسْرِهِ , يَا عُصْفُورًا لا بُدَّ مِنْ ذَبْحِهِ وَتَخْرِيبِ وَكْرِهِ , ثُمَّ لا يَجُولُ ذَلِكَ عَلَى فِكْرِهِ , مَتَى يَفِيقُ سَكْرَانُ الْهَوَى مِنْ سُكْرِهِ فَيَسْتَبِدُّ الْعِرْفُ بِنُكْرِهِ , أَلا يَتَنَبَّهُ هَذَا الْمُبَذِّرُ لِبَذْرِهِ , أَلا يَتَيَقَّظُ الْجَانِي لإِقَامَةِ عُذْرِهِ , وَاللَّهِ لَوْ سَكَّنَ قَلْبُهُ خَوْفَ حَشْرِهِ لَخَرَجَ فِي أَعْمَالِ الْجِدِّ مِنْ قِشْرِهِ , بَلْ لَوْ تَفَكَّرَ حَقَّ التَّفَكُّرِ فِي نَشْرِهِ لَمْ يَبِعْ ثَوْبًا وَلَمْ يَشْرِهِ , مَضَى الزَّمَانُ فِي مَدِّ اللَّهْوِ وَجَزْرِهِ , وَمَا حَظِيَ الْمُفَرِّطُ بِغَيْرِ وِزْرِهِ , تَاللَّهِ لَقَدِ اغْتَبَطَ الْمُحْسِنُ فِي قَبْرِهِ وَنَدِمَ الْمُسِيءُ عَلَى قِلَّةِ صَبْرِهِ , بأحسن مَا أَطَاعَ بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ أَبُو عَمْرٍو وَيا خُسْرَ مَا أَضَاعَ أَبُو نُوَاسٍ فِي خَمْرِهِ. (حَيَاةٌ وَمَوْتٌ وَانْتِظَارُ قِيَامَةٍ ... ثَلاثٌ أَفَادَتْنَا أُلُوفَ مَعَانِي) (فَلا تُمْهِرِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةَ إِنَّهَا ... تُفَارِقُ أَهْلِيهَا فِرَاقَ لِعَانِ) (وَلا تَطْلُبُوهَا مِنْ سِنَانٍ وَصَارِمٍ ... بِيَوْمِ ضِرَابٍ أَوْ بِيَوْمِ طِعَانِ) (فَإِنْ شِئْتُمَا أَنْ تَخْلُصَا مِنْ أَذَاتِهَا ... فَحُطَّا بِهَا الأَثْقَالَ وَاتَّبِعَانِي) (عَجِبْتُ مِنَ الصُّبْحِ الْمُنِيرِ وَضِدِّهِ ... عَلَى أَهْلِ هَذَا الضِّدِّ يَطَّلِعَانِ) (وَقَدْ أَخْرَجَانِي بِالْكَرَاهَةِ مِنْهُمَا ... كَأَنَّهُمَا لِلضَّيْفِ مَا وَسِعَانِي) (دَعَانِي إِلَى هَذا التَّفَرُّدِ إِنَّنِي ... خَبِيرٌ فَجُدَّا فِي السُّرَى وَدَعَانِي) سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الأبرار لفي نعيم} مَا أَشْرَفَ مَنْ أَكْرَمَهُ الْمَوْلَى الْعَظِيمُ , وَمَا أَعْلَى مَنْ مَدَحَهُ فِي الْكَلامِ الْقَدِيمُ , وَمَا أَسْعَدَ مَنْ خَصَّهُ بِالتَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ , وَمَا أَقْرَبَ مَنْ أَهَّلَهُ لِلْفَوْزِ وَالتَّقْدِيمِ , وَمَا

أَجَلَّ مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {إِنَّ الأبرار لفي نعيم} . نُعِّمُوا فِي الدُّنْيَا بِالإِخْلاصِ فِي الطَّاعَةِ , وَفَازُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالرِّبْحِ فِي الْبِضَاعَةِ , وَتَنَزَّهُوا عَنِ التَّقْصِيرِ وَالْغَفْلَةِ وَالإِضَاعَةِ , وَلَبِسُوا ثِيَابَ التُّقَى وَارْتَدَوْا بِالْقَنَاعَةِ , وَدَامُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى السَّهَرِ وَالْمَجَاعَةِ , فَيَا فَخْرَهُمْ إِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ , وَقَدْ قُرِّبَتْ إِلَيْهِمْ مَطَايَا التَّكْرِيمِ {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} . نُعِّمُوا فِي الدُّنْيَا بِالْوَحْدَةِ وَالْخَلْوَةِ , وَاعْتَذَرُوا فِي الأَسْحَارِ مِنْ زَلَّةٍ وَهَفْوَةٍ , وَحَذِرُوا مِنْ مُوجِبَاتِ الإبعاد والجفوة , فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُخْتَارُونَ الصَّفْوَةُ , الصِّدْقُ قَرِينُهُمْ وَالصَّبْرُ نديم {إن الأبرار لفي نعيم} . حَرَسَهُمْ مَوْلاهُمْ مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّيْنِ , وَحَفِظَهُمْ مِنْ جَهْلٍ وَعَيْبٍ وَمَيْنٍ , وَأَرَاهُمْ مَحَجَّةَ الْهُدَى رَأْيَ الْعَيْنِ , وَأَزَالَ فِي وِصَالِهِمْ قَاطِعَ الْجَفَاءِ وَعَارِضَ الْبَيْنِ , وَكَمَّلَ لَهُمْ جَمِيعَ الْمَآثِرِ كَمَالَ الزَّيْنِ , وَكَشَفَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أَغْطِيَةَ الْهَوَى وَحُجُبَ الْغَيْنِ , فقاموا بالأوامر على غاية الوفا في قضاء الدين , واعتذروا بعد الأذى وقيل الغريم {إن الأبرار لفي نعيم} . طَالَ مَا تَعِبَتْ أَجْسَامُهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَالسَّهَرِ , وَكَفَّتْ جَوَارِحُهُمْ عَنِ اللَّهْوِ وَالأَشَرِ , وَحَبَسُوا أَعْرَاضَهُمْ عَنِ الْكَلامِ وَالنَّظَرِ , وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ وَامْتَثَلُوا مَا أَمَرَ , وَتَقَبَّلُوا مَفْرُوضَاتِهِ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ , وَتَغَنَّوْا بِكَلامِهِ وَالْقَلْبُ قَدْ حَضَرَ , وَاسْتَعَدُّوا مِنَ الزَّادِ مَا يَصْلُحُ لِلسَّفَرِ , فَالْخَوْفُ يُقْلِقُهُمْ فَيَمْنَعُهُمْ قَضَاءَ الْوَطَرِ , وَالْعِبْرَةُ تَجْرِي وَالْقَلْبُ قَدِ اعْتَبَرَ , فَيَا حُسْنَهُمْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَوَقْتِ السَّحَرِ , السِّرُّ صَافٍ وَالْحَالُ مُسْتَقِيمٌ {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} . جَنَّ الظَّلامُ فَزُمَّتْ مَطَايَاهُمْ , وَجَاءَ السَّحَرُ فَتَوَفَّرَتْ عَطَايَاهُمْ , وَكَثُرَ الاسْتِغْفَارُ فَحُطَّتْ خَطَايَاهُمْ , وَكُلَّمَا طَلَبُوا مِنْ فَضْلِ سَيِّدِهِمْ أَعْطَاهُمْ , فَسُبْحَانَ مَنِ اخْتَارَهُمْ مِنَ الْكُلِّ وَاصْطَفَاهُمْ , وَخَلَّصَهُمْ بِالإِخْلاصِ مِنْ شَوَائِبِ الكدر

وَصَفَّاهُمْ , فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَلْقِ بِالْمَحَبَّةِ سِوَاهُمْ , أَزْعَجَتْهُمْ عَوَاصِفُ الْمَخَافَةِ فَتَدَارَكَهُمْ مِنَ الرَّجَاءِ نَسِيمٌ {إن الأبرار لفي نعيم} . قصورهم في الجنان عالية , وعيشهم فِي الْقُصُورِ صَافِيَةٌ , وَهُمْ فِي عَفْوٍ مَمْزُوجٍ بِعَافِيَةٍ , وَقُطُوفُ الأَشْجَارِ مِنَ الْقَوْمِ دَانِيَةٌ , وَأَقْدَامُهُمْ عَلَى أَرْضٍ مِنَ الْمِسْكِ سَاعِيَةٌ , وَأَبْدَانُهُمْ مِنَ السُّنْدُسِ وَالإِسْتَبْرَقِ كَاسِيَةٌ , وَالْعَيْشُ لَذِيذٌ وَالْمُلْكُ عَظِيمٌ {إن الأبرار لفي نعيم} . رَضِيَ عَنْهُمْ جَبَّارُهُمْ , وَأَشْرَقَتْ بِرِضَاهُ دَارُهُمْ , وَصَفَتْ بِبُلُوغِ الْمُنَى أَسْرَارُهُمْ , فَارْتَفَعَتْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَكْدَارُهُمْ , وَوَرَّدَتْ فِي الْجِنَانِ أَشْجَارُهُمْ , وَاطَّرَدَتْ تَحْتَ الْقُصُورِ أَنْهَارُهُمْ , وَتَرَنَّمَتْ عَلَى الْوَرَقِ أَطْيَارُهُمْ , وَالْمَلائِكَةُ تَحُفُّهُمْ وَتَخُصُّهُمْ بِالتَّسْلِيمِ , وَالْعُيُونُ تَجْرِي مِنْ رَحِيقٍ وَتَسْنِيمٍ , وَالْمَلِكُ قَدْ وَصَفَهُمْ فِي الْكَلامِ الْقَدِيمِ {إن الأبرار لفي نعيم} . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا رَبُّكُمُ الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي , فَاسْأَلُونِي مَا شِئْتُمْ. فَيَقُولُونَ: نَسْأَلُكَ رِضْوَانَكَ. فَيَقُولُ: رِضْوَانِي أَحَلَّكُمْ دَارِي وَأَدْنَاكُمْ مِنْ جِوَارِي ". وَرُوِّينَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لأَوْلِيَائِهِ فِي الْقِيَامَةِ: " أوليائي طال ما لَمَحْتُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ غَارَتْ أَعْيُنُكُمْ وَقَلَصَتْ شفاهكم عن الأشربة وخفقت بُطُونُكُمْ , فَتَعَاطَوُا الْكَأْسَ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ". وَقَوْلُهُ تعالى: {على الأرائك ينظرون} الأَرَائِكُ: السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ. قَالَ ثَعْلَبٌ: لا تَكُونُ الأَرِيكَةُ إِلا سَرِيرًا فِي قُبَّةٍ عَلَيْهِ شَوَارُهُ وَمَتَاعُهُ. وَالشَّوَارُ مَتَاعُ الْبَيْتِ.

سجع

وفي قوله: {ينظرون} قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: يَنْظُرُونَ إِلَى مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْكَرَامَةِ. وَالثَّانِي: إِلَى أَعْدَائِهِمْ حِينَ يُعَذَّبُونَ. سَجْعٌ كَانُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمُجَاهَدَةِ يُصِرُّونَ , وَفِي دَيَاجِي اللَّيْلِ يَسْهَرُونَ , وَيَصُومُونَ وَهُمْ عَلَى الطَّعَامِ يَقْدِرُونَ , وَيُسَارِعُونَ إِلَى مَا يُرْضِي مَوْلاهُمْ وَيُبَادِرُونَ , فَشَكَرَ مَنْ رَاحَ مِنْهُمْ وغدا فهم غدا {على الأرائك ينظرون} . كانون يحملون أعباء الجهد والعنا , ويفرحون بِاللَّيْلِ إِذَا أَقْبَلَ وَدَنَا , وَيَرْفُضُونَ الدُّنْيَا لِعِلْمِهِمْ أَنَّهَا تَصِيرُ إِلَى الْفَنَا , وَيُخَلِّصُونَ الأَعْمَالَ مِنْ شَوَائِبِ الآفَاتِ لَنَا , وَيُحَارِبُونَ الشَّيْطَانَ بِسِلاحٍ مِنَ التُّقَى أَقْطَعَ مِنَ السَّيْفِ وَأَصْلَبَ مِنَ الْقَنَا , فَغَدًا يَتَّكِئُونَ عَلَى الأَرَائِكَ وَقُطُوفُهُمْ دَانِيَةُ الْمُجْتَنَى , وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا النَّعِيمِ أَنْ أَتَجَلَّى لَهُمْ أَنَا , كَفَى فَخْرًا أَنَّهُمْ عِنْدِي غَدًا يَحْضُرُونَ {على الأرائك ينظرون} . كَانَتْ جُنُوبُهُمْ تَتَجَافَى عَنْ مَضَاجِعِهَا , وَلا تَسْكُنُ لأَجْلِي إِلَى مَوَاضِعِهَا , وَتَطْلُبُ مِنِّي نُفُوسُهُمْ جَزِيلَ مَنَافِعِهَا , وَتَسْتَجِيرُنِي مِنْ مَوَانِعِهَا وَتَسْتَعِيذُ بِجَلالِي مِنْ قَوَاطِعِهَا , وَتَصُولُ بِعِزَّتِي عَلَى مَخَادِعِهَا , فَقَدْ أَبْدَلْتُهُمْ بِتَعَبِ تِلْكَ الْمُجَاهَدَةِ لَذَّةَ السُّكُونَ , فَهُمْ {عَلَى الأرائك ينظرون} . يَا حُسْنَهُمْ وَالْوِلْدَانُ بِهِمْ يَحُفُّونَ , وَالْمَلائِكَةُ لَهُمْ يَزُفُّونَ , وَالْخُدَّامُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَقِفُونَ , وَقَدْ أَمِنُوا مَا كَانُوا يَخَافُونَ , وَبِالْحُورِ الْعِينِ الْحِسَانِ فِي خِيَامِ اللُّؤْلُؤِ يَتَنَعَّمُونَ , وَعَلَى أَسِرَّةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَتَزَاوَرُونَ , وَبِالْوُجُوهِ النَّضِرَةِ يَتَقَابَلُونَ , وَيَقُولُونَ بِفَضْلِي عَلَيْهِمْ وَنِعْمَتِي لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ {عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} . سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نضرة النعيم} قَالَ الْفَرَّاءُ: بَرِيقَ النَّعِيمِ.

وُجُوهٌ طَالَ مَا غَسَلَتْهَا دُمُوعُ الأَحْزَانِ , وُجُوهٌ طَالَ مَا غَبَّرَتْهَا حُرُقَاتُ الأَشْجَانِ , وُجُوهٌ تُخْبِرُ عَنِ الْقُلُوبِ إِخْبَارَ الْعُنْوَانِ , حَرَسُوا الْوَقْتَ بِالْيَقَظَةِ وَحَفِظُوا الزَّمَانَ , وَشَغَلُوا الْعُيُونَ بِالْبُكَاءِ وَالأَلْسُنَ بِالْقُرْآنِ , فإذا رَأَيْتَهُمْ يَوْمَ الْجَزَاءِ رَأَيْتَ الْفَوْزَ الْعَظِيمَ {تَعْرِفُ في وجوههم نضرة النعيم} . وُجُوهٌ مَا تَوَجَّهَتْ لِغَيْرِي وَلا اسْتَدَارَتْ , وَأَقْدَامٌ إِلَى غَيْرِ مَا يُرْضِينِي مَا سَارَتْ , وَعُزُومٌ لِغَيْرِ مَرْضَاتِي مَا ثَارَتْ , وَقُلُوبٌ بِغَيْرِي قَطُّ مَا اسْتَجَارَتْ , وَأَفْئِدَةٌ بِغَيْرِ ذِكْرِي مَا اسْتَنَارَتْ , وَلَوْ رَأَتْ عُيُونُ الْغَافِلِينَ مَا أَعْدَدْتُ لَهُمْ لَحَارَتْ مِنْ فَضْلٍ عَظِيمٍ وَمُلْكٍ جَسِيمٍ {تَعْرِفُ في وجوههم نضرة النعيم} . أَشْرَقَتْ وُجُوهُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِحُسْنِ الْمُجَاهَدَةِ , وَتُشْرِقُ وُجُوهُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْقُرْبِ وَالْمُشَاهَدَةِ , أَشْرَقَتْ وُجُوهُهُمْ فِي اللَّيْلِ بِنُورِ السَّهَرِ , وَتُشْرِقُ غَدًا بِمُشَاهَدَةِ الْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ , أَشْرَقَتْ وُجُوهُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِجَرَيَانِ الدُّمُوعِ عَلَى الْخُدُودِ , وَتُشْرِقُ غَدًا فِي جنان الخلود , فإذا رَأَيْتَهُمْ فِي سُرُورٍ مَا فِيهِ مَا يُضِيمُ {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} . قوله تعالى: {يسقون من رحيق مختوم} فِي الرَّحِيقِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ , أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْخَمْرُ. قاله ابن عباس. وفي صفة الْخَمْرِ الْمُسَمَّاةِ بِالرَّحِيقِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا أَجْوَدُ الْخَمْرِ. قَالَهُ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ. وَالثَّانِي: الْخَالِصَةُ مِنَ الْغِشِّ. قَالَهُ الأَخْفَشُ. وَالثَّالِثُ: الْخَمْرُ الْبَيْضَاءُ. قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَالرَّابِعُ: الْخَمْرُ الْعَتِيقَةُ. قَالَهُ ابن قتيبة.

سجع على قوله تعالى

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ مَشُوبَةٌ بالمسك. قاله الحسن. والثالث: الشَّرَابِ الَّذِي لا غِشَّ فِيهِ. قَالَهُ ابْنُ قتيبة والزجاج. وفي قوله {مختوم} ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ , أَحَدُهَا: مَمْزُوجٌ. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. والثاني: مختوم على إنائه وهو مذهب. قاله مجاهد. وَالثَّالِثُ: لَهُ خِتَامٌ أَيْ عَاقِبَتُهُ رِبْحٌ. سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} يَا لَهُ مِنْ كَأْسٍ مَصُونٍ تَقَرُّ بِهِ الْعُيُونُ , يَقُولُ لَهُ الْمَلِكُ كُنْ فَيَكُونُ , يُوجِدُهُ بين الكاف والنوم , إِذَا شَرِبُوهُ لا يَحْزَنُونَ , إِذَا اسْتَوْعَبُوهُ لا يَسْكَرُونَ , نَعِيمُهُمْ لا كَدَرٌ فِيهِ وَلا هُمُومٌ {يسقون من رحيق مختوم} . شَرَابٌ قَدْ حَلا وَطَابَ , كَأْسٌ يَصْلُحُ لِلأَحْبَابِ , نَعِيمٌ مِنْ فَضْلِ الْوَهَّابِ , لَذَّتْ لَذَّةُ الدَّارِ وَدَارَ الشَّرَابُ , كَمُلَ الصَّفَا وَزَالَ الْعِتَابُ , طَابَ الْوَقْتُ وَرُفِعَ الْحِجَابُ , صَفَتِ الْحَالُ وَفُتِّحَتِ الأَبْوَابُ , زَارَ الْمُحِبُّ وَسَمِعَ الْخِطَابَ , ثُمَّ فَرِحَ الْقَوْمُ بقرب القيوم {يسقون من رحيق مختوم} . زَالَ الْعَنَا عَنْهُمْ وَأَقْبَلَ الرَّوْحُ وَالْفَرَحُ , وَارْتَفَعَتِ الْهُمُومُ عَنِ الصُّدُورِ فَانْفَسَحَ الصَّدْرُ وَانْشَرَحَ , وَرَضِيَ الرَّبُّ فَأَعْطَى الْمُنَى وَأَوْلَى وَمَدَحَ , وَطَافَ عَلَيْهِمُ الْوِلْدَانُ بِالأَكْوَابِ فَيَا لَذَّةَ الشَّرَابِ وَيَا حُسْنَ الْقَدَحِ , وَاسْتَرَاحَ مِنَ التَّعَبِ مَنْ كَانَ يَسْهَرُ ويصوم {يسقون من رحيق مختوم} . قوله تعالى: {ختامه مسك} فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: خَلْطَةُ مِسْكٍ. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ طَعْمُ الإِنَاءِ مِسْكٌ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَوْلُهُ تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} أَيْ فَلْيَجِدُّوا فِي طَلَبِهِ وَلْيَحْرِصُوا عَلَيْهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى , وَالتَّنَافُسُ كَالتَّشَاحِ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّنَازُعِ فِيهِ. سَجْعٌ أَيُّهَا الْغَافِلُ رَبِحَ الْقَوْمُ وَخَسِرْتَ , وَسَارُوا إِلَى الْحَبِيبِ وَمَا سِرْتَ , وَقَامُوا

بِالأَوَامِرِ وَضَيَّعْتَ مَا بِهِ أُمِرْتَ , وَسَلِمُوا مِنْ رِقِّ الْهَوَى وَاغْتَرَرْتَ فَأُسِرْتَ , فَالدُّنْيَا تَخْدِمُهُمْ وَالسَّعَادَةُ تَقْدُمُهُمْ حِينَ يُحْشَرُونَ {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} . لَقَدْ شُوِّقْتُمْ إِلَى الْفَضَائِلِ فَمَا اشْتَقْتُمْ , وَزُجِرْتُمْ عَنِ الرَّذَائِلِ وَأَنْتُمْ فِي سُكْرِ الْهَوَى مَا أَفَقْتُمْ , فَلَوْ حَاسَبْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَحَقَّقْتُمْ , عَلِمْتُمْ أَنَّكُمْ بِغَيْرِ وَثِيقٍ تَوَثَّقْتُمْ , فَاطْلُبُوا الْخَلاصَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى فَقَدْ جَدَّ الطَّالِبُونَ {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} . أَيْقَظَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِمَصَالِحِنَا , وَعَصَمَنَا مِنْ ذُنُوبِنَا وَقَبَائِحِنَا , وَاسْتَعْمَلَ فِي طَاعَتِهِ جَمِيعَ جَوَارِحِنَا , وَلا جَعَلَنَا مِمَّنْ يَرْضَى بِدُونٍ {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} .

المجلس السادس عشر في قصة موسى والخضر عليهما السلام

المجلس السادس عشر فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ جَعَلَ الْعِلْمَ لِلْعُلَمَاءِ نَسَبًا , وَأَغْنَاهُمْ بِهِ وَإِنْ عَدِمُوا مالاًَ وَنَشَبًا , وَلأَجْلِهِ سَجَدَتِ الْمَلائِكَةُ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى , وَبِحِيلَةِ الْعِلْمِ اتَّكَأَ إِدْرِيسُ فِي الْجَنَّةِ وَاحْتَبَى , وَلِطَلَبِهِ قَامَ الْكَلِيمُ وَيُوشَعُ وَانْتَصَبَا , فَسَارَا إِلَى أَنْ لَقِيَا مِنْ سَفَرِهِمَا نَصَبًا: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} . أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَدُومُ مَا هَبَّتْ جَنُوبٌ وَصَبَا , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ الْخَلائِقِ عَجَمًا وَعَرَبًا , وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ الَّذِي أَنْفَقَ الْمَالَ وَمَا قَلَّلَ حَتَّى تَخَلَّلَ بَالْعَبَا , وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي مِنْ هَيْبَتِهِ وَلَّى الشَّيْطَانُ وَهَرَبَا , وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي حَيَّتْهُ الشَّهَادَةُ فَقَالَ مَرْحَبًا , وَعَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي مَا فُلَّ سَيْفُ شَجَاعَتِهِ قَطُّ [وَلا] نَبَا , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الْعَالِي نَسَبُهُ عَلَى جِبَالِ الشَّرَفِ وَالرُّبَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أمضي حقبا} . معنى الكلام: اذكر يا محمد {إذا قال موسى} وهو موسى بن عمران , {لفتاه} وَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونَ , وَإِنَّمَا سُمِّيَ فَتَاهُ لأَنَّهُ كَانَ يُلازِمُهُ وَيَأْخُذُ عَنْهُ الْعِلْمَ وَيَخْدِمُهُ: {لا أبرح} أَيْ لا أَزَالُ , أَيْ لا أَنْفَكُّ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ لا أَزُولُ لأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَزَلْ لَمْ يَقْطَعْ أَرْضًا. قَالَ الشَّاعِرُ: (إِذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدِّي أَمَانَةً ... وَتَحْمِلُ أُخْرَى أفرحتك الودائع)

أَيْ أَثْقَلَتْكَ. وَمَعْنَى الآيَةِ لا أَزَالُ أَسِيرُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَيْ مُلْتَقَاهُمَا , وَهُوَ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِلِقَاءِ الْخَضِرِ فِيهِ. قَالَ قَتَادَةُ: بَحْرَ فَارِسَ وَبَحْرَ الرُّومِ فَبَحْرُ الروم نحو الغرب وبحر فارس نحو الشرق. وَفِي اسْمِ الْبَلَدِ الَّذِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: إِفْرِيقِيَّةُ. قَالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. وَالثَّانِي: طَنْجَةُ. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ. قَوْلُهُ تعالى: {أو أمضي حقبا} وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ {حُقْبًا} بِإِسْكَانِ الْقَافِ وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْحُقُبُ: الدَّهْرُ. يُقَالُ حُقُبٌ وَحُقْبٌ , كَمَا يُقَالُ قُفْلٌ وَقُفُلٌ , وَأُكُلٌ وَأُكْلٌ , وَعُمُرٌ وَعُمْرٌ. وَمَعْنَى الآيَةِ: لا أَزَالُ أَسِيرُ وَلَوِ احْتَجْتُ أَنْ أَسِيرَ حُقُبًا. {فَلَمَّا بلغا} يَعْنِي مُوسَى وَفَتَاهُ {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} وَكَانَا قَدْ تَزَوَّدَا حُوتًا مَالِحًا فِي مِكْتَلٍ , فَكَانَا يُصِيبَانِ مِنْهُ عِنْدَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ , فَلَمَّا بَلَغَا هُنَاكَ وَضَعَ يُوشَعُ الْمِكْتَلَ فَأَصَابَ الْحُوتَ بَلَلُ الْبَحَرِ فَعَاشَ وَاسْتَرَبَ فِي الْبَحْرِ , وَقَدْ كَانَ قِيلَ لِمُوسَى تَزَوَّدْ حُوتًا مَالِحًا فَإِذَا فَقَدْتَهُ وَجَدْتَ الرَّجُلَ. وَكَانَ مُوسَى حِينَ ذَهَبَ الْحُوتُ قَدْ مَضَى لِحَاجَةٍ , فَعَزَمَ يُوشَعُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِمَا جَرَى فَنَسِيَ , وَإِنَّمَا قِيلَ {نَسِيَا} تَوَسَّعَا فِي الْكَلامِ , لأَنَّهُمَا جَمِيعًا تَزَوَّدَاهُ. وَمِثْلُهُ: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَالِحِ لا مِنَ الْعَذْبِ. {فاتخذ سبيله في البحر سربا} أَيْ مَسْلَكًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَ الْحُوتُ لا يَمَسُّ شَيْئًا مِنَ الْبَحْرِ إِلا يَبِسَ حَتَّى يَكُونَ صَخْرَةً. وَفِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْمَاءَ صَارَ مِثْلَ الطَّاقِ عَلَى الحوت. {فلما جاوزا} ذَلِكَ الْمَكَانَ أَدْرَكَهُمَا النَّصَبُ فَدَعَا مُوسَى بِالطَّعَامِ فَقَالَ يُوشَعُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فإني نسيت الحوت} فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: نَسِيتُ أَنْ أُخْبِرَكَ خَبَرَ الْحُوتِ. وَالثَّانِي: نَسِيتُ حَمْلَ الْحُوتِ.

{واتخذ سبيله} فِي هَاءِ الْكِنَايَةِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْحُوتِ. وَالثَّانِي: إِلَى مُوسَى , اتَّخَذَ سَبِيلَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ , أَيْ دَخَلَ فِي مَدْخَلِهِ فَرَأَى الْخَضِرَ. فَعَلَى الأَوَّلِ: الْمُخْبِرُ يُوشَعُ وَعَلَى الثَّانِي الْمُخْبِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ مُوسَى: " {ذلك ما كنا نبغ} " أَيِ الَّذِي كُنَّا نَطْلُبُ مِنَ الْعَلامَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَطْلُوبِنَا , لأَنَّهُ كَانَ قَدْ قِيلَ لَهُ: حيث تفقد الحوت تجد الرجل. {فارتدا} أي رجعا في الطريق التي سلكاها يقصان الأثر. {فوجدا عبدا من عبادنا} وهو الخضر. قال وهب: اسمه اليسع. وقال ابْنُ الْمُنَادِي: أَرْمِيَا. وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِالْخَضِرِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَاهْتَزَّ مَا تَحْتَهُ خَضِرًا. رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْفَرْوَةُ: الأَرْضُ الْيَابِسَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَلَسَ اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ. قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ. وَهَلْ كَانَ نَبِيًّا؟ فِيهِ قَوْلانِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {آتَيْنَاهُ رحمة من عندنا} أي نعمة {وعلمناه من لدنا} أي من عندنا {علما} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُعْطِيَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ. {قال له موسى هل أتبعك} وَهَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَحَثٌّ عَلَى الأدب والتواضع المصحوب , وَإِنَّمَا قَالَ الْخَضِرُ: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صبرا} لأَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ. وَالْخَبَرُ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ. وَالْمَعْنَى: أَنْتَ تُنْكِرُ ظَاهِرَ مَا تَرَى وَلا تَعْلَمُ بَاطِنَهُ. فَلَمَّا رَكِبَا السَّفِينَةَ قَلَعَ الْخَضِرُ مِنْهَا لَوْحًا فَحَشَاهَا مُوسَى بِثَوْبِهِ وَأَنْكَرَ عليه بقوله: {أخرقتها} وَالإِمْرُ: الْعَجَبُ. ثُمَّ اعْتَذَرَ بِقَوْلِهِ: {لا تُؤَاخِذْنِي بما نسيت} وَفِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَسِيَ حَقِيقَةً.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلامِ , تَقْدِيرُهُ: لا تُؤَاخِذْنِي بِنِسْيَانِي الَّذِي نَسِيتُ فِي عُمْرِي , فَأَوْهَمَهُ بِنِسْيَانِ هَذَا الأَمْرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّرْكِ. وَالْمَعْنَى: لا تُؤَاخِذْنِي بِتَرْكِي مَا عَاهَدْتُكَ عَلَيْهِ. وترهقني بِمَعْنَى تُعْجِلُنِي. وَالْمَعْنَى: عَامِلْنِي بِالْيُسْرِ. فَلَمَّا لَقِيَا الْغُلامَ قَتَلَهُ الْخَضِرُ , وَهَلْ كَانَ بَالِغًا أَمْ لا؟ فِيهِ قَوْلانِ. وَفِي صِفَةِ قَتْلِهِ إِيَّاهُ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ اقْتَلَعَ رَأْسَهُ , وَهُوَ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: كَسَرَ عُنُقَهُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَضْجَعَهُ وَذَبَحَهُ بِسِكِّينٍ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً} وقرأ ابن عامر: زكية. قَالَ الْكِسَائِيُّ: فِيهَا وَجْهَانِ كَالْقَاسِيَةِ وَالْقَسِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلاءِ: الزَّاكِيَةُ الَّتِي لَمْ تُذْنِبْ. وَالزَّكِيَّةُ الَّتِي أَذْنَبَتْ ثُمَّ تَابَتْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الزَّاكِيَةُ فِي الْبَدَنِ وَالزَّكِيَّةُ فِي الدين. قوله تعالى: {بغير نفس} أي بغير قتل نَفْسٍ , وَالنُّكْرُ: الْمُنْكَرُ. {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} إن قيل: لم ذكر لفظة {لك} ها هنا وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي الأُولَى؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذَكَرَهَا لِلتَّوْكِيدِ وَتَرَكَهَا لِوُضُوحِ الْمَعْنَى , وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ قُلْتُ لَكَ اتَّقِ اللَّهَ. وَقَدْ قُلْتُ لَكَ يَا فُلانُ اتَّقِ اللَّهَ. يَا هَذَا أَطِعْنِي وَانْطَلِقْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُوَاجَهَةَ بِكَافِ الْخِطَابِ نَوْعٌ حَطَّ مِنْ قَدْرِ التَّعْظِيمِ , فَلَمَّا كَانَتِ الأُولَى مِنْهُ نِسْيَانًا فَخَّمَ خِطَابَهُ بِتَرْكِ كَافِ الْخِطَابِ [وَلَمَّا كَانَتِ الثَّانِيَةُ عَمْدًا جَازَاهُ] بِالْمُوَاجَهَةِ بِكَافِ الْخِطَابِ.

قوله تعالى: {فلا تصاحبني} وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ: فَلا تُصَاحِبَنِّي بِتَشْدِيدِ النُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبْلَةَ: {تَصْحَبْنِي} بِفَتْحِ التَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلَفٍ , وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَذَلِكَ؛ إِلا أَنَّهُ شَدَّدَ النُّونَ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَالْجَحْدَرِيُّ {تُصْحِبْنِي} بضم التاء وكسر الحاء وسكون الصادر وَالْبَاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لا تتابعني في شيء ألتمسه منك , يقال أصبحت المهر إذا إنقاذ. وَالثَّانِي: لا تَصْحَبْنِي عِلْمًا مِنْ عِلْمِكَ {قَدْ بلغت من لدني} قَرَأَ نَافِعٌ: {مِنْ لُدْنِي} بِضَمِّ الدَّالِ مَعَ تَخْفِيفِ النُّونِ. فَلَمَّا انْطَلَقَا إِلَى الْقَرْيَةِ وَفِيهَا ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا أَنْطَاكِيَةُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: الأُبُلَّةُ. قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ. وَالثَّالِثُ: باجروان. قاله مقاتل. {استطعما أهلها} أي سألوهما الضيافة {فأبوا أن يضيفوهما} وكانوا بخلاء {فوجدا فيها جدارا} أي حائطاً {يريد أن ينقض} وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: {يَنْقَاضَّ} بِأَلِفٍ مَمْدُودَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ بِالصَّادِ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يَنْقَضُّ: يَسْقُطُ بِسُرْعَةٍ , وَيَنْقَاصُّ غَيْرُ مُعْجَمَةٍ: يَنْشَقُّ طُولا , يُقَالُ انْقَاصَتْ سُنَّهٌ إِذَا انْشَقَّتْ. وَنِسْبَةُ الإِرَادَةِ إِلَى الْحَائِطِ تَجُوزُ. وَأَنْشَدَ: (ضَحِكُوا وَالدَّهْرُ عَنْهُمْ سَاكِتٌ ... ثُمَّ أَبْكَاهُمْ دَمًا حِينَ نَطَقَ) وَفِي قَوْلِهِ {فَأَقَامَهُ} قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَفَعَهُ بِيَدِهِ فَقَامَ. وَالثَّانِي: هَدَمَهُ ثُمَّ قَعَدَ يَبْنِيهِ. وَالْقَوْلانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بيني وبينك} أي إنكارك هُوَ الْمُفَارِقُ بَيْنَنَا.

ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ أَنَّ خَرْقَهُ السَّفِينَةِ لِتَسْلَمَ مِنَ الْمَلِكِ الْغَاصِبِ , وَقَتْلَهُ الْغُلامِ لِيَسْلَمَ دِينُ أَبَوَيْهِ قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْغُلامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا , وَلَوْ عَاشَ لأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا. وَالزَّكَاةُ: الدِّينُ. وَقِيلَ الْعَمَلُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَوْلُهُ تعالى: {خيرا منه} وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ. وَإِقَامَتُهُ لِلْجِدَارِ لأَنَّهُ كَانَ لِيَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ. وَفِي الْكَنْزِ الَّذِي كَانَ تَحْتَهُ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ ذَهَبًا وَفِضَّةً. رَوَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مَكْتُوبٌ: عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ , عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ , عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ , عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالرِّزْقِ كَيْفَ يَتْعَبُ , عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ كَيْفَ يَغْفَلُ , عَجَبًا لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا. أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا , مُحَمَّدٌ عَبْدِي وَرَسُولِي. وَفِي الشِّقِّ الثَّانِي: أَنَا الله لا له إِلا أَنَا وَحْدِي لا شَرِيكَ لِي , خَلَقْتُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ , فَطُوبَى لِمَنْ خَلَقْتُهُ لِلْخَيْرِ وَأَجْرَيْتُهُ عَلَى يَدَيْهِ , وَالْوَيْلُ لِمَنْ خَلَقْتُهُ لِلشَّرِّ وَأَجْرَيْتُهُ عَلَى يَدَيْهِ. رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَنْزُ عِلْمٍ. رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صُحُفٌ فِيهَا عِلْمٌ. ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنِّي مَأْمُورٌ فِيمَا فَعَلْتُ. وَالسَّبَبُ فِي أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُوسَى بِهَذَا السَّفَرِ أَنَّهُ قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ , فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ , قَالَ: فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا مَالِحًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثتم. فَانْطَلَقَ حَتَّى لَقِيَهُ.

الكلام على البسملة

الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (مَنْ عَلَى هَذِهِ الدَّارِ قاما ... أو صفا ملبس عليه فداما) (عد بِنَا نَنْدُبُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا ... بِاقْتِيَادِ الْمَنُونِ عَامًا فَعَامَا) (فَارَقُوا كَهْلا وَشَيْخًا وَهِمًّا ... وَوَلِيدًا مُؤَمِّلا وَغُلامَا) (وَشَحِيحًا جَعْدَ الْيَدَيْنِ بَخِيلا ... وَجَوَادًا مُخَوَّلا مِطْعَامَا) (سَكَنُوا كُلَّ ذِرْوَةٍ مِنْ أَشَمٍّ ... يَحْسِرُ الطرف ثم حلوا الرغاما) (يالحا الله مهلاً حسب الدهر لؤوم الْجُفُونِ عَنْهُ فَنَامَا ... ) (عَلَّقَا فِي يَدِ الْمُنَى كُلَّمَا نَالَ ... هَوَى يَبْتَغِيهِ رَامَ مِنْهُ مَرَامَا) (هَلْ لَنَا , بَالِغِينَ كُلَّ مُرَادٍ ... غَيْرَ مَا يَمْلأُ الضُّلُوعَ طَعَامَا) (فَإِذَا أَعْوَزَ الْحَلالَ فَشَلَّ اللَّهُ كَفًّا جَرَتْ إِلَيْهَا الْحَرَامَا ... ) (وَمَا لِسِغَابِ الْبُطُونِ أَحْظَى لِذِي الْمَجْدِ مِنَ الْقَوْمِ يَأْكُلُونَ الخطاما ... ) (دَعْ عَلَى أَرْبُعِ الرَّخَاءِ رِجَالا ... سَكَنُوا فِي رُبَى الرَّخَاءِ خِيَامَا) (كُلَّمَا أُقْحِطُوا اسْتَمَارُوا مِنَ الْعَارِ ... وَإِمَّا صَدَوْا تَرَوَّوْا أَثَامَا) (وَقُمِ اللَّيْلَ نَاجِيًا خِدَعَ الدَّهْرِ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ رِجَالا قِيَامَا ... ) (وَاخْشَ مَا قِيلَ فِيهِ قَدْ تَمَّ ... فَالْجِلْدُ الَّذِي لا يَخَافُ إِلا الْتِمَامَا) (أَيُّهَا الْمَوْتُ كَمْ حَطَطْتَ عَلَيَّا ... سَامِيَ الطَّرْفِ أَوْ جَذَذْتَ سَنَامَا) (وَإِذَا مَا حُذِّرْتَ خَلْفًا وَظَنُّوا ... نجاة من يديك كنت أماماً) إخواني: كأن القلوب لَيْسَتْ مِنَّا , وَكَأَنَّ الْحَدِيثَ يُعْنَى بِهِ غَيْرُنَا. (كَمْ مِنْ وَعِيدٍ يَخْرِقُ الآذَانَا ... كَأَنَّمَا يُعْنَى بِهِ سِوَانَا) (أَصَمَّنَا الإِهْمَالُ بَلْ أَعْمَانَا ... ) إِخْوَانِي: غَابَ الْهُدْهُدُ عَنْ سُلَيْمَانَ فَتَوَعَّدَهُ بِلَفْظِ {لأُعَذِّبَنَّهُ} فَيَا مَنْ يَغِيبُ طُولَ عُمْرِهِ عَنْ طَاعَتِنَا , أَمَا تَخَافُ مِنْ غَضَبِنَا؟! خَالَفَ مُوسَى الْخَضِرَ فِي طَرِيقِ الصُّحْبَةِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَحَلَّ عُقْدَةَ الوصال بكف: " {هذا فراق بيني وبينك} "

أَمَا تَخَافُ يَا مَنْ لَمْ يَفِ لِمَوْلاهُ أَبَدًا أَنْ يَقُولَ فِي بَعْضِ خَطَايَاكَ: هَذَا فراق بيني وبينك. كَانَ الْحَسَنُ شَدِيدَ الْخَوْفِ وَالْبُكَاءِ فَعُوتِبَ عَلَى ذلك فقال: وما يؤمنني أن يَكُونُ اطَّلَعَ عَلَيَّ فِي بَعْضِ زَلاتِي فَقَالَ: اذْهَبْ فَلا غَفَرْتُ لَكَ! (لَعَلَّكَ غَضْبَانٌ وَقَلْبِي غَافِلٌ ... سَلامٌ عَلَى الدَّارَيْنِ إِنْ كُنْتَ رَاضِيَا) أخبرنا ابن حَبِيبٍ , أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي صَادِقٍ , أَنْبَأَنَا ابْنُ بَاكَوِيَةَ , حَدَّثَنَا أَبُو الْفَرَجِ الشُّرَيْحِيُّ , سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى , حَدَّثَنَا ابْنُ مُوسَى الزَّاهِدُ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْجَبَّانِ إِذْ سَمِعْتُ حَزِينًا يُنَاجِي مَوْلاهُ وَيَشْكُو إِلَيْهِ مَا يَلْقَاهُ يَقُولُ: سَيِّدِي! قَصَدَكَ عَبْدٌ رُوحُهُ لَدَيْكَ , وَقِيَادُهُ بِيَدَيْكَ , وَاشْتِيَاقُهُ إِلَيْكَ , وَحَسَرَاتُهُ عَلَيْكَ , لَيْلُهُ أَرَقٌ , وَنَهَارُهُ قَلَقٌ , وَأَحْشَاؤُهُ تَحْتَرِقُ , وَدُمُوعُهُ تَسْتَبِقُ شَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِكَ , وَحَنِينًا إِلَى لِقَائِكَ , لَيْسَ لَهُ رَاحَةٌ دُونَكَ , وَلا أَمَلٌ غَيْرَكَ. ثُمَّ بَكَى وَرَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: سَيِّدِي؟ عَظُمَ الْبَلاءُ وَقَلَّ الْعَزَاءُ , فَإِنْ أَكُ صَادِقًا فَأَمِتْنِي. وَشَهَقَ شَهْقَةً فَحَرَّكْتُهُ فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ , فَبَيْنَا أَنَا أُرَاعِيهِ وَإِذَا بِجَمَاعَةٍ قَدْ قَصَدُوهُ فَغَسَلُّوهُ وَحَنَّطُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ وَارْتَفَعُوا نَحْوَ السَّمَاءِ فَأَخَذَنِي فِكْرٌ وَغَشِيَتْنِي غَشْيَةٌ فَلَمْ أُفِقْ إِلا بَعْدَ حِينٍ. يَا سَالِكًا طَرِيقَ الْجَاهِلِينَ , رَاضِيًا بِلَعِبِ الْغَافِلِينَ , مَتَى نَرَى هَذَا الْقَلْبَ الْقَاسِيَ يَلِينُ , مَتَى تَبِيعُ الدُّنْيَا وَتَشْتَرِي الدِّينَ , واعجباً لِمَنْ آثَرَ الْفَانِيَ عَلَى مَا يَدُومُ , وَتَعَجَّلَ الْهَوَى وَاخْتَارَ الْمَذْمُومَ , وَدَنَتْ هِمَّتُهُ فَهُوَ حَوْلَ الْوَسَخِ يَحُومُ , وَأَقْبَلَ عَلَى الْقَبِيحِ نَاسِيًا يَوْمَ الْقُدُومِ , فَأَصْبَحَ شَرَّ خَاسِرٍ وَأَبْعَدَ مَلُومٍ. (أَتَغُرُّنِي آمَالِيَهْ ... بَعْدَ الْقُرُونِ الْخَالِيَهْ) (أَهْلُ الْمَرَاتِبِ وَالْمَنَاصِبِ ... وَالْقُصُورِ الْعَالِيَهْ) (عَادَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمُ ... بَعْدَ الْمَوَدَّةِ قاليه)

(نَادَتْ مَنَازِلُهُمْ قِفُوا ... وَتَأَمَّلُوا أَطْلالِيَهْ) (فَغُمُوضُ بَاطِنِ حَالِهِمْ ... يُبْدِيهِ ظَاهِرُ حَالِيَهْ) (كَانُوا عُقُودًا عُطِّلَتْ ... مِنْهَا النُّحُورُ الْحَالِيَهْ) (إِنِّي لأَذْكُرُ مَعْشَرًا ... مَا النفس عنهم ساليه) (فأقول والهفي عَلَى ... تِلْكَ الْوُجُوهِ الْبَالِيَهْ) أَفِقْ مِنْ سَكْرَتِكَ أَيُّهَا الْغَافِلُ , وَتَحَقَّقْ أَنَّكَ عَنْ قَرِيبٍ رَاحِلٌ , فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ قَلائِلُ , فَخُذْ نَصِيبَكَ مِنْ ظِلٍّ زَائِلٍ , وَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ وَافْعَلْ مَا أَنْتَ فَاعِلٌ. (أَنَسِيتَ يَا مَغْرُورُ أَنَّكَ مَيِّتٌ ... أَيْقِنْ بِأَنَّكَ فِي الْمَقَابِرِ نَازِلُ) (تَفْنَى وَتَبْلَى وَالْخَلائِقُ لِلْبِلَى ... أَبِمِثْلِ هَذَا الْعَيْشِ يَفْرَحُ عَاقِلُ) يَا لاحِقًا بِآبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ , لا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ الطَّلا إِلَى مَهَاتِهِ , يَا مَنْ جُلُّ هِمَّتِهِ جُلُّ خِيَاطِهِ وَطِهَاتِهِ , يُقَلِّبُهُ الْهَوَى وَهُوَ غَالِبُ دَهَاتِهِ , إِنْ كَانَ لَكَ فِي تَفْرِيطِكَ عُذْرٌ فَهَاتِهِ , يَا مُتَيَّمًا بِالدُّنْيَا فِي ثِيَابِ صُبٍّ , يَا مَنْ أَتَى الْمَعَاصِيَ وَنَسِيَ الرب يا مدنقاً بِالَخْطَايَا وَمَا اسْتَطَبَّ , يَا أَسِيرَ فَخِّ الأَمَانِي وَمَا نَالَ الْحُبَّ. إِخْوَانِي: ذَهَبَتِ الشَّبِيبَةُ الْحَبِيبَةُ , وَنِبَالُ الْمُصِيبَةِ بِهَا مُصِيبَةٌ , كَانَتْ أَوْقَاتُ الشَّبَابِ كَفَصْلِ الرَّبِيعِ , وَسَاعَاتُهُ كَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ , وَالْعَيْشُ فِيهَا كنوز الرياض , فأقبل الشيب يعد بالفناء ويوعد بصغر الإِنَاءِ , فَحَلَّ الْمُرَّةَ وَأَحَلَّ الْمَرِيرَةَ. (لأَمْوَاهُ الشَّبِيبَةِ كَيْفَ غِضْنَهْ ... وَرَوْضَاتُ الصِّبَا فِي الْيُبِسْ إِضْنَهْ) (وَآمَالُ النُّفُوسِ مُعَلَّلاتٌ ... وَلَكِنَّ الْحَوَادِثَ يَعْتَرِضْنَهْ) (فَلا الأَيَّامُ تَرْضَى مِنْ أَذَاةٍ ... وَلا الْمُهْجَاتُ مِنْ عَيْشٍ عَرَضْنَهْ) (هِيَ الأَشْبَاحُ كَالأَسْمَاءِ يَجْرِي الْقَضَاءُ ... فيرتفعن ويختفضنه)

الكلام على قوله تعالى

الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مخلدون} الولدان: الغلمان. وفي المراد بقوله {مخلدون} قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْخُلْدِ , وَالْمَعْنَى. أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلْبَقَاءِ لا يَتَغَيَّرُونَ , وَهُمْ عَلَى سِنٍّ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْمُقَرَّطُونَ وَيُقَالُ الْمُسَوَّرُونَ. سَجْعٌ هَذِهِ صِفَاتُ أَقْوَامٍ كَانُوا فِي مَرَاضِينَا يَجْتَهِدُونَ , ولأعدائنا بصدق ولائنا يجاهدون , وفي جادة الجد وَالاجْتِهَادِ يَجِدُّونَ , وَبَيْنَ الْخَوْفِ مِنَّا وَالطَّمَعِ فِينَا يترددون , فهم عند شقاء العصاة بالخلاف يَسْعَدُونَ , وَفِي جِنَانِ الْخُلُودِ عَلَى حِيَاضِ السُّعُودِ يردون {يطوف عليهم ولدان مخلدون} . وَضَحَتْ لَهُمْ مَحَجَّةُ النَّجَاةِ فَسَارُوا , وَلاحَتْ لَهُمْ أَنْوَارُ الْهُدَى فَاسْتَنَارُوا , وَعَرَفُوا دَارَ الْكَرِيمِ فَطَافُوا حَوْلَهَا وَدَارُوا , وَصَانُوا مَطْلُوبَهُمْ عَنِ الأَغْيَارِ وَغَارُوا , وَلَمْ يَرْضَوْا فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ بِالدُّونِ {يطوف عليهم ولدان مخلدون} . أَعْدَدْنَا لَهُمُ الْقُصُورَ وَالأَرَائِكَ , وَأَخْدَمْنَاهُمُ الْوِلْدَانَ وَالْمَلائِكَ وأبحناهم الجنان والممالك , وسلم عليهم في قصور الْمَالِكُ , وَإِنَّمَا وَهَبْنَا لَهُمْ جَمِيعَ ذَلِكَ لأَنَّهُمْ كَانُوا فِي خِدْمَتِنَا يَجْتَهِدُونَ {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مخلدون} . اسْتَنَارَتْ بِالتَّحْقِيقِ طَرِيقُهُمْ , وَتَمَّ إِسْعَادُهُمْ وَتَوْفِيقُهُمْ , وَتَحَقَّقَ بِالْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ تَحْقِيقُهُمْ , وَسَارُوا صَادِقِينَ فَوَضَحَتْ طَرِيقُهُمْ , وَشَرُفَ بِهِمْ مُصَاحِبُهُمْ وَرَفِيقُهُمْ , لأَنَّهُمْ أَخْلَصُوا فِي طَلَبِ مَا يَقْصِدُونَ {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} . يَا مَنْ سَبَقُوهُ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَتَخَلَّفَ , وَأَذْهَبَ عُمْرَهُ فِي الْبَطَالَةِ وَتَسَوَّفَ ,

سجع

وَعَرَفَ الْمَصِيرَ فَمَا عَرَفَ النَّجَاةَ وَلا تَعَرَّفَ , وَكُلِّفَ بِالدُّنْيَا فَإِذَا طَلَبَ الأُخْرَى تَكَلَّفَ , يَا مَنْ مَرَضُهُ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ جُمْلَتِهِ وَتَصَرَّفَ , اطْلُبِ الشِّفَاءَ يَا مَنْ عَلَى شَفَا هَلَكَةٍ قَدْ أَشْرَفَ , وَابْكِ عَلَى ضَلالِكَ فِي الْهَوَى فالقوم مهتدون {يطوف عليهم ولدان مخلدون} . قوله تعالى: {بأكواب وأباريق} الْكُوبُ إِنَاءٌ لا عُرْوَةٌ لَهُ وَلا خُرْطُومٌ. وَالأَبَارِيقُ: آنِيَةٌ لَهَا عُرًى وَخَرَاطِيمُ. سَجْعٌ تَرَكُوا لأَجْلِنَا لَذِيذَ الطَّعَامِ , وَسَارُوا يَطْلُبُونَ جَزِيلَ الإِنْعَامِ , وَقَامُوا فِي الْمُجَاهَدَةِ عَلَى الأَقْدَامِ , وَتَدَرَّعُوا مَلابِسَ الأَتْقِيَاءِ الْكِرَامِ , نُشِرَتْ لَهُمْ بِصِدْقِهِمُ الأَعْلامُ , وَحُلُّوا حِلْيَةَ الرِّضَا وَأَحَلُّوا مَحَلَّ التَّوْفِيقِ {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مخلدون بأكواب وأباريق} . طَالَ مَا عَطِشُوا فِي دُنْيَاهُمْ وَجَاعُوا , وَذَلُّوا لِسَيِّدِهِمْ صَادِقِينَ وَأَطَاعُوا , وَخَافُوا مِنْ عَظَمَتِهِ وَارْتَاعُوا , وَبِأُخْرَاهُمْ مَا يَفْنَى مِنْ دُنْيَاهُمْ بَاعُوا , وَحَرَسُوا بَضَائِعَ التُّقَى فَمَا فَرَّطُوا وَلا أَضَاعُوا , وَجَانَبُوا مَا يَشِينُ وَصَاحَبُوا مَا يَلِيقُ , فَطَافَ الْوِلْدَانُ عَلَى شِفَاهٍ يَبِسَتْ بِالصِّيَامِ وَأَتَى الرِّيقُ {يَطُوفُ عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق} . تَحَمَّلُوا أَثْقَالَ التَّكْلِيفِ , وَرَفَضُوا التَّمَادِيَ وَالتَّسْوِيفَ , وَقَطَعُوا طريق الفوز للتشريف , وجانبوا موجب العتاب وَالتَّعْنِيفِ , فَتَوَلاهُمْ مَوْلاهُمْ وَحَمَاهُمْ فِي الطَّرِيقِ , وَأَقَامُوا الولدان تسقيهم من الرحيق {بأكواب وأباريق} . قوله تعالى: {وكأس من معين} الْكَأْسُ: الإِنَاءُ بِمَا فِيهِ وَالْمَعِينُ: الْمَاءُ الطَّاهِرُ الجاري. قال الزجاج: المعين ها هنا: الْخَمْرُ يَجْرِي كَمَا يَجْرِي الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنَ الْعُيُونِ.

سَجْعٌ طَالَ مَا ظَمِئَتْ لأَجْلِنَا هَوَاجِرُهُمْ , طَالَ مَا يَبِسَتْ بِالصِّيَامِ لَنَا حَنَاجِرُهُمْ , طَالَ مَا غَرِقَتْ بِالدُّمُوعِ مَحَاجِرُهُمْ , طَالَ مَا أَزْعَجَتْهُمْ مَوَاعِظُهُمْ وَزَوَاجِرُهُمْ , طَالَ مَا صَدَقَتْ مُعَامَلَتُهُمْ وَمَتَاجِرُهُمْ , فَغَدًا يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْوِلْدَانُ وَالْحُورُ الْعِينُ {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وكأس من معين} . نَظَرَ إِلَيْهِمْ مَوْلاهُمْ فَارْتَضَاهُمْ , وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَأَعْطَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ مُنَاهُمْ , وَمَنَحَهُمْ مالا يُحْصَى مِنَ الْخَيْرِ وَحَبَاهُمْ , فَإِذَا قَدِمُوا عَلَيْهِ أَطْعَمَهُمْ وَسَقَاهُمْ وَأَجْلَسَهُمْ عَلَى مَوَائِدِ الْفَوَائِدِ مِنْ زَوَائِدِ التَّمْكِينِ {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} . لَقَدْ لَذَّ نَعِيمُهُمْ وَطَابَ , وَصِينَ حَرِيمُهُمْ يَوْمَ الثَّوَابِ , وَدَامَ تَكْرِيمُهُمْ وَزَالَ الْعِتَابُ , وَتَوَفَّرَ تَعْظِيمُهُمْ بَيْنَ الأَحْبَابِ , وَنَجَا غَرِيمُهُمْ مِنْ وَرَطَاتِ الْحِسَابِ , فأشرقت ديارهم وفتحت بالأبواب , وَطَافَ عَلَيْهِمُ الْوِلْدَانُ فِي الْمَقَامِ الأَمِينِ {بِأَكْوَابٍ وأباريق وكأس من معين} . قوله تعالى: {لا يصدعون عنها} أَيْ لا يَلْحَقُهُمُ الصُّدَاعُ الَّذِي يَلْحَقُ شَارِبِي خَمْرِ الدُّنْيَا. وَعَنْهَا: كِنَايَةٌ عَنِ الْكَأْسِ الْمَذْكُورَةِ , والمراد بها الخمر {ولا ينزفون} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الزَّايِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: فَمَنْ فَتَحَ فَالْمَعْنَى: لا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ بِشُرْبِهَا: يُقَالُ لِلسَّكْرَانِ نَزيِفٌ وَمَنْزُوفٌ. وَمَنْ كَسَرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لا يُنْفَدُونَ شَرَابَهُمْ أَيْ هُوَ دَائِمٌ أَبَدًا. وَالثَّانِي: لا يَسْكَرُونَ. قَالَ الشَّاعِرُ: (لَعَمْرِي لَئِنْ أُنْزِفْتُمْ أَوْ صَحَوْتُمْ ... لَبِئْسَ النَّدَامَى كُنْتُمْ آلَ أَبْجَرَا) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَمْرِ السُّكْرُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ السُّكْرَ إِنَّمَا يُرَادُ لِيُزِيلَ الْهَمَّ , وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ هَمٌّ , فَلا فَائِدَةَ فِي إِزَالَةِ الْعَقْلِ , أَلا تَرَى أَنَّ النَّوْمَ لَمَّا أُرِيدَ لِلرَّاحَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ تَعَبٌ لَمْ يَكُنْ نوم.

سجع

سَجْعٌ دَارٌ لَيْسَ فِيهَا مَا يَشِينُهَا , دَارٌ لا يَفْنَى مِنْهَا مَا يَزِينُهَا , دَارٌ لا يَزُولُ عِزُّهَا وَتَمْكِينُهَا , دَارٌ لا تَهْرَمُ فِيهَا عينها , لذة خمرهم تفوق ما كنوا يعرفون {لا يصدعون عنها ولا ينزفون} . دَارٌ أَشْرَقَتْ حَلاهَا , دَارٌ عَزَّتْ عُلاهَا , دَارٌ جل من بناها , دار طاب للأبرار سُكْنَاهَا , دَارٌ تَبْلُغُ النُّفُوسُ فِيهَا مُنَاهَا , أَيْنَ خَاطِبُوهَا فَقَدْ وَصَفْنَاهَا , سُكَّانُهَا قَدْ أَمِنُوا مَا كَانُوا يَخَافُونَ {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} . مَا أَتَمَّ نَعِيمَهُمْ , مَا أَعَزَّ تَكْرِيمَهُمْ , مَا أَظْرَفَ حَديِثَهُمْ وَقَدِيمَهُمْ , مَا أَصْوَنَ حَرِيمَهُمْ , مَا أَكْرَمَ كَرِيمَهُمْ , قَدْ مُنِحُوا الْخُلُودَ فَمَا يَبْرَحُونَ {لا يصدعون عنها ولا ينزفون} . قوله تعالى: {وفاكهة مما يتخيرون} أَيْ يَخْتَارُونَ تَقُولُ: تَخَيَّرْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَخَذْتُ خَيْرَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَخْطُرُ عَلَى قَلْبِ أَحَدِهِمُ الطَّيْرُ فَيَصِيرُ مُتَمَثِّلا بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى مَا اشتهى. وقال مغيث ابن سُمَيٍّ: يَقَعُ عَلَى أَغْصَانِ شَجَرَةِ طُوبَى طَيْرٌ كَأْمَثَالِ الْبُخْتِ فَإِذَا اشْتَهَى الرَّجُلُ طَيْرًا دَعَاهُ فَيَجِيءُ فَيَقَعُ عَلَى خِوَانِهِ فَيَأْكُلُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ قَدِيدًا وَمِنَ الآخَرِ شِوَاءً , ثُمَّ يَعُودُ طَيْرًا فَيَطِيرُ , فَيَذْهَبُ. سَجْعٌ ثِمَارُهُمْ فِي أَشْجَارِهِمْ وَافِرَةٌ , وَفَوَاكِهُهُمْ مِنَ الْعُيُوبِ طَاهِرَةٌ , وَوُجُوهُهُمْ بِأَنْوَارِ الْقَبُولِ نَاضِرَةٌ , وَعُيُونُهُمْ إِلَى مَوْلاهُمْ نَاظِرَةٌ , وَقَدْ حَازُوا شَرَفَ الدُّنْيَا وَفَوْزَ الآخِرَةِ , وَأَجَلُ النَّعِيمِ أنهم لا يتغيرون {وفاكهة مما يتخيرون} .

سجع

كَانُوا فِي أَوْقَاتِ الأَسْحَارِ يَنْتَبِهُونَ , وَبِالأُسَارَى فِي الاعتذار يتشبهون , وقد تركوا النفاق فما يُمَوِّهُونَ , وَالْتَزَمُوا الصِّدْقَ فِيمَا بِهِ يَتَفَوَّهُونَ , وَإِذَا أَمُّوا فَضِيلَةً فَمَا يَنْتَهُونَ عَنْهَا حَتَّى يَنْتَهُونَ , فَقَدْ فَازُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا كَانُوا يَطْلُبُونَ {وفاكهة مما يتخيرون} . قوله تعالى: {وحور عين} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عامر وعاصم: {وحور عين} بِالرَّفْعِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالْخَفْضِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَعَائِشَةُ: " وَحُورًا عِينًا " بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ رَفَعُوا كَرِهُوا الْخَفْضَ لأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} قَالُوا: وَالْحُورُ لَيْسَ مِمَّا يُطَافُ بِهِ. وَلَكِنَّهُ مَحْفُوظٌ عَلَى غَيْرِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلاءِ , لأَنَّ الْمَعْنَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ بِأَكْوَابٍ يُنَعَّمُونَ بِهَا , وَكَذَلِكَ يُنَعَّمُونَ بِحُورٍ عِينٍ وَالرَّفْعُ أَحْسَنُ. وَالْمَعْنَى: وَلَهُمْ حُورٌ عِينٌ وَمَنْ نَصَبَ حَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى , لأَنَّ الْمَعْنَى يُعْطَوْنَ هَذِهِ الأَشْيَاءَ وَيُعْطَوْنَ حُورًا عِينًا. وَيُقَالُ: عِينٌ حَوْرَاءُ إِذَا اشْتَدَّ بَيَاضُهَا وَخَلَصَ وَاشْتَدَّ سَوَادُهَا , وَلا يُقَالُ: امْرَأَةٌ حَوْرَاءُ إِلا أَنْ تَكُونَ مَعَ حَوَرِ عَيْنِهَا بَيْضَاءَ. وَالْعِينُ: كِبَارُ الْعُيُونِ حِسَانُهَا. قَالَ: ومعنى كأمثال اللؤلؤ: أي صفاؤهن وتلألؤهن كصفاء اللؤلؤ وتلألئه. والمكنون: الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ صَدَفِهِ فَلَمْ يُغَيِّرْهُ الزَّمَانُ واختلاف أحوال الاستعمال. " جزاء " مَنْصُوبٌ مَفْعُولٌ لَهُ , وَالْمَعْنَى: يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ جَزَاءً بِأَعْمَالِهِمْ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ , لأَنَّ الْمَعْنَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ يُجَازَوْنَ جَزَاءً بِأَعْمَالِهِمْ مُخَلَّدُونَ. سَجْعٌ عَلَى قوله تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} مَنَحَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ مَا لَيْسَ بِمَمْنُونٍ , وَأَمَّنَهُمْ فِي الْجَنَّةِ حَوَادِثَ الْمَنُونِ ,

وَجَعَلَهُمْ عَلَى حِفْظِ سِرِّهِ يُؤْتَمَنُونَ , إِذْ كَانُوا بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ يُؤْمِنُونَ , فَلَهُمْ [مِنْ] فَضْلِهِ فَوْقَ مَا يَشَاءُونَ {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} . خلقهم لخدمته وأرادهم , وأربحهم فِي مُعَامَلَتِهِ وَأَفَادَهُمْ , وَجَعَلَ الرِّضَا بِقَضَائِهِ زَادَهُمْ , وَأَعْطَاهُمْ مِنْ جَزِيلِ رِفْدِهِ وَزَادَهُمْ؛ وَأَثَابَهُمْ مَا لَمْ يَخْطِرْ عَلَى الظُّنُونِ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يعملون} . كَانُوا يُصَدِّقُونَ فِي الأَقْوَالِ وَيُخْلِصُونَ فِي الأَعْمَالِ , ولا يرضون بالدنىء مِنَ الْحَالِ , وَلا يَأْنَسُونَ بِمَا يَنْتَهِي إِلَى زَوَالٍ , فَجَزَاهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمْ ذُو الْجَلالِ , إِذْ أَسْكَنَهُمْ فِي جَنَّتِهِ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ متكئون {جزاء بما كانوا يعملون} . قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تأثيما} اللَّغْوُ [مَا] لا يُفِيدُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ خَمْرَ الْجَنَّةِ لا تَذْهَبُ بِعُقُولِهِمْ فَيَلْغُوا وَيَأْثَمُوا كَمَا يَكُونُ فِي خَمْرِ الدُّنْيَا. فَإِنْ قَالَ: التَّأْثِيمُ لا يُسْمَعُ فَكَيْفَ ذُكِرَ مَعَ الْمَسْمُوعِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُتْبِعُ آخِرَ الْكَلامِ أَوَّلَهُ وَإِنْ لَمْ يَحْسُنْ فِي أَحَدِهِمَا مَا يَحْسُنُ فِي الآخَرِ , فَيَقُولُونَ أَكَلْتُ خُبْزًا وَلَبَنًا. قَالَ الشَّاعِرُ: (إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ والعيون) وَالْعَيْنُ لا تُزَجَّجُ , فَرَدَّهَا عَلَى الْحَاجِبِ. وَقَالَ آخَرُ: (وَلَقَدْ لَقِيتُكَ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا) وَقَالَ آخَرُ: (عَلَّفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدَا ... )

سجع على قوله تعالى

سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لغوا ولا تأثيما} أَعْرَضُوا فِي الدُّنْيَا عَنِ اللَّغْوِ , وَتَرَكُوا رَائِقَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّهْوِ , وَآثَرُوا الذُّلَّ عَلَى الْغِنَى وَالزَّهْوِ , وَتَيَقَّظُوا لِلأَوَامِرِ مُعْرِضِينَ عَنِ السَّهْوِ , فَأَسْكَنَهُمْ فِي جَنَّتِهِ يَوْمَ زِيَارَتِهِ حَرِيمًا {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لغوا ولا تأثيما} . أَجْزَلْنَا لَهُمُ الثَّوَابَ , وَسَمَّيْنَاهُمْ بِالأَحْبَابِ , وَأَمَّنَاهُمْ مِنَ الْعَذَابِ , وَاصْطَفَيْنَاهُمْ لِلْمُخَاطَبَةِ وَالْجَوَابِ , وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ من كل باب , بِبِشَارَاتٍ تُوجِبُ تَقْدِيمًا {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ولا تأثيما} . تَبْدَؤُهُمْ بِالسَّلامِ , وَتَخُصُّهُمْ بِالتَّحَايَا وَالإِعْظَامِ , وَتَأْتِيهِمْ بِأَنْوَاعِ التُّحَفِ وَالإِكْرَامِ , وَتُبَشِّرُهُمْ بِالْخُلُودِ فِي دَارِ السَّلامِ , وَقَدْ أَمِنُوا أَنْ يَسْمَعُوا مِنَ اللَّغْوِ كَلامًا إلا قليلاً سلاماً سلاما. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى يَمِينِ آدَمَ حِينَ خَرَجَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ صُلْبِهِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالْقُرَظِيُّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا مَيَامِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مُبَارَكِينَ. قَالَهُ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمُ الَّذِينَ أُخِذُوا مِنْ شِقِّ آدَمَ الأَيْمَنِ. قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمُ الَّذِينَ مَنْزِلَتُهُمْ عَنِ اليمين. قاله ميمون ابن مِهْرَانَ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ. قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَالسَّابِعُ: أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وقوله: {ما أصحاب اليمين} تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِمْ. تَقُولُ: زِيدَ مَا زِيدَ.

سجع على قوله تعالى

سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أصحاب اليمين} أَصْحَابُ فَهْمٍ وَيَقِينٍ , أَصْحَابُ جِدٍّ وَتَمْكِينٍ , أَصْحَابُ عِزٍّ مَكِينٍ , أَصْحَابُ خَوْفٍ وَدِينٍ , يَتَنَزَّهُونَ عَنْ مَنْ يَمِينُ {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} . أَصْحَابُ مُلْكٍ لا يَزُولُ , أَصْحَابُ فَخْرٍ لا يَحُولُ , أَصْحَابُ تَقْدِيمٍ وَوُصُولٍ , أَصْحَابُ شَرَفٍ بِالْقَبُولِ , أَصْحَابُ تَمَكُّنٍ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ {مَا أَصْحَابُ اليمين} . أَصْحَابُ قُرْبٍ وَحُضُورٍ , أَصْحَابُ عِزٍّ وَنُورٍ , أَصْحَابُ جِنَانٍ وَقُصُورٍ , فِيهَا حِسَانٌ مِنَ الْحُورِ , أَصْحَابُ مُكْنَةٍ لَيْسَ فِيهَا قُصُورٌ , أَصْحَابُ مُثَمَّنٍ ثَمِينٍ {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} . قوله تعالى: {في سدر مخضود} السدر: شجرة النَّبْقِ. وَالْمَخْضُودُ الَّذِي لا شَوْكَ فِيهِ. وَالطَّلْحُ: الْمَوْزُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ. فَإِنْ قِيلَ: غَيْرُ الطَّلْحِ أَحْسَنُ مِنْهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَرُّوا بِوَجٍّ وَهُوَ وَادٍ بِالطَّائِفِ فَأَعْجَبَهُمْ سِدْرُهُ فَقَالُوا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلُ هَذَا. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَوَعَدَهُمْ مَا يَعْرِفُونَ وَيَمِيلُونَ إِلَيْهِ. وَالْمَنْضُودُ: قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ الَّذِي قَدْ نُضِّدَ بِالْحِمْلِ أَوْ بِالْوَرْقِ وَالْحِمْلُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ , فليس له ساق بارزة. سجع عباد طاعوا الْمَعْبُودَ , وَأَوْصَلُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ , وَسَأَلُوا مَنْ يَتَفَضَّلُ وَيَجُودُ , فَوَفَرَ نَصِيبُهُمْ مِنَ الرِّفْدِ الْمَرْفُودِ {فِي سدر مخضود} .

وَرَدُوا إِلَيْهِ أَكْرَمَ وُرُودٍ , وَأَمِنُوا فِي وِصَالِهِمْ عَائِقُ الصُّدُودِ , وَأَتْعَبُوا الأَعْضَاءَ فِي خِدْمَتِهِ وَالْجُلُودَ , فَمَنَحَهُمْ طِيبَ الْعَيْشِ فِي جَنَّاتِ الْخُلُودِ {فِي سدر مخضود} . تَصَافَوْا فَاصْطَفُّوا فِي خِدْمَتِهِ كَالْجُنُودِ , وَاسْتَلُّوا سُيُوفَ الْجِهَادِ مِنَ الْغُمُودِ , وَقَمَعُوا بِالصِّدْقِ الْعَدُوَّ الْكَنُودَ , وأرغموا بِسَبْقِهِمْ أَنْفَ الْحَسُودِ , فَخَصَّهُمْ مَوْلاهُمْ بِالْفَضْلِ وَالسُّعُودِ {في سدر مخضود} . طَلَبُوا بِالصِّدْقِ الصَّادِقَ الْوَدُودَ , وَسَعَوْا إِلَيْهِ يَسْأَلُونَ إِنْجَازَ الْوُعُودِ , وَطَمِعُوا فِي كَرَمِهِ أَنْ يَتَفَضَّلَ وَيَعُودَ , وَأَسْبَلُوا دُمُوعَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ عَلَى الْخُدُودِ , فَيَا لَنَعِيمِهِمْ وَأَطْيَبُ مِنْهُ الْخُلُودُ {فِي سِدْرٍ مخضود} . شَكَرُوا مَنْ أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ , وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ خَيْرٍ وَجُودٍ , وَعَلِمُوا أَنَّ الإخلاص هو المقصود , فاستعدوا وأوعدوا لليوم المشهود {في سدر مخضود} . تَمَكَّنُوا بِالْكِتَابِ الْقَديِمِ , وَطَلَبُوا مِنَ الْمُنْعِمِ الْكَرِيمِ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِالْفَضْلِ وَالتَّكْرِيمِ , فَمَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْخَيْرِ الْعَمِيمِ , فَهُمْ فِي الْجِنَانِ فِي أَحْلَى نَعِيمٍ , عِنْدَ مَلِكٍ كَبِيرٍ عَظِيمٍ , لَيْسَ بِوَالِدٍ وَلا مولود {في سدر مخضود وطلح منضود} . أَعَدَّ لَهُمْ أَوْفَى الذَّخَائِرِ , وَهَذَّبَ مِنْهُمُ الْبَوَاطِنَ والظواهر , وَجَعَلَهُمْ بَيْنَ عِبَادِهِ كَالنُّجُومِ الزَّوَاهِرِ , وَبَنَى لَهُمُ الْغُرَفَ بِاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوَاهِرِ , فَهُمْ فِي مَجْدٍ كَرِيمٍ وَسَعْدٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ منضود} . اسْتَزَارَهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ , وَخَصَّهُمْ بِكَرَامَتِهِ , وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِرُؤْيَتِهِ وَجَعَلَهُمْ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ مِنْ رِعَايَتِهِ , فِي ظِلِّ نَعِيمٍ دَائِمٍ مَمْدُودٍ {فِي سِدْرٍ مخضود وطلح منضود} . طَالَ مَا حَمَلُوا تَكْلِيفَهُ وَاسْتَقَلُّوا , وَسَعَوْا إِلَى مراضيه فما ضلوا , وتفيأوا

ظِلالَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَاسْتَظَلُّوا , وَرَضُوا بِقَضَائِهِ صَابِرِينَ فَمَا مَلُّوا , وَائْتَمَنَهُمْ عَلَى الإِيمَانِ فَمَا خَانُوا ولا غلوا , وكفوا أكفهم في غير ثِقَةً بِهِ وَغَلُّوا , فَعَزُّوا بِخِدْمَتِهِ إِذْ لِخِدْمَتِهِ ذَلُّوا , فَأَثَابَهْمُ نَعِيمًا لَيْسَ بِمَجْدُودٍ وَلا مَحْدُودٍ {في سدر مخضود وطلح منضود} . مَالُوا إِلَيْهِ وَتَرَكُوا الْمَالَ , وَعَلَّقُوا بِالطَّمَعِ فِي فَضْلِهِ الآمَالَ , وَأَعْرَضُوا عَنِ الدُّنْيَا شُغُلا بِالْمَآلِ , وَأَلِفُوا خِدْمَتَهُ وَهَجَرُوا الْمَلالَ , وَرَاضُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْفَقْرِ وَرَضُوا بِالإِقْلالِ , وَأَنِسُوا بِمُنَاجَاتِهِ وَنَسُوا الآلَ , فَإِذَا تَلَقَّاهُمْ مَوْلاهُمْ قَالَ مَرْحَبًا بِالْوُفُودِ {فِي سِدْرٍ مخضود وطلح منضود} . اللَّهُمَّ فَاجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الأَبْرَارِ , وَأَسْكِنَّا مَعَهُمْ فِي دَارِ الْقَرَارِ , وَلا تَجْعَلْنَا مِنَ الْمُخَالِفِينَ الفجار , وآتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ , يَا مَنْ لَمْ يَزَلْ يُنْعِمُ وَيَجُودُ. بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَالْحَمْدُ للَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ.

المجلس السابع عشر في قصة قارون

المجلس السابع عشر فِي قِصَّةِ قَارُونَ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي يَمْحُو الزلل ويصفح , ويغفر الخطأ وَيَمْسَحُ , كُلُّ مَنْ لاذَ بِهِ أَنْجَحَ , وَكُلُّ مَنْ عَامَلَهُ يَرْبَحُ , تَشْبِيهُهُ بِخَلْقِهِ قَبِيحٌ وَجَحْدُهُ أَقْبَحُ , رَفَعَ السَّمَاءَ بِغَيْرِ عَمَدٍ فَتَأَمَّلْ وَالْمَحْ , وَأَنْزَلَ الْقَطْرَ فَإِذَا الزَّرْعُ فِي الْمَاءِ يَسْبَحُ , وَالْمَوَاشِي بَعْدَ الْجَدْبِ فِي الْخِصْبِ تَسْرَحُ , وَأَقَامَ الْوُرْقَ عَلَى الْوَرَقِ تَشْكُرُ وَتَمْدَحُ , وَيَنْدُبُ هَدِيلُهَا وَلا نَدْبَ ابْنِ الْمُلَوَّحِ , أَغْنَى وَأَفْقَرَ وَالْفَقْرُ فِي الأَغْلَبِ أَصْلَحُ , كَمْ مِنْ غَنِيٍّ طَرَحَهُ الْبَطَرُ وَالأَشَرُ أَقْبَحَ مَطْرَحٍ , هَذَا قَارُونُ مَلَكَ الْكَثِيرَ وَبِالْقَلِيلِ لَمْ يَسْمَحْ , يَتَجَشَّأُ شَبَعًا وَيَنْسَى الطَّلَنْفَحَ , نُبِّهَ فَلَمْ يَزَلْ نَوْمُهُ وَلِيمَ فَلَمْ يَنْفَعْ لَوْمُهُ {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تفرح} . أَحْمَدُهُ مَا أَمْسَى الْمَسَاءُ وَمَا أَصْبَحَ , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ} , وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ صَاحِبِهِ فِي الدَّارِ وَالْغَارِ لَمْ يَبْرَحْ , وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي لَمْ يزل في إعزار الدِّينِ يَكْدَحُ , وَعَلَى عُثْمَانَ وَلا أَذْكُرُ مَا جَرَى وَلا أَشْرَحُ , وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي كَانَ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ فِي الْوُضُوءِ وَلا يَمْسَحُ , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَقْرَبِ الْكُلِّ نَسَبًا وَأَرْجَحَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ موسى} قَارُونُ بْنُ يصهرَ بْنِ قَاهِثَ. وَفِي نَسَبِهِ إِلَى مُوسَى ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّهِ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ.

وَالثَّانِي: ابْنَ خَالَتِهِ. رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّالِثُ: كَانَ عَمَّ مُوسَى. قَالَهُ ابْنُ إسحاق. قوله تعالى: {فبغى عليهم} وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ لِبَغِيَّةٍ جُعْلا عَلَى أَنْ تَقْذِفَ مُوسَى بِنَفْسِهَا , فَفَعَلَتْ فَاسْتَحْلَفَهَا مُوسَى عَلَى مَا قَالَتْ فَأَخْبَرَتْهُ بِقِصَّتِهَا. فَهَذَا بُغْيُهُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَغَى بِالْكُفْرِ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَالثَّالِثُ: بِالْكِبْرِ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ زَادَ فِي طُولِ ثِيَابِهِ شِبْرًا. قَالَهُ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ كَانَ يَخْدِمُ فِرْعَوْنَ وَيَتَعَدَّى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَظْلِمُهُمْ. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَفِي الْمُرَادِ بمفاتحه قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَفَاتِيحُ الْخَزَائِنِ الَّتِي تُفْتَحُ بِهَا الأَبْوَابُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. قَالَ خَيْثَمَةُ: كَانَتِ الْمَفَاتِيحُ الَّتِي تُفْتَحُ بِهَا الأَبْوَابُ وَقْرَ سِتِّينَ بَغْلا , وَكَانَتْ مِنْ جُلُودٍ , كُلُّ مِفْتَاحٍ مِثْلُ الإِصْبَعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَفَاتِيحِ الْخَزَائِنُ , قَالَهُ السُّدِّيُّ وَأَبُو صَالِحٍ وَالضَّحَّاكُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا الأَشْبَهُ وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ ابْنُ قُتَيْبَةَ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: كَانَتْ خَزَائِنُهُ تُحْمَلُ عَلَى أَرْبَعِينَ بَغْلا. قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} أَيْ تُثْقِلُهُمْ وَتُميِلُهُمْ. وَالْعُصْبَةُ: الْجَمَاعَةُ. وَفِي الْمُرَادِ بها ها هنا سِتَّةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَرْبَعُونَ رَجُلا. رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: مَا بَيْنَ الثَّلاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: خَمْسَةَ عَشَرَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ.

وَالرَّابِعُ: فَوْقَ الْعَشَرَةِ إِلَى الأَرْبَعِينَ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالْخَامِسُ: سَبْعُونَ رَجُلا. قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. وَالسَّادِسُ: مَا بَيْنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى الأَرْبَعِينَ. حَكَاهُ الزَّجَّاجُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} يعني المؤمنين {لا تفرح} أَيْ لا تَبْطَرْ {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدار الآخرة} يَعْنِي الْجَنَّةَ بِإِنْفَاقِهِ فِي طَاعَتِهِ. {وَلا تَنْسَ نصيبك من الدنيا} وهو أن تعمل فيها للآخرة {وأحسن} بِإِعْطَاءِ فَضْلِ مَالِكَ {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} بِأَنْ زَادَكَ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِكَ {وَلا تَبْغِ الفساد} بِأَنْ تَعْمَلَ بِالْمَعَاصِي. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى علم عندي} فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي بِصَنْعَةِ الذَّهَبِ. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا لا أَصْلَ لَهُ , لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له. وَالثَّانِي: رِضَا اللَّهِ عَنِّي. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَالثَّالِثُ: عَلَى خَيْرٍ عَلِمَهُ اللَّهُ مِنِّي. قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَالرَّابِعُ: إِنَّمَا أُعْطِيتُهُ بِفَضْلِ عِلْمِي. قَالَهُ الفراء. والخامس: على علم عندي بوجوده الْمَكَاسِبِ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يُسْأَلُ عن ذنوبهم المجرمون} قَالَ قَتَادَةُ: يَدْخُلُونَ النَّارَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. {فَخَرَجَ على قومه في زينته} فِي ثِيَابٍ حُمْرٍ وَصُفْرٍ. قَالَ عِكْرِمَةُ: فِي ثِيَابٍ مُعَصْفَرَةٍ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: خَرَجَ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ عَلَيْهَا سَرْجٌ أَحْمَرُ مِنْ أرجوان , ومعه أربعة آلاف مقاتل وثلاثمائة وَصِيفَةٍ عَلَيْهِنَّ الْحُلِيُّ وَالزِّينَةُ. عَلَى بِغَالٍ بِيضٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الأُرْجُوَانُ: صِبْغٌ أَحْمَرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {ولا يلقاها} يعني الكلمة التي قالها المؤمنون وهي: " {ثواب

الله خير} ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ أَتَى مُوسَى وَهَارُونُ قَارُونَ فَصَالَحَهُ عَلَى كُلِّ أَلْفِ دِينَارٍ دِينَارًا , وَعَلَى كُلِّ أَلْفِ دِرْهَمٍ دِرْهَمًا , وَعَلَى كُلِّ أَلْفِ شَاةٍ شَاةً. فَوَجَدَ ذَلِكَ مَالا كَثِيرًا فَجَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: إِنَّ موسى يريد أموالكم. قالوا: فَمَاذَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: نَجْعَلُ لِفُلانَةٍ الْبَغِيَّةِ جَعْلا فَتَقْذِفُهُ بِنَفْسِهَا. فَفَعَلُوا. ثُمَّ أَتَاهُ قَارُونُ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لِتَأْمُرَهُمْ وَتَنْهَاهُمْ. فَخَرَجَ فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ سَرَقَ قَطَعْنَا يَدَهُ , وَمَنِ افْتَرَى جَلَدْنَاهُ ثَمَانِينَ , وَمَنْ زَنَى وَلَيْسَتْ لَهُ امْرَأَةٌ جَلَدْنَاهُ مِائَةً فَإِنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ جَلَدْنَاهُ حَتَّى يَمُوتَ. فَقَالَ لَهُ قَارُونُ: وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُ أَنَا. قَالَ: فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ فَجَرْتَ بِفُلانَةٍ. قَالَ: ادْعُوهَا: فَلَمَّا جَاءَتْ قَالَ مُوسَى: يَا فُلانَةُ أَنَا فَعَلْتُ مَا يَقُولُ هَؤُلاءِ؟ قَالَتْ: لا كَذَبُوا , وَإِنَّمَا جَعَلُوا لِي جَعْلا عَلَى أَنْ أَقْذِفَكَ. فَسَجَدَ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: مُر الأَرْضَ بِمَا شِئْتَ. فَقَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِ. فَأَخَذَتْهُ حَتَّى غَيَّبَتْ سَرِيرَهُ , فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَاشَدَهُ بِالرَّحِمِ فَقَالَ: خُذِيهِ فَأَخَذَتْهُ حَتَّى غَيَّبَتْ قَدَمَيْهِ , فَمَا زَالَ يَقُولُ: خُذِيهِ. حَتَّى غَيَّبَتْهُ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: يَا مُوسَى مَا أَفَظَّكَ! وَعِزَّتِي وَجَلالِي لَوِ اسْتَغَاثَ بِي لأَغَثْتُهُ! قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: يُخْسَفُ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةٌ , فَيَبْلُغُ بِهِ إِلَى الأَرْضِ السُّفْلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَلَمَّا هَلَكَ قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّمَا أَهْلَكَهُ مُوسَى لِيَأْخُذَ مَالَهُ وَدَارَهُ. فَخَسَفَ اللَّهُ بِدَارِهِ وَبِمَالِهِ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ. {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فئة ينصرونه من دون الله} أَيْ يَمْنَعُونَهُ مِنَ اللَّهِ. فَأَصْبَحَ الْمُتَمَنُّونَ مَكَانَهُ قَدْ نَدِمُوا عَلَى تَمَنِّيهِمْ , فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ} قَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيُّ: إِنْ شِئْتَ قُلْتَ: " وَيْكَ " حَرْفٌ " وَأَنَّهُ " حَرْفٌ. وَالْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُ قال الشاعر:

الكلام على البسملة

(تسألاني الطلاق أن ترياني ... قل مالي قد جئتما بِهَجْرِ) (وَيْكَ أَنَّ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ ... يُحَبَّبْ وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ) وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ " وَيْ " حَرْفًا وَيَكُونُ مَعْنَى " وَيْ " التَّعَجُّبَ كَمَا تَقُولُ: وَيْ! لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَيَكُونُ مَعْنَى " كَأَنَّهُ " أَظُنُّهُ وَأَعْلَمُهُ , كَمَا تَقُولُ: كَأَنَّكَ بِالْفَرَجِ قَدْ أَقْبَلَ. وَالْمَعْنَى أَظُنُّهُ مُقْبِلا. وَإِنَّمَا وَصَلُوا الْيَاءَ بِالْكَافِ لأَنَّ الْكَلامَ بِهِمَا كَثُرَ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: " وَيْ " مَفْصُولَةٌ مِنْ " كَأَنَّ " وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ نَدِمُوا فَقَالُوا: وَيْ. مُتَنَدِّمِينَ عَلَى مَا سَلَفَ منهم. {تلك الدار الآخرة} يَعْنِي الْجَنَّةَ {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرض} وهو البغي {ولا فسادا} وهو العمل بالمعاصي {والعاقبة} المحمودة {للمتقين} . الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (أَيَا وَالِيَ الْمِصْرِ لا تَظْلِمَنَّ ... فَكَمْ جَاءَ مِثْلُكَ ثُمَّ انْصَرَفْ) (وَقَدْ أَبَّرَ النَّخْلَ مُلاكُهُ ... فَنَقَصَ عِزُّهُمْ وَاحْتَرَفْ) (فَلا تُرْسِلَنَّ حِبَالَ الْمُنَى ... وَأَمْسِكْ بِكَفِّكَ مِنْهَا طَرَفْ) (تُقَارِفُ مُسْتَكْثَرَاتِ الذُّنُوبِ ... وَتَغْفَلْ عَنْ ذَنْبِكَ الْمُقْتَرَفْ) أَيْنَ مَنْ جَمَعَ الأَمْوَالَ وَتَمَوَّلَهَا , وَطَافَ الْبِلادَ وَجَوَّلَهَا , وَشَقَّ أَنْهَارَ الأَرْضِ وَجَدْوَلَهَا , رَأَتْ وَاللَّهِ كُلُّ عَامِلَةٍ عَمَلَهَا , وَنَزَلَتْ بَعْدَ سَفَرِهَا مَنْزِلَهَا , عَنَتِ الْوُجُوهُ عَلَى جُسُورِ الْمَنَايَا الْحَوَابِسِ , وَأَذَلَّ قَبْرُ الْمَوْتِ الشَّوَامِسَ , وَصَيَّرَ الْفُصَحَاءَ فِي مَقَامِ الْهَوَامِسِ , يَا لِلَّيَالِي الْمَرَضِ إِنَّهَا لَيَالٍ دَوَامِسُ , يا لساعة اللحد حين تحثو الروامس , كم لَقِيتَ وُجُوهَ نَوَاعِمَ مِنْ أَكُفٍّ طَوَامِسَ , كَمْ تَرَحَّلَتْ مِنْ دَارِ السَّلامَةِ إِلَى عَسْكَرِ الْبِلَى فَوَارِسُ. (سَتَقْفُرُ الأَمْصَارُ مِنْ أَهْلِهَا ... بِحَادِثَاتٍ تَعْمُرُ السبسبا)

(يُؤَشَّبُ الْحَافِظُ أَقْفَالُهُ ... وَتَفْتَحُ الآفَاتُ مَا أَشَّبَا) لقد هلكت في الزمان جديسه وطسمه , وَلَقَدْ ذَهَبَ مَنْ كَانَ وَكَانَ اسْمُهُ , فَلا عَيْنُهُ تَرَى وَلا رَسْمُهُ , ولا جَوْهَرُهُ يُحِسُّ وَلا جِسْمُهُ , تَبَدَّدَ وَاللَّهِ بِالْمَمَاتِ نَظْمُهُ , وَلَحِقَ بالرفات عظمه. كم طوفوا بالبلاد وَجَوَّلُوا , كَمْ أَوْعَدُوا أَعْدَاءَهُمْ وَهَوَّلُوا , كَمْ جَمَعُوا وكم تخولوا , كم اقتنوا وكم تمولوا , كم طالوا وما تطولوا , والمحنة أنهم على الأمل عَوَّلُوا , فَمَا كَانَ إِلا الْقَلِيلُ وَتَغَوَّلُوا , وَجُمْلَةُ الأَمْرِ أَنَّهُمْ تَحَوَّلُوا , وَاسْتَطَالَتْ عَلَى الْوَرَى عُصَبُ مَا تَطَوَّلُوا , ظَهَرُوا فِي الْبِلادِ عَصْرًا وَطَافُوا وَجَوَّلُوا , خُوِّلُوا نِعْمَةً فَلَمْ يَشْكُرُوا مَا تُخُوِّلُوا , فانظر الآن فيهم أي غول تَغَوَّلُوا , وَأَقَامُوا فَمَا قِيلَ فَازُوا وَلَكِنْ تَحَوَّلُوا. كم ملأوا سَهْلا وَجَبَلا شَاءً وَإِبِلا , فَلَمَّا سَلَكُوا إِلَى الموت سبلا , وعاينوه يوم الرحيل قبلا , وتهيأوا لِلنُّزُولِ فِي دَارِ الْبِلَى عَلِمُوا أَنْ مَا كانوا فيه عين البلا. (أطاعوا ذا الخداع وَصَدَّقُوهُ ... وَكَمْ نَصَحَ النَّصِيحُ فَكَذَّبُوهُ) (وَلَمْ يَرَضَوْا بما سكنوا مشيد ... إِلَى أَنْ فَضَّضُوهُ وَذَهَّبُوهُ) (أَظَلُّوا بِالْقَبِيحِ فَتَابَعُوهُ ... وَلَوْ أُمِرُوا بِهِ لَتَجَنَّبُوهُ) (نَهَاهُمْ عَنْ طِلابِ الْمَالِ زُهْدٌ ... فَنَادَى الْحِرْصُ وَيْلَكُمُ اطْلُبُوهُ) (فَأَلْقَاهَا إِلَى أَسْمَاعِ غُثْرٍ ... إِذَا عَرَفُوا الطَّرِيقَ تَنَكَّبُوهُ) (وَحَبْلُ الْعِيسِ مُنْتَكَثٌ ضَعِيفٌ ... وَنِعْمَ الرَّأْيُ أَنْ لا يَجْذِبُوهُ) (حَسِبْتُمْ يَا بَنِي حَوَّا شَقَاءً ... نجاؤكم الذي لم تحسبوه) (أَدِينُ الشَّرِّ مِنْكُمْ فَاحْذَرُوهُ ... وَمَاتَ الْخَيْرُ فِيكُمْ فَانْدُبُوهُ) كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: أَسْمَعُ أَصْوَاتًا وَلا أَرَى أَنِيسًا , إِنَّمَا دِينُ أَحَدِهِمْ لَعْقَةٌ عَلَى لِسَانِهِ , وَلَوْ سَأَلْتَهُ: أَتَعْرِفُ يَوْمَ الْحِسَابِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَكَذَبَ وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.

الكلام على قوله تعالى

يَا مَنْ كِتَابُهُ يَحْوِي حَتَّى حَبَّةَ خَرْدَلَةٍ , وعليه شاهدان كلامهما معدل , وسيلتحف التُّرَابَ وَيَتَوَسَّدُ الْجَنْدَلَ , وَهُوَ يَمْشِي مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ مِشْيَةَ الشَّمَرْدَلِ. (لَعَمْرُكَ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ ... وَلا الْحَيُّ فِي دَارِ السَّلامَةِ آمِنُ) (تُحَارِبُنَا أَيَّامُنَا وَلَنَا رِضًى ... بِذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْمَنَايَا تُهَادِنُ) (أَرَى الْحِيرَةَ الْبَيْضَاءَ عَادَتْ قُصُورُهَا ... خَلاءً وَلَمْ تَثْبُتْ لِكِسْرَى الْمَدَائِنُ) (رَكِبْنَا مِنَ الآمَالِ فِي الدَّهْرِ لُجَّةً ... فَمَا صَبَرَتْ لِلْمَوْجِ تِلْكَ السَّفَائِنُ) (تَجِيءُ الرَّزَايَا بِالْمَنَايَا كَأَنَّمَا ... نُفُوسُ الْبَرَايَا لِلْحِمَامِ رَهَائِنُ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {ذَرْهُمْ يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل} إِخْوَانِي: اعْتَبِرُوا بِمَنْ مَضَى مِنَ الأَقْرَانِ , وَتَفَكَّرُوا فِي مَنْ بَنَى كَيْفَ بَانَ , تَقَلَّبَتْ وَاللَّهِ بِهِمُ الأَحْوَالُ وَلَعِبَتْ بِهِمْ أَيْدِي الْبَلْبَالِ , وَنَسِيَهُمْ أحبابهم بَعْدَ لَيَالٍ , وَعَانَقُوا التُّرَابَ وَفَارَقُوا الْمَالَ , فَلَوْ أَذِنَ لِصَامِتِهِمْ لَقَالَ: (مَنْ رَآنَا فَلْيُحَدِّثْ نَفْسَهُ ... أَنَّهُ مُوفٍ عَلَى قُرْبِ زَوَالِ) (وَصُرُوفُ الدَّهْرِ لا يَبْقَى لَهَا ... وَلِمَا تَأْتِي بِهِ صُمُّ الْجِبَالِ) (رُبَّ رَكْبٍ قَدْ أَنَاخُوا حَوْلَنَا ... يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ الزُّلالِ) (وَالأَبَارِيقُ عَلَيْهَا قُدُمٌ ... وَعِتَاقُ الخيل تردى فِي الْجِلالِ) (عَمَّرُوا دَهْرًا بِعَيْشٍ حَسَنٍ ... آمِنِي دَهْرَهُمْ غَيْرَ عِجَالِ) (ثُمَّ أَضْحَوْا لَعِبَ الدَّهْرُ بهم ... وكذلك الدَّهْرُ حَالٌ بَعْدَ حَالِ) يَا مَشْغُولا بِالأَمَلِ وَالْمُنَى , تَأَهَّبْ لِمَصْرَعٍ قَدْ قَارَبَ وَدَنَا , وَتَزَوَّدْ لِلْقَبْرِ مِنَ الصَّبْرِ كَفَنًا , وَتَهَيَّأْ لِحَرْبِ الْهَوَى فَإِذَا عَزَمْتَ فَأَلْقِ الْقَنَا , فَاللُّحُودُ الْمَقِيلُ وَبَيْتُ الْمَوْتَى لا يُبْتَنَى , وَحَاكِمُ الْعَدْلِ يُجَازِي كُلا بما جنى.

(لا بُدَّ لِلإِنْسَانِ مِنْ ضَجْعَةٍ ... لا تَقْلِبُ الْمُضْجَعَ عَنْ جَنْبِهِ) (يَنْسَى بِهَا مَا كَانَ مِنْ عُجْبِهِ ... بِمَا أَذَاقَ الْمَوْتُ مِنْ كَرْبِهِ) (نَحْنُ بَنُو الْمَوْتَى فَمَا بَالُنَا ... نَعَافُ مَا لا بُدَّ مِنْ شُرْبِهِ) (يَمُوتُ رَاعِي الضَّأْنِ فِي جَهْلِهِ ... مَوْتَةَ جَالِينُوسَ فِي طِبِّهِ) (وَرُبَّمَا زَادَ عَلَى عُمْرِهِ ... وَزَادَ فِي الأَمْنِ عَلَى سِرْبِهِ) (وَغَايَةُ الْمُفَرِّطِ فِي سَلْمِهِ ... كَغَايَةِ الْمُفَرِّطِ فِي حَرْبِهِ) كَأَنَّكَ بِكَ وَقَدْ مَدَّ كَفَّهُ إِلَيْكَ الْمُخَالِسُ , وَافْتَرَسَكَ أَجَلٌ كَمْ قَدْ فَرَى فِي الْفَرَائِسِ , وَحَلَلْتَ بِقَاعِ الْبِلَى فَخَلَتْ مِنْكَ الْمَجَالِسُ , وَنَفَرَ وَبَعُدَ عَنْكَ الصَّدِيقُ الصَّدُوقُ وَالْوَدُودُ الْمُجَانِسُ , وَتَرَكَ زِيَارَتَكَ مَنْ كَانَ لَكَ فِي الْوَحْدَةِ يُؤَانِسُ , وَحُبِسْتَ فِي ضَنْكٍ ضَيِّقٍ مِنَ الْمَحَابِسِ , وَأَصْبَحَ رَبْعُكَ بَعْدَ بُعْدِكَ وَهُوَ خَالٍ دَارِسُ , وَنَزَلْتَ لَحْدَكَ وَحْدَكَ فِي ظُلْمِ الْحَنَادِسِ , وبكى الأهل ساعة والرؤوس لِلنَّوَى نَوَاكِسُ , ثُمَّ عَادُوا إِلَى الْحِلَّةِ وَكُلٌّ فِي حِلِّهِ آيِسٌ , وَانْطَلَقُوا فَأَطْلَقُوا أَمْوَالَكَ الْحَبَائِسَ , وَأَنْتَ تَتَمَنَّى الْعَوْدَ كَلا وَالْعُودُ يَابِسٌ , وَلَقِيتَ قَرْنًا مِنَ الرَّدَى فَيَا شِدَّةَ الْمُتَشَاوِسِ , وَتَعَوَّضْتَ الرَّغَامَ عَلَى الرَّغَمِ وَالثَّرَى بِالثَّرَى بَعْدَ الْمَلابِسِ , فَيَا بُؤْسَ هَذَا الْمَلْبُوسِ وَيَا ذُلَّ هَذَا اللابِسِ , فَلَوِ اطُّلِعَ عَلَيْكَ بَعْدَ يَوْمٍ خَامِسٍ أَوْ سَادِسٍ لَرُئِيَ أَثَرٌ بَعْدَ عَيْنٍ قَدْ غَيَّرَتْهُ الطَّوَامِسُ , وَجَاءَكَ مُنْكَرُ وَنَكِيرُ فَخَبِّرْ عَنْ حَرْبِ الْبَسُوسِ وَدَاحِسَ , وَبَقِيتَ حَدِيثًا يَجْرِي عَلَى مَرِّ الْمَدَى فِي الْمَدَارِسِ , فَاغْتَنِمْ حَيَاتَكَ قَبْلَ الْمَمَاتِ فَأَنْفَاسُ النُّفُوسِ نَفَائِسُ , يَا ذَا الأَمَلِ الطَّوِيلِ كَمْ آذَى حَدِيثُ الْوَسَاوِسِ , يَا مُنَاغِيَ الْمُنَى وَدِّعْ هَذِهِ الْهَوَاجِسَ , أَيْنَ أَرْبَابَ الْقُصُورِ , هَذِهِ طِوَلُهَا تَمَنْطَقَ بِالْخَرَابِ سُورُهَا فَنَطَقَ مُحِيلُهَا , سُحِبَتْ عَلَى جُيُوبِهَا مِنْ جُنُوبِها ذُيُولُهَا , قُلْ لَهَا أَيْنَ عَامِرُهَا أَمْ أَيْنَ نَزِيلُهَا , يَا كَثِيرَ الأَسْئِلَةِ لَهَا كَمْ تُطِيلُهَا , كَانَتْ فِيهَا جيرة ثم أتى رحيلها , فاليوم تندب أطلالهم وَالْغِرْبَانُ رَسِيلُهَا , مَا رَدَّتْ شَوَاجِرُ الرِّمَاحِ وَلا دَفَعَ صَقِيلُهَا , وَلا مَنَعَتْ تِلْكَ الظِّبَا كَالرَّعْدِ ضليلها , أَمْرٌ لا مَرَدَّ لَهُ مَرَّتْ بِهِ مُرْدُهَا وَكُهُولُهَا , وَتَتَابَعَتْ بِهِ آسَادُهَا فِي بَحْرِ الْهَلاكِ وَشُبُولُهَا , وَعُقِرَتْ فِي جَوَادِ النَّوَى بِسَيْفِ الثَّوَاءِ خيولها ,

وَتَسَاوَى فِي جَرِيرِ الآفَاتِ صَعْبُهَا وَذَلُولُهَا , أَمَا يَكْفِي الْقُلُوبَ الْغَافِلَةَ وَعْظًا دَلِيلُهَا , يَا لِنُفوسٍ أمرَضها الْهَوَى مَا يَشْفَى عَلِيلُهَا , أَمَا هَذِهِ طَرِيقُهَا أَمَا هَذِهِ سَبِيلُهَا , يَا لَهَا مِنْ مَوْعِظَةٍ كَمْ تَسْمَعُهَا وَكَمْ تَقُولُهَا. خَلَجَ وَاللَّهِ الْبَيْنُ مِنَ الْقَوْمِ مَنْ خَلَجَ , وَأَمَّ الْمَوْتُ آمِلَهُمْ فَلا تَسْأَلْ كَيْفَ انْزَعَجَ، وَاسْتَنْزَلَ عَالِيَهُمْ في أَعَالِي الدَّرَجِ فَدَرَجَ، وَسَارُوا فِي عَسْكَرِ الْبِلَى فَأَتْلَفَهُمُ الْوَهَجُ , وَزَفَرَتْ أَبْدَانُهُمْ بَعْدَ طِيبِ الأَرَجِ , وَنَسَجَ لَهُمُ الْبِلَى ثَوْبًا فَيَا بِئْسَ مَا نَسَجَ , وَعَامُوا فِي بَحْرِ الأَسَى فَلَجَّجَ بِهِمْ فِي اللُّجَجِ , وَلَقِيَهُمْ مِنَ الْبَلايَا مَا ضُوعِفَ وَازْدَوَجَ , وَاسْتَغَاثُوا وَلَكِنْ فِي غَيْرِ أَوَانِ الْفَرَجِ , وَطَلَبُوا رَاحَةً وَلَكِنَّهُ زَمَانُ الْحَرَجِ , وَسُئِلُوا فَعَدِمُوا تَصْحِيحَ الْجَوَابِ وَتَحْقِيقَ الْحُجَجِ , فَيَا أَسَفَا لِمَسْئُولِهِمْ لا فاز ولا فلج: (إن قومي صد عنهم توبة ... شقق البرد اليماني يعط) (قل لأحداث رَمَى الدَّهْرُ بِهِمْ ... فَهُمْ فِي رُقَعِ الدَّهْرِ نُقَطْ) (ذَاقَهُمْ مُسْتَحْلِيًا أَرْوَاحَهُمْ ... وَرَأَى الْمَضْغَ طَوِيلا فاشترط) (وتواق غَيْرُ بَاقِينَ وَكَمْ ... يَلْبَثُ الْقَارِبُ مِنْ بَعْدِ الْفَرَطْ) (وَإِذَا كَشَّفْتُ مَا يُرْمِضُنِي ... مِنْ مَضِيضِ الدَّاءِ قَالَ الْحِلْمُ غَطّ) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَادِقٍ , أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَاكَوِيَةَ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ بَكْرٍ الرُّويَانِيُّ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَارَسْتَانِيُّ , حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الرَّبَعِيُّ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْفِهْرِيِّ , عَنْ أَبِيهِ أَنَّ فَتًى كَانَ عَلَى عَهْدِ الْحَسَنِ , وَكَانَ مُفَرِّطًا فِي حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ فِي تَفْرِيطِهِ أَخَذَهُ اللَّهُ بِالْمَرَضِ أَخْذَةً شَدِيدَةً , فَلَمَّا آلَمَهُ الْوَجَعُ نَادَى بِصَوْتٍ مُنْكَسِرٍ مَحْزُونٍ: إِلَهِي وَسَيِّدِي أَقِلْ عَثْرَتِي وَأَقِمْنِي مِنْ صَرْعَتِي , فَإِنِّي لا أَعُودُ. فَأَقَامَهُ اللَّهُ مِنْ صَرْعَتِهِ فَرَجَعَ إِلَى أَشَدَّ مِمَّا كَانَ فيه , فأخذه الله أخذة ثالثة فَقَالَ إِلَهِي أَقِلْنِي عَثْرَتِي وَأَقِمْنِي مِنْ صَرْعَتِي فَإِنِّي لا أَعُودُ أَبَدًا , فَأَقَامَهُ اللَّهُ مِنْ

صرعته فرجع إلى أشد مما كان , فبينما هُوَ مَارٌّ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ إِذْ نَظَرَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ يَضْرِبُ بِأَرْدَانِهِ وَيَنْظُرُ فِي أَعْطَافِهِ فَقَالَ: يَا فَتَى خَفِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. فَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي يَا أَبَا سَعِيدٍ فَإِنَّا أَحْدَاثٌ نُرِيدُ أَنْ نَذُوقَ الدُّنْيَا. فَقَالَ الْحَسَنُ: كَأَنَّكُمْ بِالْمَوْتِ قَدْ نَزَلَ بِسَاحَةِ هَذَا الشَّابِّ فَرَضَّهُ رَضًّا. فَبَيْنَمَا الْحَسَنُ فِي مَجْلِسِهِ إِذْ أَقْبَلَ أَخُو الْفَتَى إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّ الْفَتَى الَّذِي كُنْتَ تَعِظُهُ هُوَ أَخِي , وَقَدْ وَقَعَ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَغُصَصِهِ. فَقَالَ الْحَسَنُ لأَصْحَابِهِ: قُومُوا نَنْظُرُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِ. فَلَمَّا أَقْبَلَ الْحَسَنُ قَرَعَ الْبَابَ فَقَالَتْ أُمُّهُ مَنْ بِالْبَابِ؟ فَقَالَ: الْحَسَنُ. فَقَالَتْ: يَا أَبَا سَعِيدٍ مِثْلُكَ يَأْتِي إِلَى مِثْلِ وَلَدِي! أَيَّ شَيْءٍ تَعْمَلُ عَلَى بَابِ وَلَدِي وَوَلَدِي لَمْ يَتْرُكْ ذَنْبًا إِلا رَكِبَهُ وَلا مُحَرَّمًا إِلا انْتَهَكَهُ. فَقَالَ: اسْتَأْذِنِي لَنَا عَلَيْهِ فَإِنَّ ربنا سبحانه يقيل العثرات. فقالت: يَا بُنَيَّ هَذَا الْحَسَنُ بِالْبَابِ , فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ أَتُرَى جَاءَنِي الْحَسَنُ عَائِدًا أَوْ مُوَبِّخًا؟ افْتَحِي لَهُ الْبَابَ. فَفَتَحَتْ لَهُ فَدَخَلَ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ يُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ قَالَ لَهُ: يَا فَتَى اسْتَقِلِ اللَّهَ يُقِلْكَ. فَقَالَ: يَا أبا سعيد إنه لا يفعل. قال: أو تصف اللَّهَ بِالْبُخْلِ وَهُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ! فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنِّي عَصَيْتُهُ فَاسْتَقَلْتُهُ فَأَقَالَنِي , فَعَصَيْتُهُ فَأَمْرَضَنِي , فَاسْتَقَلْتُهُ فَأَقَالَنِي , وَهَذِهِ الْخَامِسَةُ , فَلَمَّا اسْتَقَلْتُهُ نَادَى مُنَادٍ مِنْ زَاوِيَةِ الْبَيْتِ , أَسْمَعُ الصَّوْتَ وَلا أَرَى الشَّخْصَ: لا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ قَدْ جَرَّبْنَاكَ مِرَارًا فَوَجَدْنَاكَ غَدَّارًا. فَقَالَ الْحَسَنُ لأَصْحَابِهِ: قُومُوا بِنَا. فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ الْحَسَنُ قَالَ لأُمِّهِ: هَذَا الْحَسَنُ قَدْ آيَسَنِي مِنْ سيدي وسيدي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ , يَا أُمَّاهُ إِذَا رَأَيْتِينِي وَقَدْ تَحَوَّلَ السَّوَادُ بَيَاضًا وَرَشَحَ لِلْمَوْتِ جَبِينِي وَغَارَتِ الْعَيْنَانِ وَاصْفَرَّ الْبَنَانُ وَانْقَطَعَ اللِّسَانُ , فَخُذِي الْمِدْرَعَةَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي وَضَعِي خَدِّي عَلَى الثَّرَى وَاسْتَوْهِبِينِي مِنْ سَيِّدِي , فَإِنَّ سَيِّدِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ. فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ يُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ أَخَذَتِ الْمِدْرَعَةَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَوَضَعَتْ خَدَّهُ عَلَى التُّرَابِ وَشَدَّتْ وَسَطَهَا بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ وَنَشَرَتْ شَعْرَهَا وَرَفَعَتْ رَأْسَهَا نَحْوَ السَّمَاءِ ثُمَّ نَادَتْ: إِلَهِي وَسَيِّدِي أَسْأَلُكَ بِالرَّحْمَةِ الَّتِي رَحِمْتَ بِهَا يَعْقُوبَ فَجَمَعْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِهِ , وَأَسْأَلُكَ بِالرَّحْمَةِ الَّتِي رَحِمْتَ بها أيوب

سجع على قوله تعالى

فَكَشَفْتَ عَنْهُ الْبَلاءَ إِلا مَا رَحِمْتَ وَلَدِي وَوَهَبْتَ لِي ذَنْبَهُ. وَسَمِعَ الْحَسَنُ هَاتِفًا يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَحِمَ الْفَتَى وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَحَضَرَ الْحَسَنُ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ جِنَازَتَهُ. يَا أَهْلَ الذُّنُوبِ لا يَغُرَّنَّكُمُ الإِمْهَالُ فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ وَلَيَالٍ , رُبَّ مَشْغُولٍ بِلَذَّاتِهِ عَنْ ذِكْرِ تَخْرِيبِ ذَاتِهِ , يَلْهُو بِأَمَلِهِ عَنْ تَجْوِيدِ عَمَلِهِ , يَتَقَلَّبُ فِي أَغْرَاضِهِ نَاسِيًا قُرْبَ إمراضه , بغته الفاجع بباسه فأخذ عَنْ أَهْلِهِ وَجُلاسِهِ. سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل} كَمْ مَأْخُوذٍ عَلَى الزَّلَلِ خُتِمَ لَهُ بِسُوءِ الْعَمَلِ , نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ , فَيَا هَوْلَ مَا نَزَلَ , فَأَسْكَنَهُ الْقَبْرَ فَكَأَنْ لَمْ يَزَلْ , وَهَذَا مَصِيرُ الْغَافِلِ لَوْ غَفَلَ {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ويلههم الأمل} . كَمْ نَائِمٍ عَلَى فِرَاشِ التَّقْصِيرِ , مُغْتَرٌّ بِعُمْرٍ قَصِيرٍ , صَاحَ بِهِ فَلَمْ يُبَالِ النَّذِيرَ , فَاسْتَلَبَهُ الْخَطَأُ وَالتَّبْذِيرُ , فَلَمَّا أَحَسَّ الْبَاسَ ثَارَتْ مِنْ نِيرَانِ النَّدَمِ شُعَلٌ {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمل} . كَمْ مُسْتَحِلٍّ شَرَابَ الْهَوَى شَرِبَ مِنْ كَأْسِهِ حَتَّى ارْتَوَى , بَيْنَا هُوَ عَلَى جَادَّةِ إِعْرَاضِهِ هَوَى , فَمَا نَفَعَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مَا حَوَى , وَلا مَا شَرِبَ وَلا مَا أَكَلَ {ذَرْهُمْ يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل} . لا تَغْتَرِرْ بِنَعِيمِ الْقَوْمِ , فَإِنَّ غَدًا بَعْدَ الْيَوْمِ , دَعْهُمْ فَمَا يُؤْثَرُ فِيهِمُ اللَّوْمُ , وَهَلْ ينفع التحريك مَيِّتًا وَهَلْ {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ} . يَجْمَعُونَ الْحُطَامَ بِكَسْبِ الْحَرَامِ , وَيَتَفَكَّرُونَ فِي نَصْبِ شَرَكِ الآثَامِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ , يَرْقُدُونَ فِي اللَّيْلِ وَفِكْرُهُمْ فِي الْوَيْلِ طَوِيلٌ لا يَنَامُ , وَالأَقْدَامُ فِيمَا لا يَحِلُّ إِقْدَامٌ تَسْعَى فِي هَوَاهَا سَعْيَ الرَّمَلِ {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ} . مَا عِنْدَهُمْ خَبَرٌ مِنَ السَّاعَةِ , وَالْعُمْرُ يَمْضِي سَاعَةً فَسَاعَةً , خَسِرُوا فِي أَشْرَفِ

تِجَارَةٍ وَأَغْلَى بِضَاعَةٍ , يَتَثَاقَلُونَ تَثَاقُلَ عُطَارِدَ فِي الطَّاعَةِ , فَإِذَا لاحَ الذَّنْبُ فَزُحَلَ {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا ويتمتعوا ويلههم الأمل} . كَيْفَ بِكَفٍّ يَعْيَا وَيَعِيثُ , كَيْفَ نُحَذِّرُهَا شَرَّ الْخَطَايَا وَكُلُّ فِعْلِهَا خَبِيثٌ. كَيْفَ نُخَوِّفُهَا قَلِيلَ الذَّنْبِ وَلِسَانُ الْحَالِ يَسْتَغِيثُ. أَنَا الْغَرِيقُ فَمَا خوفي من البلل {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل} . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

المجلس الثامن عشر في قصة بلعام

المجلس الثامن عشر فِي قِصَّةِ بَلْعَامَ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي إِذَا لَطَفَ أَعَانَ , وَإِذَا عَطَفَ صَانَ , أَكَرْمَ مَنْ شَاءَ كَمَا شَاءَ وَأَهَانَ , أَخْرَجَ الْخَلِيلَ مِنْ آزَرَ وَمِنْ نُوحٍ كَنْعَانَ , يُمِيتُ وَيُحْيِي وَيُغْنِي وَيُشْقِي كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ , يَزِينُ بِمَوْهِبَةِ الْعِلْمِ فَإِذَا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ شَانَ , خلع خلعة العلم على بلعم فَلَمْ يَصُنْهَا وَمَالَ بِهَوَاهُ إِلَى مَا عَنْهُ يُنْهَى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان} أَحْمَدُهُ فِي السِّرِّ وَالإِعْلانِ , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي انْشَقَّ لَيْلَةَ وِلادَتِهِ الإِيوَانُ , وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ أَوَّلِ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ , وَعَلَى الْفَارُوقِ الْمَوْصُوفِ بِالْعَدْلِ وَكَذَلِكَ كَانَ , وَعَلَى التَّقِيِّ الْحَيِيِّ عُثْمَانَ , وَعَلَى عَلِيٍّ سَيِّدِ الْعُلَمَاءِ وَالشُّجْعَانِ , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الْمُسْتَسْقَى بِهِ فَسَالَ التَّهْتَانُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} . فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ. قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بن عمرو ابن الْعَاصِ , وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ , وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكُتُبَ وَعَلِمَ أَنَّهُ سَيَأْتِي رَسُولٌ , وَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ , فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدَهُ وَكَفَرَ. وَالثَّانِي: أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الأَنْصَارُ تَقُولُ: إِنَّهُ أَبُو عَامِرٍ. وَالثَّالِثُ: أنه كان رجل مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ , أُعْطِيَ ثَلاثَ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ , وَكَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ دَمِيمَةٌ , فَقَالَتْ لَهُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فَدَعَا لَهَا

فَرَغِبَتْ عَنْ زَوْجِهَا , فَدَعَا عَلَيْهَا أَنْ يَجْعَلَهَا كَلْبَةً نَبَّاحَةً , فَجَاءَ بَنُوهَا وَقَالُوا: لا صَبْرَ لَنَا عَلَى تَعْيِيرِ النَّاسِ لَنَا بِأُمِّنَا , فَدَعَا أَنْ تَكُونَ كَمَا كَانَتْ، فَذَهَبَتِ الثَّلاثُ دَعَوَاتٍ. رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ كُلُّ مَنِ انْسَلَخَ مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ أُعْطِيَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْحُنَفَاءِ , قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ الْمُنَافِقُ. قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ بَلْعَامُ , قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَالأَثْبَتُ. وَفِي الآيَاتِ الَّتِي أُوتِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَبِهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كِتَابٌ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا حُجَجُ التَّوْحِيدِ وَفَهْمُ أَدِلَّتِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا الْعِلْمُ بِكُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ مِنْ خَبَرِ بَلْعَامَ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ غَزَا الْبَلَدَ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَكَانُوا كُفَّارًا , وَكَانَ هُوَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ , فَأَتَاهُ قَوْمُهُ فَقَالُوا: هَذَا مُوسَى قَدْ جَاءَ يُخْرِجُنَا مِنْ بِلادِنَا وَيَقْتُلُنَا وَيُحِلُّهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ , وَنَحْنُ قَوْمُكَ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: وَيْلَكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ وَمَعَهُ الْمَلائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ , فَكَيْفَ أَدْعُو عَلَيْهِمْ؟ فَقَالُوا: مَا لَنَا مِنْ مَتْرَكٍ. فَلَمْ يَزَالُوا يُرَقِّقُونَهُ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ حَتَّى افْتَتَنَ , فَرَكِبَ حِمَارَةً لَهُ مُتَوَجِّهًا إِلَى عَسْكَرِ مُوسَى , فَمَا سَارَ إِلا الْقَلِيلَ حتى ربضت دَابَّتُهُ بِهِ فَنَزَلَ عَنْهَا فَقَرَّبَهَا , فَقَالَتْ: وَيْحَكَ يَا بَلْعَامُ أَيْنَ تَذْهَبُ! أَلا تَرَى الْمَلائِكَةَ أَمَامِي تَرُدَّنِي عَنْ وَجْهِي هَذَا , أَتَذْهَبُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ تَدْعُو عَلَيْهِمْ؟ فَلَمْ يَنْزِعْ عَنْهَا وَضَرَبَهَا , فَانْطَلَقَتْ بِهِ حَتَّى إِذَا أَشْرَفَ على عسكر موسى جعل لا يدعو عليهم بِشَيْءٍ إِلا صَرَفَ اللَّهُ بِهِ لِسَانَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ , فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: إِنَّمَا تَدْعُو عَلَيْنَا. فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ لا أَمْلِكُهُ. إِلا أَنَّهُ دَعَا أَلا يَدْخُلَ مُوسَى الْمَدِينَةَ فَوَقَعُوا فِي التِّيهِ , فَقَالَ

مُوسَى: اللَّهُمَّ كَمَا سَمِعْتَ دُعَاءَهُ عَلَيَّ فَاسْمَعْ دُعَائِيَ عَلَيْهِ فَدَعَا، اللَّهَ أَنْ يَنْزِعَ مِنْهُ الاسْمَ الأَعْظَمَ , فَنُزِعَ مِنْهُ وَانْدَلَعَ لِسَانُهُ فَوَقَعَ عَلَى صَدْرِهِ. فَقَالَ لِقَوْمِهِ: قَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي الآنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ , فَلَمْ يَبْقَ إِلا الْمَكْرُ وَالْحِيلَةُ , جَمِّلُوا النِّسَاءَ وَأَعْطُوهُنَّ السِّلَعَ وَأَرْسِلُوهُنَّ فِي الْعَسْكَرِ يَبِعْنَهَا , وَمُرُوهُنَّ أَنْ لا تَمْنَعَ امْرَأَةً نَفْسَهَا مِمَّنْ أَرَادَهَا , فَإِنَّهُ إِنْ زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ كُفِيتُمُوهُمْ! فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَوَقَعَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى امْرَأَةٍ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّاعُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَئِذٍ , فَهَلَكَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ! وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّ بَلْعَامَ قَالَ لِقَوْمِهِ: لا تَرْهَبُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّكُمْ إِذَا خَرَجْتُمْ لِقِتَالِهِمْ دَعَوْتُ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ رَغَّبَهُ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: خَوَّفَهُ مَلِكُهُمْ فَنَحَتَ لَهُ خَشَبَةً لِيَصْلِبَهُ عليها , فدعا عليهم. وقوله: {فانسلخ منها} أَيْ خَرَجَ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي أدركه {فكان من الغاوين} يَعْنِي الضَّالِّينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بها} فِي هَاءِ الْكِنَايَةِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تَعُودُ إِلَى الإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ. قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَالثَّانِي: إِلَى الْكُفْرِ بِالآيَاتِ , فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَا عَنْهُ الْكُفْرَ بِآيَاتِنَا. رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ. {وَلَكِنَّهُ أخلد إلى الأرض} أَيْ رَكِنَ إِلَى الدُّنْيَا وَسَكَنَ {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أَيِ انْقَادَ إِلَى مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ الْهَوَى. وَهَذِهِ الآيَةُ مِنْ أَشَدِّ الآيَاتِ عَلَى الْعُلَمَاءِ إِذَا مَالُوا عَنِ الْعِلْمِ إِلَى الْهَوَى. {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تتركه يلهث} الْمَعْنَى: أَنَّ الْكَافِرَ إِنْ زَجَرْتَهُ لَمْ يَنْزَجِرْ , وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَهْتَدِ , كَالْكَلْبِ إِنْ طُرِدَ كَانَ لاهِثًا وَإِنْ تُرِكَ كَانَ لاهِثًا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كُلُّ لاهِثٍ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ إِعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ إِلا الْكَلْبَ , فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي حَالِ رَاحَتِهِ وَحَالِ كَلالِهِ؛ وَفِي حَالِ الرِّيِّ وَحَالِ الْعَطَشِ.

الكلام على البسملة

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: زُجِرَ فِي مَنَامِهِ عَنِ الدُّعَاءِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يَنْزَجِرْ , وَخَاطَبَهُ أَتَانُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ. وَهَذَا رَجُلٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ بَلْ ضَرَّهُ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْعِلْمُ يَضُرُّكَ إِذَا لَمْ يَنْفَعْكَ. وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ: نُبِّئْتُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ يَتَأَذَّى أَهْلُ النَّارِ بِرِيحِهِ فَيُقَالُ لَهُ: وَيْحَكَ مَا كُنْتَ تَعْمَلُ؟ أَمَا يَكْفِينَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ حَتَّى ابْتُلِينَا بِكَ وبنتن رِيحِكَ! فَيَقُولُ: كُنْتُ عَالِمًا وَلَمْ أَنْتَفِعْ بِعِلْمِي. وَكَتَبَ حَكِيمٌ إِلَى حَكِيمٍ: يَا أَخِي قَدْ أُوتِيتُ عِلْمًا فَلا تُدَنِّسْ عِلْمَكَ بِظُلْمَةِ الذُّنُوبِ فَتَبْقَى فِي الظُّلْمَةِ يَوْمَ يَسْعَى أَهْلُ الْعِلْمِ بنور علمهم! وكان عيسى بن مَرْيَمَ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ الْعُلَمَاءِ مَثَلُكُمْ مَثَلُ الدِّفْلَى يُعْجِبُ وَرْدُهُ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ وَيَقْتُلُ طَعْمُهُ مَنْ أَكَلَهُ , كَلامُكُمْ دَوَاءٌ يُبْرِئُ الدَّاءَ وَأَعْمَالُكُمْ دَاءٌ لا يَقْبَلُ الدَّوَاءُ , وَالْحِكْمَةُ تَخْرُجُ من أفواهكم وليس بينها وبين آذَانِكُمْ إِلا أَرْبَعُ أَصَابِعَ ثُمَّ لا تَعِيهَا قُلُوبُكُمْ! مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ كَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَطْلُبُ الْكَلامَ لِيُخْبِرَ بِهِ وَلا يَطْلُبُهُ لِيَعْمَلَ بِهِ , الْعِلْمُ فَوْقَ رُءُوسِكُمْ وَالْعَمَلُ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ , فَلا أَحْرَارٌ كِرَامٌ وَلا عَبِيدٌ أَتْقِيَاءُ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (جِدُّوا فَإِنَّ الأَمْرَ جَدُّ ... وَلَهُ أَعِدُّوا وَاسْتَعِدُّوا) (لا يُسْتَقَالُ الْيَوْمُ إِنْ ... وَلَّى وَلا لِلأَمْرِ رَدُّ) (لا تَغْفَلَنَّ فَإِنَّمَا ... آجَالُكُمْ نَفَسٌ يُعَدُّ) (وَحَوَادِثُ الدُّنْيَا تَرُوحُ ... عليكم طورا وتغدو) (أين الأولى كنا نرى ... ماتوا ونحن نموت بعد) (مالي كأن مناي يبسط ... لي وآمالي تمد) (ما غَفْلَتِي عَنْ يَوْمِ يَجْمَعُ ... شِرَّتِي كَفَنٌ وَلَحْدُ) (ضيعت ما لا بدلي ... منه بمالي منه بد) (ما نحن فيه متاع أيام ... يعار ويسترد)

(إِنْ كَانَ لا يَعْنِيكَ مَا ... يَكْفِي فَمَا يَعْنِيكَ جَدُّ) (هَوِّنْ عَلَيْكَ فَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يُعْطَى مَا يَوَدُّ ... ) (وَتَوِّقْ نَفْسَكَ فِي هَوَاكَ ... فَإِنَّهَا لَكَ فِيهِ ضِدُّ) (مَنْ كَانَ مُتَّبِعًا هَوَاهُ ... فَإِنَّهُ لِهَوَاهُ عَبْدُ) إِخْوَانِي: مَتَى أَصْبَحَ الْهَوَى أَمِيرًا أَمْسَى الْعَقْلُ أَسِيرًا , التَّقْوَى دِرْعٌ وَالدِّرْعُ مَجْمُوعٌ حِلَقٌ , فَغَضُّ الْبَصَرِ حَلْقَةٌ , وَحَبْسُ اللِّسَانِ حَلْقَةٌ , وَعَلَى هَذَا سَائِرُ مَا يُتَوَقَّى , فَإِيَّاكَ أَنْ تَتْرُكَ خَلَلا فِي دِرْعِكَ فَإِنَّ الرَّامِيَ يَقْصِدُ الْخَلَلَ , مَتَى فَسَّحْتَ لِنَفْسِكَ فِي تفريط وإن قل انخرق حرز احترازك! كان بعض المتعبدين يمشي في وَسَطَ الْوَحْلِ وَيَتَّقِيهِ وَيُشَمِّرُ عَنْ سَاقَيْهِ , إِلَى أَنْ زَلِقَتْ رِجْلُهُ , فَجَعَلَ يَمْشِي فِي وَسَطِ الْوَحْلِ وَيَبْكِي , فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: هَذَا مِثْلُ الْعَبْدِ لا يَزَالُ يَتَوَقَّى الذُّنُوبَ حَتَّى يَقَعَ فِي ذَنْبٍ وَذَنْبَيْنِ فَعِنْدَهَا يَخُوضُ الذُّنُوبَ خَوْضًا. قِيلَ لِعُبَيْدَةَ بِنْتِ أَبِي كِلابٍ: مَا تَشْتَهِينَ؟ فَقَالَتِ: الْمَوْتَ. فَقِيلَ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: لأَنِّي وَاللَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ أُصْبِحُ أَخْشَى أَنْ أَجْنِيَ عَلَى نَفْسِي جِنَايَةً يَكُونُ فِيهَا عَطَبِي أَيَّامَ الآخِرَةِ. يَا مَسْتُورًا عَلَى الذَّنْبِ انْظُرْ فِي سِتْرِ مَنْ أَنْتَ , لَوْ عَرَفْتَنِي أَعْرَضْتَ عَنْ غَيْرِي , لَوْ أَحْبَبْتَنِي أَبْغَضْتَ مَا سِوَايَ , لَوْ لاحَظْتَ لُطْفِي لَتَوَكَّلْتَ ضَرُورَةً عَلَيَّ , خَاصَمْتُ عَنْكَ قَبْلَ وُجُودِكَ {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تعلمون} وَاسْتَكْثَرْتُ قَلِيلَ عَمَلِكَ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} واعتذرت لك في زللك: {فدلاهما بغرور} وغطيت قبيح فعلك {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله} وَلَقَّنْتُكَ عُذْرَكَ عِنْدَ زَلَلِكَ: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} وأربحتك معاملتك: {فله عشر أمثالها} , مَنْ خَاصَمَ عَنْكَ وَأَنْتَ مَفْقُودٌ لا يُسَلِّمُكَ وأنت

مَوْجُودٌ , فَاعْرِفْ عَلَيْكَ حَقِّي وَلا تَكُنْ مِنْ شِرَارِ خَلْقِي، فَكَمْ أَرَى زَلَّةً فَأَحْلُمُ وَأُبْقِي. يَا قَائِمًا فِي مَقَامِ الْجَهَالَةِ قَدْ رَسَخَ , يَا مُتَكَبِّرًا عَلَى إِخْوَانِهِ قَدْ عَلا وَشَمَخَ , يَا خَارِجًا عَنِ الْحَدِّ شُغُلا بِاللَّهْوِ وَالْمَطْبَخِ , يَا مَنْ فِي بَصَرِهِ كَمَهٌ وَفِي سَمْعِهِ صَمَخٌ , يَا طَامِعًا فِي السَّلامَةِ مَعَ تَرْكِ الاسْتِقَامَةِ , أَلْقَيْتَ الْبَذْرَ فِي السَّبَخِ , مَتَى يَنْقَى قَلْبُكَ مِنْ هَذَا الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ , مَتَى تَتَصَوَّرُ نَفْخَةَ إِسْرَافِيلَ فِي الصُّورِ إِذَا نَفَخَ. يَا ذَا الأَمَلِ الطَّوِيلِ الْعَرِيضِ , أَمَا أَنْذَرْتُكَ الشَّعَرَاتِ الْبِيضَ , أَمَا الْمَوْتُ بَرْقٌ وَالشَّيْبُ وَمِيضٌ , عَجَبًا لِتَأْمِيلِ الْكَسِيرِ الْمَهِيضِ , لَقَدْ فَاتَ الْفَوْزُ قَدَحَ الْمُغِيضِ , يَا دَائِمَ الْخَطَإِ وَكَمْ عُلِّمَ وَرِيضَ , يَا مُعْجَبًا بِالسَّلامَةِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَرِيضٌ , لا اللِّسَانُ مَحْفُوظٌ وَلا الْجَفْنُ غَضِيضٌ , لا بِالنَّثْرِ تَرْجِعُ إِلَيْنَا وَلا بِالْقَرِيضِ , لَقَدْ نَزَلَتْ بِكَ الْمَعَاصِي إِلَى أَسْفَلِ حَضِيضٍ. لَيْتَ شِعْرِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ , لَقَدْ تَعَمَّى وَاللَّهِ عَلَيْكَ الْمَذْهَبُ , لا بُدَّ مَرَّةً مِنْ كَأْسِ الْحِمَامِ تَشْرَبُ , وَلِهَذِهِ الأَجْسَادِ الْمَبْنِيَّةِ أَنْ تَخْرَبَ , وَلَوْلا فِرَاخُ الْحَيَاةِ مَا كَانَتْ فِخَاخُ الْمَوْتِ تُنْصَبُ. (مَا لِي بِمَا بَعْدَ الرَّدَى مَخْبَرُهُ ... قَدْ أَدَمَتِ الأُنُفُ هَذِهِ الْبُرَهْ) (اللَّيْلُ والإصباح واليقظ ... وَالإِبْرَادُ وَالْمَنْزِلُ وَالْمَقْبَرَةْ) (عِشْنَا وَجِسْرُ الْمَوْتِ قُدَّامَنَا ... فَشَمِّرُوا الآنَ لِكَيْ نَعْبُرَهْ) (عِيسٌ تَبَارَى بِالْفَلا خدلها ... فجدلها يا رب بالمغفرة) (أفقر بِالْمَطْعَمِ رِكَابُهَا ... وَالْقَوْمُ بِالدَّوِيَّةِ الْمُقْفِرَةْ) (كَمْ جَاوَزُوا مِنْ حِنْدِسٍ مُظْلِمٍ ... لِيَبْلُغُوا رَحْمَتَهُ الْمُسْفِرَهْ)

الكلام على قوله تعالى

الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبصار} الاعْتِبَارُ: النَّظَرُ فِي الأُمُورِ لِيُعْرَفُ بِهَا شَيْءٌ آخر من غير جنسها. والأبصار: الْعُقُولُ. وَالْمَعْنَى: تَدَبَّرُوا. إِخْوَانِي: الدُّنْيَا دَارُ عِبْرَةٍ , ما وقعت فيها حبره إلا ورد فتها عَبْرَةٌ , أَيْنَ مَنْ عَاشَرْنَاهُ كَثِيرًا وَأَلَفْنَا , أَيْنَ مَنْ مِلْنَا إِلَيْهِ [بِالْوِدَادِ] وَانْعَطَفْنَا , أَيْنَ مَنْ ذَكَرْنَاهُ بِالْمَحَاسِنِ وَوَصَفْنَا , مَا نَعْرِفُهُمْ لَوْ عَنْهُمْ كشفنا , ما ينطقون لو سألناهم وألحفنا , وستصير كَمَا صَارُوا فَلَيْتَنَا أَنْصَفْنَا , كَمْ أَغْمَضْنَا مِنْ أَحْبَابِنَا عَلَى كُرْهِهِمْ جَفْنًا , كَمْ ذَكَّرَتْنَا مَصَارِعُ مَنْ فَنَى مَنْ يَفْنَى , كَمْ عَزِيزٍ أَحْبَبْنَا دَفَنَّاهُ وَانْصَرَفْنَا , كَمْ مُؤَانِسٍ أَضْجَعْنَاهُ فِي اللَّحْدِ وَما وَقَفْنَا , كَمْ كَرِيمٍ عَلَيْنَا إِذَا جُزْنَا عَلَيْهِ انْحَرَفْنَا , مَا لَنَا نَتَحَقَّقُ الْحَقَّ فَإِذَا أَيْقَنَّا صَدَفْنَا , أَمَا ضَرَّ أَهْلَهُ التَّسْوِيفُ وَهَا نَحْنُ قَدْ سَوَّفْنَا , أَمَا التُّرَابُ مَصِيرُنَا فَلِمَاذَا مِنْهُ أَنِفْنَا , إِلامَ تَغُرُّنَا السَّلامَةُ وَكَأَنْ قَدْ تَلِفْنَا. أَيْنَ حَبِيبُنَا الَّذِي كَانَ وَانْتَقَلَ , أَمَا غَمَسَهُ التَّلَفُ فِي بَحْرِهِ وَمَقَلَ , أَيْنَ الْكَثِيرُ الْمَالِ الطَّوِيلُ الأَمَلِ , أَمَا خَلا فِي لَحْدِهِ وَحْدَهُ بِالْعَمَلِ , أَيْنَ مَنْ جَرَّ ذَيْلَ الْخُيَلاءِ غَافِلا وَرَفَلَ , أَمَا سَافَرَ عَنَّا وَإِلَى الآنَ مَا قَفَلَ أَيْنَ مَنْ تَنَعَّمَ فِي قَصْرِهِ وَفِي قَبْرِهِ قَدْ نَزَلَ , فَكَأَنَّهُ فِي الدَّارِ مَا كَانَ وَفِي اللَّحْدِ لَمْ يَزَلْ , أَيْنَ لجبابرة الأَكَاسِرَةُ الْعُتَاةُ الأُوَلُ , مَلَكَ أَمْوَالَهُمْ سِوَاهُمْ وَالدُّنْيَا دُوَلٌ. خَلا وَاللَّهِ مِنْهُمُ النَّادِي الرَّحِيبُ , وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ طُولُ الْبُكَاءِ وَالنَّحِيبُ , وَعَايَنُوا مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ كُلَّ عَجِيبٍ , وَسُئِلَ عَاصِيهِمْ فَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُجيِبُ. مَضَى وَاللَّهِ الْكُلُّ عَلَى مِنْهَاجٍ , وَسَارُوا بَيْنَ غَوَارِبَ وَأَحْدَاجٍ , وَرَحَلُوا إِلَى الْبِلَى أفواجاً بعد أفواج. ولقوا لَغَبَ الطَّرِيقُ عَلَى تَعَبِ الإِدْلاجِ , وَتَوَسَّطُوا بَحْرَ الْجَزَاءِ الْمُدْلَهِمَّ الْعَجَاجُ , وَظَنُّوا سَلامَتَهُمْ فَهَاجَتْ أَمْوَاجٌ بَعْدَ أَمْوَاجٍ , وَنُشِرَتْ

صحائفهم فإذا بها كالليل الداج , وباشر واخشن التُّرَابِ بَعْدَ لِينِ الدِّيبَاجِ , وَتَعَوَّضُوا لَحْدًا غَامِرًا عن عامر الأبراج , وحلوا إذ خَلَوْا فِيهِ حِلْيَةَ الْمَدَرِ بَعْدَ التَّاجِ , فَمَحَا مَحَاسِنَهُمْ بَعْدَ بَهَاءِ الإِبْهَاجِ , وَسُئِلُوا عَمَّا ثَمَّ فَتَمْتَمَ اللِّسَانُ اللَّجْلاجُ , وَعَادَتْ نِسَاؤُهُمْ أَيَامَى بَعْدَ الأزواج: (إني سألت التراب مَا فَعَلَتْ ... بَعْدُ وُجُوهٌ فِيكَ مُنْعَفِرَهْ) (فَأَجَابَنِي صَيَّرْتُ رِيحَهُمُ ... يُؤْذِيكَ بَعْدَ رَوَائِحٍ عَطِرَهْ) (وَأَكَلْتُ أَجْسَادًا مُنَعَّمَةً ... كَانَ النَّعِيمُ يَهُزُّهَا نَضِرَهْ) (لَمْ يَبْقَ غَيْرُ جَمَاجِمٍ عَرِيَتْ ... بِيضٍ تَلُوحُ وَأَعْظُمٌ نَخِرَهْ) تَذَكَّرْ يَا مَنْ جَنَى رُكُوبَ الْجِنَازَةِ , وَتَصَوَّرْ يَا مَنْ مَا وَفَى طُولَ الْمَفَازَةِ , وَدَعِ الدُّنْيَا مَوْدِعًا لِلْحَلاوَةِ وَالْمَزَازَةِ , وَارْقُمْ مِنْ قَلْبِكَ ذِكْرَ الْمَوْتِ عَلَى جَزَازَةٍ , وَخَلِّصْ نَفْسَكَ مِنْ غُلِّ الْغِلِّ وَحَزِّ الْحَزَازَةِ , وَذَكِّرْهَا يَوْمَ تُمْسِي فِي التُّرَابِ مُنْحَازَةً. (سَلْ بِغَمْدَانَ أَيْنَ سَاكِنُهُ ... سَيْفٌ وَقُلْ لِنُعْمَانَ أَيْنَ السَّدِيرُ) (أَيُّهَا الظاعنون لا وال لِلْعِيسِ ... رَوَاحٌ عَلَيْكُمْ وَبُكُورُ) (قَدْ رَأَيْنَا دِيَارَكُمْ وَعَلَيْهَا ... أَثَرٌ مِنْ عَفَائِكُمْ مَهْجُورُ) (وَسَأَلْنَا أَطْلالَهَا فَأَجَابَتْ ... وَمِنَ الصَّمْتِ وَاعِظٌ وَنَذِيرُ) (بَانَ ذُلُّ الأَسَى عَلَيْهَا فَلِلْغَيْثِ ... بُكَاءٌ وَلِلنَّسِيمِ زَفِيرُ) (ذَكَّرَتْنَا عهودكم بعدما طَالَتْ ... لَيَالٍ مِنْ بُعْدِهَا وَشُهُورُ) (عَجَبًا كَيْفَ لم نمت في معانيها ... أَسًى مَا الْقُلُوبُ إِلا صُخُورُ) (يَا دِيَارَ الأحباب غيرك الدهر ... وكان بَعْدَ الأُمُورِ أُمُورُ) أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَنَّاءِ , أَنْبَأَنَا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعَدَّلُ , أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْبَرْذَعِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ , حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ حَدَّثَنِي الصَّلْتُ بْنُ حَكِيمٍ , قال حدثني محبوب العابد , قال: مررت بدارمن دُورِ الْكُوفَةِ فَسَمِعْتُ جَارِيَةً تُغَنِّي مِنْ دَاخِلِ الدار:

(أَلا يَا دَارُ لا يَدْخُلْكِ حُزْنٌ ... وَلا يَغْدِرْ بِصَاحِبِكَ الزَّمَانُ) قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِالدَّارِ فَإِذَا الْبَابُ مَسْدُودٌ وَقَدْ عَلَتْهُ وَحْشَةٌ , فَقُلْتُ مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالُوا: مَاتَ سَيِّدُهُمْ , مَاتَ رَبُّ الدَّارِ , فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ مِنْ هَاهُنَا صَوْتَ جَارِيَةٍ تَقُولُ: أَلا يَا دَارُ لا يَدْخُلْكِ حُزْنٌ. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الدَّارِ وَبَكَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُغَيِّرُ وَلا يَتَغَيَّرُ وَالْمَوْتُ غَايَةُ كُلِّ مَخْلُوقٍ. فَرَجَعْتُ مِنْ عِنْدِهِمْ بَاكِيًا [حَزِينًا] . قَالَ الْقُرَشِيُّ: وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمَدَائِنِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيُّ , قَالَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ قَيْسٍ , قَالَ: دخلت ابنة النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهَا: أَخْبِرِينِي عَنْ حَالِكُمْ كَيْفَ كَانَ؟ قَالَتْ: أُطِيلُ أَمْ أُقْصِرُ. قَالَ: لا بَلْ أَقْصِرِي. قَالَتْ: أَمْسَيْنَا مَسَاءً وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إِلا وَهُوَ يَرْغَبُ إِلَيْنَا وَيَرْهَبُ مِنَّا , فَأَصْبَحْنَا صَبَاحًا وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إِلا وَنَحْنُ نَرْغَبُ إِلَيْهِ وَنَرْهَبُ مِنْهُ. ثُمَّ قَالَتْ: (بَيْنَا نَسُوسُ الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة ليس ننصف) (فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... نقلب تَارَاتٍ بِنَا وَتُصَرِّفُ) قَالَ الْقُرَشِيُّ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , قَالَ حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ , قال حدثنا كثير ابن سَعِيدٍ السُّلَمِيُّ , عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَعْرَسَ رَجُلٌ مِنَ الْحَيِّ عَلَى ابْنَةِ عَمِّهِ فَاتَّخَذُوا لِذَلِكَ لهواً , وكانت منازلهم إلى جانب المقابر , فبيناهم فِي لَهْوِهِمْ ذَلِكَ لَيْلا إِذْ سَمِعُوا صَوْتًا أَفْزَعَهُمْ فَأَصْغَوْا إِلَيْهِ فَإِذَا بِهَاتِفٍ يَهْتِفُ مِنْ بَيْنِ الْقُبُورِ: (يَا أَهْلَ لَذَّةِ دُنْيَا لا تَدُومُ لَهُمْ ... إِنَّ الْمَنَايَا تُبِيدُ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَا) (كَمْ مَنْ رَأَيْنَاهُ مَسْرُورًا بِلَذَّتِهِ ... أَمْسَى فَرِيدًا مِنَ الأَهْلِينَ مُغْتَرِبَا) قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا لَبِثْنَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلا أَيَّامًا حَتَّى مَاتَ الْفَتَى المتزوج.

قَالَ الْقُرَشِيُّ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ. عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ , قَالَ: حَبَسَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عِيَاضَ بْنَ مُسْلِمٍ , وَكَانَ كَاتِبًا لِلْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ وَضَرَبَهُ وَأَلْبَسَهُ الْمُسُوحَ , فَلَمَّا ثَقُلَ هِشَامٌ أَرَسْلَ عِيَاضٌ إِلَى الْخُزَّانِ: احْفَظُوا مَا فِي أَيْدِيكُمْ. فَمَاتَ هِشَامٌ وَخَرَجَ عِيَاضٌ , فَخَتَمَ الأَبْوَابَ وَالْخَزَائِنَ وَمَنَعَ أَنْ يُكَفَّنَ هِشَامٌ مِنَ الْخَزَائِنِ وَاسْتَعَارُوا لَهُ قُمْقُمًا فَأَسْخَنُوا فِيهِ الْمَاءَ , فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّ فِي هَذَا لَعِبْرَةً لِمَنِ اعْتَبَرَ! قَالَ الْقُرَشِيُّ: وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ: سَمِعْتُ الْوَلِيدَ يَقُولُ عَنْ عبد الرحمن بن يزيد ابن جَابِرٍ , قَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ خَلا لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ , فَلَمَّا مَاتَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَتَصَدَّعَ النَّاسُ عَنْ قَبْرِهِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ عَبْدُ الملك الذي كنت مدني فَأَرْجُوكَ , وَتُوعِدُنِي فَأَخَافُكَ , وَلَيْسَ مَعَكَ مِنْ مُلْكِكَ غير ثوبيك , وَلَيْسَ لَكَ مِنْهُ غَيْرُ أَرْبَعِ أَذْرُعٍ فِي عَرْضِ ذِرَاعَيْنِ! ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى أَهْلِهِ وَاجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَنٌّ , فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِهِ فَعَاتَبَهُ فِي نَفْسِهِ وَإِضْرَارِهِ بِهَا , فَقَالَ لِلْقَائِلِ: أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ تَصْدُقُنِي عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَالِكَ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا أَتَرْضَاهَا لِلْمَوْتِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لا. قَالَ: فَهَلْ عَزَمْتَ عَلَى انْتِقَالٍ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا؟ قَالَ: مَا أَنْصَحْتُ رَأْيِي فِي ذَلِكَ. قَالَ: أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَأْتِيَكَ الْمَوْتُ عَلَى حَالِكَ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لا. قَالَ: حَالٌ مَا أَقَامَ عَلَيْهَا عَاقِلٌ. ثُمَّ انكفأ إلى مصلاه. (ورد المهلك قَبْلَنَا أُمَمٌ ... فَلَنَتْبَعَنَّ مَعَاشِرًا وَرَدُوا) (حَمَلَتْهُمُ جُرْدٌ مُقَرَّبَةٌ ... ثُمَّ انْطَوَوْا بِالْمَوْتِ وَانْجَرَدُوا) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ , أَنْبَأَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الجبار , أنبأنا أبو الحسين محمد ابن عَبْدِ الْوَاحِدِ , أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمَازِنِيُّ , حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الضَّرِيرُ , حَدَّثَنِي غَسَّانُ بْنُ عُمَرَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَاشِمِيِّ , قَالَ: دَخَلَتْ عَلَيَّ أُمِّي فِي يَوْمِ أَضْحَى وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ بَرْزَةٌ فِي أَثْوَابٍ رَثَّةٍ. فَقَالَتْ لِي: أَتَعْرِفُ هَذِهِ؟ قُلْتُ: لا. قَالَتْ: هَذِهِ

عَبَّادَةُ أُمُّ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهَا وَرَحَّبْتُ بِهَا , وَقُلْتُ: يَا خَالَةُ , حَدِّثِينِي بِبَعْضِ أَمْرِكُمْ. قَالَتْ: أَذْكُرُ جُمْلَةً فِيهَا اعْتِبَارٌ وَمَوْعِظَةٌ لِمَنْ فَكَّرَ , هَجَمَ عَلَيَّ مِثْلُ هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة وأنا أزعم أن ابني جعفر عاق لي وقد دفع إلي خمسمائة دِينَارٍ , وَقَالَ أَنْفِقِي هَذِهِ فِي عِيدِكُمْ , وَأَنَا الآنَ قَدْ أَتَيْتُكُمْ وَالَّذِي يُقَنِّعُنِي جِلْدُ شَاتَيْنِ أَجْعَلُ أَحَدَهُمَا شِعَارًا وَالآخَرَ دِثَارًا. أَيُّ مُطْمَئِنٍّ لَمْ يُزْعَجْ , أَيُّ قَاطِنٍ لَمْ يَخْرُجْ , إِخْوَانِي قَدْ عُرِفَ الْمَنْهَجُ , زَالَ الشَّكُّ وَالْحَقُّ أَبْلَجُ , إِخْوَانِي فَرَسُ الرَّحِيلِ مُسْرَجٌ , وَإِلَى بَوَادِي الْقُبُورِ الْمَخْرَجُ , وَالنَّعْشُ الْمَرْكُوبُ بَعْدَ الْهَوْدَجِ , وَالْعَرَقُ يَكُونُ صَرْفًا لا يُمْزَجُ , مَا هَتَفَ الْمَوْتُ بِمُقِيمٍ إِلا أَدْلَجَ , وَلا اسْتَدْعَى نُطْقَ فَصِيحٍ إِلا لَجْلَجَ. إِخْوَانِي: مَا جَرَى عَلَى الإِخْوَانِ أُنْمُوذَجٌ. (ركنوا إلى الدنيا الدنية ... وتبوأوا الرُّتَبَ السَّنِيَّةْ) (حَتَّى إِذَا اغْتَرُّوا بِهَا ... صَرَعَتْهُمْ أَيْدِي الْمَنِيَّةْ) سَلُوا عَنِ الْجِيرَانِ الْمَنَازِلَ , وَقُولُوا لَهَا أَيْنَ النَّازِلُ , لا وَاللَّهِ مَا تُجِيبُ السَّائِلَ , بَلَى إِنَّ الْبِلَى يَنْطِقُ بِالْبَلابِلِ. إِخْوَانِي: الدُّنْيَا ظِلٌّ زَائِلٌ وَحَالٌ حَائِلٌ , وَرُكْنٌ مَائِلٌ وَرَفِيقٌ خَاذِلٌ , وَمَسْئُولٌ بَاخِلٌ , وَغُولٌ غَائِلٌ , وَسُمٌّ قاتل , كم تعد الدينا وَتُمَاطِلُ كُلُّ وُعُودِهَا غُرُورٌ بَاطِلٌ. وَاللَّهِ مَا فرح بها عاقل , مسكرها لا يَمُرُّ عَلَى لُقْمَانَ بَلْ عَلَى بَاقِلٍ. (خليلي كم مَيِّتٍ قَدْ حَضَرْتُهُ ... وَلَكِنَّنِي لَمْ أَنْتَفِعْ بِحُضُورِي) (وَكَمْ مِنْ خُطُوبٍ قَدْ طَوَتْنِي كَثِيرَةً ... وَكَمْ مِنْ أُمُورٍ قَدْ جَرَتْ وَأُمُورُ) (وَمَنْ لَمْ يزده الدهر ما عَاشَ عِبْرَةً ... فَذَاكَ الَّذِي لا يَسْتَنِيرُ بِنُورِ)

سجع على قوله تعالى

سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبصار} كَمْ مِنْ ظَالِمٍ تَعَدَّى وَجَارَ , فَمَا رَاعَى الأَهْلَ وَلا الْجَارَ , بَيْنَا هُوَ يَعْقِدُ عُقَدَ الإِصْرَارِ حَلَّ بِهِ الْمَوْتُ فَحَلَّ مِنْ حُلَّتِهِ الأزرار {فاعتبروا يا أولي الأبصار} . مَا صَحِبَهُ سِوَى الْكَفَنِ إِلَى بَيْتِ الْبِلَى وَالْعَفَنِ , لَوْ رَأَيْتَهُ وَقَدْ حَلَّتْ بِهِ الْمِحَنُ , وَشِينَ ذَلِكَ الْوَجْهُ الْحَسَنُ , فَلا تَسْأَلْ كَيْفَ صار {فاعتبروا يا أولي الأبصار} . سَالَ فِي اللَّحْدِ صَدِيدُهُ , وَبَلِيَ فِي الْقَبْرِ جَدِيدُهُ , وَهَجَرَهُ نَسِيبُهُ وَوَدِيدُهُ , وَتَفَرَّقَ حَشَمُهُ وَعَبِيدُهُ والأنصار {فاعتبروا يا أولي الأبصار} . أَيْنَ مُجَالَسَةُ الْعَالِيَةِ , أَيْنَ عِيشَتُهُ الصَّافِيَةُ , أَيْنَ لَذَّاتُهُ الْحَالِيَةُ , كَمْ كَمْ تَسْفِي عَلَى قَبْرِهِ سَافِيَةٌ , ذَهَبَتِ الْعَيْنُ وَأُخْفِيَتِ الآثَارُ {فَاعْتَبِرُوا يَا أولي الأبصار} . تَقَطَّعَتْ بِهِ جَمِيعُ الأَسْبَابِ , وَهَجَرَهُ الْقُرَنَاءُ وَالأَتْرَابُ , وَصَارَ فِرَاشُهُ الْجَنْدَلَ وَالتُّرَابَ , وَرُبَّمَا فُتِحَ لَهُ فِي اللَّحْدِ بَابُ النَّارِ {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبصار} . خَلا وَاللَّهِ بِمَا كَانَ صَنَعَ , وَاحْتَوَشَهُ النَّدَمُ وَمَا نَفَعَ , وَتَمَنَّى الْخَلاصَ وَهَيْهَاتَ قَدْ وَقَعَ , وَخَلاهُ الْخَلِيلُ الْمُصَافِي وَانْقَطَعَ , وَاشْتَغَلَ الأَهْلُ بِمَا كَانَ جَمَعَ , وَتَمَلَّكَ الضِّدُّ الْمَالَ وَالدَّارَ {فَاعْتَبِرُوا يا أولي الأبصار} . نَادِمٌ بِلا شَكَّ وَلا خَفَا , بَاكٍ عَلَى مَا زَلَّ وَهَفَا , يَوَدُّ أَنَّ صَافِيَ اللَّذَّاتِ مَا صَفَا , وَعَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يَبْنِي عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} . قارنه عَمَلَهُ مِنْ سَاعَةِ الْحِينِ , فَهُوَ يَتَمَنَّى الْفِرَارَ وَهَيْهَاتَ أَيْنَ , وَيَقُولُ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بعد المشرقين , فَهُوَ عَلَى فِرَاشِ الْوَحْدَةِ وَحْدَهُ وَالْعَمَلُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ , وَلَكِنْ لا فِي الْغَارِ {فَاعْتَبِرُوا يَا أولي الأبصار} .

وهذه إن كَانَتْ حَالَةُ مَنْ غَدَا , فَلِكُلٍّ مِنْكُمْ مِثْلُهَا غداً , فَانْتَبِهُوا مِنْ رُقَادِكُمْ قَبْلَ الرَّدَى {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أن يترك سدى} إِنَّمَا هِيَ جَنَّةٌ أَوْ نَارٌ {فَاعْتَبِرُوا يَا أولي الأبصار} والحمد لله وحده.

المجلس التاسع عشر في قصة داود عليه السلام

المجلس التاسع عشر فِي قِصَّةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الأَرْبَابِ وَمُسَبِّبِ الأَسْبَابِ وَمُنَزِّلِ الْكِتَابِ , حَفِظَ الأَرْضَ بِالْجِبَالِ مِنَ الاضْطِرَابِ , وَقَهَرَ الْجَبَّارِينَ وَأَذَلَّ الصِّعَابَ، وَسَمِعَ خَفِيَّ النُّطْقِ وَمَهْمُوسَ الْخِطَابِ، وَأَبْصَرَ فَلَمْ يَسْتُرْ نَظَرَهُ حِجَابٌ , أَنْزَلَ الْقُرْآنَ يَحُثُّ فِيهِ عَلَى اكْتِسَابِ الثَّوَابِ , وَزَجَرَ عَنْ أَسْبَابِ الْعِقَابِ {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وليتذكروا أولوا الألباب} ابْتَلَى الْمُصْطَفِينَ بِالذُّنُوبِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ تَوَّابٌ , أَمَا سَمِعْتَ بِزَلَّةِ آدَمَ وَمَا جَرَى مِنْ عِتَابٍ {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} . أَحْمَدُهُ عَلَى رَفْعِ الشَّكِّ وَالارْتِيَابِ , وَأَشْكُرُهُ عَلَى سَتْرِ الْخَطَايَا وَالْعَابِ , وَأُقِرُّ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ إِقْرَارًا نَافِعًا يَوْمَ الْحِسَابِ , وَأَعْتَرِفُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لباب اللباب , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ خَيْرِ الأَصْحَابِ , وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي إِذَا ذُكِرَ فِي مَجْلِسٍ طَابَ , وَعَلَى عُثْمَانَ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا وَمَا تَعَدَّى الصَّوَابَ , وَعَلَى عَلِيٍّ الْبَدْرِ يَوْمَ بَدْرٍ وَالصَّدْرِ يَوْمَ الأَحْزَابِ , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي نَسَبُهُ أَشْرَفُ الأَنْسَابِ. اللَّهُمَّ يَا من ذلت جَمِيعُ الرِّقَابِ وَجَرَتْ بِأَمْرِهِ عَزَالِي السَّحَابِ , احْفَظْنَا فِي الْحَالِ وَالْمَآبِ , وَأَلْهِمْنَا التَّزَوُّدَ قَبْلَ حُلُولِ التُّرَابِ , وَارْزُقْنَا الاعْتِبَارَ بِسَالِفِي الأَتْرَابِ , وَأَرْشِدْنَا عِنْدَ السُّؤَالِ إِلَى صَحِيحِ الْجَوَابِ , وَهَبْ لِشَيْبِنَا مَعَاصِيَ الشباب , وارزقني والحارضين عِمَارَةَ الْقُلُوبِ الْخَرَابِ , بِرَحْمَتِكَ يَا كَرِيمُ يَا وهاب.

قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إذ تسوروا المحراب} الْمَعْنَى: قَدْ أَتَاكَ فَاسْتَمِعْ لَهُ نَقْصُصْهُ عَلَيْكَ. والخصم يصلح للواحد والاثنين والجماعة والذكر والأنثى {تسوروا} يدل على علو والمحراب ها هنا كَالْغُرْفَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ: (رَبَّةُ مِحْرَابٍ إِذَا جِئْتَهَا ... لَمْ أَلْقَهَا أَوْ أَرْتَقِي سُلَّمَا) {إِذْ دَخَلُوا على داود} وَهُوَ دَاوُدُ بْنُ إيشَا بْنِ عويدَ مِنْ نَسْلِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ. وَكَانَ مَبْدَأُ أَمْرِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ طَالُوتَ مَلِكًا خرج من بني إسرائل مَعَهُ ثَمَانُونَ أَلْفًا لِقِتَالِ جَالُوتَ , فَقَالُوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده , فلم يثبت معه غير ثلاثمائة وَثَلاثَةَ عَشَرَ , وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو دَاوُدَ وَثَلاثَةَ عَشَرَ ابْنًا لَهُ , وَدَاوُدُ أَصْغَرُهُمْ , وَإِنَّهُ مَرَّ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ فَكَلَّمْنَهُ وَقُلْنَ: يَا دَاوُدُ خُذْنَا مَعَكَ تَقْتُلْ بِنَا جَالُوتَ. فَأَخَذَهُنَّ وَمَشَى إِلَى جَالُوتَ فَوَضَعَهُنَّ فِي قَذَّافَتِهِ فَصَارَتْ حَجَرًا وَاحِدًا ثم أرسله فصك به بَيْنَ عَيْنَيِ جَالُوتَ فَقَتَلَهُ , ثُمَّ هَلَكَ طَالُوتُ فَمَلَكَ دَاوُدُ وَجَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيًّا , وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الزَّبُورَ وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ الْحَدِيدِ وَأَلانَهُ لَهُ , وَأَمَرَ الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ أَنْ يُسَبِّحْنَ مَعَهُ , وَكَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ خَضَعَ لَهُ الْوَحْشُ حَتَّى تُؤْخَذَ بِأَعْنَاقِهَا. وَكَانَ كَثِيرَ التَّعَبُّدِ , فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَوْمًا عِنْدَهُ: هَلْ يَأْتِي عَلَى الإِنْسَانِ يَوْمٌ لا يُصِيبُ فِيهِ ذَنْبًا؟ فَأَضْمَرَ أَنَّهُ يُطِيقُ ذَلِكَ , فَابْتُلِيَ يَوْمَ عِبَادَتِهِ بِالنَّظَرِ , وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى طَائِرًا فِي مِحْرَابِهِ فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ فَتَنَحَّى فَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ فَإِذَا بِامْرَأَةٍ فَخَطَبَهَا , مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ أوريَا قَدْ خَطَبَهَا , فَتَزَوَّجَهَا , فَاغْتَمَّ أوريَا , فَعُوتِبَ إِذْ لَمْ يَتْرُكْهَا لِخَاطِبِهَا الأَوَّلِ. هَذَا أَجْوَدُ مَا قِيلَ فِي فِتْنَتِهِ وَيَدُلُّ عليه قوله تعالى: {وعزني في

الخطاب} . فَأَمَّا مَا يُنْقَلُ أَنَّ زَوْجَهَا بُعِثَ فِي الْغَزَوَاتِ حَتَّى قُتِلَ , فَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا. فَجَاءَهُ الْمَلَكَانُ فَتَسَوَّرَا عَلَيْهِ مِنْ سُورِ دَارِهِ فَفَزِعَ مِنْهُمْ لأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ عَلَى غَيْرِ صِفَةِ مَجِيءِ الْخُصُومِ وَفِي غَيْرِ وَقْتِ الْحُكُومَةِ وتسوروا من غير إذن و {خصمان} مَرْفُوعٌ بِإِضْمَارِ نَحْنُ. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَاهُ لَهُ وَالتَّقْدِيرُ: مَا تَقُولُ إِنْ جَاءَكَ خَصْمَانِ؟ وَقَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: نَحْنُ كَخَصْمَيْنِ وَمَثَّلَ خَصْمَيْنِ فَسَقَطَتِ الْكَافُ وَقَامَ الْخَصْمَانِ مَقَامَهُمَا , تَقُولُ الْعَرَبُ: عَبْدُ اللَّهِ الْقَمَرُ حُسْنًا. أَيْ مِثْلُ الْقَمَرِ , قَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ: (مَنْ حَسَّ لِي الأَخَوَيْنِ كَالْغُصْنَيْنِ ... أَوْ مَنْ رَاهُمَا) (أَسَدَيْنِ فِي غَيْلٍ يَحِيدُ ... الْقَوْمُ عَنْ عُرْوَاهُمَا) (صَقْرَيْنِ لا يَتَذَلَّلانِ ... وَلا يُبَاحُ حِمَاهُمَا) (رُمْحَيْنِ خَطِّيَّيْنِ فِي ... كَبِدِ السَّمَاءِ تَرَاهُمَا) أَرَادَتْ مِثْلُ أَسَدَيْنِ وَمِثْلُ صَقْرَيْنِ , ثُمَّ صَرَفَ اللَّهُ النُّونَ وَالأَلِفَ فِي {بَعْضُنَا} إِلَى نَحْنُ الْمُضْمَرِ , كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: نَحْنُ قَوْمُ شَرُفَ أَبُونَا , وَنَحْنُ قَوْمٌ شَرُفَ أَبُوهُمْ والمعنى واحد. قوله تعالى: {ولا تشطط} , أي لا تجر يقال شط وأشط ذا جار {واهدنا إلى سواء الصراط} أَيْ إِلَى قَصْدِ الطَّرِيقِ. وَالْمَعْنَى: احْمِلْنَا إِلَى الْحَقِّ. فَقَالَ دَاوُدُ: تَكَلَّمَا. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نعجة واحدة} قَالَ الزَّجَّاجُ: كَنَّى عَنِ الْمَرْأَةِ بِالنَّعْجَةِ. قَالَ المفسرون: إنما

ذَكَرَ هَذَا الْعَدَدَ لأَنَّهُ عَدَدُ نِسَاءِ دَاوُدَ {فقال أكفلنيها} أَيِ انْزِلْ أَنْتَ عَنْهَا وَاجْعَلْنِي أَنَا أَكْفُلُهَا {وعزني في الخطاب} أَيْ غَلَبَنِي فِي الْقَوْلِ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: {وَعَازَنِي} أَيْ غَالَبَنِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ دَعَا وَدَعَوْتُ كَانَ أَكْثَرَ مِنِّي وَإِنْ بَطَشَ وَبَطَشْتُ كَانَ أَشَدَّ مِنِّي. {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بسؤال نعجتك إلى نعاجه} فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ حَكَمَ وَلَمْ يَسْمَعْ كَلامَ الآخَرِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الآخَرَ اعْتَرَفَ فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِاعْتِرَافِهِ , وَحَذَفَ ذِكْرَ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِفَهْمِ السَّامِعِ , والعرب تقول: أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال. أي فتجرت فكسبت. والخلطاء الشركاء وظن أي أيقن وعلم {أنما فتناه} أَيِ ابْتَلَيْنَاهُ بِمَا جَرَى لَهُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ. وَفِي سَبَبِ تَنَبُّهِهِ لِذَلِكَ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَلَكَيْنِ أَفْصَحَا لَهُ بِذَلِكَ. قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ دَاوُدُ لِلْخَصْمِ الآخَرِ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: نَعَمْ أُرِيدُ أَنْ آخُذَهَا مِنْهُ وَأُكْمِلَ بِهَا نِعَاجِي وَهُوَ كَارِهٌ. قَالَ: إِذًا لا ندعك , وإن رمت هذا ضر بنا مِنْكَ هَذَا وَهَذَا. يُشِيرُ إِلَى أَنْفِهِ وَجَبْهَتِهِ. فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ يَا دَاوُدُ أَحَقُّ أَنْ يُضْرَبَ هَذَا مِنْكَ , حَيْثُ لَكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً وَلَمْ يَكُنْ لأوريَا إِلا وَاحِدَةٌ. فَنَظَرَ دَاوُدُ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا فَعَرَفَ مَا وَقَعَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا عَرَجَا وَهُمَا يَقُولانِ: قَضَى الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ , فَعَلِمَ أَنَّهُ عُنِيَ بِذَلِكَ قَالَهُ وَهْبٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ بَيْنَهُمَا نَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ وَهُوَ يَضْحَكُ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ يَنْظُرُ , فَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ ابْتَلاهُ بِذَلِكَ. قَالَهُ مُقَاتِلٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَخَرَّ راكعا} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ سَاجِدًا فَعَبَّرَ بِالرُّكُوعِ عَنِ السُّجُودِ , لأَنَّهُ بِمَعْنَى الانْحِنَاءِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: بَقِيَ فِي سُجُودِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلا لِوَقْتِ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ أَوْ حَاجَةٍ لا بُدَّ مِنْهَا , وَلا يَأْكُلُ

وَلا يَشْرَبُ , فَأَكَلَتِ الأَرْضُ مِنْ جَبْهَتِهِ وَنَبَتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِهِ , وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: رَبِّ زَلَّ دَاوُدُ زَلَّةً أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ النَّقُّورِ , أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكِنَانِيُّ , حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ , حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ. حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الأَبَّارُ , عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ , قَالَ كَانَتْ خَطِيئَتُهُ فِي كَفَّهٍ مَكْتُوبَةٍ , قَالَ فَسَجَدَ حَتَّى نَبَتَ مِنَ الْبَقْلِ مَا وَارَى أُذُنَيْهِ أَوْ قَالَ رَأْسَهُ , ثُمَّ نَادَى: أَيْ رَبِّ قَرَحَ الْجَبِينُ وَجَمَدَتِ الْعَيْنُ وَدَاوُدُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ شَيْءٌ. قَالَ فَنُودِيَ: أَجَائِعٌ فَتُطْعَمَ أَمْ عَارٍ فَتُكْسَى , أَمْ مَظْلُومٌ فَيُنْتَصَرَ لَكَ؟ فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ فِي ذَنْبِهِ شَيْءٌ نَحَبَ نَحْبَةً فَهَاجَ مَا ثَمَّ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ , أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَيَّاطُ , أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْعَلافُ , حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ صَفْوَانَ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ , حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ جَرِيرٍ , حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ يَسَافٍ , عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهُ كان داود مكث قبيل ذَلِكَ سَبْعًا لا يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلا يَشْرَبُ الشَّرَابَ وَلا يَقْرَبُ النِّسَاءَ فَإِذَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَخْرَجَ لَهُ مِنْبَرًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ وأمر سليمان مناديا يستقرىء الْبِلادَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْغِيَاضِ وَالآكَامِ وَالْجِبَالِ وَالْبَرَارِي وَالدِّيَارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَالْبِيَعِ فَيُنَادِي فِيهَا: أَلا مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ نَوْحَ دَاوُدَ فَلْيَأْتِ. فَتَأْتِي الْوُحُوشُ مِنَ الْبَرَارِي وَالآكَامِ وَتَأْتِي السِّبَاعُ مِنَ الْغِيَاضِ وَتَأْتِي الْهَوَامُّ مِنَ الْجِبَالِ , وَتَأْتِي الطَّيْرُ مِنَ الأَوْكَارِ , وَتَأْتِي الرُّهْبَانُ مِنَ الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ , وَتَأْتِي الْعَذَارَى مِنْ خُدُورِهَا , وَيَجْتَمِعُ النَّاسُ لِذَلِكَ الْيَوْمِ , وَيَأْتِي دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ حَتَّى يَرْقَى عَلَى الْمِنْبَرِ وَيُحِيطَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ كُلُّ صَفٍّ عَلَى حِدَتِهِ. قَالَ: وَسُلَيْمَانُ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ. قَالَ: فَيَأْخُذُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ فَيَضِجُّونَ بِالْبُكَاءِ وَالصُّرَاخِ , ثُمَّ يَأْخُذُ فِي ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَمُوتُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ وَطَائِفَةٌ مِنَ السِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ وَالْوُحُوشِ وَطَائِفَةٌ مِنَ الرُّهْبَانِ وَالْعَذَارَى الْمُتَعَبِّدَاتُ , ثُمَّ يَأْخُذُ فِي ذِكْرِ الْمَوْتِ وَأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النِّيَاحَةِ فَيَمُوتُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ

الكلام على البسملة

طَائِفَةٌ , فَإِذَا رَأَى سُلَيْمَانُ مَا قَدْ كَثُرَ مِنَ الْمَوْتِ نَادَاهُ: يَا أَبَتَاهُ قَدْ مَزَّقْتَ الْمُسْتَمِعِينَ كُلَّ مُمَزَّقٍ وَمَاتَتْ طَوَائِفُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنَ الرُّهْبَانِ وَمِنَ الْوُحُوشِ. فَيَقْطَعُ النِّيَاحَةَ وَيَأْخُذُ فِي الدُّعَاءِ وَيُغْشَى عَلَيْهِ , فَيُحْمَلُ عَلَى سَرِيرٍ فَإِذَا أَفَاقَ قَالَ سُلَيْمَانُ: مَا فَعَلَ فُلانٌ وَفُلانٌ؟ فَيَقُولُ: مَاتُوا. فَيَقُومُ فَيَدْخُلُ بَيْتَ عِبَادَتِهِ وَيُغْلِقُ عَلَيْهِ بَابَهُ وَيُنَادِي: أَغَضْبَانٌ أَنْتَ عَلَى دَاوُدَ إِلَهَ دَاوُدَ؟ أَمْ كَيْفَ قَصَرْتَ بِهِ أَنْ يَمُوتَ خَوْفًا مِنْكَ! قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدِ اتَّخَذَ سبع حشايا من شعر وحشاهن بالرماد , ثُمَّ بَكَى حَتَّى أَنْفَذَهَا دُمُوعًا , وَلَمْ يَشْرَبْ شَرَابًا إِلا مَمْزُوجًا بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ , وَكَانَ لَهُ جَارِيتَانِ قَدْ أَعَدَّهُمَا فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الْخَوْفَ سَقَطَ وَاضْطَرَبَ فَقَعَدَتَا عَلَى صَدْرِهِ وَرِجْلَيْهِ مَخَافَةَ أَنْ تَتَفَرَّقَ أَعْضَاؤُهُ , وَكَانَ قَدْ نَقَشَ خَطِيئَتَهُ فِي كَفِّهِ لِئَلا يَنْسَاهَا , وَكَانَ إِذَا رَآهَا اضْطَرَبَتْ يَدَاهُ. وَيُقَالُ: لَوْ وُزِنَتْ دُمُوعُهُ عَدَلَتْ دُمُوعَ الْخَلائِقِ , وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى مَاتَ حَيَاءً. إِخْوَانِي: تَأَمَّلُوا عَوَاقِبَ الذُّنُوبِ , تَفْنَى اللَّذَّةُ وَتَبْقَى الْعُيُوبُ , احْذَرُوا الْمَعَاصِيَ فَبِئْسَ الْمَطْلُوبُ , مَا أَقْبَحَ آثَارَهَا فِي الْوُجُوهِ وَالْقُلُوبِ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (ابْكِ مِنْ جُرْمِكَ خَوْفًا ... فَحَقِيقٌ بِكَ تَبْكِي) (كَمْ رَكِبْتَ الذَّنْبَ مَغْرُورًا ... وَكَمْ أَسْرَعْتَ فِي الْفَتْكِ) (وَتَبَرَّجْتَ بِعِصْيَانِكَ قَدْ غَرَّكَ إِمْهَالِي وَتَرْكِي ... ) (مَنْ إِذَا أَلْبَسْتُكَ الذُّلَّ ... يُرَاعِيكَ وَيَشْكِي) (مَنْ تَرَى يَسْتُرُكَ الْيَوْمَ ... إِذَا عَمَّكَ هَتْكِي) (كَمْ تَجَرَّدْتَ لِعِصْيَانِي ... وَكَمْ خَالَفْتَ نُسْكِي) (أَتُرَى تَجْهَلُ عِزِّي ... أَمْ تُرَى تُصْغِرُ ملكي)

يا ابن آدَمَ: فَرَحُ الْخَطِيئَةِ الْيَوْمَ قَلِيلٌ وَحُزْنُهَا فِي غَدٍ طَوِيلٌ , مَا دَامَ الْمُؤْمِنُ فِي نُورِ التَّقْوَى فَهُوَ يُبْصِرُ طَرِيقَ الْهُدَى , فَإِذَا طَبَقَ ظَلامُ الْهَوَى عُدِمَ النُّورُ. كَانَ دَاوُدُ يَسْجُدُ وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ! إِلَهِي: خَلَّيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَدُوِّي [إِبْلِيسَ] فَلَمْ أَقُمْ لِفِتْنَتِهِ إِذْ نَزَلَتْ بِي , سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ , إِلَهِي: يُغْسَلُ الثَّوْبُ فَيَذْهَبُ دَرَنُهُ وَوَسَخُهُ , وَالْخَطِيئَةُ لازِمَةٌ لِي لا تَذْهَبُ عِنِّي , سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ! إِلَهِي: تَبْكِي الثَّكْلَى عَلَى وَلَدِهَا إِذَا فَقَدَتْهُ وَدَاوُدُ يَبْكِي عَلَى خَطِيئَتِهِ! سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ! إِلَهِي: الْوَيْلُ لِدَاوُدَ إِذَا كُشِفَ عَنْهُ الغطاء قيل هذا داود الخاطىء سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ! إِلَهِي: بِأَيِّ عَيْنٍ أَنْظُرُ إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ الظَّالِمُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ , سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ! إِلَهِي: بِأَيِّ قَدَمٍ أَقُومُ بِبَابِكَ يَوْمَ تَزِلُّ أَقْدَامُ الْخَاطِئِينَ , سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ! إِلَهِي: مِنْ أَيْنَ يَطْلُبُ الْعَبْدُ الْمَغْفِرَةَ إِلا مِنْ عِنْدِ سَيِّدِهِ , سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ! إِلَهِي: أَنَا الَّذِي لا أُطِيقُ صَوْتَ الرَّعْدِ فَكَيْفَ أُطِيقُ صَوْتَ جَهَنَّمَ! سُبْحَانَ خالق النور! إلهي: كيف يستقر الْخَاطِئُونَ بِخَطَايَاهُمْ دُونَكَ وَأَنْتَ شَاهِدُهُمْ حَيْثُ كَانُوا , سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ! إِلَهِي قَرَحَ الْجَبِينُ وَجَمَدَتِ الْعَيْنَانِ مِنْ مَخَافَةِ الْحَرِيقِ عَلَى جَسَدِي , سُبْحَانَ خالق النور! إلهي! أنت المغيث وأنا المستغيث , فمن يدعو المستغيث إلا المغيث؟ سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ! إِلَهِي: فَرَرْتُ إِلَيْكَ بِذُنُوبِي فَاعْتَرَفْتُ بِخَطِيئَتِي فَلا تَجْعَلْنِي مِنَ الْقَانِطِينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ الدِّينِ , سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ! إِلَهِي إِذَا ذَكَرْتُ ذُنُوبِي أَيِسْتُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ , وَإِذَا ذَكَرْتُ رَحْمَتَكَ رَجَوْتُهَا , سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ! إِلَهِي أَمْدِدْ عَيْنِي بِالدُّمُوعِ وَقَلْبِي بِالْخَشْيَةِ وَضَعْفِي بِالْقُوَّةِ حَتَّى أَبْلُغَ رِضَاكَ عَنِّي , سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ! يَا سَكْرَانَ الْهَوَى مَتَى تَصْحُو , يَا كَثِيرَ الذُّنُوبِ مَتَى تَمْحُو إِلَى كَمْ تَهْفُو وَتَغْفُو , وَتَتَكَدَّرُ وَنِعَمُنَا تَصْفُو , ابْكِ لِمَا بِكَ , وَانْدُبْ فِي شَيْبَتِكَ عَلَى شَبَابِكَ , وَتَأَهَّبْ لِسَيْفِ الْمَنُونِ فَقَدْ عَلِقَ الشَّبَا بِكَ. انْتَبَهَ الْحَسَنُ لَيْلَةً فَبَكَى , فَضَجَّ أَهْلُ الدَّارِ بِالْبُكَاءِ , فَسَأَلُوهُ عَنْ حَالِهِ , فَقَالَ:

ذَكَرْتُ ذَنْبًا لِي فَبَكَيْتُ! يَا مَرِيضَ الذُّنُوبِ مالك دَوَاءٌ كَالْبُكَاءِ. رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عَيْنَانِ لا تَمَسَّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ , وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". وَرَوَى عَنْهُ أَبُو أُمَامَةَ أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَطْرَةِ دَمْعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَطْرَةِ دَمٍ تُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". (لا تَحْبِسَنَّ مَاءَ الْجُفُونِ فَإِنَّهُ ... لَكَ يَا لَدِيغَ هَوَاهُمُ دِرْيَاقُ) (شَنُّوا الإِغَارَةَ فِي الْقُلُوبِ بِأَسْهُمٍ ... لا يُرْتَجَى لأَسِيرِهَا إِطْلاقُ) (وَاسْتَعْذَبُوا مَاءَ الْجُفُونِ فَعَذَّبُوا الأُسَرَاءَ ... حَتَّى دَرَّتِ الآمَاقُ) قَالَ محمد بن علي الْحُسَيْنِ: مَا اغْرَوْرَقَتْ عَيْنٌ بِمَائِهَا إِلا حَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَ صَاحِبِهَا عَلَى النَّارِ , فَإِنْ سَالَتْ عَلَى الْخَدَّيْنِ لَمْ يُرْهِقْ وَجْهَهُ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. يَا مَنْ أَفْعَالُهُ حَتَّى الْخُطَى خَطَا , يَا حَامِلا عَلَى الأَزْرِ الْوِزْرَ أَتْعَبْتَ الْمَطَا , يَا مَنْ إِذَا قَدَرَ ظَلَمَ وَإِذَا خَاصَمَ شَطَا , يَا مُسْرِعًا فِي الشَّرِّ فإذا لاح الخير جا الْبَطَا. (جُزْتَ الثَّلاثِينَ خُطَا ... فَاعْذِرْ مَشِيبًا وَخَطَا) (وَابْكِ زَمَانًا لَمْ تَزَلْ ... للَّهِ فِيهِ مُسْخِطَا) (وَانْدُبْ عَلَى آثَارِهِ ... مُسْتَدْرِكًا ذَا الْغَلَطَا) (وَاعْدُدْ صَوَابَ الْعَيْشِ مَا ... فَارَقَهُ التَّقْوَى خَطَا) يَا كَثِيرَ الذُّنُوبِ مَتَى تُفْضِي , يَا مُقِيمًا وَهُوَ فِي الْمَعْنَى يَمْضِي , أَفْنَيْتَ الزَّمَانَ فِي الْهَوَى ضِيَاعًا , وَسَاكَنْتَ غُرُورًا مِنَ الأَمَلِ وَأَطْمَاعًا , وَصِرْتَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا خَبِيرًا صَنَّاعًا , تُصْبِحُ جَامِعًا وَتُمْسِي مَنَّاعًا , فَتِّشْ عَلَى قَلْبِكَ وَلُبَّكَ فَقَدْ ضَاعَا , تَفَكَّرْ فِي عُمْرِكَ فَقَدْ ذَهَبَ نَهْبًا مشاعا , اترك الهوى محمودا قبل أن يتركك مَذْمُومًا , إِنْ فَاتَتْكَ قَصَبَاتُ السَّبْقِ فِي الزُّهْدِ فلا تفوتنك ساعات النَّدَمِ فِي التَّوْبَةِ.

الكلام على قوله تعالى

الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يترك سدى} عِبَادَ اللَّهِ: مَنِ اسْتَحْضَرَ قَلْبَهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْ فِعْلِهِ , وَأَمَرَهُ بِالتَّزَوُّدِ لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَمَنْ وَافَقَ الْهَوَى هَوَى إِلَى مَحَلِّ الإِضَاعَةِ وَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ. قَالَ بَعْضُ الْمُعْتَبِرِينَ: لَمَّا خَلَوْتُ بِالْعَقْلِ فِي بَيْتِ الْفِكْرِ عَلِمْتُ أَنِّي مَخْلُوقٌ لِلتَّكْلِيفِ مُعَاقَبٌ عَلَى التَّحْرِيفِ , لَسْتُ بِمُهْمَلٍ فَأَسْهُو , وَلا بِمَتْرُوكٍ فَأَلْهُو , يُحْصَى عَلَيَّ قَلِيلُ الْعَمَلِ وَكَثِيرُهُ , وَيَكِرُّ عَلَيَّ الزَّمَانُ فَيَبِينُ لِي تَأْثِيرُهُ. وَرَأَيْتُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَقُودَانِي إِلَى قَبْرِي وَيُفْنِيَانِ فِي سَيْرِهِمَا عُمْرِي , وَيُرِيَانِي مِنَ الْعِبَرِ مَا يَصْلُحُ بِهِ طَرِيقُ الْهُدَى , فَيَبِينُ سَلْبُ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ , وَالرَّفِيقِ وَالْقَرِينِ , فَعَلِمْتُ أَنَّ الْهَلاكَ آخِرُ السَّلامَةِ , وَأَنَّ عَاقِبَةَ التَّفْرِيطِ النَّدَامَةُ , وَأَنَّ وَهَنَ الْبَدَنِ أَبْيَنُ دَلِيلٍ عَلَى الْمَوْتِ وَأَقْوَى عَلامَةٍ , وَعَرَفْتُ بِدَلِيلِ السَّمْعِ الْجَزَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَلَمَّا تَيَقَّنْتُ أَنِّي مُكَلَّفٌ مُحَاسَبٌ وَمَحْفُوظٌ عَلَيَّ عَمَلِي مُرَاقَبٌ , مُثَابٌ عَلَى الْفِعْلِ وَمُعَاقَبٌ , مَأْخُوذٌ بِالتَّفْرِيطِ وَمُطَالَبٌ , هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَضَ نَهْضَةَ عَازِمٍ صدوق إِلَى أَدَاءِ التَّكْلِيفِ وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ , فَقَيَّدَتْنِي نَفْسِي بِقُيُودِ الْهَوَى وَأَفْسَدَتْ مِنْ حَالِي مَا اسْتَقَامَ وَاسْتَوَى. فَبَقِيتُ أَتَفَكَّرُ فِيمَا جَرَى وَأَمْسَحُ عَيْنِي مِنْ سِنَةِ الْكَرَى وَأَقُولُ: مَاذَا مَنَعَنِي مِنْ مقصودي , وأي شغل شغلني عن معبودي؟ ومالي أَقْصُرُ فِي سَيْرِي وَكَيْفَ سَبَقَنِي إِلَى الْفَضَائِلِ غَيْرِي؟ فَتَعَجَّبْتُ مِمَّا نَابَنِي وَحَزِنْتُ لِمَا أَصَابَنِي , وَلَمْ أَزَلْ أَنْظُرُ فِي الْمَوَانِعِ حَتَّى فَهِمْتُهَا وَأَتَدَبَّرُ طَرِيقَ الْهُدَى حَتَّى عَلِمْتُهَا. وَذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَبَلَ النَّفْسَ عَلَى حُبِّ الشَّهْوَةِ , وَجَعَلَهَا فِي حَبْسِ الْغَفْلَةِ , وَخَلَقَ لَهَا مِنْ رَائِقِ مَقْصُودِهَا مَا يَشْغَلُهَا وُجُودُهُ عَنْ وُجُودِهَا , فَهِيَ تَمِيلُ إِلَى مُشْتَهَاهَا وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْمَهَالِكِ , لِمَا وُضِعَ فِي طَبْعِهَا مِنْ حُبِّ ذلك ,

وَتَنْهَمِكُ عَلَى تَحْصِيلِ غَرَضِهَا وَإِنْ أَعْقَبَهَا طُولُ مَرَضِهَا , فَيُنْسِيهَا عَاجِلُ مَا يُسِرُّ آجِلَ مَا يَضُرُّ. فَلَمَّا وَضَعَهَا الْحَقُّ عَلَى هَذَا وَأَلَّفَهَا , خَاطَبَهَا بِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا وَكَلَّفَهَا , وَبَيَّنَ لَهَا طَرِيقَ الْهُدَى وَعَرَّفَهَا , وَلَطَفَ بِهَا فِي أَحْوَالِهَا وَتَأَلَّفَهَا , وَذَكَّرَهَا مِنَ النِّعَمِ مَا سَلَّفَهَا , وَأَقَامَهَا عَلَى مَحَجَّةِ التَّعْلِيمِ وَوَقَّفَهَا , وَحَذَّرَهَا مِنَ الزَّلَلِ وَخَوَّفَهَا , وَضَمِنَ لَهَا أَنَّهَا إِنْ جَاهَدَتْ أَسْعَفَهَا , وَإِنْ تَرَكَتْ أَغْرَاضَهَا أَخْلَفَهَا , وَمَا وَعَدَهَا وَعْدًا قَطُّ فَأَخْلَفَهَا وَأَوْضَحَ لَهَا عُيُوبَ الْعَاجِلَةِ وَكَشَفَهَا , وَرَغَّبَهَا في لذة جنة وصفها , فذكر لها منزلها وَغُرَفَهَا وَأَنْهَارَهَا وَطَرَفَهَا , وَحَذَّرَهَا جَهَنَّمَ وَأَسَفَهَا وَغَيْظَهَا عَلَى الْعُصَاةِ وَلَهَفَهَا , وَأَعْلَمَهَا أَنَّ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ , وَلَقَدْ أَنْصَفَهَا. فَعَذَّلْتُهَا وَقَرَّعْتُهَا وَأَوْعَدْتُهَا وَأَسْمَعْتُهَا , فَلَمْ تَرْتَدِعْ عَنْ هَوَاهَا وَلَمْ تَنْزِعْ عَمَّا آذَاهَا , وَرَأَتْ مَصَارِعَ الْقُرَنَاءِ وَمَا كَفَاهَا , وَلَمْ تَأْنَفْ مِنْ ذُنُوبِهَا وَذُلُّ الْمَعَاصِي قَدْ عَلاهَا , وَكَأَنَّ الْخِطَابَ الَّذِي أَتَى مِمَّنْ سَوَّاهَا إِلَى سِوَاهَا. فَعَلِمْتُ حِينَئِذٍ أَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُحَاسِبُهَا وَتَفْتَقِرُ إِلَى مَنْ يُطَالِبُهَا، وَلا تَسْتَغْنِي عَنْ مُوَبِّخٍ يُعَاتِبُهَا , وَلا بُدَّ مِنْ رَائِضٍ إِنْ وَنَتْ يُعَاقِبُهَا. فَالْعَجَبُ مِمَّنْ عَرَفَ نَفْسَهُ كَيْفَ أَهْمَلَهَا , وَاللَّهِ لَقَدْ ضرها وقتلها. أخبرنا محمد بن الملك , أنبأنا أحمد بن الحسين ابن خَيْرُونٍ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَحَامِلِيُّ , أنبأنا أبو بكر ابن عَبْدُوَيْهِ , حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ الْبَلْخِيُّ , حَدَّثَنَا شقيق ابن إِبْرَاهِيمَ , حَدَّثَنِي أَبُو هَاشِمٍ الأَيْلِيُّ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا ابن آدَمَ لا تَزُولُ قَدَمَاكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ بَيْنِ يَدِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى تُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عُمْرِكَ فِيمَا أَفْنَيْتَهُ , وَجَسَدِكَ فِيمَا أَبْلَيْتَهُ , وَمَالِكَ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبْتَهُ وَأَيْنَ أَنْفَقْتَهُ ". أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَنْصُورٍ , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَلافُ , أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْحمَامِيُّ , أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَوَّاصُ , حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ نصر , قال

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَسَارٍ , قَالَ حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ , قَالَ كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ سَمُرَةَ السَّائِحُ: يَا أَخِي إِيَّاكَ وَتَأْمِيرَ التَّسْوِيفِ عَلَى نَفْسِكَ وَإِمْكَانَهُ مِنْ قَلْبِكَ , فَإِنَّهُ مَحَلُّ الْكَلالِ وَمَوْئِلُ التَّلَفِ وَبِهِ تُقْطَعُ الآمَالُ , وَفِيهِ تَنْقَطِعُ الآجَالُ , فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ أَدَلْتَهُ مِنْ عَزْمِكَ فَاجْتَمَعَ وَهَوَاكَ عَلَيْكَ فَغَلَبَا وَاسْتَرْجَعَا مِنْ بَدَنِكَ مِنَ السَّلامَةِ مَا قَدْ وُلِّيَ عَلَيْكَ , فَعِنْدَ مُرَاجَعَتِهِ إِيَّاكَ لا تَنْتَفِعُ نَفْسُكَ مِنْ بَدَنِكَ بِنَافِعَةٍ , وَبَادِرْ يَا أَخِي فَإِنَّهُ مُبَادَرٌ بِكَ , وَأَسْرِعْ فَإِنَّهُ مُسْرَعٌ بِكَ وَجِدَّ فَإِنَّ الأَمْرَ جَدٌّ , وَتَيَقَّظْ مِنْ رَقْدَتِكَ , وَانْتَبِهْ مِنْ غَفْلَتِكَ , وَتَذَكَّرْ مَا أَسْلَفْتَ وَقَصَّرْتَ وَفَرَّطْتَ وَجَنَيْتَ , فَإِنَّهُ مُثْبَتٌ مُحْصًى , وَكَأَنَّكَ بِالأَمْرِ قَدْ بَغَتَكَ فَاغْتَبَطْتَ بِمَا قَدَّمْتَ وَنَدِمْتَ عَلَى مَا فَرَّطْتَ , فَعَلَيْكَ بِالْحَيَاءِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْعُزْلَةِ فَإِنَّ السَّلامَةَ فِي ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ. وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ لأَرْشَدِ الأُمُورِ , وَلا قُوَّةَ بِنَا وَبِكَ إِلا بِاللَّهِ. (إن عمر الفتا مَرَارَةُ دَهْرٍ ... رَاشِفَاهَا الْغُدُوُّ وَالآصَالُ) (فَتَذَكَّرْ كَمْ قَدْ صَحِبْتَ عَزِيزًا ... ثُمَّ أَمْسَى وَأَرْضُهُ صَلْصَالُ) (غَفَلَ النَّاسُ وَالْقَرِيبُ بَعِيدٌ ... مِنْ رَدَى الْمَوْتِ وَالْيَقِينُ مُحَالُ) (كَمْ لَبِيبٍ يَهْدِي سِوَاهُ لِرُشْدٍ ... وَهُوَ فِي عَيْشِ نَفْسِهِ لَيْسَ يَالُو) (يَطْلُبُ الْمَرْءُ أَنْ يَنَالَ رِضَاهُ ... وَرِضَاهُ فِي غَايَةٍ لا تُنَالُ) (كُلَّمَا زَادَهُ الزَّمَانُ ثَرَاءً ... أَحْرَمَتْهُ لَذَّةُ الآمَالِ) إِخْوَانِي: الأَيَّامُ سَفَرٌ وَمَرَاحِلُ , وَمَا يُحِسُّ بِسَيْرِهَا الرَّاحِلُ حَتَّى يَبْلُغَ الْبَلَدَ أَوِ السَّاحِلَ , فَلْيُبَادِرِ الْمُسْتَدْرَكُ , وَمَا أَظُنُّهُ يُدْرِكُ , مَا هَذِهِ الْغَفْلَةُ وَالْفُتُورُ أَمَا الْمَآلُ إِلَى اللُّحُودِ وَالْقُبُورِ , أَمَا عَلِمْتُمْ مُنْتَهَى السُّرُورِ , أَمَا الأَجْدَاثُ الْمَنَازِلُ إِلَى النُّشُورِ , أَيُّهَا الشَّابُّ ضَيَّعْتَ الشَّبَابَ فِي جَهْلِكَ , أَيُّهَا الْكَهْلُ بَعْضُ فِعْلِكَ يُهْلِكُ , أَيُّهَا الشَّيْخُ آنَ الرَّحِيلُ عَنْ أَهْلِكَ , أَيُّهَا الْمُغْتَرُّ بِالأَمَلِ قَدْ نَقَضَتْ كَفُّ الأَجَلِ مَجْدُولَ حَبْلِكَ , أَيُّهَا الْغَافِلُ أَمَا أَنْذَرَكَ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِكَ. (مَاتَ الأَبُ الأَعْلَى وَتَابَعَهُ ... أَبْنَاؤُهُ ففنوا ونحن نسق) (في الترب مِنْ أَبْنَائِنَا رِمَمٌ ... كَانُوا لَنَا سَلَفًا وَنَحْنُ لحق)

سجع

لَقَدْ نَطَقَتِ الْعِبَرُ فَأَيْنَ سَامِعُهَا , وَاسْتَنَارَتْ طَرِيقُ الْهُدَى فَأَيْنَ تَابِعُهَا , وَتَجَلَّتِ الْحَقَائِقُ فَأَيْنَ مُطَالِعُهَا , أَمَا الْمَنِيَّةُ قَدْ دَنَتْ وَاقْتَرَبَتْ فَمَا بَالُ النُّفُوسِ قَدْ غَفَلَتْ وَلَعِبَتْ , أَمِنَ الْمُفَرِّطُ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظْمِهِ وَيُجَازَى مِنْ تَفْرِيطِهِ عَلَى أَعْظَمِهِ , وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ فَيُذْهِلُهُ بِعِظَمِهِ , وَيُفَاجِئُهُ بَغْتَةً بِشَتَاتِ مُنْتَظِمِهِ , يَا مَنْ عَلَى مَا يَضُرُّهُ قَدِ اسْتَمَرَّ , يَا مَنْ أَعْلَنَ الْمَعَاصِيَ وَأَسَرَّ , يَا مُؤْثِرًا مَا شَانَ وَمَا ضَرَّ , يَا مُحِبًّا ما قبل قَتَلَ غَيْرَهُ وَغَرَّ , يَا مَنْ إِذَا دُعِيَ إِلَى نَفْعِهِ تَوَلَّى وَفَرَّ , أَمَا تَعْتَبِرُ بِمَنْ رَحَلَ مِنَ الْقُرَنَاءِ وَمَرَّ , أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ حَالَفَ الذُّنُوبَ اسْتَضَرَّ , أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ إِذَا أَتَى حَمَلَ وَكَرَّ , كَأَنِّي بِكَ إِذَا بَرَقَ الْبَصَرُ تَطْلُبُ الْمَفَرَّ , إِلَى مَتَى تُؤْثِرُ الْفَسَادَ عَلَى السَّدَادِ , وَتُسْرِعُ فِي جَوَادِ الْهَوَى أَسْرَعَ مِنَ الْجَوَادِ , مَتَى يَتَيَقَّظُ الْقَلْبُ وَيَصْحُو الْفُؤَادُ , كَيْفَ بِكَ إِذَا حُشِرْتَ فَخَسِرْتَ يَوْمَ الْمَعَادِ. (يَسُرُّكَ أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ ... لَهُمْ زَادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ) أَسْمَعُ قَوْلا بِلا عَمَلٍ , وَأَرَى خِلالا خِلالُهَا الْخَلَلُ , إِذَا دُعِيتَ إِلَى الْخَيْرِ جَاءَ الْكَسَلُ وَقُلْتَ لَوْ شَاءَ أَنْ يُوَفِّقَنِي فَعَلَ , وَإِذَا لاحَتِ الْمَعَاصِي كَرَّ الْبَطَلُ , وَيَقُولُ: خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ. وَيْحَكَ هَذَا الشَّيْبُ قَدْ نَزَلَ يُخْبِرُكَ بِقُرْبِ الأَجَلِ , خَلَتِ الدِّيَارُ وَنَاحَ الطَّلَلُ , أَيَحْتَاجُ الْمُهِمُّ إِلَى اعْتَدِلْ , يَا قَبِيحَ الْخِصَالِ إِلَى كَمْ زَلَلَ , مَا لِكَبِيرٍ فِي الْعَذْلِ لا نَاقَةٌ وَلا جَمَلٌ. (عَلَيْكَ بِمَا يُفِيدُكَ فِي الْمَعَادِ ... وما تنجو به يوم التناد) (فمالك لَيْسَ يَنْفَعُ فِيكَ وَعْظٌ ... وَلا زَجْرٌ كَأَنَّكَ مِنْ جَمَادِ) (سَتَنْدَمُ إِنْ رَحَلْتَ بِغَيْرِ زَادٍ ... وَتَشْقَى إِذْ يُنَادِيكَ الْمُنَادِي) (فَلا تَفْرَحْ بِمَالٍ تَقْتَنِيهِ ... فَإِنَّكَ فِيهِ مَعْكُوسُ الْمُرَادِ) (وَتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ وَأَنْتَ حَيٌّ ... وَكُنْ مُتَنَبِّهًا مِنْ ذَا الرُّقَادِ) سَجْعٌ أَيُّهَا الضَّالُّ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى , أما تسمع صوت الحادي وَقَدْ حَدَا , مَنْ لَكَ إِذَا ظَهَرَ الْجَزَاءُ وبدا , وربما كَانَ فِيهِ أَنْ تَشْقَى أَبَدًا {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أن

يترك سدى} . يَا مَنْ تُكْتَبُ لَحَظَاتُهُ , وَتُجْمَعُ لَفَظَاتُهُ , وَتُعْلَمُ عَزَمَاتُهُ , وَتُحْسَبُ عَلَيْهِ حَرَكَاتُهُ إِنْ رَاحَ أَوْ غدا {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} . وَيْحُكَ إِنَّ الرَّقِيبَ حَاضِرٌ , يَرْعَى عَلَيْكَ اللِّسَانَ وَالنَّاظِرَ , وَهُوَ إِلَى جَمِيعِ أَفْعَالِكَ نَاظِرٌ , إِنَّمَا الدُّنْيَا مَرَاحِلُ إِلَى الْمَقَابِرِ , وَسَيَنْقَضِي هَذَا الْمَدَى {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} . مالي أَرَاكَ فِي الذُّنُوبِ تَعْجَلُ , وَإِذَا زُجِرْتَ عَنْهَا لا تَقْبَلُ , وَيْحَكَ انْتَبِهْ لِقُبْحِ مَا تَفْعَلُ , لأَنَّ الأَيَّامَ فِي الآجَالِ تَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِ المدى {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} . سَتَرْحَلُ عَنْ دُنْيَاكَ فَقِيرًا , لا تَمْلِكُ مِمَّا جمعت نقيرا , بلى قَدْ صِرْتَ بِالذُّنُوبِ عَقِيرًا بَعْدَ أَنْ رَدَاكَ التَّلَفُ رِدَاءَ الرَّدَى {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سدى} . كَأَنَّكَ بِالْمَوْتِ قَدْ قَطَعَ وَبَتَّ , وَبَدَّدَ الشَّمْلَ الْمُجْتَمِعَ وَأَشَتَّ , وَأَثَّرَ فِيكَ النَّدَمُ حِينَئِذٍ وَفَتَّ , انْتَبِهْ لِنَفْسِكَ فَقَدْ أُشْمِتَ وَاللَّهِ الْعِدَا {أَيَحْسَبُ الإنسان أن يترك سدى} . كَأَنَّكَ بِبِسَاطِ الْعُمْرِ قَدِ انْطَوَى , وَبِعُودِ الصِّحَّةِ قَدْ ذَوَى , وَبِسِلْكِ الإِمْهَالِ قَدْ قُطِعَ فَهَوَى , اسْمَعْ يَا مَنْ قَتَلَهُ الْهَوَى وَمَا وَدَى {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} . تَاللَّهِ مَا تُقَالُ وَمَا تُعْذَرُ , فَإِنْ كُنْتَ عَاقِلا فَانْتَبِهْ وَاحْذَرْ , كَمْ وَعَظَكَ أَخْذُ غَيْرِكَ وَكَمْ أَعْذَرَ , وَمَنْ أُنْذِرَ قَبْلَ مَجِيئِهِ فَمَا اعتدى {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} . فَبَادِرْ نَفْسَكَ وَاحْذَرْ قَبْلَ الْفَوْتِ , وَأَصِخَّ لِلزَّوَاجِرِ فَقَدْ رَفَعَتِ الصَّوْتَ , وَتَنَبَّهْ فَطَالَ مَا قَدْ سَهَوْتَ , وَاعْلَمْ قَطْعًا وَيَقِينًا أَنَّ الْمَوْتَ لا يقبل الفدا

{أيحسب الإنسان أن يترك سدى} . انْهَضْ إِلَى التَّقْوَى بِقَرِيحَةٍ , وَابْكِ الذُّنُوبَ بِعَيْنٍ قَرِيحَةٍ , وَأَزْعِجْ لِلْجِدِّ أَعْضَاءَكَ الْمُسْتَرِيحَةَ , تَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَقْبَلْ هَذِهِ النَّصِيحَةَ لَتَنْدَمَنَّ غَدًا {أَيَحْسَبُ الإنسان أن يترك سدى} .

المجلس العشرون في قصة سليمان عليه السلام

المجلس العشرون فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ الْمُتَعَالِي عَنِ الأَنْدَادِ , الْمُقَدَّسِ عَنِ الأَضْدَادِ الْمُنَزَّهِ عَنِ الأَوْلادِ , الْبَاقِي عَلَى الآبَادِ , رَافِعِ السَّبْعِ الشِّدَادِ عَالِيَةً بِغَيْرِ عِمَادٍ , مُزَيَّنَةً بِكُلِّ كَوْكَبٍ مُنِيرٍ وَقَّادٍ , وَوَاضِعِ الأَرْضِ لِلْمِهَادِ مُثَبَّتَةً بِالرَّاسِيَاتِ الأَطْوَادِ , خَالِقِ الْمَائِعِ وَالْجَمَادِ , وَمُبْتَدِعِ الْمَطْلُوبِ الْمُرَادِ , الْمُطَّلِعِ عَلَى سِرِّ الْقِلْبِ وَضَمِيرِ الْفُؤَادِ , مُقَدِّرِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ مِنَ الضَّلالِ وَالرَّشَادِ , وَالصَّلاحِ وَالْفَسَادِ , وَالْغَيِّ وَالإِرْشَادِ , وَالْوِفَاقِ وَالْعِنَادِ , وَالْبُغْضِ وَالْوِدَادِ , فِي بِحَارِ لُطْفِهِ تَجْرِي مَرَاكِبُ الْعِبَادِ , وَعَلَى عَتَبَةِ بَابِهِ مَنَاخُ الْعُبَّادِ , وَفِيَ مَيْدَانِ حُبِّهِ تَجُولُ خَيْلُ الزُّهَّادِ , وَعِنْدَهُ مُبْتَغَى الطَّالِبِينَ وَآمَالُ الْقُصَّادِ , وَبِعَيْنِهِ مَا يَتَحَمَّلُونَ مِنْ ثِقَلِ الاجْتِهَادِ , رَأَى حَتَّى دَبِيبَ النَّمْلِ السُّودِ فِي السَّوَادِ , وَسَمِعَ صَوْتَ الْمُدْنَفِ الْمَجْهُودِ غَايَةَ الإِجْهَادِ , وَعَلِمَ مَا فِي سُوَيْدَاءِ السِّرِّ وَبَاطِنِ الاعْتِقَادِ , وَجَادَ عَلَى الآمِلِينَ فَزَادَهُمْ مِنَ الزَّادِ , وَأَعْطَى فَلَمْ يَخَفْ مِنَ الْعَوَزِ وَالنَّفَادِ , وَأَلَّفَ الأَجْسَادَ وَلَيْسَ يُشْبِهُ الأَجْسَادَ , وَخَلَقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ زَوْجَيْنِ وَتَوَحَّدَ بِالانْفِرَادِ , وَعَادَ بِالإِتْلافِ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ ثُمَّ أَعَادَ , يُبَاهِي بِهَاجِرِ الْوِسَادِ إِذَا نَامَ فِي السُّجُودِ أَوْ مَادَ , ابْتَلَى بِالْغَفْلَةِ أَهْلَ الْيَقَظَةِ وَالاجْتِهَادِ لِيَنْكَسِرُوا بِالزَّلَلِ وَانْكِسَارُ الْعَبْدِ هُوَ الْمُرَادُ , بَسَطَ لِسُلَيْمَانَ بِسَاطَ النَّيْلِ فَوَقَعَ الْمَيْلُ إِلَى الْخَيْلِ عَنْ بَعْضِ الأَوْرَادِ {إِذْ عُرِضَ عليه بالعشي الصافنات الجياد} . أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَفُوتُ الأَعْدَادَ , وَأَشْهَدُ أَنَّهُ الْوَاحِدُ لا كَالآحَادِ , وَأُصَلِّي عَلَى

رَسُولِهِ الْمَبْعُوثِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي كُلِّ الْبِلادِ , وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَجَادَ , وَعَلَى الْفَارُوقِ الَّذِي بَالَغَ فِي نَصْرِ الإِسْلامِ وَأَجَادَ , وَعَلَى عُثْمَانَ الشَّهِيدِ فَيَا فَخْرَهُ يَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ , وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي يَفْنَى الْبَحْرُ وَمَا لِعُلُومِهِ الزَّوَاخِرِ نَفَادٌ , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَبِي الْخُلَفَاءِ الأَمْجَادِ. قَالَ الله تعالى: {ووهبنا لداود سليمان} . دَاوُدُ: اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ وَسُلَيْمَانُ اسْمٌ عَبْرَانِيٌّ , وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ مِنَ الْفِطْنَةِ مَا بَانَ بِهَا الصَّوَابُ فِي حُكْمِهِ دُونَ حُكْمِ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ الحرث وغيره. قال الله عز وجر: {ففهمناها سليمان} فَلَمَّا مَاتَ دَاوُدُ مَلَكَ سُلَيْمَانُ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً , فَزَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مُلْكِ دَاوُدَ , وَسَخَّرَ لَهُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ وَالطَّيْرَ وَكَانَ عَسْكَرُهُ مِائَةَ فَرْسَخٍ , خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلإِنْسِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْجِنِّ , وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلْوَحْشِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِلطَّيْرِ , وَكَانَ لَهُ أَلْفُ بَيْتٍ من قوارير فيها ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سَرِيَّةٍ , وَلا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ إِلا جَاءَتْ بِهِ الرِّيحُ إِلَى سَمْعِهِ , وَكَانَ إِذَا جَلَسَ عَلَى الْبِسَاطِ جَلَسَ أَشْرَافُ الإِنْسِ مِمَّا يَلِيهِ وَأَشْرَافُ الْجِنِّ وَرَاءَهُمْ , ثُمَّ يَدْعُو الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ , ثُمَّ يَدْعُو الرِّيحَ فَتَحْمِلُهُمْ، وَالطَّبَّاخُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ لا يَتَغَيَّرُ عَلَيْهِمْ عَمَلٌ فَيَسِيرُ فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ , وَكَانَ يُطْعِمُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ , فَإِنْ أَقَلَّ أَطْعَمَ سِتِّينَ أَلْفًا , وَكَانَ يَذْبَحُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ أَلْفِ شَاةٍ وَثَلاثِينَ أَلْفَ بَقَرَةٍ , وَيُطْعِمُ النَّاسَ النَّقِيَّ وَيُطْعِمُ أَهْلَهُ الْخُشْكَارَ وَيَأْكُلُ هُوَ الشَّعِيرَ. وَرَوَى سَيَّارٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ وَالْجِنُّ والإنس على يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ , فَأَمَرَ الرِّيحَ فَحَمَلَتْهُمْ حَتَّى سَمِعُوا زَجْلَ الْمَلائِكَةِ فِي السَّمَوَاتِ بِالتَّقْدِيسِ , ثُمَّ أَمَرَهَا فَخَفَضَتْهُمْ حَتَّى مَسَّتْ أَقْدَامُهُمُ الْبَحْرَ , فَسَمِعُوا صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: لَوْ كَانَ فِي قَلْبِ صَاحِبِكُمْ مِنَ الْكِبْرِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ لَخَسَفْتُ بِهِ أَبْعَدَ مِمَّا رَفَعْتُ!

قوله تعالى: {نعم العبد إنه أواب} هذا نهاية في المدح {أواب} : أَيْ رَجَّاعٌ بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ مِمَّا يَقَعُ من سهو وغفلة. {إذ عرض عليه بالعشي} وهو ما بعد الزوال {الصافنات} وَهِيَ الْخَيْلُ وَفِيهَا قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا الْقَائِمَةُ عَلَى ثَلاثَةِ قَوَائِمَ وَقَدْ أَقَامَتِ الأُخْرَى عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ , وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ. (أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلاثِ كَسِيرَا) وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْقَائِمَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى ثَلاثٍ أَوْ غَيْرِ ثَلاثٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: عَلَى هَذَا رَأَيْتُ الْعَرْبَ , وَأَشْعَارُهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا الْقَائِمُ خَاصَّةً. وَاحْتَجَّ ابْنُ قُتَيْبَةَ لِهَذَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُونًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. وَأَمَّا الْجِيَادُ فَهِيَ السِّرَاعُ فِي الْجَرْيِ. وَفِي سَبَبِ عَرْضِهَا عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ عَرَضَهَا لأَنَّهُ أَرَادَ جِهَادَ عَدُوٍّ. قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أُخْرِجَتْ لَهُ مِنَ الْبَحْرِ. قَالَ الْحَسَنُ: خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ وَكَانَتْ لَهَا أَجْنِحَةٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا كَانَتْ لأَبِيهِ فَعُرِضَتْ عَلَيْهِ. قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ. وَفِي عَدَدِهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: ثَلاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا. قَالَهُ وَهْبٌ. وَالثَّانِي: أَلْفُ فَرَسٍ. قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ. وَالثَّالِثُ: عِشْرُونَ أَلْفًا. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَسْرُوقٌ. وَالرَّابِعُ: عِشْرُونَ. قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ تَزَلْ تُعْرَضُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ غَابَتِ الشَّمْسُ فَفَاتَتْهُ صَلاةُ الْعَصْرِ , وَلَمْ يُذَكِّرُوهُ لأَنَّهُ كَانَ مَهِيبًا لا يَبْتَدِئُهُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ , فَلَمَّا غَابَتْ ذكر فقال: " إني أحببت حب الخير " يَعْنِي الْخَيْلَ وَالْمَعْنَى آثَرْتُ ذَلِكَ عَلَى ذِكْرِ ربي.

قال الزجاج: عن: بمعنى على. {حتى توارت} يَعْنِي الشَّمْسَ. قَالَ: وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ لَمْ يَجْرِ لِلشَّمْسِ ذِكْرٌ , وَلا أَحْسَبُهُمْ أَعْطَوْا فِي هَذَا الْفِكْرِ حَقَّهُ , لأَنَّهُ فِي الآيَةِ دَلِيلٌ على الشمس وهو قوله: {بالعشي} وَالْمَعْنَى: عُرِضَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ , وَلا يجوز الإضمار إلا أَنْ يُجْرِيَ ذكر أو دليل ذكر. قَوْلُهُ تعالى: {ردوها علي} أي أعيدوا الخيل {فطفق} أي أقبل {مسحا بالسوق} وَهِيَ جَمْعُ سَاقٍ. وَفِي الْمُرَادِ بِالْمَسْحِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَرَبَهَا بِالسَّيْفِ. رَوَاهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. مَسَحَ أَعْنَاقَهَا وَسُوقَهَا بِالسَّيْفِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَوَى سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا وَحَبَسَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ , حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَالْعُلَمَاءُ عَلَى الأَوَّلِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ نَخْتَارُ القول الأول وهي عُقُوبَةٌ لِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ عَلَى وَجْهِ التَّشَفِّي , وَهَذَا بِفِعْلِ الْجَبَّارِينَ أَشْبَهُ مِنْهُ بِفِعْلِ الأَنْبِيَاءِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ نَبِيٌّ مَعْصُومٌ , فَلَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ إِلا مَا قَدْ أُجِيزَ لَهُ فِعْلُهُ , وَجَائِزٌ أَنْ يُبَاحَ لَهُ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ فِي شرعنا. على أنه إذا ذبحها كان قُرْبَانًا , وَأَكْلُ لَحْمِهَا جَائِزٌ , فَمَا وَقَعَ تَفْرِيطٌ. قَالَ وَهْبٌ: لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ شَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِعْلَهُ , فَسَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ مَكَانَهَا. قوله تعالى: {ولقد فتنا سليمان} أَيِ ابْتَلَيْنَاهُ بِسَلْبِ مُلْكِهِ {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ} أي على سريره {جسدا} , وَهُوَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ صَخْرٌ وَلَمْ يَكُنْ ممن سخر له {ثم أناب} أَيْ رَجَعَ عَنْ ذَنْبِهِ , وَقِيلَ إِلَى مُلْكِهِ. وَفِي سَبَبِ ابْتِلائِهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ , وَكَانَتْ بَيْنَ بَعْضِ أَهْلِهَا وَبَيْنَ قَوْمٍ خُصُومَةٌ , فَقَضَى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ , إِلا أَنَّهُ وَدَّ أَنْ لَوْ كَانَ الْحَقُّ لأَهْلِهَا. فَعُوقِبَ إِذْ لَمْ يَكُنْ هَوَاهُ فِيهِمْ وَاحِدًا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الزَّوْجَةَ كَانَتْ آثَرَ النِّسَاءِ عِنْدَهُ , فَقَالَتْ لَهُ يَوْمًا: إِنَّ بَيْنَ أَخِي وَبَيْنَ فُلانَةٍ خُصُومَةً , وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَقْضِيَ لَهُ. فَقَالَ: نَعَمْ. وَلَمْ يَفْعَلْ فَابْتُلِيَ لأَجْلِ مَا قَالَ [نَعَمْ] . قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الزَّوْجَةَ كَانَتْ قَدْ سَبَاهَا فَأَسْلَمَتْ , وَكَانَتْ تَبْكِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَتَقُولُ: أَذْكُرُ أَبِي وَمَا كُنْتُ فِيهِ , فَلَوْ أَمَرْتَ الشَّيَاطِينَ أَنْ يُصَوِّرُوا صُورَتَهُ فِي دَارِي أَتَسَلَّى بِهَا. فَفَعَلَ. وَكَانَ إذا خَرَجَ تَسْجُدُ لَهُ هِيَ وَوَلائِدُهَا , فَلَمَّا عَلِمَ سُلَيْمَانُ كَسَرَ تِلْكَ الصُّورَةَ وَعَاقَبَ الْمَرْأَةَ وَوَلائِدَهَا وَاسْتَغْفَرَ , فَسُلِّطَ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. هَذَا قَوْلُ وَهْبٍ. وَفِي كَيْفِيَّةِ ذَهَابُ الْخَاتَمِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ فَوَقَعَ مِنْهُ. قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّ شَيْطَانًا أَخَذَهُ. ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِهِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَضَعَهُ تَحْتَ فِرَاشِهِ وَدَخَلَ الْحَمَّامَ فَأَخَذَهُ الشَّيْطَانُ فَأَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ لِلشَّيْطَانِ: كَيْفَ تَفْتِنُونَ النَّاسَ؟ قَالَ: أَرِنِي خَاتَمَكَ أُخْبِرْكَ. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَنَبَذَهُ فِي الْبَحْرِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَضَعَهُ عِنْدَ أَوْثَقِ نِسَائِهِ فِي نَفْسِهِ , فَتَمَثَّلَ لَهَا الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ فَأَخَذَهُ مِنْهَا. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ سَلَّمَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ فَأَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَإِنَّهُ أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ سُلَيْمَانَ فَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَحَكَمَ فِي سُلْطَانِهِ , إِلا أَنَّهُ كَانَ لا يَقْدِرُ عَلَى نِسَائِهِ , وَكَانَ يَحْكُمُ بِمَا لا يَجُوزُ , فَأَنْكَرَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ , فأحدقوا به ونشروا [له] التوراة فقرأوا فَطَارَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ حَتَّى ذَهَبَ إِلَى البحر. وأما سليمان لَمَّا ذَهَبَ مُلْكُهُ انْطَلَقَ هَارِبًا فِي الأَرْضِ , فَكَانَ يَسْتَطْعِمُ فَلا يُطْعَمُ فَيَقُولُ: لَوْ عَرَفْتُمُونِي أَطْعَمْتُمُونِي. فَيَطْرُدُونَهُ , حَتَّى إِذَا أَعْطَتْهُ امْرَأَةٌ حُوتًا شَقَّهُ فَوَجَدَ الْخَاتَمَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً , فِي قَوْلِ الْحَسَنِ.

الكلام على البسملة

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَعْدَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. فَلَمَّا لَبِسَهُ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مُلْكَهُ وَبَهَاءَهُ وَأَظَلَّهُ الطَّيْرُ , فَأَقْبَلَ لا يَسْتَقْبِلُهُ إِنْسِيٌّ وَلا جِنِّيٌّ وَلا طَائِرٌ وَلا حَجَرٌ وَلا شَجَرٌ إِلا سَجَدَ لَهُ , حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَنْزِلِهِ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَجِيءَ بِهِ فَجَعَلَهُ فِي صُنْدُوقٍ مِنْ حَدِيدٍ وَأَقْفَلَ عَلَيْهِ وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِهِ؛ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ فِيهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} إِنَّمَا طَلَبَ هَذَا الْمُلْكَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ وَيَعْرِفُ مَنْزِلَتَهُ بِإِجَابَةِ دُعَائِهِ , وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ فِي مُلْكِهِ الرِّيحُ وَلا الشَّيَاطِينُ. {وَالرُّخَاءُ} اللَّيِّنَةُ , مَأْخُوذَةٌ مِنَ الرَّخَاوَةِ وَ {أَصَابَ} . بِمَعْنَى قَصَدَ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ وُصِفَتْ فِي سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ بِأَنَّهَا عَاصِفَةٌ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهَا كَانَتْ تَشْتَدُّ إِذَا أَرَادَ وَتَلِينُ إِذَا أَرَادَ. وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَغُوصُ فِي الْبَحْرِ فَتَسْتَخْرِجُ لَهُ الدُّرَّ وَتَعْمَلُ لَهُ الصُّوَرَ. وَالْجِفَانُ: الْقِصَعُ الْكِبَارُ , يَجْتَمِعُ عَلَى الْقَصْعَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفُ رَجُلٍ يَأْكُلُونَ مِنْهَا , وَيَأْكُلُ مِنْ كُلِّ قِدْرٍ أَلْفُ رَجُلٍ , وَكَانَتْ لا تَنْزِلُ مِنْ مَكَانِهَا. فَتَأَمَّلُوا إِخْوَانِي هَذَا السُّلْطَانَ الْعَظِيمَ كَيْفَ تَزَلْزَلَ بِالزَّلَلِ , وَاخْتَلَّتْ أُمُورُهُ إذ دَخَلَ عَلَيْهِ الْخَلَلُ , فَخَطَؤُهُ أَوْجَبَ خُرُوجَهُ مِنَ الْمَمْلَكَةِ , وَلُقْمَةُ آدَمَ كَادَتْ تُوقِعُهُ فِي الْمَهْلَكَةِ , فَعَلَيْكُمْ بِالتَّقْوَى فَإِنَّهَا سَبِيلُ السَّلامَةِ , فَمَنْ أَخْطَأَهَا أَخْطَأَتْهُ الْكَرَامَةُ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (عُمْرٌ يَنْقَضِي وَذْنَبٌ يَزِيدُ ... وَرَقِيبٌ يُحْصِي عَلَيَّ شَهِيدُ) (وَاقْتِرَابٌ مِنَ الْحِمَامِ وَتَأْمِيلٌ ... لِطُولِ الْبَقَاءِ عِنْدِي جَدِيدُ)

(أَنَا لاهٍ وَلِلْمَنِيَّةِ حَتْمٌ ... حَيْثُ يَمَّمْتُ مَنْهَلٌ مَوْرُودُ) (كُلَّ يَوْمٍ يُمِيتُ مِنِّي جُزْءًا ... وَحَيَاتِي تَنَفُّسٌ مَعْدُودُ) (كَمْ أَخٍ قَدْ رُزِئْتُهُ فَهُوَ وَإِنْ أَضْحَى ... قَرِيبَ الْمَحَلِّ مِنِّي بَعِيدُ) (خَلَسَتْهُ الْمَنُونُ مِنِّي فَمَا لِي ... خَلَفٌ مِنْهُ فِي الْوَرَى مَوْجُودُ) (هَلْ لِنَفْسِي بِوَاعِظَاتِ الْجَدِيدِينَ ... عَنْ مَنْزِلٍ سَيَبِيدُ) أَلا مُتَيَقِّظٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ , أَلا مُتَأَهِّبٌ لِلْقَادِمِ عَلَيْهِ , أَلا عَامِرٌ لِلْقَبْرِ قَبْلَ الْوُصوُلِ إِلَيْهِ , يَا وَاقِفًا مَعَ هَوَاهُ وَأَغْرَاضِهِ , يَا مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ عَوَارِضِهِ إِلَى أَعْرَاضِهِ , يَا غَافِلا عَنْ حُكْمِ الْمَوْتِ وَقَدْ بَتَّ بِمِقْرَاضِهِ , سَيَعْرِفُ خَبَرَهُ إِذَا اشْتَدَّ أَشَدُّ أَمْرَاضِهِ , وَأَوْرَدَهُ حَوْضًا مَرِيرًا مِنْ أَصْعَبِ حِيَاضِهِ , وَنَزَلَ بِهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ اغْتِمَاضِهِ , وَاسْتَبْدَلَ بِانْبِسَاطِ كَفِّهِ كَفَّهُ عَنِ انْقِبَاضِهِ , وَأَخَذَتْ يَدُ التلف بعد إحكامه في انتقاضه , وَأُخْرِجَ عَنْ خَضِرِ الرُّبَى وَرَوْضِهِ وَغِيَاضِهِ , وَأُلْقِيَ فِي لَحْدٍ وَعْرٍ يَخْلُو بِرَضْرَاضِهِ , وَعَلِمَ أَنَّهُ باع عُمْرَهُ بِأَرْدَإِ أَعْوَاضِهِ. يَا مَنِ الْهَوَى كَلامُهُ وَحَدِيثُهُ , يَا مَنْ فِي الْمَعَاصِي قَدِيمُهُ وَحَدِيثُهُ , يَا مَنْ عُمْرُهُ فِي الْمَعَاصِي خَفِيفُهُ وَأَثِيثُهُ , مَنْ لَهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ فِي كَرْبِهِ مَنْ يُغِيثُهُ , آهٍ مِنْ قَهْرٍ لا يَرْفُقُ بُطَّاشُهُ , وَمِنْ حَرِيقٍ لا يَرْحَمُ عُطَّاشَهُ , وَمِنْ نُزُولِ لَحْدٍ لا يُرْفَعُ خِشَاشُهُ , عَمَلُ الْمَقْبُولِ فِيهِ لِحَافُهُ وَفِرَاشُهُ , آهٍ مِنْ سَحَابِ عِقَابٍ رَذَاذُهُ يُرْدِي وَرَشَاشُهُ , مَنْ يُخَلِّصُهُ الْيَوْمَ مِنْ هوى قد أشربه مُشَاشُهُ. كَأَنَّكُمْ بِالسَّمَاءِ قَدِ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ , وَبِأَقْدَامِ الصَّالِحِينَ قَدْ تَرَقَّتْ , وَبِأَيْمَانِهِمْ لِلصَّحَائِفِ قَدْ تَلَقَّتْ , صَبَرَ الْقَوْمُ عَلَى حَصْرِ الْحَبْسِ فَخَرَجُوا إِلَى رَوْحِ السَّعَةِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ [أَبِي] الْحَوَارِيِّ: قُلْتُ لِزَوْجَتِي رَابِعَةَ: أَصَائِمَةٌ أَنْتِ الْيَوْمَ؟ فَقَالَتْ: وَمِثْلِي مَنْ يُفْطِرُ فِي الدُّنْيَا! وَكَانَتْ إِذَا طَبَخَتْ قِدْرًا قَالَتْ: كُلْهَا يَا سَيِّدِي فَمَا نَضِجَتْ إِلا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ!

وَكَانَتْ تَقُولُ: مَا سَمِعْتُ الآذَانَ إِلا ذَكَرْتُ مُنَادِيَ الْقِيَامَةِ , وَلا رَأَيْتُ الثَّلْجَ إِلا تَذَكَّرْتُ تَطَايُرَ الصُّحُفِ , وَلا رَأَيْتُ جَرَادًا إِلا ذَكَرْتُ الحشر , وربما رأيت الجن يذهبون ويجيئون , وريما رَأَيْتُ الْحُورَ يَسْتَتِرْنَ مِنِّي بِأَكْمَامِهِنَّ قَالَ: وَدَعَوْتُهَا مَرَّةً فَلَمْ تُجِبْنِي , فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَاعَةٍ أَجَابَتْنِي وَقَالَتْ: إِنَّ قَلْبِي كَانَ قَدِ امْتَلأَ فَرَحًا بِاللَّهِ فَلَمْ أَقْدِرْ أَنْ أُجِيبَكَ. قَالَ: وَكَانَتْ لَهَا أَحْوَالٌ شَتَّى , فَمَرَّةً يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْحُبُّ فَتَقُولُ: (حَبِيبٌ لَيْسَ يَعْدِلُهُ حَبِيبٌ ... وَلا لِسِوَاهُ فِي قَلْبِي نَصِيبُ) (حَبِيبٌ غَابَ عَنْ بَصَرِي وَسَمْعِي ... وَلَكِنْ عَنْ فُؤَادِي مَا يَغِيبُ) وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَيْهَا الأُنْسُ فَتَقُولُ: (وَلَقَدْ جَعَلْتُكَ فِي الْفُؤَادِ مُحَدِّثِي ... وَأَبَحْتُ جِسْمِي مَنْ أَرَادَ جُلُوسِي) (فَالْجِسْمُ مِنِّي لِلْجَلِيسِ مُؤَانِسٌ ... وَحَبِيبُ قَلْبِي فِي الْفُؤَادِ أَنِيسِي) وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَيْهَا الْخَوْفُ فَتَقُولُ: (وَزَادِي قَلِيلٌ مَا أَرَاهُ مُبَلِّغِي ... أَلِلزَّادِ أَبْكِي أَمْ لِطُولِ مَسَافَتِي) (أَتَحْرِقُنِي بِالنَّارِ يَا غَايَةَ الْمُنَى ... فَأَيْنَ رَجَائِي فِيكَ أَيْنَ مَحَبَّتِي) وَيْحَ قَلْبِكَ! مَا هَذِهِ الْقَسْوَةُ , أَتَغْلِبُكَ وَأَنْتَ رَجُلُ نِسْوَةٍ! كَانَتْ أُمُّ هَارُونَ مِنَ الْعَابِدَاتِ تَقُولُ: إِنِّي لأَغْتَمُّ بِالنَّهَارِ حَتَّى يَجِيءَ اللَّيْلُ , فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ قُمْتُ , فَإِذَا جَاءَ السَّحَرُ دَخَلَ الرَّوْحُ قَلْبِي. وَخَرَجْتُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَعَارَضَهَا سَبُعٌ فَقَالَتْ: تَعَالَ إِنْ كَانَ لَكَ رِزْقٌ فَكُلْ. فَأَقْعَى السَّبُعُ ثُمَّ عَادَ. وَكَانَتْ ثُوَيْبَةُ بِنْتُ بُهْلُولٍ تَقُولُ: قُرَّةَ عَيْنِي! مَا طَابَتِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ إِلا بِكَ , فَلا تَجْمَعْ عَلَيَّ فَقْدَكَ وَالْعَذَابَ! قَالَ خُشَيْشٌ الْمَوْصِلِيُّ: جَاءَنِي كِتَابٌ مِنْ حَمَّادَةَ الْعَابِدَةِ فَإِذَا فِيهِ: أَبْلِغْ كل

مَحْزُونٍ بِالشَّامِ عَنِّي السَّلامَ. أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفْرٍ , أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ , أَنْبَأَنَا عَبْدُ العزيز بن علي , بن أنبأنا علي , ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَهْضَمٍ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الدِّينَوَرِيُّ , عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا الشِّيرَازِيِّ , قَالَ: تهت في البادية بالعراق أياماً كثيرة ولم أَجِدْ شَيْئًا أَرْتَفِقُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثلاثة أَيَّامٍ رَأَيْتُ فِي الْفَلاةِ خِبَاءَ شَعَرٍ مَضْرُوبًا , فَقَصَدْتُهُ فَإِذَا فِيهِ بَيْتٌ وَعَلَيْهِ سِتْرٌ مُسْبَلٌ , فَسَلَّمْتُ فَرَدَّتْ عَلَيَّ عَجُوزٌ مِنْ دَاخِلِ الْخِبَاءِ وَقَالَتْ: يَا إِنْسَانُ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ مَكَّةَ. قَالَتْ: وَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: الشَّامَ. قَالَتْ: أَرَى شَبَحَكَ شَبَحَ إِنْسَانٍ بَطَّالٍ , هَلا لَزِمْتَ زَاوِيَةً تَجْلِسُ فِيهَا إِلَى أَنْ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ , ثُمَّ تَنْظُرُ هَذِهِ الْكِسْرَةَ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُهَا؟! ثُمَّ قَالَتْ: تَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَتِ: اقْرَأْ عَلَيَّ آخِرَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ. فَقَرَأْتُهَا فَشَهِقَتْ وَأُغْمِيَ عَلَيْهَا. فَلَمَّا أَفَاقَتْ قَرَأَتْ هِيَ الآيَاتِ , فَأَخَذَتْ مِنِّي قِرَاءَتُهَا أَخْذًا شَدِيدًا , ثُمَّ قَالَتْ: يَا إِنْسَانُ اقْرَأْهَا ثَانِيَةً. فَقَرَأْتُهَا , فَلَحِقَهَا مِثْلُ مَا لَحِقَهَا فِي الأَوَّلِ فَصَبَرْتُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ تُفِقْ , فَقُلْتُ كَيْفَ أَسْتَكْشِفُ حَالَهَا هَلْ مَاتَتْ أَمْ لا؟ فَتَرَكْتُ الْبَيْتَ عَلَى حَالِهِ وَمَشَيْتُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ مِيلٍ , فَأَشْرَفْتُ عَلَى وَادٍ فِيهِ أَعْرَابٌ , فَأَقْبَلَ إِلَيَّ غُلامَانِ مَعَهُمَا جَارِيَةٌ , فَقَالَ أَحَدُ الْغُلامَيْنِ: يَا إِنْسَانُ أَتَيْتَ الْبَيْتَ فِي الْفَلاةِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: قَتَلْتَ الْعَجُوزَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! فَمَشَيْتُ مَعَ الْغُلامَيْنِ وَالْجَارِيَةِ حَتَّى أَتَيْنَا الْبَيْتَ , فَدَخَلَتِ الْجَارِيَةُ فَكَشَفَتْ عَنْ وَجْهِهَا فَإِذَا هِيَ مَيِّتَةٌ , فَأَعْجَبَنِي خَاطِرُ الْغُلامِ , فَقُلْتُ لِلْجَارِيَةِ: مَنْ هَذَانِ الْغُلامَانِ؟ فَقَالَتْ: هَذِهِ أُخْتُهُمْ , مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً لَمْ تَأْنَسْ بِكَلامِ النَّاسِ , وَإِذَا نَزَلْنَا بِوَادٍ تُوَارِي بَيْتَهَا بِالْفَلاةِ لِئَلا تَسْمَعَ كَلامَ أَحَدٍ , وَكَانَتْ تَأْكُلُ فِي كُلِّ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أُكْلَةً وَتَشْرَبُ شَرْبَةً. (ثَوْرُهَا الْحَادِي عَلَى فَرَطِ الرَّجَا ... تَأْمُلُ مَعَ ضَوْءِ الصَّبَاحِ الْفَرَجَا) (تَقْطَعُ فِي الْبَيْدِ سَبِيلا حَرَجًا ... بَاسِطَةً عِقَالَهَا جُنْحَ الدُّجَا)

الكلام على قوله تعالى

غيره: (حدث عَلَيْهَا فِي السُّرَى حَادِيهَا ... فَلا تَقُلْ فَشَوْقُهَا يَكْفِيهَا) غَيْرُهُ: (يَا سَائِقَهَا عَلَى وِحَاهَا مَهْلا ... ارْتَدْ لِمَسِيرِهَا طَرِيقًا سَهْلا) (وَانْشُدْ قَلْبِي إِنْ جُزْتَ بَابَ الْمُعَلَّى ... مَا بَيْنَ قُبُورِ الْعَاشِقِينَ الْقَتْلَى) غَيْرُهُ: (يَا سَاكِنِي بَطْنَ وَجْرَةَ مِنْ نَجْدِ ... هَلْ عِنْدَكُمْ لِسَائِلٍ مَا يُجْدِي) (مَقْتُولٌ هَوَى بِهِ رَسِيسُ الْوَجْدِ ... مَا حَالَ عَنِ الْعَهْدِ لِطُولِ الْعَهْدِ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {القارعة ما القارعة} الْقَارِعَةُ الْقِيَامَةُ , سُمِّيَتِ قَارِعَةً لأَنَّهَا تَقْرَعُ بالأهوال. وقوله: {ما القارعة} اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّفْخِيمُ لِشَأْنِهَا , كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ مَا زَيْدٌ. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} أَيْ لأَنَّكَ لَمْ تُعَايِنْهَا وَلَمْ تَرَ مَا فِيهَا لِشِدَّةِ الأَهْوَالِ {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ المبثوث} قَالَ الْفَرَّاءُ الْفَرَاشُ: غَوْغَاءُ الْجَرَادِ , وَهُوَ صِغَارُهُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَا تَهَافَتَ فِي النَّارِ مِنَ الْبَعُوضِ. شَبَّهَ النَّاسَ بِذَلِكَ لأَنَّهُمْ إِذَا بُعِثُوا مَاجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. وَالْمَبْثُوثُ: الْمُنْتَشِرُ المتفرق. {وتكون الجبال كالعهن} أَيْ كَالصُّوفِ , شَبَّهَهَا فِي ضَعْفِهَا وَلِينِهَا بِالصُّوفِ. وَقِيلَ شَبَّهَهَا فِي خِفَّتِهَا وَسَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ قتيبة: العهن: الصوف

المصبوغ. والمنفوش: الْمَنْدُوفُ. فَإِذَا رَأَيْتَ الْجَبَلَ قُلْتَ هَذَا جَبَلٌ. فَإِذَا مَسَسْتَهُ لَمْ تَرَ شَيْئًا , وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ. يَا مَنْ عَمَلُهُ بِالنِّفَاقِ مَغْشُوشٌ , تَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ كَمَا يَزِينُ الْمَنْقُوشُ , إِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى الْبَاطِنِ لا إِلَى النُّقُوشِ , إِذَا هَمَمْتَ بِالْمَعَاصِي فَاذْكُرْ يَوْمَ النُّعُوشِ , وَكَيْفَ تُحْمَلُ إِلَى قَبْرٍ بِالْجَنْدَلِ مَفْرُوشٍ , مَنْ لَكَ إِذَا جُمِعَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْوُحُوشُ , وَقَامَ الْعَاصِي مِنْ قَبْرِهِ حيران مدهوش , وَجِيءَ بِالْجَبَّارِ الْعَظِيمِ وَهُوَ مَغْلُولٌ مَخْشُوشٌ , فَحِينَئِذٍ يَتَضَاءَلُ الْمُتَكَبِّرُ وَتُذَلُّ الرُّءُوسُ , وَيَوْمَئِذٍ يُبْصِرُ الأَكْمَهُ ويسمع الأطروش , وَيُنْصَبُ الصِّرَاطُ فَكَمْ وَاقِعٍ وَكَمْ مَخْدُوشٍ , لَيْسَ بِجَادَّةٍ يَقْطَعُهَا قَصْلٌ وَلا مَرْعُوشٌ , وَلا تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِدْيَةٌ وَلا تُؤْخَذُ الأُرُوشُ , وَالْمَتْعُوسُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِمَنْعُوشٍ , وَيَنْقَلِبُ أَهْلُ النَّارِ فِي الأَقْذَارِ وَالرِّيحُ كَالْحُشُوشِ , لِحَافُهُمْ جَمْرٌ وَكَذَلِكَ الفروش , {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} . قوله تعالى: {فأما من ثقلت موازينه} أَيْ رَجَحَتْ بِالْحَسَنَاتِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْمُرَادُ بِمَوَازِينِهِ وَزْنُهُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: هَلْ لَكَ فِي دِرْهَمٍ بِمِيزَانِ دِرْهَمِكَ وَوَزْنِ دِرْهَمِكَ. وَأَرَادَ بِالْمَوَازِينِ: الْوَزَنَاتِ {فهو في عيشة راضية} أَيْ مَرْضِيَّةٍ. {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوية} فِيهِ قَوْلانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَهْوِي فِي النَّارِ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ هَاوِيَةً. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ هَاوٍ فِي النَّارِ عَلَى رَأْسِهِ. قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: فَمَسْكَنُهُ النَّارُ , فَالنَّارُ لَهُ كَالأُمِّ لأَنَّهُ يَأْوِي إِلَيْهَا. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ. أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ خَيْرُونٍ , قَالَ أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعَدَةَ , قَالَ أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ يُوسُفَ , قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ , حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ يُوسُفَ , حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْرَائِيلَ , قَالَ حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى , قَالَ حَدَّثَنَا سَلامٌ التميمي , عن ثور ابن زَيْدٍ , عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ , عَنْ أَبِي

سجع

رُهْمٍ , عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ , قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَاتَ تَلَقَّتْهُ الْبُشْرَى مِنَ الْمَلائِكَةِ وَمِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَمَا يَتَلَقَّى الْبُشْرَى فِي دَارِ الدُّنْيَا , فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: رَوِّحُوهُ سَاعَةً فَقَدْ خَرَجَ مِنْ كَرْبٍ عَظِيمٍ. ثُمَّ يُقْبِلُونَ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ فَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلانٌ؟ مَا فَعَلَ فُلانٌ؟ هَلْ تَزَوَّجَتْ فُلانَةٌ. فَإِنْ سَأَلُوهُ عَنْ إِنْسَانٍ قَدْ مَاتَ قَالَ: هَيْهَاتَ مَاتَ ذَاكَ قَبْلِي. فَيَقُولُونَ: إِنَّا لله وإنا إليه راجعون , سُلِكَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ فَبِئْسَتِ الأُمُّ وَبِئْسَتِ الْمُرَبِّيَةُ. قَالَ. وَتُعْرَضُ عَلَى الْمَوْتَى أَعْمَالُكُمْ , فَإِنْ رَأَوْا خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا وَقَالُوا: اللَّهُمَّ إِنَّ هَذِهِ نِعْمَتُكَ فَأَتِمَّهَا عَلَى عَبْدِكَ , وَإِنْ رَأَوْا سيئة قالوا: اللهم راجع بِعَبْدِكَ. فَلا تُحْزِنُوا مَوْتَاكُمْ بِأَعْمَالِ السُّوءِ فَإِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ ". وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي أَيُّوبَ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ كَلامِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. أَلَكَ عَمَلٌ إِذَا وُضِعَ فِي الْمِيزَانِ زَانَ , عَمَلُكَ قِشْرٌ لا لُبٌّ , وَاللُّبُّ يُثْقِلُ الْكِفَّةَ لا الْقِشْرُ. سَجْعٌ يَا مَنْ أَغْصَانُ إِخْلاصِهِ ذَاوِيَةٌ , وَصَحِيفَتُهُ مِنَ الطَّاعَاتِ خَاوِيَةٌ , لَكِنَّهَا لِكِبَارِ الذُّنُوبِ حَاوِيَةٌ , يَا مَنْ هِمَّتُهُ أَنْ يَمْلأَ الْحَاوِيَةَ , كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبُطُونِ الطَّاوِيَةِ , كَمْ بَيْنَ طَائِفَةِ الْهُدَى وَالْغَاوِيَةِ , اعْلَمْ أَنَّ أَعْضَاءَكَ فِي التراب ثاوية , لعلها تتفرد بِالْجِدِّ فِي زَاوِيَةٍ , قَبْلَ أَنْ تَعْجِزَ عِنْدَ الْمَوْتِ الْقُوَّةُ الْمُقَاوِيَةُ , وَتَرَى عُنُقَ الْمِيزَانِ لِقِلَّةِ الْخَيْرِ لاوِيَةً {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوية} . ذِكْرُ الْحِسَابِ أَطَارَ عَنْ أَعْيُنِ الْمُتَّقِينَ النُّعَاسَ , وَلِتَثْقِيلِ الْمِيزَانِ فُرِّغَتْ أَكْيَاسُ الْكُيَّاسِ. قَالَتْ مَوْلاةُ أَبِي أُمَامَةَ: كَانَ أَبُو أُمَامَةَ لا يَرُدُّ سَائِلا وَلَوْ بِتَمْرَةٍ , فَأَتَاهُ سَائِلٌ

ذَاتَ يَوْمٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إِلا ثَلاثَةُ دَنَانِيرَ فَأَعْطَاهُ دِينَارًا , ثُمَّ أَتَاهُ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ دِينَارًا , ثُمَّ أَتَاهُ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ دِينَارًا , قَالَتْ: فَغَضِبْتُ وَقُلْتُ: لَمْ تَتْرُكْ لَنَا شَيْئًا؟ فَوَضَعَ رَأْسَهُ لِلْقَائِلَةِ فَلَمَّا نُودِيَ لِلظُّهْرِ أَيْقَظْتُهُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ راح إلى المسحد. قالت فرققت عَلَيْهِ وَكَانَ صَائِمًا , فَاقْتَرَضْتُ مَا جَعَلْتُ لَهُ عَشَاءً وَأَسْرَجْتُ لَهُ سِرَاجًا , وَجِئْتُ إِلَى فِرَاشِهِ لأُمَهِّدَهُ لَهُ , فَإِذَا صُرَّةُ ذَهَبٍ فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هي ثلاثمائة دِينَارٍ , فَقُلْتُ رَحِمَكَ اللَّهُ! مَا صَنَعَ الَّذِي صَنَعَ إِلا وَقَدْ وَثِقَ بِمَا عِنْدَهُ. فَأَقْبَلَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَلَمَّا رَأَى الْمَائِدَةَ وَالسِّرَاجَ تَبَسَّمَ وَقَالَ: هَذَا خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ. فَقُمْتُ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى تَعَشَّى , فَقُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ! خَلَّفْتَ هَذِهِ النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُضَيَّعَةً وَلَمْ تُخْبِرْنِي فَأَدْفَعَهَا؟ قَالَ: وَأَيُّ نَفَقَةٍ؟ مَا خَلَّفْتُ شَيْئًا. قَالَتْ: فَرَفَعْتُ الْفِرَاشَ , فَلَمَّا رَآهُ فَرِحَ واشتد تعجبه. قالت: فقمت فقطت زُنَّارِي وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدِهِ. وَكَانَتْ تُعَلِّمُ النِّسَاءَ الْقُرْآنَ وَالْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ. انْظُرُوا ثَمَرَةَ الْمُعَامَلاتِ: هَذَا نَقْدٌ فَكَيْفَ الْوَعْدُ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ , قَالا أَنْبَأَنَا طِرَادٌ , قَالا أنبأنا أبو الحسين ابن بِشْرَانَ , أَنْبَأَنَا ابْنُ صَفْوَانَ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ , قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابن سُهَيْلٍ , قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ الْغَوْرِ , قَالَ: كَانَ حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ مِنَ الْبَكَّائِينَ , وَكَانَ ضَيِّقَ الْحَالِ جِدًّا , فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ يَوْمًا وَهُوَ وَحْدَهُ فَقُلْتُ لَهُ: لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ يُوسِعُ عَلَيْكَ؟ فَالْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالا فَلَمْ يَرَ أَحَدًا فَأَخَذَ حَصَاةً مِنَ الأَرْضِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا ذَهَبًا. فَإِذَا هِيَ وَاللَّهِ تِبْرَةٌ فِي كَفِّهِ مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهَا. فَرَمَى بِهَا إِلَيَّ فَقُلْتُ: مَا أَصْنَعُ بِهَا قَالَ اسْتَنْفِقْهَا. فَهِبْتُهُ وَاللَّهِ أَنْ أَرُدَّهُ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ , أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ , أَنْبَأَنَا هِلالُ بْنُ مُحَمَّدٍ , أَنْبَأَنَا جَعْفَرٌ الْخُلْدِيُّ , حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْرُوقٍ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزيِزِ بْنِ سُلَيْمَانَ , قَالَ: سَمِعْتُ دَهْثَمًا وَكَانَ مِنَ الْعَابِدِينَ يَقُولُ: الْيَوْمُ الَّذِي لا آتِي فِيهِ عَبْدَ الْعَزِيزِ كُنْتُ مَغْبُونًا. فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِ يوما أَتَيْتُهُ فَقَالَ: مَا الَّذِي أَبْطَأَ بِكَ؟ قُلْتُ: خَيْرٌ. قَالَ: عَلَى أَيِّ حَالٍ. قُلْتُ: شَغَلَنَا العيال , كنت

أَلْتَمِسُ لَهُمْ شَيْئًا. قَالَ: فَوَجَدْتَهُ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلُمَّ فَلْنَدْعُ. فَدَعَا وَأَمَّنْتُ وَدَعَوْتُ وَأَمَّنَ. ثُمَّ نَهَضْنَا لِنَقُومَ فَإِذَا وَاللَّهِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ تَتَنَاثَرُ فِي حُجُورِنَا. فَقَالَ: دُونَكَهَا. وَمَضَى. مَا خَسِرَ مَعَنَا مُعَامِلٌ , وَلا قَاطَعَنَا مُوَاصِلٌ. قَوْلُهُ تعالى: {وما أدراك ما هيه} يعني الهاوية {نار حامية} أَيْ حَارَّةٌ قَدِ انْتَهَى حَرُّهَا. كَانَ عَطَاءٌ السُّلَمِيُّ إِذَا عُوتِبَ فِي كَثْرَةِ بُكَائِهِ يَقُولُ: إِنِّي إِذَا ذَكَرْتُ أَهْلَ النَّارِ مَثَّلْتُ نَفْسِي بينهم , فكيف بنفس تُغَلُّ وَتُسْحَبُ أَنْ لا تَبْكِيَ. رَحِمَ اللَّهُ أَعْظُمًا نُصِبَتْ فِي الطَّاعَةِ وَانْتَصَبَتْ , جَنَّ عَلَيْهَا اللَّيْلُ فَلَمَّا تَمَكَّنَ وَثَبَتْ , كُلَّمَا ذَكَرَتْ جَهَنَّمَ رَهِبَتْ وَهَرَبَتْ , وَكُلَّمَا تَصَوَّرَتْ ذُنُوبَهَا نَاحَتْ عَلَيْهَا وَنَدَبَتْ. كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي حَتَّى أَخَذَ بِكَفَّيْهِ مِنْ دُمُوعِهِ فَرَمَى بِهَا. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَبْكِي حَتَّى نَشِفَتْ دُمُوعُهُ وَقَلَصَتْ عَيْنَاهُ. وَبَكَى هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ حَتَّى فَسَدَتْ عينه , وكانت مفتوحة لا يبصر لها. وَكَانَ الْفُضَيْلُ قَدْ أَلِفَ الْبُكَاءَ فَرُبَّمَا بَكَى فِي نَوْمِهِ فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الدَّارِ. (بَكَى الْبَاكُونَ لِلرَّحْمَنِ لَيْلا ... وَبَاتُوا دَمْعُهُمْ لا يَسْأَمُونَا) (بِقَاعُ الأَرْضِ مِنْ شَوْقٍ إِلَيْهِمْ ... تَحِنُّ مَتَى عَلَيْهَا يَسْجُدُونَا) إِذَا لانَتِ الْقُلُوبُ لِلْخَوْفِ وَرَقَّتْ , رَفَعَتْ دُمُوعَهَا إِلَى الْعَيْنِ وَرَقَّتْ , فَأَعْتَقَتْ رقاباًَ لِلْخَطَايَا ورقت , يَا قَاسِيَ الْقَلْبِ ابْكِ عَلَى قَسْوَتِكَ , يَا ذَاهِلَ الْفَهْمِ بِالْهَوَى نُحْ عَلَى غَفْلَتِكَ , يَا دَائِمَ الْمَعَاصِيَ خَفْ غَبَّ مَعْصِيَتِكَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّارَ أُعِدَّتْ لِعُقُوبَتِكَ. (وَمَجْلِسُنَا مَأْتَمٌ لِلذُّنُوبِ ... فَابْكُوا فَقَدْ حَانَ مِنَّا الْبُكَا) (وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ مِيعَادُنَا ... لِكَشْفِ السُّتُورِ وَهَتْكِ الْغَطَا)

سجع

جَاءَتِ امْرَأَةٌ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ إِلَى رَاهِبٍ وَقَصَدَتْ أَنْ تَفْتِنَهُ , فَقَالَتْ: هَذَا الْمَطَرُ وَلا مَأْوَى لِي فَأْوِنِي. فَفَتَحَ لَهَا الْبَابَ فَدَخَلَتْ واضطجعت وَجَعَلَتْ تُرِيهِ مَحَاسِنَهَا , فَدَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَيْهَا فَقَالَ لِنَفْسِهِ: لا حَتَّى أَنْظُرَ صَبْرَكِ عَلَى النَّارِ. فَأَتَى الْمِصْبَاحَ فَوَضَعَ إِصْبَعَهُ فِيهِ حَتَّى احْتَرَقَتْ , ثُمَّ عَادَ إِلَى صَلاتِهِ فَعَاوَدَتْهُ نَفْسُهُ فَأَتَى الْمِصْبَاحَ فَوَضَعَ إِصْبَعَهُ فِيهِ فَاحْتَرَقَتْ , ثُمَّ أَتَى صَلاتَهُ فَعَاوَدَتْهُ نَفْسُهُ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى احْتَرَقَتِ الأَصَابِعُ الْخَمْسُ. فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ ذَلِكَ صُعِقَتْ فَمَاتَتْ. وَكَانَ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ يُقَدِّمُ إِصْبَعَهُ إِلَى الْمِصْبَاحِ فَإِذَا وَجَدَ حَرَارَةَ النَّارِ قَالَ لِنَفْسِهِ: مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ يَوْمَ كَذَا. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: دَخَلْتُ عَلَى عَابِدٍ وَقَدْ أَوْقَدَ نَارًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ وَيَنْظُرُ إِلَى النَّارِ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى خَرَّ مَيِّتًا. دَخَلَ ابْنُ وَهْبٍ إِلَى الْحَمَّامِ فَسَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: {وإذ يتحاجون في النار} فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَحُمِلَ. سَجْعٌ يَا مَنْ أَرْكَانُ إِخْلاصِهِ وَاهِيَةٌ , أَمَا لَكَ مِنْ عَقْلِكَ نَاهِيَةٌ , إِلَى مَتَى نَفْسُكَ سَاهِيَةٌ , مُعْجَبَةٌ بِالدُّنْيَا زَاهِيَةٌ , مُفَاخِرَةٌ لِلإِخْوَانِ مُضَاهِيَةٌ النَّارُ بَيْنَ يَدَيْكَ وتكفي داهية {وما أدراك ما هي نار حامية} . تَقُومُ مِنْ قَبْرِكَ ضَعِيفَ الْجَاشِ , وَقَدْ جَأَرَ قَلْبُكَ فِي بَدَنِكَ وَجَاشَ , وَوَابِلُ الدَّمْعِ يَسْبِقُ الرَّشَاشَ , أَتَدْرِي مَا يُلاقِي الْعُطَّاشُ الظَّامِئَةُ {نَارٌ حامية} . أَيْنَ مَنْ عَتَى وَتَجَبَّرَ , أَيْنَ مَنْ عَلا وَتَكَبَّرَ , أَيْنَ مَنْ لِلدُّوَلِ بِالظُّلْمِ دَبَّرَ , مَاذَا أعد للحضرة السامية , نار [حامية] . لو رأيت العاصي وقد شقى , يصيح فِي الْمَوْقِفِ وَاقَلَقِي , اشْتَدَّ عَطَشُهُ وَمَا

سُقِيَ , وَشَرَرُ النَّارِ إِلَيْهِ يَرْتَقِي , فَمَنْ يَتَّقِي تلك الرامية {نار حامية} . لَوْ رَأَيْتَهُ يُقَاسِي حَرَّهَا وَيُعَانِي ضُرَّهَا , جَحِيمَهَا وَقُرَّهَا , وَاللَّهِ لا يَدْفَعُ الْيَوْمَ شَرَّهَا إِلا عين هامية {نار حامية} . يَفِرُّ الْوَلَدُ مِنْ أَبِيهِ , وَالأَخُ مِنْ أَخِيهِ؛ وَكُلُّ قَرِيبٍ مِنْ ذَوِيهِ , أَسَمِعْتَ يَا مَنْ معاصيه ناميه {نار حامية} . لِهَذَا كَانَ الْمُتَّقُونَ يَقْلَقُونَ وَيَخَافُونَ رَبَّهُمْ وَيُشْفِقُونَ , وَكَمْ جَرَتْ مِنْ عُيُونِ الْقَوْمِ عُيُونٌ , كَانَتْ جُفُونُهُمْ دَائِمَةً دَامِيَةً [مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْ نَارٌ حامية. أَجَارَنَا اللَّهُ بِكَرَمِهِ مِنْهَا وَوَفَّقَنَا لِمَا يُنْجِي عَنْهَا , وَجَعَلَنَا بِفَضْلِهِ مِمَّنْ قَامَ بِمَا يُؤْمَرُ وَاجْتَنَبَ مَا عَنْهُ يُنْهَى , فَكَمْ لَهُ مِنْ نعم سامية {نار حامية} ] .

المجلس الحادي والعشرون في قصة بلقيس

المجلس الحادي والعشرون فِي قِصَّةِ بَلْقِيسَ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي يَخْضَعُ لِقُدْرَتِهِ مَنْ يَعْبُدُ , وَلِعَظَمَتِهِ يَخْشَعُ مَنْ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ , وَلِطِيبِ مُنَاجَاتِهِ يَسْهَرُ الْعَابِدُ وَلا يَرْقُدُ , وَلِطَلَبِ ثَوَابِهِ يَقُومُ الْمُصَلِّي وَيَقْعُدُ , إِذَا دَخَلَ الدَّخَلُ فِي الْعَمَلِ لَهُ يَفْسَدُ , وَإِذَا قُصِدَتْ به سوق الخلق يكسد , يحل كَلامُهُ عَنْ أَنْ يُقَالَ مَخْلُوقٌ وَيَبْعُدُ , جَدَّدَ التسليم لصفاته مستقيم الجد جد , وَكَرَمُهُ سَيَّاحٌ [فَلا يَحْتَاجُ] أَنْ يُقَالَ جُدْ جُدْ , مَنْ شَبَّهَ أَوْ عَطَّلَ لَمْ يَرْشُدْ , مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَنَا أَوْ فِي السُّنَّةِ لَمْ نَرْدُدْ , فَأَمَّا أَنْ تَقُولَ فِي الْخَالِقِ بِرَأْيِكَ فَإِنَّكَ تُبْرِدُ , أَلَيْسَ هَذَا اعْتِقَادَكُمْ يَا أَهْلَ الْخَيْرِ , وَكَيْفَ لا أَتَفَقَّدُ الْعَقَائِدَ خَوْفًا مِنَ الضَّيْرِ , فَإِنَّ سُلَيْمَانَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ " فقال: مالي لا أرى الهدهد ". أَحْمَدُهُ حَمْدَ مَنْ يَرْشُدُ بِالْوُقُوفِ عَلَى بَابِهِ وَلا يَشْرُدُ , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي قيل لحاسده: {فليمدد} , وَعَلَى الصِّدِّيقِ الَّذِي فِي قُلُوبِ مُحِبِّيهِ فَرَحَاتٌ وَفِي صُدُورِ مُبْغِضِيهِ قَرَحَاتٌ لا تَنْفَدُ , وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُقَوِّي الإِسْلامَ وَيُعَضِّدُ , وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي جَاءَتْهُ الشَّهَادَةُ فَلَمْ يَرْدُدْ , وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي كَانَ يَنْسِفُ زَرْعَ الْكُفْرَ بِسَيْفِهِ وَيَحْصِدُ , أَتُحِبُّهُ وَتُبْغِضُ أَبَا بَكْرٍ تُبْرِدُ , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي يَعْلُو نَسَبُهُ الأَنْسَابَ وَيَمْجُدُ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فقال مالي لا أرى الهدهد} . كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا قَعَدَ عَلَى سَرِيرِهِ وَوُضِعَتِ الْكَرَاسِيُّ

يَمِينًا وَشِمَالا , فَتَجْلِسُ الإِنْسُ وَالْجِنُّ وَتُظِلُّهُمُ الطَّيْرُ , وَيَأْمُرُ الرِّيحَ فَتَحْمِلُهُمْ. فَنَزَلَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ مَفَازَةً فَسَأَلَ عَنْ بُعْدِ الْمَاءِ هُنَاكَ , فَقَالُوا: لا نَعْلَمُ. فَقَالَتِ الشَّيَاطِينُ: إِنْ يَكُ مَنْ يَعْلَمُ فَالْهُدْهُدُ. فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْهُدْهُدِ. فَلَمْ يُوجَدْ " فقال: ما لي أرى الهدهد " والمعنى: ما للهدهد لا أراه " {ام كان} " أَيْ بَلْ كَانَ " {مِنَ الْغَائِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شديدا} " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: [كَانَ] يَنْتِفُ رِيشَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَشُدُّ رِجْلَيْهِ وَيُشَمِّسُهُ. {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ} أَيْ حُجَّةً. وَكَانَ الْهُدْهُدُ حِينَ نَزَلَ سُلَيْمَانُ قد ارتفع في السماء يتأمل الأَرْضَ فَرَأَى بُسْتَانًا لِبَلْقِيسَ فَمَالَ إِلَى الْخَضِرَةِ , فَإِذَا هُوَ بِهُدْهُدٍ لَهَا فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنَ الشَّامِ مَعَ صَاحِبِي سُلَيْمَانَ. فَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ هَذِهِ الْبِلادِ وَمَلِكَتُهَا بَلْقِيسُ. فَانْطَلَقَ مَعَهُ فَرَأَى بَلْقِيسَ وَمُلْكَهَا. وَبَلْقِيسُ لَقَبٌ وَاسْمُهَا بَلْقَمَةُ بِنْتُ ذِي مسرحَ. وَقِيلَ بِنْتُ الشَّيْصَبَانِ مَلِكِ سَبَإٍ , فَلَمَّا احْتُضِرَ استخلفها لما عرف من رأيها وتدبيرها , فَمَلَكَتْ وَكَانَتْ سَاكِنَةً فِي أَرْضِ سَبَإٍ وَهِيَ مأرب , وكانت تَحْتَ يَدِهَا الْمُلُوكُ. فَلَمَّا رَآهَا الْهُدْهُدُ وَجَاءَ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: مَا الَّذِي غَيَّبَكَ؟ " قَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سبأ " وَسَبَأٌ هِيَ الْقَبِيلَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَوْلادِ سَبَإِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ. وَهُوَ اسْمُ رَجُلٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , قَالَ أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ , قَالَ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ لَهِيعَةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَإٍ أَرَجُلٌ أَمِ امْرَأَةٌ أَمْ أَرْضٌ؟ فَقَالَ: بَلْ هُوَ رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةُ أَوْلادٍ فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَمِنْهُمْ بِالشَّامِ أَرْبَعَةٌ. فَأَمَّا الْيَمَانِيُّونَ فَمَذْحِجٌ وَكِنْدَةُ وَالأَزْدُ وَالأَشْعَرِيُّونَ وَأَنْمَارُ وَحِمْيَرُ. وَأَمَّا الشَّامِيَّةُ فَلَخْمٌ وَجُذَامٌ وعاملة وغسان ". {إني وجدت امرأة تملكهم} يعني بلقيس {وأوتيت من كل شيء}

يعطاه الملوك {ولها عرش عظيم} وَهُوَ السَّرِيرُ. وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ وَقَوَائِمُهُ مِنْ جَوْهَرٍ مُكَلَّلٍ بِاللُّؤْلُؤِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلا يَسْجُدُوا اله} وَالْمَعْنَى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَلا يَسْجُدُوا للَّهِ {الذي يخرج الخبء} أي المستتر. فقال سليمان: {سننظر أصدقت} وَإِنَّمَا شَكَّ فِي خَبَرِهِ لأَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يكون لغيره في الأرض سلطان. ثُمَّ كَتَبَ كِتَابًا وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ وَدَفَعَهُ إِلَى الْهُدْهُدِ وَقَالَ: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثم تول عنهم} أي استتر {فانظر ماذا يرجعون} مِنَ الْجَوَابِ فَحَمَلَهُ فِي مِنْقَارِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ فَرَفْرَفَ سَاعَةً وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا فَأَلْقَى الْكِتَابَ فِي حِجْرِهَا , فَلَمَّا رَأَتِ الْخَاتَمَ أُرْعِدَتْ وَخَضَعَتْ وَقَالَتْ: {إِنِّي ألقي إلي كتاب كريم} لكونه مختوماً. فاستشارت قومها فقالت: {يا أيها الملأ} تعني الأشراف , وكانوا ثلاثمائة وَثَلاثَةَ عَشَرَ قَائِدًا مَعَ كُلِّ قَائِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ آلافٍ , وَقِيلَ كَانَ مَعَهَا مِائَةُ أَلْفٍ {أفتوني في أمري} أَيْ بَيِّنُوا لِي مَا أَفْعَلُ وَأَشِيرُوا عَلَيَّ {ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون} أي تحضرون وأقطع بمشورتكم. {قالوا نحن أولوا قوة} والمعنى نقدر على القتال {والأمر إليك} فِي الْقِتَالِ وَتَرْكِهِ. {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دخلوا قرية} أي عنوة {أفسدوها} أَيْ خَرَّبُوهَا وَأَذَلُّوا أَهْلَهَا. فَصَدَّقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فقال: {وكذلك يفعلون} {وإني مرسلة إليهم بهدية} وَذَلِكَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَعْلَمَ: هَلْ هُوَ نَبِيٌّ فَلا يُرِيدُ الدُّنْيَا , أَوْ مَلِكٌ فَيُسْتَرْضَى بِالْحَمْلِ. فَبَعَثَتْ ثَلاثَ لَبِنَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ , فِي كُلِّ لَبِنَةٍ مِائَةُ رَطْلٍ وَيَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ طُولُهَا شِبْرٌ مَثْقُوبَةٌ , وَثَلاثِينَ وَصِيفَةً وَأَلْبَسَتْهُمْ لِبَاسًا وَاحِدًا فلا

يُعْرَفُ الذَّكَرُ مِنَ الأُنْثَى. ثُمَّ كَتَبَتْ إِلَيْهِ: قَدْ بَعَثْتُ كَذَا وَكَذَا فَأَدْخِلْ فِي الْيَاقُوتَةِ خَيْطًا وَاخْتُمْ عَلَى طَرَفَيْهِ بِخَاتَمِكَ , وَمَيِّزْ بَيْنَ الْجَوَارِي وَالْغِلْمَانِ. فَأَخْبَرَهُ أَمِيرُ الشَّيَاطِينِ بِمَا بَعَثَتْ بِهِ قَبْلَ الْقُدُومِ فَقَالَ: انْطَلِقْ فَافْرِشْ عَلَى طَرِيقِ الْقَوْمِ مِنْ بَابِ مَجْلِسِي ثَمَانِيَةَ أَمْيَالٍ فِي ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ لَبِنَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ. فَبَعَثَ الشَّيَاطِينُ فَقَطَّعُوا اللَّبِنَ مِنَ الْجِبَالِ وَطَلَوْهُ بِالذَّهَبِ وَفَرَشُوهُ , وَنَصَبُوا فِي الطَّرِيقِ أَسَاطِينَ الْيَاقُوتِ الأَحْمَرِ. فَلَمَّا جَاءَتِ الرُّسُلُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: كَيْفَ تَدْخُلُونَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ بِثَلاثِ لَبِنَاتٍ وَعِنْدَهُ مَا رَأَيْتُمْ؟ فَقَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ رُسُلٌ. فَلَمَّا دخلوا عليه {قال أتمدونن بمال} ثُمَّ دَعَا دُودَةً فَرَبَطَ فِيهَا خيطاًَ وَأَدْخَلَهَا فِي ثُقْبِ الْيَاقُوتَةِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ طَرَفِهَا الآخَرِ , ثُمَّ جَمَعَ طَرَفَيِ الْخَيْطِ فَخَتَمَ عَلَيْهِ , ثُمَّ مَيَّزَ بَيْنَ الْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِالْوُضُوءِ , فَبَدَأَ الْغُلامُ مِنْ مِرْفَقِهِ إِلَى كَفِّهِ وَبَدَأَتِ الْجَارِيَةُ مِنْ كَفِّهَا إِلَى مِرْفَقِهَا. هَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَدَأَ الْغُلامُ يَغْسِلُ ظَوَاهِرَ السَّوَاعِدِ قَبْلَ بُطُونِهَا , وَالْجَوَارِي عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ لِلرَّسُولِ: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} فَلَمَّا عَادَتِ الرُّسُلُ وَأَخْبَرَتْ بَلْقِيسُ بَعَثَتْ إِلَيْهِ: إِنِّي قَادِمَةٌ إِلَيْكَ لأَنْظُرَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ , ثُمَّ أَمَرَتْ بِعَرْشِهَا فَجُعِلَ وَرَاءَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ , وَوَكَّلَتْ بِهِ حَرَسًا يَحْفَظُونَهُ , وَشَخَصَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ مَلِكٍ , تَحْتَ يَدَيْ كُلِّ مَلِكٍ أُلُوفٌ. فَجَلَسَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ , فَرَأَى رَهَجًا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: بَلْقِيسُ قَدْ نَزَلَتْ بِهَذَا الْمَكَانِ. فقال: {أيكم يأتيني بعرشها} {قال عفريت} وَهُوَ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أن تقوم من مقامك} أَيْ مَجْلِسِكَ. فَقَالَ: أُرِيدُ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ. {قال الذي عنده علم من الكتاب} وَهُوَ وَاصِفُ بْنُ برخيَا , وَكَانَ يَعْرِفُ الاسْمَ الأَعْظَمَ , وَكَانَ يَقُومُ عَلَى رَأْسِ سُلَيْمَانَ بِالسَّيْفِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: دَعَا فَقَالَ: يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ. فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلائِكَةَ فَحَمَلُوا السَّرِيرَ تَحْتَ الأَرْضِ يَخُدُّونَ بِهِ الأَرْضَ خَدًّا , حَتَّى انْخَرَقَتِ الأَرْضُ بِالسَّرِيرِ بَيْنَ يَدَيْ سُلَيْمَانَ فَقَالَ: {نكروا لها عرشها} فَغَيَّرُوهُ وَزَادُوا فِيهِ

الكلام على البسملة

وَنَقَصُوا فَلَمَّا {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} ؟ " قَالَتْ: كَأَنَّهُ هو وأوتينا العلم من قبلها " أَيْ قَالَتْ قَدْ أُوتِيتُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ بِأَمْرِ الْهُدْهُدِ وَالرُّسُلِ الَّذِي بَعَثْتَ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الآيَةِ {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ} وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا كَانَتْ عَاقِلَةً وَإِنَّمَا كَانَتْ تَتَّبِعُ دِينَ آبَائِهَا. فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا لَهَا صَرْحًا عَلَى الْمَاءِ مِنْ زُجَاجٍ , وَهُوَ الْقَصْرُ , وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَدْ وَقَعَتْ فِيهَا عِنْدَهُ وَقَالُوا: رِجْلُهَا كَرِجْلِ الْحِمَارِ , فَأَرَادَ أَنْ يَرَى ذَلِكَ , فقيل لها: {ادخلي الصرح} فحسبته لجة وهو معظم الماء {وكشفت عن ساقيها} لِدُخُولِ الْمَاءِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} أي مملس {من قوارير} أَيْ مِنْ زُجَاجٍ. فَعَلِمَتْ أَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَالَتْ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نفسي} أَيْ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْكُفْرِ. ثُمَّ تَزَوَّجَهَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَرَدَّهَا إِلَى مُلْكِهَا , وَكَانَ يَزُورُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً , وَيُقِيمُ عِنْدَهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ , وَبَقِيَ مُلْكُهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ , فَزَالَ مُلْكُهَا بِمَوْتِهِ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (وَضَحَ الْبَيَانُ وَأَنْتَ فِي غَرَرِ الْهَوَى ... مُتَشَاغِلٌ بِبَطَالَةٍ وَتَصَابِي) (تَرْتَاحُ فِي حُلَلِ الْمَشِيبِ مُنَعَّمًا ... أَأَخَذْتَ مِيثَاقًا مِنَ الأَوْصَابِ) (كَمْ نَاظِرٍ قَدْ رَاقَ حُسْنًا نَاظِرًا ... أَبْلاهُ بِالآفَاتِ شَرُّ مُصَابِ) (لَمْ يُغْنِ عَنْهُ جَمَالُهُ وَكَمَالُهُ ... وَمَقَامُ مُلْكٍ فِي أَعَزِّ نِصَابِ) (وَأَتَاهُ مِنْ حَرْبِ الْمَنُونِ مُعَاجِلٌ ... صَعْبٌ شَدِيدُ الْوَهْنِ غَيْرُ مُحَابِ) (فَرَأَى اكْتِسَابَ يَدَيْهِ لَيْسَ بِنَافِعٍ ... وَدَعَا ذَوِيهِ فَكَانَ غَيْرَ مُجَابِ) (وَحَوَاهُ لَحْدٌ ضَيِّقٌ مُتَهَدِّمٌ ... يَعْلُوهُ كَرْبُ جَنَادِلٍ وَتُرَابِ)

(فَأَفِقْ لِنَفْسِكَ وَالزَّمَانُ مُسَاعِدٌ ... وَأَطِعْ نَصِيحَكَ سَاعِيًا لِصَوَابِ) (وَارْجِعْ إِلَى مَوْلاكَ حَقًّا تَائِبًا ... مِنْ قبل أن تعيي بَرَدِّ جَوَابِ) أَلا مُتَيَقِّظٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ , أَلا مُتَأَهِّبٌ لِلْقُدُومِ عَلَيْهِ , أَلا عَامِرٌ لِلْقَبْرِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. (تَسَمَّعْ فإِنَّ الْمَوْتَ يُنْذِرُ بِالصَّوْتِ ... وَبَادِرْ بِسَاعَاتِ التُّقَى سَاعَةَ الْمَوْتِ) (وَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي مَتَى أَنْتَ مَيِّتٌ ... فَإِنَّكَ تَدْرِي أَنْ لا بُدَّ مِنْ مَوْتِ) إِخْوَانِي: إِنَّمَا الْعُمْرُ مَرَاحِلُ , وَكَأَنْ قَدْ بَلَغَتْ سَفِينَةُ الرَّاحِلِ. دَخَلُوا عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُونَهُ فَقَالُوا: كَمْ أَتَى عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: خَمْسُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ. فَقَالُوا: عُمِّرَ وَاللَّهِ. فَقَالَ: لا تَقُولُوا ذَلِكَ فَوَاللَّهِ لَوِ اسْتَكْمَلْتُمُوهَا لاسْتَقْلَلْتُمُوهَا. إِخْوَانِي: مَنْ أَخْطَأَتْهُ سِهَامُ الْمَنِيَّةِ قَيَّدَهُ عِقَالُ الْهَرَمِ , إِنَّ لِكُلِّ سَفَرٍ زَادًا فَتَزَوَّدُوا لِسَفَرِكُمُ التَّقْوَى , وَكُونُوا كَمَنْ عَايَنَ مَا أُعِدَّ لَهُ وَلا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ , وَاللَّهِ مَا بُسِطَ أَمَلُ مَنْ لا يَدْرِي: أَيُصْبِحُ إِذَا أَمْسَى أَوْ يُمْسِي إِذَا أَصْبَحَ. (لا تَحْسَبَنَّ الزَّمَانَ يُنْسِئُكَ الْقَرْضَ ... وَلَكِنَّهُ يَدًا بِيَدِ) (يُعْطِيكَ يَوْمًا فَيَقْتَضِيكَ غَدًا ... مريرة من مريرة الحسد) (يسرق الشَّيْءَ مِنْ قُوَاكَ وَإِنْ ... كَانَ خَفِيًّا عَنْ أَعْيُنِ الرَّمَدِ) (حَالا فَحَالا حَتَّى يُرْدِيكَ ... بِالْكَبْرَةِ بَعْدَ الشَّبَابِ وَالْغَيَدِ) إِخْوَانِي: إِنَّ الْعِبَرَ قَدْ وَضَحَتْ , وَإِنَّ النُّذُرَ قَدْ نَصَحَتْ , وَإِنَّ الْمَوَاعِظَ قَدْ أَفْصَحَتْ , وَلَكِنَّ النُّفُوسَ مِنْ سُكْرِهَا مَا صَحَتْ , أَيْنَ الْهَمُّ الْمُجْتَمِعُ تَفَرَّقَ فَمَا تَنْتَفِعُ , يَدْعُوكَ الْهَوَى فَتَتَّبِعُ وَيُحَدِّثُكَ الْمُنَى فَتَسْتَمِعُ , كَمْ زَجَرَكَ نَاصِحٌ فَلَمْ تُطِعْ , وَصَلَ الصَّالِحُونَ يَا منقطع , أما الذي عاقك هو مُخْتَدِعٌ , شَرَوْا بِمَا يَفْنَى مَا يَبْقَى وَلَمْ تَشْرِ وَلَمْ تَبِعْ , أَيْنَ تَعَبُهُمْ نُسِخَ بِالرَّوْحِ وَلَمْ يَضِعْ , تَلَمَّحِ الْعَوَاقِبَ

الكلام على قوله تعالى

فَلْتلمحك العقل وضع , كَأَنَّهُ مَا شَبِعَ , مَنْ جَاعَ وَلا جَاعَ مَنْ شَبِعَ , أَيْنَ الْهِمَمُ الْمُجِدَّةُ , أَيْنَ النُّفُوسُ الْمُسْتَعِدَّةُ , أَيْنَ الْمُتَأَهِّبُ قَبْلَ الشِّدَّةِ , أَيْنَ الْمُتَيَقِّظُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ , عَاتِبْ نَفْسَكَ عَلَى قُبْحِ الشِّيَمِ , وَحِذِّرْهَا مِنْ مُثْمِرَاتِ الْحُزْنِ وَالنَّدَمِ , وَامْنَعْهَا تَخْلِيطَهَا فَقَدْ طَالَ السَّقَمُ , وَذَكِّرْهَا لِحَاقَهَا بِمَنْ قَدْ سَبَقَ مِنَ الأُمَمِ , وَاحْضَرْ مَعَهَا بَابَ الْفِكْرَ فَإِنَّهُ نِعْمَ الْحَكَمُ , وَنَادِهَا فِي الْخَلَوَاتِ إِلَى كَمْ مَعَ السُّبَاتِ وَكَمْ. (رُبَّ حَتْفٍ بَيْنَ أَثْنَاءِ الأَمَلْ ... وَحَيَاةُ الْمَرْءِ ظِلٌّ يَنْتَقِلْ) (لَوْ نَجَا شَيْءٌ تَحْتَ صَارِيَةٍ ... يُهْجَرُ السَّهْلُ وَيُجْبَلُ الْجَبَلْ) (أَيْنَ مَنْ كان خفي شخصه ... مثل قد السير إلى عَضَّ قَتَلْ) (أَيْنَ مَنْ يَسْلَمُ مِنْ صَرْفِ الرَّدَى ... حَكَمَ الْمَوْتُ عَلَيْنَا فَعَدَلْ) (وَكَأَنَّا لا نَرَى مَا قَدْ نَرَى ... وَخُطُوبُ الدَّهْرِ فِينَا تَنْتَضِلْ) (فَرُوَيْدًا بِظَلامٍ صُبْحُهُ ... فَهِيَ الأَيَّامُ وَالدَّهْرُ دُوَلْ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {لا أُقْسِمُ بيوم القيامة} قال المفسرون: لا زائدة. والمعنى: أقسم. وقال بعضهم: {لا} رَدٌّ عَلَى مُنْكِرِ الْبَعْثِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: زيدت " لا " عَلَى نِيَّةِ الرَّدِّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ , كَمَا تَقُولُ: لا وَاللَّهِ مَا ذَاكَ كَمَا تَقُولُ. {وَلا أقسم بالنفس اللوامة} فِيهَا ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا الَّتِي تَلُومُ نَفْسَهَا حِينَ لا يَنْفَعُهَا اللَّوْمُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَفْسُ الْمُؤْمِنِ الَّتِي تَلُومُهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَقْصِيرِهِ. قَالَهُ الْحَسَنُ. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَمْدُوحَةً. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا جَمِيعُ النُّفُوسِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلا فاجرة إلا

وَهِيَ تَلُومُ نَفْسَهَا , إِنْ كَانَتْ عَمِلَتْ خَيْرًا قَالَتْ: هَلا زِدْتُ. أَوْ شَرًّا قَالَتْ: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ , تَقْدِيرُهُ: لَتُبْعَثَنَّ , يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ لَنْ نجمع عظامه} والمراد به الكافر. {بلى قادرين} المعنى: بل نجمعها قادرين {على أن نسوي بنانه} وَالْبَنَانُ: أَطْرَافُ الأَصَابِعِ. وَفِي الْمَعْنَى قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ نَجْعَلَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ شَيْئًا وَاحِدًا كَحَافِرِ الْحِمَارِ وَخُفِّ الْبَعِيرِ فَيَعْدَمَ الإِرْفَاقَ بِالأَعْمَالِ اللَّطِيفَةِ , كَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ. هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَالثَّانِي: نَقْدِرُ عَلَى تَسْوِيَةِ بَنَانِهِ كَمَا كَانَتْ وَإِنْ صَغِرَتْ عِظَامُهَا , وَمَنْ قَدَرَ عَلَى جَمْعِ صِغَارِ الْعِظَامِ كَانَ عَلَى جَمْعِ كِبَارِهَا أَقْدَرُ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ يريد الإنسان ليفجر أمامه} فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: يَكْذِبُ بِمَا أَمَامَهُ مِنَ البعث والحساب. قاله ابن ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: يُقَدِّمُ الذَّنْبَ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ وَيَقُولُ: سَوْفَ أَتُوبُ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. فَعَلَى هَذَا يُرَادُ بِالإِنْسَانِ الْمُسْلِمِ وَعَلَى الأَوَّلِ الْكَافِرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} أَيْ مَتَى هُوَ , تَكْذِيبًا بِهِ. فَهَذَا هُوَ الكافر. {فإذا برق البصر} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {بَرِقَ} بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ بِفَتْحِهَا , وَهُمَا لُغَتَانِ , تَقُولُ الْعَرَبُ: بَرِقُ الْبَصَرُ يَبْرَقُ وَبَرَقَ يَبْرُقُ , إِذَا رَأَى هَوْلا يَفْزَعُ مِنْهُ. وَمَتَى يَبْرُقُ الْبَصَرُ؟ فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَشْخَصُ بَصَرُ الْكَافِرِ فَلا يَطْرِفُ لِمَا يَرَى مِنَ الأُمُورِ الَّتِي كَانَ يُكَذِّبُ بها في دار الدنيا. قال الأَكْثَرُونَ. وَالثَّانِي: عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ.

قوله تعالى {وخسف القمر} أي ذهب ضوؤه. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: خَسَفَ وَكَسَفَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قوله تعالى {وجمع الشمس والقمر} قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا قَالَ جُمِعَ لِتَذْكِيرِ الْقَمَرِ. وَفِي هَذَا الْجَمْعِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَاتَيْهِمَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جُمِعَا كَالْبَعِيرَيْنِ وَكَالْفَرَسَيْنِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: يُجْمَعَانِ وَيُقْذَفَانِ فِي الْبَحْرِ. وَقِيلَ فِي النَّارِ. وَقِيلَ يُجْمَعَانِ فيطلعان مِنَ الْمَغْرِبِ. وَالثَّانِي: جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي ذَهَابِ نُورِهِمَا. قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَقُولُ الإنسان} يعني المكذب بيوم القيامة: {أين المفر} أين الفرار {كلا لا وزر} أَيْ لا مَلْجَأَ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} أَيِ الْمُنْتَهَى وَالرُّجُوعُ {يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قدم وأخر} فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: بِمَا قَدَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَمَا سَنَّ مِنْ شَيْءٍ فَعُمِلَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَالثَّانِي: بِأَوَّلِ عَمَلِهِ وَآخِرِهِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّالِثُ: بِمَا قَدَّمَ مِنَ الشَّرِّ وَأَخَرَّ مِنَ الْخَيْرِ. قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَقَالَ: بِمَا قَدَّمَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَأَخَرَّ مِنْ طاعته. واأسفاً من الصحيفة إن نشرها , واحزنا على الذنوب إن أظهرها , واحسرتا عَلَى خَطَايَا مَا غَفَرَهَا , مَنْ لِمَنْ حَادَ عَنِ الطَّرِيقِ وَقَدْ أَبْصَرَهَا , مَنْ لِمَنْ شَاهَدَ نَجَاتَهُ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهَا , تَاللَّهِ لَقَدْ آذَى الْعَاصِي نَفْسَهُ وَعَثَّرَهَا , كَمْ سَمِعَ مَوْعِظَةً مِنْ مُذَكِّرٍ قَدْ كَرَّرَهَا , ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ فَهِمَهَا وَتَدَبَّرَهَا , وَيْحَكَ إِلَى مَتَى تُضَيِّعُ زَمَنَكَ , وَإِلَى مَتَى إِيثَارُ فِتَنِكَ , أَمَا آنَ التنبه مِنْ وَسَنِكَ , أَمَا حَقٌّ أَنْ تَمِيلَ عَنْ سُنَنِكَ , يَا لاهِيًا أَتَنْسَى وَقْتَ حُزْنِكَ , يَا بَائِعًا نَفْسَهُ أَرَضِيتَ الْفَانِيَ بِثَمَنِكَ , أَيْنَ فَهْمُكَ الثَّاقِبُ وَجَوْدَةُ فِطَنِكَ , كَمْ بَقِيَ بَيْنَ سِرِّكَ وَبَيْنَ عَلَنِكَ , أَيْنَ زَادُ رَحِيلِكَ وَعِدَّةُ كَفَنِكَ إِلَى مَتَى مَعَ الدُّنْيَا كَمْ مَعَ وَثَنِكَ , كيف السبيل

إِلَى صَلاحِكَ وَتَلافِيكَ , وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ الْعَائِبُ وَتَلا فِيكَ , أَمَا يُزْعِجُكَ تَخْوِيفٌ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أهلكناهم} أما ينذرك إعلام: {وكذلك أخذ ربك} أما يقصم عرى عزائمك: {وكم قصمنا من قرية} أَمَا يُقْصِرُ مِنْ قُصُورِكَ: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مشيد} أَمَا يَكْفِي لِمِثْلِكَ مَثَلٌ: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قبلهم المثلات} أَمَا رَأَيْتَ شَمَالَ الْعُقُوبَةِ كَيْفَ فَرَّقَتْ شَمْلَهُمْ , لَقَدْ مَرَّتْ فِي جَوِّ التَّخْوِيفِ تَهْتِفُ بِالْعُصَاةِ: {فكلا أخذنا بذنبه} . يَا هَذَا لا نَوْمٌ أَثْقَلُ مِنَ الْغَفْلَةِ , وَلا رِقٌّ أَمْلَكُ مِنَ الشَّهْوَةِ , وَلا مُصِيبَةٌ كموت القلب , ولا نذيراً أَبْلَغُ مِنَ الشَّيْبِ: (أَلا تَسْلُو فَتَقْصُرُ عَنْ هَوَاكَا ... فَقَدْرُ شَيْبِ رَأْسِكَ كَانَ ذَاكَا) (أَكُلُّ الدَّهْرِ أَنْتَ كَمَا أَرَاكَا ... تُرَاكَ إِلَى الْمَمَاتِ كذا تراكا) (أَرَاكَ تَزِيدُ حِذْقًا بِالْمَعَاصِي ... وَتَغْفَلُ عَنْ نَصِيحَةِ من دعاكا) يَا قَوْمُ غَرَقَتِ السَّفِينَةُ وَنَحْنُ نِيَامٌ! أَبُوكُمْ لم يسامح في حبسة حِنْطَةٍ , وَدَاوُدُ لَمْ يُسَاهَلْ فِي نَظْرَةٍ. يَا مُدْمِنَ الذُّنُوبِ مُذْ كَانَ غُلامًا , عَلامَ عَوَّلْتَ قل لي على ما , أتأمن من أَتَى مَنْ أَتَى حَرَامًا , أَمَا تَرَى مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الذُّنُوبِ إِلَيْكَ قَدْ تَرَامَى , آهٍ لِجَفْنٍ عَلِمَ مَا سَيَلْقَى كَيْفَ يَلْقَى مَنَامًا , أَيْنَ أَرْبَابُ الأَسْمَارِ وَالنَّدَامَى , كُلُّ الْقَوْمِ فِي قُبُورِهِمْ نَدَامَى , قُلْ لِي مَنِ اتَّخَذْتَ فِي أُمُورِكَ إِمَامًا , أَمَا مَا جَرَى عَلَى الْعُصَاةِ يَكْفِي إِمَامًا , إِلَى كَمْ تُضَيِّعُ حَدِيثًا طَوِيلا وَكَلامًا , مَا أَرَى دَاءَكَ إِلا دَاءً عُقَامًا , أَمَا تُؤْثِرُ نِيرَانَ تَخْوِيفِكَ؟ صَارَتْ بَرْدًا وسلاماً. (فَذَكِّرِ النَّفْسَ هَوْلا أَنْتَ رَاكِبُهُ ... وَكُرْبَةً سَوْفَ تَلْقَى بَعْدَهَا كُرَبَا) (إِذَا أَتَيْتَ الْمَعَاصِيَ فَاخْشَ غَايَتَهَا ... مَنْ يَزَرْعِ الشَّوْكَ لا يَجْنِي بِهِ عنبا)

سجع على قوله تعالى

إِلَى مَتَى أَعْمَالُكَ كُلُّهَا قِبَاحٌ , أَيْنَ الْجِدُّ إِلَى كَمْ مُزَاحٌ , كَثُرَ الْفَسَادُ فَأَيْنَ الصَّلاحُ , سَتُفَارِقُ الأَجْسَادَ الأَرْوَاحُ , إِمَّا فِي غُدُوٍّ وَإِمَّا فِي رَوَاحٍ , سَيَنْقَضِي هَذَا الْمَسَاءُ وَالصَّبَاحُ , وَسَيَخْلُو الْبِلَى بِالْوُجُوهِ الصِّبَاحِ , أَفِي هَذَا شَكٌّ أَمِ الأَمْرُ مُزَاحٌ , أَيْنَ سَكْرَانَ الرَّاحِ رَاحَ , حَلَّ لِلْبِلَى وَالدُّودُ مُبَاحٌ , لَهُمَا اغْتِبَاقٌ بِهِ ثُمَّ اصْطِبَاحٌ , عَلَيْهِ نِطَاقٌ مِنَ التُّرَابِ وَوِشَاحٌ , عُنْوَانُهُ لا يَزُولُ مَفْهُومُهُ لا بَرَاحَ , أَتَاهُ مُنْكَرُ وَنَكِيرُ كَذَا فِي الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ , فَمَنْ لِمُحْتَجٍّ مرعوب ومقاتل بلا سلاح , مشغول عن من مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ أَوْ بَكَى أَوْ نَاحَ , لَوْ قِيلَ لَهُ تَمَنَّ كَانَ الْعَوْدُ الاقْتِرَاحَ , وَأَنَّى وَهَلْ يَطِيرُ مَقْصُوصُ الْجَنَاحِ. إِخْوَانِي: لا تَقُولُوا مَنْ مَاتَ اسْتَرَاحَ أَمَا هَذَا لَنَا قَلِيلٌ , إِنَّا لِوِقَاحٌ. (أَنِسَ النَّاسُ بِالْغِيَرْ ... وَتَعَامَوْا عن العبر) (قل للاه بيومه ... في غد تعرف الخير) (يَا بَنِي الْحِرْصِ وَالتَّكَاثُرِ ... وَالْبَغِيِّ وَالْبَطَرْ) (لَيْسَ بَاقٍ كَفَانٍ ... فَكُونُوا عَلَى حَذَرْ) (يَا ضَجِيعَ الْبِلَى عَلَى ... فَرْشِ الصَّخْرِ وَالْمَدَرْ) (قَدْ تَزَوَّدْتَ مَأْثَمًا ... وَإِلَى رَبِّكَ السَّفَرْ) سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} يَا مَنْ يَخْطِرُ فِي ثِيَابِ الْغَفْلَةِ يَتَبَخْتَرُ وَيَتَجَبَّرُ , وَقَبَائِحُهُ تُكْتَبُ وَهُوَ لا يُحِسُّ وَيَزْبُرُ , بَيْنَ يَدَيْكَ يَوْمٌ قَرِيبٌ مَا يَتَأَخَّرُ {يُنَبَّأُ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} يَا مُتَعَرِّضًا بِالذَّنْبِ وَالْعِقَابِ , يَا غَافِلا عَنْ يَوْمِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ , يَا مُبَارِزًا بِالْمَعَاصِي رَبَّ الأَرْبَابِ , مَنْ أَعْظَمُ جُرْأَةً مِنْكَ عَلَى الْعَذَابِ قُلْ لِي وَمَنْ أَصْبَرُ , نَسِيتَ مَعَادَكَ وَأَطَلْتَ أَمَلَكَ , وَأَعْرَضْتَ إِلَى الْهَوَى عَنْ أَمْرِ مَنْ مَلَكَ , وَلَوْ رَفَعْتَ وَاللَّهِ عَمَلَكَ إِلَى مَلِكٍ أعظم ذلك وأكبر , لقد أناح التقصير والتمادي

ببابك , وقل أن يعيق بِرِيحِ الثَّوَابِ شَيْءٌ مِنْ أَثْوَابِكَ , وَالشَّيْطَانُ يَجْرِي مِنْكَ مَجْرَى الدَّمِ مِنْ آرَابِكَ , فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْكَ إِذَا قُمْتَ فِي مِحْرَابِكَ إِلَى حِينَ قَوْلِكَ اللَّهُ أَكْبَرُ. تَقُومُ إِلَى صَلاتِكَ وَأَنْتَ مُتَكَاسِلٌ , وَتَدْخُلُ فِي الصَّلاةِ بِقَلْبٍ غَافِلٍ , وَتَسْتَعْجِلُ فِي الصَّلاةِ لأَجْلِ الْعَاجِلِ , وَإِذَا نَظَرْتَ بَعْدَ الصَّلاةِ إِلَى الْحَاصِلِ: فَالْجَسَدُ أَقْبَلَ وَالْقَلْبُ أَدْبَرَ. يَا مَنْ ذُلُّ الْمَعَاصِي يَعْلُوهُ , يَا مُظْلِمَ الْقَلْبِ مَتَى تَجْلُوهُ , هَذَا الْقُرْآنُ يُتْلَى عَلَيْكَ وَتَتْلُوهُ وَلَكِنْ مَا تَتَدَبَّرُ. يَا مُغْتَرًّا بِالزَّخَارِفِ وَالتَّمْوِيهِ , تَعَجَّبْ بِمَا تَجْمَعُهُ مِنَ الدُّنْيَا وَتَحْوِيهِ , هَلَكَ وَاللَّهِ ذُو عَجَبٍ أَوْ كِبْرٍ أَوْ تِيهٍ , وَنَجَا وَاللَّهِ أَشْعَثُ أَغْبَرُ؛ أَنْتَ فِي دَارِ انْزِعَاجٍ فَاحْذَرْ مِنْهَا لا تَرْكَنْ إِلَيْهَا وَلا تَأْمَنْهَا , إِنَّمَا أُسْكِنْتَهَا لِتَخْرُجَ عَنْهَا , فَتَأَهَّبْ لِلنُّقْلَةِ فَمَا يُسْتَوْطَنُ مَعْبَرٌ , أَيْنَ مَنْ كَانَ يَتَنَعَّمُ فِي قُصُورِهَا قَدْ فَسَّحَ لِنَفْسِهِ فِي تَوَانِيهَا وَقُصُورِهَا , خَدَعَتْهُ وَاللَّهِ بِغَرِيرِ غُرُورِهَا بَعْدَ أَنْ سَاسَ الرَّعَايَا وَدَبَّرَ , نَقَلَتْهُ وَاللَّهِ صَرِيعًا سَرِيعًا وَسَلَبَتْهُ وَاللَّهِ مَا جَمَعَهُ جَمِيعًا , وَبَزَّتْهُ كِبْرًا كَبِيرًا وَعِزًّا مَنِيعًا , أَتُرَاهُ يَفْتَخِرُ فِي قَبْرِهِ أَوْ يَتَكَبَّرُ , خَلا بِعَمَلِهِ فِي ظَلامِ لَحْدِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ غَيْرُ اجْتِهَادِهِ وَجِدِّهِ , لَوْ قُضِيَ بِرُجُوعِهِ إِلَى الدُّنْيَا وَرَدَّهُ لَحَدَّثَنَا بِهَذَا أَوْ أَخْبَرَ. فَتَنَبَّهْ أَنْتَ مِنْ رَقَدَاتِكَ , وَكُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ فِي حَيَاتِكَ , فَلَقَدْ بَالَغَتِ الزَّوَاجِرُ فِي عِظَاتِكَ , كَمْ تَسْمَعْ مَوْعِظَةً وَكَمْ تَجْلِسُ تَحْتَ مِنْبَرٍ , يَا لَهَا مِنْ نَصِيحَةٍ لَوْ وَجَدَتْ نَفَاذًا , هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْكَ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَلاذًا , وَالشَّيْءُ إِذَا لَمْ يَنْفَعْ فَرُبَّمَا آذَى , وَأَنْتَ يَا هَذَا بَعْدَ هَذَا بِنَفْسِكَ أخبر.

المجلس الثاني والعشرون في قصة سبإ

المجلس الثاني والعشرون فِي قِصَّةِ سَبَإٍ الْحَمْدُ للَّهِ الْمُتَفَرِّدِ بِالْعِزِّ وَالْجَلالِ , الْمُتَفَضِّلِ بِالْعَطَاءِ وَالإِفْضَالِ , مُسَخِّرِ السَّحَابِ الثِّقَالِ , مُرَبِّي الزَّرْعَ تَرْبِيَةَ الأَطْفَالِ , جَلَّ عَنْ مَثَلٍ وَمِثَالٍ , وَتَعَالَى عَنْ حُكْمِ الْفِكْرِ وَالْخَيَالِ , قَديِمٌ لَمْ يَزَلْ وَلا يَزَالُ , يَتَفَضَّلُ بِالإِنْعَامِ فَإِنْ شُكِرَ زَادَ وَإِنْ لَمْ يُشْكَرْ أَزَالَ {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يمين وشمال} . أحمده على كل حال , وأصلي على رسوله محمد أشرف من نطق وقال , وعلى صاحبه أبي بكر الصديق باذل النفس والمال , وعلى عمر الفاروق العادل فما جار ولا مال , وعلى عثمان الثابت للشهادة ثبوت الجبال , وعلى [علي] بحر العلوم وبطل الأبطال , وعلى عمه العباس المقدم في نسبه على جميل الأهل والآل. قال الله تعالى: {ولقد كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يمين وشمال} . سَبَأٌ هِيَ الْقَبِيلَةُ الَّتِي هُمْ مِنْ أَوْلادِ سَبَإٍ , وَكَانَتْ بَلْقَيِسُ لَمَّا مَلَكَتْ قَوْمَهَا تَرَاهُمْ يَقْتَتِلُونَ عَلَى مَاءِ وَادِيهِمْ فَجَعَلَتْ تَنْهَاهُمْ فَلا يُطِيعُونَهَا , فَتَرَكَتْ مُلْكَهَا وَانْطَلَقَتْ إِلَى قَصْرِهَا فَنَزَلَتْهُ , فَلَمَّا كَثُرَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ أَتَوْهَا فَسَأَلُوهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مُلْكِهَا فَأَبَتْ , فَقَالُوا: لَتَرْجِعِنَّ أَوْ لَنَقْتُلُكِ. فَقَالَتْ إِنَّكُمْ لا تُطِيعُونَنِي. فَقَالُوا: إِنَّا نُطِيعُكِ. فَجَاءَتْ إِلَى وَادِيهِمْ وَكَانُوا إِذَا مُطِرُوا أَتَاهُ السَّيْلُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسَةِ

أَيَّامٍ , فَأَمَرَتْ فَسُدَّ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ بِمُسَنَّاةٍ وَحَبَسَتِ الْمَاءَ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ؛ وَجَعَلَتْ لَهُ أَبْوَابًا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. وَبَنَتْ مِنْ دُونِهِ بِرْكَةً وَجَعَلَتْ فِيهَا اثْنَيْ عَشَرَ مَخْرَجًا عَلَى عَدَدِ أَنْهَارِهِمْ , فَكَانَ الْمَاءُ يَخْرُجُ مِنْهَا بِالسَّوِيَّةِ , إِلَى أَنْ أَسْلَمَتْ مَعَ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا بَنَوْا ذَلِكَ لِئَلا يَغْشَى السَّيْلُ أَمْوَالَهُمْ فَتَهْلِكَ , فَكَانُوا يَفْتَحُونَ مِنْ أَبْوَابِ السَّدِّ مَا يُرِيدُونَ فَيَأْخُذُونَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ , وَكَانَتْ لَهُمْ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينِ وَادِيهِمْ وَعَنْ شِمَالِهِ , فَأَخْصَبَتْ أَرْضُهُمْ وَكَثُرَتْ فَوَاكِهُهُمْ , وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتَمُرُّ بَيْنَ الْجَنَّتَيْنِ وَالْمِكْتَلُ عَلَى رَأْسِهَا فَتَرْجِعُ وقد امتلأ من التمر وَلا تَمَسُّ بِيَدِهَا شَيْئًا مِنْهُ , وَلَمْ يَكُنْ فِي بَلْدَتِهِمْ حَيَّةٌ وَلا عَقْرَبٌ وَلا بَعُوضَةٌ وَلا ذُبَابَةٌ وَلا بَرْغُوثٌ. فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ ثَلاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا وَقِيلَ لَهُمْ: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أَيْ هَذِهِ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ , وَلَمْ تَكُنْ سَبِخَةً ولا فيها ما يؤذي {ورب غفور} أي والله رب غفور. {فأعرضوا} عَنِ الْحَقِّ وَكَذَّبُوا الأَنْبِيَاءَ {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم} وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَرِمَ: الشَّدِيدُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ: إِنَّ الْعَرِمَ: السَّيْلُ الَّذِي لا يُطَاقُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْمُ الْوَادِي. رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْمُسَنَّاةُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَرِمُ جَمْعُ عَرَمَةٍ وَهِيَ السِّكْرُ وَالْمُسَنَّاةُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْعَرِمَ: الْجَرَذُ الَّذِي نَقَبَ عَلَيْهِمُ السِّكْرَ. حَكَاهُ الزَّجَّاجُ.

وَفِي صِفَةِ إِرْسَالِ هَذَا السَّيْلِ عَلَيْهِمْ قَوْلانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ عَلَيْهِمْ عَلَى سِكْرِهِمْ دَابَّةً فَنَقَبَتْهُ. رَوَى عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ فَنَقَبَتْ فِيهِ نَقْبًا فَسَالَ ذَلِكَ الْمَاءُ إِلَى مَوْضِعِ غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جُرَذًا يُسَمَّى الْخَلْدَ , وَالْخَلْدُ الْفَأْرُ الأَعْمَى , فَنَقَبَهُ مِنْ أَسْفَلِهِ فَأَغْرَقَ اللَّهُ بِهِ جَنَّاتِهِمْ وَخَرَّبَ اللَّهُ بِهِ أَرْضَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مَاءً أَحْمَرَ فَنَسَفَ السَّدَّ وَهَدَمَهُ وَحَفَرَ الْوَادِي. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وبدلناهم بجنتيهم} يَعْنِي اللَّتَيْنِ كَانَتَا تُطْعِمُ الْفَوَاكِهَ {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أكل خمط} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وحمزة والكسائي: {أكل} . بِالتَّنْوِينِ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو {أُكُلِ} بِالإِضَافَةِ. وَالأُكُلُ: الثَّمَرُ. وَفِي الْمُرَادِ بِالْخَمْطِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الأَرَاكُ. قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالْجُمْهُورُ. فَعَلَى هَذَا أُكْلُهُ ثَمَرُهُ. وَثَمَرَةُ الأَرَاكِ: الْبَرِيرُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كُلُّ شَجَرَةٍ ذَاتِ شَوْكٍ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَالثَّالِثُ. أَنَّهُ كُلُّ نَبْتٍ قَدْ أَخَذَ طَعْمًا مِنَ الْمَرَارَةِ حَتَّى لا يُمْكِنَ أَكْلُهُ. قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الْخَمْطُ: اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ. وَالأَثْلُ: الطَّرْفَاءُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وقوله تعالى: {وشيء من سدر} وَهُوَ شَجَرُ النَّبْقِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ الْخَمْطُ وَالأَثْلُ فِي جَنَّتِهِمْ أَكْثَرَ مِنَ السِّدْرِ. {ذَلِكَ جزيناهم بما كفروا} أَيْ ذَلِكَ التَّبْدِيلُ جَزَيْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ {وَهَلْ نُجَازِي إلا الكفور} قَالَ طَاوُسٌ: الْكَافِرُ يُجَازَى وَلا يُغْفَرُ لَهُ , وَالْمُؤْمِنُ لا يُنَاقَشُ الْحِسَابَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُؤْمِنُ يُجْزَى وَلا يُجَازَى , فَيُقَالُ فِي أَفْصَحِ اللُّغَةِ: جَزَى اللَّهُ الْمُؤْمِنَ وَلا يُقَالُ جَازَاهُ بِمَعْنَى كافأه. والكافر يجازى سيئة مِثْلِهَا مُكَافَأَةً لَهُ , وَالْمُؤْمِنُ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ.

الكلام على البسملة

قوله تعالى: {وجعلنا بينهم} هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} وَالْمَعْنَى: مِنْ قَصَصِهِمْ أَنَّا جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَهِيَ قُرَى الشَّامِ {قرى ظاهرة} أي متواصلة يَنْظُرُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَغْدُونَ فَيَقِيلُونَ فِي قَرْيَةٍ وَيَرْجِعُونَ فَيَبِيتُونَ فِي قَرْيَةٍ. قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالثَّانِي. أَنَّهُ جَعَلَ مَا بَيْنَ الْقَرْيَةِ وَالْقَرْيَةِ مِقْدَارًا وَاحِدًا. قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. قوله تعالى: {سيروا فيها} الْمَعْنَى: وَقُلْنَا لَهُمْ سِيرُوا فِيهَا {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا} أَيْ لَيْلا وَنَهَارًا آمِنِينَ مِنْ مَخَاوِفِ السَّفَرِ مِنْ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ سَبُعٍ أَوْ تَعَبٍ. فَبَطَرُوا النِّعْمَةَ وَمَلُّوهَا , كَمَا مَلَّ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أسفارنا} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو. {بَعِّدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {بَاعِدْ} رَوَى عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: بَطَرُوا عَيْشَهُمْ وَقَالُوا: لَوْ كَانَ جَنَى جَنَّاتِنَا أَبْعَدَ مِمَّا هِيَ كَانَ أَجْدَرَ أَنْ نَشْتَهِيَهُ. {وظلموا أنفسهم} بالكفر وتكذيب الرسل {فجعلناهم أحاديث} لِمَنْ بَعْدَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ بِمَا فَعَلَ بِهِمْ {وَمَزَّقْنَاهُمْ كل ممزق} أَيْ فَرَّقْنَاهُمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ مِنَ الْبِلادِ كُلَّ التَّفْرِيقِ , لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ مَكَانَهُمْ وَأَذْهَبَ جَنَّتَهُمْ تَبَدَّدُوا فِي الْبِلادِ وَصَارَتِ الْعَرَبُ تَتَمَثَّلُ فِي الْفُرْقَةِ بِقَوْمِ سَبَإٍ يَقُولُونَ: تَفَرَّقُوا أَيْدِي سَبَا. وَقَدْ حَذَّرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنَ الْخِلافِ وَبَيَّنَتْ عِقَابَ تَارِكِي الشُّكْرِ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (تَعَلَّقْتَ بِآمَالٍ ... طِوَالٍ أَيَّ آمَالِ) (وَأَقْبَلْتَ عَلَى الدُّنْيَا ... مُلِحًّا أَيَّ إِقْبَالِ)

(فَيَا هَذَا تَجَهَّزْ لِفِرَاقِ ... الأَهْلِ وَالْمَالِ) (فَلا بُدَّ مِنَ الْمَوْتِ ... عَلَى حَالٍ مِنَ الْحَالِ) مَتَى تَفِيقُ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ الْمِرَاضِ , مَتَى تَسْتَدْرِكُ هَذِهِ الأَيَّامَ الطِّوَالَ الْعِرَاضَ , يَا غَافِلا عَنْ سِهَامِ الْمَوْتِ الْحِدَادِ الْمَوَاضِ , تَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ السَّهْمُ مِنْ قِبَلِ الأَنْبَاضِ , وَلَقَدْ آنَ لجمع الحياة الشتات والإنفضاض، وحان لبنيان السلامة الْخَرَابُ وَالانْتِقَاضُ , وَحَقٌّ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُقْرَضَ بِالإِقْرَاضِ , وَدَنَا مِنْ مَبْسُوطِ الآمَالِ الاجْتِمَاعُ وَالانْقِبَاضُ , أَمَا الأَعْمَارُ كُلَّ يَوْمٍ فِي انْقِرَاضٍ , لَقَدْ نَهَتْ قَبْلَ شَكَّةِ السَّهْمِ صَكَّةُ الْمِقْرَاضِ , أَمَا ترى الراحلين ماضياً خلف ماض , كم بنيات مَا تَمَّ حَتَّى تَمَّ مَأْتَمٌ وَهَذَا قَدِ اسْتَفَاضَ , كَمْ حَطَّ ذُو خَفْضٍ عَلَى رَغَمٍ فِي رَغَامٍ وَانْخِفَاضٍ , انْهَضْ بِجِدِّكَ وَالْعَاقِلُ نَاهِضٌ قَبْلَ الإِنْهَاضِ , إِنَّ الْمَوْتَ إِلَيْكَ كَمَا كَانَ لأَبَوَيْكَ فِي ارْتِكَاضٍ , إِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى مَشَارِعِ الصَّالِحِينَ رُدْ بَاقِيَ الْحِيَاضِ , إِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتَ لَبُونٍ فَلْتَكُنْ بِنْتَ مَخَاضٍ , إِلَى متى أو حتى أتعبت الرواض , أمالك أنفة من هذا التوبيح ولا امتعاض , كما بَنَى نَصِيحُكَ نَقَضْتَ وَمَا يَعْلُو بِنَاءٌ مَعَ نَقَّاضٍ , يَا مَنْ بَاعَ نَفْسَهُ بِلَذَّةِ سَاعَةٍ بَيْعًا عَنْ تَرَاضٍ , لَبِئْسَ مَا لَبِسْتَ أَتَدْرِي مَا تَعْتَاضُ , يَا عِلَّةً لا كَالْعِلَلِ وَيَا مَرَضًا لا كَالأَمْرَاضِ , إِنَّمَا تُجْزَى بِقَدْرِ عَمَلِكَ عِنْدَ أَعْدَلِ قَاضٍ. (قَصْرُكَ الشَّيْبُ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضِ ... بِبِدَارٍ مِنْ قَبْلِ حِينِ الْبَيَاضِ) (إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ قَرْضُ اللَّيَالِي ... فَتَصَرَّفْ فِيهِ قَبْلَ التَّقَاضِي) الْعَاقِلُ مَنْ رَاقَبَ الْعَوَاقِبَ , وَالْجَاهِلُ مَنْ مَضَى قُدُمًا وَلَمْ يُرَاقِبْ , أَيْنَ لَذَّةَ الْهَوَى زَالَتْ وَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إِذْ حَالَتْ , أَيْنَ الَّذِينَ بَرَوْا أَقْلامَ الْمُنَى وَقَطُّوا , وَكَتَبُوا صِكَاكَ الآمَالِ وَخَطُّوا , وَتَحَكَّمُوا فِي بُلُوغِ الأَغْرَاضِ واشتطوا , وانفردوا بما جمعوا فخزنوا وَلَمْ يُعْطُوا , عَلَوْا عَلَى عَالٍ وَمَا أَسْرَعَ ما انحطوا , وسارت بهم مطايا الرحيل تخذي بِهِمْ وَتَمْطُو. (فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ بَاتَ لِلْمَوْتِ آمِنًا ... أَتَتْهُ الْمَنَايَا بَغْتَةً بَعْدَمَا هَجَعَ)

الكلام على قوله تعالى

(فَلَمْ يَسْتَطِعْ إِذْ جَاءَهُ الْمَوْتُ فَجْأَةً ... فِرَارًا وَلا مِنْهُ بِقُوَّتِهِ امْتَنَعَ) (فَأَصْبَحَ تَبْكِيهِ النِّسَاءُ مُقَنَّعًا ... وَلا يَسْمَعُ الدَّاعِي وَإِنْ صَوْتَهُ رَفَعَ) (وَقُرِّبَ مِنْ لَحْدٍ فَصَارَ مَقِيلَهُ ... وَفَارَقَ مَا قَدْ كَانَ بِالأَمْسِ قَدْ جَمَعَ) يَا حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا مَضَى عُمْرُكَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، انْقَشَعَ غَيْمُ الزَّمَانِ لا عَنْ هِلالِ الْهُدَى , مَا لَذَّتْ لَذَّةُ الدُّنْيَا إِلا لِكَافِرٍ لا يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ , أَوْ لِقَلِيلِ الْعَقْلِ لا يَنْظُرُ فِي عَاقِبَةٍ , الدُّنْيَا خَرَابٌ وَأَخْرَبُ مِنْهَا قَلْبُ مَنْ يَعْمُرُهَا , إِلَى أَيِّ حِينٍ مَعَ الصِّبَا , أما يكفي ما قد مضى , إلى كَمْ هَذَا الْكَرَى أَيْنَ التَّيَقُّظُ لِحُلُولِ الثَّرَى , كَمْ قَدْ قَتَلَ قَبْلَكَ الْمُنَى وَإِنَّمَا يَفْهَمُ أولوا النُّهَى , يَا أَسِيرَ رُقَادِهِ , يَا مَرِيضَ فَسَادِهِ، يَا مُعْرِضًا عَنْ رَشَادِهِ , يَا مَنْ حَبَّ الدُّنْيَا فِي سَوَادِ سَوَادِهِ , مَا يَنْفَعُهُ النُّصْحُ عَلَى كَثْرَةِ تِرْدَادِهِ , سَوَاءٌ عَلَيْهِ نَادَاهُ أَمْ لَمْ يُنَادِهِ , تَاللَّهِ لَقَدْ غَمَزَتْكَ الْحَوَادِثُ بِسَلْبِ الْقُرَنَاءِ غَمْزًا , وَلَزَّكَ الْمُتَقَاضِي بِالأَجَلِ لَوْ فَهِمْتَ لَزًّا , أَمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ بِمَحْبُوبٍ تُعَزَّى , أَمَا تَرَى الأَسِنَّةَ تَعْمَلُ طَعْنًا وَوَخْزًا , أَمَا تُشَاهِدُ مُهَنَّدَاتِ السُّيُوفِ تَهُزُّ هَزًّا , أَيْنَ مَنْ أَوْعَدَ وَوَعَدَ , هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا. (عَلَى ذَا مَا مَضَى وَعَلَيْهِ نَمْضِي ... طِوَالٌ مُنًى وَآجَالٌ قِصَارُ) (وَأَيَّامٌ تَعَرَّفَنَا مَدَاهَا ... أَمَّا أَنْفَاسُنَا فِيهَا سِفَارُ) (وَدَهْرٌ يَنْثُرُ الأَعْمَارَ نَثْرًا ... كَمَا لِلْغُصْنِ بِالْوَرْقِ انْتِثَارُ) (وَدُنْيَا كُلَّمَا وَضَعَتْ جَنِينًا ... غَذَاهُ مِنْ نوائبها طوار) (هي العشواء ما خبطت هشم ... هِيَ الْعَجْمَاءُ مَا جُرِحَتْ جُبَارُ) (فَمِنْ يَوْمٍ بِلا أَمْسٍ لِيَوْمٍ ... بِغَيْرِ غَدٍ إِلَيْهِ بِنَا يُسَارُ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَافِعُ السَّمَوَاتِ {ذُو الْعَرْشِ} أَيْ هُوَ خَالِقُهُ وَمَالِكُهُ.

سجع

سَجْعٌ زَيَّنَ السَّمَاءَ بِالنُّجُومِ تَزْيِينَ النَّقْشِ , وَجَمَعَ الثُّرَيَّا وَفَرَّقَ بَنَاتِ نَعْشٍ , وَمَدَّ الأَرْضَ كَتَمْهِيدِ الْفَرْشِ , وَأَنْزَلَ الْقَطْرَ بَيْنَ الْوَبْلِ وَالطَّشِّ , وَحَمَلَ الآدَمِيَّ عَلَى الْفَرْشِ وَالنَّعْشِ , بَيْنَا هُوَ يَلْهُو جَاءَ أَمْرٌ زَادَ عَلَى الْحَرْشِ , وَضَجَّ لِمَرَضِهِ وَمَا يَصْبِرُ عَلَى الْخَدْشِ , ثُمَّ يُقِيمُهُ لِلْقِيَامَةِ بِالْبَعْثَرَةِ وَالنَّبْشِ , سُبْحَانَهُ مِنْ عَظِيمٍ شَدِيدِ الْبَطْشِ {رفيع الدرجات ذو العرش} . قوله تعالى: {يلقي الروح} وهو الوحي {من أمره} أَيْ بِأَمْرِهِ {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وهم الأنبياء {لينذر يوم التلاق} وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ يَلْتَقِي أَهْلُ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. رَوَاهُ يُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ بِلالُ بْنُ سَعْدٍ. وَالثَّانِي يَلْتَقِي الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَالثَّالِثُ: يَلْتَقِي الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ. قَالَهُ قتادة. والرابع: المظلوم: والظالم قاله ميمون ابن مِهْرَانَ. وَالْخَامِسُ: يَلْتَقِي الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ. قَالَهُ الثَّعْلَبِيُّ. سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} يَوْمٌ تُذَلُّ فِيهِ الأَعْنَاقُ لِهَيْبَةِ الْخَلاقِ , وَيَخْسَرُ أهل الشقاق بِالرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ , وَتَشْهَدُ الصُّحُفُ وَالأَوْرَاقُ بِالأَعْمَالِ وَالأَخْلاقِ , وَتَسِيلُ دُمُوعُ الآمَاقِ مِنَ الأَحْدَاقِ عَلَى تَفْرِيطِ الأَبَاقِ , وَيَضِيقُ عَلَى الْعُصَاةِ الْخَنَاقُ إِذَا عَزَّ الإِعْتَاقُ , وَتَبْرُزُ الْجَحِيمُ فِيهَا الْحَمِيمُ وَالْغَسَّاقُ مُعَدٌّ لِلْفُجَّارِ وَالْفُسَّاقِ , لَفَحَتْهُمْ فَأَحَالَتْ

سجع

جَمَالَهُمْ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ , وَاطَّّلَعَتْ عَلَى الأَفْئِدَةِ وَبَوَاطِنِ الأَعْمَاقِ يَحُلُّونَ بِهَا وَلا يُحَلُّ لَهُمْ وَثَاقٌ , حَرُّهَا شَدِيدٌ وَيَزِيدُ بإطباق الأطباق , واأسفا كَمْ يُهَدَّدُونَ وَكَمْ كَمْ إِحْدَاقٍ. هَذَا وَأَهْلُ الْجَنَّةِ قَدْ نَالُوا الرِّضَا بِالْوِفَاقِ , فَازُوا وَحَازُوا مَرَاتِبَ السِّبَاقِ , فَهُمْ فِي ضِيَاءِ نُورٍ كَامِلٍ وإشراق , ونعيم لا يحاط بوصفه مديد الرواق , وكؤوس مَمْلُوءَةٍ فَيَا حُسْنَ الدِّهَاقِ , كَانُوا يَشْتَاقُونَ إِلَى الْمَحْبُوبِ وَهُوَ إِلَيْهِمْ بِالأَشْوَاقِ , حَدَا لَهُمْ حَادِي الْعَزْمِ فَجَدَّتِ النِّيَاقُ , وَقَدْ أَعْلَمَنَا بِمَا يَجْرِي عَلَى الْفَرِيقَيْنِ يَوْمَ الافْتِرَاقِ {عَلَى مَنْ يَشَاءُ من عباده لينذر يوم التلاق} . {يوم هم بارزون} أَيْ ظَاهِرُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ {لا يَخْفَى عَلَى الله منهم شيء} فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْءٌ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْمُرَادُ التَّهْدِيدُ بِالْجَزَاءِ وَإِنْ كَانَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ الْيَوْمَ شَيْءٌ. وَالثَّانِي: لا يَسْتَتِرُونَ مِنْهُ بِجَبَلٍ وَلا مَدَرٍ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى: أَبْرَزَهُمْ جَمِيعًا. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِمَنِ الملك اليوم} اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلامَ يَقُولُهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ , وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ قَوْلِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقُولُهُ عِنْدَ فَنَاءِ الْخَلائِقِ إِذَا لَمْ يَبْقَ مُجِيبٌ , فَيَرُدُّ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. قَالَهُ الأَكْثَرُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَقُولُهُ فِي الْقِيَامَةِ. وَفِيمَنْ يُجِيبُهُ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُجِيبُ نَفْسَهُ , وَقَدْ سَكَتَتِ الْخَلائِقُ لِقَوْلِهِ. قَالَهُ عَطَاءٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَلائِقَ يُجِيبُونَهُ فَيَقُولُونَ: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. قاله ابن جريح. سَجْعٌ إِذَا خَلَتِ الدِّيَارُ وَلَمْ يَبْقَ دِيَارٌ وَذَهَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ , وَالإِنْسُ وَالْجِنُّ

سجع

وَالأَطْيَارُ , وَنَضَبَتِ الْبِحَارُ وَالأَنْهَارُ , وَبُسَّتِ الْجِبَالُ فَصَارَتْ كَالْغُبَارِ , قَالَ الْمَلِكُ الْعَظِيمُ الْجَبَّارُ {لِمَنِ الْمُلْكُ اليوم لله الواحد القهار} . [قَوْلُهُ تَعَالَى] : {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كسبت} . سَجْعٌ قَامَتِ الأَقْدَامُ حَتَّى تَعِبَتْ وَنَصَبَتْ , وَكُلَّمَا سعت تعثرت في الطريق وكبت , وسقطت الجبال ولطالما انتصبت , وظهر الْمُخَبَّآتُ الَّتِي كَانَتْ قَدِ احْتُجِبَتْ , وَالْحَوْضُ غَزِيرُ الْمَاءِ وَكَمْ نَفْسٍ مَا شَرِبَتْ , فَجِيءَ بِالنِّيرَانِ فَزَفَرَتْ وَغَضِبَتْ , وَنَهَضَتْ مُسْرِعَةً إِلَى أَرْبَابِهَا وَوَثَبَتْ , فَانْزَعَجَتِ الْقُلُوبُ وَرَهَبِتْ وَهَرَبَتْ , وَكَيْفَ لا تَجْزَعُ وَهِيَ تَدْرِي أَنَّهَا قَدْ طُلِبَتْ , وَمَوَازِينُ الأَعْمَالِ عَلَى الْعَدْلِ قَدْ نُصِبَتْ , وَنَادَى الْمُنَادِي فَبَكَتِ الْعُيُونُ وَانْتَحَبَتْ: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كسبت} . قوله تعالى: {لا ظلم اليوم} مِيزَانُ الْعَدْلِ تَبِينُ فِيهِ الذَّرَّةُ فَاحْذَرُوا , الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَاذْكُرُوا , إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ قَدْ بَقِيَ الْقَلِيلُ لإِتْيَانِهِ. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزفة} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَسُمِّيَتْ آزِفَةً لِقُرْبِهَا , يُقَالُ أزف شخوص فلان أي قرب. {إذا الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} وَذَلِكَ أَنَّهَا تَرْتَقِي إِلَى الحناجر فلا تخرج ولا تعود {كاظمين} أَيْ مَغْمُومِينَ مُمْتَلِئِينَ خَوْفًا وَحُزْنًا {مَا لِلظَّالِمِينَ من حميم} أي قريب ينفعهم {ولا شفيع يطاع} فِيهِمْ فَتُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ.

سَجْعٌ لَوْ رَأَيْتَ الظَّلَمَةَ قَدْ ذَلُّوا بَعْدَ الارتفاع , وصاروا تحت الأقدام وكانوا على يقاع , وَبَكَوْا وَلا يَنْفَعُهُمْ عَلَى وِفَاقِ الطِّبَاعِ , وَكِيلَ لَهُمُ الْجَزَاءُ عَدْلا بِأَوْفَرِ صَاعٍ , وَعَلِمُوا أَنَّ الأَعْمَارَ مَرَّتْ بِالْغُرُورِ وَالْخِدَاعِ , وَأَنَّ مُلْكًا كَانُوا فِيهِ بِئْسَ الْمَتَاعُ , وَدُّوا لَوْ أَنَّ لِقَاءَ الدُّنْيَا كَانَ لَهُمُ الْوَدَاعُ , مَرِضُوا بِالْحَسَرَاتِ وَالْحَسَرَاتُ أَشَدُّ الأَوْجَاعِ , وَنَدِمَ مَنْ مَدَّ الْبَاعَ فَاشْتَرَى مَا يَفْنَى وَبَاعَ , لا يُنْظَرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة كأنهم رَدِيءُ الْمَتَاعِ , ظَهَرَ ذُلُّهُمْ بَيْنَ الْخَلائِقِ كُلِّهِمْ وَشَاعَ , وَرَأَوْا مِنَ الأَهْوَالِ مَا أَزْعَجَهُمْ وَرَاعَ , حشر الخلائق كلهم يومئذ في قاع , وطارت الصُّحُفُ وَالرِّقَاعُ فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ , وَقُرِّبَتِ الأَعْمَالُ وَنُودِيَ: سَمَاعٌ سَمَاعٌ , وَنَفَعَتِ الشَّفَاعَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَا لِلْفُجَّارِ انْتِفَاعٌ {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شفيع يطاع} . قوله تعالى: {يعلم خائنة الأعين} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْخَائِنَةُ وَالْخِيَانَةُ وَاحِدٌ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ فَتَمُرُّ بِهِ الْمَرْأَةُ فَيُرِيهِمْ أَنَّهُ يغض بصره فإذا رأى منهم غفلة لحظ إليها , فَإِنْ خَافَ أَنْ يَفْطِنُوا لَهُ غَضَّ بَصَرَهُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَظَرُ الْعَيْنِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّالِثُ: الْغَمْزُ بِالْعَيْنِ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْغَمْزُ بِالْعَيْنِ فِيمَا لا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلا يَرْضَاهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: مَا تُضْمِرُهُ مِنَ الْفِعْلِ أَنْ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى مَا نَظَرَتْ إِلَيْهِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

سجع

وَالثَّانِي: الْوَسْوَسَةُ. قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَالثَّالِثُ: مَا تُسِرُّهُ الْقُلُوبُ مِنْ أَمَانَةٍ أَوْ خِيَانَةٍ. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. سَجْعٌ ذُنُوبُكَ ظَاهِرَةٌ لا تَحْتَاجُ إِلَى تَفْتِيشٍ , حَيَّةُ لِسَانِكَ فِي الْمَلاهِي مِنَ الْحَيَّاتِ الْمَنَاهِيشِ , كَيْفَ تَلْحَقُ الصَّالِحِينَ وَهَلْ يَطِيرُ طَائِرٌ بِلا رِيشٍ , تَغْتَابُ الرُّفَقَاءَ وَتَعِيبُ الأَصْدِقَاءَ مَعَ مَنْ تَعِيشُ , لا عَمَلُكَ لَنَا خَالِصٌ وَلا تُقَاكَ لِهَوَاكَ قَانِصٌ , لَقَدْ رَضِيتَ الْمَعَايِبَ وَالنَّقَائِصَ أَمَا ظِلُّ الْحَيَاةِ ظِلٌّ قَالِصٌ , كَمْ قَبَضَ الْمَوْتُ كَفَّ قَانِصٍ. كَمْ أَشْخَصَ الرَّدَى مِنْ طَرْفِ شَاخِصٍ , كَأَنَّكَ بِكَ وَقَدْ جَاءَكِ الْمُغَافِصُ وَلَقِيتَ كُلَّ الأَذَى مِنْ أَدْنَى الْقَوَارِصِ , وَرَأَيْتَ هَوْلا تَرْعَدُ مِنْهُ الْفَرَائِصُ , وَصَاحُوا ثُمَّ قَالُوا خَلُّوهُ فَهُوَ عَائِصٌ , وَبَكَى لِمَصْرَعِكَ الْعَدُوُّ وَالْوَلِيُّ الْمُخَالِصُ. (سألت بني الأيام عن ذاهل الصِّبَا ... كَأَنَّكَ قُلْتَ الآنَ مَا فَعَلَ الطَّسْمُ) (مَضَى الشَّخْصُ ثُمَّ الذِّكْرُ فَانْقَرَضَا مَعًا ... وَمَا مَاتَ كُلَّ الْمَوْتِ مَنْ عَاشَ مِنْهُ اسْمُ) (أَلا ذَلِّلُوا هَذِي النُّفُوسَ فَإِنَّهَا ... رَكَائِبُ شَرٍّ ليس يضبطها الْحَزْمُ) يَا مَنْ عَلَيْهِ مَنَازِلُ الْمَوْتِ تَدُورُ , وَهُوَ مُسْتَأْنِسٌ بِالْمَنَازِلِ وَالدُّورِ , لا بُدَّ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْقُصُورِ عَلَى التَّوَانِي وَالْقُصُورِ , لا بُدَّ مِنَ الرَّحِيلِ إِلَى بِلادِ الْقُبُورِ عَلَى الْغَفَلاتِ وَعَلَى الْفُتُورِ , أَهْلَكَكَ وَاللَّهِ الْغُرُورُ بِفُنُونِ الْخِدَاعِ وَالْغُرُورِ , يَا مُظْلِمَ الْقَلْبِ وَمَا لِلْقَلْبِ نُورٌ , الْبَاطِنُ خَرَابٌ وَالظَّاهِرُ مَعْمُورٌ , لَوْ ذَكَرْتَ الْقَبْرَ الْمَحْفُورَ كَانَتْ عَيْنُ الْعَيْنِ تَفُورُ , وَلَوْ تَفَكَّرْتَ فِي الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ دَفَنْتَ الاسْتِغْفَارَ بَيْنَ السُّطُورِ , وَلَوْ تَصَوَّرْتَ النَّفْخَ فِي الصُّورِ وَالسَّمَاءُ تَتَغَيَّرُ وَتَمُورُ , وَالنُّجُومُ تَنْكَدِرُ وَتَغُورُ , وَالصِّرَاطُ مَمْدُودٌ وَلا بُدَّ مِنْ عُبوُرٍ , وَأَنْتَ مُتَحَيِّرٌ فِي الأُمُورِ تَبْكِي عَلَى خِلافِ الْمَأْمُورِ , سَتُحَاسَبُ عَلَى الأَيَّامِ وَالشُّهُورِ , وَتَرَى مَا فَعَلْتَهُ مِنْ فُجُورٍ فِي النَّهَارِ وَالدَّيْجُورِ , سَتَحْزَنُ بَعْدَ السُّرُورِ عَلَى تِلْكَ الشُّرُورِ إِذَا

وُفِّيَتِ الأُجُورُ , وَبَانَ الْمُوَاصَلُ مِنَ الْمَهْجُورِ , وَنَجَا الْمُخْلِصُونَ دُونَ أَهْلِ الزُّورِ , تُصَلِّي وَلَكِنْ بِلا حُضُورٍ , وَتَصُومُ وَالصَّوْمُ بِالْغِيبَةِ مَغْمُورٌ , لَوْ أَرَدْتَ الوالدان وَالْحُورَ لَسَأَلْتَهُمْ وَقْتَ السَّحُورِ , كَمْ نَتَلَطَّفُ بِكَ يا نقور , كَمْ نُنْعِمُ عَلَيْكَ يَا كَفُورُ , كَمْ بَارَزْتَ بِالْقَبِيحِ وَالْكَرِيمُ غَفُورٌ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تخفي الصدور} . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصْحِبِهِ وسلم.

المجلس الثالث والعشرون في قصة يونس عليه السلام

المجلس الثالث والعشرون فِي قِصَّةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ الْوَاحِدِ الْمَاجِدِ الْعَظِيمِ , الدَّائِمِ الْعَالِمِ الْقَائِمِ الْقَدِيمِ , الْقَدِيرِ الْبَصِيرِ النَّصِيرِ الْحَلِيمِ , الْقَوِيِّ الْعَلِيِّ الْغَنِيِّ الْحَكِيمِ , قَضَى فَأَسْقَمَ الصَّحِيحَ وَعَافَى السَّقِيمَ , وَقَدَرَ فأعان الضعيف وأوهى القويم , وَقَسَمَ عِبَادَهُ قِسْمَيْنِ طَائِعٌ وَأَثِيمٌ , وَجَعَلَ مَآلَهُمْ إِلَى دَارَيْنِ دَارِ النَّعِيمِ وَدَارِ الْجَحِيمِ , فَمِنْهُمْ مَنْ عَصَمَهُ مِنَ الْخَطَايَا كَأَنَّهُ فِي حَريِمٍ , ومنهم مَنْ قَضَى لَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى الذُّنُوبِ وَيُقِيمَ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ وَالْعَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ , خَرَجَ مُوسَى رَاعِيًا وَهُوَ الْكَلِيمُ , وَذَهَبَ ذو النون مغاضباً فالتقمه الحوت وهو مليم , وَكَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتِيمًا فَكَانَ الْكَوْنُ لِذَلِكَ الْيَتِيمِ , وَعَصَى آدَمُ وَإِبْلِيسُ فَهَذَا مَرْحُومٌ وَهَذَا رَجِيمٌ , فَإِذَا سَمِعْتَ بِنَيْلِ الْمَمَالِكِ أَوْ رَأَيْتَ وُقُوعَ الْمَهَالِكِ فَقُلْ: {ذَلِكَ تقدير العزيز العليم} أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِالْفَضْلِ الْوَافِرِ الْعَمِيمِ , وَهَدَانَا بِمَنِّهِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ , وَحَذَّرَنَا بِلُطْفِهِ مِنَ الْعَذَابِ الأَلِيمِ , وَمَنَّ عَلَيْنَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْقَدِيمِ , فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ الْحَمْدَ وَمُسْتَوْجِبٌ التَّعْظِيمَ , أَحْمَدُهُ وَكَيْفَ لا يُحْمَدُ , وَأَشْهَدُ أَنَّهُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الأَمْجَدُ وَرَسُولُهُ الأَوْحَدُ , أَخَذَ لَهُ الْمِيثَاقَ عَلَى أَقْرَبِ الأَنْبِيَاءِ وَالأَبْعَدِ , وَأَقَامَ عِيسَى يَقُولُ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسمه أحمد} وَتَوَسَّلَ بِهِ آدَمُ وَقَدْ أَسْجَدَ لَهُ مَنْ أَسْجَدَ مِنْ مَلَكٍ كَرِيمٍ , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الْقَوِيمَ , وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ السَّابِقِ إِلَى الإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ , المحب الشفيق

وَالرَّفِيقِ الرَّقِيقِ حِينَ يُسَافِرُ وَحِينَ يُقِيمُ , وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي عَمَّرَ مِنَ الدِّينِ مَا عَمَّرَ وَدَفَعَ الْكُفْرَ فَدَبَّرَ بِأَحْسَنِ تَدْبِيرٍ وَأَكْمَلِ تَقْوِيمٍ، وَعَلَى عُثْمَانَ الشَّرِيفِ قَدْرُهُ الْكَثِيفِ سِتْرُهُ الَّذِي احْتَسَبَ عِنْدَ اللَّهِ صَبْرَهُ عَلَى مَا ضِيمَ , وَعَلَى عَلِيٍّ مَدَارِ الْعُلَمَاءِ وَقُطْبِهِمْ , وَمُقَدَّمِ الشُّجْعَانِ فِي حَرْبِهِمْ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ كَرْبِهِمْ فِي مَقْعَدٍ مُقِيمٍ , وَعَلَى الْعَبَّاسِ عَمِّهِ وَصِنْوِ أَبِيهِ , أَقْرَبِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ نَسَبًا يَلِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وإن يونس لمن المرسلين} يُونُسُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ. وَفِيهِ سِتُّ لُغَاتٍ: ضَمُّ النُّونِ وَفَتْحُهَا وَكَسْرُهَا وَالْهَمْزُ مَعَ اللُّغَاتِ الثَّلاثِ. وَكَانَ يُونُسُ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ , وَكَانَ عَابِدًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ , فَخَافَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ عُقُوبَةٌ , فَخَرَجَ هَارِبًا بِنَفْسِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَكَانُوا بِنِينَوَى قَرْيَةٍ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ , فَبَعَثَهُ اللَّهُ رَسُولا إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ , وَكَانَ رَجُلا فِيهِ حِدَّةٌ , فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلُوا أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ مُصَبِّحُهُمْ بَعْدَ ثَلاثٍ. فَأَقْبَلَ الْعَذَابُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْعَذَابِ وَبَيْنَهُمْ إِلا قَدْرُ ثُلُثَيْ مِيلٍ وَوَجَدُوا حَرَّهُ عَلَى أَكْتَافِهِمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: غَشِيَهُمُ الْعَذَابُ كَمَا يَغْشَى الثَّوْبَ الضَّفْرُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: غَامَتِ السَّمَاءُ غَيْمًا أَسْوَدَ يُظْهِرُ دُخَانًا شَدِيدًا فَغَشَّى مَدِينَتَهُمْ فَاسْوَدَّتْ أَسْطِحَتُهُمْ , فَلَمَّا أَيْقَنُوا بِالْهَلاكِ لَبِسُوا المسوح وحثوا على رُءُوسَهُمُ الرَّمَادَ , وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا مِنَ النَّاسِ وَالأَنْعَامِ وَعَجُّوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ وَقَالُوا: آمَنَّا بِمَا جَاءَ بِهِ يُونُسُ. فَكُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ فَقِيلَ لِيُونُسَ: ارْجِعْ إليهم فقال: كيف أرجع إليهم فيجدون كاذباً , وكان مَنْ يَكْذِبُ فِيهِمْ يُقْتَلُ. فَرَكِبَ السَّفِينَةَ مُغَاضِبًا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَنْ غَاضَبَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ غَاضَبَ قَوْمَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَاشْتَهَى أَنْ يَنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابُ لِمَا عَانَى مِنْ تَكْذِيبِهِمْ , فَعُوتِبَ عَلَى كَرَاهِيَةِ الْعَفْوِ عَنْهُمْ , فَلَمَّا

رَكِبَ السَّفِينَةَ وَقَفَتْ فَقَالَ: مَا لِسَفِينَتِكُمْ؟ قَالُوا: لا نَدْرِي. قَالَ: لَكِنِّي أَدْرِي , فِيهَا عَبْدٌ أَبَقَ مِنْ رَبِّهِ وَإِنَّهَا وَاللَّهِ لا تَسِيرُ حَتَّى تُلْقُوهُ. قَالُوا أَمَّا أَنْتَ وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لا نُلْقِيكَ. قَالَ: فَاقْتَرَعُوا فَقُرِعَ يونس. وهو معنى قوله تعالى: {فساهم} فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مليم} أَيْ مُذْنِبٌ {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} أَيْ مِنَ الْمُصَلِّينَ قَبْلَ الْتِقَامِ الْحُوتِ. وَقِيلَ: بَلْ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. وَفِي قَدْرِ مُكْثِهِ في بطن الحوت خمسة أقوال: أحدها: أربعون يَوْمًا. قَالَهُ أَنَسٌ وَكَعْبٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَالثَّانِي: سَبْعَةَ أَيَّامٍ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَالثَّالِثُ: ثلاثة أيام. قاله مجاهد وقتادة. والرابع: عشرون يَوْمًا. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَالْخَامِسُ. بَعْضَ يَوْمٍ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا مَكَثَ إِلا أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ , الْتَقَمَهُ الْحُوتُ ضُحًى فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَقَارَبَتِ الشَّمْسُ الْغُرُوبَ تَثَاءَبَ الْحُوتُ فَرَأَى يُونُسُ ضَوْءَ الشَّمْسِ فَقَالَ: " {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سبحانك إني كنت من الظالمين} ". {فنبذناه بالعراء} وَهِيَ الأَرْضُ الَّتِي لا يُتَوَارَى فِيهَا بِشَجَرٍ ولا غبرة {وهو سقيم} أَيْ مَرِيضٌ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ الْمَمْعُوطِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ رِيشٌ {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شجرة من يقطين} وَهِيَ الدُّبَّاءُ وَإِنَّمَا أُنْبِتَتْ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهَا لِيُغَطِّيَهُ وَرَقُهَا وَيُمْنَعَ الذُّبَابُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لا يَسْقُطُ عَلَى وَرَقِهِ ذُبَابَةٌ. وَقَيَّضَ اللَّهُ تَعَالَى أَرْوِيَةً مِنَ الْوَحْشِ تَرُوحُ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَيَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ الدُّبَّاءَ فَأَظَلَّتْهُ , وَرَأَى خُضْرَتَهَا فَأَعْجَبَتْهُ , ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ يَبِسَتْ فَحَزِنَ عَلَيْهَا فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ لَمْ تَخْلُقْ وَلَمْ تَسْقِ وَلَمْ تُنْبِتْ تَحْزَنُ عَلَيْهَا , وَأَنَا الَّذِي خَلَقْتُ مِائَةَ أَلْفٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ يَزِيدُونَ ثُمَّ رَحِمْتُهُمْ فَشَقَّ عَلَيْكَ!

قوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف} الْمَعْنَى: {وَكُنَّا أَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يزيدون} الْمَعْنَى: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ تَقْدِيرُهُ: وَيَزِيدُونَ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَفِي زِيَادَتِهِمْ أَرَبْعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: عِشْرُونَ ألفاً. رواه أبي ابن كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: ثَلاثُونَ أَلْفًا. وَالثَّالِثُ: بِضْعَةٌ وَثَلاثُونَ أَلْفًا. وَالْقَوْلانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالرَّابِعُ: سَبْعُونَ أَلْفًا. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ وَلَمْ يُقْبَلْ إِيمَانُ فِرْعَوْنَ. فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا لَهُمْ. كَمَا فِي الآيَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ فِرْعَوْنَ بَاشَرَهُ الْعَذَابُ , وَهَؤُلاءِ لَمْ يُبَاشِرْهُمْ. ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُمْ صِدْقَ النِّيَّاتِ بِخِلافِ غَيْرِهِمْ. ذَكَرَهُ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ. فَانْظُرُوا [إِخْوَانِي] إِلَى التَّوْبَةِ [النَّصُوحِ] الصَّادِقَةِ كَيْفَ أَثْرَتْ , وَقَاوَمَتِ الْعَذَابَ فَدَفَعَتْ وَنَفَعَتْ , فَلْيَلْجَإِ الْعَاصِي إِلَى حَرَمِ الإِنَابَةِ , وَلْيَطْرُقْ بِالأَسْحَارِ بَابَ الإِجَابَةِ , فَمَا صَدَقَ صَادِقٌ فَرُدَّ , وَلا أَتَى الْبَابَ مُخْلِصٌ فَصُدَّ , وَكَيْفَ يُرَدُّ مَنْ قَدِ استدعي فقيل لهم {توبوا} إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي صِدْقِ التَّوْبَةِ. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ نُطْقَ اللِّسَانِ إِنَّمَا هِيَ نَدَمُ الْقَلْبِ وَعَزْمُهُ أَنْ لا يَعُودَ , وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا: أَنْ تَكُونَ قَبْلَ مُعَايَنَةِ أُمُورِ الآخِرَةِ , فَمَنْ بَاشَرَهُ الْعَذَابُ أَوْ عَايَنَهُ فَقَدْ فَاتَ مَوْسِمُ الْقَبُولِ , فَاسْتَدْرِكُوا قَبْلَ الْمُفَاجَأَةِ بِالْفَوَاتِ الَّذِي لا يُؤْمَنُ نَسْأَلُ اللَّهَ يَقَظَةً تُحَرِّكُنَا إِلَى الْبِدَارِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الْفَوْتُ وَالْخَسَارُ.

الكلام على البسملة

الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ إِصْبَاحٌ وَإِمْسَاءٌ ... وَكُلُّنَا لِصُرُوفِ الدَّهْرُ نَسَّاءُ) (يَثْوِي الْمُلُوكُ وَمِصْرٌ فِي تَغَيُّرِهِمْ ... مِصْرٌ عَلَى الْعَهْدِ وَالأَحْسَاءُ أَحْسَاءُ) (خَسَسْتِ يَا دَارَ دُنْيَانَا فَأُفٍّ لِمَنْ ... يرضى الخسيسة أو ناس أَخِسَّاءُ) (لَقَدْ نَطَقْتُ بِأَصْنَافِ الْعِظَاتِ لَنَا ... وَأَنْتَ فِيمَا يَظُنُّ النَّاسُ خَرْسَاءُ) (إِذَا تَعَطَّفْتِ يَوْمًا كُنْتِ قَاسِيَةً ... وَإِنْ نَظَرْتِ بِعَيْنٍ فَهِيَ شَوْسَاءُ) (أَيْنَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَمَنْ ... كَانَتْ لَهُمْ عِزَّةٌ فِي الْمُلْكِ قَعْسَاءُ) (نَالُوا يَسِيرًا مِنَ اللَّذَّاتِ وَارْتَحَلُوا ... بِرَغْمِهِمْ فَإِذَا النَّعْمَاءُ بَأْسَاءُ) الدُّنْيَا دَارُ كَدَرٍ , بِذَلِكَ جَرَى الْقَدَرُ , فَإِنْ صَفَا عَيْشٌ لَحْظَةً نَدَرَ , ثُمَّ عَادَ التَّخْلِيطُ فَبَدَرَ , الْوُرُودُ فِيهَا كَالصَّدْرِ , وَدَمُ قَتِيلِهَا هَدَرٌ , بَلاؤُهَا مُتَتَابِعٌ مُتَوَاصِلٌ وَسَيْفُهَا إِذَا ضَرَبْتَ سَيْفَ فَاصِلٍ , وَحِرْصُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ مُفَاصِلٌ , وَخَيْرُهَا مَظْنُونٌ وَشَرُّهَا حَاصِلٌ. (نَوَائِبُ إِنْ حَلَّتْ تَخَلَّتْ سَرِيعَةً ... وَإِمَّا تولت في الزمان توالت) (ودنياك إن قلت أقلت وإن قلت ... فمن قلة فِي الدِّينِ نَجَّتْ وَعَلَّتْ) (غَلَتْ وَأَغَالَتْ ثُمَّ غَالَتْ وَأَوْحَشَتْ ... وَحَشَّتْ وَحَاشَتْ وَاسْتَمَالَتْ وَمَلَّتْ) (وَصَلَّتْ بِنِيرَانٍ وَصَلَّتْ سُيُوفَهَا ... وَسَلَّتْ حُسَامًا مِنْ أَذَاةٍ وَسَلَّتْ) (أَزَالَتْ وَزَلَّتْ بِالْفَتَى عَنْ مَقَامِهِ ... وَحَلَّتْ فَلَمَّا أُحْكِمَ الْعَقْدُ حَلَّتْ) أَيْنَ أَرْبَابُ الْبِيضِ وَالسُّمْرِ , وَالْمَرَاكِبِ الصُّفْرِ وَالْحُمْرِ , وَالْقِبَابِ وَالْقُبِّ الضُّمْرِ , مَا زَالُوا يَفْعَلُونَ أَفْعَالَ الْغَمْرِ إِلَى أَنْ تقضى جَمِيعُ الْعُمْرِ , لَوْ رَأَيْتَ مُرْتَفِعَهُمْ بَعْدَ النَّصَبِ قَدْ جُرَّ إِلَى بَيْتٍ لا يَدْرِي فِيهِ الْحَرَّ وَالْقُرَّ , وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ لا خَيْطٌ وَلا زِرٌّ , الْمِحْنَةُ أَنَّهُ مَا انْتَقَلَ بِمَا يَسُرُّ , تَاللَّهِ لَقَدْ حَالَ حُلْوُهُمْ إِلَى الْمُرِّ وَصَارَ مَا كَانَ يَنْفَعُ يَضُرُّ , بَاعُوا بِمِخْشَابِ الْهَوَى ثَمِينَ الدُّرِّ , وَلا يَمْكُنُ أَنْ يُقَالَ الْبَائِعُ غَرَّ لأَنَّهُ بَاعَ وَهُوَ يَدْرِي أَنَّهُ حُرٌّ.

(الْمَشِيدَاتُ الَّتِي رُفِعَتْ ... أَرْبَعٌ مِنْ أَهْلِهَا دُرُسُ) (أَقَامَ لِلأَيَّامِ فِي أُذُنِي ... وَاعِظٌ مِنْ شَأْنِهِ الْخَرَسُ) (مُهْجَتِي ضِدٌّ تُحَارِبُنِي ... أَنَا مِنِّي كَيْفَ أحترس) (إنما دنياك غانية ... لم يهنأ زوجها العرش) (فَالْقَهَا بِالزُّهْدِ مُدَّرِعًا ... فِي يَدَيْكَ السَّيْفَ وَالتُّرُسُ) (لَيْسَ يَبْقَى فَرْعُ نَائِبَةٍ ... أَصْلُهَا فِي الْمَوْتِ مُفْتَرِسُ) إِخْوَانِي: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ الْحِسَابِ وَأَعِدُّوا لِلسُّؤَالِ صَحِيحَ الْجَوَابِ , وَاحْفَظُوا بِالتَّقْوَى هَذِهِ الأَيَّامَ , وَاغْسِلُوا عَنِ الإِجْرَامِ هَذِهِ الأَجْرَامَ , قَبْلَ نَدَمِ النُّفُوسِ فِي حِينِ سِيَاقِهَا , قَبْلَ طَمْسِ شَمْسِ الْحَيَاةِ بَعْدَ إِشْرَاقِهَا قَبْلَ ذَوْقِ كَأْسٍ مُرَّةٍ فِي مَذَاقِهَا , قَبْلَ أَنْ تَدُورَ السَّلامَةُ فِي أَفْلاكِ مَحَاقِهَا , قَبْلَ أَنْ تُجْذَبَ النُّفُوسُ إِلَى الْقُبُورِ بِأَطْوَاقِهَا , وَتَفْتَرِشَ فِي اللُّحُودِ أَخْلاقَ أَخْلاقِهَا , وَتَنْفَصِلَ الْمَفَاصِلُ بَعْدَ حُسْنِ اتِّسَاقِهَا , وَتَشْتَدَّ شَدَائِدُ الْحَسْرَةِ حَاسِرَةً عَنْ سَاقِهَا , وَتَظْهَرَ مُخَبَّآتُ الدُّمُوعِ بِسُرْعَةِ انْدِفَاقِهَا , وَتَتَقَلَّبُ الْقُلُوبُ فِي ضَنْكِ ضِيقِ خَنَاقِهَا , وَيَطُولُ جُوعُ مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَاكِهًا , وَتَبْكِي النُّفُوسُ فِي أَسْرِهَا عَلَى زَمَانِ إِطْلاقِهَا. إِخْوَانِي: الأَيَّامُ مَطَايَا بِيَدِهَا أَزِمَّةُ رُكْبَانِهَا , تَنْزِلُ بِهِمْ حَيْثُ شَاءَتْ , فَبَيْنَا هُمْ عَلَى غَوَارِبِهَا أَلْقَتْهُمْ فَوَطِئَتْهُمْ بِمَنَاسِمِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: يُعْرَضُ عَلَى الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَاتُ عُمُرِهِ , فَكُلُّ سَاعَةٍ لَمْ يُحْدِثْ فِيهَا خَيْرًا تَتَقَطَّعُ نَفْسُهُ عَلَيْهَا حَسَرَاتٍ. وَكَانَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ يُحَدِّثُهُمْ فَنَظَرَ فِي وُجُوهِهِمْ وَقَالَ: لَقَدْ ذَهَبَ مِنْ أَجْلِي وَأَجْلِكُمْ سَاعَةً. وَكَتَبَ الأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أُحِيطَ بِكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ , وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسَارُ بِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَرْحَلَةٌ , فَاحْذَرِ اللَّهَ تَعَالَى وَالْمَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِكَ بِهِ وَالسَّلامُ.

الكلام على قوله تعالى

(خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا ... وَكَبِيرَهَا فَهُوَ التُّقَى) (كُنْ مِثْلَ مَاشٍ فَوْقَ أَرْضِ ... الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى) (لا تُحَقِّرَنَّ صَغِيرَةً ... إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى) قَالَ أَعْرَابِيٌّ: لا تَأْمَنْ مَنْ جَعَلَ فِي ثَلاثَةِ دَرَاهِمَ قَطْعَ خَيْرِ عُضْوٍ مِنْكَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُهُ غَدًا هَكَذَا. قَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: أَوْصِنِي. فَقَالَ: إِيَّاكَ أَنْ تُسِيءَ إِلَى مَنْ تُحِبُّ. قَالَ: وَهَلْ يُسِيءُ أَحَدٌ مَنْ يُحِبُّ؟ قَالَ: نَعَمْ تَعْصِي فَتُعَذَّبُ فَتَكُونُ مُسِيئًا إِلَى نَفْسِكَ. (أَعْطَيْتَ سَيْفًا لَكَ بَعْضَ الْعِدَا ... وَلَيْسَ فِي كَفِّكَ غَيْرُ الْقِرَابِ) (فَاهْرُبْ مِنَ الْغَيِّ وَأَشْيَاعِهِ ... وَحِنَّ لِلنُّسْكِ حَنِينَ الضِّرَابِ) (تَزْجُرُ هَذِي النُّفْسَ عَنْ طَبْعِهَا ... وَالأُسْدُ لا تَتْرُكُ قَصْدَ الرَّوَابِ) \ الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {أفرأيت إن متعناهم سنين} اعْلَمْ أَنَّ الآدَمِيَّ ابْنُ وَقْتِهِ , لأَنَّ مَا مَضَى لا لَذَّةَ لَهُ , لا تَغْتَرِرْ بِمَدِّ المهل ولا تنس قرب الأجل , فالأيام راحل وَسَتَصِلُ الرَّوَاحِلُ , تَأَهَّبْ لِحَوْضٍ سَتَرِدُهُ , يَا خَاسِرًا رَأْسَ الْمَالِ وَمَا يَفْتَقِدُهُ , يَا طَالِبًا طُولَ الْبَقَاءِ وَمَا يَجِدُهُ. (دَهْرٌ يُشَيِّعُ سَبْتَهُ أَحَدُهْ ... مُتَتَابِعٌ مَا يَنْقَضِي أَمَدُهْ) (يَوْمٌ يُبْكِينَا وَآوِنَةً ... يَوْمٌ يُبْكِينَا عَلَيْهِ غَدُهْ) (نَبْكِي عَلَى زَمَنٍ وَمِنْ زَمَنٍ ... فَبُكَاؤُنَا مَوْصُولَةٌ مُدَدُهْ) (وَنَرَى مَكَارِهَنَا مُخَلَّدَةً ... وَالْعَمْرُ يَذْهَبُ فَائِتًا عَدَدُهْ)

(لا خَيْرَ فِي عَيْشٍ تَخَوَّنُنَا ... أَوْقَاتُهُ وَتَغَّوَلَنَا مُدَدُهْ) (مَنْ أُقْرِضَ الأَيَّامَ أَتْلَفَهَا ... وَقَضَى جَمِيعَ قُرُوضِهَا جَسَدُهْ) (حَتَّى يُغَيَّبَ فِي مُطَمْطَمَةٍ ... لا أهله فيها ولا ولده) تدبروا أموكم تَدُبَّرَ نَاظِرٍ , أَيْنَ السُّلْطَانُ الْكَبِيرُ الْقَاهِرُ , كَمْ جَمَعَ فِي مَمْلَكَتِهِ مِنْ عَسَاكِرَ , وَكَمْ بَنَى مِنْ حُصُونٍ وَدَسَاكِرَ , وَكَمْ تَمَتَّعَ بِحُلَلٍ وَأَسَاوِرَ , وَكَمْ عَلا عَلَى الْمَنَابِرِ ثُمَّ آخِرَ الأَمْرِ إِلَى الْمَقَابِرِ , الْعَاقِلُ مَنْ يَنْظُرُ فِيمَا سَيَأْتِي وَيَقْهَرُ بِعَزْمِهِ شَرَّ الْهَوَى الْعَاتِي , وَإِذَا قَالَتِ النَّفْسُ حَظِّي قَالَ حَظِّي نَجَاتِي. (عَجِبْتُ لِمَا تَتُوقُ النَّفْسُ جَهْلا ... إِلَيْهِ وَقَدْ تَصَرَّمَ لانْبِتَاتِ) (وعصياني العذول وقد دعاني ... إلى رشدي وَمَا فِيهِ نَجَاتِي) (أُؤَمِّلُ أَنْ أَعِيشَ وَكُلَّ يَوْمٍ ... بِسَمْعِي رَنَّةٌ مِنْ مُعْوِلاتِ) (وَأَيْدِي الْحَافِرِينَ تَكِلُّ مِمَّا ... تُسَوِّي مِنْ مَسَاكِنَ مُوحِشَاتِ) (نُرَاعُ إِذَا الْجَنَائِزُ قَابَلَتْنَا ... وَنَسْكُنُ حِينَ تَخْفَى ذَاهِبَاتِ) (كَرَوْعَةِ قِلَّةٍ لِظُهُورِ ذِيبِ ... فَلَمَّا غَابَ عَادَتْ رَاتِعَاتِ) (فَإِنْ أَمَّلْتَ أَنْ تَبْقَى فَسَائِلْ ... بِمَا أَفْنَى الْقُرُونَ الْخَالِيَاتِ) (فَكَمْ مِنْ ذِي مَصَانِعَ قَدْ بَنَاهَا ... وَشَيَّدَهَا قَلِيلُ الْخَوْفِ عَاتِي) (قَلِيلُ الهم ذوبال رَخِيٍّ ... أَصَمَّ عَنِ النَّصَائِحِ وَالْعِظَاتِ) (فَبَاتَ وَمَا تَرَوَّعَ مِنْ زَوَالٍ ... صَحِيحًا ثُمَّ أَصْبَحَ ذَا شِكَاتِ) (فَبَاكَرَهُ الطَّبِيبُ فَرِيعَ لَمَّا ... رَآهُ لا يُجِيزُ إِلَى الدّعَاةِ) (فَلَوْ أَنَّ الْمُفَرِّطَ وَهْوَ حَيٌّ ... تَوَخَّى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ) (لَفَازَ بِغِبْطَةٍ وَأَصَابَ حَظًّا ... وَلَمْ يَغْشَ الأُمُورَ الْمُوبِقَاتِ) (فَيَا لَكِ عِنْدَهَا عِظَةٌ لِحَيٍّ ... وَيَا لَكِ مِنْ قُلُوبٍ قَاسِيَاتِ) (وَكُلُّ أَخِي ثَرَاءٍ سَوْفَ يُمْسِي ... عَدِيمًا وَالْجَمِيعُ إِلَى شَتَاتِ) (كَأَنْ لَمْ يَلْفَ شَيْئًا مَا تَقَضَّى ... وَلَيْسَ بِفَائِتٍ مَا سَوْفَ يَأْتِي) كَأَنَّكَ بِكَ وَقَدْ مَلَّ النَّاعِتُ , وَحَلَّ بِمَحِلِّكَ الْمُسْتَلَبِ الْبَاغِتُ , وَرَدَّكَ مِنْ

مَقَامٍ نَاطِقٍ إِلَى حَالِ صَامِتٍ , وَبَقِيتَ مُتَحَيِّرًا كَالأَسِيرِ الْبَاهِتِ , وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسٌ تَخْرُجٌ وَنَفْسُ هَافِتٍ , وَقَدْ مَضَى فَمَنْ يَرُدُّ الْفَائِتَ , وَصِرْتَ فِي حَالَةٍ يَرْثِي لَهَا الشَّامِتُ , يَا عَجَبًا كَيْفَ يَفْرَحُ هَالِكٌ فَائِتٌ. عِبَادَ اللَّهِ: النَّظَرَ النظر إلى العواقب , فإن اللبيب لها يراقب , أَيْنَ تَعَبُ مَنْ صَامَ الْهَوَاجِرَ , وَأَيْنَ لَذَّةُ الْعَاصِي الْفَاجِرِ , رَحَلَتِ اللَّذَّةُ مِنَ الأَفْوَاهِ إِلَى الصَّحَائِفِ , وَذَهَبَ نَصَبُ الصَّالِحِينَ بِجَزَعِ الْخَائِفِ , فَكَأَنْ لَمْ يَتْعَبْ مِنْ صَابَرَ اللَّذَّاتِ وَكَأَنْ لَمْ يَلْتَذَّ مَنْ نَالَ الشَّهَوَاتِ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ عَلِيٍّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا يَزِيدُ , حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ , عَنْ ثَابِتٍ , عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يقال له: يا بن آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً ثم يقال له: يا بن آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. وَقِيلَ: حَبَسَ بَعْضُ السَّلاطِينَ رَجُلا زَمَانًا طَوِيلا ثُمَّ أخرجه قفال لَهُ: كَيْفَ وَجَدْتَ مَحْبِسُكَ؟ قَالَ: مَا مَضَى مِنْ نَعِيمِكَ يَوْمٌ إِلا وَمَضَى مِنْ بُؤْسِي يَوْمٌ , حَتَّى يَجْمَعَنَا يَوْمٌ. وَرُوِّينَا أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَأَى رَاهِبًا فِي قُلَّةِ جَبَلٍ فَصَاحَ بِهِ: يَا رَاهِبُ مَنْ أَنِيسُكَ. فَقَالَ: اصْعَدْ تَرَهْ. فَصَعِدَ دَاوُدُ فَإِذَا مَيِّتٌ مُسَجًّى قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: قِصَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ. فَدَنَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإِذَا عِنْدَ رَأْسِهِ لَوْحٌ عَلَيْهِ

مكتوب فقرأه فإذا فيه: أنا فلان ابن فُلانٍ مَلِكُ الأَمْلاكِ , عِشْتُ أَلْفَ عَامٍ , وَبَنَيْتُ أَلْفَ مَدِينَةٍ , وَهَزَمْتُ أَلْفَ عَسْكَرٍ , وَأَحْصَنْتُ أَلْفَ امْرَأَةٍ , وَافْتَضَضْتُ أَلْفَ عَذْرَاءَ , فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مُلْكِي أَتَانِي مَلَكُ الْمَوْتِ فَأَخْرَجَنِي , مِمَّا أَنَا فيه أنذا: التُّرَابُ فِرَاشِي وَالدُّودُ جِيرَانِي. قَالَ: فَخَرَّ دَاوُدُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. (حَصلُوا بِأَنْوَاعٍ مِنَ الأَحْدَاثِ ... مِنْ كُلِّ مَا عُمرُوا عَلَى الأَجْدَاثِ) (فَإِذَا الَّذِي جَمَعُوهُ طُولَ حَيَاتِهِمْ ... نَهْبُ الْعِدَى وَقَسِيمَةُ الْوُرَّاثِ) (حَالَتْ مَنَازِلُهُمْ عَلَى طُولِ الْمَدَى ... وَوُجُوهُهُمْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ ثَلاثِ) (يَا مَنْ يُسَرُّ بِبَيْتِهِ وَأَثَاثِهِ ... لَكَ فِي الثَّرَى بَيْتٌ بِغَيْرِ أَثَاثِ) أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَيَّاطُ , حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ بْنُ روسب , حَدَّثَنَا ابْنُ صَفْوَانَ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ جُمْهُورٍ , حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرِهِ , عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ , عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: افْتَتَحْنَا بِفَارِسَ مَدِينَةً فَدُلِلْنَا عَلَى مَغَارَةٍ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ فِيهَا أَمْوَالا. فَدَخَلْنَاهَا وَمَعَنَا مَنْ يَقْرَأُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَأَصَبْنَا فِي تِلْكَ الْمَغَارَةِ مِنَ السِّلاحِ وَالأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا , ثُمَّ صِرْنَا إِلَى بَيْتٍ يُشْبِهُ الأَزَجَ عَلَيْهِ صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ فَقَلَبْنَاهَا , وَإِذَا فِي الأَزَجِ سَرِيرٌ مِنْ ذَهَبٍ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ حُلَلٌ قَدْ تَمَزَّقَتْ وَعِنْدَ رَأْسِهِ لَوْحٌ فِيهِ مَكْتُوبٌ فَقُرِئَ لَنَا فَإِذَا [فِيهِ] : أَيُّهَا الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ لا تَتَجَبَّرْ عَلَى خَالِقِكَ , وَلا تَعْدُ قَدْرَكَ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكَ , وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَوْتَ غَايَتُكَ وَإِنْ طَالَ عُمْرُكَ وَأَنَّ الْحِسَابَ أَمَامَكَ , وَأَنَّكَ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ تُتْرَكُ ثُمَّ تُؤْخَذُ بَغْتَةً أَحَبَّ مَا كَانَتِ الدُّنْيَا إِلَيْكَ , فَقَدِّمْ لِنَفْسِكَ خَيْرًا تَجِدْهُ مُحْضَرًا , , وَتَزَوَّدْ لِنَفْسِكَ مِنْ مَتَاعِ الْغُرُورِ لِيَوْمِ فَاقَتِكَ. أَيُّهَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ اعْتَبِرْ بِي فَإِنَّ فِيَّ مُعْتَبَرًا , أَنَا بَهْرَامُ بْنُ بَهْرَامَ مَلِكُ فَارِسَ , كُنْتُ مِنْ أَعْلاهُمْ بَطْشًا وَأَقْسَاهُمْ قَلْبًا وَأَطْوَلَهُمْ أَمَلا , وَأَرْغَبَهُمْ فِي اللَّذَّةِ , وَأَحْرَصَهُمْ عَلَى جَمْعِ الدُّنْيَا , قَدْ جَبَيْتُ الْبِلادَ النَّائِيَةَ , وَقَتَلْتَ الْمُلُوكَ السَّاطِيَةَ , وَهَزَمْتُ الْجُيُوشَ الْعِظَامَ وَعِشْتُ خمسمائة عَامٍ , وَجَمَعْتُ مِنَ الدُّنْيَا مَا لَمْ يَجْمَعْهُ أَحَدٌ قَبْلِي , فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنَ الْمَوْتِ إِذْ نَزَلَ بِي.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: أَخَذَتْ مُعَاوِيَةُ قُرَّةٌ [أَيْ مِنَ الْبَرْدِ] فَاتَّخَذَ أَغْشِيَةً خِفَافًا فَكَانَتْ تُلْقَى عَلَيْهِ فَلا يَلْبَثُ أَنْ يُنَادِيَ: ادْفَعُوهَا. فَإِذَا أُخِذَتْ عَنْهُ سَأَلَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: قَبَّحَكِ اللَّهُ مِنْ دَارٍ! مَكَثْتُ فِيكِ عِشْرِينَ سَنَةً أَمِيرًا وَعِشْرِينَ سَنَةً خَلِيفَةً , ثُمَّ صِرْتُ إِلَى مَا أَرَى! وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَقُولُ عِنْدَ مَوْتِهِ: وَاللَّهِ وَدِدْتُ أَنِّي عَبْدٌ لِرَجُلٍ مِنْ تِهَامَةَ أَرْعَى غُنَيْمَاتٍ فِي جِبَالِهَا , وَلَمْ أَكُنْ أَلِي مِنْ هَذَا الأَمْرِ شَيْئًا. (كُلُّ حَيٍّ لاقَى الْحِمَامَ فَمُودِي ... مَا لِحَيٍّ مُؤَمِّلٍ مِنْ خُلُودِ) (لا تَهَابُ الْمَنُونُ شَيْئًا وَلا تُبْقِي عَلَى وَالِدٍ وَلا مَوْلُودِ ... ) (يَقْدَحُ الدَّهْرُ فِي شَمَارِيخِ رَضْوَى ... وَيَحُطُّ الصُّخُورَ مِنْ هَبُّودِ) (وَلَقَدْ تَتْرُكُ الْحَوَادِثُ وَالأَيَّامُ ... وَهْيًا فِي الصَّخْرَةِ الصَّيْخُودِ) (وَأَرَانَا كَالزَّرْعِ يَحْصِدُهُ الدَّهْرُ ... فَمِنْ بَيْنِ قَائِمٍ وَحَصِيدِ) (وَكَأَنَّا لِلْمَوْتِ رَكْبٌ مَخْبُونٌ ... سِرَاعًا لِمَنْهَلٍ مَوْرُودِ) (أَيُّهَا الْجَاهِلُ الَّذِي أَمِنَ الدَّهْرَ ... وَفِي الدَّهْرِ عَاقِرَاتُ الْخُدُودِ) (أَيْنَ عَادٌ وَتُبَّعٌ وَأَبُو سَاسَانَ ... كِسْرَى وَأَيْنَ صَحْبُ ثَمُودَ) (أَيْنَ رَبُّ الْحِصْنِ الْحَصِينِ بِسُورَاءَ ... بناه وشاده بالشيد) (شد أركانه وصاغ لَهُ الْعِقْيَانَ ... بَابًا وَحَفَّهُ بِالْجُنُودِ) (كَانَ يُجْبَى إِلَيْهِ مَا بَيْنَ صَنْعَاءٍ ... وَمِصْرَ إِلَى قُرَى بَيْرُودِ) (وَتَرَى حَوْلَهُ زَرَافَاتِ خَيْلٍ ... حَافِلاتٍ تَعْدُو بِمِثْلِ الأُسُودِ) (فَرَمَى شَخْصَهُ فَأَقْصَدَهُ الدَّهْرُ ... بِسَهْمٍ مِنَ الْمَنَايَا شَدِيدِ) (ثُمَّ لَمْ يُنْجِهِ مِنَ الْمَوْتِ حِصْنٌ ... دُونَهُ خَنْدَقٌ وَبَابُ حَدِيدِ) (وَمُلُوكٌ مِنْ قَبْلِهِ عَمَرُوا الدُّنْيَا أُعِينُوا بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ ... ) (بَيْنَمَا ذَاكَ مَرَّتِ الطَّيْرُ تَجْرِي ... لَهُمْ بِالنُّحُوسِ لا بِالسُّعُودِ) (وَصُرُوفُ الأَيَّامِ أَسْهَلْنَ بِالْحِينِ ... إِلَيْهِ من المحط الكؤود) (مَا وَقَاهُمْ مَا حَاوَلُوا لَوْعَةُ الدَّهْرِ ... وَمَا أَكَّدُوا مِنَ التَّأْكِيدِ) (وَكَذَاكَ الْعَصْرَانِ لا يُلْبِثَانِ الْمَرْءَ ... أَنْ يَأْتِيَاهُ بِالْمَوْعُودِ)

سجع على قوله تعالى

(وَبَعِيدٌ مَا لَيْسَ يَأْتِي وَمَا يُدْنِيهِ ... مِنْكَ الْعَصْرَانِ غَيْرُ بَعِيدِ) سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا فِي اللَّذَّاتِ يَتَقَلَّبُونَ , وَيَتَجَبَّرُونَ على الخلق ولا يغلبون , مزجت لهم كؤوس الْمَنَايَا فَبَاتُوا يَتَجَرَّعُونَ {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كانوا يمتعون} . مَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى الْحَرَامِ , وَأَكْثَرُوا مِنَ الزَّلَلِ وَالآثَامِ , وَكَمْ وُعِظُوا بِمَنْثُورٍ وَمَنْظُومٍ مِنَ الْكَلامِ , لَوْ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كانوا يمتعون} . حُمِلَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي كَفَنٍ , إِلَى بَيْتِ الْبِلَى وَالْعَفَنِ , وَمَا صَحِبَهُمْ غَيْرُهُ مِنَ الْوَطَنِ , مِنْ كُلِّ مَا كَانُوا يَجْمَعُونَ {مَا أَغْنَى عنهم ما كانوا يمتعون} . ضَمَّهُمْ وَاللَّهِ التُّرَابُ , وَسُدَّ عَلَيْهِمْ فِي ثَرَاهِمُ الْبَابُ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ , وَالأَحْبَابُ يَرْجِعُونَ {مَا أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} . أَيْنَ أَمْوَالُهُمْ وَالذَّخَائِرُ , أَيْنَ أَصْحَابُهُمْ وَالْعَشَائِرُ , دَارَتْ عَلَى الْقَوْمِ الدَّوَائِرُ , فَفِيمَ أَنْتُمْ تَطْمَعُونَ {مَا أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} . شُغِلُوا عَنِ الأَهْلِ وَالأَوْلادِ , وَافْتَقَرُوا إِلَى يَسِيرٍ مِنَ الزَّادِ , وَبَاتُوا مِنَ النَّدَمِ عَلَى أَخَسِّ مِهَادِ , وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ حَصَادِ مَا كَانُوا يَزْرَعُونَ {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} . أَيْنَ الْجُنُودُ وَالْخَدَمُ , أَيْنَ الْحِرَمُ وَالْحَرَمُ , أَيْنَ النعم والنعم , بعد ما كَانُوا يَرْبَعُونَ فِيمَا يَرْتَعُونَ {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ ما كانوا يمتعون} . لَوْ رَأَيْتَهُمْ فِي حُلَلِ النَّدَامَةِ , إِذَا بَرَزُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَعَلَيْهِمْ لِلْعِقَابِ عَلامَةٌ ,

يُسَاقُونَ بِالذُّلِّ لا بِالْكَرَامَةِ , إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَّعُونَ {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} . يَا مَعْشَرَ الْعَاصِينَ قَدْ بَقِيَ الْقَلِيلُ , وَالأَيَّامُ تُنَادِي: قَدْ دَنَا الرَّحِيلُ , وَقَدْ صَاحَ بِكُمْ إِلَى الْهُدَى الدَّلِيلُ إِنْ كُنْتُمْ تَسْمَعُونَ {مَا أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} .

المجلس الرابع والعشرون في قصة زكريا ويحيى عليهما السلام

المجلس الرابع والعشرون فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَظِيمًا عَلِيًّا , يَخْذِلُ عَدُوًّا وَيَنْصُرُ وَلِيًّا , أَنْشَأَ الآدَمِيُّ خَلْقًا سَوِيًّا , ثُمَّ قَسَمَهُمْ قِسْمَيْنِ رَشِيدًا وَغَوِيًّا , رَفَعَ السَّمَاءَ سَقْفًا مَبْنِيًّا , وَسَطَحَ الْمِهَادَ بِسَاطًا مَدْحِيًّا , وَرَزَقَ الخلائق بحرياً وبرياً , كم أجرى لعباده سرياً أَخْرَجَ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا , كَمْ أَعْطَى ضَعِيفًا مَا لَمْ يُعْطِ قَوِيًّا , فَبَلَغَهُ عَلَى الضَّعْفِ ضِعْفُ الْمُرَادِ وَوَهَبَ لَهُ عَلَى الْكِبَرِ الأَوْلادَ {كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا} . أَحْمَدُهُ إِذْ فَضَّلَ وَأَعْطَى شِبْعًا وَرِيًّا , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ أَفْضَلِ مَنِ امْتَطَى تبريا , وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ الَّذِي أَنْفَقَ وَما قَلَّلَ حَتَّى تَخَلَّلَ وَيَكْفِي زِيًّا , وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي كَانَ مُقَدَّمًا فِي الْجِدِّ جَرِيًّا , وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَفِيفًا حَيِيًّا , وَعَلَى عَلِيٍّ أَشْجَعِ مَنْ حَمَلَ خَطِّيًّا , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ المستسقى بشيبته , فانتقعت الأرض ريا. قال الله تعالى: {كهيعص} لِلْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِهَا قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي انْفَرَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , فَالْكَافُ مِنَ الْكَافِي , وَالْهَاءُ مِنَ الْهَادِي , وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيمٍ وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ وَالصَّادُ مِنْ صادق. قوله تعالى: {ذكر رحمة ربك} الْمَعْنَى: هَذَا الَّذِي نَتْلُو عَلَيْكَ ذِكْرُ

رحمة ربك {عبده زكريا} وفيه ثلاثة لُغَاتٍ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: هَذَا زَكَرِيَّا قَدْ جاء مقصوراً. وزكريا مَمْدُودًا. وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ زَكَرِيّ فَيَجُرُّونَهُ وَيُلْقُونَ الأَلِفَ. قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خفيا} وَالْمُرَادُ بِالنِّدَاءِ الدُّعَاءُ , وَإِنَّمَا أَخْفَاهُ لِئَلا يَقُولَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يَسْأَلُ الْوَلَدَ عَلَى الْكِبَرِ. {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مني} أَيْ ضَعَفَ , وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَظْمَ لأَنَّهُ الأَصْلُ فِي التَّرْكِيبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: شَكَا ذَهَابَ أضراسه. {واشتعل الرأس شيبا} أَيِ انْتَشَرَ الشَّيْبُ فِيهِ كَمَا يَنْتَشِرُ شُعَاعُ النار في الحطب. والمراد " بدعائك ": أي بدعائي إياك {رب شقيا} أَيْ لَمْ أَكُنْ أَتْعَبُ بِالدُّعَاءِ ثُمَّ أُخَيَّبُ , لأَنَّكَ قَدْ عَوَّدْتَنِي الإِجَابَةَ. {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} يَعْنِي الَّذِينَ يَلُونَهُ فِي النَّسَبِ , وَهُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَصَبَةُ , فَخَافَ أَنْ يَتَوَلَّوْا مَالَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى جِهَةِ الْمِيرَاثِ , وَأَحَبَّ أَنْ يَتَوَلاهُ وَلَدُهُ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي سُرَيْجٍ , عَنِ الْكِسَائِيِّ: " خَفَّتِ الْمَوَالِي " بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ عَلَى مَعْنَى: قَلَّتْ. فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ خَافَ عَلَى عِلْمِهِ وَنُبُوَّتِهِ أَلا يُوَرَّثَا فَيَمُوتُ العلم. قوله تعالى: {وكانت امرأتي عاقرا} وَالْعَاقِرُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الَّذِي لا يَأْتِيهِ الولد , وإنما قال عاقرا وَلَمْ يَقُلْ عَاقِرَةً لأَنَّ الأَصْلَ فِي هَذَا الْوَصْفِ لِلْمُؤَنَّثِ , وَالْمُذَكَّرُ كَالْمُسْتَعَارِ , فَأُجْرِيَ مَجْرَى طَالِقٍ وَحَائِضٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ سِنُّهُ يَوْمَئِذٍ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَامْرَأَتُهُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً. {فهب لي من لدنك} من عندك {وليا} أَيْ وَلَدًا صَالِحًا يَتَوَّلانِي. وَسَبَبُ سُؤَالِهِ: أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْفَاكِهَةَ تَأْتِي مَرْيَمَ لا فِي حِينِهَا طَمِعَ فِي الْوَلَدِ عَلَى الْكِبَرِ فَسَأَلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} المراد البنوة من الكل

{واجعله رب رضيا} أَيْ مَرْضِيًّا. فَصَرَفَ عَنْ مَفْعُولٍ إِلَى فَعِيلٍ كَمَا قَالُوا: مَقْتُولٌ وَقَتِيلٌ. {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نبشرك} أَيْ نُسِرُّكَ وَنُفَرِّحُكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُسَمَّ يَحْيَى قَبْلَهُ فَشَرُفَ بِأَنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَكِلْ تَسْمِيَتَهُ إِلَى أَبَوَيْهِ. {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عاقرا} وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَعْلَمَ أَيَأْتِيهِ الْوَلَدُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ أَمْ يُرَدُّ هُوَ وَزَوْجَتُهُ إِلَى حَالَةِ الشَّبَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عتيا} وهو نحول العظم ويبسه. {قال كذلك} أَيِ الأَمْرُ كَمَا قِيلَ لَكَ مِنْ هِبَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْكِبَرِ {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هين} أَيْ خَلْقُ يَحْيَى عَلَيَّ سَهْلٌ {وَقَدْ خَلَقْتُكَ} أَيْ أَوْجَدْتُكَ {مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} . {قال رب اجعل لي آية} أَيْ عَلامَةً عَلَى وُجُودِ الْحَمْلِ , وَأَرَادَ أَنْ يستعجل السرور ويبادر بالشكر. {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سويا} وَالْمَعْنَى تُمْنَعُ مِنَ الْكَلامِ وَأَنْتَ سَوِيٌّ سَلِيمٌ من غير خرس. {فخرج على قومه} وَهَذَا فِي صَبِيحَةِ اللَّيْلَةِ الَّتِي حَمَلَتْ فِيهَا امرأته {من المحراب} أي مصلاه {فأوحى إليهم} وَفِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: كَتَبَ إِلَيْهِمْ فِي كِتَابٍ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ وَيَدَيْهِ. قاله مجاهد: {أن سبحوا} أي صلوا. قوله تعالى: {يا يحيى} الْمَعْنَى: وَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَقُلْنَا لَهُ يَا يحيى {خذ الكتاب} وهو التوراة {بقوة} أَيْ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ فِي الْعَمَلِ بِمَا فِيهَا {وآتيناه الحكم} وهو الفهم {صبيا} وَفِي سِنِّهِ يَوْمَئِذٍ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: سَبْعُ سِنِينَ. رواه ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالثَّانِي: ثَلاثُ سِنِينَ قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ.

قوله تعالى: {وحنانا} أي آتيناه حنانا أي رحمة {من لدنا وزكاة} أي عملا صالحاً , {وكان تقيا} فلم يفعل ذنبا {وبرا بوالديه} أَيْ جَعَلْنَاهُ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَلامٌ عليه} أي سلامة لَهُ {يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حيا} قال سفيان ابن عُيَيْنَةَ: أَوْحَشُ مَا يَكُونُ ابْنُ آدَمَ فِي ثلاث مواطن: يوم يولد فَيَخْرُجُ إِلَى دَارِ هَمٍّ , وَلَيْلَةَ يَمُوتُ مَعَ الْمَوْتَى فَيُجَاوِرُ جِيرَانًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُمْ , وَيَوْمَ يُبْعَثُ فَيَشْهَدُ مَشْهَدًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ قَطُّ , فَسَلَّمَهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا. قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: لَمَّا حَمَلَتْ مَرْيَمُ اتَّهَمَتِ الْيَهُودُ زَكَرِيَّا وَقَالُوا هَذَا مِنْهُ. فَطَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى شَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ فَتَجَوَّفَتْ لَهُ فَدَخَلَ فِيهَا فَجَاءُوا يَطُوفُونَ بِالشَّجَرَةِ فَرَأَوْا هُدْبَةَ ثَوْبِهِ فقطعوا الشجرة حتى خلصوا إليه فقتلوه. ونبيء يَحْيَى وَهُوَ صَغِيرٌ فِي زَمَنِ أَبِيهِ , وَكَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ فَسَاحَ فِي الأَرْضِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَكَانَ طَعَامُهُ الْجَرَادَ وَقُلُوبَ الشَّجَرِ. أَخْبَرَنَا المُحَمَّدَانِ ابْنُ نَاصِرٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَاقِي , قَالا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ , أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الأَصْفَهَانِيُّ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , حَدَّثَنِي سَعِيدُ ابن شُرَحْبِيلَ , حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُطَارِدَ , عَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ , قَالَ: كَانَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا لَهُ خَطَّانِ فِي خَدَّيْهِ مِنَ الْبُكَاءِ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ زَكَرِيَّا: إِنِّي إِنَّمَا سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدًا تَقَرُّ بِهِ عَيْنِي , فَقَالَ: يَا أَبَتِ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَخْبَرَنِي أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَفَازَةً لا يَقْطَعُهَا إِلا كُلُّ بَكَّاءٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ قَتْلِ يَحْيَى. فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَعَثَ عِيسَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ , فَكَانَ فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ

الكلام على البسملة

نِكَاحُ ابْنَةِ الأَخِ , وَكَانَ لِمَلِكِهِمُ ابْنَةُ أَخٍ تُعْجِبُهُ , فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَكَانَ لَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ حَاجَةٌ مَقْضِيَّةٌ , فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا , فَقَالَتْ: إِذَا سَأَلَكِ الْمَلِكُ حَاجَتَكِ فَقُولِي: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ يَحْيَى. فَقَالَتْ لَهُ , فَقَالَ: سَلِي غَيْرَ هَذَا. قَالَتْ: مَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ. فَدَعَا يحيى فذبحه , فبدرت قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ عَلَى الأَرْضِ فَلَمْ تَزَلْ تغلي حتى بعث الله تعالى بخت نصر فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْهُمْ حَتَّى سَكَنَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَتْ لِلْمَلِكِ بِنْتٌ شَابَّةٌ وَكَانَتْ تَأْتِيهِ فَيَسْأَلُهَا حَاجَتَهَا فَيَقْضِيهَا لَهَا , وَإِنَّ أُمَّهَا رَأَتْ يَحْيَى وَكَانَ جَمِيلا فَأَرَادَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا فَأَبَى. فَقَالَتْ لابْنَتِهَا: إِذَا أَتَيْتِ أبَاكِ فَقُولِي لَهُ: حَاجَتِي رَأْسُ يَحْيَى. فَجَاءَتْ فَسَأَلَتْهُ ذَلِكَ فَرَدَهَا فَرَجَعَتْ فَقَالَ: سَلِي حَاجَتَكِ. فَقَالَتْ: رَأْسُ يَحْيَى. فَقَالَ: ذَلِكَ لَكِ. فَأَخْبَرَتْ أُمَّهَا فَبَعَثَتْ إِلَى يَحْيَى: إِنْ لَمْ تَأْتِ حَاجَتِي قَتَلْتُكَ. فَأَبَى فَذَبَحَتْهُ ثُمَّ نَدِمَتْ وَجَعَلَتْ تَقُولُ: وَيْلٌ لَهَا وَيْلٌ لَهَا. حَتَّى مَاتَتْ فَهِيَ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ جَهَنَّمَ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ [أَنَّ] اسْمَهَا ربه. وَقِيلَ: أزميلُ. وَقَدْ قَتَلَتْ قَبْلَهُ سَبْعِينَ نَبِيًّا , وَهِيَ مَكْتُوبَةٍ فِي التَّوْرَاةِ مُقَتِّلَةُ الأَنْبِيَاءِ , وَأَنَّهَا عَلَى مِنْبَرٍ مِنَ النَّارِ يَسْمَعُ صُرَاخَهَا أَقْصَى أَهْلِ النَّارِ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (أَيْنَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا أَيْنَ أَيْنَا ... مِنْ رِجَالٍ كَانُوا جَمَالا وَزَيْنَا) (إِنَّ دَهْرًا أَتَى عَلَيْهِمْ فَأَفْنَى ... عَدَدًا مِنْهُمْ سَيَأْتِي عَلَيْنَا) (خَدَعَتْنَا الآمَالُ حَتَّى جَمَعْنَا ... وَطَلَبْنَا لِغَيْرِنَا وَسَعَيْنَا) (وَابْتَنَيْنَا وَمَا نُفَكِّرُ فِي الدَّهْرِ ... وَفِي صَرْفِهِ غَدَاةَ ابْتَنَيْنَا) (وَابْتَغَيْنَا مِنَ الْمَعَاشِ فُضُولا ... لَوْ قَنَعْنَا بِدُونِهَا لاكْتَفَيْنَا) (وَلَعَمْرِي لَنَرْحَلَنَّ وَلا نَمْضِي ... بِشَيْءٍ مِنْهَا إِذَا مَا مَضَيْنَا) (اخْتَلَفْنَا فِي الْمَقْدِرَاتِ وَسَوَّى اللَّهُ ... بِالْمَوْتِ بَيْنَنَا فَاسْتَوَيْنَا) (كَمْ رَأَيْنَا مِنْ مَيِّتٍ كَانَ حَيًّا ... وَوَشِيكًا يُرَى بِنَا مَا رَأَيْنَا)

(ما لنا نأمن المنون كأنا ... لا نراهن يهتدين إلينا) (عجبا لامرىء تيقن أن الموت ... حق فقربا بِالْعَيْشِ عَيْنَا) إِخْوَانِي: مَا الدُّنْيَا لَوْلا الشَّقَاءُ الْمَكْتُوبُ , كُلَّ طُلابِهَا قَتَلَتْ فَبِئْسَ الْمَطْلُوبُ , إِلَى مَتَى مَعَ الدُّنْيَا , أَيْنَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا سِلَعَ الشَّكِّ بِسِلَعِ الْيَقِينِ , يَا مَسْتُورَ الْحَالِ غَدًا تَبِينُ , إِذَا حَشَرَجَتْ فِي الصَّدْرِ وَجَاءَ الأَنِينُ , وَبَرَزَتْ كَمَاةُ الْمَوْتِ مِنَ الْكَمِينِ , وَصِرْتَ بَعْدَ التَّجَبُّرِ أَذَلَّ مِسْكِينٍ , وَذُبِحْتَ وَشِيكًا بِغَيْرِ سِكِّينٍ , وَنُقِلْتَ إِلَى لَحْدٍ أَنْتَ فِيهِ رَهِينٌ , انْظُرْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْمُتَقاعِدُ , تَدَبَّرْ عَمَلَكَ قَبْلَ عَرْضِهِ عَلَى النَّاقِدِ , وَتَأَهَّبْ فَكَمْ بَيْنَ يَدَيْكَ شَدَائِدَ , لا لا يَنْفَعُكَ فِيهِ وَلَدٌ وَلا وَالِدٌ. (سَبِيلُ الْخَلْقِ كُلُّهُمُ الْفَنَاءُ ... فَمَا أَحَدٌ يَدُومُ لَهُ الْبَقَاءُ) (يُقَرِّبُنَا الصَّبَاحُ إِلَى الْمَنَايَا ... وَيُدْنِينَا إِلَيْهِنَّ الْمَسَاءُ) (فَلا تَرْكَبْ هَوَاكَ وَكُنْ مُعَدًّا ... فَلَيْسَ مقدرا لَكَ مَا تَشَاءُ) (أَتَأْمَلُ أَنْ تَعِيشَ وَأَيُّ غُصْنٍ ... عَلَى الأَيَّامِ طَالَ لَهُ النَّمَاءُ) (تَرَاهُ أَخْضَرَ الْعِيدَانِ غَضًّا ... فَيُصْبِحُ وَهُوَ مُسْوَدٌّ غُثَاءُ) (وَجَدْنَا هَذِهِ الدُّنْيَا غُرُورًا ... مَتَى مَا تُعْطِ يَرْتَجِعِ الْعَطَاءُ) (فَلا تَرْكَنْ إِلَيْهَا مُطْمَئِنًّا ... فَلَيْسَ بِدَائِمٍ مِنْهَا الصَّفَاءُ) عِبَادَ اللَّهِ: عَلَى نِيَّةِ النَّقْضِ وُضِعَ الْبُنْيَانِ , وَعَلَى شَرْطِ الرَّحِيلِ الأَرْوَاحُ فِي الأَبْدَانِ , وَإِنَّمَا الدُّنْيَا مَعْبَرٌ إِلَى دَارِ الْحَيَوَانِ , وَلَيْسَ لِلإِقَامَةِ فَالْعَجَبُ لاغْتِرَارِ الإِنْسَانِ , أَيْنَ الْعَقْلُ وَالنَّظَرُ , إِلامَ الْجَهْلُ وَالْبَطَرُ , كَمْ مِنْ مَنْزِلٍ دَثَرَ , كَمْ سَاعٍ عَثَرَ وَأَنْتَ فِي الأَثَرِ , إِلامَ هَذَا الأَشَرُ وَقَدْ عَلِمْتَ مَآلَ الْبَشَرِ , أَيْنَ الْعُقُولُ وَالْفِكْرُ , كَمْ وَارِدٍ مَا صَدَرَ , الْبَلايَا مِثْلُ الْمَطَرِ , وَإِنَّكَ لَعَلَى خَطَرٍ , كَمْ حَضَرْتَ لَدَى مُحْتَضَرٍ , وَدَمْعُ الْمَآقِي قَدِ انْهَمَرَ لِقِلَّةِ الزَّادِ وَطُولِ السَّفَرِ , وَيْحَكَ إِلَى مَتَى تَخْتَارُ الضَّرَرَ , لَقَدْ بِعْتَ الدُّرَّ بِالْبَعَرِ , إِنَّ الْعَاقِلَ لَيَخْتَارُ الأَجْوَدَ , وَإِنَّ الْحَازِمَ لا يَرْضَى أَنْ يُسْتَعْبَدَ , يَا مَنْ كُلَّمَا جَمَعْنَاهُ تَبَدَّدَ , يَا مَنْ كُلَّمَا زَجَرْنَاهُ مَدَّ

الْيَدَ , يَا مَنْ إِذَا دَعَوْنَاهُ لَمْ يُسَدَّدْ , كَيْفَ يَخْتَارُ الضَّلالَ مَنْ يَعْرِفُ الطَّرِيقَ الأَرْشَدَ , كَيْفَ يُؤْثِرُ النُّزُولَ مَنْ يُقَالُ لَهُ اصْعَدْ , إِنَّ اللَّبِيبَ لَيَرَى بِعَيْنِ الْفِكْرِ مَا فِي غَدٍ , لَوْ سَمِعَتِ الْحِجَارَةُ وَعْظَنَا لانْفَطَرَ الْجَلْمَدُ , كَمْ نَصَبْنَا لَكَ شَرَكًا وَإِلَى الآنَ لَمْ نَصْطَدْ. (حَتَّى مَتَى لا تَزَالُ مُعْتَذِرًا ... مِنْ زلة منك لا تَزَالُ رَاكِبَهَا) (تُعْقِبُهَا مِثْلَهَا وَتُعْقِبُكَ الْحَسْرَةَ ... مِنْ مِثْلِهَا عَوَاقِبَهَا) (لَتَرْكُكَ الذَّنْبِ لا تُقَارِبُهُ ... أَيْسَرُ مِنْ تَوْبَةٍ تُطَالِبُهَا) أَيُّهَا الْمُعْرِضُ عَنْ شُكْرِ الإِفْضَالِ وَالنِّعَمِ , زَاحَمْتَ عَلَى حَوْضِ الْغَفْلَةِ النَّعَمَ , تَمُدُّ يَدَ الْجَهْلِ بِالإِنْعَامِ إِلَى أَخْذِهِ وَاقْتِبَاسِهِ , وَتَنْسَى عُقُوبَةَ مَا قَدْ جَنَيْتَهُ فِي وَقْتِ بَاسِهِ , أَيْنَ الْهَرَبُ بِخُطَاكَ , عَجَبًا مِنْكَ وَعَيْنِي تَرَاكَ , تُرَاكَ تَسْتَحِي مِنْ غَيْرِي وَمِنِّي لا تُرَاكَ , مَنِ الَّذِي سَتَرَ عَلَى الْقَبِيحِ فِيمَا مَضَى , مَنِ الَّذِي لَطَفَ بِكَ فِي دَيْنِ دِينِهِ إِذَا اقْتَضَى , يَا هَذَا إِنْ وَجَدْتَ مَنْ يَصْلُحُ لَكَ غَيْرَنَا فَاذْهَبْ , وَإِنْ رَأَيْتَ مَشْرَبًا يَلَذُّ غَيْرَ حِلْمِنَا فَاشْرَبْ , لَوْ أعلمت أباك ما نعلم منك أباك , ولو أريت أَخَاكَ مَا أَرَيْتَنَا جَفَاكَ , نِعَمُنَا عَلَيْكَ قَدِيمَةٌ كَمْ نَبْعَثُ لَكَ دِيمَةَ لُطْفٍ بَعْدَ دِيمَةٍ , أَتُرَاكُ تَحِنُّ إِلَى وُدِّنَا , أَوْ تُرَاعِي عَهْدَ عَهْدِنَا. يَا هَذَا: جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا , فَوَاعَجَبًا مِمَّنْ لَمْ يَرَ مُحْسِنًا سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَيْفَ لا يَمِيلُ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَيْهِ , يَا مُنْعَمًا عَلَيْهِ بِالْعَافِيَةِ بِئْسَ مَا أَنْفَقْتَ فِيهِ رَأْسَ الْمَالِ , كَمْ ذَنْبٍ لَكَ فَعَلَهُ غَيْرُكَ فَهَتَكَ ذَاكَ وَسُتِرْتَ. وَيْحَكَ! احْذَرْ نِفَارَ النِّعَمِ فَمَا كُلُّ شَارِدٍ بِمَرْدُودٍ! إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْكَ أَطْرَافُهَا فَلا تُنَفِّرْ أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ! (لَكَ نَفْسٌ يَسُرُّهَا ... كُلُّ شَيْءٍ يَضُرُّهَا) (هِيَ تَفْنَى عَلَى الزَّمَانِ ... وَيَزْدَادُ شرها)

قوله تعالى {يوم يبعثهم الله جميعا} الْبَعْثُ: إِخْرَاجُ أَهْلِ الْقُبُورِ أَحْيَاءً عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ فِي الصُّورِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ينزل من السماء ماء فتنبت الأجساد فِي الْقُبُورِ , فَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ , ثُمَّ يَنْفُخُ إِسْرَافِيلُ فِي الصُّورِ فَتَنْشَقُّ الْقُبُورُ , فَيَقُومُونَ جَمِيعًا إلى العرض والحساب {فينبئهم بما عملوا} من المعاصي وتضييع الفرائض {أحصاه الله} أي حفظه {ونسوه} . أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا عَفَّانُ , حَدَّثَنَا هَمَّامٌ , حَدَّثَنَا قَتَادَةُ , عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ وَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذنب كذا أتعر ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ: فَإِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَبِالإِسْنَادِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ , قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ , قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ , عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ , عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيقال: اعرضوا عليه صِغَارَ ذُنُوبِهِ فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ وَيُخَبَّأُ عَنْهُ كِبَارُهَا. فَيُقَالُ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا وَهُو مُقِرٌّ. لا ينكر ولا مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِهَا فَيُقَالُ أَعْطُوهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلَهَا حَسَنَةً. قَالَ: فَيَقُولُ إِنَّ لِي ذُنُوبًا مَا أَرَاهَا. قَالَ أَبُو ذَرٍّ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ.

وَفِي إِفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ , عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ وَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ قَالَ: فَقُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى. قَالَ: فَيَقُولُ: إِنِّي لا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلا شَاهِدًا مِنِّي فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا. قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي. قَالَ فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ. ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلامِ فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ. إِخْوَانِي: مَا مِنَ الْمَوْتِ بُدٌّ , بَابُ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا قَدْ سُدَّ , كَمْ قُدَّ فِي الْقَبْرِ قَدٌّ قُدَّ كَمْ خُدَّ فِي الأخد ود قَدٌّ خُدَّ , يَا مَنْ ذُنُوبُهُ لا تُحْصَى إِنْ شَكَكْتَ عُدَّ , يَا مَنْ أَتَى بَابَ الإِنَابَةِ كَاذِبًا فَرُدَّ , يَا شِدَّةَ الْوَجَلِ عِنْدَ حُضُورِ الأَجَلِ , يَا قِلَّةَ الْحِيَلِ إِذَا حَلَّ الْمَوْتُ وَنَزَلَ , يَا قُوَّةَ الأَسَى إِذَا نُوقِشَ مَنْ أَسَا , يَا خَجَلَ الْعَاصِينَ , يَا حَسْرَةَ الْمُفَرِّطِينَ , يَا أَسَفَ الْمُقَصِّرِينَ , يَا سُوءَ مَصِيرِ الظَّالِمِينَ , كَيْفَ يَصْنَعُ مَنْ بَضَائِعُهُ الْقَبَائِحُ , كَيْفَ يَفْعَلُ مَنْ شُهُودُهُ الْجَوَارِحُ , عَدِمُوا وَاللَّهِ الْوَسِيلَةَ , وَأَظْلَمَتْ فِي وُجُوهِهِمْ وُجُوهُ الْحِيلَةِ , أَصْبَحُوا جِثِيًّا عَلَى رُكَبِهِمْ , مَأْسُورِينَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ , لا يَدْرُونَ مَا يُرَادُ بِهِمْ , قَدْ جُمِعُوا فِي صعيد ينتظرون حلول الْوَعِيدِ , وَالأَرْضُ بِالْخَلْقِ كُلُّهُمْ تَمِيدُ , وَالْعَبَرَاتُ عَلَى العثرات تزيد , إن بطش ربك لشديد. زَفَرَتْ وَاللَّهِ الْحُطَمَةَ فِي وُجُوهِ الظَّلَمَةِ فَذُلُّوا بَعْدَ الْعَظَمَةِ , وَخَرَسُوا عَنْ كَلِمَةٍ. إِخْوَانِي: أَيَّامُ أَعْمَارِكُمْ قَصِيرَةٌ , وَقَدْ ضَاعَتْ عَلَى بَصِيرَةٍ , وَآخِرُ الأَمْرِ حَفِيرَةٌ فِيهَا أَهْوَالٌ كَثِيرَةٌ , يَا مُشَاهِدًا حَالَهُ بِحَالِ الْحِيرَةِ , أَلَكَ عُدَّةٌ أَمْ لَكَ ذَخِيرَةٌ , هَذَا الْمَلِكُ يُحْصِي عَمَلَكَ حَرْفًا حَرْفًا , ويملي فيملأ بالخطايا صحفا، ً يَا مَنْ جَمَرَاتُ حِرْصِهِ عَلَى الْهَوَى مَا تُطْفَى , وَقَدْ أَشْفَى بِهِ مَرَضٌ مَا أَرَاهُ يَشْفَى , إِلامَ هَذَا التَّعْلِيلُ , كَمْ نُقَوِّمُكَ وَتَمِيلُ , مَتَى يَبْرَأُ هَذَا الْعَلِيلُ , يَا مُقَابِلا

جَمِيلَنَا بِغَيْرِ الْجَمِيلِ , آنَ رَحِيلا فَأَعِدَّ الزَّادَ , آنَ مَعَادًا فَاذْكُرِ الْمَعَادَ , أَلا يَهْلِكُ الْعُمْرُ وَإِنْ تَمَادَى. أَيُّهَا الْمُعْرِضُ عَنَّا تَذَكَّرْ عَرْضَكَ , أَيُّهَا الرَّاقِدُ فِي غَفْلَتِهِ اذْكُرْ غَمْضَكَ , أَيُّهَا الذَّلِيلَ بِالْمَعَاصِي اذْكُرْ عَرْضَكَ , كَمْ عِتَابٍ مَا أَمْرَضَكَ وَلا أَمَضَّكَ. وَيْحَكَ! اسْتَصْغِرْ أَمَلا يَمْنَعُهُ الْفَوْتُ , اسْتَقْصِرْ أَجَلا يَقْطَعُهُ الْمَوْتُ. أَقْبِلْ عَلَى الْعَقْلِ مُسْتَشِيرًا فَكَفَى بِهِ نَصِيحًا وَنَذِيرًا , إِنَّهُ لَيَحُلُّ نِقَابَ الشَّبَهِ بِأَنَامِلِ الْبَيَانِ. أَوَلا يَعْلَمُ الْعَاصِي أَنَّهُ قَدْ غَرَسَ لِنَفْسِهِ شَجَرَةً يَتَسَاقَطُ عَلَيْهِ كُلَّ حِينٍ مِنْهَا ثَمَرَةُ نَدَمٍ مِنْ غير هز , فإذ اقام فِي الْقِيَامَةِ شَاهَدَ أَغْصَانَ مَا غَرَسَ قَدْ تَعَاظَمَتْ حَتَّى أَخَذَتْ برَّ الْبرِّ , فَإِنْ غُفِرَ له لم يذل حبيباً مِمَّا جَنَى , وَإِنْ عُوقِبَ ذَاقَ مُرَّ الْجَنَى , وهذا الأسى الطويل إنما جره جر جرة الهوى , ولو قنع بالطاق التي تسمع بِهَا عَيْنُ الْمُبَاحِ لارْتَوَى , مِنْ غَيْرِ أَذًى. (الْمَرْءُ فِي تَأْخِيرِ مُدَّتِهِ ... كَالثَّوْبِ يَخْلَقُ بَعْدَ جِدَّتِهِ) (وَمَصِيرُهُ مِنْ بَعْدِ مَعْرِفَةٍ ... لِلنَّاسِ ظُلْمَةُ بَيْتِ وَحْدَتِهِ) (مَنْ مَاتَ مَالَ ذَوُو مَوَدَّتِهِ ... عَنْهُ وَحَالُوا عَنْ مَوَدَّتِهِ) (عَجَبًا لِمُنْتَبِهٍ يَضِيعُ مَا ... يَحْتَاجُ فِيهِ لِيَوْمِ رَقْدَتِهِ) (أَزِفَ الرَّحِيلُ وَنَحْنُ فِي لَعِبٍ ... مَا نَسْتَعِدُّ لَهُ بِعُدَّتِهِ) قَالَ عُتْبَةُ الْغُلامُ: رَأَيْتُ الْحَسَنَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ قَهْقَهَ , وَمَا رَأَيْتُهُ قَطُّ تَبَسَّمَ , فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَضْحَكُ؟ فَمَا كَلَّمَنِي لِثِقَلِ حَالِهِ , فَلَمَّا مَاتَ رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ مِنْ أي شيء ضحكت؟ قال: مِنْ أَمْرِ مَلَكِ الْمَوْتِ , إِنَّهُ نُودِيَ وَأَنَا أَسْمَعُ: شَدِّدْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ , فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ. فَقُلْتُ: مَا كَانَتْ؟ فَلَمْ يُجِبْنِي. واأسفا: هَذَا حَالُ الْحَسَنِ وَمَا عُرِفَ مِنْهُ إِلا الْحَسَنُ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُنَا إِذَنْ مَعَ مَا لَنَا مِنْ مِحَنٍ. يَا مَنْ قَدْ لَعِبَ الْهَوَى بِفَهْمِهِ , وَسَوَّدَتْ شَهَوَاتُهُ وَجْهَ عَزْمِهِ , يَا مَبْنِيًّا عَنْ عَزْمِ

الْبَانِي عَلَى هَدْمِهِ , يَا مَحْمُولا إِلَى الْبِلَى لِتَمْزِيقِ لَحْمِهِ , أَمَا يَكْفِيهِ مُنْذِرًا وَهْنُ عَظْمِهِ , كَمْ نُقَرِّبُكَ وَأَنْتَ مُتَبَاعِدٌ , كَمْ نُنْهِضُكَ إِلَى الْعُلا يَا قَاعِدُ , كَمْ نُحَرِّضُكَ وَمَا تُسَاعِدُ سَاعِدٌ , كَمْ نُوقِظُكَ وَأَنْتَ فِي اللَّهْوِ رَاقِدٌ , يَا أَعْمَى الْبَصِيرَةِ وَمَا لَهُ قَائِدٌ , يَا قَتِيلَ الأَمَلِ لَسْتَ بِخَالِدٍ , يَا مُفَرِّقَ الْهُمُومِ وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ , إِنْ لاحَتِ الدُّنْيَا فَشَيْطَانٌ مَارِدٌ , تُقَاتِلُ عَلَيْهَا فَتَكِرُّ وَتُطَارِدُ , فَإِذَا جَاءَتِ الصَّلاةُ فَقَلْبٌ غَائِبٌ وَجِسْمٌ شَاهِدٌ , وَتَقُولُ قَدْ صَلَّيْتُ أَتُبَهْرِجُ عَلَى النَّاقِدِ , مَا تَعْرِفُنَا إِلا فِي أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ , أَمَّا ذُنُوبُكَ كَثِيرَةٌ فَمَا لِلطَّرْفِ جَامِدٌ , مَلَكَكَ الْهَوَى وَنَحْنُ نَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدٍ. (وَرُبَّمَا غُوفِصَ ذُو غَفْلَةٍ ... أَصَحَّ مَا كَانَ وَلَمْ يَسْتَقِمِ) (يَا وَاضِعَ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ ... خَاطَبَكَ الْقَبْرُ فَلَمْ تَفْهَمِ) كَمْ لَيْلَةٍ سَهِرْتَهَا فِي الذُّنُوبِ , كَمْ خَطِيئَةٍ أَمْلَيْتَهَا فِي الْمَكْتُوبِ , كَمْ صَلاةٍ تَرَكْتَهَا مُهْمِلا لِلْوُجُوبِ , كَمْ أَسْبَلْتَ سِتْرًا عَلَى عَتَبَةِ عُيُوبٍ , يَا أَعْمَى القلب بين القلوب , ستدري دمع من يَجْرِي وَيَذُوبُ، سَتَعْرِفُ خَبَرَكَ عِنْدَ الْحِسَابِ وَالْمَحْسُوبِ , أَيْنَ الْفِرَارُ وَفِي كَفِّ الطَّالِبِ الْمَطْلُوبِ , تَنَبَّهْ لِلْخَلاصِ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ , أَعْتِقْ نَفْسَكَ مِنَ الرِّقِّ يَا رَهِينُ , اقْلَعْ أَصْلَ الْهَوَى فَعَرَقُ الْهَوَى مَكِينٌ , احْذَرْ غُرُورَ الدُّنْيَا فَمَا لِلدُّنْيَا يَمِينٌ , يَا دَائِمَ الْمَعَاصِي سِجْنُ الْغَفْلَةِ سِجِّينٌ , تَثِبُ عَلَى الْخَطَايَا وَلا وَثْبَةَ تِنِّينٍ , كَأَنَّكَ بِالْمَوْتِ قَدْ بَرَزَ مِنْ كَمِينٍ , وَآنَ الأَمْرُ فَوَقَعْتَ فِي الأَنِينِ , وَاسْتَبَنْتَ أَنَّكَ فِي أَحْوَالِ عِنِّينٍ , كَيْفَ تَرَى حَالَكَ إِذَا عَبِثَتِ الشِّمَالُ بِالْيَمِينِ , ثُمَّ نُقِلْتَ وَلُقِّبْتَ بِالْمَيِّتِ الدَّفِينِ , وَا أَسَفَا لِعِظَمِ حِيرَتِكَ سَاعَةَ التَّلْقِينِ , يَا مَسْتُورًا عَلَى الذنوب غداً تنجلى وتبين , متى هَذَا الْقَلْبُ الْقَاسِي يَرْعَوِي وَيَلِينُ , عَجَبًا لِقَسْوَتِهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ طِينٍ. (وَقَبْلَ شُخُوصِ الْمَرْءِ يَجْمَعُ زَادَهُ ... وَتَمْلأُ مِنْ قِبْلِ الرِّمَاءِ الْكَنَائِنُ) (حَصَادُكَ يَوْمًا مَا زَرَعْتَ وَإِنَّمَا ... يُدَانُ الْمَرْءُ يَوْمًا بِمَا هُوَ دَائِنُ) سَاعَاتُ السَّلامَةِ بَيْنَ يَدَيْكَ مَبْذُولَةٌ , سَابِقْ سُيُوفَ الآفَاتِ فَإِنَّهَا مَسْلُولَةٌ ,

سجع

وَبَادِرْ مَا دَامَتِ الْمَعَاذِيرُ مَقْبُولَةً , وَاقْرَأْ عُلُومَ النَّجَاةِ فَهِيَ مَنْقُوطَةٌ مَشْكُولَةٌ , وَافْتَحْ عَيْنَيْكَ فَإِلَى كَمْ بِالنَّوْمِ مَكْحُولَةٍ , وَغَيِّرْ قَبَائِحَكَ الْقِبَاحَ الْمَرْذُولَةَ , يا لها نَصِيحَةً غَيْرَ أَنَّ النَّفْسَ عَلَى الْخَلائِقِ مَجْبُولَةٌ. سَجْعٌ وَيْحَ الْعُصَاةِ لَقَدْ عَجِلُوا , لَوْ تَأَمَّلُوا الْعَوَاقِبَ مَا فَعَلُوا , أَيْنَ مَا شَرِبُوا أَيْنَ مَا أَكَلُوا , بِمَاذَا يُجِيبُونَ إِذَا أُحْضِرُوا وَسُئِلُوا {فينبئهم بما عملوا} . آهٍ لَهُمْ فِي أَيِّ حَزْنٍ مِنَ الْحُزْنِ نَزَلُوا , لَقَدْ جَدَّ بِهِمُ الْوَعْظُ غَيْرَ أَنَّهُمْ هَزَلُوا , مَا نَفَعَهُمْ مَا اقْتَنَوْا مِنَ الدُّنْيَا وَعَزَلُوا , إِنَّمَا كَانَتْ وِلايَةُ الْحَيَاةِ يَسِيرًا ثُمَّ عُزِلُوا , وَانْفَرَدُوا فِي زَاوِيَةَ الأَسَى وَاعْتَزَلُوا , فَإِذَا شَاهَدُوا ذُنُوبَهُمْ مَكْتُوبَةً ذَهَلُوا {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} . مَا نَفَعَتْهُمْ لَذَّاتُهُمْ إِذْ خَرَجَتْ ذَوَاتُهُمْ , لَقَدْ جُمِعَتْ زَلاتُهُمْ فَحَوَتْهَا مَكْتُوبَاتُهُمْ , فَلَمَّا عَايَنُوا أَفْعَالَهُمْ خجلوا {فينبئهم بما عملوا} . ذَهَبَتْ مِنْ أَفْوَاهِهِمُ الْحَلاوَةُ , وَبَقِيَتْ آثَارُ الشَّقَاوَةِ , وَحُطُّوا إِلَى الْحَضِيضِ مِنْ أَعْلَى رَبَاوَةٍ , وَحَمَلُوا عَدْلَيِ الْمَوْتِ وَالْفَوْتِ وَالْحَسْرَةَ عِلاوَةً , فَأَعْجَزَهُمْ وَاللَّهِ ما حملوا {فينبئهم بما عملوا} . سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} اجْتَمَعَتْ كَلِمَةٌ إِلَى نَظْرَةٍ , إِلَى خَاطِرٍ قَبِيحٍ وَفِكْرَةٍ , فِي كِتَابٍ يُحْصِي حَتَّى الذَّرَّةَ , وَالْعُصَاةُ عَنِ الْمَعَاصِي فِي سَكْرَةٍ , فَجَنَوْا مِنْ جَنَى مَا جَنَوْا ثِمَارَ مَا غَرَسُوهُ {أَحْصَاهُ اللَّهُ ونسوه} . كَمْ تَنَعَّمَ بِمَالِ الْمَظْلُومِ الظَّالِمُ , وَبَاتَ لا يُبَالِي بِالْمَظَالِمِ , وَالْمَسْلُوبُ يَبْكِي وَيُبْكِي

الْحَمَائِمَ , وَمَا كَفَاهُمْ أَخْذُ مَالِهِ حَتَّى حَبَسُوهُ {أحصاه الله ونسوه} . أَيْنَ مَا كَانُوا جَمَعُوهُ , كَمْ لِيمُوا وَمَا سَمِعُوهُ , كَمْ قِيلَ لَهُمْ لَوْ قَبِلُوهُ , ذَهَبَ الْعَرَضُ غَيْرَ أَنَّ الْعِرْضَ دَنَّسُوهُ {أَحْصَاهُ اللَّهُ ونسوه} . كَمْ كَاسِبٍ لِلْمَالِ مِنْ حَرَامِهِ وَحَلالِهِ , كَانَ يُحَاسِبُ شَرِيكَهُ عَلَى عُودِ خِلالِهِ , وَلا يُنْفِقُ مِنْهُ شَيْئًا فِي تَقْوِيمِ خِلالِهِ , فَلَمَّا وَقَعَ صَرِيعًا بَيْنَ أَشْبَالِهِ اشْتَغَلُوا عَنْهُ بِانْتِهَابِ مَالِهِ , ثُمَّ فِي اللَّحْدِ نَكَسُوهُ {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} . جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ فاتبعوه , وزجروا الهوى عنهم وردعوه , إنه قريب مجيب.

المجلس الخامس والعشرون في قصة مريم وعيسى عليها السلام

المجلس الخامس والعشرون في قصة مريم وعيسى عليها السَّلامُ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لا شَأْنٌ يَشْغَلُهُ , وَلا نِسْيَانٌ يُذْهِلُهُ , وَلا قَاطِعٌ لِمَنْ يَصِلُهُ , ولا ناضر لِمَنْ يَخْذُلُهُ , جَلَّ عَنْ مَثَلٍ يُطَاوِلُهُ , أَوْ يشاكله , أو ند نَظِيرٍ يُقَابِلُهُ , أَوْ مُنَاظِرٍ يُقَاوِلُهُ , يُثِيبُ بِالْعَمَلِ القليل ويقبله , ويحلم عن المعاصي فَلا يُعَاجِلُهُ , وَيَدَّعِي الْكَافِرُ شَرِيكًا وَيُمْهِلُهُ , ثُمَّ إِذَا بَطَشَ هَلَكَ كِسْرَى وَصَوَاهِلُهُ , وَذَهَبَ قَيْصَرُ وَمَعَاقِلُهُ , اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَمَا الْعَرْشُ يَحْمِلُهُ , وينزل لا كالمتنقل تَخْلُو مَنَازِلُهُ , هَذِهِ جُمْلَةُ اعْتِقَادِنَا وَهَذَا حَاصِلُهُ , مَنِ ادَّعَى عَلَيْنَا التَّشْبِيهَ فَاللَّهُ يُقَابِلُهُ , مَذْهَبُنَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمَنْ كَانَ يُطَاوِلُهُ , وَطَرِيقُنَا طَرِيقُ الشافعي وقد علمت فضائله , وترفض قَوْلَ جَهْمٍ وَقَدْ عُرِفَ بَاطِلُهُ , وَنُؤَمِّلُ رُؤْيَةَ الْحَقِّ وَمَتَى خَابَ آمِلُهُ , لَقَدْ حَنَّتْ حَنَّةً إِلَى وَلَدٍ فَسَأَلَتْ مَنْ لا يُرَدُّ سَائِلُهُ , فَيَا لَهَا مِنْ مَكْفُولٍ مَا تعني كافله , فَلَمَّا بَلَغَتْ حَمَلَتْ بِمَنْ شَرُفَ حَامِلُهُ , فَعَجِبَتْ مِنْ وَلَدٍ لا مِنْ وَالِدٍ يُشَاكِلُهُ , فَقِيلَ هُزِّي إِلَيْكِ فَهَزَّتْ جِذْعًا يَابِسًا تُزَاوِلُهُ , فَأَخْرَجَ في الحال رطبا رطبا يَلْتَذُّ آكِلُهُ , فَاسْتَدَلَّتْ عَلَى تَكْوِينِ وَلَدٍ تُحْمَدُ شَمَائِلُهُ , فَالنَّصَارَى غَلَتْ وَالْيَهُودُ عَتَتْ {فَأَتَتْ بِهِ قومها تحمله} . أَحْمَدُهُ حَمْدًا أُدِيمُهُ وَأُوصِلُهُ , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي ارْتَجَّتْ لَيْلَةَ وِلادَتِهِ أَعَالِي الإِيوَانِ وَأَسَافِلُهُ , وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ ثَانِيَ اثْنَيْنِ فَاعْرِفُوا مَنْ قَائِلُهُ , وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي صَفَا الإِسْلامُ بِجِدِّهِ وَعَذُبَتْ مَنَاهِلُهُ , وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي زَارَتْهُ الشَّهَادَةُ وَمَا تَعِبَتْ رَوَاحِلُهُ , وَعَلَى عَلِيٍّ بَحْرِ الْعُلُومِ فَمَا يُدْرَكُ سَاحِلُهُ , وَعَلَى الْعَبَّاسِ أَقْرَبِ الْخَلْقِ نَسَبًا فَمَنْ يُسَاجِلُهُ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} . الْكِتَابُ: القُرْآنُ وَمَرْيَمُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ , وَكَانَ اسْمُ أُمِّهَا حَنَّةَ , فَتَمَنَّتْ وَلَدًا فَلَمَّا حَمَلَتْ جَعَلَتْ حَمْلَهَا مُحَرَّرًا خَادِمًا لِلْكَنِيسَةِ , فَلَمَّا وَضَعَتْهَا أُنْثَى حَمَلَتْهَا إِلَيْهِمْ فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا. فَلَمَّا بَلَغَتْ خَمْسَ عشرة سنة {انتبذت} أي تنحت عن أهلها {مكانا شرقيا} مما يلي الشرق {فاتخذت من دونهم حجابا} أَيْ حَاجِزًا يَمْنَعُ مِنَ النَّظَرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَرَبَتْ سِتْرًا لِتَطَهَّرَ مِنَ الْحَيْضِ وَتَمْتَشِطَ. وقال السدى: احتجبت بالجدار. {فأرسلنا إليها روحنا} وهو جبريل {فتمثل لها} أَيْ تُصُوِّرَ فِي صُورَةِ الْبَشَرِ التَّامِّ الْخِلْقَةُ , قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَهَا فِي صُورَةِ شَابٍّ جَعْدٍ قَطَطٍ حِينَ اخْضَرَّ شَارِبُهُ. {قَالَتْ إِنِّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} الْمَعْنَى: إِنْ كُنْتَ تَتَّقِي اللَّهَ فَسَتَنْتَهِي بِتَعْوِيذِي. {قال إنما أنا رسول ربك} أي فلا تخافي {لأهب} لك أي أرسلني ليهب {لك غلاما زكيا} أَيْ طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لي غلام} أي كيف يكون {ولم يمسسني بشر} تعني الزوج {ولم أك بغيا} وَالْبَغِيُّ الْفَاجِرَةُ. {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ علي هين} أَيْ يَسِيرٌ أَنْ أَهَبَ لَكِ غُلامًا مِنْ غير أب {ولنجعله آية للناس} أي دلالة على قدرتنا {ورحمة منا} أَيْ لِمَنِ اتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِهِ {وَكَانَ أَمْرًا مقضيا} أَيْ مَحْكُومًا بِهِ مَفْرُوغًا مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَفَخَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي جَيْبِ درعها فاستمر بِهَا حَمْلُهَا. وَفِي مِقْدَارِ حَمْلِهَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا حِينَ حَمَلَتْ وَضَعَتْ. قَالَهُ ابْنُ عباس.

وَالثَّانِي: حَمَلَتْهُ تِسْعَ سَاعَاتٍ. قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالثَّالِثُ: تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَالرَّابِعُ: ثَلاثَ سَاعَاتٍ , حَمَلَتْهُ فِي سَاعَةٍ , وَصُوِّرَ فِي سَاعَةٍ وَوَضَعَتْهُ فِي سَاعَةٍ. قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَالْخَامِسُ: ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ فَعَاشَ. وَلَمْ يَعِشْ مَوْلُودٌ قَطُّ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ. فَكَانَ هَذَا آيَةً. حَكَاهُ الزَّجَّاجُ. والسادس: ستة. حكاه الماوردي. والسابع: ساعة واحدة. حكاه الثعلبي. قال وَهْبٌ: أَصْبَحَتِ الأَصْنَامُ لَيْلَةَ وِلادَةِ عِيسَى مُنَكَّسَةً عَلَى رُءُوسِهَا كُلَّمَا رَدُّوهَا انْقَلَبَتْ , فَحَارَتِ الشَّيَاطِينُ وَطَافَ إِبْلِيسُ الأَرْضَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: رَأَيْتُ مَوْلُودًا فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَدْنُوَ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ تعالى: {فانتبذت به} أي بالحمل {مكانا قصيا} أَيْ بَعِيدًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: مَشَتْ سِتَّةَ أَمْيَالٍ فِرَارًا مِنْ قَوْمِهَا أَنْ يُعَيِّرُوهَا بِوِلادَتِهَا من غير زوج {فأجاءها المخاض} [المعنى: فجاء بها] والمخاض وجع والولادة {إلى جذع النخلة} وَهُوَ سَاقُ نَخْلَةٍ يَابِسَةٍ فِي الصَّحَرَاءِ لَيْسَ لَهَا رَأْسٌ وَلا سَعْفٌ. {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مت قبل هذا} الْيَوْمَ وَهَذَا الأَمْرُ , قَالَتْهُ حَيَاءً مِنَ النَّاسِ {وكنت نسيا منسيا} أي ليتيني لم أكن شيئا. {فناداها من تحتها} وَفِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا الْمَلَكُ. وَكَانَتْ عَلَى نَشَزٍ. وَالثَّانِي: عِيسَى لَمَّا وَلَدَتْهُ. وَالسَّرِيُّ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ. وكانت قد حزنت لجدب مكانها وخلوه عن مَاءٍ أَوْ طَعَامٍ , فَقِيلَ لَهَا قَدْ أَجْرَيْنَا لَكِ نَهَرًا وَأَطْلَعْنَا لَكِ رُطَبًا , وَفِي ذَلِكَ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِيجَادِ عِيسَى. {وَهُزِّي

إليك بجذع النخلة} الباء زائدة {تساقط عليك رطبا جنيا} وهو الطري المجتنى {فكلي} من الرطب {واشربي} من النهر {وقري عينا} بِوِلادَةِ عِيسَى. وَالصَّوْمُ: الصَّمْتُ. وَإِنَّمَا أُمِرَتْ بِالسُّكُوتِ لأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حُجَّةٌ عِنْدَ النَّاسِ. وَفِي سِنِّهَا يَوْمَئِذٍ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ. وَالثَّانِي: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. وَالثَّالِثُ: ثَلاثَ عَشْرَةَ [سَنَةً] قَالَهُ مُقَاتِلٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَضَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَطَهُرَتْ مِنْ نِفَاسِهَا جَاءَتْ إِلَى قَوْمِهَا بِعِيسَى , فَبَكَوْا , وَكَانُوا صَالِحِينَ , وَقَالُوا: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جئت شيئا فريا} أي عظيما {يا أخت هارون} وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخٌ لَهَا مِنْ أُمِّهَا , كَانَ أَمْثَلَ فَتًى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ بَنِي هَارُونَ أَخِي مُوسَى. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شَبَّهُوهَا بِهِ فِي الصَّلاحِ. وَهَذِهِ الأَقْوَالُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ فُسَّاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَهُ وَهْبٌ. {مَا كان أبوك} يعنون عمران {امرأ سوء} أي زانياً {وما كانت أمك بغيا} أي زانية {فأشارت إليه} أَيْ أَوْمَأَتْ إِلَى عِيسَى أَنْ كَلِّمُوهُ , وَكَانَ عِيسَى قَدْ كَلَّمَهَا قَبْلَ قَوْمِهَا وَقَالَ: يَا أُمَّاهُ أَبْشِرِي فَإِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. فَلَمَّا أَشَارَتْ أَنْ كَلِّمُوهُ تَعَجَّبُوا وَقَالُوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ من كان في المهد صبيا} وكان زَائِدَةٌ. فَنَزَعَ فَمَهُ مِنْ ثَدْيِهَا وَجَلَسَ وَقَالَ: {إني عبد الله آتاني الكتاب}

قَالَ عِكْرِمَةُ: قَضَى أَنْ يُؤْتِيَنِي الْكِتَابَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عُلِّمَ التَّوْرَاةَ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثِ سِنِينَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الإِنْجِيلَ , وَكَانَ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ , وَكَانَ يَجْتَمِعُ عَلَى بَابِهِ مِنَ الْمَرْضَى خَمْسُونَ أَلْفًا فَيُدَاوِيهِمْ بِالدُّعَاءِ , فَاتَّبَعُوهُ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُحْيِيَ لَهُمْ سَامَ بْنَ نُوحٍ , فَأَتَى قَبْرَهُ فَنَادَاهُ فَانْشَقَّ الْقَبْرُ وَقَامَ فَقَالَ: هَذَا عِيسَى بن مَرْيَمَ فَاتَّبِعُوهُ. ثُمَّ قَالَ: سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَرُدَّنِي كَمَا كُنْتُ. فَسَأَلَ [رَبَّهُ] فَعَادَ. وَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَلْبَسُ الصُّوفَ وَيَتَّخِذُ نَعْلَيْنِ مِنَ لِحَاءِ الشَّجَرِ شِرَاكُهُمَا لِيفٌ , وَكَانَتْ مَرْيَمُ تَلْتَقِطُ فَإِذَا عُلِمَ بِهَا نُثِرَ لَهَا فَتَتَحَوَّلُ إِلَى مَكَانٍ لا تُعْرَفُ فِيهِ. وَكَانَ يَقُولُ: لباسي الصوف , وشعاري الخوف , وبيتي المسجد , وطيبي الْمَاءُ , وَأُدْمِيَ الْجُوعُ , وَدَابَّتِي رِجْلايَ , وَسِرَاجِي بِاللَّيْلِ الْقَمَرُ , وَمُصْطَلايَ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقُ الشَّمْسِ , وَفَاكِهَتِي وَرَيْحَانِي بُقُولُ الأَرْضِ , وَجُلَسَائِيَ الْمَسَاكِينُ. وَكَانَ يَقُولُ لأَصْحَابِهِ: أَهِينُوا الدُّنْيَا تُكْرِمْكُمُ الآخِرَةُ , إِنَّكُمْ لا تُدْرِكُونَ مَا تَأْمَلُونَ إِلا بِالصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ , وَلا تَبْلُغُونَ مَا تُرِيدُونَ إِلا بِتَرْكِ مَا تَشْتَهُونَ. أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِبَاعٍ النُّمَيْرِيِّ , قَالَ: بَيْنَا عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَسِيحُ فِي بَعْضِ بِلادِ الشَّامِ اشْتَدَّ بِهِ الْمَطَرُ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ , فَجَعَلَ يَطْلُبُ شَيْئًا يَلْجَأُ إِلَيْهِ فَرُفِعَتْ لَهُ خَيْمَةٌ مِنْ بَعِيدٍ فَإِذَا فِيهَا امْرَأَةٌ فَحَادَ عَنْهَا , فَإِذَا هُوَ بِكَهْفٍ فِي جَبَلٍ فَأَتَاهُ فَإِذَا فِي الْكَهْفِ أَسَدٌ , فَرَفَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَالَ: إِلَهِي جَعَلْتَ لِكُلِّ شَيْءٍ مَأْوَى , وَلَمْ تَجْعَلْ لِي مَأْوَى! فَأَجَابَهُ الْجَلِيلُ: مَأْوَاكَ عِنْدِي فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِي , لأُزَوِّجَنَّكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِائَةَ حَوْرَاءَ حَلَّيْتُهَا [بِيَدِي] . وَلأُطْعِمَنَّ فِي عُرْسِكَ أَرْبَعَةَ آلافِ عَامٍ , كُلُّ عَامٍ مِنْهَا

الكلام على البسملة

كَعُمْرِ الدُّنْيَا , وَلآمُرَنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي: أَيْنَ الزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا , زُورُوا عُرْسَ الزَّاهِدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَلِدُ: لَقِيَ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِبْلِيسَ فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِالْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي جَعَلَ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ مَا الَّذِي يسل جسمك ويقطع ظهرك! فضرب نفسه الأرض ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: لَوْلا أَنَّكَ أَقْسَمْتَ عَلَيَّ بِالْحَيِّ الْقَيُّومِ مَا أَخْبَرْتُكَ , أَمَّا الَّذِي يَقْطَعُ ظَهْرِي فَصَلاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ نَافِلَةً وَفِي الْجَمَاعَةِ , وَأَمَّا الَّذِي يَسُلُّ جِسْمِي فَصَهِيلُ الْفَرَسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ! وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دَخَلَ عيسى عليه السلام خوخة فدخل وراء رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ. قَالَ عُلَمَاءُ النَّقْلِ: رُفِعَ لِثَلاثِ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ وَأُلْبِسَ النُّورَ وَكُسِيَ الرِّيشَ وَقُطِعَتْ عَنْهُ لَذَّةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ فَأَصْبَحَ إِنْسِيًّا مَلَكِيًّا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رُفِعَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَكَانَ عمره ثلاثاً وَثَلاثِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا , وَمَاتَتْ أُمُّهُ بَعْدَ رَفْعِهِ بِسِتِّ سِنِينَ , وَكَانَ عُمْرُهَا نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ بِشَرْقَيِّ دِمَشْقَ , فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإِسْلامِ , وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ وَيَتَزَوَّجُ وَيُولَدُ لَهُ , وَيَمْكُثُ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ فَيُدْفَنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (حُكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِي ... مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ قَرَارِ) (بَيْنَا يُرَى الإِنْسَانُ فِيهَا مُخْبِرًا ... حَتَّى يُرَى خَبَرًا مِنَ الأَخْبَارِ) (طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا ... صَفْوًا مِنَ الأَقْذَارِ وَالأَكْدَارِ) (وَمُكَلِّفُ الأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا ... مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ) (وَإِذَا رَجَوْتَ الْمُسْتَحِيلَ فَإِنَّمَا ... تَبْنِي الرَّجَاءَ عَلَى شَفِيرٍ هَارِ)

(فَالْعَيْشُ نَوْمٌ وَالْمَنِيَّةُ يَقْظَةٌ ... وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا خَيَالٌ سَارِ) (وَالنَّفْسُ إِنْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ أَوْ أَبَتْ ... مُنْقَادَةٌ بِأَزِمَّةِ الْمِقْدَارِ) (فَاقْضُوا مَآرِبَكُمْ عِجَالا إِنَّمَا ... أَعْمَارُكُمْ سَفَرٌ مِنَ الأَسْفَارِ) (وَتَرَاكَضُوا خَيْلَ الشَّبَابِ وَبَادِرُوا ... أَنْ تُسْتَرَدَّ فَإِنَّهُنَّ عَوَارِي) (وَالدَّهْرُ يَخْدَعُ بِالْمُنَى وَيُغِصُّ إِنْ ... هَنَّا وَيَهْدِمُ مَا بَنَى بِبَوَارِ) (قَدْ لاحَ فِي لَيْلِ الشَّبَابِ كَوَاكِبُ ... إِنْ أُمْهِلَتْ عَادَتْ إِلَى الأَسْفَارِ) لَقَدْ خَرَقَتِ الْمَوَاعِظُ الْمَسَامِعَ , وَمَا أَرَاهُ انْتَفَعَ السَّامِعُ , وَلَقَدْ بَدَا نُورُ الْهُدَى فِي الْمَطَالِعِ لَكِنَّهُ قَدْ عَمِيَ الْمُطَالِعُ , وَلَقَدْ بَانَتْ عِبَرُ مَنْ غَبَرَ لِمَنْ عَبَرَ الْمَصَارِعَ , فَمَا بَالُهَا مَا انْسَكَبَتِ الْمَدَامِعُ. يَا مَنْ شَبَابُهُ قَدْ مَضَى هَلْ مَا مَضَى مِنَ الْعُمْرِ رَاجِعٌ , تَيَقَّظْ , الْحَذَرَ ثُمَّ اعْتَذِرْ وَرَاجِعْ , فَالْهَوْلُ شَدِيدٌ وَالْحِسَابُ دَقِيقٌ والطريق شاسع , {إن عذاب ربك لواقع} . أَيُّهَا الْمُطْمَئِنُّ إِلَى الدُّنْيَا وَهِيَ تَطْلُبُهُ بِذِحْلٍ , قد مرضت عين بصيرته فيها فما يَنْفَعُ الْكُحْلُ، يَتَبَخْتَرُ فِي رِيَاضِهَا وَمَا ثَمَّ إِلا وَحْلٌ , اقْبَلْ نُصْحِي وَاشْدُدِ الرَّحْلَ عَنْ مَحَلِّ الْمَحْلِ , وَتَأَمَّرْ عَلَى نَفْسِكَ فَلِلنَّحْلِ فَحل. (أَيَا صَاحٍ نَهَى الصَّاحِي ... بِحَبْلٍ مِنْكَ مُدَّارِكْ) (إلى كم مَعَ دُنْيَاكَ ... وَتِلْكَ الْمُومِسُ الْفَارِكْ) (تَخُونُ الأَوَّلَ الْعَهْدَ ... فَخَلِّ الْعُرْسَ أَوْ شَارِكْ) (مَتَى يُلْحِقْنِي بِالرَّكْبِ ... هَذَا الْجَمَلُ الْبَارِكْ) (أَلا قَدْ ذَهَبَ النَّاسُ ... وَنِضْوِي رَازِمٌ بَارِكْ) آهٍ لِنَفْسٍ انْفَصَلَتْ سَاعَاتُهَا وَمَا حُصِّلَتْ طَاعَاتُهَا , تَبِعَتُهَا تَبِعَاتُهَا وَمَا نفعتها دعاتها , شهورها وجمعاتها ومجالسها وجماعاتها , ومذكورها ورعاتها وَقَصَائِدُهَا وَمُسَجَّعَاتُهَا , وَالدُّنْيَا وَلَسَعَاتُهَا , وَالْمِحَنُ وَجَزَعَاتُهَا , وَالْمَنُونُ وَوَقَعَاتُهَا , وَما لانَتْ مَعَ هَذَا مُمْتَنِعَاتُهَا , وَلا خَفَّتْ مِنْ رُقَادِ الْغَفْلَةِ هَجَعَاتُهَا.

يَا مَنْ قَدْ شَابَ أَقْبِلْ عَلَى شَأْنِكَ , وَاكْشِفْ هَذَا الْحِجَابَ وَأَسْبِلْ دَمْعَ شَانِكَ , خَلَعْتَ خِلْعَةَ الشَّبَابِ وَكَانَتْ عَارِيَةً , وَلَبِسْتَ ثَوْبًا تَخْلَعُهُ فِي الْبَرِيَّةِ , فَدَعِ الْهَوَى وَدَعْ كُلَّ بَلِيَّةٍ , فَقَدْ أَنَارَ الْهُدَى بِمَصَابِيحَ جَلِيَّةٍ. (سَارَ الشَّبَابُ فَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ خَبَرًا ... وَلا رَأَيْنَا خَيَالا مِنْهُ مُنْتَابَا) (وَحَقٌّ لِلْعِيسِ لَوْ نَالَتْ بِنَا بلداً ... فيه الصبا كون عود الند أَقْتَابَا) (أُلْقِيَ إِلَيْهِ قَمِيصُ الشَّيْبِ رَهْنَ بِلًى ... ثُمَّ اسْتَجَدَّ قَمِيصَ الشَّيْبِ مُحْتَاجَا) (مَا زَالَ يَمْطُلُ دُنْيَاهُ بِتَوْبَتِهِ ... حَتَّى أَتَتْهُ مَنَايَاهُ وَمَا تابا) كان الحسن يقول: يا بن آدَمَ بِعْ عَاجِلَتَكَ بِعَاقِبَتِكَ تَرْبَحْهُمَا جَمِيعًا , وَلا تَبِعْ عَاقِبَتَكَ بِعَاجِلَتِكَ فَتَخْسَرَهُمَا جَمِيعًا , الثَّوَاءُ هُنَا قَلِيلٌ , وَقَدْ أُسْرِعَ بِخِيَارِكُمْ فَمَاذَا تَنْتَظِرُونَ؟ الْمُعَايَنَةُ فَكَأَنَّهَا وَاللَّهِ قَدْ كَانَتْ , وَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ أن يلحق بآخركم. يا بن آدَمَ دِينَكَ دِينَكَ , فَإِنْ سَلِمَ لَكَ دِينُكَ سَلِمَ لَكَ لَحْمُكَ وَدَمُكَ , وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَإِنَّهَا نَارٌ لا تُطْفَى وَنَفْسٌ لا تَمُوتُ , إِنَّكَ مَعْرُوضٌ عَلَى رَبِّكَ وَمُرْتَهَنٌ بِعَمَلِكَ , فَخُذْ مِمَّا فِي يَدَيْكَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْكَ عِنْدَ الموت يأتيك الخير , يا ابن آدَمَ تَرْكُ الْخَطِيئَةِ أَهْوَنُ مِنْ مُعَالَجَةِ التَّوْبَةِ. يا ابن آدَمَ لا تُعَلِّقْ قَلْبَكَ بِالدُّنْيَا فَتُعَلِّقَهُ بِشَرٍّ مُعَلَّقٍ , قُطِعَ حِبَالُهَا وَأُغْلِقَ عَنْكَ بَابُهَا , حَسْبُكَ مَا بَلَّغَكَ الْمَحَلَّ. (اسْتَغْفِرِ اللَّهَ مُنِيبًا خَاشِعًا ... وَاهْجُرْ لَمِيسَ وَاجْتَنِبْ دِيَارَهَا) (مَنْ زَارَهُ عَاتِي الصِّبَا فَإِنَّمَا ... زَارَ مِنَ الأُسْدِ الْجَثُومِ دَارَهَا) (وَأَفْضَلُ الأُزُرِ إِزَارُ عِفَّةٍ ... إِذَا الرِّجَالُ طَرَحَتْ آزَارَهَا) (مَنْ أَبَّرَ النَّخْلَ إِبَارَ مُحْسِنٍ ... أَحْمَدَ فِي إِرْطَابِهَا آثَارَهَا) (وَالْعَقْلُ خَيْرٌ لا يُخَافُ غِشُّهُ ... إِذَا الرِّجَالُ اتَّهَمَتْ أَخْبَارَهَا) (فَأَجْبِرِ النَّفْسَ على التقوى ولا ... تقل لَمْ أَسْتَطِعْ إِجْبَارَهَا)

الكلام على قوله تعالى

الكلام على قوله تعالى {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} قرأ الجمهور: نصوحا بفتح النون. وقرأ أبو بكر عن عَاصِمٍ بِضَمِّهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ فَتَحَ فَعَلَى صِفَةِ التَّوْبَةِ , وَالْمَعْنَى تَوْبَةٌ بَالِغَةٌ فِي النُّصْحِ. وَفَعُولٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ لِلْمُبَالَغَةِ في الوصف. يُقَالُ رَجُلٌ صَبُورٌ وَشَكُورٌ. وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ فمعناه ينصحون بها نصوحاً يُقَالُ: نَصَحْتُ لَهُ نُصْحًا وَنَصَاحَةً وَنُصُوحًا. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ لا يَعُودَ. وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ التَّوْبَةِ النصوح فقال: ندم بالقلب , وَاسْتِغْفَارٌ بِاللِّسَانِ , وَتَرْكٌ بِالْجَوَارِحِ , وَإِضْمَارٌ أَنْ لا يَعُودَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ تُكَفِّرُ كُلَّ سَيِّئَةٍ. ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ. اعْلَمْ أَنَّ التَّائِبَ الصَّادِقَ كُلَّمَا اشْتَدَّ نَدَمُهُ زَادَ مَقْتُهُ لِنَفْسِهِ عَلَى قُبْحِ زَلَّتِهِ , فَمِنْهُمْ مَنْ قَوِيَ مَقْتُهُ لَهَا وَرَأَى تَعْرِيضَهَا [لِلْقَتْلِ] مُبَاحًا فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ فَعَرَّضَهَا لَهُ , كَمَا فَعَلَ مَاعِزٌ وَالْغَامِدِيَّةُ. أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ , أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ , أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حدثنا عبد الله ابن أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ , حَدَّثَنِي بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ , عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رجل يقال له ماعز ابن مَالِكٍ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي فَطَهِّرْنِي. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارِجْعِ. فلما كان من الغد أتاه أيضاً فاعترف عنده بالزنا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارِجْعِ. ثُمَّ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ فَقَالَ: مَا تَعْلَمُونَ مِنْ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ الأَسْلَمِيِّ؟ هَلْ تَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا وَمَا تُنْكِرُونَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْئًا؟ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا نَرَى بِهِ بَأْسًا وَلا نُنْكِرُ مِنْ عَقْلِهِ شَيْئًا. ثُمَّ عَادَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّالِثَةَ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِالزِّنَا وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ طَهِّرْنِي. فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِهِ

أَيْضًا فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا لَهُ كَمَا قَالُوا فِي الْمَرَّةِ الأُولَى: مَا نَرَى بِهِ بَأْسًا وَمَا نُنْكِرُ مِنْ عَقْلِهِ شَيْئًا. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّابِعَةَ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِالزِّنَا , فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحُفِرَ لَهُ حَفِيرَةٌ فَجَعَلَ فِيهَا إِلَى صَدْرِهِ ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْجُمُوهُ. قَالَ بُرَيْدَةُ: وَكُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ , إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ارجعي. فلما كانت مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ أَيْضًا فَاعْتَرَفَتْ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي. فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ فَاعْتَرَفَتْ عِنْدَهُ بِالزِّنَا وَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ طَهِّرْنِي فَلَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى مِنَ الزِّنَا , فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْجِعِي حَتَّى تَلِدِي. فَلَمَّا وَلَدَتْ جَاءَتْ بِالصَّبِيِّ تَحْمِلُهُ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ , هذا قد ولدت. قال: فاذهبي حَتَّى تَفْطِمِيهِ. فَلَمَّا فَطَمَتْهُ جَاءَتْ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ. هَذَا قَدْ فَطَمْتُهُ. فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبِيِّ فَدُفِعَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا حَفِيرَةٌ فَجُعِلَتْ فِيهَا إِلَى صَدْرِهَا , ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْجُمُوهَا , فَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رأسها فنضخ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا , فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ: مَهْلا يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِ الْحَدِيثَيْنِ مُسْلِمٌ. وَقَدْ أُخْرِجَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ أَنَّ مَاعِزًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَهِّرْنِي. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ. فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي فَقَالَ: وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ. فَرَجَعَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: طَهِّرْنِي. حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِمَّ أُطَهِّرُكَ؟ قَالَ: مِنَ الزِّنَا. فَلَمَّا رَجَمَهُ. قَالَ: " لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيَنْ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ ".

فَانْظُرْ إِلَى مَقْتِ هَؤُلاءِ أَنْفُسَهُمْ حَتَّى أَسْلَمُوهَا إِلَى الْهَلاكِ غَضَبًا عَلَيْهَا لِمَا فَعَلَتْ. وَمِنَ التَّائِبِينَ مَنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّعْرِيضُ بِقَتْلِهَا , فَكَانَ يُنَغِّصُ عَيْشَهَا. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: رَأَيْتُ ضيغماً العابد فد أَخَذَ كُوزًا مِنْ مَاءٍ بَارِدٍ فَصَبَّهُ فِي الحب وَاكْتَالَ غَيْرَهُ , فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: نَظَرْتُ نَظْرَةً وَأَنَا شَابٌّ فَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أَلا أُذِيقَهَا الْمَاءَ الْبَارِدَ , أُنَغِّصُ عَلَيْهَا أَيَّامَ الْحَيَاةِ. يَا نَادِمًا عَلَى الذُّنُوبِ أَيْنَ أَثَرُ نَدَمِكَ , أَيْنَ بُكَاؤُكَ عَلَى زَلَّةِ قَدَمِكَ , أَيْنَ حذرك من أليم الْعِقَابِ , أَيْنَ قَلَقُكَ مِنْ خَوْفِ الْعِتَابِ , أَتَعْتَقِدُ أَنَّ التَّوْبَةَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ , إِنَّمَا التَّوْبَةُ نَارٌ تَحْرِقُ الإِنْسَانَ. جَرِّدْ قَلْبَكَ مِنَ الأَقْذَارِ , ثُمَّ أَلْبِسْهُ الاعْتِذَارَ , ثُمَّ حَلِّهِ حُلَّةَ الانْكِسَارِ , ثُمَّ أَقِمْهُ عَلَى بَابِ الدَّارِ. لَهَجَ بَعْضُ الْعُبَّادِ بِالْبُكَاءِ , فَعُوتِبَ عَلَى كَثْرَتِهِ فَقَالَ: (بَكَيْتُ عَلَى الذُّنُوبِ لِعُظْمِ جُرْمِي ... وَحَقٌّ لِكُلِّ مَنْ يَعْصِي الْبُكَاءُ) (فَلَوْ أَنَّ الْبُكَاءَ يَرُدُّ هَمِّي ... لأَسْعَدَتِ الدُّمُوعُ مِعَا دِمَائِي) اعْلَمْ أَنَّ التَّائِبَ الْمُحَقِّقَ يَشْغَلُهُ تَنْظِيفُ مَا وَسِخَ , وَالْحُزْنُ عَلَى مَا فَرَّطَ عَنْ تَصْوِيرِ زَلَّةٍ ثَانِيَةٍ. [يَا هَذَا] اكْتُبْ قِصَّةَ الرُّجُوعِ بِقَلَمِ النُّزُوعِ بِمِدَادِ الدُّمُوعِ , وَاسْعَ بِهَا عَلَى قَدَمِ الْخُضُوعِ إِلَى بَابِ الْخُشُوعِ , وَأَتْبِعْهَا بِالْعَطَشِ وَالْجُوعِ , وَسَلْ رَفْعَهَا فَرُبَّ سُؤَالٍ مَسْمُوعٍ , كَمْ هَتَكَ سِتْرَ مَنْ فَعَلَ خَطِيئَةً قَدْ فَعَلْتَهَا وَسُتِرْتَ , فَابْكِ عَلَى كَثْرَةِ الذَّنْبِ أَوْ [عَلَى] قِلَّةِ الشُّكْرِ. (لَئِنْ جَلَّ ذَنْبِي وَارْتَكَبْتُ الْمَآثِمَا ... وَأَصْبَحْتُ فِي بَحْرِ الْخَطِيئَةِ عَائِمَا) (أُجَرِّرُ ذَيْلِي فِي مُتَابَعَةِ الْهَوَى ... لأَقْضِيَ أَوْطَارَ الْبَطَالَةِ هَائِمَا) (فَهَا أَنَا ذَا يَا رَبِّ أَقْرَرْتُ بِالَّذِي ... جَنَيْتُ عَلَى نَفْسِي وَأَصْبَحْتُ نَادِمَا) (أَجَلُّ ذُنُوبِي عِنْدَ عَفْوِكَ سَيِّدِي ... حَقِيرٌ وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبِي عَظَائِمَا)

تَشَبَّثْ بِذَيْلِ الْحِلْمِ , وَصِحْ بِصَاحِبِ الْعَفْوِ لَعَلَّ شَفِيعَ الاعْتِرَافِ يُسْأَلُ فِي أَسِيرِ الاقْتِرَافِ. (ذَنْبِي إِلَيْكَ عَظِيمٌ ... وَأَنْتَ لِلْعَفْوِ أَهْلُ) (فَإِنْ عَفَوْتَ بِفَضْلٍ ... وَإِنْ أَخَذْتَ فَعَدْلُ) [يَا هَذَا] مُنَاجَاتَكَ منجاتك , وَصَلاتَكَ صَلاتَكَ , نَادِ فِي نَادِي الأَسْحَارِ وَالنَّاسُ نَائِمُونَ: يَا أَكْرَمَ مَنْ أَمَّلَهُ الآمِلُونَ. (عَلَيَّ دَيْنٌ ثَقِيلٌ أَنْتَ قَاضِيَهْ ... يَا مَنْ يُحَمِّلُنِي ذنبي رجائيه) (الحل مُرْهَقَةٌ وَالنَّفْسُ مُشْفِقَةٌ ... مِنْ دَائِهَا الْمُتَمَادِي أَوْ تَدَاوِيَهْ) إِنْ طَرَدْتَنِي فَإِلَى مَنْ أَذْهَبُ , وَإِنْ أَبْعَدْتَنِي فَإِلَيْكَ أُنْسَبُ , عَلِمْتَ ذَنْبِي وَخَلَقْتَنِي , وَرَأَيْتَ زَلَلِي وَرَزَقْتَنِي. (بَرَّنِي مَعْرُوفُكُمْ قَبْلَ أَبِي ... وَغَذَانِي بِرُّكُمْ قَبْلَ اللَّبَنِ) (وَإِذَا أَنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَنْتُمُ ... لَمْ تَوَلُّونِي وَتُولُونِي فَمَنْ) يَا هَذَا: مَاءُ الْعَيْنِ فِي الأَرْضِ حَيَاةُ الزَّرْعِ , وَمَاءُ الْعَيْنِ عَلَى الْخَدِّ حَيَاةُ الْقَلْبِ , يَا طَالِبَ الْجَنَّةِ: بِذَنْبٍ وَاحِدٍ أُخْرِجَ أَبُوكَ مِنْهَا , أَتَطْمَعُ فِي دُخُولِهَا بِذُنُوبٍ لَمْ تَتُبْ عَنْهَا , إِنَّ امْرَأً تَنْقَضِي بِالْجَهْلِ سَاعَاتُهُ , وَتَذْهَبُ بِالْمَعَاصِي أَوْقَاتُهُ , لَخَلِيقٌ أَنْ تَجْرِيَ دَائِمًا دُمُوعُهُ , وَحَقِيقٌ أَنْ يَقِلَّ فِي الدُّجَى هُجُوعُهُ. وَا أَسَفَا لِمَنْ ذَهَبَ عُمْرُهُ فِي الْخِلافِ , وَصَارَ قَلْبُهُ بِالْخَطَايَا فِي غُلافٍ , لَمَّا سُتِرَتْ عَنِ التَّائِبِينَ الْعَوَاقِبُ فَزِعُوا إلى البكاء واستارحوا إِلَى الأَحْزَانِ , كَانُوا يَتَزَاوَرُونَ فَلا تَجْرِي فِي خَلْوَةِ الزِّيَارَةِ إِلا دُمُوعُ الْحَذَرِ. (بَاحَتْ بِسِرِّي فِي الْهَوَى أَدْمُعِي ... وَدَلَّتِ الْوَاشِيَ عَلَى مَوْضِعِي) (يَا قَوْمُ إِنْ كُنْتُمْ عَلَى مَذْهَبِي ... فِي الْوَجْدِ وَالْحُزْنِ فَنُوحُوا مَعِي) (يَحِقُّ لِي أَبْكِي عَلَى زَلَّتِي ... فَلا تَلُومُونِي عَلَى أَدْمُعِي) آهٍ لنفس لا تعقل أمرها ثم قد جهلت قَدْرَهَا , تُضَيِّعُ فِي الْمَعَاصِي عُمْرَهَا

وَتَخُوضُ مِنَ الذُّنُوبِ غَمْرَهَا , إِلَى مَتَى تَعْصِي وَكَمْ تَتَمَرَّدُ , وَأَقْبَحُ مِنْ قَبِيحِكَ أَنَّكَ تَتَعَمَّدُ , يا ردئ العزم يا سيء الْمَقْصَدِ , يَا نَقِيَّ الثَّوْبِ وَالْقَلْبُ أَسْوَدُ , مَا هَذَا الأَمَلُ وَلَسْتَ بِمُخَلَّدٍ , أَمَا تَخَافُ مَنْ أَوْعَدَكَ وَهَدَّدَ , يَا مَسْتُورًا عَلَى الْقَبِيحِ أَتُقِرُّ أَمْ تَجْحَدُ , يَا مَنْ شَابَ وَمَا تَابَ هَذَا الدَّأْبَ مُذْ أَنْتَ أَمْرَدَ , يَا مُشْتَرِيًا لَذَّةً تَزُولُ بِالْعَذَابِ السَّرْمَدِ , يَا مَرْمِيًّا فِي جُبِّ الْهَوَى هَذَا الْحَبْلُ وَمَا تَصْعَدُ , بِاللَّهِ عَلَيْكَ تَأَمَّلْ نُصْحِي وَتَفَقَّدْ , أَمَّا الطَّرِيقُ طَوِيلَةٌ فَاقْبَلْ مِنِّي وَتَزَوَّدْ , تَخَلَّصْ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى فَإِلَى كَمْ مُقَيَّد , مَيِّزْ مَا يَبْقَى بِمَا يَفْنَى ثُمَّ اطْلُبِ الأَجْوَدَ , مَا أَرَى قَوْلِي يُؤَثِّرُ فِيكَ وَلَوْ دَرْسٌ مُجَلَّدٌ , أَظْرَفُ مِنْ فِعْلِكَ قِلَّةُ فَهْمِكَ وَأَنْتَ تَتَبَغْدَدُ , أَسَفًا لأَيَّامٍ مَضَتْ فِي الذُّنُوبِ وَتَوَلَّتْ , تَحَكَّمَتْ فِيهَا النَّفْسُ فَأَفْسَدَتْهَا إِذْ تَوَلَّتْ , وَعَلَى لَيَالٍ كَسَتِ الصَّحَائِفَ لَوْنُهَا فَوُكِسَتْ وَأُذِلَّتْ , وَعَلَى سَاعَاتٍ فِي طِلابِ الْهَوَى هَوَتْ وَاضْمَحَلَّتْ , حَسْرَةٌ عَنْ حَسِيرٍ ذَهَبَتْ وَحَلَّتْ , آهٍ لِشَيْبٍ كَانَ الشَّبَابُ مِنْهُ أَصْلَحَ , وَلِذِي عَيْبٍ مَا قَرَمَهُ الْعِتَابُ وَلا أَصْلَحَ , وَلِمُفَرِّطٍ يَخْسَرُ كُلَّ يَوْمٍ وَلا يَرْبَحُ , وَلِمُتَخَبِّطٍ فِي ظَلامِ الظُّلْمِ وَالصَّبَاحُ قَدْ أَصْبَحَ. (قَدْ تَنَاهَتْ فِي بَلائِي حِيلَتِي ... وَبَلائِي كُلُّهُ مِنْ قِبَلِي) (كُلَّمَا قُلْتُ تَجَلَّتْ غُمَّتِي ... عُدْتُ فِي ثَانِيَةٍ لا تَنْجَلِي) (لَعِبَتْ بِي شَهَوَاتِي وَانْقَضَتْ ... لِي حَيَاتِي فِي غُرُورِ الأَمَلِ) (وَأَحَلَّتْ بِي ذنوبي سقما ... كيف بالبرء منه كيف بي) (قد رمتني سيئاتي والهوى ... بسهام فأصابت مَقْتَلِي) (وَأَتَى شَيْبِي وَحَالِي كَالَّذِي ... كُنْتُ فِيهِ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ) لَوْ رَأَيْتَ التَّائِبَ لَرَأَيْتَ جَفْنًا مَقْرُوحًا , تُبْصِرُهُ فِي الأَسْحَارِ عَلَى بَابِ الاعْتِذَارِ مَطْرُوحًا , سَمِعَ قَوْلَ الإِلَهِ يُوحَى فِيمَا يوحى {توبوا إلى الله توبة نصوحا} . مَطْعَمُهُ يَسِيرٌ , وَحُزْنُهُ كَثِيرٌ , وَمَزْعَجُهُ مُثِيرٌ , فَكَأَنَّهُ أَسِيرٌ قَدْ رُمِيَ مَجْرُوحًا ,

أَنْحَلَ بَدَنَهُ الصِّيَامُ , وَأَتْعَبَ قَدَمَهُ الْقِيَامُ , وَحَلَفَ بِالْعَزْمِ عَلَى هَجْرِ الْمَنَامِ , فَبَذَلَ جَسَدًا وَرُوحًا {توبوا إلى الله توبة نصوحا} . الذُّّلُّ قَدْ عَلاهُ وَالْحُزْنُ قَدْ وَهَاهُ , يَذُمُّ نَفْسَهُ عَلَى هَوَاهُ , وَبِهَذَا صَارَ مَمْدُوحًا أَيْنَ مَنْ يَبْكِي جِنَايَاتِ الشَّبَابِ الَّتِي بِهَا اسْوَدَّ الكتاب , أين من يأتي إلى الباب يحد الْبَابَ مَفْتُوحًا {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} . والحمد لله وحده.

المجلس السادس والعشرون في قصة أهل الكهف

المجلس السادس والعشرون فِي قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لا يَتَأَثَّرُ بِالْمَدَى وَلا يَتَغَيَّرُ أَبَدًا , لَمْ يَزَلْ وَاحِدًا أَحَدًا , لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا , اخْتَارَ مَنْ شَاءَ فَنَجَّاهُ مِنَ الرَّدَى , أَنْقَذَ أَهْلَ الْكَهْفِ وَأَرْشَدَ وَهَدَى , وَأَخْرَجَهُمْ بِقَلَقٍ رَاحَ بِهِمْ وَغَدَا , فَاجْتَمَعُوا فِي الْكَهْفِ يَقُولُونَ كَيْفَ حَالُنَا غَدَا , فَأَرَاحَهُمْ بِالنَّوْمِ مِنْ تَعَبِ التعبد مدداً {إذا أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا من لدنك رحمة وهيىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا , فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ في الكهف سنين عدداً , ثم بعثناهم لتعلم أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا , نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ , إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بربهم وزدناهم هدى} . أَحْمَدُهُ مَا ارْتَجَزَ حَادٍ وَحَدَا , وَأُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ مَتْبُوعٍ وَأَفْضَلِ مُقْتَدَى , وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ الْمُتَخِّذِ بِإِنْفَاقِهِ عِنْدَ الإِسْلامِ يَدًا , وَعَلَى عُمَرَ الْعَادِلِ الَّذِي مَا جَارَ فِي وِلايَتِهِ وَلا اعْتَدَى , وَعَلَى عُثْمَانَ الصَّابِرِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى وَقْعِ المُدَى , وَعَلَى عَلِيٍّ مَحْبُوبِ الأَوْلِيَاءِ وَمُبِيدِ الْعِدَى , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَشْرَفِ الْكُلِّ نَسَبًا وَمَحْتِدًا. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آياتنا عجبا} . سَبَبُ نُزُولِهَا: أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا عَنْ أَصْحَابِ الكهف فنزلت.

ومعنى: {أم حسبت} : أَحَسِبْتَ. وَالْكَهْفُ: الْمَغَارَةُ فِي الْجَبَلِ إِلا أَنَّهُ وَاسِعٌ فَإِذَا صَغُرَ فَهُوَ غَارٌ. وَفِي الرَّقِيمِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْحٌ مِنْ رَصَاصٍ كَانَ فِيهِ أَسْمَاءُ الْفِتْيَةِ مَكْتُوبَةٌ لِيَعْلَمَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ مَا قِصَّتُهُمْ. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَبِهِ قَالَ وَهْبٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْمُ الْوَادِي الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ. قَالَهُ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا. قَالَهُ كَعْبٌ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ اسْمُ الْجَبَلِ. قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الرَّقِيمَ الدَّوَاةُ بِلِسَانِ الرُّومِ. قَالَهُ عِكْرِمَةُ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ اسْمُ الْكَلْبِ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَمَعْنَى الْكَلامِ: أَحَسِبْتَ أَنَّ أَهْلَ الْكَهْفِ كَانُوا أَعْجَبَ آيَاتِنَا؟ قَدْ كَانَ فِي آيَاتِنَا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْهُمْ. {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إلى الكهف} أَيْ جَعَلُوهُ مَأْوَى لَهُمْ. وَالْفِتْيَةُ: جَمْعُ فَتًى , مِثْلُ غُلامٍ وَغِلْمَةٍ. وَالْفَتَى: الْكَامِلُ مِنَ الرِّجَالِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بَدْءِ أَمْرِهِمْ وَمَصِيرِهِمْ إِلَى الْكَهْفِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ هَرَبُوا لَيْلا مِنْ مَلِكِهِمْ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ , فَمَرُّوا بِرَاعٍ لَهُ كَلْبٌ فَتَبِعَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ , فَأَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ يَتَعَبَّدُونَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: فَقَدَهُمْ قَوْمُهُمْ فَطَلَبُوهُمْ , فَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ , فَكَتَبُوا أَسْمَاءَهُمْ فِي لَوْحٍ: فُلانٌ وَفُلانٌ أَبْنَاءُ مُلُوكِنَا فَقَدْنَاهُمْ فِي شَهْرِ كَذَا فِي سَنَةِ كَذَا فِي مَمْلَكَةِ فُلانٍ: وَوَضَعُوا اللَّوْحَ فِي خَزَانَةِ الملك.

وَالثَّانِي: أَنَّ أَحَدَ الْحَوَارِيِّينَ جَاءَ إِلَى مَدِينَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَلَقِيَهُ هَؤُلاءِ الْفِتْيَةُ فَآمَنُوا بِهِ فطلبوا فهروا إِلَى الْكَهْفِ. قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَبْنَاءَ عُظَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَأَشْرَافِهِمْ , فَخَرَجُوا وَاجْتَمَعُوا وَرَاءَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ , فَقَالَ كَبِيرُهُمْ: إِنِّي لأَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا أَظُنُّ أَحَدًا يَجِدُهُ. قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ: إن ربي رب السموات والأرض. فتوافقوا قد خلوا الْكَهْفَ فَنَامُوا. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَضَرَبْنَا على آذانهم} الْمَعْنَى أَنَمْنَاهُمْ {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} أَيْ لِيَعْلَمَ خَلْقُنَا. وَأَرَادَ بِالْحِزْبَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ فِي مُدَّةِ لبثهم. ومعنى قاموا: خَلَوْا. وَكَانَتِ الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كهفهم وإذا غربت تقرضهم أَيْ تَعْدِلُ عَنْهُمْ. وَفِي سَبَبِ ذَلِكَ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَهْفَهُمْ كَانَ بِإِزَاءِ بَنَاتِ نَعْشٍ. قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ آيَةً. قاله الزجاج. والفجوة: المتسع. {وتحسبهم أيقاظا} لأَنَّ أَعْيُنَهْمُ كَانَتْ مُفَتَّحَةً وَهُمْ نِيَامٌ لِئَلا تَذُوبَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يُقَلَّبُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ , سِتَّةَ أَشْهُرٍ عَلَى هَذَا الْجَنْبِ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ عَلَى هَذَا الْجَنْبِ. وَقَالَ مجاهد: بقوا على شق واحد ثلاثمائة عام , ثم قلبوا تسع سنين. والوصيد: الْفِنَاءِ وَالْبَابِ. {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فرارا} لأَنَّهُمْ طَالَتْ شُعُورُهُمْ وَأَظْفَارُهُمْ جِدًّا. قَالَ وَهْبٌ: خَرَجَ الْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهِمْ فَوَجَدُوهُمْ نِيَامًا , فَكَانُوا كُلَّمَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ أَخَذَهُ الرُّعْبُ , فَقَالَ قَائِلٌ لِلْمَلِكِ: أَلَيْسَ أَرَدْتَ قَتْلَهُمْ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: فَابْنِ عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ حَتَّى يَمُوتُوا جُوعًا وَعَطَشًا. فَفَعَلَ.

فَأَمَّا سَبَبُ بَعْثِهِمْ فَقَالَ عِكْرِمَةُ: جَاءَتْ أُمَّةٌ مُسْلِمَةٌ , وَكَانَ مَلِكُهُمْ مُسْلِمًا , فَاخْتَلَفُوا فِي الرُّوحِ وَالْجَسَدِ فَقَالَ قَائِلٌ: تُبْعَثُ الرُّوحُ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَتَأْكُلُهُ الأَرْضُ. وَقَالَ قَائِلٌ: تُبْعَثُ الرُّوحُ وَالْجَسَدُ. فَشَقَّ اخْتِلافُهُمْ عَلَى الْمَلِكِ فَانْطَلَقَ فَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَقَعَدَ عَلَى الرَّمَادِ , وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ لَهُمْ آيَةً تُبَيِّنُ لَهُمْ. فَبَعَثَ اللَّهُ أَهْلَ الْكَهْفِ. وَقَالَ وَهْبٌ: جَاءَ رَاعٍ قَدْ أدركه المطر إلى الكهف ففتح بابه ليأوي إِلَيْهِ الْغَنَمَ , فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَعَدُوا فِرِحِينَ فَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لا يَرَوْنَ فِي وُجُوهِهِمْ وَلا أَجْسَادِهِمْ مَا يُنْكِرُونَ , وَإِنَّمَا هُمْ كَهَيْئَتِهِمْ حِينَ رَقَدُوا , وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَلِكَهُمْ فِي طَلَبِهِمْ فَصَلَّوْا وَقَالُوا لِيمليخَا صَاحِبِ نَفَقَتِهِمُ: انْطَلِقْ فَاسْتَمِعْ مَا نُذْكَرُ بِهِ وَابْتَغِ لَنَا طَعَامًا. فَوَضَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ ثِيَابًا يَتَنَكَّرُ فِيهَا , وَخَرَجَ مُسْتَخْفِيًا مُتَخَوِّفًا أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ , فَرَأَى عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ عَلامَةً تَكُونُ لأَهْلِ الإِيمَانِ , فَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي يَعْرِفُ , وَرَأَى نَاسًا لا يَعْرِفُهُمْ , فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ وَيَقُولُ: لَعَلِّي نَائِمٌ. فَلَمَّا دَخَلَهَا رَأَى قَوْمًا يَحْلِفُونَ بِاسْمِ عِيسَى فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى جِدَارٍ وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هَذَا؛ عَشِيَّةَ أَمْسٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الأَرْضِ مَنْ يَذْكُرُ عِيسَى إِلا قُتِلَ , وَالْيَوْمَ أَسْمَعُهُمْ يَذْكُرُونَهُ! لَعَلَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي أَعْرِفُ , وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مَدِينَةً قُرْبَ مَدِينَتِنَا فَقَامَ كَالْحَيْرَانِ وَأَخْرَجَ وَرِقًا وَأَعْطَاهُ رَجُلا وَقَالَ: بِعْنِي طَعَامًا فَنَظَرَ الرَّجُلُ إِلَى نَقْشِهِ فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ , ثُمَّ أَلْقَاهُ إِلَى آخَرَ فَجَعَلُوا يَتَطَارَحُونَهُ بَيْنَهُمْ وَيَتَعَجَّبُونَ وَيَتَشَاوَرُونَ , وَقَالُوا إِنَّ هَذَا قَدْ أَصَابَ كَنْزًا. فَفَرَقَ مِنْهُمْ وَظَنَّ أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوهُ فَقَالَ: أَمْسِكُوا طَعَامَكُمْ فَلا حَاجَةَ بِي إِلَيْهِ. فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ يَا فَتَى , وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتَ كَنْزًا فَشَارِكْنَا فِيهِ وَإِلا أَتَيْنَا بِكَ السُّلْطَانَ. فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُونَ فَطَرَحُوا كِسَاءَهُ فِي عُنُقِهِ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ: فُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي , يَا لَيْتَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا لَقِيتُ.

فَأَتَوْا بِهِ إِلَى رَجُلَيْنِ كَانَا يُدَبِّرَانِ أَمْرَ الْمَدِينَةِ فَقَالا: أَيْنَ الْكَنْزُ الَّذِي وَجَدْتَ؟ قَالَ: مَا وَجَدْتُ كَنْزًا , وَلَكِنْ هَذِهِ وَرِقُ آبَائِي وَنَقْشُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَضَرْبُهَا وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا شَأْنِي وَلا مَا أَقُولُ لَكُمْ. وَكَانَ الْوَرِقُ مِثْلَ أَخْفَافِ الإِبِلِ فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ وَمَا اسْمُ أَبِيكَ؟ فَأَخْبَرَهُمْ , فَلَمْ يَجِدُوا مَنْ يَعْرِفُهُ فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: أَتَظُنُّ أَنَّكَ تَسْخَرُ مِنَّا وَخَزَائِنُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ بِأَيْدِينَا وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ هَذَا الضَّرْبِ دِرْهَمٌ وَلا دِينَارٌ , فَإِنِّي سَآمُرُ بِكَ فَتُعَذَّبُ عَذَابًا شَدِيدًا ثُمَّ أُوثِقُكَ حَتَّى تَعْتَرِفَ بِهَذَا الْكَنْزِ. فَقَالَ يمليخَا: أَنْبِئُونِي عَنْ شَيْءٍ أَسْأَلُكُمْ عَنْهُ فَإِنْ فَعَلْتُمْ صَدَقْتُكُمْ. قَالُوا: سَلْ. قَالَ: مَا فَعَلَ الْمَلِكُ دِقْيَانُوسُ؟ قَالُوا: لا نَعْرِفُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ الْيَوْمَ مَلِكًا يُسَمَّى دِقْيَانُوسَ , وَإِنَّمَا هَذَا ملك قد كان منذ زمان طَوِيلٍ , وَهَلَكَتْ بَعْدَهُ قُرُونٌ كَثِيرَةٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يُصَدِّقُنِي أَحَدٌ بِمَا أَقُولُ , لَقَدْ كُنَّا فِتْيَةً وَأَكْرَهَنَا الْمَلِكُ عَلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ فَهَرَبْنَا مِنْهُ عَشِيَّةَ أَمْسِ فَنِمْنَا , فَلَمَّا انْتَبَهْنَا خَرَجْتُ أَشْتَرِي لأَصْحَابِي طَعَامًا فَإِذَا أَنَا كَمَا تَرَوْنَ , فَانْطَلِقُوا مَعِي إِلَى الْكَهْفِ أُرِيكُمْ أَصْحَابِي. فَانْطَلَقَ [مَعَهُ] أَهْلُ الْمَدِينَةِ , وَكَانَ أَصْحَابُهُ قَدْ ظَنُّوا لإِبْطَائِهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ قَدْ أُخِذَ , فَبَيْنَا هُمْ يَتَخَوَّفُونَ ذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا الأَصْوَاتَ وَجَلَبَةَ الْخَيْلِ , فَظَنُّوا أَنَّهُمْ رُسُلُ دِقْيَانُوسَ , فَقَامُوا إِلَى الصَّلاةِ وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ , فَسَبَقَ يمليخَا إِلَيْهِمْ وَهُوَ يَبْكِي فَبَكَوْا مَعَهُ وَسَأَلُوهُ عَنْ شَأْنِهِ فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ , فَعَرَفُوا أَنَّهُمْ كَانُوا نِيَامًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا أُوقِظُوا لِيَكُونُوا آيَةً لِلنَّاسِ وَتَصْدِيقًا لِلْبَعْثِ. وَجَاءَ مَلِكُهُمْ فَاعْتَنَقَهُمْ وَبَكَى. فَقَالُوا لَهُ: نَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ وَنَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ حَفِظَكَ اللَّهُ وَحَفِظَ مُلْكَكَ. فَبَيْنَا الْمَلِكُ قَائِمٌ رَجَعُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَتَوَفَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نُفُوسَهُمْ وَحَجَبَهُمْ بِحِجَابِ الرُّعْبِ , فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ. وَأَمَرَ الْمَلِكُ فَجَعَلَ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ مَسْجِدًا يُصَلَّى فِيهِ , وَصَارَ عِنْدَهُمْ عِيدٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ.

الكلام على البسملة

وَقَدْ نَبَّهَتْ قِصَّتُهُمْ عَلَى أَنَّ مَنْ فَرَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَرَسَهُ وَلَطَفَ بِهِ وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِهِدَايَةِ الضَّالِّينَ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (جِدُّوا فَقَدْ زُمَّتْ مَطَايَاكُمْ ... لِنَقْلِكُمْ عَنْ دَارِ دُنْيَاكُمْ) (وَحَصِّلُوا زَادًا لِمَسْرَاكُمْ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ تدنو مناياكم) (إيمانكم دَعْوَى فَطُوبَى لَكُمْ ... إِنْ صَحَّ فِي الإِيمَانِ دَعْوَاكُمْ) يَا مَنْ يُعَاتِبُهُ الْقُرْآنُ وَقَلْبُهُ غَافِلٌ , وَتُنَاجِيهِ الآيَاتُ وَفَهْمُهُ ذَاهِلٌ , اعْرِفْ قَدْرَ الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ عَرَفْتَ الْكَلامَ , وَأَحْضِرْ قَلْبَكَ الْغَائِبَ وَقَدْ فَهِمْتَ الْمَلامَ. مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: يَا عَبْدِي أَمَا تَسْتَحِي مِنِّي! يَأْتِيكَ كِتَابٌ مِنْ بَعْضِ إِخْوَانِكَ وَأَنْتَ فِي الطَّرِيقِ تَمْشِي فَتَعْدِلُ عَنِ الطريق وتقعد لأجله وتقرأه وَتَتَدَبَّرُهُ حَرْفًا حَرْفًا حَتَّى لا يَفُوتَكَ مِنْهُ شَيْءٌ , وَهَذَا كِتَابِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ وَأَنْتَ مُعْرِضٌ عَنْهُ , أَفَكُنْتَ أَهْوَنَ عَلَيْكَ مِنْ بَعْضِ إِخْوَانِكَ! يَا عَبْدِي: يَقْعُدُ إِلَيْكَ بَعْضُ إِخْوَانِكَ فَتُقْبِلُ عَلَيْهِ بِكُلِّ وَجْهِكَ وَتُصْغِي إِلَى حَدِيثِهِ بِكُلِّ قَلْبِكَ , وَهَا أَنَا مُقْبِلٌ عَلَيْكَ وَمُحَدِّثٌ لَكَ وَأَنْتَ مُعْرِضٌ بِقَلْبِكَ عَنِّي. كَانَ السَّلَفُ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالْمُتَكَلِّمِ يَلْهَجُونَ بِتِلاوَةِ الْقُرْآنِ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكُمْ مَا شَبِعْتُمْ مِنْ كَلامِ رَبِّكُمْ. وَكَانَ كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ يَخْتِمُ فِي الشَّهْرِ تِسْعِينَ خَتْمَةً. وَكَانَ كُرْزُ بْنُ وَبَرَةَ يَخْتِمُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلاثَ خَتَمَاتٍ. وَكَانَ فِي السَّلَفِ مَنْ يَمْنَعُهُ التَّفَكُّرُ مِنْ كَثْرَةِ التِّلاوَةِ فَيَقِفُ فِي الآية يرددها.

قَامَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لَيْلَةً إِلَى الصَّبَاحِ بِآيَةٍ: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات} وَقَامَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَيْلَةً بِآيَةٍ: {وَامْتَازُوا اليوم أيها المجرومون} . وَقَالَ سُلَيْمَانُ الدَّارَانِيُّ: إِنِّي لأَتْلُو الآيَةَ وَأُقِيمُ فِيهَا أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسًا , وَلَوْلا أَنِّي أقطع الفكر فيها مَا جَاوَزْتُهَا. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِي فِي كُلِّ جُمْعَةٍ خَتْمَةٌ , وَفِي كُلِّ شَهْرٍ خَتْمَةٌ , وَفِي كُلِّ سَنَةٍ خَتْمَةٌ , وَلِي خَتْمَةٌ مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً مَا فَرَغْتُ مِنْهَا بَعْدُ. وَقَالَ أَسْلَمُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: صَحِبَ رَجُلٌ رَجُلا شَهْرَيْنِ فَمَا رَآهُ نَائِمًا لا لَيْلا وَلا نهارا , فقال: مالي أَرَاكَ لا تَنَامُ؟ فَقَالَ: إِنَّ عَجَائِبَ الْقُرْآنِ أَطَرْنَ نَوْمِي فَمَا أَخْرُجُ مِنْ أُعْجُوبَةٍ إِلا وَقَعْتُ فِي أُخْرَى. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَرَادَ عِلْمَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فَلْيُكْثِرْ [تِلاوَةَ] الْقُرْآنِ. يَا مُعْرِضًا عَنْ تِلاوَةِ الْقُرْآنِ مَشْغُولا بِاللَّهْوِ وَالْهَذَيَانِ سَتَدْرِي مَنْ يَنْدَمُ يَوْمَ الْخُسْرَانِ , اسْتَدْرِكْ مَا قَدْ فَاتَ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ , وَقُمْ فِي الأَسْحَارِ فَلِلسَّحَرِ مَعَ الرَّحْمَةِ شَانٌ , وَسَلِ الْعَفْوَ عَمَّا سَلَفَ مِنْكَ وَكَانَ. (مَوْلايَ جِئْتُكَ وَالرَّجَاءُ ... قَدِ اسْتَجَارَ بِحُسْنِ ظَنِّي) (أَبْغِي فَوَاضِلَكَ الَّتِي ... تَمْحُو بِهَا مَا كَانَ مِنِّي) (فَانْظُرْ إِلَيَّ بِحَقِّ لُطْفِكَ ... يَا إِلَهِي وَاعْفُ عِنِّي) (لا تُخْزِنِي يَوْمَ الْمَعَادِ ... بِمَا جَنَيْتُ وَلا تُهِنِّي) قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ لَنَا جَارٌ مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ قَدْ بَرَزَ فِي الاجْتِهَادِ , فَصَلَّى حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ وَبَكَى حَتَّى مَرِضَتْ عَيْنَاهُ , فَاشْتَرَى جَارِيَةً وَكَانَتْ تُحْسِنُ الْغِنَاءَ وَهُوَ لا يَعْلَمُ فَبَيْنَا هُوَ فِي مِحْرَابِهِ رَفَعَتْ صَوْتَهَا بِالْغِنَاءِ فَطَارَ لُبُّهُ , وَرَامَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ التَّعَبُّدِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ , فَقَالَتْ لَهُ الجارية: يا مولاي قد أبليت

شَبَابَكَ وَرَفَضْتَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا فِي أَيَّامِ حَيَاتِكَ , فَلَوْ تَمَتَّعْتَ بِي. فَمَالَ إِلَى قَوْلِهَا وَتَرَكَ التعبد واشتغل بفنون الليذات , فَبَلَغَ ذَلِكَ أَخًا لَهُ كَانَ يُوَافِقُهُ فِي الْعِبَادَةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. من الناصح الشفيق والطيب الرفيق , إلى مَنْ سُلِبَ حَلاوَةَ الذِّكْرِ وَالتَّلَذُّذَ بِالْقُرْآنِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ قَيْنَةً بِعْتَ بِهَا حَظَّكَ مِنَ الآخِرَةِ , فَإِنْ كُنْتَ بِعْتَ الْجَزِيلَ بِالْقَلِيلِ وَالْقُرْآنَ بِالْقِيَانِ فَإِنِّي مُحَذِّرُكَ هَاذِمَ اللَّذَّاتِ وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ , فَكَأَنَّهُ قَدْ جَاءَكَ عَلَى غِرَّةٍ فَأَبْكَمَ مِنْكَ اللسان وهدمتك الأركان وقرب منك الأكفان , واحتوشك مِنْ بَيْنِ الأَهْلِ وَالْجِيرَانِ , وَأُحَذِّرُكَ مِنَ الصَّيْحَةِ إذا جئت الأُمَمُ لِمَلِكٍ جَبَّارٍ. ثُمَّ طَوَى الْكِتَابَ وَبَعَثَهُ إِلَيْهِ , فَوَافَاهُ وَهُوَ عَلَى مَجْلِسِ سُرُورِهِ , فَأَذْهَلَهُ وَأَغَصَّهُ بِرِيقِهِ , فَنَهَضَ مِنْ مَجْلِسِهِ وَعَادَ إِلَى اجْتِهَادِهِ حَتَّى مَاتَ. قَالَ الَّذِي وَعَظَهُ: فَرَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ ثَلاثٍ فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: (اللَّهُ عَوَّضَنِي ذُو الْعَرْشِ جَارِيَةً ... حَوْرَاءَ تَسْقِينِي طَوْرًا وَتُهْنِينِي) (تَقُولُ لِي اشْرَبْ بِمَا قَدْ كُنْتَ تَأْمُلُنِي ... وَقَرَّ عَيْنًا مَعَ الْوِلْدَانِ وَالْعِينِ) (يَا مَنْ تَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا وَأَزْعَجَهُ ... عَنِ الْخَطَايَا وَعِيدٌ فِي الطَّوَاسِينِ) يَا وَيْحَ عَزِيمَةٍ نُقِضَتْ بِالْهَوَى عُهُودُهَا , تَرَقَّتْ فِي دَرَجَاتِ الْعُلا ثُمَّ انْعَكَسَ صُعُودُهَا؛ بَيْنَمَا ثَمَرُهَا الْجَدُّ يَبِسَ عُودُهَا , لَقَدْ سَوَّدْتَ الصَّحَائِفَ فِي طَلَبِ مَا لا تُصَادِفُ , مَتَى تَذْكُرُ الْمَتَالِفَ , إِلَى كَمْ وَكَمْ تُخَالِفُ , كَمْ طَوَى الدَّهْرُ مِنْ طَوَائِفَ , إِنَّمَا يَسْلَمُ فِي الشِّدَّةِ مَنْ هُوَ فِي الرَّجَاءِ خَائِفٌ , إِلَى مَتَى تُضَيِّعُ الْوَقْتَ الشَّرِيفَ , وَتُعْرِضُ عَنِ الإِنْذَارِ وَالتَّخْوِيفِ , وَتَبِيعُ أَفْضَلَ الأَشْيَاءِ بِقَدْرٍ طَفِيفٍ , وَتُؤْثِرُ الْفَانِيَ عَلَى الْبَاقِي وَهَذَا الرَّأْيَ السَّخِيفَ , أَيْنَ لَذَّةُ فَرَحِكَ بَعْدَ تَرَحِكَ , وَأَيْنَ سُرُورُ مَرَحِكَ فِي مُجْتَرَحِكَ , إِنَّمَا الْعُمْرُ أَيَّامٌ مَعْدُودَةٌ , وَالسَّلامَةُ عَوَارٍ مردودة.

الكلام على قوله تعالى

(وَأَيُّ هَوًى أَوْ أَيُّ لَهْوٍ أَصَبْتَهُ ... عَلَى لَذَّةٍ إِلا وَأَنْتَ مُفَارِقُهْ) (وَتُرْخِي عَلَى السُّوءِ السُّتُورَ وَإِنَّمَا ... تَقَلَّبَ فِي عِلْمِ الإِلَهِ خَلائِقُهْ) (أَلا أَيُّهَا الْبَاكِي عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَهُ ... رُوَيْدَكَ لا تَعْجَلْ فَإِنَّكَ لاحِقُهْ) (وَمَا هَذِهِ السَّاعَاتُ إِلا عَلَى الْفَتَى ... تُغَافِصُهُ طَوْرًا وَطَوْرًا تُسَارِقُهْ) (أَرَى صَاحِبَ الدُّنْيَا مُقِيمًا بِجَهْلِهِ ... عَلَى ثِقَةٍ مِنْ صَاحِبٍ لا يُوَاثِقُهْ) أَيْنَ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى رَضِيِّ الأَمَلِ وَالْمُنَى وَاتَّخَذَهُمَا مَالا؟ مَالا , أَيْنَ مَنْ تَنَعَّمَ بِالْعِزِّ وَالْفَخْرِ وَجَعَلَهُمَا حَالا؟ حَالا , أَيْنَ مَنْ جَمَعَ الأَمْوَالَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ , وَتَصَرَّفَ بِشَهَوَاتِهِ فِي طُولِ الْمُنَى وَالْعَرْضِ , وَنَسِيَ الْحِسَابَ يَوْمَ السُّؤَالِ وَالْعَرْضِ، وَلَمْ يُبَالِ بَعْدَ نَيْلِ غَرَضِهِ بِضَيَاعِ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ , أَمَا حُطَّ عَنْ ظَهْرِ قَصْرِهِ إِلَى بَطْنِ الأَرْضِ , خَلا وَاللَّهِ بِقَبِيحِهِ وَحَسَنِهِ , وَانْتَبَهَ فِي قَبْرِهِ مِنْ وَسَنِهِ , فَمَا نَفَعَتْهُ الإِفَاقَةُ فِي إِبَّانِ الْفَاقَةِ , وَلا أَفَادَهُ التَّيَقُّظُ وَقَدِ انْقَضَى وَقْتُ التَّحَفُّظِ , تَبَدَّلَ بِالأَتْرَابِ التُّرَابَ , وَوَاجَهَ أَلِيمَ الْحِسَابِ وَالْعِتَابِ , وَنَدِمَ عَلَى مَا خَلا فِي خِلافِ الصَّوَابِ , وَتَقَطَّعَتْ بِهِ الْوُصُلُ وَالأَسْبَابُ , فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَلْبَابِ. (سَلِ الأَجْدَاثَ عَنْ صُوَرٍ بَلِينَا ... وَعَنْ خَلْقٍ نَعِمْنَ فَصِرْنَ طِينَا) (وَعَنْ مَلِكٍ تَغَرَّرَ بِالأَمَانِي ... وَكَانَ يَظُنُّ أَنْ سَيَعِيشُ حِينَا) (لَقَدْ أَبَتِ الْقُبُورُ عَلَى حَزِينٍ ... أَتَاهَا أَنْ تَفُكَّ لَهُ رَهِينَا) (هِيَ الدُّنْيَا تُفَرِّقُ كُلَّ جَمْعٍ ... وَإِنْ [أَلِفَ] الْقَرِينُ بِهَا الْقَرِينَا) الْكَلامُ على قوله تعالى {قد أفلح المؤمنون} أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابن أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ سُلَيْمٍ , قَالَ أَمْلَى عَلَيَّ يُونُسُ ابن يزيد الأبلى عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ,

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ , قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ عَشْرَ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ. ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا {قَدْ أفلح المؤمنون} حتى ختم العشر. وأخبرنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ , أَنْبَأَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ , حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ الضَّبِّيُّ , أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ الضَّرِيرُ , أَخْبَرَنَا عَدِيُّ بْنُ الْفَضْلِ , عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ , عَنْ أَبِي نَضْرَةَ , عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَنَى جَنَّاتِ عَدْنٍ بِيَدِهِ وَبَنَاهَا لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ , وَجَعَلَ مِلاطَهَا الْمِسْكَ وَتُرَابَهَا الزَّعْفَرَانَ وَحَصَاهَا اللُّؤْلُؤَ ثُمَّ قَالَ: تَكَلَّمِي. فَقَالَتْ: {قد أفلح المؤمنون} . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَصْلُ الْفَلاحِ: الْبَقَاءُ فَالْمُفْلِحُونَ الْفَائِزُونَ بِبَقَاءِ الأَبَدِ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كعب وعكرمة بضم الألف والمعنى اصبروا إِلَى الْفَلاحِ. لَقَدْ رَبِحَ الْقَوْمُ وَأَنْتَ نَائِمٌ , وَخِبْتَ وَرَجَعُوا بِالْغَنَائِمِ , أَنْتَ بِاللَّيْلِ رَاقِدٌ وَبِالنَّهَارِ , هَائِمٌ , وَغَايَةُ مَا تَشْتَهِي مُشَارَكَةُ الْبَهَائِمِ , نَظَرُوا فِي عَوَاقِبِ الأُمُورِ فَقَبَرُوا أَنْفُسَهْمُ قَبْلَ الْقُبُورِ , وَخَرَجُوا مِنْ ظَلامِ الشُّبْهَةِ إِلَى أَجْلَى نُورٍ , فَمَا اسْتَفَزَّهُمْ فَانٍ وَلا أَذَلَّهُمْ غُرُورٌ، عَرَضُوا عَلَى النُّفُوسِ ذِكْرَ الْعَرْضِ فَاعْتَرَضَهَا الْقَلَقُ، وَصَوَّرُوا إِحْرَاقَ الصُّوَرِ فَأَحْرَقَهُمُ الْفَرَقُ , وَتَفَكَّرُوا فِي نَشْرِ الصَّحَائِفِ فَأَزْعَجَهُمُ الأَرَقُ , وَتَذَكَّرُوا محمدة الْمَخَاوِفِ فَسَالَتِ الْحِدَقُ , أَطَارَ خَوْفُ النَّارِ نَوْمَهُمْ , وَأَطَالَ ذِكْرُ الْعَطَشِ الأَكْبَرِ صَوْمَهُمْ , وَهَوَّنَ فِكْرُهُمْ فِي الْعِتَابِ نَصَبَهُمْ , وَنَصَبَهُمْ عَلَى الأَقْدَامِ ذِكْرُ الْقِيَامِ وَأَنْصَبَهُمْ , أَمَّا الأَجْسَادُ فَالْخَوْفُ قَدْ أَنْحَلَهَا , وَأَمَّا الْعُقُولُ فَالْحَذَرُ قَدْ أَذْهَلَهَا , وَأَمَّا الْقُلُوبُ فَالْفِكْرُ قَدْ شَغَلَهَا , وَأَمَّا الدُّمُوعُ فَالإِشْفَاقُ قَدْ أَرْسَلَهَا , وَأَمَّا الأَكُفُّ فَقَدْ كَفَّتْ عَمَّا لَيْسَ لَهَا , وَأَمَّا الأَعْمَالُ فَقَدْ وَاللَّهِ قَبِلَهَا , حَوَانِيتُهُمُ الْخَلَوَاتُ وَبَضَائِعُهُمُ الصَّلَوَاتُ , وَأَرْبَاحُهُمُ الْجَنَّاتُ , وَأَزْوَاجُهُمُ الْحَسَنَاتُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} . أَصْلُ الْخُشُوعِ: الْخُضُوعُ وَالتَّوَاضُعُ. وَفِي الْمُرَادِ بِهِ هَاهُنَا ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَرْكُ الالْتِفَاتَ في الصلاة. قاله علي عليه السلام. وَالثَّانِي. السُّكُونُ فِي الصَّلاةِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ: وَالثَّالِثُ: النَّظَرُ إِلَى مَوَاضِعِ السُّجُودِ. قَالَهُ قَتَادَةُ. عَرَفُوا طَرِيقَ النَّجَاةِ فَوَقَفُوا عَلَى قَدَمِ الأَدَبِ فِي الْمُنَاجَاةِ , فَنَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا رَجَاهُ , فَلَهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُ قَدْرٍ وَجَاهٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ , أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ , أنبأنا إسماعيل ابن إِسْحَاقَ , حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ , حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمًا يُصَلِّي فِي الْحِجْرِ مُرْخِيًا يَدَيْهِ , فَوَافَى حَجَرٌ قِذَافٌ فَذَهَبَ بِطَائِفَةٍ مِنْ ثَوْبِهِ , فَمَا انْفَتَلَ مِنْ صَلاتِهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ: وَحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ بَكَّارٍ الْبَاقِلاوِيُّ , قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ , قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: كَانَ الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ الرَّازِيُّ يَوْمًا يُصَلِّي فَوَقَعَ عَلَى رَأْسِهِ كُورُ الزَّنَابِيرِ فَمَا الْتَفَتَ وما انفتل حتى أتم صلاته فنظروا فَإِذَا رَأْسُهُ قَدْ صَارَ هَكَذَا مِنْ شِدَّةِ الانْتِفَاخِ. وَكَانَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لا يَلْتَفِتُ فِي صَلاتِهِ وَلَقَدِ انْهَدَمَتْ نَاحِيَةٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَفَزِعَ لَهَا أَهْلُ السُّوقِ فَمَا الْتَفَتَ. وَكَانَ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ سَكَتَ أَهْلُ بَيْتِهِ , فَإِذَا قَامَ يُصَلِّي تَكَلَّمُوا أَوْ ضَحِكُوا عِلْمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ عَنْهُمْ. وَكَانَ يَقُولُ: إِلَهِي مَتَى أَلْقَاكَ وَأَنْتَ عَنِّي رَاضٍ. (إِذَا اشْتَغَلَ اللاهُونَ عَنْكَ بِشُغْلِهِمْ ... جَعَلْتُ اشْتِغَالِي فِيكَ يَا مُنْيَتِي شُغُلِي) (فَمَنْ لِي بِأَنْ أَلْقَاكَ فِي سَاعَةِ الرِّضَا ... وَمَنْ لِي بِأَنْ أَلْقَاكَ وَالْكُلُّ لي من لي)

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدِ الحيري , أنبأ أبو عبد الله بَاكَوِيَةَ الشِّيرَازِيُّ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ بَكْرٍ , حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ , عَنْ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيِّ , قَالَ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ سَعِيدٍ الدَّارِمِيَّ يَقُولُ: صَلَّى أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ فِي مَسْجِدِهِ عِشْرِينَ سَنَةً بَعْدَ قُدُومِهِ مِنَ السَّفَرِ , فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ مِنَ الأَيَّامِ قَدِمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ , فَنَظَرُوا فَإِذَا فِي مِحْرَابِهِ كِتَابَةٌ فَقَالُوا لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ فِي الْكِتَابَةِ فِي الْمَحَارِيبِ؟ فَقَالَ: قَدْ كَرِهَهُ قَوْمٌ مِمَّنْ مَضَى. فَقَالُوا لَهُ: هُوَ ذَا فِي مِحْرَابِكَ كِتَابَةٌ , أَمَا عَلِمْتَ بِهِ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! رَجُلٌ يَدْخُلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَدْرِي مَا بَيْنَ يَدَيْهِ! أَخْبَرَنَا المُحَمَّدانِ ابْنُ نَاصِرٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَاقِي , قَالا أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ , أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ , أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ , أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ , حَدَّثَنِي عَفَّانُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّبَعِيُّ , عَنْ رِيَاحِ بْنِ أَحْمَدَ الْهَرَوِيِّ , قَالَ مَرَّ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ بِحَاتِمٍ الأَصَمِّ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي مَجْلِسِهِ فَقَالَ: يَا حَاتِمُ كَيْفَ تُصَلِّي؟ قَالَ حَاتِمٌ: أَقُومُ بِالأَمْرِ , وَأَمْشِي بِالسَّكِينَةِ , وَأَدْخُلُ بِالنِّيَّةِ , وَأُكَبِّرُ بِالْعَظَمَةِ , وَأَقْرَأُ بِالتَّرْتِيلِ وَالتَّفَكُّرِ , وَأَرْكَعُ بِالْخُشُوعِ , وَأَسْجُدُ بِالتَّوَاضِعِ , وَأُسَلِّمُهَا بِالإِخْلاصِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَأَخَافُ أَلا يُتَقَبَّلَ مِنِّي! فَقَالَ: تَكَلَّمْ فَأَنْتَ تُحْسِنُ [أَنْ] تُصَلِّيَ. يَا هَذَا: بَيْنَ صَلاتِكَ وَصَلاتِهِمْ كَمَا بَيْنَ وَقْتِكَ وَأَوْقَاتِهِمْ. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ النَّقُّورِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ مُدْرِكٍ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَاتِبُ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى السُّوسِيُّ , حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ , حَدَّثَنَا مَيْسَرَةُ , عَنِ الزُّبَيْدِيِّ , عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ , عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَتَوَجَّهَانِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّيَانِ فَيَنْصَرِفُ أَحَدُهُمَا وَصَلاتُهُ أَوْزَنُ مِنْ أُحُدٍ وَيَنْصَرِفُ الآخَرُ وَمَا تَعْدِلُ صَلاتُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ". أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْفَقِيهُ وَأَحْمَدُ بْنُ ظَفْرٍ , قَالا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ

سجع على قوله تعالى

بْنُ الْمَأْمُونِ , أَنْبَأَنَا الدَّارَقُطْنِيُّ , حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ , حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ عَطَاءٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ , حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُصَلٍّ إِلا وَمَلَكٌ عَنْ يَمِينِهِ وَمَلَكٌ عَنْ يَسَارِهِ , فَإِنْ أَتَمَّهَا عَرَجَا بِهَا , وإن لم يتمها ضربا بها وَجْهِهِ. يَا غَائِبَ الْقَلْبِ فِي صَلاتِهِ , يَا شَتِيتَ الْهَمِّ فِي جِهَاتِهِ , يَا مَشْغُولا بِآفَاتِهِ عَنْ ذِكْرِ وَفَاتِهِ , يَا قَلِيلَ الزَّادِ مَعَ قُرْبِ مَمَاتِهِ , يَا مَنْ يَرْحَلُ عَنِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مَرْحَلَةً , وَكِتَابُهُ قَدْ حَوَى حَتَّى مِقْدَارِ خَرْدَلَةٍ , وَمَا يَنْتَفِعُ بِنَذِيرٍ وَالنُّذُرُ مُتَّصِلَةٌ , وَمَا يَرْعَوِي لِنَصِيحٍ وَكَمْ قَدْ عَذَّلَهُ , وَدُرُوعُهُ مُتَخَرِّقَةٌ وَالسِّهَامُ مُرْسَلَةٌ , وَنُورُ الْهُدَى قَدْ يُرَى وَمَا رَآهُ وَلا تَأَمَّلَهُ , وَهُوَ يَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَقَدْ رَأَى مَصِيرَ مَنْ أَمَّلَهُ , وَأَجَلُهُ قد دنا ولكن أمه قد شغله , وقد انعكف على العيب بَعْدَ الشَّيْبِ بِصَبَابَةٍ وَوَلَهٍ , وَيُحْضِرُ بَدَنَهُ فِي الصَّلاةِ فَأَمَّا الْقَلْبُ فَقَدْ أَهْمَلَهُ , كُنْ كَيْفَ شِئْتَ فَبَيْنَ يَدَيْكَ الْحِسَابُ وَالزَّلْزَلَةُ , وَنُعِّمَ جَسَدُكَ فَلا بُدَّ لِلدُّودِ أَنْ يَأْكُلَهُ , يَا عَجَبًا مِنْ فُتُورِ مُؤْمِنٍ بِالْجَزَاءِ وَالْمَسْأَلَةِ , أَيَقِينٌ بِالنَّجَاةِ أم غرور وبله , بادر مَا بَقِيَ مِنَ الْعُمْرِ وَاسْتُدْرِكَ أَوَّلُهُ , فَبَقِيَّةُ عُمْرِ الْمُؤْمِنِ لا قِيمَةَ لَهُ. إِخْوَانِي: حُسْنُ الأَدَبِ فِي الصَّلاةِ دَلِيلٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَخْدُومِ , وَالْتِفَاتُ الْبَدَنِ دَلِيلٌ عَلَى إِعْرَاضِ الْقَلْبِ , وَقَدْ وَصَفْتُ لَكَ أَحْوَالَ الْخَاشِعِينَ , فَهَلْ أَنْتَ مِنْهُمْ أَوْ مِنَ الْغَافِلِينَ. سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {الذين هم في صلاتهم خاشعون} سُبْحَانَ مَنْ قَوَّمَهُمْ وَأَصْلَحَهُمْ , وَعَامَلُوهُ بِالْيَسِيرِ فَأَرْبَحَهُمْ , وَاعْتَذَرُوا مِنَ التَّقْصِيرِ فَسَامَحَهُمْ , وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ وَمَدَحَهُمْ , أَفَتَعُونَ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .

اغْتَنَمَ الْقَوْمُ الأَيَّامَ , وَاجْتَنَبُوا الْخَطَايَا وَالآثَامَ , وَصَمَتُوا عَنْ رَدِيءِ الْكَلامِ , وَصَمُّوا عَنِ اسْتِمَاعِ الْحَرَامِ , فَكَأَنَّهُمْ مَا يَسْمَعُونَ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعون} . كَفُّوا الأَكُفَّ عَنِ الْفَسَادِ , وَهَجَرَتِ الرُّءُوسُ الْوِسَادَ , وَحَضَرَ الْقَلْبُ لِلْمُنَاجَاةِ وَانْقَادَ , وَأَنْتُمْ فِي سُكْرِ الرُّقَادِ وَهُمْ يَرْكَعُونَ وَيَسْجُدُونَ {الَّذِينَ هُمْ فِي صلاتهم خاشعون} . مَا أَوْفَى تِلْكَ الأَحْوَالِ , مَا أَصْفَى تِلْكَ الْخِصَالِ , مَا أَزْكَى تِلْكَ الأَعْمَالِ , جَمَعُوا الْهُمُومَ فَأَمَّا الأَمْوَالُ فَلا يَجْمَعُونَ {الَّذِينَ هُمْ فِي صلاتهم خاشعون} . نَقُوا بِالرِّيَاضَةِ وَهُذِّبُوا , وَابْتُلُوا بِفِرَاقِ الْمَحْبُوبِ وَجُرِّبُوا , وَأُدِيرُوا فِي فُنُونِ التَّكْلِيفِ وَقُلِّبُوا , فَإِذَا بُعِّدْتُمْ يَوْمَ الْحُضُورِ وَقُرِّبُوا فَمَاذَا تَصْنَعُونَ {الَّذِينَ هُمْ في صلاتهم خاشعون} . مَا ضَرَّ النُّفُوسَ مَا نَكَا فِيهَا حِينَ نكافيها , نَعْفُو عَنْهَا يَوْمَ اللِّقَاءِ وَنُعَافِيهَا , وَنُدْخِلُهَا جَنَّةً يَرُوقُ [فِيهَا] صَافِيهَا وَلَهُمْ فِيهَا مَا يَدَّعُونَ {الذين هم في صلاتهم خاشعون} . نَزَلُوا وَاللَّهِ الْمَقَامَ الأَمِينَ , وَكُتِبُوا فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ , وَنَالُوا كُلَّ مُثَمَّنٍ ثَمِينٍ , وَأُسْكِنُوا الْقُصُورَ وَأُعْطُوا الْحُورَ الْعِينَ , كُلُّهَا أَبْكَارٌ لَيْسَ فِيهَا عُونٌ , قَدْ عُوِّضُوا عَنْ حَرِيقِ الْقَلَقِ الرَّحِيقَ , وَأُبْدِلُوا عَنْ بَرِيقِ السُّيُوفِ الأَبَارِيقَ , وَقُوبِلَتْ رِيَاضَتُهُمْ بِالرَّوْضِ الأَنِيقِ , فَهُمْ يَرْتَعُونَ فِيمَا يَرْبَعُونَ {الَّذِينَ هم في صلاتهم خاشعون} . إِخْوَانِي: تَوَانَيْتُمْ وَسَيْرُ الْقَوْمِ حَثِيثٌ , وَصَفَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِعْلُكْمُ كَدَرٌ خَبِيثٌ , وَنَصَحْنَاكُمْ وَلَكِنْ قَدْ ضَاعَ الْحَدِيثُ , وَمَا أَرَاكُمْ تَسْمَعُونَ {الَّذِينَ هُمْ فِي صلاتهم خاشعون} . [يَا رَبَّنَا وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ الْقَوْمَ , وَأَيْقِظْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَالنَّوْمِ , وَارْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَرْبَحُ فِيهِ الْعَامِلُونَ {الذين هم في صلاتهم خاشعون} وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

المجلس السابع والعشرون في قصة نبينا صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمره

المجلس السابع والعشرون فِي قِصَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ الْحَمْدُ للَّهِ قَاهِرِ الْمُتَجَبِّرِ وَمُذِلِّهِ , وَرَافِعِ الْمُتَوَاضِعِ وَمُجَلِّهِ , الْقَرِيبِ مِنْ عَبْدِهِ فَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ ظِلِّهِ , وَهُوَ عِنْدَ الْمُنْكَسِرِ لا جله حَالَ ذُلِّهِ , لا يَعْزُبُ عَنْ سَمْعِهِ وَقْعُ الْقَطْرِ فِي أَضْعَفِ طَلِّهِ , وَلا بُغَامُ ظَبْيِ الْبَرِّ وَكَشِيشُ صَلِّهِ , وَلا يَغِيبُ عَنْ بَصَرِهِ فِي الدُّجَى دَبِيبُ نَمْلِهِ , رَفَعَ مَنْ شَاءَ بِإِعْزَازِهِ كَمَا حَطَّ مَنْ شَاءَ بِذُلِّهِ , اخْتَارَ مُحَمَّدًا مِنَ الْخَلْقِ فَكَأَنَّ الْكُلَّ خُلِقُوا مِنْ أَجْلِهِ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحق ليظهره على الدين كله} . أحمده على أَجَلَّ الإِنْعَامِ وَأَقَلَّهُ , وَأَشْهَدُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ شَهَادَةَ مُصَدِّقِ قَوْلِهِ بِفِعْلِهِ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ لنقض الكفر وحله , فقام معجزه ينادي: {فائتوا بسورة من مثله} صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَاصِلِ حَبْلِهِ , وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي كَانَ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ , وَعَلَى عُثْمَانَ مُجَهِّزِ جيس الْعُسْرَةِ وَعَاقِدِ شَمْلِهِ , وَعَلَى عَلِيٍّ أَخِيهِ وَابْنِ عَمِّهِ وَمُقَدَّمِ أَهْلِهِ , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ صِنْوِ أَبِيهِ وَأَصْلِهِ. اللَّهُمَّ يَا مَنْ جَمِيعُ الْخَلائِقِ مُفْتَقِرُونَ إِلَى فَضْلِهِ , يَا مُنْعِمًا بِالْجَزِيلِ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ , سَامِحْ كُلا مِنَّا فِي جَدِّهِ وَهَزْلِهِ , وَارْزُقْنَا إِقْدَامَ شُجَاعٍ وَلِيَ الْعَدُوَّ وَجَمْعَهُ وَلَمْ يُولِهِ , وَارْحَمْنَا يَوْمَ يَذْهَلُ كُلُّ خَلِيلٍ عَنْ خِلِّهِ , وَانْفَعْنِي وَالْحَاضِرِينَ بِمَا اجتمعنا لأجله.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} . اعْلَمُوا أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصْطَفَى عَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ. صَانَ اللَّهُ أَبَاهُ مِنْ زَلَّةِ الزِّنَا. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ , أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ , أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيُّوَيْهِ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ , أَنْبَأَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ , أَنْبَأَنَا محمد بن سعد , أنبأنا محمد ابن عُمَرَ الأَسْلَمِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ , عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سَهْلٍ , عَنْ عِكْرِمَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَرَجْتُ مِنْ لَدُنِ آدَمَ مِنْ نِكَاحٍ غَيْرِ سِفَاحٍ ". قَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: لَمَّا حَمَلَتْ بِهِ آمِنَةُ قَالَتْ: مَا وَجَدْتُ لَهُ ثِقَلا. وَكَانَتْ وِلادَتُهُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْهُ. فَلَمَّا ظَهَرَ خَرَجَ مَعَهُ نُورٌ أَضَاءَ لَهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَتُوُفِّيَ أَبُوهُ وَهُوَ حَمْلٌ , فَخَلَفَ لَهُ خَمْسَةَ أَجْمَالٍ وَقِطْعَةَ غَنَمٍ وَأُمَّ أَيْمَنَ كَانَتْ تَحْضِنُهُ. وَمَاتَتْ أُمُّهُ وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ. وَكَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ , وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ وَأَوْصَى بِهِ أَبَا طَالِبٍ. وَكَانَ يُسَمَّى فِي صِغَرِهِ الأَمِينَ. وَكَانَتْ آيَاتُ النُّبُوَّةِ تَظْهَرُ عَلَيْهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ , فَكَانَ يَرَى النُّورَ وَالضَّوْءَ , وَلا يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلا شَجَرٍ إِلا قَالَ السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَقَالَ: " إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ , إِنِّي لأَعْرِفَهُ الآنَ ". ثُمَّ رُمِيَتِ الشَّيَاطِينُ بِالشُّهُبِ لِمَبْعَثِهِ. فَأَمَّا نَسَبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ: مُحَمَّدُ , بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , بن عبد المطلب , بن هاشم , ابن

عبد مناف , ابن قُصَيِّ , بْنِ كِلابِ , بْنِ مُرَّةَ , بْنِ كَعْبِ , بن لؤي , بن غالب , ابن فِهْرِ , بْنِ مَالِكِ , بْنِ النَّضْرِ , بْنِ كِنَانَةَ , بن خزيمة , من مدركة , ابن إلياس , ابن مُضَرَ , بْنِ نِزَارِ , بْنِ مَعْدِ , بْنِ عَدْنَانِ , بْنِ أُدَدِ , بْنِ الْهَمَيْسَعِ , بْنِ حَمَلِ , بْنِ النبت ابن قيدَارَ , بْنِ إِسْمَاعِيلَ , بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَاسْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُحَمَّدٌ , وَأَحْمَدُ , وَالْحَاشِرُ , وَالْمُقَفِّي , وَالْمَاحِي , وَالْخَاتِمُ , وَالْعَاقِبُ , وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ , وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ , وَنَبِيُّ الْمَلاحِمِ , وَالشَّاهِدُ وَالْبَشِيرُ , وَالنَّذِيرُ , وَالضَّحُوكُ وَالْقِتَالُ , وَالْمُتَوَكِّلُ , وَالْفَاتِحُ , وَالأَمِينُ , وَالْمُصْطَفَى , وَالرَّسُولُ , وَالأُمِّيُّ وَالْقُثَمُ. فَالْحَاشِرُ: الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ وَهُوَ يَقْدُمُهُمْ. وَالْمُقَفِّي آخِرُ الأَنْبِيَاءِ. وَكَذَلِكَ الْعَاقِبُ. وَالْمَلاحِمُ: الْحُرُوبُ. وَالضَّحُوكُ اسْمُهُ فِي التَّوْرَاةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ طَيِّبُ النَّفْسِ فَكِهًا. وَالْقُثَمُ مِنَ الْقَثْمِ وَهُوَ الإِعْطَاءُ , وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ. فَأَمَّا صِفَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فإنه كان رَبْعَةٌ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلا بِالْقَصِيرِ , أَزْهَرُ اللَّوْنِ , أَشْعَرُ , أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ , أَجْرَدُ ذُو مَسْرُبَةٍ. وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَأَصْدَقَهُمْ لَهْجَةً , وَأَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً , وَأَكْرَمَهُمْ عِشْرَةً. أَرْضَعَتْهُ ثُوَيْبَةُ مَوْلاةُ أَبِي لَهَبٍ أَيَّامًا ثم قدمت حليمة فأكملت رضاعته. تَزَوَّجَتْهُ خَدِيجَةُ وَلَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً , فَأَتَتْ مِنْهُ بِزَيْنَبَ وَرُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ وَفَاطِمَةَ وَالْقَاسِمِ وَالطَّاهِرِ وَالطَّيِّبِ. وَقِيلَ: وَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ فِي الإِسْلامِ , فَلُقِّبَ بِالطَّاهِرِ وَالطَّيِّبَ. وَوَلَدَتْ مَارِيَةُ إِبْرَاهِيمَ. وَبُعِثَ لأَرْبَعِينَ سَنَةً فَنَزَلَ الْمَلَكُ عَلَيْهِ بِحِرَاءٍ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ: وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ كَرِبَ [لَهُ] وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ وَعَرِقَ جَبِينُهُ. وَرُمِيَتِ الشَّيَاطِينُ بَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ مَبْعَثِهِ. وَبَقِيَ ثَلاثَ سِنِينَ يَسْتَتِرُ بِالنُّبُوَّةِ , ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ: {فَاصْدَعْ بما تؤمر}

فَأَعْلَنَ الدُّعَاءَ. وَلَقِيَ الشَّدَائِدَ مِنْ قَوْمِهِ وَهُوَ صابر. وأمر أصحابه أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَخَرَجُوا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَسِلا جَزُورٍ قَرِيبٌ منه , فأخذه عقبة ابن أَبِي مُعِيطٍ فَأَلْقَاهُ عَلَى ظَهْرِهِ , فَلَمْ يَزَلْ سَاجِدًا حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ. فَقَالَ حِينَئِذٍ: " اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْمَلإِ مِنْ قُرَيْشٍ ". وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ أَخَذَ يَوْمًا بِمَنْكِبِهِ وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا , فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَهُ عَنْهُ وَقَالَ: " أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ! ". فَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ بَعْدَهُ خَرَجَ إِلَى الطَّائِفِ , وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ , وَكَانَ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ يَخْرُجُ فَيَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ وَيَقُولُ: مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبْلِغَ كَلامَ رَبِّي! ثُمَّ أُسْرِيَ بِهِ فِي سنة ثنتي عَشْرَةَ مِنَ النُّبُوَّةِ , وَبَايَعَهُ أَهْلُ الْعَقَبَةِ , وَتَسَلَّلَ أَصْحَابُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ , ثُمَّ خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ فَأَقَامَا فِيهِ ثَلاثًا وَعَمِيَ أَمْرُهُمْ عَلَى قُرَيْشٍ. ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَتَلَقَّاهُ أَهْلُهَا بِالرَّحْبِ وَالسَّعَةِ , فَبَنَى مَسْجِدَهُ وَمَنْزِلَهُ. وَغَزَا سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزَاةً , قَاتَلَ مِنْهَا فِي تِسْعٍ: بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْمُرَيْسِيعِ وَالْخَنْدَقِ وَقُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ وَالْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ. وَبَعَثَ سِتًّا وَخَمْسِينَ سَرِيَّةً. وَمَا زَالَ يَلْطُفُ بِالْخَلْقِ وَيُرِيهِمُ الْمُعْجِزَاتِ , فَانْشَقَّ لَهُ الْقَمَرُ , وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ , وَحَنَّ إليه الجذع , وأخبر بالغايبات فَكَانَ كَمَا قَالَ. وَفُضِّلَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ , فَصَلَّى بِهِمْ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ , وَهُوَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِمْ يوم الشفاعة.

أَنْبَأَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ , أَنْبَأَنَا الدَّاوُدِيُّ , حَدَّثَنَا ابْنُ أَعْيَنَ , حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ , حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ , حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ , أَنْبَأَنَا سَيَّارٌ عَنْ يزيد الفقير , أنبأنا جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ , وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا , فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ , وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلُّ لأَحَدٍ قَبْلِي , وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ , وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَنَّا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَأَنَا أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ ". وَفِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ , وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ". أَنْبَأَنَا الْكَرُوخِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو عَامِرٍ الأَزْدِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْغُورَجِيُّ , أَنْبَأَنَا الْجَرَّاحِيُّ , حَدَّثَنَا الْمَحْبُوبِيُّ , حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ , حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الْكُوفِيُّ , حدثنا عبد السلام ابن حَرْبٍ , عَنْ لَيْثِ بْنِ الرَّبِيعِ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا , وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا , وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا , لِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي , وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلا فَخْرَ ". قَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: أَرَادَ لا أتبجح بهذه الأوصاف , لكن أَقُولُهَا شُكْرًا وَمُنَبِّهًا عَلَى إِنْعَامِ رَبِّي عَلَيَّ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي ".

أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ , أَنْبَأَنَا الْقَطِيعِيُّ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى بُيُوتًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا وَأَجْمَلَهَا إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا , فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيُعْجِبُهُمُ الْبُنْيَانُ فَيَقُولُونَ: ألا وضعت ها هنا لَبِنَةً فَيَتِمُّ بُنْيَانَكَ؟ فَكُنْتُ أَنَا اللَّبِنَةُ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ حَتَّى تَتَفَطَّرُ قَدَمَاهُ. قَالَتْ. وَكَانَ ضِجَاعُهُ الَّذِي كَانَ يَنَامُ عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوًّا لِيفًا. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم ثلاثة أياماً تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ حِنْطَةٍ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ دَقَلا يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي , أَنْبَأَنَا الْجَوْهِرَيُّ , أَنْبَأَنَا ابْنُ حَيُّوَيْهِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ , أَنْبَأَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ , أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ , حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ فَاطِمَةَ جَاءَتْ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ؟ قَالَتْ: قُرْصٌ خَبَزْتُهُ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُكَ مِنْهُ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ. فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيكَ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ , عَنْ أَبِي بُرْدَةَ , قَالَ: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً مُلَبَّدًا وَإِزَارًا غَلِيظًا فَقَالَتْ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَيْنِ.

الكلام على البسملة

أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. مَا ضَرَّهُ مِنَ الدُّنْيَا مَا فَاتَ , وَهُوَ سَيِّدُ الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ". وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ , وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ خَطِيئَاتٍ ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبْلِغُونِي مِنْ أُمَّتِيَ السَّلامَ ". فَالْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ أُمَّتِهِ وَحَشَرَنَا اللَّهُ عَلَى كِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (عَجِبْتُ لِحُرِّ النَّفْسِ كَيْفَ يُضَامُ ... وَحُرٌّ يَخَافُ الْعَتْبَ وَهُوَ يَنَامُ) (وَرَاضٍ بِأَوْسَاطِ الأُمُورِ تَقَاعُدًا ... وَفِيهِ إِلَى غَايَاتِهِنَّ قِيَامُ) (يُسَمُّونَ عَيْشًا فِي الْخُمُولِ سَلامَةً ... وَصِحَّةُ أَيَّامِ الْخُمُولِ سِقَامُ) (وَيَسْتَبْعِدُونَ الرِّزْقَ طَالَتْ بِهِ يَدٌ ... إِذَا أَسْمَنَ الأَجْسَامَ وَهُوَ سِمَامُ) (جَزَى اللَّهُ خَيْرًا عَارِفًا بِزَمَانِهِ ... تَجَارِبُهُ قَدْ شِبْنَ وَهُوَ غُلامُ) (دَعِ النَّاسَ فِيمَا أَجْمَعُوا بَعْضَ وَاحِدٍ ... فَنَقْصُكَ مِمَّا لا يُعَدُّ تَمَامُ) أَلا قَرِينَ عَزْمٍ يُبَادِرُ , أَلا خَدِينَ حَزْمٍ يُحَاذِرُ , أَلا شَرِيفَ الْهِمَّةِ يَأْنَفُ , أَلا مُتَجَافٍ عَنِ الرَّذَائِلِ يَتَجَانَفُ. إِخْوَانِي: الدُّنْيَا دَارُ قَلْعَةٍ لا حِصْنُ قَلْعَةٍ , فَرَحُهَا يَحُولُ وَتَرَحُهَا يَطُولُ , لَوْ صَحَّتْ فِكْرَةُ عُشَّاقِهَا فِي مَقَابِحِ أَخْلاقِهَا لَرَفَضُوهَا لِعُيُوبِهَا وَهَجَرُوهَا لِذُنُوبِهَا , وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا عَيْبَ عَيْبِهَا وَلَمْ يَعْلَمُوا خِضَابَ شَيْبِهَا. (تُبْتُ إِلَى خَالِقِي أَفِرُّ مِنَ الدُّنْيَا ... وَإِنِّي بِهَا لمغتر)

(تَضْحَكُ لِي خَدِعَةً لأَتْبَعَهَا ... وَهْيَ عَنِ الْمُوبِقَاتِ تَفْتَرُّ) مَنْ نَزَلَ بِسَاحَةِ الْقَنَاعَةِ ذَاقَ حَلاوَةَ الْغِنَى , مَنْ قَرَعَ بِأَنَامِلِ التَّفَكُّرِ بَابَ الْحُزْنِ فُتِحَ لَهُ عَنْ رِيَاضِ الأُنْسِ , مُرَاعَاةُ الأَسْرَارِ مِنْ عَلامَاتِ التَّيَقُّظِ , لِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحٌ وَمِفْتَاحُ الْحِكْمَةِ طَرْدُ الْهَوَى. إِخْوَانِي: فِيكُمْ مَنْ يَتْرُكُ مَا يَهْوَى لِمَا يَأْمُلُ؟ (وَحَتْمٌ قِسْمَةُ الأَرْزَاقِ فِينَا ... وَإِنْ ضَعُفَ الْيَقِينُ مِنَ الْقُلُوبِ) (وَكَمْ من طالب رزقاً بعيداً ... أتاه الرزق من أَمْرٍ قَرِيبِ) (فَأَجْمَلَ فِي الطِّلابِ وَكُنْ رَفِيقًا ... بِنَفْسِكَ فِي مُعَالَجَةِ الْخُطُوبِ) (فَمَا الإِنْسَانُ إِلا مِثْلُ شِلْوٍ ... تَوَاكَلُهُ النَّوَائِبُ بِالنُّيُوبِ) (فَغِرْبَانُ الْمَنِيَّةِ إِنْ نَعَتْهَا ... فَلَيْسَ بِفَائِتٍ رَجْمُ الْمَشِيبِ) قَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَكَ فِي الْمَالِ شُرَكَاءُ ثَلاثَةٌ: الْقَدَرُ لا يَسْتَأْمِرُكَ أَنْ يَذْهَبَ بِخَيْرٍ أَوْ شر من هلاك أوموت , وَالْوَارِثُ يَنْتَظِرُ أَنْ تَضَعَ رَأْسَكَ ثُمَّ يَسْتَاقُهُ وَأَنْتَ ذَمِيمٌ , وَأَنْتَ الثَّالِثُ , فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لا تَكُونَ أَعْجَزَ الثَّلاثَةِ فَلا تَكُنْ! قَالَ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدَةَ: لَوْلا لَهَبٌ مِنَ الْحِرْصِ يَنْشَأُ فِي الْقُلُوبِ لا يَمْلِكُ الاعْتِبَار أطفأ توقده , مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا عِوَضٌ مِنْ يَوْمٍ يَضِيعُ فِيهَا يُمْكِنُ فِيهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. (الرَّأْيُ أَخْذُكَ بِالْحَزَامَةِ فِي الَّذِي ... تَبْغِي فَقَصْرُكَ مِيتَةٌ وَذَهَابُ) (غَلَبَ الْفَسَادُ عَلَى الْعُقُولِ فَكَذَّبَتْ ... صِدْقَ الأَنَامِ وَصُدِّقَ الْكَذَّابُ) (ضَرَبُوا الْجَمَاجِمَ بِالسُّيُوفِ عَلَى الَّذِي ... يَفْنَى وَطَالَ عَنِ الْهَوَى الإِضْرَابُ) (وَتَغُرُّنَا آمَالُنَا فَنَخَالُهَا ... مَاءً يَمُوجُ وَكُلُّهُنَّ سَرَابُ) يَا نَاسِيًا مَهْلا عَنْ قَلِيلٍ حَادِثٍ , حَادِثْ قَلْبَكَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْكَ حَادِثٌ , يَا رَاحِلا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُقِيمٌ لابِثٌ , يَا نَائِمًا قَدْ أَزْعَجَتْهُ الْمُقْلِقَاتُ الْبَوَاعِثُ , يَا لاعِبًا وَاللَّيَالِي فِي سَيْرِهِ حَثَائِثُ , يَا سَاهِيًا قَدْ عَلِقَتْ بِهِ بَرَاثِنُ الْمَوْتِ الضَّوَابِثُ ,

يَا مُعْجَبًا بِزَخَارِفَ فِي ضِمْنِهَا الْحَوَادِثُ , يَا مقبلاً على سحار مِنَ الْهَوَى نَافِثٍ , يَا مَخْمُورًا بِالْمُنَى الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ , يَا مَطْلُوبًا بِالْجِدِّ وَفِعْلُهُ فِعْلُ عابث , يا حريصاً على المال ماله حَظُّ وَارِثٍ , إِيَّاكَ وَالدُّنْيَا فَإِنَّ حَلِفَهَا حَلِفُ حَانِثٍ , لا تَسْمَعَنَّ قَوْلَهَا فَالْعَزْمُ عَزْمُ نَاكِثٍ. (قَدْ أَصْبَحَتْ وَنُعَاتُهَا نُعَّاتُهَا ... وَكَذَلِكَ الدُّنْيَا تَخِيبُ سُعَاتُهَا) (كَدَّارَةٌ أَحْزَانُهَا ضَرَّارَةٌ ... أَشْجَانُهَا مَرَّارَةٌ سَاعَاتُهَا) (فَمَتَى يُنَبَّهُ مِنْ رُقَادٍ مُهْلِكٍ ... مَنْ قَدْ أَضَرَّ بِعَيْنِهِ هَجَعَاتُهَا) (مَنْ يَغْتَبِطْ بِمَعِيشَةٍ وَأَمَامَهُ ... نُوَبٌ تُطِيلُ عَنَاءَهُ فَجَعَاتُهَا) (وَإِذَا رَجَعْتَ إِلَى النُّهَى فَذَوَاهِبُ الأَيَّامِ ... غَيْرَ مُؤَمَّلٍ رَجَعَاتُهَا) (أَوَمَا تَفِيقُ مِنَ الْغَرَامِ بِعَارِكٍ ... مَشْهُورَةٍ مَعَ غَيْرِنَا وَقَعَاتُهَا) يَا مَنْ عُمْرُهُ كُلَّمَا زَادَ نَقَصَ , يَا مَنْ يَأْمَنُ الْمَوْتَ وَكَمْ قَدْ قَنَصَ , يَا مَائِلا إِلَى الدُّنْيَا هَلْ سَلِمْتَ مِنْ نغص , يا مُفَرِّطًا فِي الْوَقْتِ هَلا بَادَرْتَ الْفُرَصَ. يَا مَنْ إِذَا ارْتَقَى فِي سُلَّمِ الْهُدَى فَلاحَ لَهُ الْهَوَى نَكَصَ , مَنْ لَكَ يَوْمَ الْحَشْرِ إِذَا نُشِرَتِ الْقِصَصُ , ذُنُوبُكَ كَثِيرَةٌ جَمَّةٌ , وَنَفْسُكَ بِغَيْرِ الصَّلاحِ مُهْتَمَّةٌ , وَأَنْتَ فِي الْمَعَاصِي إِمَامٌ وَأُمَّةٌ , يَا مَنْ إِذَا طُلِبَ فِي الْمُتَّقِينَ لَمْ يُوجَدْ ثَمَّةَ , يَا مَنْ سَيَلْحَقُ فِي مَصْرَعِهِ , وَإِنْ أَبَاهُ , أَبَاهُ وَأُمَّهُ , مَتَى تَنْقَشِعُ هَذِهِ الظُّلْمَةُ وَالْغُمَّةُ , مَتَى تَنْشَقُّ أَكَمَةُ أَكْمَهٍ ذِي كَمَهٍ , يَا مَنْ قَدْ أَعْمَاهُ الْهَوَى ثُمَّ أَصَمَّهُ , يَا مَنْ لا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَدِيحِ وَالْمَذَمَّةِ , يَا مَنْ بَاعَ فَرَحَهُ ثُمَّ اشْتَرَى غَمَّهُ؟ يَا عَقْلا خَرِبًا يَحْتَاجُ إِلَى مَرَمَّةٍ. (يَا آدَمِيُّ أَتْدِري مَا مُنِّيتَ بِهِ ... أَمْ دُونَ ذِهْنِكَ سِتْرٌ لَيْسَ يَنْجَابُ) (يَوْمٌ وَيَوْمٌ وَيَفْنَى الْعُمْرُ مُنْطَوِيًا ... عَامٌ جَدِيبٌ وَعَامٌ فِيهِ إِخْصَابُ) غَيْرُهُ: (فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيَا بِزُخْرُفِهَا ... فَأَرِيهَا إِنْ بَلاهَا غَافِلٌ صَابُ) (وَالْحَزْمُ يَجْنِي أُمُورًا كُلُّهَا شَرَفٌ ... وَالْحِرْصُ يَجْنِي أُمُورًا كُلُّهَا عاب)

الكلام على قوله تعالى

الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِذَا ذُكِرَتْ عَظَمَتُهُ وَقُدْرَتُهُ وَمَا خُوِّفَ بِهِ مَنْ عَصَاهُ فَزِعَتْ قُلُوبُهُمْ. يقال: وجل يوجل وياجل وييحل وَيِيجَلُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَنْزِعُ عَنْهَا. كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِنَّ للَّهِ عِبَادًا كَمَنْ رَأَى أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ , يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى. وَكَانَ سُمَيْطٌ يَقُولُ: أَتَاهُمْ مِنَ اللَّهِ وَعِيدٌ وَقَذَهُمْ فَنَامُوا عَلَى خَوْفٍ وَأَكَلُوا عَلَى تَنْغِيصٍ. وَقَالَ سَرِيٌّ: أَكْلُهُمْ أَكْلُ الْمَرْضَى وَنَوْمُهُمْ نَوْمُ الْفُرْقَى. قَالَ أَبُو طَارِقٍ: شَهِدْتُ ثَلاثِينَ رَجُلا مَاتُوا فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ يَمْشُونَ بِأَرْجُلِهِمْ صِحَاحًا إِلَى الْمَجْلِسِ وَأَجْوَافُهُمْ قَرِيحَةٌ , فَإِذَا سَمِعُوا الْمَوْعِظَةَ تَصَدَّعَتْ قُلُوبُهُمْ فَمَاتُوا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْخَوْفُ يَمْنَعُنِي مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَمَا أَشْتَهِيهِ. وَقِيلَ: صَلَّى زُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى بِالنَّاسِ فَقَرَأَ " الْمُدَّثِّرَ " فَلَمَّا بَلَغَ: {فَإِذَا نُقِرَ في الناقور} خَرَّ مَيِّتًا. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ يَذْكُرُ وَأَبُو وَائِلٍ يَنَتْفِضُ انْتِفَاضَ الطَّيْرِ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: لَمَّا أَتَى ذُو الْقَرْنَيْنِ السَّدَّ قَالَ: دُلُّونِي عَلَى أَعْبَدِ رَجُلٍ فِيكُمْ. فَقَالُوا: فِي هَذَا الْوَادِي رَجُلٌ يَبْكِي حَتَّى نَبَتَ مِنْ دُمُوعِهِ الشَّجَرُ. فَهَبَطَ الْوَادِيَ فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ سَاجِدًا وهو يقول: إلهي اقبض روحي في الأوراح

وَادْفِنْ جَسَدِي فِي التُّرَابِ , وَاتْرُكْنِي هَمَلا لا تَبْعَثْنِي يَوْمَ الْحِسَابِ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: رَأَيْتُ جُوَيْرِيَةَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَتَقُولُ: يَا رَبِّ كَمْ مِنْ شَهْوَةٍ , ذَهَبَتْ لَذَّتُهَا وَبَقِيَتْ تَبِعَتُهَا! يَا رَبِّ مَا كَانَ لَكَ عُقُوبَةٌ إِلا بِالنَّارِ؟! فَمَا زَالَتْ كَذَلِكَ إِلَى الصَّبَاحِ. يَا عجباً تَنَامُ عَيْنٌ مَعَ مَخَافَةٍ , أَمْ كَيْفَ تَلْهُو نفس مع ذِكْرِ الْمُحَاسَبَةِ. كَانَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ يَقُولُ: فِي ظلام الليل همك عطل على الهموم , وحالف بَيْنِي وَبَيْنَ السُّهَادِ , فَأَنَا فِي سَجْنِكَ أَيُّهَا الْكَرِيمُ مَطْلُوبٌ. وَقِيلَ: كَانَ عُتْبَةُ الْغُلامُ طَوِيلَ الْبُكَاءِ فَقِيلَ لَهُ: ارْفُقْ بِنَفْسِكَ. فَقَالَ: إِنَّمَا أَبْكِي عَلَى تَقْصِيرِي. وَقِيلَ لِعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ: مَا نَفْهَمُ كَلامَكَ مِنْ بُكَاءِ عُتْبَةَ فَقَالَ: أَيَبْكِي عُتْبَةُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَنْهَاهُ أَنَا؟! لَبِئْسَ وَاعِظُ قَوْمٍ. وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ مَرْثَدٍ دَائِمَ الْبُكَاءِ فَكَانَتْ زَوْجَتُهُ تَقُولُ: وَيْحِي مَا خُصِصْتُ بِهِ مِنْ طُولِ الْحُزْنِ مَعَكَ مَا تَقَرُّ لِي عَيْنٌ. (مَا كَانَ يَقْرَأُ وَاشٍ سَطْرَ كِتْمَانِي ... لَوْ أَنَّ دَمْعِي لَمْ يَنْطِقْ بِتِبْيَانِ) (مَاءٌ وَلَكِنَّهُ ذَوْبُ الْهُمُومِ وَهَلْ ... مَاءٌ يولده نيران أحزاني) (ليت النوى إذ سَقَتْنِي سُمَّ أَسْوَدِهَا ... سَدَّتْ سَبِيلَ امْرِئٍ فِي الْحُبِّ يَلْحَانِي) (قَدْ قُلْتُ بِالْجَزَعِ لَمَّا أَنْكَرُوا جَزَعِي ... مَا أَبْعَدَ الصَّبْرَ مِمَّنْ شَوْقُهُ دَانِي) (عُجْنَا عَلَى الرَّبْعِ نَسْتَسِقي لَهُ مَطَرًا ... فَفَاضَ دَمْعِي فَأَرْوَاهُ وَأَظْمَانِي) لَمَّا خَفِيَتِ الْعَوَاقِبُ عَلَى الْمُتَّقِينَ فَزِعُوا إِلَى الْقَلَقِ وَاسْتَرَاحُوا إِلَى الْبُكَاءِ. قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: وَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذِنَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا وَقَفْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْ أَسْجُدَ سَجْدَةً فَأَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنِّي ثُمَّ يَقُولُ يَا مَالِكُ كُنْ تُرَابًا.

(قَدْ أَوْبَقَتْنِي ذُنُوبٌ لَسْتُ أَحْصُرُهَا ... فَاجْعَلْ تَغَمُّدَهَا مِنْ بَعْضِ إِحْسَانِكْ) (وَارْفُقْ بِنَفْسِي يَا ذَا الْجُودِ إِنْ جَهِلَتْ ... مِقْدَارَ زَلَّتِهَا مِقْدَارَ غُفْرَانِكْ) أَعْقَلُ النَّاسِ مُحْسِنٌ خَائِفٌ , وَأَحْمَقُ النَّاسِ مُسِيءٌ آمِنٌ. كَانَ بِشْرٌ الْحَافِي لا يَنَامُ اللَّيْلَ وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَأَنَا نَائِمٌ. (وَكُلَّمَا هَمَّ بِذَوْقِ الْكَرَى ... صَاحَ بِهِ الْهِجْرَانُ قُمْ لا تَنَمْ) ذَكَرَتْ نُفُوسُ الْقَوْمِ الْعَذَابَ فَأَنَّتْ , وَتَفَكَّرَتْ فِي شِدَّةِ الْعِتَابِ فَأَرَنَّتْ , تَذَكَرَّتْ مَا جَنَتْ مِمَّا تَجَنَّتْ فَجُنَّتْ , أَزْعَجَهَا الْحَذَرُ وَلَوْلا الرَّجَاءُ مَا اطْمَأَنَّتْ. آهٍ لِنَفْسٍ ضَنَّتْ بِمَا بَذَلُوهُ , ثُمَّ رَجَتْ مَا نَالُوهُ , بِئْسَ مَا ظَنَّتْ , مَا نَفْسٌ سَابَقَتْ كَنَفْسٍ تَأَنَّتْ. (طَرِبْتُ لِذِكْرَى مِنْكَ هَزَّتْ جَوَانِحِي ... كَمَا يُطْرِبُ النَّشْوَانَ كَأْسُ مُدَامِ) (وَمَا ذَكَرَتْكَ النَّفْسُ إلا أصابها ... كلذع ضرام أو كوخز سِهَامِ) (وَإِنَّ حَدِيثًا مِنْكَ أَحْلَى مَذَاقُهُ ... مِنَ الشَّهْدِ مَمْزُوجًا بِمَاءٍ غَمَامِ) كَيْفَ لا يَخَافُ مَنْ قَلْبُهُ بِيَدِ الْمُقلِّبِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ عمي يَسْلَمُ , مَنْ ظَنَّ أَنَّ برصِيصَا يَكْفُرُ , رُبَّ غَرْسٍ مِنَ الْمُنَى أَثْمَرَ , وَكَمْ مِنْ مُسْتَحْصَدٍ تَلِفَ , كَرَّةُ الْقَلْبِ بِحُكْمِ صَوْلَجَانِ التَّقْلِيبِ , إِنْ وَقَفَتِ الْكَرَّةُ طُرِدَتْ وَإِنْ بَعُدَتْ طُلِبَتْ , لِيَبِينَ سِرٌّ , لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لاعْتَدَلا , نادى نادي البعد ألا {تقنطوا} ويقال للمذنبين {ويحذركم الله نفسه} لَمَّا قُرِّبَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ اهْتَزَّتِ الْمَلائِكَةُ فَخْرًا بِقُرْبِ جِنْسِهَا مِنْ جَنَابِ الْعِزَّةِ , فَقَطَعَ مِنْ أَغْصَانِهَا شَجَرَةَ هَارُوتَ , وَكَسَرَ غُصْنَ مَارُوتَ , وَأَخَذَ من لبها كرة {وإن عليك لعنتي} فَتَزَوَّدَتْ فِي سَفَرِ الْعُبُودِيَّةِ زَادَ الْحَذَرِ , وَقَادَتْ فِي سَبِيلِ مَعْرُوفِهَا نُجُبَ التَّطَوُّعِ لِلْمُنْقَطِعِينَ {وَيَسْتَغْفِرُونَ لمن في الأرض} . نُودِيَ مِنْ نَادِي الإِفْضَالِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فله عشر أمثالها} فسارت

نَجَائِبُ الأَعْمَالُ إِلَى بَابِ الْجَزَاءِ , فَصِيحَ بِالدَّلِيلِ: {لولا أن ثبتناك} فَقَالَ: {مَا مِنْكُمْ مَنْ يُنَجِّيهِ عَمَلُهُ} . رَحِمَ اللَّهُ أَعْظُمًا طَالَمَا نَصِبَتْ وَانْتَصَبَتْ , جَنَّ عَلَيْهَا الليل فلما تمكن وثبت وثبت , إِنْ ذَكَرَتْ عَدْلَهُ ذَهَبَتْ وَهَرَبَتْ , وَإِنْ تَصَوَّرَتْ فَضْلَهُ فَرِحَتْ وَطَرِبَتْ , اعْتَرَفَتْ إِذْ نَبَتْ عَنْ طَاعَتِهِ أَنَّهَا قَدْ أَذْنَبَتْ , وَقَفَتْ شَاكِرَةً لِمَنْ لَحْمُهَا عَلَى جُودِهِ نَبَتَ , هَبَّتْ عَلَى أَرْضِ الْقُلُوبِ عَقِيمُ الْحَذَرِ فَاقْشَعَرَّتْ وَنَدَبَتْ , فَبَكَتْ عَلَيْهَا سَحَائِبُ الرَّجَاءِ فَاهْتَزَّتْ وَرَبَتْ. بِحَسْبِكَ أَنَّ قَوْمًا مَوْتَى تَحْيَا بِذِكْرِهِمُ النُّفُوسُ , وَأَنَّ قَوْمًا أَحْيَاءَ تَقْسُو بِرُؤْيَتِهِمُ الْقُلُوبُ! رَحَلَ الْقَوْمُ وَبَقِيَتِ الآثَارُ فِي الآثَارِ , سَأَلُوا طُلُولَ التَّعَبُّدِ عَنْهُمْ فَقَالَتْ خَلَتِ الدِّيَارُ. (إِذَا دَمْعِي شَكَا الْبَيْنَ بَيْنَهَا ... شَكَا غَيْرُ ذِي نُطْقٍ إِلَى غَيْرِ ذِي فَهْمِ) جَالَ الْفِكْرُ فِي قُلُوبِهِمْ فَلاحَ صَوَابُهُمْ , وذكروا التوفيق فمحا التذكر إعجابهم , وما دوا لِلْمَخَافَةِ فَأَصْبَحَتْ دُمُوعُهُمْ شَرَابَهُمْ , وَتَرَنَّمُوا بِالْقُرْآنِ فَأَمْسَى مِزْهَرَهُمْ وَرَبَابَهُمْ , وَكُلِّفُوا بِطَاعَةِ الإِلَهِ فَأَلِفُوا مِحْرَابَهُمْ , وَخَدَّمُوهُ مُبْتَذِلِينَ فِي خِدْمَتِهِ شَبَابَهُمْ , فَيَا حُسْنَهُمْ وَرِيحُ الأَسْحَارِ قَدْ حَرَّكَتْ أَثْوَابَهُمْ , وَحَمَلَتْ قَصِيصَ الْقِصَصِ ثُمَّ رَدَّتْ جَوَابَهُمْ. (نَسِيمَ الصَّبَا إِنْ زُرْتَ أَرْضَ أَحِبَّتِي ... فَخُصَّهُمْ عَنِّي بِكُلِّ سَلامِ) (وَبَلِّغْهُمْ أَنِّي رَهِينُ صَبَابَةٍ ... وَأَنَّ غَرَامِي فَوْقَ كُلِّ غَرَامِ) (وَأَنِّي لَيَكْفِينِي طُرُوقُ خَيَالِهِمْ ... لَوْ أَنَّ جُفُونِي مُتِّعَتْ بِمَنَامِ) (وَلَسْتُ أُبَالِي بِالْجِنَانِ وَبِاللَّظَى ... إِذَا كَانَ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ مَقَامِي) (وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ دَهْرِي كُلِّهَا ... وَيَوْمُ لِقَاكُمْ ذَاكَ فِطْرُ صِيَامِي) لا يَطْمَعَنَّ الْبَطَّالُ فِي مَنَازِلِ الأَبْطَالِ , إِنَّ لَذَّةَ الرَّاحَةِ لا تُنَالُ بِالرَّاحَةِ , مَنْ

سجع على قوله تعالى

زَرَعَ حَصَدَ وَمَنْ جَدَّ وَجَدَ. (وَكَيْفَ يُنَالُ الْمَجْدُ وَالْجِسْمُ وَادِعٌ ... وَكَيْفَ يُجَاءُ الْحَمْدُ وَالْوَفْرُ وَافِرُ) أَيُّ مَطْلُوبٍ نِيلَ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ , وَأَيُّ مَرْغُوبٍ لَمْ تَبْعُدْ عَلَى طَالِبِهِ الشُّقَّةُ , الْمَالُ لا يُحَصَّلُ إِلا بِالتَّعَبِ , وَالْعِلْمُ لا يُدْرَكُ إِلا بِالنَّصَبِ , وَاسْمُ الْجَوَادِ لا يَنَالُهُ بَخِيلٌ , وَلَقَبُ الشُّجَاعِ [لا يَحْصُلُ إِلا] بَعْدَ تَعَبٍ طَوِيلٍ. (لا يُدْرِكُ الْمَجْدَ إِلا سَيِّدٌ فَطِنٌ ... لِمَا يَشُقُّ عَلَى السَّادَاتِ فَعَّالُ) . (أَمْضَى الْفَرِيقَيْنِ فِي أَقْرَانِهِ ظُبَةً ... وَالْبِيضُ هَادِيَةٌ وَالسُّمْرُ ضُلَّالُ) (يُرِيكَ مَخْبَرُهُ أَضْعَافَ مَنْظَرِهِ ... بَيْنَ الرِّجَالِ فَفِيهَا الْمَاءُ وَالآلُ) (لَوْلا الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ ... الْجُودُ يُفْقِرُ وَالإِقْدَامُ قَتَّالُ) (وَإِنَّمَا يَبْلُغُ الإِنْسَانُ طَاقَتُهُ ... مَا كُلُّ مَاشِيَةٍ بِالرَّحْلِ شِمْلالُ) (إِنَّا لَفِي زَمَنٍ تَرْكُ الْقَبِيحِ بِهِ ... مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ إِحْسَانٌ وَإِجْمَالُ) (ذِكْرُ الْفَتَى عُمْرُهُ الثاني وحاجته ... ما فاته وَفُضُولُ الْعَيْشِ أَشْغَالُ) سُبْحَانَ مَنْ أَيْقَظَ الْمُتَّقِينَ وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ خِلَعَ الْيَقِينِ , وَأَلْحَقَهُمْ بِتَوْفِيقِهِ بِالسَّابِقِينَ , فَبَاتُوا فِي جِلْبَابِ الْجِدِّ مُتَسَابِقِينَ. سَجْعٌ عَلَى قوله تعالى {وجلت قلوبهم} كُلَّمَا أَذْهَبَ الأَعْمَارَ طُلُوعُهُمْ وَغُرُوبُهُمْ , سَالَتْ مِنَ الأَجْفَانِ جَزَعًا غُرُوبُهُمْ , وَكُلَّمَا لاحَتْ لَهُمْ فِي مِرْآةِ الْفِكْرِ ذُنُوبُهُمْ تَجَافَتْ عَنِ الْمَضَاجِعِ خَوْفًا جُنُوبُهُمْ , وَكُلَّمَا نَظَرُوا فَسَاءَهُمْ مَكْتُوبُهُمْ {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} . دُمُوعُهُمْ عَلَى الدَّوَامِ تَجْرِي , وَعِزَّتِي: لأُرْبِحَنَّهُمْ فِي مُعَامَلَتِي وَتَجْرِي , عَظُمَتْ قُدْرَتِي فِي صُدُورِهِمْ وَقَدْرِي , فَاسْتَعَاذُوا بِوَصْلِي مِنْ هَجْرِي , عَامَلُوا مُعَامَلَةَ مَنْ يَفَهْمُ وَيَدْرِي , فَنَوْمُهُمْ عَلَى فِرَاشِ الْقَلَقِ وَهُبُوبُهُمْ {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}

أَمْوَاتٌ عَنِ الدُّنْيَا مَا دُفِنُوا , أَغْمَضُوا عَنْهَا عُيُونَهُمْ وَحَزِنُوا , وَلَوْ فَتَحُوا أَجْفَانَ الشَّرَهِ لَفُتِنُوا , بَاعُوهَا بِمَا يَبْقَى فَلا وَاللَّهِ مَا غُبِنُوا , تَاللَّهِ لَقَدْ حَصَلَ مَطْلُوبُهُمْ {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وجلت قلوبهم} . حَبَسُوا النُّفُوسَ فِي سِجْنِ الْمُحَاسَبَةِ , وَبَسَطُوا عَلَيْهَا أَلْسُنَ الْمُعَاتَبَةِ , وَمَدُّوا نَحْوَهَا أَكُفَّ الْمُعَاقَبَةِ , وَتَحِقُّ لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُنَاقَشَةِ وَالْمُطَالَبَةِ , فَارْتَفَعَتْ بِالْمُعَاتَبَةِ عيوبهم {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} . شَاهَدُوا الأُخْرَى بِالْيَقِينِ كَرَأْيِ الْعَيْنِ , فَبَاعُوا الْعَقَارَ وَأَخْرَجُوا الْعِينَ , وَعَلِمُوا بِمُقْتَضَى الدِّينِ أَنَّ التُّقَى دَيْنٌ , فَدُنْيَاهُمْ خَرَابٌ وَأُخْرَاهُمْ عَلَى الزَّيْنِ , قَدْ قَنَعُوا بِكِسْرَتَيْنِ وَجَرْعَتَيْنِ , هَذَا مَأْكُولُهُمْ وَهَذَا مَشْرُوبُهُمْ {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} . والحمد لله وحده.

المجلس الثامن والعشرون في فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

المجلس الثامن والعشرون فِي فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَحْكَمَ بِحِكْمَتِهِ مَا فَطَرَ وَبَنَى وَقَرُبَ مِنْ خَلْقِهِ بِرَحْمَتِهِ وَدَنَا , وَرَضِيَ الشُّكْرَ مِنْ بَرِّيَّتِهِ لِنِعْمَتِهِ ثَمَنًا , وَأَمَرَنَا بِخِدْمَتِهِ لا لِحَاجَتِهِ بَلْ لَنَا , يَغْفِرُ الْخَطَايَا لِمَنْ أَسَا وَجَنَا , وَيُجْزِلُ الْعَطَايَا لِمَنْ كَانَ مُحْسِنًا , بَيَّنَ لِقَاصِدِيهِ سَبِيلا , وَسُنَنًا وَوَهَبَ لِعَابِدِيهِ جَزِيلا يُقْتَنَى , وَأَثَابَ حَامِدِيهِ أَلَذَّ مَا يُجْتَنَى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} . أَحْمَدُهُ مُسِرًّا لِلْحَمْدِ وَمُعْلِنًا , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ مَنْ تَرَدَّدَ بَيْنَ جَمْعٍ وَمِنًى , وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الْمُتَخَلِّلِ بِالْعَبَا رَاضِيًا بالعنا , وهو الذي أراد بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَعَنَى {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الغار إذ قول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} وَعَلَى عُمَرَ الْمُجِدِّ فِي عِمَارَةِ الإِسْلامِ فَمَا وَنَى , وَعَلَى عُثْمَانَ الرَّاضِي بِالْقَدَرِ وَقَدْ دَخَلَ بِالْفِنَاءِ الْفَنَا , وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي إِذَا بَالَغْنَا فِي مَدْحِهِ فَالْفَخْرُ لَنَا , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي أَسَّسَ اللَّهُ قَاعِدَةَ الْخِلافَةِ لِبَنِيهِ وَبَنَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} إِلا تَنْصُرُوهُ بِالنَّفِيرِ مَعَهُ {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} أي أعانه على أعدائه {إذا أخرجه الذين كفروا} أَيِ اضْطَرُّوهُ إِلَى الْخُرُوجِ بِقَصْدِهِمْ إِهْلاكَهُ {ثَانِيَ اثنين} قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ أَحَدَ اثْنَيْنِ , أَيْ نَصَرَهُ مُنْفَرِدًا إِلا مِنْ أَبِي بَكْرٍ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّعْبِيِّ: عَاتَبَ اللَّهُ أَهْلَ الأَرْضِ جَمِيعًا فِي هَذِهِ الآيَةِ غَيْرَ أبي بكر.

فَأَمَّا الْغَارُ فَهُوَ النُّقْبُ فِي الْجَبَلِ. وَهَذَا الْغَارُ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ بِمَكَّةَ , وَكَانَ الْمُشْرِكِونَ يُؤْذُونَ الْمُسْلِمِينَ , فَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَلْحَقَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي. ثُمَّ خَرَجَا إِلَى الْغَارِ فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَشُقُّ ثَوْبَهُ وَيَسُدُّ الأَثْقَابَ , فَبَقِيَ ثُقْبٌ فَسَدَّهُ بِعَقِبِهِ. فَمَكَثَا ثَلاثَ لَيَالٍ فِي الْغَارِ , فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ تَطْلُبُ الآثَارَ , فَلَمَّا مَرُّوا بِالْغَارِ رَأَوْا نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالُوا: لو دخل ها هنا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى الْبَابِ. وَقَالَ أنس ابن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى شَجَرَةً فَنَبَتَتْ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَتَرَتْهُ , وَأَمَرَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ وَأَمَرَ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَوَقَعَتَا عَلَى فَمِ الْغَارِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: جَاءَ الْقَائِفُ فَنَظَرَ إِلَى الأَقْدَامِ فَقَالَ: هَذَا قَدَمُ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ وَالأُخْرَى لا أعرفها , إلا أنها تشبه القدم في المقام. {إذ يقول لصاحبه} يَعْنِي بِالصَّاحِبِ أَبَا بَكْرٍ بِلا خِلافٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ , أَنْبَأَنَا الْقَطِيعِيُّ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا عَفَّانُ , حَدَّثَنَا هَمَّامٌ , حَدَّثَنَا ثَابِتٌ , عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. (أَنَا مَوْلايَ إِمَامٌ ضَحِكَتْ ... مِنْ ثَنَايَا فَضْلِهِ آيُ الزُّمُرْ) (صَدَّقَ الْمُرْسَلَ إِيمَانًا بِهِ ... وَلَحَا فِي اللَّهِ مَنْ كَانَ كَفَرْ) (ثُمَّ بِالْغَارِ لَهُ مَنْقَبَةٌ ... خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا دُونَ الْبَشَرْ) (ثَانِيَ اثْنَيْنِ وَقَوْلُ الْمُصْطَفَى ... مَعَنَا اللَّهُ فَلا تُبْدِي الْحَذَرْ) قَوْلُهُ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} والسكينة السكون والطمأنينة. وفي

{عليه} قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا فِي مَعْنَى تَثْنِيَةٍ , فَالتَّقْدِيرُ عَلَيْهِمَا كقوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} ذكره ابن الأنباري. {وأيده} يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ يُرَدُّ إِلَى اللاحِقِ بِهِ , فَلَمَّا كَانَ الانْزِعَاجُ لأَبِي بَكْرٍ وَحْدَهُ حَسُنَ رَدُّ هَاءِ السَّكِينَةِ عَلَيْهِ , وَلَمَّا كَانَ التَّأْيِيدُ بِالْجُنُودِ لا يَصْلُحُ إِلا لِلرَّسُولِ ردت هاء {أيده} عَلَيْهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وتعزروه وتوقروه وتسبحوه} . قال العلماء: بعث الله ملائكة صرفت وجوه الْكُفَّارِ عَنْهُمَا. وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مَعْرُوفُ الْفَضْلِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ. وُلِدَ بِمِنًى. وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عمر بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مرة ابن كَعْبٍ , وَعِنْدَ مُرَّةَ يَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّسَبِ. وَأُمُّهُ أُمُّ الْخَيْرِ سَلْمَى بِنْتُ صَخْرٍ , أَسْلَمَتْ. وَكَانَتْ إِلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الأَسْبَاقُ وَهِيَ الدِّيَاتُ , وَالْمَغْرَمُ وَكَانَ إِذَا احْتَمَلَ شَيْئًا فَسَأَلَ فِيهِ قُرَيْشًا صَدَقُوهُ وَأَمْضَوْا حَمَالَةَ مَنْ نَهَضَ مَعَهُ , وَإِنِ احْتَمَلَهَا غَيْرُهُ خَذَلُوهُ. وَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسَلْمَ , وَلَقَّبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتِيقًا لِحُسْنِ وَجْهِهِ , وَقَالَ: يَكُونُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً , أَبُو بَكْرٍ لا يَلْبَثُ إِلا قَلِيلا. وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ اسْمَ أَبِي بَكْرٍ من السماء " الصديق ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ لِجِبْرِيلَ: إِنَّ قَوْمِي لا يُصَدِّقُونِي فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: يُصَدِّقُكَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الصِّدِّيقُ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَاصَمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

رَوَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: أَتَى الصَّرِيخُ أَبَا بَكْرٍ فَقِيلَ لَهُ: أَدْرِكْ صَاحِبَكَ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا وَإِنَّ لَهُ غَدَائِرَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ فَلُهُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْبَلُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَرَجَعَ إِلَيْنَا فَجَعَلَ لا يَمَسُّ شَيْئًا مِنْ غَدَائِرِهِ إِلا جَاءَ مَعَهُ وَهُوَ يَقُولُ: تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ , وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلا غَيْرَ رَبِّي لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلا , وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ , لا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلا سُدَّ إِلا بَابَ أَبِي بَكْرٍ ". وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلا وَقَدْ كَافَأْنَاهُ مَا خَلا أبا بكر , فإنه لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَمَا نَفَعَنِي مَالٌ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ ". فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَهَلْ أَنَا وَمَالِي إِلا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي , أَنْبَأَنَا أَبُو طَالِبٍ الْعُشَارِيُّ , أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ , حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ , حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُفْيَانَ الْوَاسِطِيُّ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاءٍ , عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْشِي أَمَامَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ أَتَمْشِي أَمَامَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ! مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ , أَخْبَرَنَا الدَّاوُدِيُّ , أَخْبَرَنَا ابْنُ أعين، أخبرنا الفربري , حدثنا البخاري , حدثني هشام بن عمار , حدثنا صدقة بْنُ خَالِدٍ , حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ , عَنْ بشر ابن عَبْدِ اللَّهِ , عَنْ عَابِدِ اللَّهِ أَبِي إِدْرِيسَ , عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ

غَامَرَ. فَسَلِمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ , فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ. فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلاثًا. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لا. فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ: وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ. {فَهَلْ أَنْتُمْ تاركوا لِي صَاحِبِي} مَرَّتَيْنِ. فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. وَقَدِ انْفَرَدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْ أَفْتَى فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدَّمَهُ فِي الصَّلاةِ , وَنَصَّ عَلَيْهِ نَصًّا خَفِيًّا بِإِقَامَتِهِ مَكَانِهِ فِي الصَّلاةِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ , أَنْبَأَنَا الدَّاوُدِيُّ , أَنْبَأَنَا ابْنُ أَعْيَنَ , أَنْبَأَنَا الْفَرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ , حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ , حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ محمد ابن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ. فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ. كَأَنَّهَا تَقُولُ: الْمَوْتَ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ لأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا , فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ وَيَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ , ويأتي اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلا أَبَا بَكْرٍ ". وَاعْلَمْ أَنَّ خِلالَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْلُومَةٌ , مِنَ الْوَرَعِ وَالْخَوْفِ وَالزُّهْدِ وَالْبُكَاءِ وَالتَّوَاضُعِ , وَأَنَّهُ لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَصْبَحَ غَادِيًا إِلَى السُّوقِ , وَكَانَ يَحْلِبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُمْ قَبْلَ الْخِلافَةِ , فَلَمَّا بُويِعَ قَالَتْ جَارِيَةٌ مِنَ الْحَيِّ: الآنَ لا يُحْلَبُ لَنَا. فَقَالَ: بَلَى لأَحْلِبَنَّهَا لَكُمْ , وَإِنِّي لأَرْجُو أَلا يُغَيِّرَنِي مَا دَخَلْتُ فِيهِ. وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اعْتَرَفُوا بِفَضْلِهِ.

أخبرنا ابن الحصين , أنبأنا أبو طالب ابن غيلان , أنبأنا أبو بكر محمد بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيِّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا , أَنْبَأَنَا خَالِدُ بْنُ خِرَاشٍ , أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ , عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ , عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ , أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ أَرَى أَبَا بَكْرٍ. يا أيها الرَّافِضِيُّ لا تَسْمَعْ مَدْحَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ فِيهِ , اسْمَعْ , قَوْلَ، عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيهِ. أَنْبَأَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ , أَنْبَأَنَا الدَّاوُدِيُّ , أَنْبَأَنَا ابْنُ أَعْيَنَ , حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ , حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ , حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ , حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى , عَنْ مُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ , قَالَ: قُلْتُ لأَبِي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ. قَالَ: وَخَشِيتُ أَنْ أَقُولَ ثُمَّ مَنْ؟ فَيَقُولُ: عُثْمَانُ. فَقُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ. فَقَالَ مَا أَنَا إِلا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزَّازُ , أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُهْتَدِي , أَنْبَأَنَا الْقَاسِمُ بْنُ حُبَابَةَ , حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْوَرَّاقُ , عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ زَاجٍ , حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُصْعَبٍ , حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ الْقُرَشِيُّ , عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ , عَنْ أُسَيْدِ بْنِ صَفْوَانَ , قَالَ: لَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسُجِّيَ عَلَيْهِ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ بِالْبُكَاءِ كَيَوْمِ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: فَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُسْتَعْجِلا مُسْرِعًا مُسْتَرْجِعًا وَهُوَ يَقُولُ: الْيَوْمَ انْقَطَعَتِ النُّبُوَّةُ , حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَبَا بَكْرٍ , كُنْتَ إِلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنِيسَهُ وَمُسْتَرَاحَهُ وَثِقَتَهُ وَمَوْضِعَ سِرِّهِ وَمُشَاوَرَتِهِ , وَكُنْتَ أَوَّلَ الْقَوْمِ إِسْلامًا وَأَخْلَصَهُمْ إِيمَانًا وَأَشَدَّهُمْ [للَّهِ] يَقِينًا , وَأَخْوَفَهُمْ للَّهِ وَأَعْظَمَهُمْ غِنَاءً فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَأَحْوَطَهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم وأحد بهم عَلَى الإِسْلامِ , وَأَحْسَنَهُمْ صُحْبَةً ,

وَأَكْثَرَهُمْ مَنَاقِبَ وَأَفْضَلَهُمْ سَوَابِقَ وَأَرْفَعَهُمْ دَرَجَةً , وَأَقْرَبَهُمْ وَسِيلَةً , وَأَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيًا وَسَمْتًا , وَأَشْرَفَهُمْ مَنْزِلَةً وَأَرْفَعَهُمْ عِنْدَهُ وَأَكْرَمَهُمْ عَلَيْهِ , فَجَزَاكَ اللَّهُ عَنْ رَسُولِهِ وَعَنِ الإِسْلامِ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ. صَدَّقْتَ رَسُولَ اللَّهِ حِينَ كَذَّبَهُ النَّاسُ وَكُنْتَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ , سَمَّاكَ اللَّهُ فِي تَنْزِيلِهِ صِدِّيقًا فَقَالَ: {وَالَّذِي جاء بالصدق وصدق به} وَآسَيْتَهُ حِينَ بَخِلُوا , وَقُمْتَ مَعَهُ عَلَى الْمَكَارِهِ حِينَ قَعَدُوا , وَصَحِبْتَهُ فِي الشِّدَّةِ أَكْرَمَ الصُّحْبَةِ , ثاني اثنين صاحبه في الغار , والمنزل عليه السَّكِينَةِ , وَرَفِيقُهُ فِي الْهِجْرَةِ , وَخَلَفْتَهُ فِي دِينِ اللَّهِ وَأُمَّتِهِ أَحْسَنَ الْخِلافَةِ حِينَ ارْتَدُّوا. فَقُمْتَ بِالأَمْرِ مَا لَمْ يَقُمْ بِهِ خَلِيفَةُ نَبِيٍّ , نَهَضْتَ حِينَ وَهَنَ أَصْحَابُهُ , وَبَرَزْتَ حِينَ اسَتْكَانُوا , وَقَوِيتَ حِينَ ضَعُفُوا , وَلَزِمْتَ مِنْهَاجَ رَسُولِهِ إِذْ وَهَنُوا , كُنْتَ خَلِيفَةَ حَقًّا لَنْ تُنَازَعَ وَلَنْ تُضَارَعَ , بِرَغْمِ الْمُنَافِقِينَ وَكَبْتِ الْحَاسِدِينَ , قُمْتَ بِالأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا فَاتَّبَعُوكَ فَهُدُوا , وَكُنْتَ أَخْفَضَهُمْ صَوْتًا وَأَعْلاهُمْ فَوْقًا , وَأَقَلَّهُمْ كَلامًا وَأَصْدَقَهُمْ مَنْطِقًا وَأَطْوَلَهُمْ صَمْتًا وَأَبْلَغَهُمْ قَوْلا وَأَكْرَمَهُمْ رَأْيًا , وَأَشْجَعَهُمْ نَفْسًا , وَأَشْرَفَهُمْ عَمَلا. كُنْتَ وَاللَّهِ لِلدِّينِ يَعْسُوبًا , أَوَّلا حِينَ نَفَرَ عَنْهُ النَّاسُ وَآخِرًا حِينَ أَقْبَلُوا. كُنْتَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَبًا رَحِيمًا , صَارُوا عَلَيْكَ عِيَالا , حَمَلْتَ أَثْقَالَ مَا عَنْهُ ضَعُفُوا , وَرَعَيْتَ مَا أَهْمَلُوا وَعَلِمْتَ مَا جَهِلُوا , وَشَمَّرْتَ إِذْ ظَلَعُوا , وَصَبَرْتَ إِذْ جَزِعُوا وَأَدْرَكْتَ أَوْتَارَ مَا طَلَبُوا , وَرَاجَعُوا بِرَأْيِكَ رُشْدَهُمْ فَظِفَرُوا , وَنَالُوا بِرَأْيِكَ مَا لَمْ يَحْتَسِبُوا. كُنْتَ عَلَى الْكَافِرِينَ عَذَابًا صَبًّا وَلَهَبًا , وَلِلْمُؤْمِنِينَ رَحْمَةً وَأُنْسًا وَحِصْنًا , طِرْتَ وَاللَّهِ بِعَنَائِهَا وَفُزْتَ بِحِبَائِهَا , وَذَهَبْتَ بِفَضَائِلِهَا وَأَدْرَكْتَ سَوَابِقَهَا لم تقلل حُجَّتُكَ وَلَمْ تَضْعُفْ بَصِيرَتُكَ , وَلَمْ تَجْبُنْ نَفْسُكَ وَلَمْ يَزُغْ قَلْبُكَ , فَلِذَلِكَ كُنْتَ كَالْجِبَالِ لا تُحَرِّكُهَا الْعَوَاصِفُ وَلا تُزِيلُهَا الْقَوَاصِفُ , كُنْتَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَمِنَ النَّاسُ عَلَيْهِ فِي صُحْبَتِكَ وَذَاتِ يَدِكَ , وَكُنْتَ كَمَا قَالَ ضَعِيفًا فِي بَدَنِكَ قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى , مُتَوَاضِعًا فِي نَفْسِكَ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى , جَلِيلا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ كَبِيرًا فِي أَنْفُسِهِمْ , لَمْ يَكُنْ لأَحَدِهِمْ فِيكَ مَغْمَزٌ وَلا لِقَائِلٍ فِيكَ مَهْمَزٌ وَلا لِمَخْلُوقٍ عِنْدَكَ هَوَادَةٌ , الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ عِنْدَكَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ حَتَّى تَأْخُذَ بِحَقِّهِ , الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ , وَأَقْرَبُ النَّاسِ عِنْدَكَ أَطْوَعُهُمْ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتْقَاهُمْ , شَأْنُكَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالرِّفْقُ , قَوْلُكَ حُكْمٌ وحتم , وأمدك حِلْمٌ وَحَزْمٌ وَرَأْيُكَ عِلْمٌ وَعَزْمٌ , اعْتَدَلَ بِكَ الدِّينُ وَقَوِيَ بِكَ الإِيمَانُ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ فَسَبَقْتَ وَاللَّهِ سَبْقًا بَعِيدًا وَأَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَكَ إِتْعَابًا شَدِيدًا , وَفُزْتَ بِالْخَيْرِ فَوْزًا مُبِينًا. فَجَلَلْتَ عَنِ الْبُكَاءِ وَعَظُمَتْ رَزِيَّتُكَ فِي السَّمَاءِ وَهَدَتْ مُصِيبَتُكَ الأَنَامَ , فَإِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. رَضِينَا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَضَاءَهُ وَسَلَّمْنَا لَهُ أَمْرَهُ. وَاللَّهِ لَنْ يُصَابَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِكَ أَبَدًا , كُنْتَ لِلدِّينِ عِزًّا وَحِرْزًا وَكَهْفًا. فَأَلْحَقَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا حَرَمَنَا أَجْرَكَ وَلا أَضَلَّنَا بَعْدَكَ. فَسَكَتَ النَّاسُ حَتَّى قَضَى كَلامَهُ ثُمَّ بَكَوْا حَتَّى عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَقَالُوا: صَدَقْتَ يَا خَتَنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (أَنْفِقِ الْمَالَ قَبْلَ إِنْفَاقِكَ الْعُمْرَ ... فَفِي الدَّهْرِ رِيَبُهُ وَمَنُونُهُ) (قَلَّمَا يَنْفَعُ الثَّرَاءُ بَخِيلا ... غَلِقَتْ فِي الثَّرَى الْمَهِيلِ رُهُونُهُ) (لَوْ نَجَا مِنْ حِمَامِهِ جَاعِلُ الْمَالِ ... مَعَاذًا لَهُ نَجَا قَارُونُهُ) (خَازِنُو الْمَالِ سَاجِنُوهُ وَمَا كَانَ ... يَسْعَى لِسَاجِنٍ مَسْجُونُهُ) لَمَّا طُبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَشْرَفِ الأَخْلاقِ كَانَ مِنْهَا الْكَرَمُ , فَأُعْطِيَ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ , فَلَمَّا سَارَ فِي فَيَافِي الْجُودِ تَبِعَهُ صَدِيقُهُ فَجَاءَ بِكُلِّ ماله فَقَالَ: مَا أَبْقَيْتَ؟ قَالَ أَبْقَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.

(سَبَقَ النَّاسُ إِلَيْهَا صَفْقَةً ... لَمْ يَعُدْ رَائِدُهَا عَنْهَا بِغَبْنِ) (هِزَّةٌ لِلْجُودِ صَارَتْ نَشْوَةً ... لَمْ يكدر عندها العرف بمن) (طلبوا الشاء فوافى سابقا ... جرع غبر في وجه المشن) جَازَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى بِلالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ فَجَذَبَ مِغْنَاطِيسُ صَبْرِ بِلالٍ حَدِيدَ صِدْقِ الصِّدِّيقِ , وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى اشْتَرَاهُ وَكَسَرَ قَفَصَ حَبْسِهِ , فَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ بِلالا سَيِّدَنَا. تَعِبَ فِي الْمَكَاسِبِ فَنَالَهَا حَلالا , ثُمَّ أَنْفَقَها حَتَّى جَعَلَ فِي الْكِسَاءِ خِلالا , قَالَ لَهُ الرَّسُولُ أَسْلِمْ فَكَانَ الْجَوَابُ نَعَمْ بِلا: لا , وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ فِي الإِسْلامِ إِلا أَنَّهُ أَعْتَقَ بِلالا. (أَبُو بَكْرٍ حَبَا فِي اللَّهِ مَالا ... وَأَعْتَقَ فِي مَحَبَّتِهِ بِلالا) (وَقَدْ وَاسَى النَّبِيَّ بِكُلِّ فَضْلٍ ... وَأَسْرَعَ فِي إجابته بلا: لا) (لو أن البحر يقصده ببعض ... لما ترك الإله به بلالا) كَانَتْ فَضَائِلُهُ الْبَاطِنَةُ مَسْتُورَةً بِنِقَابِ " مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِصَوْمٍ وَلا صَلاةٍ , وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ " فَهِيَ مُجَانَسَةٌ لِمَنْقَبِهِ: {فَأَوْحَى إلى عبده ما أوحى} . (إِنْ كَانَ حُبُّ عَتيِقٍ عَقَدَ النَّوَاصِبِ ... فَإِنَّنِي نَاصِبِي مِنْ نَسْلِ نَاصِبِي) (مَنْ كَانَ خَيْرَ رَفِيقٍ لِخَيْرِ صَاحِبِ ... كَهْفًا لَهُ وَمُعِينًا عَلَى النَّوَائِبِ) (لَهُ الأَمَانَةُ بِالنَّصِّ غَيْرَ غَاصِبِ ... أَتُشَبِّهُ سِتْرًا بِنَسْجِ الْعَنَاكِبِ) (وَلِلسَّكِينَةِ فِيهِ أَعْلَى الْمَنَاقِبِ ... مَنَاقِبُ هُنَّ كَالأَنْجُمِ الثَّوَاقِبِ) جَمَعَ يَوْمَ الرِّدَّةِ شَمْلَ الإِسْلامِ بَعْدَ أَنْ نَعَقَ غُرَابُ الْبَيْنِ , وَجَهَّزَ عَسَاكِرَ الْعَزْمِ فَمَرَّتْ عَلَى أَحْسَنِ زَيْنٍ , وَصَاحَ لِسَانُ جِدِّهِ فَارْتَاعَ مِنْ بَيْنِ الصَّفَّيْنِ , فَقَالَ: أُقَاتِلُهُمْ وَلَوْ بِابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ.

(عَادَ بِهِ رَوْضُ الْعُلَى مُنَضَّرًا ... مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ الْعُلَى قَدِ اضْمَحَلْ) (سَائِلْ بِهِ يَوْمَ بَنِي حَنِيفَةَ ... وَالْبِيضُ فِي بَيْضِ الرُّءُوسِ تَنْتَضِلْ) (وَلَيْسَ إِلا السَّيْفُ قَاضٍ فِي الْوَغَى ... وَلا رَسُولٌ غَيْرُ أَطْرَافِ الأَسَلْ) (كَمْ خَلَلٍ رَمَّ وَلَوْلا عَزْمُهُ ... مَا رُمَّ فِي الإِسْلامِ هَذَاكِ الْخَلَلْ) (وَكَمْ لَهُ مِنْ نَائِلٍ يَسِيرُ مَا ... بَيْنَ الأَنَامِ ذِكْرُهُ سَيْرَ مَثَلْ) (سَكِينَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أُنْزِلَتْ ... وَفَضْلُهُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ نَزَلْ) (أَقْسَمَ بِاللَّهِ يَمِينًا صَادِقًا ... لَوْ فَاضَلَ الأَمْلاكَ بِالصِّدْقِ فَضَلْ) مَنْ نَهَضَ كَنَهْضَتِهِ يَوْمَ الرِّدَّةِ , وَمَنْ عَانَى مِنَ الْقَوْمِ تِلْكَ الشِّدَّةَ , وَأَيُّ إِقْدَامٍ يُشْبِهُ تِلْكَ الْحِدَّةَ , كَانَتْ آرَاؤُهُ مِنَ التَّوْفِيقِ مُسْتَمَدَّةً. (لَمْ يَسْمَحُوا بِزِمَامِ أَمْرِهِمْ لَهُ ... حَتَّى رَأَوْهُ لِكُلِّ خَيْرٍ جَامِعَا) (لَمْ يَرْهَبُوهُ وَلا اتَّقَوْهُ مَخَافَةً ... جَيْشًا أَطَلَّ وَلا حُسَامًا قَاطِعَا) (كَلا وَلا خَافُوا بَوَائِقَ بَأْسِهِ ... إِنْ خَالَفُوهُ وَلا رَأَوْهُ مُخَادِعَا) (لَكِنَّهُمْ عَلِمُوا شَرِيفَ مَحَلِّهِ ... عِنْدَ الرَّسُولِ تُقًى وَقَدْرًا بَارِعَا) (ورأوا نظام الدين عن آرائه ... مستحكماً وسنى الشَّرِيعَةِ طَالِعَا) (أَرْدَى حَنِيفَةَ وَالْيَمَامَةَ إِذْ طَغَتْ ... فَأَعَادَ مَأْنُوسَ الدِّيَارِ بَلاقِعَا) أَتَرَى تَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ لِكَسَلٍ , أَوْ مُدِحَ بِالْبُخْلِ , كَلا بَلْ هَانَتِ الدُّنْيَا لَدَيْهِ إِذْ عَزَّتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ. لَمَّا عَلِمَ الصِّدِّيقُ قُرْبَ الْمَمَاتِ فَرَّقَ الْمَالَ وَتَخَلَّلَ بِالْعَبَا , فَخَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُخرَج. (يَمَّمَتْ هِمَّتُهُ قَصْوَى الْوَرَى ... فَجَرَى جَرْيَ جَوَادٍ لِجَوَادِ) (يَجِدُ الْمُتْلَفَ مِنْ أَمْوَالِهِ ... وَاقِعًا مِنْهُ وُقُوعَ الْمُسْتَفَادِ) (فَهُوَ لا يَفْتُرُ مِنْ سَحِّ النَّدَى ... بِبَنَانٍ سَبِطَاتٍ لا جِعَادِ) (غَيْرَ لاهٍ بِاللَّهَا بَلْ عَالِمًا ... أَنَّ بَذْلَ الْعُرْفِ مِنْ خَيْرِ عَتَادِ) (مُسْتَزِيدًا مِنْ فِعَالٍ جَمَّةٍ ... لَيْسَ فِيهَا لامْرِئٍ مِنْ مُسْتَزَادِ) (كُلُّ ذُخْرٍ لِمَعَاشٍ عِنْدَهُ ... مُقْتَنَى مِنْ فَضْلِ زَادٍ لِمَعَادِ)

(سَالِكًا فِي كُلِّ فَجٍّ وَحْدَهُ ... حِينَ لا يُوحِشُهُ طُولُ انْفِرَادِ) (وَكَذَاكَ الْبَدْرُ يَسْرِي فِي الدُّجَى ... وَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ نُورٌ وَهَادِ) نَزَعَ أَبُو بَكْرٍ ثَوْبَ مِخْيَطِ الْهَوَى فَمَزَّقَهُ عَلِيٌّ , رَمَى الصِّدِّيقُ جَهَازَ الْمُطَلَّقَةِ فَوَافَقَهُ عَلِيٌّ فِي نَزْعِ الْخَاتِمِ. (حُبِّبَ الْفَقْرُ إِلَيْهِ أَنَّهُ ... سُؤْدَدٌ وَهُوَ بِذَاكَ الْفَقْرِ يَغْنَى) (وَشَرِيفُ الْقَوْمِ مَنْ يُبْقِي لَهُمْ ... شَرَفَ الذِّكْرِ وَخَلَّى الْمَالَ يَفْنَى) (مَا اطْمَأَنَّ الْوَفْرُ فِي بُحْبُوحَةٍ ... فَرَأَيْتَ الْمَجْدَ فِيهَا مُطْمَئِنَّا) (تُهْدَمُ الأَمْوَالُ مِنْ آسَاسِهَا ... أَبَدًا ما دامت العلياء تبنى) تَوَافَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ عَلَى رَفْضِ الدُّنْيَا , فَاسْلُكْ سَبِيلَهُمَا وَجَانِبِ الرَّفْضَ. (وَخَيْرُ مَا يَذْخُرُ عَبْدٌ لِغَدٍ ... حُبُّ أَبِي بَكْرٍ الإِمَامِ الْمُرْتَضَى) (حُبُّ إِمَامٍ أَوْضَحَ اللَّهُ بِهِ ... مِنْ سُبُلِ الإِسْلامِ مَا كَانَ عَفَا) (لَمْ يَعْبُدِ اللاتَ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ ... مُعْتَرِفًا بِاللَّهِ مِنْ حِينَ نَشَا) (لأَنَّهُ كَانَ زَمِيلَ الْمُصْطَفَى ... يَجْرِي عَلَى مِنْهَاجِهِ حِينَ جَرَى) (حَتَّى إِذَا اللَّهُ اصْطَفَاهُ مُرْسَلا ... أَجَابَ بِالتَّصْدِيقِ لَمَّا أَنْ دَعَا) (وَمَا ارْتَضَاهُ لِلصَّلاةِ دُونَهُمْ ... حَتَّى رَآهُ ذِرْوَةً لا تُرْتَقَى) (ثُمَّ دَعَوْهُ بَعْدَهُ خَلِيفَةً ... عَنْ مَلإٍ مِنْهُمْ وَأَعْطَوْهُ الرِّضَا) (قَالَ أَقِيلُونِي فَلَسْتُ خَيْرَكُمْ ... فَأَعْظَمُوهَا وَأَبَوْا كُلَّ الإِبَا) (وَاللَّهِ إِنِّي لَمُوَالٍ حَيْدَرًا ... مِثْلَ مُوَالاتِي عَتِيقًا ذَا السَّنَا) (هُمَا إِمَامَايَ وَأَمْنِي فِي غَدٍ ... مِمَّا أَخَافُ وَرَجَائِي واللجا) (وَإِنَّ دِينَ الرَّفْضِ كُفْرٌ مُوبَقٌ ... فَمَنْ صَحَا مِنْ سَكْرَةِ الرَّفْضِ نَجَا) لَقَدْ بَانَ الْهُدَى وَلاحَتِ الطَّرِيقُ , فَشَمِّرْ أَيُّهَا الْبَخِيلُ وَاخْرُجْ مِنَ الْمَضِيقِ , وَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا فَكَمْ قَتَلَتْ مِنْ صَدِيقٍ , افْعَلْ بِهَا فِعْلَ عَلِيٍّ أَوْ فِعْلَ الصِّدِّيقِ , يَا هَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُؤْمِنِ الْكَرَمُ , وَالْكَرِيمُ مَنْ أَعْطَى مَا لا يَجِبُ وَأَنْتَ تَبْخَلُ بِالْوَاجِبِ , يَا هَذَا مُؤَدِّي الدِّينِ لا يُحْمَدُ , لا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ ,

الكلام على قوله تعالى

يَا عَجَبًا مِمَّنْ لا يُخْرِجُ الْيَسِيرَ الْمَرْذُولَ كَيْفَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْكَثِيرَ الْمَحْبُوبَ. (إِذَا مَا شَحَّ ذُو الْمَالِ ... شَحَّ الدَّهْرُ بِإِيهَابِهِ) (إِذَا لَمْ يُثْمِرِ الْعُودُ ... فَقَطْعُ الْعُودِ أَوْلَى بِهِ) الكلام على قوله تعالى {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عن ذكر الله} مَعْنَى تُلْهِكُمْ: أَيْ تَشْغَلْكُمْ. وَفِي الْمُرَادِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: طَاعَتُهُ فِي الْجِهَادِ. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: الصَّلاةُ الْمَكْتُوبَةُ. قَالَهُ عَطَاءٌ. وَالثَّالِثُ: الْفَرَائِضُ كُلُّهَا. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَى إِطْلاقِهِ فَحَضَّهُمْ عَلَى إِدَامَةِ الذِّكْرِ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ شَيْءٍ يُشْغِلُكَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ فَهُوَ مَشْئُومٌ عليك. قوله تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم} فِي هَذِهِ النَّفَقَةِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا الزَّكَاةُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: النَّفَقَةُ فِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالْمَالِ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَالثَّالِثُ: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. فَيَكُونُ [عَلَى] هَذَا الْقَوْلِ نَدْبًا وَعَلَى مَا قَبْلَهُ وَاجِبًا. قَوْلُهُ تَعَالَى {مِنْ قبل أن يأتي أحدكم الموت} أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعَايِنَ مَا يَعْلَمُ معه أنه ميت " {فيقول رب لولا} " اي هلا " {أخرتني إلى أجل قريب} "

يُرِيدُ بِذَلِكَ الاسْتِزَادَةَ فِي أَجَلِهِ لِيَتَصَدَّقَ. قَوْلُهُ تعالى: {وأكن من الصالحين} وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: " وَأَكُونُ مِنَ الصَّالِحِينَ " قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ قَرَأَ " وَأَكُونُ " بِالْوَاوِ فَهُوَ عَلَى لفظ فأصدق ومن جزم: " وأكن " فهو على موضع فأصدق , لأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ أَخَّرْتَنِي أَصَّدَّقُ وَأَكُنْ. قَالَ ابن عباس: " {فأصدق} " أزكى مالي. " {وأكن من الصالحين} " أَيْ أَحُجُّ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ قَدْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يُزَكِّهِ وَأَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ إِلا سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالسَّلامَةِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ , أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ , عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ , عَنْ أَبِي زُرْعَةَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ شَحِيحٌ صَحِيحٌ تَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَتَخَافُ الْفَقْرَ , وَلا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا , أَلا وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْفَقِيهُ , أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُهْتَدِي , حدثنا عبد الله بن أحمد ابن الصَّبَّاحِ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْنٍ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ , حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ الطَّائِيِّ , عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الَّذِي يَعْتِقُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدَى إِذَا شَبِعَ ". وَقِيلَ لِمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: إِنَّ فُلانًا أَعْتَقَ كُلَّ مَمْلُوكٍ لَهُ يَعْنِي عِنْدَ الْمَوْتِ. فَقَالَ: يَعْصُونَ اللَّهَ مَرَّتَيْنِ: يَبْخَلُونَ بِهِ وَهُوَ فِي أَيْدِيهِمْ , حَتَّى إِذَا صَارَ لِغَيْرِهِمْ أَسْرَفُوا فِيهِ! وَلْيَعْلَمِ الْبَخِيلُ أَنَّ مَا أَخْرَجَهُ لَهُ وَمَا تَرَكَهُ لِغَيْرِهِ.

وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ الله ما منا أحد إلا ما له أَحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ: " فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالَ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ ". وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي. وَإِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى , مَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ ". أَخْبَرَنَا الْكَرُوخِيُّ , أَنْبَأَنَا الأَزْدِيُّ وَالْغُورَجِيُّ , قَالا: أَنْبَأَنَا الْجَرَّاحِيُّ , حَدَّثَنَا الْمَحْبُوبِيُّ , حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ , حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلا كَتِفُهَا. قَالَ: بَقِيَ كُلُّهَا إِلا كَتِفَهَا ". مَنْ عَلِمَ فَضْلَ الإِيثَارِ بِالصَّدَقَةِ حَمَلَ النَّفْسَ عَلَى الإِخْرَاجِ. بُعِثَ إِلَى عَائِشَةَ بِمَالٍ عَظِيمٍ فَفَرَّقَتْهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَقَالَتْ جَارِيَتُهَا: لَوْ خَبَّأْتِ دِرْهَمًا نَشْتَرِي بِهِ لَحْمًا نُفْطِرُ عَلَيْهِ؟ فَقَالَتْ: لَوْ ذَكَّرْتِينِي لَفَعَلْتُ. بِالْجِدِّ فَازَ مَنْ فَازَ , وَبِالْعَزْمِ جَازَ مَنْ جَازَ , وَمَا حَازَ الثَّنَاءَ مَنْ لِلْمَالِ حَازَ. (وَسَائِلْ عَنْهُمْ مَاذَا تَقَدُّمُهُمْ ... فَقُلْتُ فَضْلٌ به عن غيرهم بانوا) (كما عَرَّضُوا لِلْمَنَايَا الْحُمْرِ أَنْفُسَهُمْ ... فَحَانَ قَوْمٌ تَوَقَّوْهَا وما حانوا) (وألهج الحمد بالأبطال بينهم ... أن ليس بينهم للمال إبطان) واعجبا لِغَنِيٍّ يَبْخَلُ بِمَا يَفْنَى , وَلِفَقِيرٍ لا يَصْبِرُ عَلَى مَا يَبْقَى. (أَعَاذِلَ إِنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُخَلَّدٍ ... وَإِنَّ الْغِنَى عَارِيَةٌ فَتَزَوَّدِ) (فَكَمْ مِنْ جواد يفسد اليوم جوده ... وساوس قد خوفته الْفَقْرَ فِي غَدِ) كَمْ نَادَاكَ مَوْلاكَ وَمَا تَسْمَعُ , وَكَمْ أَعْطَاكَ وَلَكِنْ مَا تَقْنَعُ , لَقَدِ استقرضك

مالك فمالك تجمع , وضمن أن تنبت الحبة سبعمائة وَمَا تَزْرَعُ , لِيَكُنْ هَمُّكَ فِي طَلَبِ الْمَالِ الإِفْضَالَ بِهِ , فَإِنَّ الشَّرِيفَ الْهِمَّةُ لا يَطْلُبُ الْفَضْلَ إِلا لِلْفَضْلِ. قَالَ أَعْرَابِيٌّ لأَخِيهِ: إِنَّ مَالَكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ كُنْتَ لَهُ , فَكُلْهُ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَكَ. كَمْ مُخَلِّفٍ لِمُتَخَلِّفٍ , تَرَكَ لِمَنْ لا يَحْمَدُهُ وَقَدِمَ عَلَى مَنْ لا يَعْذِرُهُ , رَانَ عَلَى الْقُلُوبِ حُبُّ الدُّنْيَا فَجَمَعَتْهَا كَفُّ الشَّرَهِ , وَتَمَسَّكَتْ بِهَا أَيْدِي الْبُخْلِ , فَلَوْ تَلَمَّحْتَ مَعْنَى: " {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ} " أو اشتقت إلى أرباح " {فيضاعفه} " لَرَأَيْتَ إِنْفَاقَ كُلِّ مَحْبُوبٍ حَقِيرًا فِي جَنْبِ مَا تَرْجُو. فَتَدَبَّرُوا إِخْوَانِي أَحْوَالَكُمْ , وَأَنْفِقُوا فِي الْخَيْرِ أَمْوَالَكُمْ , فَإِنَّ الْمَالَ إِذَا أَخَذْتُمْ فِي سَيْرِكُمْ لِغَيْرِكُمْ. (يَا مَالُ كُلِّ جَامِعٍ وَحَارِثٍ ... أَبْشِرْ بِرَيْبِ حَادِثٍ وَوَارِثِ) (إِنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ غَيْرُ لابِثٍ ... وَلا يَهَابُ الْمَوْتُ نَفْثَ نَافِثِ) (قد يحصد الجنة غير الحارث ... ويدهق الدلو لغير النابث) (جَدَّ الزَّمَانُ وَهُوَ مِثْلُ الْعَابِثِ ... أَقْسَمَ أَنْ يُسِيءَ غَيْرَ حَانِثِ) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ , حَدَّثَنَا صَفْوَانُ , عَنْ يَزِيدَ بْنِ مَيْسَرَةَ , قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ مَضَى جَمَعَ مَالا فَأَوْعَى ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ فِي أَهْلِهِ فَقَالَ: انْعَمِي سِنِينَ. فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَرَعَ الْبَابَ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَهُوَ مُتَمَثِّلٌ بِمِسْكِينٍ فَقَالَ لَهُمُ: ادْعُوا لِي صَاحِبَ الدَّارِ. فَقَالُوا: يَخْرُجُ سَيِّدُنَا إِلَى مِثْلِكَ! ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلا ثُمَّ عَادَ فَقَرَعَ بَابَ الدَّارِ وَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَخْبِرُوهُ أَنِّي مَلَكُ الْمَوْتِ. فَلَمَّا سَمِعَ سَيِّدُهُمْ قَعَدَ فَزِعًا وَقَالَ: لَيِّنُوهُ بِالْكَلامِ. فَقَالُوا: مَا تُرِيدُ غَيْرَ سَيِّدِنَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ؟ قَالَ: لا. فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: قُمْ فَأَوْصِ مَا كُنْتَ مُوصِيًا فَإِنِّي قَابِضٌ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ. قَالَ: فَصَاحَ أَهْلُهُ وَبَكَوْا ثُمَّ قَالَ: افْتَحُوا الصَّنَادِيقَ وَالتَّوَابِيتَ وَافْتَحُوا أَوْعِيَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. فَفَتَحُوهَا

جَمِيعًا فَأَقْبَلَ عَلَى الْمَالِ يَلْعَنُهُ وَيَسُبُّهُ وَيَقُولُ: لُعِنْتَ مِنْ مَالٍ! أَنْتَ الَّذِي أَنْسَيْتَنِي رَبِّي تَبَارَكَ وتَعَالَى وَأَغْفَلْتَنِي عَنِ الْعَمَلِ وَأَخَّرَتْنِي حَتَّى بَلَغَنِي أَجَلِي. فَتَكَلَّمَ الْمَالُ وَقَالَ: لا تَسُبَّنِي , أَلَمْ تَكُنْ وَضِيعًا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ فَرَفَعْتُكَ؟ أَلَمْ يُر عَلَيْكَ مِنْ أَثَرِي؟ وَكُنْتَ تَحْضُرُ سُوقَ الْمُلُوكِ فَتَدْخُلُ وَيَحْضُرُ عِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ فَلا يَدْخُلُونَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَخْطُبُ بَنَاتِ الْمُلُوكِ وَالسَّادَاتِ فَتُنْكَحُ , وَيَخْطُبُ عِبَادُ اللَّهِ الصَّالِحُونَ فَلا يُنْكَحُونَ أَلَمْ تَكُنْ تُنْفِقُنِي فِي سَبِيلِ الْخَبِيثِ فَلا أَتَعَاصَى وَلَوْ أَنْفَقْتَنِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمْ أَتَعَاصَ عَلَيْكَ؟ فَأَنْتَ الْيَوْمَ أَلْوَمُ مِنِّي , إِنَّمَا خُلِقْتُ أَنَا وَأَنْتُمْ يَا بَنِي آدَمَ مِنْ تُرَابٍ , فَمُنْطَلِقٌ بِبِرٍّ وَمُنْطَلِقٌ بِإِثْمٍ. فَهَكَذَا يَقُولُ الْمَالُ فَاحْذَرُوا. كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي الناس فِي صُورَةِ الْبَشَرِ , فَرَكِبَ بَعْضُ الْجَبَّارِينَ فِي جُنْدِهِ يَوْمًا فَلَقِيَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ. فَقَالَ: دَعْنِي آتِي أَرْضِي الَّتِي خَرَجْتُ إِلَيْهَا ثُمَّ أَرْجِعُ من موكبي. فقال: لا والله لا تَرَى أَرْضَكَ أَبَدًا وَلا تَرْجِعُ مِنْ مَوْكِبِكَ أَبَدًا. قَالَ: فَدَعْنِي أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي. فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا تَرَى أَهْلَكَ أَبَدًا. فَقَبَضَ رُوحَهُ. وَبَيْنَا رَجُلٌ يَنْظُرُ فِي أَصْنَافِ مَالِهِ طَلَعَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ: وَالَّذِي خَوَّلَكَ مَا تَرَى مَا أَنَا بِخَارِجٍ مِنْ مَنْزِلِكَ حَتَّى أُفَرِّقَ بَيْنَ رُوحِكَ وَبَدَنِكَ. قَالَ: فَالْمُهْلَةَ حَتَّى أُفَرِّقَهُ. قَالَ: هَيْهَاتَ! انْقَطَعَتْ عَنْكَ الْمُهْلَةُ. وَلاحَ ملك الموت لرجل فقال لأهله: ايتوني بِصَحِيفَةٍ. فَقَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ: الأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَبَضَ رُوحَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى بِالصَّحِيفَةِ. إِخْوَانِي: اسْتَدْرِكُوا قَبْلَ الْفَوْتِ وَانْتَهُوا قَبْلَ الْمَوْتِ , وَأَصِيخُوا فَقَدْ أُسْمِعَ الصَّوْتُ.

سجع على قوله تعالى

سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نفسا إذا جاء أجلها} واعجباً لنفسٍ الموتُ مَوْئِلُهَا وَالْقَبْرُ مَنْزِلُهَا وَاللَّحْدُ مَدْخَلُهَا ثُمَّ يَسُوءُ عَمَلُهَا {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذا جاء أجلها} . كَمْ قَاطِعٍ زَمَانَهُ بِالتَّسْوِيفِ , بَائِعٍ دِينَهُ بِالْحَبَّةِ وَالرَّغِيفِ , مُشْتَرٍ لِلْوَيْلِ بِتَطْفِيفِ الطَّفِيفِ , يَتَمَنَّى الْعَوْدَ إِذَا رَأَتْ نَفْسُهُ مَا يُذْهِلُهَا {وَلَنْ يُؤَخِّرَ الله نفسا إذا جاء أجلها} . كَمْ مَشْغُولٍ بِالْقُصُورِ يَعْمُرُهَا , لا يُفَكِّرُ فِي الْقُبُورِ وَلا يَذْكُرُهَا , يَبِيتَ اللَّيَالِيَ فِي فِكْرِ الدُّنْيَا وَيَسْهَرُهَا , يَجْمَعُ الأَمْوَالَ إِلَى الأَمْوَالِ يُثْمِرُهَا , وَقَعَ فِي أَشْرَاكِ الْمَنَايَا وَهُوَ لا يُبْصِرُهَا , أُفٍّ لِدُنْيَا هَذَا آخِرُهَا وَآهٍ لأُخْرَى هَذَا أَوَّلُهَا {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أجلها} . إِذَا مَلَكَ شَمْسَ الْحَيَاةِ الْمَغِيبُ , قَامَ عَنِ الْمَرِيضِ الطَّبِيبُ فَأَخَذَ النَّفْسَ مِنْ بَاطِنِهَا التَّوْبِيخُ وَالتَّأْنِيبُ , فَلَوْ رَأَيْتَهَا تُسأل عَمَّا بِهَا وَلا تُجِيبُ مَنْ يَسْأَلُهَا {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذا جاء أجلها} . آهٍ لِسَاعَاتٍ شَدِيدَةِ الْكُرُبَاتِ , فِيهَا غَمَرَاتٌ لَيْسَتْ بِنَوْمٍ وَلا سُبَاتٍ , تَتَقَطَّعُ فِيهَا الأَفْئِدَةُ بِاللَّوْمِ عَلَى الْفَوَاتِ , وَتَبْكِي عَيْنُ الأَسَفِ لِمَا مَضَى مِنْ هَفوَاتٍ , وَالْمَرِيضُ مُلْقًى عَلَى فِرَاشِ الْحُرُقَاتِ , فَآهٍ ثُمَّ آهٍ مِنْ جِبَالِ حَسَرَاتِ يَحْمِلُهَا {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} . لَقَدْ صَاحَ بِكَ الصَّائِحُ بِأَخْذٍ غَادٍ وَسَلْبٍ رَائِحٍ , يَكْفِي مَا مَضَى مِنْ قَبَائِحَ , فَاقْبَلِ الْيَوْمَ هَذِهِ النَّصَائِحَ فَإِنَّ الْمِسْكِينَ مَنْ يُهْمِلُهَا {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} . والحمد لله وحده.

المجلس التاسع والعشرون في فضل عمر بن الخطاب

المجلس التاسع والعشرون فِي فَضْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْحَمْدُ للَّهِ خَالِقِ كُلِّ مَخْلُوقٍ , وَرَازِقِ كُلِّ مَرْزُوقٍ , سَابِقِ الأَشْيَاءِ , فَمَا دُونَهُ مَسْبُوقٌ , مُوجِدِ الْمَنْظُورِ وَالْمَلْبُوسِ والمذوق , أَنْشَأَ الآدَمِيَّ بِالْقُدْرَةِ مِنْ مَاءٍ مَدْفُوقٍ , وَرَكَّبَ فِيهِ الْعَقْلَ يَدْعُو إِلَى مُرَاعَاةِ الْحُقُوقِ , وَالْهَوَى يَحُثُّ عَلَى مَا يُوجِبُ الْعُقُوقَ , فَاحْذَرْ وِفَاقَ الْمُشْتَهَى فَإِنَّهُ يَرْمِي لا مِنْ فَوْقِ فَوْقٍ , فَسَّحَ دَاوُدُ لِنَفْسِهِ فِي نَظْرَةٍ فَاتَّسَعَتِ الْخُرُوقُ , وَغَفَلَ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ عَنْ طَاعَتِهِ " {فَطَفِقَ مَسْحًا بالسوق} ". أَحْمَدُهُ عَلَى مَا يَقْضِي وَيَسُوقُ مِمَّا يَغُمُّ وَمَا يَشُوقُ , وَأُقِرُّ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ هَاجِرًا يَغُوثَ وَيَعُوقَ , وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , أَرْسَلَهُ وَقَدِ ازْدَحَمَتْ سُوقُ الْبَاطِلِ فِي أَرْوَجِ سُوقٍ , فَدَمَغَ بِحَقِّهِ أَهْلَ الزَّيْغِ وَأَرْبَابَ الْفُسُوقِ , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ مَا هَبَّ الْهَوَاءُ وَلَمَعَتِ الْبُرُوقُ , وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ , وَعَلَى عُمَرَ الْمُلَقَّبِ بِالْفَارُوقِ. وَعَلَى عُثْمَانَ الصَّابِرِ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى مَرِّ الْمُذُوقِ , وَعَلَى عَلِيٍّ مُطَلِّقِ الدُّنْيَا فَمَا غَرَّهُ الزُّخْرُفُ وَالرَّاوُوقُ , وَعَلَى الْعَبَّاسِ أَقْرَبِ الْكُلِّ نَسَبًا وَأَخَصِّ الْعُرُوقِ. اللَّهُمَّ يَا مَالِكَ الْمَسَاءِ وَالشُّرُوقِ , احْفَظْنَا مِنْ مَسَاءَةِ الْحَوَادِثِ وَالطُّرُوقِ , وَهَبْ لَنَا مِنْ فَضْلِكَ مَا يَصْفُو وَيَرُوقُ , وَزِدْ آمَالَنَا مِنْ إِحْسَانِكَ فَوْقَ مَا نَرْجُو وَنَتُوقُ , وَافْتَحْ لِي وَلِلْحَاضِرِينَ مُوقَ بَصَرِ الْبَصِيرَةِ لِحَبِيبِ الْمُوقِ.

أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ , أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا فَزَارَةُ بْنُ عُمَرَ , حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي سَلَمَةَ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ كَانَ فِيمَنْ مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُونَ وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّنْ سَبَقَتْ لَهُ الْحُسْنَى , وَكَانَ مُقَدَّمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ. أَمَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانَتْ لَهُ السِّفَارَةُ وَالْمُفَاخَرَةُ , فَإِنْ وَقَعَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ بَعَثُوهُ سَفِيرًا , وَإِنْ فَاخَرَهُمْ حَيٌّ بَعَثُوهُ مُفَاخِرًا وَرَضُوا بِهِ. وَأَمَّا فِي الإِسْلامِ فَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ. وَهُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رياح بن عبد الله بن قرط ابن رَزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعِنْدَ كَعْبٍ يَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّسَبِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي , أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيُّوَيْهِ , أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَعْرُوفٍ , أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهْمِ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ , أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ , حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ , قَالَ: أَيْنَ تَعْمِدُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ مُحَمَّدًا. قَالَ: وَكَيْفَ تَأْمَنُ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي زُهْرَةَ وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَرَاكَ إِلا قَدْ صَبَأْتَ وَتَرَكْتَ دِينَكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ. قَالَ: أَفَلا أَدُلُّكَ عَلَى الْعَجَبِ يَا عُمَرُ؟ إِنَّ ختنك وأختك قد صبآ وَتَرَكَا دِينَكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ فَمَشَى عُمَرُ ذَامِرًا حَتَّى أَتَاهُمَا وَعِنْدَهُمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يُقَالُ لَهُ خَبَّابٌ فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ حِسَّ

عُمَرَ تَوَارَى فِي الْبَيْتِ فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ الَّتِي سَمِعْتُهَا عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: وَكَانُوا يَقْرَءُونَ {طَهَ} فَقَالا: مَا عَدَا حَدِيثًا تَحَدَّثْنَاهُ بَيْنَنَا قَالَ: فَأَعْلَمُكُمَا قَدْ صَبَأْتُمَا. فَقَالَ لَهُ خَتَنُهُ: أَرَأَيْتَ يَا عُمَرُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ؟ فَوَثَبَ عُمَرُ عَلَى خَتَنِهِ فَوَطِئَهُ وَطْئًا شَدِيدًا , فَجَاءَتْ أُخْتُهُ فَدَفَعَتْهُ عَنْ زَوْجِهَا فَنَفَحَهَا نَفْحَةً بِيَدِهِ فَدَمَى وَجْهُهَا فَقَالَتْ وَهِي غَضْبَى: يَا عُمَرُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَلَمَّا يَئِسَ عُمَرُ قَالَ: أَعْطُونِي هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي عِنْدَكُمْ فَأَقْرَأَهُ. فَقَالَتْ: إِنَّكَ رِجْسٌ وَلا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ , فَقُمْ فَاغْتَسِلْ أَوْ تَوَضَّأْ. فَقَامَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَخَذَ الْكِتَابَ فَقَرَأَ {طَهَ} حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وأقم الصلاة لذكري} فَقَالَ عُمَرُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ. فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ قَوْلَ عُمَرَ خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا عُمَرُ , فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونَ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ: اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ. قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدَّارِ الَّتِي فِي أَصْلِ الصَّفَا. فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتَّى أَتَى الدَّارَ قَالَ: وَعَلَى بَابِ الدَّارِ طَلْحَةُ وَحَمْزَةُ وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَمَّا رَأَى حَمْزَةُ وَجَلَ الْقَوْمِ مِنْ عُمَرَ قَالَ حَمْزَةُ: نَعَمْ فَهَذَا عُمَرُ فَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِعُمَرَ خَيْرًا يُسْلِمُ وَيَتَّبِعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ يَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُنْ قَتْلُهُ عَلَيْنَا هَيِّنًا. قَالَ: وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلَ يُوحَى إِلَيْهِ , فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عُمَرَ فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ فَقَالَ: مَا أَنْتَ منتهياً يَا عُمَرُ حَتَّى يُنْزِلَ اللَّهُ بِكَ مَا أَنْزَلَ بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ! اللَّهُمَّ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ , اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَأَسْلَمَ وَقَالَ: اخْرُجْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ قَالَ:

(الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي وَجَبَتْ لَهُ ... عَلَيْنَا أَيَادِي مَا لَهَا غِيَرُ) (وَقَدْ بَدَأْنَا فَكَذَّبْنَا وَقَالَ لَنَا ... صَدَقَ الْحَدِيثُ نَبِيٌّ عِنْدَهُ الْخَبَرُ) (وَقَدْ ظَلَمْتُ ابْنَةَ الْخَطَّابِ ثُمَّ هَدَى ... رَبِّي عَشِيَّةَ قَالُوا قَدْ هُدِي عُمَرُ) (وَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ زَلَلٍ ... بِلَطْمِهَا حِينَ تُتْلَى عِنْدَهَا السُّوَرُ) (لَمَّا دَعَتْ رَبَّهَا ذَا الْعَرْشِ جَاهِدَةً ... وَالدَّمْعُ مِنْ عَيْنِهَا عَجْلانُ يَبْتَدِرُ) (أَيْقَنْتُ أَنَّ الَّذِي تَدْعُوهُ خَالِقُهَا ... فَكَادَ يَسْبِقُنِي مِنْ عَبْرَةٍ دُرَرُ) (فَقُلْتُ أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُنَا ... وَأَنَّ أَحْمَدَ فِينَا الْيَوْمَ مُشْتَهِرُ) (نَبِيُّ صِدْقٍ أَتَى بِالْحَقِّ مِنْ ثِقَةٍ ... وَافِي الأَمَانَةِ مَا فِي عُودِهِ خُوَرُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ كَبَّرَ أَهْلُ الدَّارِ تَكْبِيرَةً سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ. وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ إِنْ مِتْنَا وَإِنْ حَيِينَا؟ قَالَ: بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. قَالَ: فَفِيمَ الاخْتِفَاءُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَتَخْرُجَنَّ. قَالَ عُمَرُ: فَأَخْرَجْنَاهُ فِي صَفَّيْنِ , حَمْزَةُ فِي أَحَدِهِمَا وَأَنَا فِي الآخَرِ لَهُ كَدِيدٌ كَكَدِيدِ الطَّحِينِ , حَتَّى إِذَا دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ نَظَرَتْ قُرَيْشٌ إِلَى حَمْزَةَ وَعُمَرَ فَأَصَابَتْهُمْ كَآبَةٌ لَمْ يُصِبْهُمْ مِثْلُهَا. قَالَ: فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ الْفَارُوقَ , وَفَرَّقَ اللَّهُ بِي بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاثٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَنَزَلَتْ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ , فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ. فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ. وَاجْتَمَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاؤُهُ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

" بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأٌ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا ". فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ ". قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَقِيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّيْطَانَ فِي زُقَاقٍ مِنْ أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ فَدَعَاهُ الْجِنِّيُّ إِلَى الصِّرَاعِ فَصَرَعَهُ الإِنْسِيُّ , فَقَالَ: دَعْنِي. فَفَعَلَ: فَقَالَ: هَلْ لك فِي الْمُعَاوَدَةِ فَفَعَلَ فَصَرَعَهُ فَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ , فَقَالَ: مَا الَّذِي يُعِيذُنَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ. فَقَالَ رَجُلٌ لابْنِ مَسْعُودٍ؟ مَنْ ذَاكَ الرَّجُلُ أَعُمَرُ هُوَ؟ فَعَبَسَ وَبَسَرَ وَقَالَ: وَمَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ إِلا عُمَرَ! وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " عُمَرُ سِرَاجُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ " وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ: " أَشَدُّ أُمَّتِي فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام فقال أقرىء عُمَرَ السَّلامَ وَأَخْبِرْهُ أَنَّ رِضَاهُ عِزٌّ وَغَضَبَهُ حلم. وفي حديث علي عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: اتَّقُوا غَضَبَ عُمَرَ إِذَا غَضِبَ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ إِذَا غَضِبَ. وَفِي حَدِيثِ عقبة ابن عَامِرٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ ". كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جدا كله وَكَانَ يَقْدُمُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ وَيَنْبَسِطُ فَيَحْتَمِلُهُ , لِعِلْمِهِ بِصِحَّةِ قَصْدِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ فَوَقَفَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: أتصلي عليه؟!

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا لأَبِي هُرَيْرَةَ: اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهِ قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ. فَذَهَبَ فَلَقِيَهُ عُمَرُ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَّ وَقَالَ: ارْجِعْ فَرَجَعَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخْشَى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون. قال: فخلهم. وَفِي حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ فَضَائِلِ عُمَرَ؟ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ مَعَكَ مَا لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا مَا نَفِدَتْ فَضَائِلُ عُمَرَ وَإِنَّ عُمَرَ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ أَبِي بَكْرٍ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (تَحَدَّثْ وَلا تَخْرُجْ بِكُلِّ عَجِيبَةٍ ... عَنِ الْبَحْرِ أَوْ تِلْكَ الْخِلالِ الزَّوَاهِرِ) (وَلا عَيْبَ فِي أَخْلاقِهِ غَيْرَ أَنَّهَا ... فَرَائِدُ دُرٍّ مَا لَهَا مِنْ نَظَائِرِ) (يُقِرُّ لَهَا بِالْفَضْلِ كُلُّ مُنَازِعٍ ... إِذَا قِيلَ يَوْمَ الْجَمْعِ هَلْ مِنْ مُفَاخِرِ) قَوِيَتْ شِدَّةُ عُمَرَ فِي الدِّينِ فَصَلُبَتْ عَزَائِمُهُ , فَلَمَّا حَانَتِ الْهِجْرَةُ تَسَلَّلُوا تَسَلُّلَ الْقَطَا وَاخْتَالَ عُمَرُ فِي مِشْيَةِ الأَسَدِ , فَقَالَ عِنْدَ خُرُوجِهِ: هَا أَنَا أَخْرُجُ إِلَى الْهِجْرَةِ , فَمَنْ أَرَادَ لِقَائِي فَلْيَلْقَنِي فِي بَطْنِ هَذَا الْوَادِي. لَمَا وَلِيَ الْخِلافَةَ شَمَّرَ عَنْ سَاقِ جِدِّهِ فَكَظَمَ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ , وَحَمَلَ فِي اللَّهِ فَوْقَ طَوْقِهِ. (مُتَيَقِّظُ الْعَزَمَاتِ مُذْ نَهَضَتْ بِهِ ... عَزَمَاتُهُ نَحْوَ الْعُلَى لَمْ يَقْعُدِ) (وَيَكَادُ مِنْ نُورِ الْبَصِيرَةِ أَنْ يَرَى ... فِي يَوْمِهِ فِعْلَ الْعَوَاقِبِ فِي غَدِ) نَبَذَ الدُّنْيَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ فَتَخَفَّفَ مِنَ الأَثْقَالِ لأَجْلِ السِّبَاقِ , كَانَ يَخْطُبُ وَفِي إزاره ثنتا عَشْرَةَ رُقْعَةً , كَفَّ كَفَّهُ عَنِ الْمَالِ زَاهِدًا فِيهِ حَتَّى أَمْلَقَ أَهْلَهُ. رَأَى يَوْمًا صَبِيَّةً تَمْشِي فِي السُّوقِ وَالرِّيحُ يُلْقِيهَا لِضَعْفِهَا , فَقَالَ مَنْ يَعْرِفُ هَذِهِ؟ فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ إِحْدَى بَنَاتِكَ. قَالَ: أَيُّ بَنَاتِي؟ قَالَ: بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. قَالَ: فَمَا بَلَغَ بِهَا مَا أَرَى؟ قَالَ: إِمْسَاكُكَ مَا عِنْدَكَ. قَالَ: إِمْسَاكِي

مَا عِنْدِي يَمْنَعُكَ أَنْ تَطْلُبَ لِبَنَاتِكَ مَا يطلب الناس؟ أما والله مالك عِنْدِي إِلا سَهْمُكَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَسِعَكَ أَوْ عَجَزَ عَنْكَ , بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ! (عِفَّ عَنِ الدُّنْيَا وَقَدْ تَزَخْرَفَتْ ... مُمْكِنَةً وَعَافِهَا وَقَدْ قَدَرْ) (مُحَكَّمٌ فِي النَّاسِ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ... بِمُحْكَمِ الآي ومنصوص السور) (حدثت عَنْهُ مِثْلَ مَا تَحَدَّثَتْ ... عَنْ كَرَمِ الأَغْصَانِ حَلْوَاءُ الثَّمَرْ) وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَسَّمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ فَبَقِيَ مِنْهَا مِرْطٌ جَيِّدٌ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْطِ هَذَا الْمِرْطَ ابْنَةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي عِنْدَكَ , يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ. قَالَ: أم سليط أحق بها فَإِنَّهَا مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ تُزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ. وَرَآهُ طَلْحَةُ يَدْخُلُ بَيْتًا فَلَمَّا أَصْبَحَ دَخَلَ طَلْحَةُ ذَلِكَ الْبَيْتَ فَرَأَى عَجُوزًا عَمْيَاءَ مُقْعَدَةً فَقَالَ: مَا صَنَعَ عِنْدَكِ ذَلِكَ الرَّجُلُ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ يَتَعَاهَدُنِي مُنْذُ كَذَا وَيَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي وَيُخْرِجُ عَنِّي الأَذَى. فَقَالَ طَلْحَةُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا طَلْحَةُ! أَعَثَرَاتِ عُمَرَ تَتَّبِعُ. وَرَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ يَعُسُّ بِالْمَدِينَةِ إِذْ مَرَّ بِرَحْبَةٍ مِنْ رِحَابِهَا فَإِذَا هُوَ بِبَيْتٍ مِنْ شَعَرٍ , فَدَنَا مِنْهُ , فَسَمِعَ أَنِينَ امْرَأَةٍ وَرَأَى رَجُلا قَاعِدًا , فَدَنَا مِنْهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ جِئْتُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أُصِيبُ مِنْ فَضْلِهِ. قَالَ: فَمَا هَذَا الصَّوْتُ فِي هَذَا الْبَيْتِ؟ قَالَ: امْرَأَةٌ تَمَخَّضُ. قَالَ: هَلْ عِنْدَهَا أَحَدٌ؟ قَالَ: لا. فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيٍّ: هَلْ لَكِ فِي أَجْرٍ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكِ؟ قَالَتْ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: امْرَأَةٌ غَرِيبَةٌ تَمَخَّضُ لَيْسَ عِنْدَهَا أَحَدٌ. قَالَتْ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ. قَالَ: فَخُذِي مَا يُصْلِحُ الْمَرْأَةَ لِوِلادَتِهَا مِنَ الْخِرَقِ وَالدُّهْنِ وَجِيئِينِي بِبُرْمَةٍ وَشَحْمٍ وَحُبُوبٍ. فَجَاءَتْ بِهِ فَقَالَ: انْطَلِقِي. وَحَمَلَ الْبُرْمَةَ وَمَشَتْ خَلْفَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَيْتِ فَقَالَ لَهَا: ادْخُلِي إِلَى الْمَرْأَةِ وَجَاءَ حَتَّى قَعَدَ إِلَى الرَّجُلِ فَقَالَ لَهُ: أَوْقِدْ لِي نَارًا. فَفَعَلَ فَأَوْقَدَ تَحْتَ الْبُرْمَةِ حَتَّى أَنْضَجَهَا وَوَلَدَتِ المرأة ,

فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَشِّرْ صَاحِبَكَ بِغُلامٍ. فَلَمَّا سَمِعَ الرَّجُلُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَابَهُ فَجَعَلَ يَتَنَحَّى عَنْهُ , فَقَالَ: مَكَانَكَ كَمَا أَنْتَ. فَحَمَلَ الْبُرْمَةَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَضَعَهَا عَلَى الْبَابِ ثُمَّ قَالَ: أَشْبِعِيهَا. فَفَعَلَتْ. ثُمَّ أَخْرَجَتِ الْبُرْمَةُ فَوَضَعَتْهَا عَلَى الْبَابِ فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَهَا فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ فَقَالَ: كُلْ وَيْحَكَ فَإِنَّكَ قَدْ سَهِرْتَ مِنَ اللَّيْلِ. فَفَعَلَ ثُمَّ قَالَ لامْرَأَتِهِ اخْرُجِي. وَقَالَ لِلرَّجُلِ: إِذَا كَانَ غَدٌ فَائْتِنَا نَأْمُرُ لَكَ بِمَا يُصْلِحُكَ. فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَأَجَازَهُ وَأَعْطَاهُ. وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ مات جدي بطف الْفُرَاتِ لَخَشِيتُ أَنْ يُحَاسِبَ اللَّهُ بِهِ عُمَرَ. وَكَانَ فِي وَجْهِهِ خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِثْلُ الشِّرَاكِ مِنَ الْبُكَاءِ. وَكَانَ يَمُرُّ بِالآيَةِ مِنْ وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ فَيَبْكِي حَتَّى يَسْقُطَ وَيَبْقَى فِي الْبَيْتِ حَتَّى يُعَادَ لِلْمَرَضِ. وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِذَا شِئْتُمْ أَنْ يَطِيبَ الْمَجْلِسُ فَعَلَيْكُمْ بِذِكْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (كُلَّ يَوْمٍ مَجْدٌ وَفَخْرٌ يُشَادُ ... وَطَرِيفٌ مِنَ الْمُنَى وَتِلادُ) (وَكِرَامٌ مِنَ الْمَسَاعِي حِسَانٌ ... عَجَزَتْ عَنْ طِلابِهَا الْحُسَّادُ) (هِمَمٌ دُونَهَا الْكَوَاكِبُ تَتْلُو ... عَزَمَاتٍ لِلنَّارِ فِيهَا اتِّقَادُ) (كُلَّمَا قِيلَ قَدْ دَجَى لَيْلُ خَطْبٍ ... فَلِرَأْيِ الْفَارُوقِ فِيهِ زِنَادُ) (مُغْرَمٌ بِالْمَكَارَمِ الْغِرُّ لَمَّا ... ضُمَّ أَبْكَارُهَا إِلَيْهِ الْوِلادُ) (سَاهِرُ الْعَيْنِ بِالْعَزَائِمِ يَقْظَانٌ ... وَقَدْ قَيَّدَ الْعُيُونَ الرُّقَادُ) (قَدْ كَفَتْهُ الْمَنَاقِبُ الْمَدْحَ إِلا ... مَدْحَنَا مِنْ صِفَاتِهِ يُسْتَفَادُ) مَا زَالَ الإِسْلامُ قَرِيرَ الْعَيْنِ مَا دَامَ مَفْتُوحَ الْعَيْنِ. كَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِي بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَهُوَ يَرْعَى مَكَانَهُ. (وَقَبْضُ الْمَحَلِّ بِبَسْطِ رَاحِهِ ... أَعْدَى الْجَهَامُ جُودَهَا فَهَتَّنَا) (أَوْصَافُهُ تُمْلَى عَلَى مُدَّاحِهِ ... مَا سَطَّرَ الْمَجْدُ لَهُ وَدَوَّنَا)

الكلام على قوله تعالى

(إِذَا رَوَاهَا الدَّهْرُ فِي أَبْيَاتِهِ ... طَرَّبَ إِعْجَابًا بِهَا وَلَحَّنَا) (وَإِنَّ بِهَا وَرْقَاءَ لَيْلٍ غَرَّدَتْ ... مُدَّ إِلَيْهَا كُلُّ غُصْنٍ فَنَّنَا) كَانَ عُمَرُ بَعْدَ أَعْمَالِهِ الْجَمِيلَةِ يَقُولُ عِنْدَ مَوْتِهِ: الْوَيْلُ لِعُمَرَ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُ! وَفِي الصحيحين أنه لما توفي قال علي عليه السلام: مَا خَلَّفْتُ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ يَا عُمَرُ. الْكَلامُ على قوله تعالى {وجوه يومئذ ناعمة} كَانَتْ أَقْدَامُهُمْ فِي الدُّجَى قَائِمَةً , وَعُيُونُهُمْ سَاهِرَةً لا نائمة , وقلوبهم على الطاعات عَازِمَةً , وَهَذِهِ أَفْعَالُ النُّفُوسِ الْحَازِمَةِ , فَوَجَبَتْ لَهُمْ نجاة قطعية جازمة {وجوه يومئذ ناعمة} . وُجُوهٌ طَالَ مَا غَسَلَتْهَا الدُّمُوعُ , وُجُوهٌ طَالَ مَا أَذَلَّهَا الْخُشُوعُ , وُجُوهٌ أُظْهِرَ عَلَيْهَا لِلاصْفِرَارِ الْجُوعُ , خَاطَرَتْ فِي الْمَهَالِكِ فَأَصْبَحَتْ سَالِمَةً {وُجُوهٌ يومئذ ناعمة} . وجوه أذعنت إذ عنت ولذت , وُجُوهٌ أَلِفَتِ السُّجُودَ فَمَا مَلَّتْ , وُجُوهٌ تَوَجَّهَتْ إلينا وعن غيرنا تولت , زالت عَنْهَا فَتْرَةُ الْهَجْرِ وَتَجَلَّتْ , فَحَلَّتْ غَانِمَةً. سَهَرُهُمْ إِلَى الصَّبَاحِ قَدْ أَثَّرَ فِي الْوُجُوهِ الصِّبَاحِ , وَاقْتِنَاعُهُمْ بِالْخُبْزِ الْقِفَارِ وَالْمَاءِ الْقَرَاحِ , قَدْ عَمِلَ فِي الأَجْسَامِ وَالأَشْبَاحِ , وَخَوْفُهُمْ مِنَ اجْتِرَاحِ الْجَنَاحِ قَدْ صَيَّرَهُمْ كَمَقْصُوصِ الْجَنَاحِ , وَعَلَى الْحَقِيقَةِ فَكُلُّ الأَرْوَاحِ مِنَ الْخَوْفِ هَائِمَةٌ. تَجْرِي دُمُوعُهُمْ فِي الْخُدُودِ كَالْمِيَاهِ فِي الأُخْدُودِ , وَتَعْمَلُ نَارُ الْحَذَرِ في الكبود

فَيَتَمَنَّوْنَ عَدَمَ الْوُجُودِ , فَهُمْ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَصْبِ الأَقْدَامِ الْقَائِمَةِ. يَتَفَكَّرُونَ فِي السَّابِقَةِ , وَيَحْذَرُونَ مِنَ اللاحِقَةِ وَكَأَنَّهُمْ يَتَّقُونَ صَاعِقَةً , أَوْ كَأَنَّ السُّيُوفَ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ بَارِقَةٌ , يَا شِدَّةَ قَلَقِهِمْ من الخاتمة {وجوه يومئذ ناعمة} . قال المفسرون: معنى قوله تعالى: {ناعمة} أَيْ فِي نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ لِسَعْيِهَا فِي الدُّنْيَا {راضية} الْمَعْنَى أَنَّهَا رَضِيَتْ ثَوَابَ عَمَلِهَا {فِي جَنَّةٍ عالية} المنازل {لا تسمع فيها لاغية} أَيْ كَلِمَةَ لَغْوٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهَا عَيْنٌ جارية} . طَالَمَا أَطَالُوا الْبُكَاءَ فِي اللَّيْلِ , تَجْرِي دُمُوعُهُمْ جَرْيَ السَّيْلِ , وَتَسْتَبِقُ فِي صَحْرَاءِ الْخُدُودِ كَالْخَيْلِ , وَإِنَّمَا يُكَالُ لِلْعَبْدِ عَلَى قَدْرِ الْكَيْلِ , فَإِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ فَلِكُلِّ عَيْنٍ جَارِيَةٌ {فِيهَا عَيْنٌ جارية} . جَنَّ اللَّيْلُ وَهُمْ قِيَامٌ , وَجَاءَ النَّهَارُ وَهُمْ صِيَامٌ , وَتَوَرَّعُوا قَبْلَ الْكَلامِ , وَسَلَّمُوا عَلَى الدُّنْيَا لِدَارِ السَّلامِ , فَالْبُطُونُ جَائِعَةٌ وَالأَجْسَادُ عَارِيَةٌ. ائْتَزِرُوا بِمِئْزَرِ الْقُنُوعِ , وَارْتَدُوا بِرِدَاءِ الْخُشُوعِ , وَاسْتَلِذُّوا بِشَرَابِ الدُّمُوعِ , وَلَوْلا صَحْوُ السَّهَرِ وَالْجُوعُ مَا بَانَ عِنْدَ الْجَبَلِ هِلالُ " يَا سَارِيَةُ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: {فيها سرر مرفوعة} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلْوَاحُهَا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَلَّةٌ بالزبرجد والياقوت , مرتفعة ما لم يجىء أَهْلُهَا , فَإِذَا أَرَادَ صَاحِبُهَا أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا تَوَاضَعَتْ لَهُ حَتَّى يَجْلِسَ عَلَيْهَا ثُمَّ تُرْفَعَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {وفرش مرفوعة} قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ ارْتِفَاعَهَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} وَهِيَ الأَبَارِيقُ الَّتِي لا عُرَى لَهَا ,

مَوْضُوعَةٌ عِنْدَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَتْ بِلا عُرَى لأَنَّ الْعُرْوَةَ تَرُدُّ الشَّارِبَ مِنْ جِهَتِهَا وَإِنَّمَا تُرَادُ الْعُرْوَةُ لِيُمْسَكَ بِهَا الإِنَاءُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَشْتَهِي الشَّرَابَ فَيَجِيءُ الإِنَاءُ فَيَقَعُ فِي يَدِهِ فَيَشْرَبُ ثُمَّ يَعُودُ مَكَانَهُ. ثُمَّ هُنَاكَ أَبَارِيقُ بِعُرًى فَقَدْ جُمِعَ الشَّيْئَانِ لهم. قوله تعالى: {ونمارق مصفوفة} وَهِيَ الْوَسَائِدُ وَاحِدُهَا نُمْرُقَةٌ بِضَمِّ النُّونِ وَالرَّاءِ ونمرقة بكسرهما. {مصفوفة} بعضها إلى جنب بعض {وزرابي} وهي الطنافس لها خمل رقيق {مبثوثة} كَثِيرَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ. يَا غَافِلا عَنْ هَذِهِ الدَّارِ , يَا رَاضِيًا عَنِ الصَّفَا بِالأَكْدَارِ , الْبِدَارَ الْبِدَارَ , سَابِقْ وُقُوعَ الْمَوْتِ قَبْلَ فَوْتِ الاقْتِدَارِ , وَيْحَكَ أَمَا تَرَى سَلْبَ الْجَارِ , أَمَا يُشَوِّقُكَ مَدْحُ الأَبْرَارِ , أَمَا تَخَافُ الشَّيْنَ أَمَا تَحْذَرُ الْعَارَ , إِلَى كَمْ هَذَا الْجَهْلُ وَالنِّفَارُ , مَا هَذَا التَّقَاعُدُ وَالْمَحْقُ قَدْ سَارَ , إِنَّ طُوفَانَ الْهَلاكِ قَدْ دَارَ حَوْلَ الدَّارِ , وَإِنَّ خَيْرَاتِ الأَسْحَارِ إِذَا رَآهَا الطَّرْفُ حَارَ , يَا سَكْرَانَ الْهَوَى قد قتل الحمار , يَا بَصِيرًا هُوَ أَعْمَى {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبصار} . رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَيْ سَنَةٍ , وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ لَمَنْ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ ". قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا نَعَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ وَمَا فِيهَا عَجِبَ الْكُفَّارُ مِنْ ذَلِكَ فَذَكَّرَهُمْ صَنْعَتَهُ وَقُدْرَتَهُ فَقَالَ: {أَفَلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ارْتِفَاعَ سُرُرِ الْجَنَّةِ وَفُرُشِهَا فَقَالُوا: كَيْفَ يُصْعَدُ إِلَيْهَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا خَصَّ الإِبِلَ بِالذِّكْرِ لأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَرَوْا بَهِيمَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا , وَلَمْ يُشَاهِدِ الْفِيلَ مِنْهُمْ إِلا الشَّاذُّ , وَلأَنَّهَا كَانَتْ أَنْفَسَ أَمْوَالِهِمْ , وَأَكْثَرَهَا لا

تُفَارِقُهُمْ , فَيُلاحِظُونَ فِيهَا الْعِبَرُ الدَّالَّةُ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ مِنْ عَجَائِبِ خَلْقِهَا , وَهِيَ عَلَى عِظَمِهَا مذللة للحمل الثقيل , وتنقاد للصبي الصغير , وليس فِي ذَوَاتِ الأَرْبَعِ مَا يَحْمِلُ وَقْرَهُ وَهُوَ بَارِكٌ فَيُطِيقُ النُّهُوضَ بِهِ سِوَاهَا. يَا مُقِيمًا " قَدْ حَانَ سَفَرُهُ , يَا مَنْ عَسَاكِرُ الْمَوْتَى تَنْتَظِرُهُ , سَيَعْزِلُ الصِّحَّةَ السَّقَمُ , وَسَيَغْلِبُ الْوُجُودَ الْعَدَمُ , السَّاعَاتُ مَرَاحِلُ وَالْمَوْتُ سَاحِلٌ , الْبِدَارَ قَبْلَ فَوَاتِهِ , اجْمَعِ الزَّادَ قَبْلَ شَتَاتِهِ: (إِذَا كُنْتُ أَعْلَمُ عِلْمًا يَقِينًا ... بِأَنَّ جَمِيعَ حَيَاتِي كَسَاعَةْ) (فَلِمَ لا أَكُونُ ضَنِينًا بِهَا ... وَأَجْعَلُهَا فِي صَلاحٍ وَطَاعَةْ) كَمْ أَخْلَى الْمَوْتُ دَارًا , كَمْ تَرَكَ الْمَعْمُورَ قِفَارًا , كَمْ أَوْقَدَ مِنَ الأَسَفِ نَارًا , كَمْ أَذَاقَ الْغُصَصَ الْمُرَّةَ مِرَارًا , لَقَدْ جَالَ يَمِينًا وَيَسَارًا , فَمَا حَابَى فَقْرًا وَلا يَسَارًا. أَيْنَ الْجَيْشُ الْعَرَمْرَمُ , أَيْنَ الْكَبِيرُ الْمُعَظَّمُ. إِنَّ الزَّمَانَ يَقْدَحُ فِي يَلَمْلَمَ , أَلْحَقَ أَخِيرًا بِمَنْ تَقَدَّمَ وَبَنَى يَسِيرًا ثُمَّ هَدَّمَ , بَيْنَا يُرِي بحر الأمل لمن تيمم أتاه فرآه سراياً فَتَيَمَّمَ. (أَيْنَ الَّذِينَ عَلَى عَهْدِ الثَّرَى وَطِئُوا ... وَحُكِّمُوا فِي لَذِيذِ الْعَيْشِ فَاحْتَكَمُوا) (وَمَلَكُوا الأَرْضَ مِنْ سَهْلٍ إِلَى جَبَلٍ ... وَخَوَّلُوا نِعَمًا مَا مِثْلُهَا نِعَمُ) (لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَلَى ضَنِّ الْقُلُوبِ بِهِمْ ... إِلا رُسُومُ قُبُورٍ حَشْوُهَا رِمَمُ) سَارُوا إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ , رَحَلَ القوم فاسأل الأطلال , وإنما كانت ففنيت آجال , لا يُجِيبُونَ دَاعِيًا , الْقَوْمُ فِي اشْتِغَالٍ , غَالَهُمْ مِنَ الْبِلَى أَقْبَحَ مَا غَالَ , آلَتْ أَمْوَالُهُمْ إِلَى أَكُفِّ الآلِ , بَضَّعَ الأَهْلَ بَضَائِعَهُمْ وَقَفَّلَهَا إِلَى الأَقْفَالِ , وَتَلَذَّذُوا بِكَدِّ غَيْرِهِمْ فَسَلْ سَالِبًا عَنْ شَلْشَالٍ , هَذَا مَصِيرُكُمْ عَنْ قَرِيبٍ مَا يَمُرُّ عَلَى الْبَالِ {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بهم وضربنا لكم الأمثال} . (وَمُسَنَّدُونَ تَعَاقَرُوا كَأْسَ الرَّدَى ... وَدَعَا بِشُرْبِهِمُ الْحِمَامُ فَأَسْرَعُوا) (بَرَكَ الزَّمَانُ عَلَيْهِمُ بِجِرَانِهِ ... وَهَفَتْ بِهِمْ رِيحُ الْخُطُوبِ الزَّعْزَعُ)

(خُرْسٌ إِذَا نَادَيْتَ إِلا أَنَّهُمْ ... وُعِظُوا بِمَا يَزَعُ اللَّبِيبَ فَأَسْمَعُوا) (وَالدَّهْرُ يَفْتِكُ بِالنُّفُوسِ حِمَامُهُ ... فَلِمَنْ تَعُدُّ كَرِيمَةً أَوْ تَجْمَعُ) (عَجَبًا لِمَنْ يُبْقِي ذَخَائِرَ مَالِهِ ... وَيَظَلُّ يَحْفَظُهُنَّ وَهُو مُضَيَّعُ) (وَلِغَافِلٍ وَيَرَى بِكُلِّ ثَنِيَّةٍ ... مُلْقًى لَهُ بَطْنُ الصَّفَائِحِ مَضْجَعُ) (أَتُرَاهُ يَحْسَبُ أَنَّهُمْ مَا أَسْأَرُوا ... مِنْ كَأْسِهِ أَضْعَافَ مَا يَتَجَرَّعُ) كَأَنَّكُمْ بِالأُمُورِ الْفَظِيعَةِ قَدْ حَلَّتْ , وَبِالدُّنْيَا الَّتِي تَوَلَّتْ قَدْ تَوَلَّتْ , وَبِالنَّفْسِ الْعَزِيزَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ قَدْ ذَلَّتْ , وَيْحًا كَمْ أَخْطَأَتْ وَكَمْ قَدْ زَلَّتْ , مَتَى يُقَالُ لِهَذِهِ الْغَمْرَةِ الَّتِي قَدْ جَلَّتْ قَدْ تَجَلَّتْ , عَجَبًا لِنَفْسٍ كُلَّمَا عَقَدْنَا نَفْعَهَا حَلَّتْ. (أَوْجَزَ الدَّهْرُ فِي الْعِظَاتِ إِلَى ... أَنْ جَعَلَ الصَّمْتَ غَايَةَ الإِيجَازِ) (مَنْطِقٌ لَيْسَ بِالنَّثِيرِ وَلا الشِّعْرِ ... وَلا فِي طَرَائِقِ الرُّجَّازِ) (وَعَدَتْنَا الأَيَّامُ كل عجيب ... وتكون الوعود بالإنجاز) (والليالي هوازي رَاجِعَاتٌ ... فِي أَبِي جَادِهَا وَفِي هَوَّازِ) (أَوْعَزَ الدَّهْرُ بِالْفَنَاءِ إِلَى النَّاسِ ... فَوَاهًا لِذَلِكَ الإِيعَازِ) (أعرضوا عن مدائح وتهان ... فالمرائي أَوْلَى بِكُمْ وَالتَّعَازِي) أَحْضِرُوا قُلُوبَكُمْ لِلنُّصْحِ وَالتَّوَاصِي , وَاحْذَرُوا يَوْمَ الأَخْذِ بِالنَّوَاصِي , تَذَكَّرُوا جَمْعَ الدَّانِي وَالْقَاصِي , أَسَمِعْتَ يَا مَنْ يَرُوحُ فِي الْمَعَاصِي ويبكر {فذكر إنما أنت مذكر} . واعجباً كَيْفَ نُحَدِّثُ السَّكْرَى وَقَدْ مَلأَتْهُمُ الْغَفْلَةَ , سَكْرَى ما يعقلون إلا بطارق النكراء , وَكَمْ تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْوَعْظُ ذِكْرَى , هَيْهَاتَ , إِنَّمَا تَنْفَعُ الذِّكْرَى الْمُتَذَكِّرَ. أَيُّهَا النَّصِيحُ أَتَرَى الْمَنْصُوحَ أَصَمَّ , بُيِّنَ لَهُ قُبْحَ مَا قَدْ جَمَعَ وَضَمَّ , فَإِنَّ أَفْعَالَهُ جَمِيعَهَا تُوجِبُ الذَّمَّ , وَمَتَى رَأَيْتَ النِّسْيَانَ لِلْعَوَاقِبِ قَدْ عَمَّ , يَا مَنْ يرى هواه

الْحَاضِرَ وَيَنْسَى مَوْلاهُ النَّاظِرَ , وَلا نَاصِرَ لَهُ إِلا الأَخِيرُ نَاصِرٌ , عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ تَثَبَّتْ وَفَكِّرْ , كَأَنَّكَ بِمُذِلِّ الْقَوِيِّ وَمُفْقِرِ الْغَنِيِّ وَمُوقِظِ الْغَبِيِّ وَقَاصِمِ الْفَتَى الْفَتِيِّ وَمَا يَأْتِي فِي زِيٍّ مُتَنَكِّرٍ. كَمْ أَجْرَى الْمَوْتُ دَمْعًا وَابِلا وَرَذَاذًا , كَمْ قَطَعَ الْبَلاءُ صَحِيحًا فَجَعَلَهُ جُذَاذًا , كَمْ مِنْ مُتَجَبِّرٍ أَذَلَّهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ مَعَاذًا , أَتَعْرِفُ صِحَّةَ هَذَا أَمْ تُنْكِرُ. كَمْ مَوْعُوظٍ زُجِرَ فَارْعَوَى , كَمْ فَاسِدٍ وُبِّخَ فَاسْتَوَى , كَمْ مُسْتَقِيمٍ بِالْوَعْظِ بَعْدَمَا الْتَوَى , عَادُوا إِلَى الزَّلَلِ بِمُوَافَقَةِ الْهَوَى , وَالْمِحْنَةُ أَنَّ الْهَوَى يُعَكِّرُ {فذكر إنما أنت مذكر} . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصْحِبِهِ وسلم.

المجلس الثلاثون في فضائل عثمان بن عفان

المجلس الثلاثون فِي فَضَائِلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَدِيمًا دَائِمًا , وَخَبِيرًا بِالأَسْرَارِ عَالِمًا , قَرَّبَ مَنْ شَاءَ فَجَعَلَهُ صَائِمًا قَائِمًا , وَطَرَدَ مَنْ شَاءَ فَصَارَ فِي بَيْدَاءِ الضَّلالِ هَائِمًا , يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ وَإِنْ يَأْبَى الْعَبْدُ رَاغِمًا , وَيَقْبَلُ تَوْبَةَ التَّائِبِ إِذَا أَمْسَى نَادِمًا , أَحْمَدُهُ حَمْدًا مِنَ التَّقْصِيرِ سَالِمًا , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي سَافَرَ إِلَى قَابِ قَوْسَيْنِ ثُمَّ عَادَ غَانِمًا , وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي لَمْ يَزَلْ رَفِيقًا مُلائِمًا , وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي يَعْبُدُ رَبَّهُ مُسِرًّا كَاتِمًا , وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي قُتِلَ مَظْلُومًا وَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا , وَفِيهِ أُنْزِلَ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وقائما} وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي كَانَ فِي الْعُلُومِ بَحْرًا وَفِي الْحُرُوبِ صَارِمًا , وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ حَوْلَ نُصْرَتِهِ حَائِمًا. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَاجْعَلْ ذِكْرَ الآخِرَةِ لِقُلُوبِنَا مُلازِمًا , وَوَفِّقْنَا لِلتَّوْبَةِ تَوْفِيقًا جَازِمًا , وَذَكِّرْنَا رَحِيلَنَا قَبْلَ أَنْ نَرَى الْمَوْتَ هَاجِمًا , وَاقْبَلْ صَالِحَنَا وَاغْفِرْ لِمَنْ كَانَ آثِمًا. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْحَرِيرِيُّ , أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ الْعُشَارِيُّ , أَنْبَأَنَا ابْنُ سَمْعُونٍ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْمُطَرِّزُ , حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُكْتِبُ , حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُحَارِبِيُّ , حَدَّثَنَا مسعر بن كدام , عن عطية , عن ابن سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ عُثْمَانَ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ. إِلَى أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ.

اعْلَمْ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّنْ تَقَدَّمَ إِسْلامُهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارِ الأَرْقَمِ , فَلَمَّا أَسْلَمَ أَخَذَهُ عَمُّهُ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا فَلَمَّا رَأَى صَلابَتَهُ فِي دِينِهِ تَرَكَهُ. وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ الْهِجْرَتَيْنِ , وَمَعَهُ فِيهَا رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ , أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ , حَدَّثَنَا لَيْثٌ , حَدَّثَنِي عَقِيلٌ , عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ , أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُثْمَانَ حَدَّثَاهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ لابِسَ مِرْطِ عَائِشَةَ , فَأَذِنَ لأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ , فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ. قَالَ: وَكَذَا عُمَرُ. قَالَ عُثْمَانُ: ثُمَّ اسْتَأَذنْتُ عَلَيْهِ فَجَلَسَ وَقَالَ لِعَائِشَةَ اجْمَعِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ. قَالَ: فَقَضَيْتُ إِلَيْهِ حَاجَتِي ثُمَّ انْصَرَفْتُ , فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي لا أَرَاكَ فَزِعْتَ لا لأَبِي بَكْرٍ وَلا لِعُمَرَ كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ؟ قَالَ: إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ وَإِنِّي خَشِيتُ إن أذنت له عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ أَنْ لا يُبْلِغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ. قَالَ اللَّيْثُ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَلا نَسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلائِكَةُ "؟. قَالَ أَحْمَدُ وَحَدَّثَنَا أَبُو قَطَنٍ , حَدَّثَنَا يونس , يعني بن أَبِي إِسْحَاقَ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , قَالَ: أَشْرَفَ عُثْمَانُ مِنَ الْقَصْرِ وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حِرَاءٍ إِذِ اهْتَزَّ الْجَبَلُ فَوَكَزَهُ بِرِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ: اسْكُنْ حِرَاءُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ وَأَنَا مَعَهُ؟ فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. فَقَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ إِذْ بَعَثَنِي إِلَى الْمُشْرِكِينَ أهل مكة قال: هذه يدي وهذه يَدُ عُثْمَانَ. فَبَايَعَ لِي؟ فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قَالَ: " مَنْ يُوَسِّعُ لَنَا بِهَذَا الْبَيْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِبَيْتٍ لَهُ فِي الْجَنَّةِ "؟ فَابْتَعْتُهُ مِنْ

مَالِي فَوَسَّعْتُ بِهِ الْمَسْجِدَ؟ فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. قَالَ: وَأَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ جَيْشِ الْعُسْرَةِ قَالَ: مَنْ يُنْفِقُ الْيَوْمَ نَفَقَةً مُتَقَبَّلَةً؟ فَجَهَّزْتُ نِصْفَ الْجَيْشِ مِنْ مَالِي؟ قَالَ: فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. قَالَ: وَأَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ بِئْرَ رُومَةَ يُبَاعُ مَاؤُهَا لابْنِ السَّبِيلِ فَابْتَعْتُهَا مِنْ مَالِي وَأَبَحْتُهَا ابْنَ السَّبِيلِ؟ فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ: جَاءَ عُثْمَانُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي ثَوْبِهِ حِينَ جَهَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ هَذَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَبَّابٍ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حدث عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلاسِهَا وَأَقْتَابِهَا في سبيل الله. ثم حدثنا عَلَى الْجَيْشِ فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سبيل الله. قال: ثم حث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجَيْشِ فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: " مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ ". وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ لَوْ كَانَ عِنْدَنَا مَنْ يُحَدِّثُنَا؟ فَقُلْتُ: أَلا أَبْعَثُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدَنَا مَنْ يُحَدِّثُنَا فَقُلْتُ: أَلا أَبْعَثُ إِلَى عُمَرَ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ دَعَا وَصِيفًا بَيْنَ يَدَيْهِ فَسَارَّهُ فَذَهَبَ قَالَتْ: فَإِذَا عُثْمَانُ يَسْتَأْذِنُ فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ. فَنَاجَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوِيلا ثُمَّ قَالَ: يَا عُثْمَانُ إِنَّ اللَّهَ عز وجل مقمصك بقميص , فإن أراد الْمُنَافِقُونَ عَلَى أَنْ تَخْلَعَهُ فَلا تَخْلَعْهُ لَهُمْ وَلا كَرَامَةَ. يَقُولُهَا لَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. وَقَالَ مُطَرِّفٌ: لَقِيتُ عَلِيًّا فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا أَبْطَأَ بِكَ عَنَّا؟ أَحُبُّ عُثْمَانَ؟ أَمَا إِنْ قُلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ كَانَ أَوْصَلَنَا لِلرَّحِمِ وَأَتْقَانَا لِلرَّبِّ تَعَالَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقِيلُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ وَيَقُومُ وَأَثَرُ الْحَصَى بِجَنْبِهِ فَنَقُولُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَمِيرُ المؤمنين.

قَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ: كَانَ عُثْمَانُ يُطْعِمُ الناس طعام الإِمَارَةِ وَيَدْخُلُ بَيْتَهُ فَيَأْكُلُ الْخَلَّ وَالزَّيْتَ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ قَالَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ حِينَ أَطَافُوا بِهِ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ: إِنْ تَقْتُلُوهُ أَوْ تَتْرُكُوهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ فِي رَكْعَةٍ يَجْمَعُ فِيهَا الْقُرْآنَ! وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: جَاءَ عَلِيٌّ إِلَى عُثْمَانَ يَوْمَ الدَّارِ وَقَدْ أَغْلَقَ الْبَابَ وَمَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَلَيْهِ سِلاحُهُ فَقَالَ لِلْحَسَنِ: ادْخُلْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَقْرِئْهُ السَّلامَ وَقُلْ لَهُ: إِنَّمَا جِئْتُ لِنُصْرَتِكَ فَمُرْنِي بِأَمْرِكَ. فَدَخَلَ الْحَسَنُ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لأَبِيهِ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ وَيَقُولُ لَكَ: لا حَاجَةَ لِي فِي قِتَالٍ وَإِهْرَاقِ الدِّمَاءِ. قَالَ: فَنَزَعَ عَلِيٌّ عِمَامَةً سَوْدَاءَ فَرَمَى بِهَا بَيْنَ يَدَيِ الْبَابِ وَجَعَلَ يُنَادِي: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كيد الخائنين} . وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ [فِيهِمْ] {وَنَزَعْنَا مَا فِي صدورهم من غل} . رَأَى الرَّسُولَ فِي مَنَامِهِ لَيْلَةَ قَتْلِهِ وَهُو يَقُولُ: أَفْطِرْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ. فَأَصْبَحَ صَائِمًا , فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ ضَرَبَهُ رَجُلٌ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَ يَدَهُ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لأَوَّلُ كَفٍّ خَطَّتِ الْمُفَصَّلَ. (شَفَتِ الْعِبْرَةُ بِالنُّطْقِ شَفَتْ ... وَأَكُفُّ الزَّجْرِ بِالْوَعْظِ كَفَتْ) (قَدْ رَأَيْنَا فِي الدُّنَا مَنْ عَاهَدَتْ ... وَرَأَيْنَا غَدْرَهَا إِذْ مَا وَفَتْ) (إِنْ صَفَتْ عَادَتْ بِتَكْدِيرِ الَّذِي ... قَدْ صَفَا يَا وَيْحَهَا مَا أَنْصَفَتْ) (حَلَفَتْ أَنْ تَخْلُفَ الْمَاضِي وَمَا ... أَخْلَفَتْ إِلا بِأَنْ قَدْ أَخْلَفَتْ) (وَقَفَتْ لَهْوَ النُّفُوسِ سَاعَةً ... ثُمَّ غَالَتْ وَقَفَتْ فِيمَا قَفَتْ) (مَا عَجِبْنَا مِنْ مَكْرِ مَكْرِهَا ... بَلْ عَجِبْنَا مِنْ نُفُوسٍ عَرَفَتْ)

إِخْوَانِي: قَدْ أَعْذَرَتْ إِلَيْكُمُ الأَيَّامُ بِمَنْ سُلِبَ مِنَ الأَنَامِ , وَأَيْقَظَتِ الْخُطُوبُ مَنْ غَفَلٍ وَنَامَ , وَمَا عَلَى الْمُنْذِرِ قَبْلَ الأَخْذِ مَلامُ , أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا غَدَّارَةٌ , أَمَا بَرْدُ لَذَّتِهَا يَنْقَلِبُ حَرَارَةً , أَمَا رِبْحُهَا عَلَى التَّحْقِيقِ خَسَارَةٌ , أَمَا يَنْقُصُ الدِّينُ كُلَّمَا ازْدَادَتْ عِمَارَةً , لا تَغُرَّنَّكُمْ فَكَمْ قَدْ غَرَّتْ سَيَّارَةً , أَمَا قَتَلَتْ أَحْبَابَهَا وَإِلَيْكَ الإِشَارَةُ , إِذَا قَالَ حَبِيبُهَا: إِنَّهَا لِي وَمَعِي. قَتَلَتْهُ وَقَالَتْ اسْمَعِي يَا جَارَةُ , بَيْنَا نُورُهَا قَدْ لاحَ وَسَنَحَ وَمُحِبُّهَا فِي بَحْرِهَا قَدْ سَبَحَ , يَسْعَى فِي جَمْعِهَا عَلَى أَقْدَامِ الْمَرَحِ , كُلَّمَا جَاءَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا فَتَحَ , وَكُلَّمَا عَانَى أَمْرًا مِنْ أُمُورِهَا صَلَحَ , وَكُلَّمَا لاحَتْ لَهُ رِيَاضُ غِيَاضِهَا مَرَحَ , فَبَيْنَا هُوَ فِي لَذَّاتِهِ يُدِيرُ الْقَدَحَ , قَدَحَ زِنَادُ الْغَمِّ فِي حِرَاقِ الْفَرَحِ , فَمَنْ يَسْتَدْرِكُ مَا فَاتَ وَمَنْ يُدَاوِي مَا جَرَحَ , مَا نَفَعَهُ أَنْ نَزَحَ الْجَفْنُ دَمَعْهُ إِذَا نَزَحَ. لَوْ رَأَيْتَهُ وَقْتَ التَّلَفِ شَاخِصًا , وَفِي سَكَرَاتِ الأَسَفِ غَائِصًا , وَقَدْ عَادَ ظِلُّ الأَمَلِ قَالِصًا , وَلَوْنُ السُّرُورِ حَائِلا نَاقِصًا , وَلاحَ صَائِدُ الْمَنُونِ لِطَرِيدَتِهِ قَانِصًا , يَتَمَنَّى وَقَدْ فَاتَ الْوَقْتُ , وَيَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِ الْمَقْتِ , وَيَصِيحُ إِلَى نَصِيحِهِ: قَدْ صَدَقْتَ , أمَّل فَخَانَهُ الأَمَلُ , وَنَدِمَ عَلَى الزاد لما رحل , فلو حمل جبلا مَا حَمَلَ. (تَمَنَّتْ أَحَالِيبَ الرِّعَاءِ وَخَيْمَةً ... بِنَجْدٍ فَلَمْ يُقْدَرْ لَهَا مَا تَمَنَّتْ) (إِذَا ذَكَرَتْ نَجْدًا وَطِيبَ تُرَابِهِ ... وَبَرْدَ حَصَاهُ آخِرَ اللَّيْلِ حَنَّتْ) رُبَّ يَوْمٍ مَعْدُودٍ لَيْسَ فِي الْعَدَدِ , رَحَلَ الإِخْوَانُ وَمَرُّوا عَلَى جَدَدٍ , هَذِهِ دِيَارُهُمْ سلوها ما بقي أحد , مضت والله الخيل بِفُرْسَانِهَا , وَتَهَدَّمَتِ الْحُصُونُ عَلَى سُكَّانِهَا , وَخَلَتْ دِيَارُ الْقَوْمِ مِنْ قُطَّانِهَا فَجُزْ عَلَيْهَا وَاعْتَبِرْ بِشَانِهَا. (يَا خَلِيلَيَّ أَسْعِدَانِي عَلَى الْوَجْدِ ... فَقَدْ يُسْعِدُ الْحَمِيمَ الْحَمِيمُ) (وَقِفَا بِي عَلَى الدِّيَارِ فَعِنْدِي ... مَقْعَدٌ مِنْ سُؤَالِهَا وَمُقِيمُ) تَنَبَّهْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْمَظْلُومُ , تَيَقَّظْ مِنْ رَقَدَاتِكَ فَإِلَى كَمْ نَوْمٌ , حَصِّلْ شَيْئًا تُرْضِي بِهِ الْخُصُومَ , قَتَلَكَ هَمُّ الدُّنْيَا فَبِئْسَ الْهُمُومُ , أَتَلْعَبُ بِالأَبْتَرِ وَلَمْ تَشْرَبْ

الكلام على قوله تعالى

دِرْيَاقَ السُّمُومِ , قَدْ بَقِيَ الْقَلِيلُ فَبَادِرْ تَحْصِيلَ الْمَرُومِ , هَذَا هَاجِمُ الْمَوْتِ قَدْ تَهَيَّأَ لِلْهُجُومِ. (يَا فَتِيَّ الْهَمِّ مَعَ كِبَرِهِ ... وَقَلِيلَ الْحَظِّ مِنْ عُمُرِهِ) (كُنْ مَعَ الدُّنْيَا عَلَى حَذَرٍ ... فَأَمَانُ الْمَرْءِ فِي حَذَرِهِ) (وَاتَّخِذْ زَادًا لِمُنْتَظِرٍ شَأْنُهُ ... إِزْعَاجُ مُنْتَظِرِهِ) أَتَجْتَلِي مِنَ الْهَوَى كُلَّ يوم عروسا , وتدير في مجالس الغفلة كؤوسا , وَتَمْلأُ بِالأَمْوَالِ كِيسًا كَبِيسًا , وَتَنْسَى يَوْمًا شَدِيدًا عَبُوسًا , كَمْ تَلْقَى فِيهِ هَوْلا وَكَمْ تَرَى بُوسًا تَخْشَعُ فِيهِ الأَبْصَارُ وَقَدْ كَانَتْ شُوسًا , وَيَنْزَعِجُ لِزَلازِلِهِ إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى , وَالْخَلائِقُ لِلْفَزَعِ قَدْ نكسوا رؤوسا , وَجَاءُوا عُرَاةً لا يَمْلِكُونَ مَلْبُوسًا , وَصَارَ كُلُّ لِسَانٍ مُنْطَلِقٌ مَحْبُوسًا , يَا مَنْ تَصِيرُ غَدًا فِي التُّرَابِ مَرْمُوسًا , يَا مَنْ لا يَجِدُ فِي لَحْدِهِ غَيْرَ عَمَلِهِ أَنِيسًا , يَا مَنْ سَيَعُودُ عَوْدَهُ بَعْدَ التَّثَنِّي يَبِيسًا , يَا مُؤْثِرًا رَذِيلا وَمُضَيِّعًا نَفِيسًا , مَنْ لَكَ إِذَا أَوْقَدَ الْمَوْتُ فِي الدَّارِ وَطِيسًا , وَأَخْلَى رَبْعًا قَدْ كَانَ يَجْمَعُكَ مَأْنُوسًا , فَالْبِدَارَ الْبِدَارَ لَقَدْ رَحَلَ لَكَ عِيسًا , وَتُبْ فَالتَّوْبَةُ تَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَمَا يَلْبَثُ الدَّجَّالُ مَعَ عِيسَى. (أَفِقْ وَابْكِ حَانَتْ كِبْرَةٌ وَمَشِيبُ ... أَمَا لِلتُّقَى وَالْحَقُّ فِيكَ نَصِيبُ) (أَيَا مَنْ لَهُ فِي بَاطِنِ الأَرْضِ مَنْزِلٌ ... أَتَأْنَسُ بِالدُّنْيَا وَأَنْتَ غَرِيبُ) (وَمَا الدَّهْرُ إِلا مَرُّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... وَمَا الْمَوْتُ إِلا نَازِلٌ وَقَرِيبُ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ يَدْعُو إلى دار السلام} دَارُ السَّلامِ هِيَ الْجَنَّةُ وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ السَّلامَ هُوَ اللَّهُ , وَهِيَ دَارُهُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ

وَالثَّانِي: أَنَّهَا دَارُ السَّلامَةِ الَّتِي لا تَنْقَطِعُ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَحِيَّةَ أَهْلِهَا فِيهَا السَّلامُ. ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ جَمِيعَ حَالاتِهَا مَقْرُونَةٌ بِالسَّلامِ , فَفِي ابْتِدَاءِ دُخُولِهِمْ: {ادخلوها بسلام} وَحِينَ اسْتِقْرَارِهِمْ: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ باب سلام} وكذلك قوله. {إلا قيلا سلاما سلاما} . وَعِنْدَئِذٍ رُؤْيَةُ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يلقونه سلام} . عَزَّتِ الدَّارُ وَجَلَّ الْمَرَامُ , وَنَالَ سَاكِنُهَا فَوْقَ الْمَرَامِ , فَيَا مَشْغُولا عَنْهَا بِأَضْغَاثِ أَحْلامٍ , وَصَلَ كِتَابُ الْمَلِكِ الْعَلامِ {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السلام} . دَارُ الإِعْزَازِ وَالإِكْرَامِ , بُنِيَتْ لِقَوْمٍ كِرَامٍ , لا غُرْمَ فِيهَا وَلا غَرَامَ , مَا يَسْكُنُهَا مَنْ يُضَامُ , ثَمَنُهَا يَا مُشْتَرِي بَيْنَ: صَلاةٍ وَصِيَامٍ , نَعِيمُهَا فِي دَوَامِ لَذَّاتِهَا فِي تَمَامٍ , وَالْحُورُ فِي الْقُصُورِ وَالْخِيَامِ , شَهَوَاتُهَا لَمْ تَخْطُرْ عَلَى الأَوْهَامِ , انْتَبِهُوا لِطَلَبِهَا يَا نِيَامُ , قَدْ جَمَعَتْ كُلَّ مُشْتَهًى وَزَادَتْ عَلَى كُلِّ الْغَرَضِ الْمُنْتَهَى , عَجَبًا لِمَنْ غَفَلَ عَنْهَا وَسَهَا , انْهَضْ لَهَا يَا غُلامُ {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} . (أَمَا آنَ يَا صَاحِ أَنْ تَسْتَفِيقَا ... وَأَنْ تَأْتِيَنَّ الْحِمَى وَالْعَقِيقَا) (وَقَدْ ضَحِكَ الشَّيْبُ فَاحْزَنْ لَهُ ... وَصَارَ مَسَاؤُكَ فِيهِ شُرُوقَا) (وَرَكْبٌ أَتَاهُمْ وَقَدْ عَرَّسُوا ... عَلَى الْقَاعِ رَاعِي الْمَنَايَا طَرُوقَا) (يدير عليهم كؤوس الْمَنُونِ ... صَبُوحًا عَلَى كَرْهِهَا أَوْ غَبُوقَا) (وَمَا زَالَ فِيهِمْ غُرَابُ الْحِمَامِ ... يُسْمِعُهُمْ لِلْمَنَايَا نَعِيقَا) (وَيَحْجِلُ فِي عَرَصَاتِ الْقُصُورِ ... حَتَّى أَعَادَ الْفُسَيْحَاءَ ضيقا) (ألا فازجر النفس عن غِيِّهَا ... تَجُوزُ إِلَى الصِّرَاطِ الدَّقِيقَا) (وَدُونَ الصِّرَاطِ لَنَا مَوْقِفٌ ... بِهِ يَتَنَاسَى الصَّدِيقُ الصَّدِيقَا) (فَتُبْصِرُ ماشيت كَفًّا يَعَضُّ ... وَعَيْنًا تَسِحُّ وَقَلْبًا خَفُوقَا)

(إِذَا طُبِّقَتْ فَوْقَهُمْ لَمْ تَكُنْ ... لِتَسْمَعَ إِلا الْبُكَا وَالشَّهِيقَا) (شَرَابُهُمُ الْمُهْلُ فِي قَعْرِهَا ... يُقَطِّعُ أَوْصَالَهُمْ وَالْعُرُوقَا) (أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمِ الْقَاصِرَاتُ ... تَخَالُ مَبَاسِمَهُنَّ الْبُرُوقَا) (قُصِرْنَ عَلَى حُبِّ أَزْوَاجِهِنَّ ... مُشْتَاقَةٌ تَتَلَقَّى مَشُوقَا) (وَيَرْفُلْنَ فِي سُرُقَاتِ الْحَرِيرِ ... فَتُبْصِرُ عَيْنَاكَ أَمْرًا أَنِيقَا) (وَأَكْوَابُهُمْ ذَهَبٌ أَحْمَرُ ... يُطَافُ بِهَا مُتْرَعَاتٌ رَحِيقَا) (إِذَا جَرَتِ الرِّيحُ فَوْقَ الْكَثِيبِ ... أَثَارَتْ عَلَى الْقَوْمِ مِسْكًا سَحِيقَا) (وَيَوْمَ زِيَارَتِهِمْ يَرْكَبُونَ ... إِلَيْهِ مِنَ النُّورِ نُجُبًا وَنُوقَا) (كُلُوا وَاشْرَبُوا فَلَقَدْ طَالَمَا ... أَقَمْتُمْ بِدَارِ الْغُرُورِ الْحُقُوقَا) أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ , أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابن أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ , حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ , عَنْ سَعْدٍ [عَنْ] أَبِي الْمُدِلَّةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: " لَبِنَةٌ فِضَّةٌ وَلَبِنَةٌ ذَهَبٌ , وَمِلاطُهَا الْمِسْكُ الأَذْفَرُ , وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ وَتُرَابُهَا الزعفران , من يدخلها ينعم ولا يبأس وَيَخْلُدُ لا يَمُوتُ , لا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلا يَفْنَى شَبَابُهُ ". وَفِي حَديِثٍ آخَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: " أَلا مُتَشَمِّرٌ لَهَا؟ هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ رَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وَنُورٌ يَتَلأْلأُ , وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ , وَزَوْجَةٌ لا تَمُوتُ فِي حُبُورٍ وَنَعِيمٍ مُقَامٍ أبداً ". قوله تعالى: {ويهدي من يشاء} عَمَّ بِالدَّعْوَةِ وَخَصَّ بِالْهِدَايَةِ إِذِ الْحُكْمُ لَهُ فِي خَلْقِهِ. وَفِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: كِتَابُ اللَّهِ. رَوَاهُ عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: الإِسْلامُ. رَوَاهُ النَّوَّاسُ بْنُ سِمْعَانَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّالِثُ: الْحَقُّ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.

وَالرَّابِعُ: الْمَخْرَجُ مِنَ الضَّلالِ وَالشُّبْهَةِ. قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} أَحْسَنُوا: عَمِلُوا بِمَا أُمِرُوا بِهِ. يَا مَنْ لا يُحْسِنُ أَنْ يُحْسِنَ اسْمَعْ صِفَةَ الْمُحْسِنِ: أَقْلَقَهُمُ الْخَوْفُ وَالْفَرَقُ , أَحْرَقَهُمْ لِذِكْرِ الْمَوْتِ الأَرَقُ , طَعَامُهُمْ مَا حَضَرَ مِنْ حَلالٍ وَاتَّفَقَ , يَا نُورَهُمْ فِي الدُّجَى إِذَا دَجَى الْغَسَقُ , يَا حُسْنَهُمْ وَجُنْدُ الدَّمْعِ مُحَدِّقٌ بِسُورِ الْحِدَقِ , انْقَطَعَ سِلْكُ الْمَدَامِعِ فَسَالَتْ عَلَى نَسَقٍ , وَكَتَبَتْ عَلَى صحائف الخلود الْعُذْرَ لا فِي وَرَقٍ , فَإِنْ كَانَ الْمِدَادُ سَوَادًا فَذَا الْمِدَادُ يَقَقٌ , يَا لَذَّةَ تَضَرُّعِهِمْ وَيَا طِيبَ الْمَلَقِ , أَذَابَ الْخَوْفُ أَجْسَامَهُمْ فَمَا أَبْقَى إِلا الرَّمَقَ , رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَتَاعُ الْغَافِلِ مَا نَفَقَ. (وَمَا كُلُّ مَنْ أَوْمَى إِلَى الْعِزِّ نَالَهُ ... وَدُونَ الْعُلَى ضَرْبٌ يُدْمِي النَّوَاصِيَا) جَرَتْ دُمُوعُ حُزْنِهِمْ فِي سَوَاقِي أَسَفِهِمْ , إِلَى رِيَاضِ صَفَائِهِمْ فَأَوْرَقَتْ أَشْجَارُ وِصَالِهِمْ , وَدُمُوعُهُمْ تَجْرِي كَالدِّيمِ كُلَّمَا ذَكَرُوا زَلَّةَ قِدَمٍ , يَرْعَوْنَ الْعَهْدَ وَالذِّمَمَ , يَحْذَرُونَ نَارًا تُعِيدُ الْجِسْمَ كَالْحُمَمِ , يَخَافُونَ حَرَّهَا وَمَنْ لَهُ بِتَحِلَّةِ الْقَسَمِ , اللَّيْلُ قَدْ سَجَى وَالدَّمْعُ قَدْ سَجَمَ , يُرَاوِحُونَ بَيْنَ الْجَبْهَةِ وَالْقَدَمِ , كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عِنْدَ النَّقْدِ تَبِينُ الْقِيَمُ , تَاللَّهِ مَا جُعِلَ مَنْ نَامَ مِثْلَ مَنْ لَمْ يَنَمْ , جَاعُوا مِنْ طَعَامِ الْهَوَى وآذاك التخم , يا قبيح العزائم يا سيىء الْهِمَمِ , يَا مَرْذُولَ الصِّفَاتِ يَا رَدِيءَ الشِّيَمِ , كَأَنَّكَ بِكَ تَتَمَنَّى إِذَا حُشِرْتَ الْعَدَمَ , نُثِرَتْ عَطَايَا الأَسْحَارِ فَبَسَطَ الْقَوْمُ حُجُورَ الآمَالِ كَاتَبُوا بِالدُّمُوعِ فَجَاءَهُمْ أَلْطَفُ جَوَابٍ , اجْتَمَعَتْ أَحْزَانُ السِّرِّ عَلَى الْقَلْبِ فَأُوقِدَ حَوْلَهُ الأَسَفُ , وَكَانَ الدَّمْعُ صَاحِبَ الْخَبَرِ فَنَمَّ. كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَثِيرَ الْبُكَاءِ , فَمَا زَالَ يَبْكِي حَتَّى بَكَى الدَّمَ. تَغْرِيبُ لَوْنِ المداد يعجب القارىء! (هذا كتابي إليكم فيه معذرتي ... ينيبكم الْيَوْمَ عَنْ سُقْمِي وَعَنْ أَلَمِي)

(أَجْلَلْتُ ذِكْرَكُمْ عَنْ أَنْ يُدَّنِسَهُ ... لَوْنُ الْمِدَادِ فَقَدْ سَطَّرْتُهُ بِدَمِي) (وَلَوْ قَدَرْتُ عَلَى جَفْنِي لأجعله ... طرسي وأبري عظامي موضع القلب) (لَكَانَ هَذَا قَلِيلا فِي مَحَبَّتِكُمْ ... وَمَا وَجَدْتُ لَهُ وَاللَّهِ مِنْ أَلَمِ) تَاللَّهِ مَا نَالَ الْكَرَامَةَ إِلا مَنْ قَالَ لِلْكَرَى: مَهْ. إِنْ أَرَدْتَ لِحَاقَهُمْ فَطَلِّقِ الْهَوَى طَلاقَ الْبَتَاتِ , اخْلُ بِنَفْسِكَ فِي بَيْتِ الْفِكْرِ وَخَاطِبْهَا بِلِسَانِ النُّصْحِ , وَاعْزُمْ عَلَى الْوِفَاقِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ , قِفْ عَلَى بَابِ الصَّبْرِ سَاعَةً وَقَدْ رَكِبَ عَلَى قفل العسر مفتاح النجاح. فأما الحسنى فهي الجنة. وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو طَالِبٍ الْعُشَارِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ سَمْعُونٍ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ , حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ بَحْرٍ , حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ , حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ , عن ثابت , عن عبد الرحمن بن أبي ليلى , عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَي مُنَادٍ: " يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ. فَيَقُولُونَ: مَا هُو؟ أَلَمْ يُثْقِلْ مَوَازِينَنَا وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُجِرْنَا مِنَ النَّارِ! فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا شَيْءٌ أُعْطَوْهُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ. وَهِيَ الزِّيَادَةُ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ] لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَرَوْنَ [هَذَا] الْقَمَرَ لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ. أَخْبَرَنَا الْكَرُوخِيُّ , أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الأَزْدِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْغُورَجِيُّ , قَالا: أَخْبَرَنَا الْجَرَّاحِيُّ , حَدَّثَنَا الْمَحْبُوبِيُّ , حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ , حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ , أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ , عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ , عَنْ عَطَاءِ بْنِ

سجع على قوله تعالى

يَسَارٍ , عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: إِنِّي لأُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ: قَالُوا: وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا ". (لِي إِلَى وَجْهِكَ شَوْقٌ ... وَإِلَى قُرْبِكَ فَاقَهْ) (لَيْسَ لِي وَاللَّهِ يَا سُؤْلِي ... بِهِجْرَانِكَ طَاقَهْ) (لا وَلا حَدَّثْتُ عَنْ ... حُبِّكَ قَلْبِي بِإِفَاقَهْ) سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} سُبْحَانَ مَنِ اخْتَارَ أَقْوَامًا لِلإِفَادَةِ , فَصَارَتْ نُهْمَتُهُمْ فِي تَحْصِيلِ اسْتِفَادَةٍ , وَمَا زَالَتْ بِهِمُ الرِّيَاضَةُ حَتَّى تَرَكُوا الْعَادَةَ , شَغَلَتْهُمْ مَخَاوِفُهُمْ عَنْ كُلِّ عَادَةٍ , وَأَنَالَهُمُ الْمَقَامَ الأَسْنَى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} . كُلُّ مِنْهُمْ قَدْ هَجَرَ مُرَادَهُ , وَشَمَّرَ لِتَصْحِيحِ الإِرَادَةِ , عَلَتْ هِمَمُهُمْ فَطَلَبُوا الزِّيَادَةَ , وَعَامَلُوا مَحْبُوبَهُمْ يَرْجُونَ وِدَادَهُ , وَرَفَعُوا مَكْتُوبَ الْحُزْنِ وَجَعَلُوا الدَّمْعَ مداده {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} . رَفَضُوا الدُّنْيَا شُغُلا بِالدِّينِ , وَسَلَكُوا مِنْهَاجَ الْمُهْتَدِينَ , وَسَابَقُوا سِبَاقَ الْعَابِدِينَ , فَصَارُوا أَئِمَّةً لِلْمُرِيدِينَ وَقَادَةً {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} . هَجَرُوا فِي مَحَبَّتِهِ كُلَّ غَرَضٍ , وَأَقْبَلُوا عَلَى أَدَاءِ الْمُفْتَرَضِ , وَالْتَفَتُوا إِلَى الْجَوْهَرِ مُعْرِضِينَ عَنِ الْعَرَضِ , فَأَنْحَلَهُمُ الْخَوْفُ فَصَارُوا كَالْحَرَضِ , يَا لَهُ مِنْ مَرَضٍ لا يَقْبَلُ عِيَادَةً {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحسنى وزيادة} .

لَوْ رَأَيْتَهُمْ وَاللَّيْلُ قَدْ سَجَى , وَقَدْ أَقْبَلُوا إِلَى بَابِ الْمُرْتَجَى , فَلَمْ يَجِدُوا دُونَ ذَلِكَ الْبَابِ مَرْتَجًا , حَلَفُوا فِي ظَلامِ الدُّجَى عَلَى هجر الوسادة {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} . سُبْحَانَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَأَفَادَهُمْ , وَأَعْطَاهُمْ مُنَاهُمْ وَزَادَهُمْ , مَا ذَاكَ بِقُوَّتِهِمْ بَلْ هُوَ أَرَادَهُمْ , سَبَقَتْ إِرَادَتَهُمْ تِلْكَ الإِرَادَةُ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} . لَطَفَ بِهِمْ وَهَدَاهُمْ , وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَرَاعَاهُمْ , وَعَطِشُوا مِنْ مِيَاهِ الْهَوَى فَسَقَاهُمْ , وَذَلَّلُوا لَهُ النُّفُوسَ فَرَقَّاهُمْ إِلَى مَقَامِ السَّادَةِ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} . أَجْرَى لَهُمْ أَجْرًا لا يُوَازَى , وَوَهَبَ لَهُمْ فِي مَفَازَةِ الْخَطَرِ مَفَازًا , وَأَنْجَزَ مَوْعِدَهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ إِنْجَازًا , وَجَازَى عِبَادَهُ عَلَى سَابِقِ الْعِبَادَةِ {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} .

المجلس الحادي والثلاثون في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه

المجلس الحادي والثلاثون فِي فَضْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَصْبَحَتْ لَهُ الْوُجُوهُ ذَلِيلَةً عَانِيَةً , وَحَذِرَتْهُ النُّفُوسُ مُجِدَّةً وَمُتَوَانِيَةً , وَعَظَ فَذَمَّ الدُّنْيَا الْحَقِيرَةَ الْفَانِيَةَ , وَشَوَّقَ إِلَى جَنَّةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ , وَخَوَّفَ عُطَّاشَ الْهَوَى أَنْ يُسْقُوا مِنْ عَيْنِ آنِيَةٍ , أَحْمَدُهُ عَلَى تَقْوِيمِ شأنيه , وأستعينه من شر شانىء وَشَانِيَةٍ. وَأُحَصِّلُ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ إِيمَانِيَهْ , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلاةً مُمَهَّدَةً لِعِزَّةٍ بَانِيَةٍ , وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ السَّابِقِ فِي الْوِفَاقِ وَالاتِّفَاقِ وَفِي الدَّارِ وَالْغُرْبَةِ فِي الْغَارِ , أَرْبَعٌ لِلْفَخْرِ بَانِيَةٌ , وَلَهُ فَضِيلَةُ التَّخَلُّلِ وَالتَّقَلُّلِ وَالرَّأْفَةِ وَالْخِلافَةِ , صَارَتْ ثَمَانِيَةً , وَعَلَى عُمَرَ مُقِيمِ السِّيَاسَةِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ جَانِيَةٍ , وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي اخْتَارَهُ الرَّسُولُ بَعْدَ ابْنَتِهِ لِلثَّانِيَةِ , وَعَلَى عَلِيٍّ الْمُنَزَّلِ فِيهِ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سرا وعلانية} وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الْمُسْتَسْقَى بِشَيْبَتِهِ فَإِذَا أَسْبَابُ الْغَيْثِ وَالْغَوْثِ دَانِيَةٌ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْكَاتِبُ , أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ مَالِكٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا شُعْبَةُ , عَنِ الْحَكَمِ , عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ , عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ , قَالَ: خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ , فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ قَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي؟! ". قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ , حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , عَنْ أَبِي حَازِمٍ ,

عن سهل بن سعد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: " لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا , فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ فَقِيلَ: هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ. قَالَ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ. فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ , فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: " انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ , ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ , فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ". قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُضَيْرٍ , حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ , عن عدي بن ثابت , عن زر ابن حُبَيْشٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَّا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لا يَبْغَضُنِي إِلا مُنَافِقٌ وَلا يُحِبُّنِي إِلا مُؤْمِنٌ. انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ وَاتَّفَقَا عَلَى الْحَدِيثَيْنِ قَبْلَهُ. اعْلَمْ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لا يُزاحَمُ فِي قُرْبِ نَسَبِهِ وَقَدْ أَقَرَّ الْكُلُّ بِعِلْمِهِ وَفَضْلِهِ. وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ فَتَبِعَهُ , وَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ يَكْشِفُ الْكُرُوبَ عَنْ وَجْهِهِ. وَصَعِدَ عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَمَى صَنَمًا. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ , أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ , حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَكِيمٍ , عَنْ أَبِي مَرْيَمَ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَيْنَا الْكَعْبَةَ فَقَالَ لِي: اجْلِسْ. وَصَعِدَ عَلَى مَنْكِبِي فَذَهَبْتُ لأَنْهَضَ فَلَمْ أَقْدِرْ , فَرَأَى مِنِّي ضَعْفًا فَنَزَلَ وَجَلَسَ إِلَيَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَالَ: اصْعَدْ عَلَى مَنْكِبِي. فَصَعِدْتُ عَلَى مَنْكِبِهِ. قَالَ: فَنَهَضَ بِي قَالَ: فَإِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي لَوْ شِئْتُ لَنِلْتُ أُفُقَ السَّمَاءِ , حَتَّى صَعِدْتُ عَلَى الْبَيْتِ وَعَلَيْهِ تِمْثَالُ صُفْرٍ أَوْ نُحَاسٍ , فَجَعَلْتُ أُزَاوِلُهُ عَنْ يَمِينِهِ

وَشِمَالِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ , حَتَّى إِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْذِفْ بِهِ. فَقَذَفْتُ بِهِ فَكُسِرَ كَمَا تَنْكَسِرُ الْقَوَارِيرُ ثُمَّ نَزَلْتُ , فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْتَبِقُ حَتَّى تَوَارَيْنَا بِالْبُيُوتِ خَشْيَةَ أَنْ يَلْقَانَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. وَكَانَ الْخَلْقُ يَحْتَاجُونَ إِلَى عِلْمِ عَلِيٍّ حَتَّى قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آهٍ مِنْ مُعْضِلَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبُو حَسَنٍ. فَلَمَّا وَلِيَ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا مَا زَانَتْهُ الْخِلافَةُ وَلَكِنْ هُوَ زانها. (مازانه الْمُلْكُ إِذْ حَوَاهُ ... بَلْ كُلُّ شَيْءٍ بِهِ يُزَانُ) (جَرَى فَفَاتَ الْمُلُوكَ سَبْقًا ... فَلَيْسَ قُدَّامَهُ عِنَانُ) (نَالَتْ يَدَاهُ ذُرَى مَعَالٍ ... يَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهَا الْعِيَانُ) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ , أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ , أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ جَاءَهُ ابْنُ النَّبَّاحِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ امْتَلأَ بَيْتُ الْمَالِ مِنْ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ. قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ: فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى ابْنِ النَّبَّاحِ حَتَّى قَامَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَ: (هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ ... وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ) فَأَعْطَى جَمِيعَ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا صَفْرَاءُ يَا بَيْضَاءُ غُرِّي غَيْرِي. حَتَّى مَا بَقِيَ فِيهِ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ ثُمَّ أَمَرَ بِنَضْحِهِ وَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي , أَنْبَأَنَا الْجَوْهِرَيُّ , أَنْبَأَنَا ابْنُ حيوية , حدثنا أحمد ابن مَعْرُوفٍ , حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهْمِ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ , أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ , حَدَّثَنَا الْحُرُّ بْنُ جُرْمُوزٍ , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ: رَأَيْتُ علياً وعليه

قِطْرِيَّتَانِ إِزَارٌ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَرِدَاءٌ مُشَمَّرٌ , وَمَعَهُ دِرَّةٌ لَهُ يَمْشِي بِهَا فِي الأَسْوَاقِ يأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ويقول: أوفوا الكيل والميزان. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ الصُّوفِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي صَادِقٍ الْحَبِيرِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَاكَوِيَةَ الشِّيرَازِيُّ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَهْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ السَّاجِيُّ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا , حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو الأسيدِيُّ , عَنِ الْكَلْبِيِّ , عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِضِرَارِ بْنِ حمزة: صف لي علياً فقال: أو تعفني. قال: بل تصفه. فقال: أو تعفني. قَالَ: لا أُعْفِيكَ. فَقَالَ: أَمَا أَنْ لا بُدَّ فَإِنَّهُ كَانَ بَعِيدَ الْمَدَى شَدِيدَ الْقُوَى , يَقُولُ فَصْلا وَيَحْكُمُ عَدْلا , يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ وَتَنْطِقُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاحِيهِ , يَسْتَوْحِشُ مِنَ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا , وَيَسْتَأْنِسُ بِاللَّيْلِ وَظُلْمَتِهِ , كَانَ وَاللَّهِ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ طَوِيلَ الْفِكْرَةِ , يَقْلِبُ كَفَّهُ وَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ , يُعْجِبُهُ مِنَ اللِّبَاسِ مَا خَشُنَ وَمِنَ الطَّعَامِ مَا جَشَبَ , كَانَ وَاللَّهِ كَأَحَدِنَا يُجِيبُنَا إِذَا سَأَلْنَاهُ وَيَبْتَدِئُنَا إِذَا أَتَيْنَاهُ , وَيَأْتِينَا إِذَا دَعَوْنَاهُ , وَنَحْنُ وَاللَّهِ مَعَ تَقْرِيبِهِ لَنَا وَقُرْبِهِ مِنَّا لا نُكَلِّمُهُ هَيْبَةً [لَهُ] وَلا نَبْتَدِيهِ تَعْظِمَةً , فَإِنْ تَبَسَّمَ فَعَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ , يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ وَيُحِبُّ الْمَسَاكِينَ , لا يَطْمَعُ القوي في باطله ولا ييأس الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ , فَأَشْهَدُ بِاللَّهِ لَرَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُجُوفَهُ وَغَارَتْ نُجُومُهُ , وَقَدْ مَثُلَ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ وَكَأَنِّي أَسْمَعُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا أَبِي تَعَرَضْتِ أَمْ بِي تَشَوَّفْتِ؟ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي , قَدْ بَتَتْكِ ثَلاثًا لا رَجْعَةَ لِي فِيكِ , فَعُمْرُكِ قَصِيرٌ وَعَيْشُكِ حَقِيرٌ وَخَطَرُكِ كَبِيرٌ , آهٍ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَبُعْدِ السَّفَرِ وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ. قَالَ: فَذَرَفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ فَمَا يَمْلِكُهَا وَهُوَ يُنَشِّفُهَا بِكُمِّهِ , وَقَدِ اخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ , ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا الْحَسَنِ! كَانَ وَاللَّهِ كَذَلِكَ , فَكَيْفَ حُزْنُكَ عَلَيْهَ يَا ضِرَارُ؟ قَالَ: حُزْنُ مَنْ ذُبِحَ وَلَدُهَا فِي حِجْرِهَا فَلا تَرْقَأُ عَبْرَتُهَا وَلا يَسْكُنُ حزنها.

الكلام على البسملة

الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (أَهْوَى عَلِيًّا وَإِيمَانٌ مُحَبَّتُهُ ... كَمْ مُشْرِكٍ دَمُهُ مِنْ سَيْفِهِ وَكَفَا) (إِنْ كُنْتَ وَيْحَكَ لَمْ تَسْمَعْ مَنَاقِبَهُ ... فَاسْمَعْ مَنَاقِبَهُ من " هل أتى " وكفى) كان عليه السلام خَلِيقًا بِالسِّيَادَةِ , إِنْ نَظَرْتَ فِي عِلْمِهِ فَقَدِ احْتَاجَ إِلَيْهِ السَّادَةُ , وَإِنْ نَظَرْتَ فِي زُهْدِهِ فَلا فِرَاشٌ وَلا وِسَادَةٌ. (وَحَنَّ إِلَيْهِ الْمُلْكُ عِنْدَ وِلادِهِ ... وَصَافَحَ كَفَّاهُ النَّدَى وَهُوَ فِي الْمَهْدِ) (وَأَحْكَمَهُ التَّجْرِيبُ كَهْلا وَيَافِعًا ... يَنْقُلُهُ مِنْ شَأْوِ مَجْدٍ إِلَى مَجْدِ) (تَنَقَّلَ مِنْهُ رُتْبَةً بَعْدَ رُتْبَةٍ ... كَمَا ازْدَادَ طُولُ الرُّمْحِ عَقْدا عَلَى عَقْدِ) (وَلَمْ يَرَ إِلا الْكَدَّ رَاحَةَ نَفْسِهِ ... وَنَيْلُ الْمُنَى يُنْسِي الْفَتَى تَعَبَ الْكَدِّ) (إِذَا لاحَظَ الْغَايَاتِ عَادَتْ فَرِيسَةً ... مُقَيَّدَةً مِنْ نَاظِرِ الأَسَدِ الْوَرْدِ) كَانَ يُشْبِهُ الْقَمَرَ الزَّاهِرَ وَالْبَحْرَ الزَّاخِرَ وَالأَسَدَ الْحَادِرَ وَالرَّبِيعَ الْبَاكِرَ , أَشْبَهَ مِنَ الْقَمَرِ ضَوْءَهُ وَبَهَاءَهُ , وَمِنَ الْغُرَابِ حَذَرَهُ وَمِنَ الدِّيكِ سَخَاءَهُ , وَمِنَ الأَسَدِ شَجَاعَتَهُ وَمَضَاءَهُ , وَمِنَ الرَّبِيعِ خِصْبَهُ وَمَاءَهُ. (لالاؤُهُ وَمَضَاؤُهُ ... وَغِنَاؤُهُ فِي كُلِّ مَشْهَدْ) (فَمَتَى رَأَى زَلَلا أَقَالَ ... وَإِنْ رَأَى خَلَلا تَغَمَّدْ) (وَيَخَافُهُ الْقَوْمُ الْبَرَاءُ ... وَلا أَخَافَ وَلا تَهَدَّدْ) (لَكِنَّهُ لَبِسَ الْمَهَابَةَ ... فَالْفَرَائِصُ مِنْهُ تَرْعَدْ) (وَإِذَا ارْتَأَى فَكَمَنْ رَأَى ... وَإِذَا سَهَا فَكَمَنْ تَفَقَّدْ) (وَإِذَا تَأَمَّلْ أَمْرَهُ ... فَهُوَ الشِّهَابُ إِذَا تَوَقَّدْ) (هَذَا لَعَمْرُكَ سُؤْدَدٌ ... لَكِنَّهُ أيضاًَ مُؤَكَّدْ) كَانَ يُظَنُّ فِي الْكَرَمِ بَحْرًا وَيُحْسَبُ لَفْظُهُ لِلْحُسْنِ سِحْرًا إِذَا أَنْشَأَ فَصْلا رَأَيْتَهُ يَقُولُ فَصْلا , وَإِذَا أَصَلَّ أَصْلَى , لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِثْلُهُ أَصْلا , كَانَ يَقُولُ فِي صِفَةِ نَفْسِهِ:

(إِذَا الْمُشْكِلاتُ تَصَدَّيْنَ لِي ... كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ) (وَإِنْ رَقِيَتْ فِي مَحَلِّ الصَّوَابِ ... عَمْيَاءُ لا يجليها الْبَصَرْ) (مُقَنَّعَةٌ بِغُيُوبِ الأُمُورِ ... وَضَعْتُ عَلَيْهَا صَحِيحَ الْفِكَرْ) (لِسَانٌ كَشِقْشِقَةِ الأَرْحَبِيِّ ... أَوْ كَلِسَانِ الْحُسَامِ الذَّكَرْ) بَادَرَ الْفَضَائِلَ فَكَانَ فِي الأَوَائِلِ , وَخَاضَ بحر الشجاعة فلم يرض بساحل , وحاز لعلوم فَحَارَ لِجَوَابِهِ السَّائِلُ , وَلازَمَ السَّهَرَ لِيَسْمَعَ: {هَلْ مِنْ سَائِلٍ} وَزَهِدَ فِي الدُّنْيَا لأَنَّهَا أَيَّامٌ قلائل. (القائد الخيل ترغيها شَكَائِعَهَا ... وَالْمُطْعِمُ الْبُزْلَ بِالدَّيْمُومَةِ الْقَاعِ) (مَا بَاتَ إلا على هم ولا اغتمضت ... عَيْنَاهُ إِلا عَلَى عَزْمٍ وَإِزْمَاعِ) (خَطِيبُ مَجْمَعَةٍ تَغْلِي شَقَاشِقُهُ ... إِذَا رَمَوْهَ بِأَبْصَارٍ وَأَسْمَاعِ) (يُذَوِّقُ بِالْعَيْنِ طَعْمَ النَّوْمِ مَضْمَضَةً ... إِذَا الْجَبَانُ مَلا عَيْنًا بِتِهْجَاعِ) سُبْحَانَ مَنْ جُمِعَ لَهُ الْمَنَاقِبُ والفضائل , بَحْرٌ مِنَ الْبَرَاعَةِ وَنَجْمٌ مِنَ الشَّجَاعَةِ ثَاقِبٌ (مجلى الكروب وليث الحروب ... في الرهج الأسطع الأَصْهَبِ) (وَبَحْرُ الْعُلُومِ وَغَيْظُ الْخُصُومِ ... مَتَى يَصْطَرِعُ وَهُمُ يَغْلَبِ) (يُقَلِّبُ فِي فَمِّهِ مِقْوَلا ... كَشِقْشِقَةِ الْجَمَلِ الْمُصْعَبِ) (وَكَانَ أَخًا لِنَبِيِّ الْهُدَى ... وَخُصَّ بِذَاكَ فَلا يَكْذِبِ) (وَفِي لَيْلَةِ الْغَارِ وَافَى النَّبِيَّ ... عِشَاءً إِلَى الْفَلَقِ الأَشْهَبِ) (وَبَاتَ دُوَيْنَهُ فِي الْفِرَاشِ ... مُوَطِّنَ نَفْسٍ عَلَى الأَصْعَبِ) (وَعَمْرُو بْنُ وُدٍّ وَأَحْزَابُهُ ... سَقَاهُمْ حِسَا الْمَوْتِ فِي يَثْرِبِ) (وَسَلْ عَنْهُ خَيْبَرَ ذَاتَ الْحُصُونِ ... تُخَبِّرْكَ عَنْهُ وَعَنْ مَرْحَبِ) (وَسِبْطَاهُ جَدُّهُمَا أَحْمَدُ ... فَبِخٍ فبخ بِجَدِّهِمَا وَالأَبِ) كَانَ بَعِيرُ خَوْفِهِ إِذَا جَنَّ اللَّيْلُ أَطَّ , وَمُوسَى وِلايَتِهِ إِذَا رَأَى خَرَاجَ ظُلْمٍ بَطَّ , يَرْمِي إِلَى جَوْفِهِ لُقَمَ الشَّعِيرِ لا الدَّجَاجَ وَلا الْبَطَّ , تَزَيَّنَتِ الدُّنْيَا لِبَاسَهَا

الكلام على قوله تعالى

فَمَزَّقَ لِبَاسَهَا وَعَطَّ , كَانَ إِذَا عَلا كَرْبُ الْكَرْبِ عَلا عَلَيْهِ وَحَطَّ , مَا بُرِيَ قَلَمُ رَأْسٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الْكُفْرِ قَطُّ إِلا قَطَّ , رَقَمَ الْجِهَادَ فِي وَجْهِهِ الْكَرِيمِ ضَرَبَهُ فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ وَخَطَّ , فَيَا حُسْنَهُ مِنْ مَكْتُوبٍ وَيَا شَرَفَهُ مِنْ خَطٍّ , كَانَ يَفْتَخِرُ بِأُخُوَّةِ الرَّسُولِ وَيَحِقُّ لَهُ مَا اشْتَطَّ. (كَرِيمُ النِّجَارِ عفيف الإزار ... حوى المكرمات وشادا الْفِخَارَا) (أَعَادَ وَأَبْدَى وَلِلْفَضْلِ أَسْدَى ... وَلِلْقَرْنِ أَرْدَى وَلِلرِّيحِ بَارَى) (كَرِيمُ الصَّنِيعَةِ ضَخْمُ الدَّسِيعَةِ ... سَهْلُ الشَّرِيعَةِ لَمْ يَأْتِ عَارَا) (غِنًى لِلْفَقِيرِ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ... إِذَا الْمُسْتَجِيرُ إِلَيْهِ اسْتَجَارَا) (يَخُوضُ الْغِمَارَ وَيَحْمِي الذِّمَارَ ... وَيَبْنِي الْفِخَارَ وَيَرْعَى الْجِوَارَا) طَالَتْ عليه أيام الحياة وكان يستبطىء الْقَاتِلَ حُبًّا لِلِقَاءِ رَبِّهِ , فَيَقُولُ: مَتَى يُبْعَثُ أَشْقَاهَا , وَجِيءَ إِلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: خُذْ حَذَرَكَ فَإِنَّ النَّاسَ يُرِيدُونَ قَتْلَكَ. فَقَالَ: إِنَّ الأَجَلَ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ. فَلَمَّا خَرَجَ لِصَلاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ قُتِلَ أُلْهِمَ أَنْ تَرَنَّمَ: (اشْدُدْ حَيَازِيمَكَ لِلْمَوْتِ ... فَإِنَّ الْمَوْتَ لاقِيكَ) (وَلا تَجْزَعْ مِنَ الْمَوْتِ ... إِذَا حَلَّ بِوَادِيكَ) أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ , أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ , حَدَّثَنَا عبد الله ابن أحمد , حدثني أبي , حدثنا وَكِيعٌ , عَنْ شَرِيكٍ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنْ هُبَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَقَالَ: لَقَدْ فَارَقَكُمْ رَجُلٌ بِالأَمْسِ لَمْ يَسْبِقْهُ الأَوَّلُونَ بِعِلْمٍ وَلَمْ يُدْرِكْهُ الآخَرُونَ , كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُهُ بِالرَّايَةِ جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ شِمَالِهِ , فَلا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ. الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كافورا} الأَبْرَارُ وَاحِدُهُمْ بَرٌّ وَبَارٌّ. وَهُو الصَّادِقُ الْمُطِيعُ {يشربون من كأس} أي

مِنْ إِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ كَانَ مِزَاجُ الْكَأْسِ كَافُورًا. وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْكَافُورِ بَرْدَهُ وَرِيحَهُ. قَوْلُهُ تعالى: {عينا} قَالَ الأَخْفَشُ: الْمَعْنَى. أَعْنِي عَيْنًا. وقَالَ الزَّجَّاجُ: الأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ عَيْنٍ. قَوْلُهُ تعالى: {يشرب بها} أي منها {عباد الله} أي أولياؤه {يفجرونها} قال مُجَاهِدٌ: يَقُودُونَهَا إِلَى حَيْثُ شَاءُوا مِنَ الْجَنَّةِ. قوله تعالى: {يوفون بالنذر} فِيهِ إِضْمَارٌ [أَيْ] كَانُوا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ إِذَا نَذَرُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شره مستطيرا} أي فاشيا منتشرا فانشقت السماوات وَتَنَاثَرَتِ الْكَوَاكِبُ وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَنُسِفَتِ الْجِبَالُ وَغَارَتِ الْمِيَاهُ وَتَكَسَّرَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ جَبَلٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {ويطعمون الطعام على حبه} رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَّرَ نَفْسَهُ يَسْقِي نَخْلا بِشَيْءٍ مِنْ شَعِيرٍ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ , فَلَمَّا قَبَضَ الشَّعِيرَ طَحَنُوا ثُلُثَهُ وَأَصْلَحُوا مِنْهُ مَا يَأْكُلُونَهُ فَلَمَّا اسْتَوَى أَتَى مِسْكِينٌ فَأَخْرَجُوهُ إِلَيْهِ , ثُمَّ عَمِلُوا الثُّلُثَ الثَّانِيَ فَلَمَّا تَمَّ أَتَى يَتِيمٌ فَأَطْعَمُوهُ , ثُمَّ عَمِلُوا الْبَاقِيَ , فَلَمَّا تَمَّ أَتَى أَسِيرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَطْعَمُوهُ وَطَوَوْا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ. قوله تعالى: {على حبه} أَيْ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ. الْمَعْنَى: وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: عَلَى حُبِّ اللَّهِ عز وجل. {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ إِنَّمَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ. وَالْيَوْمُ الْعَبُوسُ , الَّذِي تَعْبُسُ فِيهِ الْوُجُوهُ , فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْيَوْمِ. وَالْقَمْطَرِيرُ: الشَّدِيدُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَبُوسُ الْقَمْطَرِيرُ وَالْقَمَاطِرُ وَالْعَصِيبُ والعصبصب: أَشَدِّ مَا يَكُونُ مِنَ الأَيَّامِ وَأَطْوَلُهُ فِي البلاء.

{فوقاهم الله شر ذلك اليوم} بطاعته في الدنيا {ولقاهم نضرة} أي حسنا وبياضا في الوجوه {وسرورا} في القلوب {وجزاهم بما صبروا} على طاعته {جنة وحريرا} وَهُوَ لِبَاسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالأَرَائِكُ: السُّرُرُ فِي الحجال. والزمهرير: البرد الشديد {ودانية} وجزاهم دانية {عليهم ظلالها} أَيْ قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ ظِلالُ أَشْجَارِهَا {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا} يَتَنَاوَلُونَ مِنْهَا قِيَامًا وَقُعُودًا وَمُضْطَجِعِينَ. وَالأَكْوَابُ: الأَبَارِيقُ التي لا عرى لها {كانت قوارير} أَيْ تِلْكَ الأَكْوَابُ قَوَارِيرُ وَلَكِنَّهَا مِنْ فِضَّةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ ضَرَبْتَ فِضَّةَ الدُّنْيَا حَتَّى جَعَلْتَهَا مِثْلَ جَنَاحِ الذُّبَابِ لَمْ يُرَ الْمَاءُ مِنْ وَرَائِهَا , وَقَوَارِيرُ الْجَنَّةِ مِنْ فِضَّةٍ في صفاء القارورة. وقال الفراء: هذا على التشبيه , المعنى كأنها من فضة أي لها بياض الفضة وصفاء كصفاء القوارير. وفي قوله تعالى: {قدروها تقديرا} قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: قَدَّرُوهَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَجَاءَتْ عَلَى مَا قَدَّرُوا. قَالَهُ الْحَسَنُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: جَعَلَ الإِنَاءَ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: قَدَّرَهَا السُّقَاةُ وَالْخَدَمُ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السَّادَةُ , فَلا يَزِيدُ عَلَى رِيِّهِمْ فَيُثْقِلُ الْكَفَّ وَلا يُنْقِصُ مِنْهُ فَيَطْلُبُ الزِّيَادَةَ {وَيُسْقَوْنَ فيها} أَيْ فِي الْجَنَّةِ {كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا} وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي الدُّنْيَا , وَهُوَ عُرُوقٌ تَسْرِي فِي الأَرْضِ يُؤْكَلُ رَطْبًا , وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِالزَّنْجَبِيلِ وَالْخَمْرِ مَمْزُوجَيْنِ. (وَكَأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبِيلِ بِهِ ... إِذْ ذُقْتَهُ وَسُلافَةَ الْخَمْرِ) فَشَرَابُ الْجَنَّةِ عَلَى بَرْدِ الْكَافُورِ وَطَعْمِ الزَّنْجَبِيلِ وَرِيحِ الْمِسْكِ. {عَيْنًا فيها} أَيْ يُسْقَوْنَ عَيْنًا. وَسَلْسَبِيلُ: اسْمُ الْعَيْنِ وَهُوَ صِفَةٌ لِمَاءٍ كَانَ

عَلَى غَايَةِ السَّلامَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: سَلْسَبِيلا: حَدِيدَةُ الْجِرِّيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: السَّلْسَبِيلُ: صِفَةٌ لِلْمَاءِ لِسَلِسِهِ وَسُهُولَةِ مَدْخَلِهِ فِي الْحَلْقِ , يُقَالُ شَرَابٌ سَلْسَلٌ وَسَلْسَالٌ وَسَلْسَبِيلٌ. حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَعْنَى الْكَلامِ سَلَّ سبيلاً إِلَيْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} مِنَ الْخُلْدِ وَمِنْهُ الْخُلْدَةُ وَهِيَ القرط {إِذَا رأيتهم} مُنْتَشِرِينَ فِي الْخَدَمِ {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا وَإِذَا رأيت ثم} يعني في الجنة {رأيت نعيما} لا يوصف {وملكا كبيرا} وَاسِعًا لا يُرِيدُونَ شَيْئًا إِلا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَلا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مَلَكٌ إِلا بِاسْتِئْذَانٍ. قَوْلُهُ تعالى: {عاليهم ثياب} يَعْنِي أَهْلَ الْجَنَّةِ. وَالسُّنْدُسُ: رَقِيقُ الدِّيبَاجِ. وَالإِسْتَبْرَقِ: غَلِيظُهُ. وَالْخُضْرَةُ: لَوْنٌ بَيْنَ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ فَهِيَ أَصْلَحُ لِلْعَيْنِ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الأَلْوَانِ وَقَدْ أُلْبِسَ الْقَوْمُ الأَسَاوِرَ {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} لا يُحْدِثُونَ مِنْهُ وَلا يَبُولُونَ {إِنَّ هَذَا} الَّذِي وَصَفَ مِنَ النَّعِيمِ {كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} بأعمالكم {وكان سعيكم} في الدنيا بطاعة الله {مشكورا} قَالَ عَطَاءٌ: شَكَرْتُكُمْ عَلَيْهِ وَأَثَبْتُكُمْ أَفْضَلَ الثَّوَابِ. وقد ذكرنا أن هذا نزل فِي حَقِّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَهْلِ بَيْتِهِ لإِيثَارِهِمْ بِالطَّعَامِ. كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ خَطَبَ فَاطِمَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انْتَظِرْ بِهَا الْقَضَاءَ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ: رَدَّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ. فَخَطَبَهَا عُمَرُ. فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لأَبِي بَكْرٍ. فَقَالَ أَهْلُ عَلِيٍّ لِعَلِيٍّ: اخْطُبْ فَاطِمَةَ. فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ: ذَكَرْتُ فَاطِمَةَ. فَقَالَ: مَرْحَبًا وأهلا. فخرج فَأَخْبَرَ النَّاسَ بِمَا قَالَ. فَقَالُوا: قَدْ أَعْطَاكَ الأَهْلَ وَالْمَرْحَبَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا تُصْدِقُهَا؟ قَالَ: مَا عِنْدِي مَا أُصْدِقُهَا. قَالَ: " فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ ". قَالَ: عِنْدِي. قَالَ: أُصْدِقْهَا إِيَّاهَا. فَتَزَوَّجَهَا فَأُهْدِيَتْ إِلَيْهِ وَمَعَهَا خَمِيلَةٌ وَمِرْفَقَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَقِرْبَةٌ وَمُنْخُلٌ وَقَدَحٌ وَرَحًى وجرابان.

وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ وَمَا لَهَا فِرَاشٌ غَيْرُ جِلْدِ كَبْشٍ يَنَامَانِ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَتَعْلِفُ عَلَيْهِ النَّاضِحَ بِالنَّهَارِ , وَكَانَتْ هِيَ خَادِمَةَ نَفْسِهَا. تَاللَّهِ مَا ضَرَّهَا ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: " أَلَا تَرْضِينَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ". أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ , أَخْبَرَنَا الدَّاوُدِيُّ , حَدَّثَنَا ابْنُ أَعْيَنَ , حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ , حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ , حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عُيَيْنَةَ , عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ , عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فَاطِمَةٌ بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. لَمَّا تبختر جمال فاطمة في جلباب كمالها , حين شُرُوعُ الشَّرْعِ فِي وَصْفِ جَلالِهَا , أُنْهِضَ الصِّدِّيقُ خَاطِبًا لَهَا فِي خِطَابِهِ فَسَكَتَ الرَّسُولُ عَنْ جَوَابِهِ , فَنَهَضَ عُمَرُ نُهُوضَ اللَّيْثِ فِي غَابِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ فَاشْتَدَّ الْجَوَى بِهِ , فَلَمَّا نَقَلَ عَلِيٌّ أَقْدَامَهُ لِخِطْبَتِهَا وَجَدَ الْوَحْيَ قَدْ سَبَقَهُ قُدَّامَهُ: " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَ فَاطِمَةَ مِنْ عَلِيٍّ " فَتَزَوَّجَهَا فِي صَفَرٍ وَبَنَى بِهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ , فَوَلَدَتْ لَهُ الْحَسَنَ فِي نِصْفِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ , وَوَلَدَتِ الْحُسَيْنَ لِثَلاثٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعًا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ وَهُوَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ ". وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الْتَزَمَ الْحَسَنَ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ ". وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَقِّ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: " هُمَا رَيْحَانَتَايَ ".

وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: الْحَسَنُ أَشْبَهُ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّدْرِ إِلَى الرَّأْسِ , وَالْحُسَيْنُ أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جلل على الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَعَلِيًّا وَفَاطِمَةَ كِسَاءً ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ؟ قَالَ: إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِذَا سُئِلَ عَنْ عَلِيٍّ [وَأَهْلِ بَيْتِهِ] . قَالَ: أَهْلُ بَيْتٍ لا يُقَاسُ بِهِمْ أَحَدٌ. (يَا بَنِي بِنْتِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى ... حُبُّكُمْ يَنْفِي عَنِ الْمَرْءِ الظِّنَنْ) (إِنَّ للَّهِ عَلَيْنَا مننا ... حبكم شكر لهاتيك الْمِنَنْ) (أَنْتُمْ مَنْ لَمْ يُرْدِ مُعْطِي الْهُدَى ... غَيْرَ وُدِّ النَّاسِ إِيَّاكُمْ ثَمَنْ) (أَنَا عَبْدُ الْحَقِّ لا عَبْدُ الْهَوَى ... لَعَنَ اللَّهُ الْهَوَى فِيمَنْ لَعَنْ) لَمَّا وَقَفَ الْمِسْكِينُ بِبَابِهِمْ آثَرَ عَلِيٌّ فَوَافَقَتْ فَاطِمَةُ. (مَلِكٌ حَازَ الْعُلا وَأَذَلَّ الْعِدَى ... وَاسْتَعْبَدَ الزَّمَنَا) (طَبْعُهُ بِالْجُودِ مُمْتَزِجٌ ... هَلْ رَأَيْتَ الْمَاءَ وَاللَّبَنَا) (كَفُّهُ تَهْوَى السَّمَاحَ وَلَوْ ... أَنْفَقَتْ مِنْ غَيْرِ ظَهْرِ غِنَى) (خُلِقَتْ لِلْجُودِ رَاحَتُهُ ... فَأَرْتَكَ الْعَارِضَ الْهَتَنَا) (مَا يُرِيدُ الْوَاصِفُونَ لَهُ ... حَيَّرَتْ أَوْصَافُهُ الْفَطِنَا) (أَنْطَقَتْ صُمَّ الصُّخُورِ فَلا ... عَجَبَ أَنْ تَخْرَسَ اللُّسُنَا) لَمَّا جَاءَتِ الْمَدِيحَةُ عَلَى الإِيثَارِ وَوُصِفَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ذَلِكَ الْحُورُ حِفْظًا لِقَلْبِ فَاطِمَةَ , وَكَيْفَ يَذْكُرُ الْحُورَ وَهُنَّ مَمَالِيكُ مَعَ الْحُرَّةِ. سُبْحَانَ مَنْ كَسَا أَهْلَ الْبَيْتِ نُورًا وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ خَنْدَقًا يَقِي الرِّجْسَ وَسُورًا ,

فَإِذَا تَلَقَّوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَلَقَّوْا حُبُورًا {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} . ادَّخَرْنَا لَكُمْ نَعِيمًا مُقِيمًا , وَمَنَحْنَا لَكُمْ فَضْلا جَزِيلا عَمِيمًا , وَجَزَيْنَا مَنْ كَانَ لِلْفُقَرَاءِ رَحِيمًا , أَوَلَسْتُمْ قَدْ أَطْعَمْتُمْ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَرَحِمْتُمْ مَأْسُورًا {وكان سعيكم مشكورا} . مَنْ مِثْلُ عَلِيٍّ مَنْ مِثْلُ فَاطِمَةَ , كَمْ صَبَرَا عَلَى أَمْوَاجِ بَلايَا مُتَلاطِمَةٍ , وَآثَرُوا الْفَقْرَ وَنَارُ الْجُوعِ حَاطِمَةٌ , فَلَهُمْ نَضَارَةُ الْوُجُوهِ وَالأَهْوَالُ لِلْوُجُوهِ خَاطِمَةٌ , يَا سُرْعَانَ مَا انْقَلَبَ حُزْنُهُمْ سرورا {وكان سعيكم مشكورا} . كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْهِ , وَكَانَ عَلِيٌّ أَعَزَّ الْخَلْقِ عَلَيْهِ , وَجَعَلَ اللَّهُ رَيْحَانَتَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَلَدَيْهِ , فَإِذَا أَحْضَرَهُمُ الْحَقُّ غَدًا عِنْدَهُ وَلَدَيْهِ أَكْرَمَهُمْ إِكْرَامًا عَظِيمًا مَوْفُورًا , {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} . واعجبا! ذُكِرَ فِي هَذِهِ الآيَاتِ نَعِيمُ الْجَنَّاتِ مِنَ الْمَلْبُوسِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَطْعُومَاتِ , وَالأَرَائِكِ وَالْقُصُورِ وَالْعُيُونِ الْجَارِيَاتِ , وَلَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ وَهُنَّ غَايَةُ اللَّذَّاتِ , احْتِرَامًا لِفَاطِمَةَ أَشْرَفِ الْبَنَاتِ , وَمَنْ يَصِفُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ لا يَذْكُرُ حُورًا {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جزاء وكان سعيكم مشكورا} .

المجلس الثاني والثلاثون في فضل عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم

المجلس الثاني والثلاثون فِي فَضْلِ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدُ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَدِيمِ , الْمَاجِدِ الْعَظِيمِ , الْمَنَّانِ الْكَرِيمِ , الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , أَنْعَمَ بِالْعَطَايَا فَإِنْعَامُهُ عَمِيمٌ , وَسَتَرَ الْخَطَايَا فَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ , ابْتَلَى بِمَا شَاءَ وَهُو بِمَا يَكُونُ عَلِيمٌ , فَالْوَاجِبُ فِي بَلائِهِ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ , سَافَرَتْ عَائِشَةُ مع الرَّسُولِ وَكَانَ يَخُصُّهَا بِالتَّقْدِيمِ فَانْتَزَحَتْ لِشُغُلِهَا وَانْشَغَلَ بِهَا عَظِيمٌ , فَحَمَلُوا هَوْدَجَهَا ظَنًّا أَنَّ فِي الْكِنَاسِ الرِّيمَ , فَصَادَفَهَا صَفْوَانُ فَصَدْرُ الرَّجُلِ سَلِيمٌ , فَبَلَغَهَا قَوْلُ مَنْ بَاتَ يَأْفِكُ وَيَهْتِكُ الْحَرِيمَ , فَمَا زَالَ السَّلِيمُ يَبْكِي بُكَاءَ السَّلِيمِ , حَتَّى بَدَا هِلالُ الْهُدَى فِي لَيْلِ الْبَلاءِ الْبَهِيمِ {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عظيم} . أَحْمَدُهُ كُلَّمَا عَمَّتِ الْغَافِلِينَ غَفَلاتُهُمْ , وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي هَلَكَتْ بِهِ عزاهم وُلاتُهُمْ , وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي سُلِّمَتْ إِلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ صَلاتُهُمْ , وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي تَقَوَّمَتْ بِعَدْلِهِ حَالاتُهُمْ , وَعَلَى عُثْمَانَ مَقْبُولِ الْمَالِ إِذْ مَالَتْ بِالْبُخَلاءِ آفَاتُهُمْ , وَعَلَى عَلِيٍّ الزَّاهِدِ فِي الدُّنْيَا إِذْ مَنَعَتْ أَرْبَابَهَا شَهَوَاتُهُمْ , وَعَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ الطَّاهِرَاتِ اللاتِي نُزِّهَتْ جِهَاتُهُمْ {النَّبِيُّ أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ آخِذِ الْبَيْعَةِ لَهُ عَلَى الأَنْصَارِ إِذْ حُمِدَتْ مَسْعَاتُهُمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} أجمع

الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بَعْدَهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ. وَالإِفْكُ: الْكَذِبُ. وَالْعُصْبَةُ: الْجَمَاعَةُ. وَفِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ {لا تحسبوه شرا لكم} قولان: أحدهما: عائشة وصفوان ابن الْمُعَطَّلِ. وَالثَّانِي: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعَائِشَةُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ تُؤْجَرُونَ فِيهِ , وَالأَجْرُ يُغَطِّي الْمَكْرُوهَ. وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلإِنْسَانِ لِمَا يُصيِبُهُ مِنَ الْمَكَارِهِ , وَلِيَعْلَمَ أَنَّهُ مَا سَلِمَ أَحَدٌ مِنْ شَرِّ النَّاسِ. {لِكُلِّ امرئ منهم} يَعْنِي مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْكَاذِبَةِ {مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثم} أَيْ جَزَاءُ مَا اجْتَرَحَ مِنَ الذَّنْبِ عَلَى قَدْرِ خَوْضِهِ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَدِّمُ عَائِشَةَ على جميع أزواجه. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُكَ فِي الْمَنَامِ وَرَجُلٌ يَحْمِلُكَ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ. فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُمْضِهِ ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ أَوَّلَ مَنْ تَزَوَّجَ فَوَلَدَتْ لَهُ الْقَاسِمَ وَعَبْدَ اللَّهِ وَهُوَ الطَّيِّبُ وَالطَّاهِرُ وُلِدَ فِي الإِسْلامِ فَلُقِّبَ بِاللَّقَبَيْنِ. وَمِنَ الإِنَاثِ: زَيْنَبُ وَرُقَيَّةُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ وَفَاطِمَةُ , وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَى خَدِيجَةَ حَتَّى مَاتَتْ فَتَزَوَّجَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ ثُمَّ عَائِشَةَ. وَلَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ أَرَادَ طَلاقَهَا فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَدَعَهَا فِي أَزْوَاجِهِ وَجَعَلَتْ لَيْلَتَهَا لِعَائِشَةَ. وَتَزَوَّجَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ وَتَزَوَّجَ حَفْصَةَ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُرَاجِعَ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ. فَرَاجَعَهَا وَتَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ وَأُمَّ حَبِيبَةَ وَزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ وَزَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ وَجُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ. وَكَانَ قَدْ أَصَابَهَا فِي غَزَاةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَكَاتَبَهَا , فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابِتَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَمَّا

سَمِعَ النَّاسُ بِذَلِكَ: أَرْسَلُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَأَعْتَقَ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ. وَتَزَوَّجَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ وَمَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ وَقَدَّرَ اللَّهُ مَوْتَهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَلَمَّا تَعِبَتْ خَدِيجَةُ فِي تَرْبِيَةِ الأَوْلادَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: " اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ ". وَلَمَّا خَطَبَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ قَالَتْ: مَا أَنَا صَانِعَةٌ شيئاًَ حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي. فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا وَنَزَلَ القرآن في نكاحها. فجاء الرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا. وَكَانَتْ صَوَّامَةً قَوَّامَةً تَعْمَلُ بِيَدِهَا وَتَتَصَدَّقُ. وَلَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ الْمَدِينَةِ في الحديبية فطوت فراش رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إِنَّكَ نَجِسٌ. وَكَانَ آثَرُ الْكُلَّ عِنْدَهُ عَائِشَةَ لأَنَّهَا جَمَعَتِ الْجَمَالَ وَالْكَمَالَ فِي الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ وَالْعِلْمِ وَالْفَصَاحَةِ , فَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينٍ. وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا فِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا وَوَجَدْتَ شَجَرًا لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا فِي أَيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ؟ قَالَ: فِي الَّتِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا ". تَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا. أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ , أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُسْلِمَةِ , أَخْبَرَنَا الْمُخَلِّصُ , أَخْبَرَنَا الْبَغَوِيُّ , أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ , حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ , عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ , عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ , عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ عَائِشَةُ. قَالَ: فَمِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ , أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ الْجُرْيَجِيُّ , حَدَّثَنَا الْمُخَلِّصُ , حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلادٍ , حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ , حَدَّثَنَا شُعْبَةُ , عَنْ عُمَرَ بْنِ مُرَّةَ , عَنْ أَبِي مُوسَى , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوَمْ عَائِشَةَ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ ". وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَيْنَ أَنَا غَدًا؛ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ. فَأَذِنَّ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ , فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا. وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأُمِّ سَلَمَةَ: " لا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرَهَا ". وَقَالَ أَبُو مُوسَى مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَنْهُ عَائِشَةَ إِلا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا. وَقَالَ عُرْوَةُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَعْلَمَ بِالْقُرْآنِ وَلا بِفَرِيضَةٍ , وَلا بِحَلالٍ وَلا بِحَرَامٍ , وَلا بِشِعْرٍ , وَلا بِحَدِيثِ الْعَرَبِ وَلا بِنَسَبٍ مِنْ عَائِشَةَ. وَكَانَتْ غَزِيرَةَ الكرم. قسمت يوماً سبعين ألفاً وهي ترفع دِرْعَهَا. وَكَانَتْ كَثِيرَةَ التَّعَبُّدِ وَكَانَتْ لَهَا فَصَاحَةٌ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الْحَافِظُ , أَخْبَرَنَا ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ , أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ

أَحْمَدَ بْنِ غَالِبٍ الْبَرْقَانِيُّ , قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حُبَابٍ الْخُوَارَزْمِيِّ , حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ الْبَغْدَادِيُّ , حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْعجلِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ , عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ , لا أَدْرِي ذَكَرَهُ عَنْ أَبِيهِ أَمْ لا - الشَّكُّ مِنْ أَبِي يَعْقُوبَ قَالَ: بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّ أَقْوَامًا يَتَنَاوَلُونَ أَبَا بَكْرٍ فَأْرَسَلَتْ إِلَى أَزْفَلَةٍ " جَمَاعَةٍ " مِنْهُمْ فَلَمَّا حَضَرُوا أَسْدَلَتْ أَسْتَارَهَا ثُمَّ دَنَتْ فَحَمِدَتِ اللَّهَ تَعَالَى وَصَلَّتْ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَذَلَتْ وَقَرَّعَتْ ثم قالت: أبي وما أبيه! أَبِي وَاللَّهِ لا يُعْطَوْهُ الأَبَدَ , ذَاكَ طَوْدٌ منيف وفرع مديد , هيهات كذبت الظنون أنجح إِذْ أَكْدَيْتُمْ وَسَبَقَ إِذْ وَنَيْتُمْ سَبَقَ الْجَوَادُ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الأَمَدِ [الْغَايَةِ] فَتَى قُرَيْشٍ نَاشِئًا وَكَهْفُهَا كَهْلا , يَفُكُّ عَانِيَهَا , وَيَرِيشُ مُمْلِقَهَا [فقيرها] ويرأب شعبها حتى حلبته قلوبها , اسْتَشْرَى فِي اللَّهِ تَعَالَى فَمَا بَرِحَتْ شَكِيمَتُهُ وَحَمِيَّتُهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى اتَّخَذَ بِفِنَائِهِ مَسْجِدًا يُحْيِي فِيهِ مَا أَمَاتَ الْمُبْطِلُونَ. وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ وَقِيذَ الْجَوَارِحِ شجي النشيح , فَانْقَضَتْ إِلَيْهِ نِسْوَانُ مَكَّةَ وَوِلْدَانُهَا يَسْخَرُونَ مِنْهُ ويستهزئون به {الله يشتري بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} فَأَكْبَرَتْ ذَلِكَ رِجَالاتُ قُرَيْشٍ فَحَجَنَتْ لَهُ قِسِيَّهَا وَفَوَّقَتْ لَهُ سِهَامَهَا وَانْتَثَلُوهُ غَرَضًا , فَمَا فَلُّوا لَهُ صَفَاةً وَلا قَصَفُوا لَهُ قَنَاةً , وَمَرَّ عَلَى سِيسَائِهِ. حَتَّى إِذَا ضُرِبَ الدِّينُ بِجِرَانِهِ وألقى بركه وَرَسَتْ أَوْتَادُهُ وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا وَمِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ أَرْسَالا وَأَشْتَاتًا اخْتَارَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مَا عِنْدَهُ , فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَبَ الشَّيْطَانُ رِوَاقَهُ وَمَدَّ طُنُبَهُ وَنَصَبَ حَبَائِلَهُ , وَظَنَّ رِجَالٌ أَنْ قَدْ تَحَقَّقَتْ أَطْمَاعُهُمْ وَلاتَ حِينَ الَّذِي يَرْجُونَ فَأَنَّى وَالصِّدِّيقُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ! فَقَامَ حَاسِرًا مُشَمِّرًا , فَجَمَعَ حَاشِيَتَهُ وَرَفَعَ قُطْرَيْهِ فَرَدَّ نَشَزَ الإِسْلامِ عَلَى غَرْبٍ , وَلَمَّ شَعْثَهُ بِطِبِّهِ , وَأَقَامَ أَوَدَهُ بِثِقَافِهِ , فَابْذَقَرَّ النِّفَاقُ بِوَطْأَتِهِ , وَانْتَاشَ الدِّينَ فَنَعَشَهُ , فَلَمَّا أَزَاحَ الْحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ وَقَرَّرَ الرُّءُوسَ عَلَى كَوَاهِلِهَا وَحَقَنَ الدِّمَاءَ فِي أُهُبِهَا

الكلام على البسملة

أَتَتْهُ مَنِيَّتُهُ , فَسُدَّ ثُلْمَتَهُ بِنَظِيرِهِ فِي الرَّحْمَةِ وَشَقِيقِهِ فِي السِّيرَةِ وَالْمَعْدَلَةِ , ذَاكَ ابْنُ الْخَطَّابِ , لله درأم حَمَلَتْ بِهِ وَدَرَّتْ عَلَيْهِ , فَقَدْ أَوْحَدَتْ بِهِ , فَفَنَّخَ الْكَفَرَةَ وَدَيَّخَهَا , وَشَرَّدَ الشِّرْكَ شَذَرَ مَذَرَ , ونفج الأرض وَنَخَعَهَا , فَقَامَتْ أُكُلُهَا وَلُقِطَتْ حَبُّهَا , تَرْأَمُهُ وَيَصْدِفُ عَنْهَا , وَتَصَدَّى لَهُ وَيَأْبَاهَا , ثُمَّ زَرَعَ فِيهَا وَوَدَعَهَا كَمَا صَحِبَهَا , فَأَرُونِي مَا تَرِيبُونَ , أَيُّ يَوْمٍ تَنْقُمُونَ: أَيَوْمُ إِقَامَتِهِ إِذْ عَدَلَ فِيكُمْ؟ أَمْ يَوْمُ ظَعْنِهِ فَقَدْ نُظِرَ لَكُمْ؟ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الغريب: الأزفلة: الجماعة. ويعطوه: ينالوه. وأكدتيم خِبْتُمْ. وَوَنَيْتُمْ: فَتَرْتُمْ. وَالأَمَدُ: الْغَايَةُ. وَالْمُمْلِقُ: الْفَقِيرُ. وَيْرَأَبُ: يَجْمَعُ. وَالشَّعْبُ: الْمُتَفَرِّقُ. وَاسْتَشْرَى: احْتَدَّ وَانْكَمَشَ. فَمَا بَرِحَتْ: أَيْ مَا زَالَتْ شَكِيمَتُهُ , وَهِيَ الأَنَفَةُ وَالْحَمِيَّةُ. وَالْوَقِيذُ: الْعَلِيلُ. وَالشَّجِيُّ: الْحَزِينُ. وَالنَّشِيجُ: صَوْتُ الْبُكَاءِ. وَانْتَثَلُوهُ: أَيْ مَثَّلُوهُ غَرَضًا لِلرَّمْيِ. وَفَلُّوا: كَسَرُوا. وَالصَّفَاةُ: الصَّخْرَةُ الْمَلْسَاءُ. وَقَوْلُهَا عَلَى سِيسَائِهِ: أَيْ عَلَى حَدِّهِ. وَالْجِرَانُ: الصَّدْرُ. وَهُوَ الْبَرْكُ. وَمَعْنَى: فَرَفَعَ حَاشِيَتَهُ وَجَمَعَ قُطْرَيْهِ: تَحَزَّمَ لِلأَمْرِ وَتَأَهَّبَ. وَالْقُطْرُ: النَّاحِيَةُ. فَرَدَّ نَشَزَ الإِسْلامِ عَلَى غَرْبٍ: كَذَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ. وَالصَّوَابُ عَلَى غِرَّةٍ أَيْ ظِنَّةٍ. وَالطِّبُّ: الدَّوَاءُ. وَالأَوَدُ: الْعَوَجُ. وَالثِّقَافُ: تَقْوِيمُ الرِّمَاحِ. وَابْذَقَرَّ: تَفَرَّقَ. وَانْتَاشَ الدِّينَ: أَزَالَ عَنْهُ مَا يُخَافُ عَلَيْهِ. وَنَعَشَهُ: رَفَعَهُ. وَالأُهُبُ: جَمْعُ إِهَابٍ وَهُوَ الْجِلْدُ. وَأَوْحَدَتْ: أَيْ جَاءَتْ بِهِ مُنْفَرِدًا لا نَظِيرَ لَهُ. فَفَنَّخَ الْكَفَرَةَ: أَذَلَّهَا. وَدَيَّخَهَا: أَيْ دَوَّخَهَا. وَمَعْنَى شَذَرَ مَذَرَ: التَّفْرِيقُ. وَنَخَعَ: شَقَّ. وَمِثْلُهُ نَفَجَ. وَالأُكُلُ: الْخَيْرُ. وَتَرْأَمُهُ تَعْطِفُ عَلَيْهِ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (بَادِرِ الأَيَّامَ فَالْحَيُّ ... مِنَ الْمَوْتِ قَرِيبُ) (بَيْنَمَا يَخْطِرُ فِي أَهْلِ الْحِمَى لا يَسْتَرِيبُ ... ) (إِذْ حَوَاهُ اللَّحْدُ يَوْمًا ... مُفْرَدًا فَهُوَ غَرِيبُ) (خُذْ نَصِيبًا قَبْلَ أَنْ يُعْجِزَكَ ... الدَّهْرُ الْمُصِيبُ)

(وَاحْذَرِ الأُخْرَى لِهَوْلٍ ... يَوْمُهُ يَوْمٌ عَصِيبُ) (يَوْمُ لا يَسْلَمُ مَغْرُورٌ ... وَلا يَنْجُو مُرِيبُ) (أَطِعِ النَّاصِحَ إِذْ نَادَاكَ ... فَالْمَوْتُ عَجِيبُ) (كَمْ تُرَى نُسْمِعُكَ النُّصْحَ ... وَكَمْ لا تَسْتَجِيبُ) يَا مَنْ لا يَتَّعِظُ بِسَلَفِ آبَائِهِ , يَا مَنْ لا يَعْتَبِرُ بِتَلَفٍ أَوْ دَائِهِ , يَا أَسِيرَ أَغْرَاضِهِ وَقَتِيلَ أَهْوَائِهِ , يَا مَنْ عَجَزَتِ الأَطِبَّاءُ عَنْ إِصْلاحِ دَائِهِ , يَا مَشْغُولا بِذِكْرِ بَقَائِهِ عَنْ ذِكْرِ فَنَائِهِ , يَا مَغْرُورًا قَدْ حَلَّ الْمَمَاتُ بِفِنَائِهِ , يَا مُعْجَبًا بِثَوْبِ صِحَّتِهِ يَمْشِي فِي خُيَلائِهِ , يَا مُعْرِضًا عَنْ نَصِيحِهِ مُشَمِّتًا لأَعْدَائِهِ , يَا مَنْ يَلْهُو بِأَمَلِهِ , وَيَا مَنْ أَجَلُهُ مِنْ وَرَائِهِ , يَجْمَعُ الْعَيْبَ إِلَى الشَّيْبِ وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ رَائِهِ , كَمْ رَأَيْتَ مُسْتَلَبًا مِنْ سرور وَنَعْمَائِهِ , كَمْ شَاهَدْتَ مَأْخُوذًا عَنْ أَحْبَابِهِ وَأَبْنَائِهِ , بَيْنَا هُوَ فِي غُرُورِهِ دَبَّ الْمَوْتُ فِي أَعْضَائِهِ , بَيْنَا جَرِعَ اللَّذَّةَ فِيهِ شَرَقَ بِمَائِهِ , بَيْنَا نَاظِرُ النَّظِيرِ يُعْجِبُهُ صَارَ عِبْرَةً لِنُظَرَائِهِ , ماله ضَيَّعَ مَالَهُ وَبَقِيَ فِي بَلائِهِ. (بَاتَتْ هُمُومِي تسري طوارقها ... اأكف عَيْنِي وَالدَّمْعُ سَابِقُهَا) (هُمَا طَرِيقَانِ فَائِزٌ دَخَلَ الْجَنَّةَ ... حَفَّتْ بِهِ حَدَائِقُهَا) (وَفِرْقَةٌ فِي الْجَحِيمِ مَعَ تَبَعِ الشَّيْطَانِ ... يَشْقَى بِهَا مُوَافِقُهَا) (اقْتَرَبَ الْوَعْدُ وَالْقُلُوبُ إِلَى اللَّهْوِ ... وَحُبُّ الْحَيَاةِ سَائِقُهَا) (مَا رَغْبَةُ النَّفْسِ فِي الْبَقَاءِ وَإِنْ ... عَاشَتْ قَلِيلا فَالْمَوْتُ لاحِقُهَا) (أَيَّامُهَا غَايَةٌ إِلَيْهِ وَيَحْدُوهَا ... حَثِيثًا إِلَيْهِ سَائِقُهَا) (وَكُلُّ مَا جَمَعَتْ وَأَعْجَبَهَا ... مِنْ عَيْشِهَا مَرَّةً مُفَارِقَهَا) (يُوشِكُ مَنْ فَرَّ مِنْ مَنِيَّتِهِ ... فِي بَعْضِ غِرَّاتِهِ يُوَافِقُهَا) (مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً يَمُتْ هَرَمًا ... لِلْمَوْتِ كَأْسٌ وَالْمَرْءُ ذَائِقُهَا) يَا مَنْ تَجَبَّرَ عَلَى مَوْلاهُ وَتَمَرَّدَ , وَاسْتَلَّ سَيْفَ الْبَغِيِّ وَجَرَّدَ , كَمْ يُنْعِمُ عَلَيْكَ فَتَنْسَى وَتَجْحَدُ , كَمْ تُشَيِّعُ مِنْ مَيِّتٍ وَتَرَى لَحْدَ مُلْحِدٍ , يَا قَلِيلَ الزَّادِ وَأَلْوِيَةُ الرَّحِيلِ تُعْقَدُ , يَا مَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ النَّارُ بِالأَحْجَارِ تُوقَدُ , يُنْزِلُ اللُّطْفَ فِي جَمْعِ

شَمْلِكَ وَقَبِيحُ فِعْلِكَ يَصْعَدُ , يَا قَلِيلَ الانْتِفَاعِ بِالْوَعْظِ إِلَى كَمْ تَتَزَوَّدُ. (يَا قَبِيحَ الْمُتَجَرَّدْ ... كَمْ عَلَيْنَا تَتَمَرَّدْ) (كَمْ نُرَاعِيكَ وَنُولِيكَ ... وَلِلإِحْسَانِ تَجْحَدْ) (كَمْ أُنَادِيكَ بِوَعْظِي ... أَتُرَى قَلْبُكَ جَلْمَدْ) (كَمْ تَرَى أَنْتَ عَلَى الشَّرِّ ... إِلَيِهْ تَتَزَوَّدْ) (أَوَمَا تَجْزَعُ مِنْ نَارٍ ... عَلَى الْعَاصِينَ تُوقَدْ) (فَمَتَى تَحَذْرُ فِي الإِسْرَافِ ... مَا مِثْلُكَ يُوعَدْ) لَقَدْ نَطَقَتِ الْغِيَرُ بِالْعِبَرِ , وَلَقَدْ خَبَرَ الأَمْرَ من عنده خبر , وإنما ينفع البصر ذا بصر , فاعجبوا لِمُقَصِّرٍ عُمْرَهُ فِي قِصَرٍ؛ يَا مَنْ لا يُرى مِنْ تَوْبَتِهِ إِلا الْوُعُودُ , فَإِذَا تَابَ فَهُوَ عَنْ قَرِيبٍ يَعُودُ , أَرَضِيتَ بِفَوْتِ الْخَيْرِ وَالسُّعُودِ , أَأَعْدَدْتَ عُدَّةً لِنُزُولِ الأُخْدُودِ , أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْجَوَارِحَ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهُودِ , تَاللَّهِ إِنَّ حَوْضَ الْمَوْتِ عَنْ قَرِيبٍ مَوْرُودٍ , وَاللَّهِ مَا الزَّادُ فِي الطَّرِيقِ بِمَوْجُودٍ , وَاللَّهِ إِنَّ الْقِيَامَةَ تُشَيِّبُ الْمَوْلُودَ , وَاللَّهِ إِنَّ الْعُمْرَ مَحْبُوسٌ مَعْدُودٌ , وَالْوُجُوهُ غَدًا بَيْنَ بِيضٍ وَسُودٍ , إِلَى كَمْ هذا الصباح والمراح , أأبقى اليشب مَوْضِعًا لِلْمِزَاحِ , لَقَدْ أَغْنَى الصَّبَاحُ عَنِ الْمِصْبَاحِ , وقام حَرْبَ الْمَنُونِ مِنْ غَيْرِ سِلاحٍ , اعْوَجَّتِ الْقَنَاةُ بِلا قَنًا وَلا صِفَاحٍ , فَعَادَ ذُو الشَّيْبَةِ بالضعف ثخين الجرح , وَنَطَقَتْ أَلْسُنُ الْفَنَاءِ بِالْوَعْظِ الصِّرَاحِ , وَا أَسَفَا صُمَّتِ الْمَسَامِعُ وَالْمَوَاعِظُ فِصَاحٌ , لَقَدْ صَاحَ لِسَانُ التَّحْذِيرِ: يَا صَاحِ يَا صَاحِ , وَأَنَّى بِالْفَهْمِ لِسَكْرَانَ غَيْرِ صَاحٍ , أَسْكَرَكَ الْهَوَى سُكْرًا لا يزاح , أو ما تفيق حتى يقول الموت لا براخ , مَتَى يَظْهَرُ عَلَيْكَ سِيمَا الْمُتَّقِينَ , مَتَى تَتَرَقَّى إِلَى مَقَامِ السَّابِقِينَ , كَأَنَّكَ بِكَ تَذْكُرُ قَوْلِي وَقَدْ عَرِقَ الْجَبِينُ , وَخَابَتِ الآمَالُ وَعَبِثَتِ الشِّمَالُ بِالْيَمِينِ , وَبَرِقَ الْبَصَرُ وَجَاءَ الْحَقُّ الْيَقِينُ , وَلا يَنْفَعُ الانْتِبَاهُ حِينَئِذٍ يَا مِسْكِينُ , يَا مَنْ يُوعَظُ وَكَأَنَّهُ مَا يَسْمَعُ , يَا مَشْغُولا بِمَا يَفْنَى يَحْوِي وَيَجْمَعُ , يَا مَنْ شَابَ وَمَا تَابَ فِي أَيِّ شَيْءٍ تَطْمَعُ , يَا غَافِلا وَالْمَوْتُ عَلَى أَخْذِهِ قَدْ أَزْمَعَ , سَتَعْرِفُ يَوْمَ عَرْضِ الْكِتَابِ وَسُوءِ الْحِسَابِ عَيْنُ مَنْ تَدْمَعُ , أَتُرَاكَ يَوْمَ الرَّحِيلِ إِذَا ضَاقَ رَحْبُ السَّبِيلِ مَا تَصْنَعُ , أَتُرَاكَ بِمَاذَا تَتَّقِي هَوْلَ

الكلام على قوله تعالى

ذَاكَ الْمَصْرَعِ , عَجَبًا لَكَ تُؤْثِرُ مَا يَفْنَى وَتَعْلَمُ مَا يَبْقَى أَنْفَعُ , يَا مَنْ أَمَارَاتُ طَرْدِهِ مِنْ وَجْهِ صَدِّهِ تَلْمَعُ , لَقَدْ نَادَانَا لِسَانُ حَالِكَ بِدَوَامِ الْقَبِيحِ مِنْ أَفْعَالِكَ غَيْرَ أَنَّا فِيكَ نَطْمَعُ. (كَمْ تَعْذِلُونَ وَعَذْلُكُمْ لا يَنْفَعُ ... ضَاعَ الْحَدِيثُ فَعَلِمُوا مَنْ يَسْمَعُ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ له عذاب عظيم} قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا نَزَلَ فِي حَقِّ عائشة حين قذفت. وكبره بِمَعْنَى مُعْظَمَهُ. وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُبْرَهُ بِضَمِّ الْكَافِ وَهُمَا لُغَتَانِ. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ ذَلِكَ ابْنُ أُبَيٍّ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ , أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ , أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ , عَنْ الزُّهْرِيِّ , أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ [بْنُ عبد الله] ابن عُتْبَةَ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا قَالُوا , كُلُّهُمْ حَدَّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ حَدِيثِهَا وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ وَأَثْبَتُ اقْتِصَاصًا , وَقَدْ وَعِيتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي , وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا. ذَكَرُوا: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي , فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ , فَأَنَا أُحمَل فِي هَوْدَجِي وَأَنْزِلُ فِيهِ , فَسِرْنَا , حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوِهِ فَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ أَذَّنَ

لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ أَذَّنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ. فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحِيلِ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ , فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي , فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ , وَأَقْبَلَ الرَّهَطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ بِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَّلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ. قَالَتْ: وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ , إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ , فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَّلُوهُ وَرَفَعُوهُ , كُنْتُ جَارِيَةَ حَدِيثَةِ السِّنِّ فَبَعَثُوا الجمل وساروا. ووجدت عقدي بعدما اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلا مُجيِبٌ , فَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ فظننت أن القوم سيفقدوني فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْني عَيْنِي فَنِمْتُ , وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي , فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي , وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيَّ الْحِجَابُ , فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي , وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَلا سَمِعْتُ مِنْهُ كلمة غير استرجاعه , حتى أناخ راحلته فوطىء عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا , فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي حَرِّ الظَّهِيرَةِ , فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي , وكان الذي تولى كبره عبد الله ابن أبي بن سَلُولَ. فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُهَا شَهْرًا , وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ وَلا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي , إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَذَاكَ يَرِيبُنِي وَلا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ , حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقِهْتُ وَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا وَلا نَخْرُجُ إِلا لَيْلا إِلَى لَيْلٍ , وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا , وَأَمْرُنَا أَمْرُ العرب الأول في التنزه , وكنا نتأذى بأكنفات أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا , فَانْطَلَقْتُ أَنَا

وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح ابن أُثَاثَةَ , فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسَطْحٌ. فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ! تَسُبِّينَ رَجُلا قَدْ شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه أو لم تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضٍ. فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَيْفَ تيكم؟ قلت: أتأذن لي أن آتِي أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا. فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لأُمِّي: يَا أُمَّتَاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: أَيْ بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا. قُلْتُ سُبْحَانَ الله أو قد تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حتى أصبحت لا يرفأ لِي دَمْعٌ وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي. وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِنَ الْوُدِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ أَهْلُكَ وَلا نَعْلَمُ إِلا خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ. قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ: أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟ قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَقَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي! فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلا مَعِي. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَ

مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ. قَالَتْ: فَقَامَ سعد ابن عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ رَجُلا صَالِحًا ولكن احتملته الحمية؛ فقال لسعد ابن مُعَاذٍ: لَعَمْرُكَ لا تَقْتُلُهُ وَلا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهَطِكَ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُو اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ. فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ. قَالَتْ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ بَكَيْتُ لَيْلَتِي الْمُقْبِلَةَ لا يَرْقَأُ لِي دَمْعٍ وَلا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقُ كَبِدِي. قَالَتْ: فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ. قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم. فقال: والله مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ: فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ: إِنِّي وَاللَّهِ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، ولئن قلت لكم إني برئية لا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ والله عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ تُصَدِّقُونِي، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلا إِلا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ

المستعان على ما تصفون} . قالت: ثم تحولت فاضجعت عَلَى فِرَاشِي. قَالَتْ: وَأَنَا وَاللَّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يَنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَهُ وَلا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَكِ. فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلا أَحْمَدُ إِلا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} الْعَشْرَ الآيَاتِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَاتُ [فِي] بَرَاءَتِي. قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ، وَاللَّهِ لا أنفق عليه شيئا أبدا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة} إِلَى قَوْلِهِ {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لكم} . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِي مَا عَلِمْتِ وَمَا رَأَيْتِ وَمَا بَلَغَكِ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلا خَيْرًا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت

جَحْشٍ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ. هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ. وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَعْصِمَنَا مِنَ اعْتِقَادِ مَنْ لا يُسَمَّى فَإِنَّهُمْ تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ ذِكْرِ عَائِشَةَ حُمَّى. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، حَدَّثَنَا أحمد بن جعفر، حدثنا عبد الله ابن أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حدثنا زائدة، حدثنا عبد الله بن خثيم، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ ذَكْوَانُ حَاجِبُ عَائِشَةَ أَنَّهُ جَاءَ عَبْدُ الله ابن عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى عَائِشَةَ فَجِئْتُ وَعِنْدَ رَأْسِهَا ابْنُ أَخِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ. فَأَكَبَّ عَلَيْهَا ابْنُ أَخِيهَا فَقَالَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَهِيَ تَمُوتُ فَقَالَتْ: دَعْنِي مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ صَالِحِي بَنِيكِ يُسَلِّمُ عَلَيْكِ وَيُوَدِّعُكِ. فَقَالَتْ: إِيذَنْ لَهُ إِنْ شِئْتَ. فَأَدْخَلَتْهُ فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ: أَبْشِرِي، مَا بَيْنَكِ وَبَيْنَ أَنْ تَلْقَيْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالأَحِبَّةَ إِلا أَنْ تَخْرُجَ الرُّوحُ مِنَ الْجَسَدِ، كُنْتِ أَحَبَّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ إِلا طَيِّبًا وَسَقَطَتْ قِلادَتُكِ لَيْلَةَ الأَبْوَاءِ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُصْبِحَ فِي الْمَنْزِلِ وَأَصْبَحَ النَّاسُ لَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يتيمموا صعيدا طيبا، وكان ذلك في سببك، وَأَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ جَاءَ بِهَا الرُّوحُ الأَمِينُ فَأَصْبَحَ لَيْسَ مَسْجِدٌ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ يُذْكَرُ فِيهِ اللَّهُ تَعَالَى إِلا يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. فقالت: دعني منك يا بن عَبَّاسٍ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. إِخْوَانِي: فَضَائِلُ عَائِشَةَ كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا يكفيها، وبحسبها أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ آيَاتٍ تُتْلَى فِيهَا. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن جعفر، حدثنا عبد الله ابن أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ

سجع

أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَعْرَفَةِ فَرَسٍ وَهُوَ يُكَلِّمُ رَجُلا. قُلْتُ: رَأَيْتُكَ وَاضِعًا يَدَيْكَ عَلَى مَعْرَفَةِ فَرَسِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَأَنْتَ تُكَلِّمُهُ. قَالَ: وَرَأَيْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ وَهُوَ يُقْرِئُكِ السَّلامَ. قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلامُ. انْظُرُوا إِخْوَانِي: كَيْفَ لَمْ يُوَاجِهْهَا بِالسَّلامِ لأَجْلِ زَوْجِهَا، فَمَنْ هَذِهِ حَالَتُهَا مَعَ جِبْرِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ عَلَيْهَا الزُّورُ وَالأَبَاطِيلُ؟ أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَقُلُوبُهُمْ بِالْفَرَحِ عِنْدَ ذِكْرِ عَائِشَةَ طَائِشَةٌ، وَأَمَّا الرَّافِضَةُ فَتَأْخُذُهُمْ حُمَّى نَافِضَةٌ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، قَالَ أَنْشَدَنِي عَاصِمُ بْنُ الْحُسَيْنِ لِنَفْسِهِ: (وَحَقُّ مَنْ بَعْلُهَا النَّبِيُّ وَمَنْ ... وَالِدُهَا الْمُرْتَضَى أَبُو بَكْرِ) (لا حَلَّتْ عَنْ مِدْحَتِي لَهَا أَبَدًا ... حَتَّى أُوَارَى فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ) (قَدْ تَيَقَّنَتْ أَنَّ وَالِدَهَا ... يُشَفَّعُ فِي صَبِيحَةِ الْحَشْرِ) (طَاهِرَةٌ تَنْتَمِي إِلَى نَسَبٍ ... شَرَّفَهُ اللَّهُ مِنْهُ بِالْفَخْرِ) (لَمَّا رَمَوْهَا لا دَرَّ دِرْهَمٌ ... بِالزُّورِ وَالإِفْكِ عُصْبَةُ الشَّرِّ) (بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ مَقَالَتِهِمْ ... بِغَيْرِ شَكٍّ فِي مُحْكَمِ الذِّكْرِ) (فَمَا لَهَا مُشَبَّهٌ يُسَاجِلُهَا ... وَحَقُّ طَهَ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ) (وَكَمْ لَهَا مِنْ فَضِيلَةٍ نَطَقَتْ ... بِهَا وَذِكْرٍ يَبْقَى عَلَى الدَّهْرِ) (قَالَتْ تُوُفِّيَ النبي خالفة ... مَا بَيْنَ سَحْرِي وَمُلْتَقَى نَحْرِي) (فَلا رَعَى اللَّهُ مَنْ تَنَقَّصَهَا ... فَمَا لَهُ فِي الْمَعَادِ مِنْ عُذْرِ) (وَأَيُّ عُذْرٍ لِمُبْدِعٍ رَجِسٍ ... مَذْهَبُهُ شَتْمُ زَوْجَةِ الطُّهْرِ) سَجْعٌ هِيَ اخْتِيَارُ الْعَظِيمِ الْعَلِيِّ لِلنَّبِيِّ، وَمُذْ طُفُولَتِهَا تُعْرَفُ بِالْعِزِّ الأَبِيِّ، وَلَهَا عَقْلُ الْكِبَارِ فِي سِنِّ الصَّبِيِّ، وَهَلْ يَضُرُّهَا قَوْلُ الْجَهُولِ الْغَبِيِّ، أَوْ يَقْدَحُ فِي ريح

الْمِسْكِ الذَّكِيِّ إِلا بَهِيمٌ {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ منهم له عذاب عظيم} . مَا تَزَوَّجَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا سِوَاهَا، وَلا أَحَبَّ زَوْجَةً كَحُبِّهِ إِيَّاهَا، جَاءَ بِهَا الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ فَجَلاهَا، وَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِبَرَاءَتِهَا سُبْحَانَ مَنْ أَعْطَاهَا، وَمَا يَرْمِي الأَصِحَّاءَ بِالسُّقْمِ إِلا سَقِيمٌ {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ منهم له عذاب عظيم} . واعجبا لِمُبْغِضِيهَا مَنْ هُمْ، إِنْ فَهِمْتَ قَوْلِي قُلْتَ إِنْ هُمْ، ضَرَّهُمْ وَاللَّهِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ، خَفَّتْ وَاللَّهِ عُقُولُهُمْ وَالآفَةُ تَهِيمُ {وَالَّذِي تَوَلَّى كبره منهم له عذاب عظيم} . مَا خَفِيَ عَلَى حُسَّادِهَا طَهَارَةُ ذَيْلِهَا، غَيْرَ أَنَّ الطِّبَاعَ الرَّدِيَّةَ فِي مَيْلِهَا، هَجَمَتْ عَلَيْهَا الأَحْزَانُ بِرَجْلِهَا وَخَيْلِهَا، فَكَانَتْ طُولَ نَهَارِهَا وَلَيْلِهَا تَبْكِي بُكَاءَ الْيَتِيمِ. مَدُّوا أَبْوَاعَهُمْ إِلَى عِرْضِهَا فَمَا نَالُوا، وَأَكْثَرُوا الْقَوْلَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَاحْتَالُوا، وَنَوَّعُوا أَسْبَابَ الْقَذْفِ وَتَكَلَّمُوا وَأَطَالُوا، وَهِيَ عَلَى طَهَارَتِهَا مِمَّا قَالُوا فِي مَقْعَدٍ مُقِيمٍ. تَكَلَّمُوا فيها بترهات، وراموا ذم السَّمَاءِ وَهَيْهَاتَ، يَا عَائِبَهَا إِنْ عَرَفْتَ عَيْبًا فَهَاتِ، كَفَانَا اللَّهُ شَرَّ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ فَإِنَّهُ قَبِيحٌ ذَمِيمٌ {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عذاب عظيم} . مَا كَانَ سِوَى غَيْمٍ ثُمَّ تَجَلَّى، وَانْصَرَفَ الْحُزْنُ وَتَوَلَّى بِالْفَرَحِ الَّذِي تَوَلَّى، وَلَبِسَ الْمَمْدُوحُ أَحْسَنَ الْحُلَى وَتَحَلَّى، وَحَمَلَ الْقَاذِفُ إِثْمًا وَكَلا، أَيَقْدَحُ الْعُقَلاءُ فِي أُمَّهَاتِهِمْ، الْقَاذِفُونَ كَلا هِيَ مِنْهُمْ عَقِيمٌ {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عذاب عظيم} . حُوشِيَتْ مِنْ رَيْبٍ أَوْ فُجُورٍ، إِنَّمَا زِيدَتْ بِمَا جَرى فِي الأُجُورِ، تَنَزَهَّتْ أُمُّ الْعُدُولِ أن تجوز، إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي أَغْبَاشِ لَيْلِ ظَلامِ دَيْجُورٍ، ثُمَّ بَانَ النُّورُ فِي سُورَةِ النُّورِ، فَنَزَلَ فِي الْكَلامِ الْقَدِيمِ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ له عذاب عظيم} .

المجلس الثالث والثلاثون في فضل الصحابة رضي الله عنهم

المجلس الثالث والثلاثون فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْحَمْدُ لله القديم الأحدي، العظيم الصمدي، الدائم الأَبَدِيِّ، الْقَائِمِ السَّرْمَدِيِّ، رَفَعَ بِقُدْرَتِهِ السَّمَاءَ وَأَجْرَى بِحِكْمَتِهِ الْمَاءَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ، وَأَمْكَنَهُ مِنَ الْعَيْشِ الْهَنِيِّ، فَخَالَفَ بِالأَكْلِ الصَّوَابَ، فَكَشَفَ الْخَلافُ عَنْهُ الْجِلْبَابَ، فَخَرَجَ وَمَا يَعْرِفُ الْبَابَ لِشُؤْمِ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ، وَيَسْتَدْرِكُ سَالِفَ الْفَوَاتِ حَتَّى عَطَفَتْ عَلَى تِلْكَ الْعَبَرَاتِ رَحْمَةُ الرَّاحِمِ الْخَفِيِّ، فَاحْذَرْ مِنَ الأَفْعَالِ الْخِبَاثِ فَإِنَّهَا سَبَبُ الالْتِيَاثِ، وَتَعَلَّقْ بالمستغاث ينقذك من جهل العلماء فَإِنَّهُ سَرِيعُ الْفَرَجِ، إِذَا اشْتَدَّ الأَمْرُ ضِيقًا فُرِجَ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرج} رِفْقًا بِالضَّعِيفِ وَالْقَوِيِّ. مَنْ لاذَ بِجَنَابِهِ مَرِيضًا صَلَحَ، مَنْ عَاذَ بِبَابِهِ سَائِلا فَتَحَ، سُبْحَانَهُ لقد جَادَ وَسَمَحَ وَحَتَّى عَلَى الْفَاجِرِ الشَّقِيِّ، ذَلَّ لِجَلالِهِ مَنْ شَمَخَ، وَقَلَّ لِكَمَالِهِ مَنْ بَذَخَ، وَخَرَجَ اللَّيْلُ بِقُدْرَتِهِ وَانْسَلَخَ عَنِ النَّهَارِ النَّقِيِّ، تَفَرَّدَ بِالإِنْعَامِ وَالْجُودِ، وَأَذَلَّ الأَعْنَاقَ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَتَنَزَّهَ عَنْ مُشَابَهَةِ كُلِّ مَوْجُودٍ بِالْوُجُودِ الأَزَلِيِّ، سَعِدَ مَنْ بِطَاعَتِهِ يَلُوذُ، وَنَجَا مَنْ بِحَرِيمِهِ يَعُوذُ، وَأَمْرُهُ فِي خَلْقِهِ نُفُوذٌ، فَمَا حِيلَةُ المرمى، بعلم خَفِيَّ الْخَافِي مِنَ السِّرِّ، وَيَسْمَعُ أَنِينَ الْمُضْطَرِّ فِي الضُّرِّ، وَيَرَى دَبِيبَ الذَّرِّ فِي الْبَرِّ تَحْتَ أَخْفَافِ الْمَطِيِّ، لا يَعْزُبُ عَنْ سَمْعِهِ خَفِيُّ الرِّكْزِ، وَلا يُمْنَعُ أَمْرَهُ حَصِينُ الْحِرْزِ، تَعَالَى أَنْ يُشَابِهَ الْمَخْلُوقَ فِي الْعَجْزِ بِالْعِزِّ الأَبَدِيِّ، يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ وَالْكَلامِ وَالسَّمْعِ وَالنَّفْسِ، وَجَلَّتْ صفاته عن وهم الْحَدْسِ إِنَّمَا هُوَ

وَحْيٌ أَنْزَلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ، يَرْزُقُ النَّمْلَ فِي الرَّمْلِ وَالْفَرْخَ فِي الْعُشِّ، وَيَبْعَثُ الْمُزْنَ بِالْوَبْلِ وَالْوَدَقِ وَالطَّشِّ، خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، لا كَاسْتِوَاءِ الْبَشَرِيِّ. يُحَاسِبُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِصَاصِ، وَيَسْأَلُ عَنْ خَفِيِّ الرِّيَاءِ وَدَقِيقِ الإِخْلاصِ، وَيَتَجَلَّى فِي الْجَنَّةِ لأَهْلِ الْخَلاصِ فَيَلْحَقُهُ الرَّائِي وَيَا عِزَّةَ الْمَرْئِيِّ، بِيَدِهِ مُلْكُ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَإِذَا أَجْمَعَ الْخَلائِقَ لِيَوْمِ الْعَرْضِ، حَارَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، وَانْقَضَتْ مَشِيدَاتُ الْمَبْنِيِّ. مَوْصُوفٌ بِالرِّضَا وَيُحْذَرُ مِنْهُ السَّخَطُ، مَعْرُوفٌ بِالْكَرَمِ فَإِيَّاكَ وَالْقَنَطَ، شَرَطَ عَلَيْكُمُ التَّقْوَى فَقُمْ بِالَّذِي شَرَطَ، فَإِنَّهُ لا يَنْسَى أَجْرَ التَّقِيِّ. لا يَخْفَى عَلَيْهِ خَائِنَةُ اللَّحْظِ، وَلا يَحْتَجِبُ عَنْ سَمْعِهِ خَفِيُّ اللَّفْظِ، وَقَدْ نَزْجُرُكَ عَنِ الْخَطَايَا بِأَبْلَغِ الْوَعْظِ، وَنَنْهَاكَ بِالْعَقْلِيِّ وَالْحِسِّيِّ، تَنَزَّهَ عَنِ الْعُنْصُرِ وَالْمِزَاجِ وَالطَّبْعِ، وَتَقَدَّسَ عَنِ الْجَوَارِحِ وَإِنْ وُصِفَ بِالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ، وَلا تُعْرَفُ صِفَاتُهُ إِلا بِالنَّقْلِ وَالسَّمْعِ، لا بِرَأْيِ الْبِدَعِيِّ. قَضَى بِالْقَضَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْخَلْقِ وَفَرَغَ، وَأَنْزَلَ الْقُرْآنَ وَالزَّمَنُ النَّزْرُ قَدْ فَرَغَ، لِيُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَهُوَ الْمَكْتُوبُ الْمَسْمُوعُ الْمَعْرُوفُ، الْمَحْفُوظُ الْمَتْلُوُّ الْمَأْلُوفُ، وَالْمُتَكَلَّمُ بِهِ بِالْكَلامِ مَوْصُوفٌ، تَنَزَّهَ عَنِ الْجِرْسِ وَالْعِيِّ. مَسْطُورٌ فِي الصَّحَائِفِ وَالأَوْرَاقِ، مُنَزَّلٌ مِنَ الْمَلِيكِ الْخَلاقِ، أَنْزَلَهُ مِنْ فَوْقِ السَّبْعِ الطِّبَاقِ عَلَى الرَّسُولِ الأُمِّيِّ، كِتَابٌ مُعَظَّمٌ مُبَارَكٌ لا يُدَانِي فِي لَفْظِهِ، وَلا يُشَارِكُ بِكَشْفِ نُورِهِ، كُلَّمَا تَدَارَكَ عَنْ بَصَرِ الْبَصِيرَةِ عَمِيَ الْعُمْيُ، نَزَلَ بَِأَمْرِ الْمَلِكِ الْجَلِيلِ عَلَى النَّبِيِّ النَّبِيهِ النَّبِيلِ، وَسُهِّلَتْ تلاوته أي تسهيل حَتَّى عَلَى الصَّبِيِّ، بِهِ فَاقَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى الأُمَمِ، وَبِهِ نُشِرَ لِهَذَا الْعَالَمِ الْعِلْمُ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ هَطَلَتْ عَلَى الْقُلُوبِ دِيَمٌ فَاهْتَزَّتْ وَرَبَتْ بِالرِّيِّ، فَرُكِّبَ فِيهَا أَغْرَاسُ الإِيمَانِ، وَأَوْرَقَتْ أَغْصَانُ الإِيقَانِ، وَانْحَلَّتْ مَعُوصَاتُ الإِشْكَالِ بِالْبَيَانِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى فَهْمِ الأَعْجَمِيِّ.

مَنَعَ حَافِظِيهِ اللَّعِبَ وَاللَّهْوَ، وَدَفَعَ عَنْ مُتَدَبِّرِيهِ الْبَطَالَةَ وَالسَّهْوَ، فَمَنِ اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ فِي الْعَيْشِ الرَّضِيِّ، إِنَّهُ لأَجْلِ مَا تَحَرَّكَتْ بِهِ الأَفْوَاهُ؛ كَيْفَ لا وَالْمُتَكَلِّمُ بِهِ هُوَ اللَّهُ، يَكُونُ مَخْلُوقًا وَقَدِ اتَّصَفَ بِهِ الإِلَهُ، وَيْلٌ لِلْمُعْتَزِلِيِّ. لا يَخْلُقُ عَنْ كَثْرَةِ التِّكْرَارِ وَلا يَبْلَى؛ لا يَقْدِرُ الْخَلْقُ عَلَى مِثْلِهِ حَاشَا وَكَلا، تَعْرِفُ الْمَلائِكَةُ كُلَّ بَيْتٍ فِيهِ يُتْلَى كَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ. فَاسْلُكْ فِي اعْتِقَادِكَ طَرِيقَ السَّلَفِ الْمَرْضِيِّ، وَخُذْ بِمُلازَمَةِ السُّنَنِ بِالسَّنَنِ السَّوِيِّ، هَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِ وَعَقْدِ الْحَنْبَلِيِّ. أَحْمَدُهُ عَلَى الْفَهْمِ الْقَوِيِّ، وَأَسْتَعِيذُهُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ الْغَوِيِّ، وَأَشْهَدُ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ شَهَادَةً زَادَ صَفَاؤُهَا عَلَى الْوَصْفِ الْعُرْفِيّ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اسْتَخْرَجَهُ مِنَ الْعُنْصُرِ الزَّكِيِّ فَبَشَّرَ بِوِلادَتِهِ انْشِقَاقُ الإِيوَانِ الْكِسْرَوِيِّ، وَجَمَّلَهُ بِنُورِ الْهَيْئَةِ قَبْلَ الزِّيِّ، وَنَصَرَهُ بِالرُّعْبِ قَبْلَ الْمَشْرَفِيِّ، وَأَرْسَلَهُ بِالدَّلِيلِ الْجَلِيِّ وَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَزَهَّدَهُ فِي مُجَالَسَةِ الْغَنِيِّ الْغَبِيِّ، وَرَغَّبَهُ فِي صُحْبَةِ الْفَقِيرِ مِنَ الدُّنْيَا الْخَلِيِّ، وَعَاتَبَهُ فِي صُهَيْبٍ الرُّومِيّ وَبِلالٍ الْحَبَشِيِّ وَالْفَقِيرِ الضَّعِيفِ الْقَصِيِّ {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ربهم بالغداة والعشي} . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيِّ الْهَاشِمِيِّ الْمَكِّيِّ الزَّمْزَمَيِّ الأَبْطَحِيِّ الْمَدَنِيِّ التِّهَامِيِّ، وَعَلَى صَاحِبِهِ الْمَخْصُوصِ بفضيلة " ثاني اثنين " وَهُوَ فِي الْقَبْرِ مُضَاجِعُهُ كَهَاتَيْنِ، كَيْفَ لا وَقَدْ كَانَا رَفِيقَيْنِ فِي الزَّمَانِ الْجَاهِلِيِّ، وَعَلَى الَّذِي كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَفْرُقُ مِنْ ظِلِّهِ وَتَتَفَرَّقُ هَيْبَةً مِنْ أَجْلِهِ، إِذَا سَمِعُوا خَفْقَ نَعْلِهِ هَرَبُوا مِنَ الأَحْوَذِيِّ وَعَلَى مُصَابِرِ الْبَلاءِ مِنْ أَيْدِي الأَعْدَاءِ الَّذِي يَسْتَحِي مِنْهُ مَلائِكَةُ السَّمَاءِ. سَلامُ اللَّهِ عَلَى ذَاكَ الْحَيِيِّ، وَعَلِيٍّ الَّذِي ملىء عِلْمًا وَخَوْفًا، وَعَاهَدَ عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا فَأَوْفَى، وَنَحْنُ وَاللَّهِ نُحِبُّهُ أَوْفَى مِنْ حُبِّ الرَّافِضِيِّ، وَعَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَأَتْبَاعِهِ عَلَى مِنْهَاجِهِ مَا قَامَ مُكَلَّفٌ بِالْفَرْضِ الرَّسْمِيِّ، وَاسْتَقَامَ نَبْتٌ فِي الأَرْضِ بِالْوَسْمِيِّ. وَسَلَّمَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ معه أشداء على الكفار} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ. وَقَوْلُهُ {والذين معه} يعني أصحابه {أشداء} وَهُوَ جَمْعُ شَدِيدٍ. وَالرُّحَمَاءُ جَمْعُ رَحِيمٍ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُغْلِظُونَ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَتَوَادُّونَ بَيْنَهُمْ {تَرَاهُمْ ركعا سجدا} يَصِفُ كَثْرَةَ صَلاتِهِمْ {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ} وهو الجنة {ورضوانا} وهو رضا الله عنهم. {سيماهم} أي علامتهم {في وجوههم} وَهَلْ هَذِهِ الْعَلامَةُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الآخِرَةِ؟ فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا السَّمْتُ الْحَسَنُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْخُشُوعُ وَالْوَقَارُ وَالتَّوَاضُعُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَدَى الطَّهُورِ وَثَرَى الأَرْضِ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لأَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَابِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ السُّهُومُ وَهُوَ اصْفِرَارُ الْوَجْهِ مِنْ أَثَرِ السَّهَرِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا فِي الآخِرَةِ. ثُمَّ فِيهَا قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَوْضِعَ السُّجُودِ مِنْ وُجُوهِهِمْ يَكُونُ أَشَدَّ وُجُوهِهِمْ بَيَاضًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَهُ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلاتُهُمْ تَبْدُو فِي وُجُوهِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذلك مثلهم في التوراة} أَيْ صِفَتُهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ صِفَةَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ فِي التَّوْرَاةِ هَكَذَا.

فأما قوله: {ومثلهم في الإنجيل} فَفِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ الْمَذْكُورَ أَنَّهُ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ هُوَ مَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، فَأَمَّا مَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ فَهُوَ كَزَرْعٍ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَثَلَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ. ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدمشقي. قوله تعالى {أخرج شطأه} أَيْ فَرَاخَهُ. يُقَالُ قَدْ أَشْطَأَ الزَّرْعُ فَهُوَ مشطىء إذا أفرخ " {فآزره} " أي ساواه وصار مثل الأم " {فاستغلظ} " أي غلظ {فاستوى على سوقه} وَهُوَ جَمْعُ سَاقٍ. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ خَرَجَ وَحْدَهُ فَأَيَّدَهُ بِأَصْحَابِهِ، كَمَا قَوَّى الطَّاقَةَ مِنَ الزَّرْعِ بِمَا نَبَتَ مِنْهَا حَتَّى كَثُرَتْ وَغَلُظَتْ وَاسْتَحْكَمَتْ. وَفِيمَنْ أُرِيدَ بِهَذَا الْمَثَلِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَصْلَ الزَّرْعِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْحَرِيرِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ ابن شَمْعُونَ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بن محمد، حدثنا أبو الْعَبَّاسُ عِيسَى بْنُ إِسْحَاقَ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ طُلَيْبٍ الْهَاشِمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عن داود ابن أَبِي هِنْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {شَطْأَهُ} قَالَ: أَصْلُ الزَّرْعِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، أَخْرَجَ شَطْأَهُ: أَخْرَجَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {فَآزَرَهُ} " بأبي بكر {فاستغلظ} بعمر {فاستوى} ) بعثمان {على سوقه} عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّرْعِ مُحَمَّدٌ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّازُ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بن محمد ابن عُبَيْدٍ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيُّ، حدثنا

إسحاق بن إبراهيم؛ حدثنا علي ابن إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابن عباس: {كزرع} قال: الزرع محمد. {أخرج شطأه} أبو بكر {فآزره} بعمر {فاستغلظ} بعثمان {فاستوى على سوقه} بعلي " يعجب الزراع} قال: المؤمنون {ليغيظ بهم الكفار} قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ لأَهْلِ مَكَّةَ: لا يُعْبَدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ يَوْمِنَا هَذَا سِرًّا. قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: مَنْ أَصْبَحَ وَفِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآيَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ فَضَائِلَ الصَّحَابَةِ عَلَى جَمِيعِ صَحَابَةِ الأَنْبِيَاءِ ظَاهِرَةٌ وَكَانَ لِسَبْقِهِمْ سَبَبَانِ: أَحَدُهُمَا: خُلُوصُ الْبَوَاطِنِ مِنَ الشَّكِّ بِقُوَّةِ الْيَقِينِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثِيرِ صَوْمٍ وَلا صَلاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ ". وَالثَّانِي: بَذْلُ النُّفُوسِ لِلْمُجَاهَدَةِ وَالاجْتِهَادِ. وَقَدْ عُلِمَ مَا جَرَى لِمُوسَى مَعَ أَصْحَابِهِ وَعُلِمَ صَبْرُ صَحَابَتِنَا. وَلَمَّا اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ الْمِقْدَادُ: وَاللَّهِ لَوْ ضَرَبْتَ بُطُونَهَا حَتَّى تَبْلُغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَتَابَعْنَاكَ، وَلا نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ موسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا} . وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ أُحُدٍ يَقُولُ: نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ. وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ زَوْجُ امْرَأَةٍ وَأَبُوهَا وَابْنُهَا وَأَخُوهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لا أُبَالِي إِذْ سَلِمْتَ مِنْ عَطَبٍ! قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ

الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ، أَبَرَّهَا قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ عز وجل لصحبة نَبِيِّهِ وَنَقْلِ دِينِهِ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِجَّةَ الْوَدَاعِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَشَهِدَ مَعَهُ تَبُوكَ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَقُبِضَ عَنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الصَّحَابَةِ، مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ وَسَمِعَ مِنْهُ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَيَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ، قَالا أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُسْلِمَةِ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ الْمَدِينِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا، فَجَعَلَ لِي مِنْهُمْ وُزَرَاءَ وَأَنْصَارًا، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبُلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلا ". تَفَرَّدَ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، وَكَانَ ثِقَةً. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ ". أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِيمَا يُذْكَرُ مِنَ اجْتِهَادِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَغَشِينَا دَارًا مِنْ دُورِ الْمُشْرِكِينَ فَأَصَبْنَا امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا وَجَاءَ صَاحِبُهَا وَكَانَ غَائِبًا فَذُكِرَ لَهُ مُصَابُهَا فَحَلَفَ لا يَرْجِعُ حَتَّى يُهْرِيقَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم دما.

الكلام على البسملة

فَلَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنَزَلَ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ وَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالا: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ فَخَرَجَا إِلَى فَمِ الشِّعْبِ دُونَ الْعَسْكَرِ. ثُمَّ قَالَ الأَنْصَارِيُّ لِلْمُهَاجِرِيِّ: أَتَكْفِينِي آخِرَهُ وَأَكْفِيكَ أَوَّلَهُ؟ قَالَ فَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: بَلِ اكْفِنِي أَوَّلَهُ وَأَكْفِيكَ آخِرَهُ. فَنَامَ الْمُهَاجِرِيُّ وَقَامَ الأَنْصَارِيُّ فَافْتَتَحَ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، فَبَيْنَا هو فيها يقرأها جَاءَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَ قَائِمًا عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةُ الْقَوْمِ، فَنَزَعَ لَهُ السَّهْمَ فَيَضَعُهُ فِيهِ. قَالَ: فَيَنْزِعُهُ فَيَضَعُهُ وَهُوَ قَائِمٌ يَقْرَأُ فِي السُّورَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَلَمْ يَتَحَرَّكْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَقْطَعَهَا، قَالَ: ثُمَّ عَادَ لَهُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ الثَّالِثَةَ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ قَالَ لِصَاحِبِهِ: اقْعُدْ فَقَدْ أُثْبِتَّ. قَالَ: فَجَلَسَ الْمُهَاجِرِيُّ فَلَمَّا رَآهُمَا صَاحِبُ الْمَرْأَةِ هَرَبَ وَعَرَفَ أَنَّهُ قَدْ نُذِرَ بِهِ، وَأَنَّ الأَنْصَارِيَّ يَفُوحُ دَمًا مِنْ رَمَيَاتِ صَاحِبِ الْمَرْأَةِ قَالَ فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ! أَلا كُنْتَ آذَنْتَنِي أَوَّلَ مَا رَمَاكَ؟ قَالَ: فَقَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَدِ افْتَتَحْتُهَا أُصَلِّي فِيهَا، فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْطَعَهَا، وَايْمُ اللَّهِ لَوْلا أَنْ أُضَيِّعَ ثَغْرًا أمرني رسول الله بِحِفْظِهِ لَقُطِعَ نَفَسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا. فَسُبْحَانَ مَنْ خَصَّهُمْ بِهَذِهِ الْفَضَائِلِ وَحَرَسَهُمْ مِنَ الْقُصُورِ وَالرَّذَائِلِ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (وَعَظَتْكَ أَجْدَاثٌ صُمَّتْ ... وَنَعَتْكَ أَزْمِنَةٌ مَضَتْ) (وَتَكَلَّمَتْ عَنْ أَعْظُمٍ ... تَبْلَى وَعَنْ صُوَرٍ سُبَتْ) (وَأَرَتْكَ قَبْرَكَ فِي الْقُبُورِ ... وَأَنْتَ حَيٌّ لَمْ تَمُتْ) (وَلَرُبَّمَا انْقَلَبَ الشِّمَاتُ ... فَحَلَّ بِالْقَوْمِ الشَّمَتْ) يَا مُؤْثِرًا عَلَى الْعَرْضِ الْعَرَضَ، يَا صَحِيحًا قَدْ قَتَلَهُ الْمَرَضُ، يَا جَامِعًا لِلْمَالِ وَالْعُمْرُ قَدِ انْقَرَضَ، يَا هَدَفَ الْبَلايَا سَيُصَابُ الْغَرَضُ، يَا بَائِعًا الدِّينَ بِنَيْلِ

الْغَرَضِ، مَنْ لَكَ إِذَا ضِقْتَ عِنْدَ الْمَوْتِ بِالأَهْوَالِ ذَرْعًا، وَحَالَتْ مِنْكَ الْحُلَى وَأَجْدَبَ الْمَرْعَى، وَاجْتَثَّ الْبَلاءُ مِنْكَ أَصْلا وَفَرْعًا، سَالَتِ الأَمَاقِي إِذَا لَمْ يَنْفَعِ الرَّاقِي دَمْعًا، وَلَمْ يَسْتَطِعْ لِلأَذَى رَدًّا وَلا لِلرَّدَى دَفْعًا، وَأَخْرَسَ الْمَوْتُ مِنْكَ لِسَانًا وَأَصَمَّ سَمْعًا، وَأَضْحَى خَشِنُ التُّرَابِ بَعْدَ لِينِ الثِّيَابِ لَكَ دِرْعًا، وَأَصْبَحْتَ لَقًى بَيْنَ الْقَوْمِ فِي الثَّرَى صَرْعَى، يَا مَنْ [هو] غرض الآفات ترشقه سهامها رَشْقًا، لا بُدَّ مِمَّا وَصَفْنَا حَتْمًا وَحَقًّا، فَتَأَهَّبْ لِلْفَنَاءِ فَقَلَّ مَا تَبَقَّى، وَتَهَيَّأْ لِلْبِلَى فبعيد أن تتوقى، وأصخ لِهَاتِفِ الْعِبَرِ فَقَدْ حَادَثَتْكَ نُطْقًا، وَبَادِرِ السَّلامَةَ فيستحيل الصفور نقا، وَاحْذَرْ عَلَى نَفْسِكَ أَنْ تَخْسَرَ وَأَنْ تَشْقَى، وَاعْمَلْ لِيَوْمٍ تُرَى فِيهِ مَدَامِعُ الْخَلائِقِ لا تَرْقَا، وَهُمْ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الأَتْقَى، إِنْ أَعْطَيْتَ بَخِلْتَ بِالْمَالِ وَبَطَرْتَ، ومتى نبت ريش رياشك نبت أَرْضَ الشُّكْرِ فَطِرْتَ، كَيْفَ بِكَ يَوْمَ تُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ، مَنْ لَكَ حِينَ تَوْبِيخِ: {هَذَا ما كنزتم} : (ترمم المال وبالعرض ثلم ... ) (لا سلم الْمَالِ إِذَا الْعِرْضُ ثُلِمْ ... ) (قَدْ كُنْتَ نَادَيْتُكَ وَالأَمْرُ أُمَمْ ... ) (فَلَمْ تُطِعْنِي رُبَّ رَأْيٍ مُتَّهَمْ ... ) (سَمْعُكَ وَاعٍ وَبِعَقْلِكَ الصَّمَمْ ... ) (مَوَارِدُ الْجَهْلِ مَصَادِرُ النَّدَمْ ... ) (وَمَنْ رُمِيَ بِالْمُوقِظَاتِ لَمْ يَنَمْ ... ) قَالَ كَعْبٌ: إِذَا وُضِعَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ احْتَوَشَتْهُ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ، فَتَجِيءُ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَتَقُولُ الصَّلاةُ: إِلَيْكُمْ عَنْهُ فَلا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ أَطَالَ الْقِيَامَ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَيَأْتُونَهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَيَقُولُ الصِّيَامُ: لا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ أَطَالَ ظَمَأَهُ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي دَارِ الدُّنْيَا. فَيَأْتُونَهُ مِنْ قِبَلِ جَسَدِهِ فَيَقُولُ الْحَجُّ وَالْجِهَادُ: إِلَيْكُمْ عَنْهُ فَقَدْ أَنْصَبَ نَفْسَهُ وَأَتْعَبَ بَدَنَهُ. ويأتونه مِنْ قِبَلِ يَدَيْهِ

فَتَقُولُ الصَّدَقَةُ: كُفُّوا عَنْ صَاحِبِي فَكَمْ مِنْ صَدَقَةٍ خَرَجَتْ مِنْ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ حَتَّى وَقَعَتْ فِي يَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ هَنِيًّا طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا. وَتَأْتِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ فَتَفْرِشُهُ فِرَاشًا مِنَ الْجَنَّةِ وَدِثَارًا مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدُّ بَصَرِهِ، وَيُؤْتَى بِقِنْدِيلٍ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَسْتَضِيءُ بِنُورِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَفَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ عَلَى الْمَقَابِرِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، أَصْبَحْتُمْ نَادِمِينَ عَلَى مَا خَلَّفْتُمْ فِي الْبُيُوتِ، وَأَصْبَحْنَا نَقْتَتِلُ عَلَى ما ندمتم عليه، فما أعجبنا وأعجبكم! (يا أيها الْوَاقِفُ بِالْقُبُورِ ... بَيْنَ أُنَاسٍ غُيَّبٍ حُضُورِ) (قَدْ أُسْكِنُوا فِي خَرِبٍ مَغْمُورِ ... بَيْنَ الثَّرَى وَجَنْدَلِ الصُّخُورِ) (يَنْتَظِرُونَ صَيْحَةَ النُّشُورِ ... لا تَكُ عَنْ حَظِّكَ فِي غُرُورِ) قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ فِي اللَّيْلِ ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى قَبْرٍ ثُمَّ نِمْتُ، فَإِذَا صَاحِبُ الْقَبْرِ يَقُولُ: لَقَدْ آذَيْتَنِي مُنْذُ اللَّيْلَةِ، إِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ وَلا تَعْمَلُونَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ وَلا نَعْمَلُ وَلا نَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ، إِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ رَكَعْتَهُمَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. ثُمَّ قَالَ: جَزَى اللَّهُ أَهْلَ الدُّنْيَا عَنَّا خَيْرًا أَقْرِئْهُمْ مِنَّا السَّلامَ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا مِنْ دُعَائِهِمْ نُورٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ. كَانَ الرَّبِيعُ بْنُ أَبِي رَاشِدٍ يَخْرُجُ إِلَى الْجَبَّانِ فَيُقِيمُ طُولَ النَّهَارِ وَيَرْجِعُ مُكْتَئِبًا فَيَقُولُ لَهُ إِخْوَانُهُ وَأَهْلُهُ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ فِي الْمَقَابِرِ، نَظَرْتُ إِلَى قَوْمٍ قَدْ مُنِعُوا مَا نَحْنُ فِيهِ. (طَالَمَا صَعَّرُوا الْخُدُودَ وَهَزُّوا ... الأَرْضَ فِي يَوْمِ مَحْفِلٍ وَرُكُوبِ) (ثُمَّ أَمْسَوْا وَفْدَ الْقُبُورِ سُكَّانَ أَطْبَاقِ ... الثَّرَى تَحْتَ جَنْدَلٍ مَنْصُوبِ) (كَمْ كَرِيمٍ مِنْهُمُ يَرَى الْوَعْدَ بُخْلا ... مُسْتَقِلٍّ لِكَثْرَةِ الْمَوْهُوبِ) (رُدَّ عَنِّي غَرْبَ الْمَلامِ خَلِيلِي ... إِنَّ نَفْسِي صَارَتْ عَلَيَّ حَسِيبِي) (وَتَنَحَّيْتُ عَنْ طَرِيقِ اللاهِي ... وَالْمَلاهِي وَقُلْتُ للنفس توبي)

الكلام على قوله تعالى

الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيَّ وَفِي ابْنِ مَسْعُودٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارٍ وَالْمِقْدَادِ وَبِلالٍ، قَالَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لا نَرْضَى أَنْ نَكُونَ أَتْبَاعًا لِهَؤُلاءِ، فَاطْرُدْهُمْ عَنْكَ. فَدَخَلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أحمد الحداد، أخبرنا أبو نعيم أحمد ابن عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ غَنَّامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الأَزْدِيُّ، عَنْ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ: جَاءَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ هو وعيينة ابن حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فَوَجَدَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا مَعَ عَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَبِلالٍ وَخَبَّابٍ فِي أُنَاسٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَقَّرُوهُمْ فَخَلَوْا بِهِ فَقَالُوا: إِنَّ وُفُودَ العرب تأتيك، فنستحي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ قُعُودًا مَعَ هَذِهِ الأَعْبُدِ، فإذا جئناك فَأَقِمْهُمْ عَنَّا. قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: فَاكْتُبْ لَنَا عَلَيْكَ كِتَابًا. فَدَعَا بِالصَّحِيفَةِ وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ، إِذْ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بآياتنا} الآيَةَ. فَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّحِيفَةِ وَدَعَانَا فَأَتَيْنَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ فَدَنَوْنَا مِنْهُ حَتَّى وَضَعْنَا رُكَبَنَا عَلَى رُكْبَتِهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ مَعَنَا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قام وتركنا، فأنزل الله عز وجل: {واصبر نفسك مع الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ولا تعد عيناك عنهم}

قَالَ: فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَقْعُدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا بَلَغَنَا السَّاعَةُ الَّتِي كَانَ يَقُومُ فِيهَا قُمْنَا وَتَرَكْنَاهُ وَإِلا صَبَرَ إِذَا حَتَّى نَقُومَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {يدعون ربهم} الْمُرَادُ بِهَذَا الدُّعَاءِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الصَّلاةُ الْمَكْتُوبَةُ. قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَهُ النَّخَعِيُّ. وَالثَّالِثُ: عِبَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَالرَّابِعُ: تَعَلُّمُ الْقُرْآنِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً. قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ. وَالْخَامِسُ: دُعَاءُ اللَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالإِخْلاصِ وَعِبَادَتُهُ. قاله الزجاج. قوله تعالى: {يريدون وجهه} أي يريدونه بِأَعْمَالِهِمْ. كَانُوا يَصْبِرُونَ عَلَى الْمَجَاعَةِ، وَيُخْلِصُونَ الطَّاعَةَ، وَلا يُضَيِّعُونَ سَاعَةً، فَيَا فَخْرَهُمْ إِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ. أَخْبَرَنَا السِّجْزِيُّ، أَخْبَرَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، أَنْبَأَنَا السَّرَخْسِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَبْعِينَ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: إِنْ كُنَّا لَنَفْرَحُ بِيَوْمِ الجمعة، كانت لنا عجوز تأخذ أصول السَّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ لَهَا وَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، إِذَا صَلَّيْنَا زُرْنَاهَا فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقُ الْحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ.

لله در أقوام أخصلوا الأَعْمَالَ وَحَقَّقُوهَا، وَقَيَّدُوا شَهَوَاتِهِمْ بِالْخَوْفِ وَأَوْثَقُوهَا، وَسَابَقُوا السَّاعَاتِ بِالطَّاعَاتِ فَسَبَقُوهَا، وَخَلَّصُوا أَعْمَالَهُمْ مِنْ أَشْرَاكِ الرياء وأطلقوها، وقهروا بالرياضة أغراض النُّفُوسِ الرَّدِيَّةِ فَمَحَقُوهَا، فَعَنْ إِبْعَادِ مِثْلِهِمْ وَقَعَ نَهْيُ النَّبِيِّ {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي} . صعدت صحائفهم من الأكدار ضافية، وَارْتَفَعَتْ أَعْمَالُهُمْ بِالإِخْلاصِ ضَافِيَةً، وَأَصْبَحَتْ نُفُوسُهُمْ عَنِ الدُّنْيَا مُتَجَافِيَةً، وَالنَّاسُ فِي أَخْلاطِ وَالْقَوْمُ فِي عَافِيَةٍ، فَفَاقَ الْمَوْلَى مِنْهُمْ عَلَى الرَّئِيسِ الْقُرَشِيِّ {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} . دُمُوعُهُمْ بِالأَحْدَاقِ مُحَدِّقَةٌ، وَرُءُوسُهُمْ فِي الأَسْحَارِ مُطْرِقَةٌ، وَأَكُفُّهُمْ بِمَا تَسْكُبُهُ فِي الْخَيْرِ مُنْفِقَةٌ، وَنُفُوسُهُمْ بَعْدَ الْجِدِّ مِنَ اللَّوْمِ مُشْفِقَةٌ، يَرِدُونَ مِنْ حِيَاضِ الْمُصَافَاةِ عَلَى أَوْفَى الرِّيِّ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي} . خَلَّصُوا الأَعْمَالَ مِنَ الأَكْدَارِ نَفْلا وَفَرْضًا، وَاجْتَهَدُوا فِي طَاعَةِ مَوْلاهُمْ لِيَرْضَى، وَحَضُّوا أَنْفُسَهُمْ لِطَلَبِ الْحَظِّ الأَحَظِّ حَضًّا، وَغَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَنْ غَضِّ الشَّهَوَاتِ غَضًّا، فَإِذَا أَبْصَرْتَهُمْ رَأَيْتَ أَجْسَادًا مَرْضَى وَعُيُونًا قَدْ أَلِفَتِ السَّهَرَ فَمَا تَكَادُ تَطْعَمُ غَمْضًا، بَادَرُوا أَعْمَارَهُمْ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهَا سَاعَاتٍ تَتَقَضَّى، فَأَمَدَّهُمْ بِالْعَوْنِ السَّرْمَدِيِّ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} . ابتلاهم فرضوا وصبروا، وأنعم عليهم فاعترفوا وشكروا، وجاءوا بكل ما يرضى ثم اعتذروا، وجاهدوا العدو فما انقشعت الحرب حتى ظفروا، فنالوا غاية الإمكان في المكان العلي {يدعون ربهم بالغداة والعشي} . (للَّهِ دَرُّ أُنَاسٍ أَخْلَصُوا الْعَمَلا ... عَلَى الْيَقِينِ ودانو بِالَّذِي أُمِرُوا) (أَوْلاهُمْ نِعَمًا فَازْدَادَ شُكْرُهُمُ ... ثُمَّ ابْتَلاهُمْ فَأَرْضَوْهَ بِمَا صَبَرُوا) (وَفَّّوْا لَهُ ثُمَّ وَافَوْهُ بِمَا عَمِلُوا ... إِذًا سَيُوفِيهِمْ يَوْمًا إِذَا نُشِرُوا) قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: يَا سَعْدُ أَلا تَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِذَا لَقِيتُ الْعَدُوَّ غَدًا فَلَقِّنِي

رَجُلا شَدِيدًا بَأْسُهُ أُقَاتِلُهُ فِيكَ وَيُقَاتِلُنِي ثُمَّ يَأْخُذُنِي فَيُجَدِّعُ أَنْفِي وَأُذُنِي، فَإِذَا لَقِيتُكَ غَدًا قُلْتَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَنْ جَدَّعَ أَنْفَكَ وَأُذُنَكَ؟ فَأَقُولُ: فِيكَ وَفِي رَسُولِكَ. فَتَقُولُ: صَدَقْتَ. قَالَ سَعْدٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ آخِرَ النَّهَارِ وَإِنَّ أَنْفَهُ وَأُذُنَهُ لَمُعَلَّقَتَانِ فِي خَيْطٍ. وَأَقْبَلَ مُصْعَبُ ابن عُمَيْرٍ يَوْمًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ قِطْعَةٌ مِنْ نَمِرَةٍ قَدْ وَصَلَهَا بِإِهَابٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ رَأَيْتُ هَذَا وَمَا بِمَكَّةَ فَتًى أَنْعَمَ عِنْدَ أَبَوَيْهِ مِنْهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ ذَلِكَ الرَّغْبَةُ فِي حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ كَانَ مَعَهُ لِوَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، فَضَرَبَهُ ابْنُ قَمِئَةَ فَقَطَعَ يَدَهُ، وَمُصْعَبٌ يقول: " وما محمد إلا رسول " فَأَخَذَ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَحَنَى عَلَيْهِ فَضَرَبَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَقَطَعَهَا، فَحَنَى عَلَى اللِّوَاءِ وَهُوَ يقول: " وما محمد إلا رسول " فَقُتِلَ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إِلا نَمِرَةً كَانُوا إِذَا وَضَعُوهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا وَضَعُوهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَجَعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الإِذْخِرِ. وَلَمَّا تَهَيَّأَ النَّاسُ لِلْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ وَدَفَعَ عَنْكُمْ. فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: (لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا) (أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مجهزة ... بحربة تنفذ الأجشاء وَالْكَبِدَا) (حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ... أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالا أَنْبَأَنَا رِزْقُ اللَّهِ وَطِرَادٌ، قَالا حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا الحكم بن عبد السلام، أن جعفر ابن أَبِي طَالِبٍ حِينَ قُتِلَ دَعَا النَّاسَ: يَا عبد

اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ. وَهُوَ فِي جَانِبِ الْعَسْكَرِ ومعه ضلع جمل ينهشه، وَلَمْ يَكُنْ ذَاقَ طَعَامًا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاثٍ. فَرَمَى بِالضِّلْعِ ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتَ مَعَ الدُّنْيَا! ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ فَأُصِيبَ أُصْبُعُهُ فَارْتَجَزَ: (هَلْ أَنْتَ إِلا إِصْبَعٌ دُمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ) (يَا نَفْسُ إِلا تَقْتُلِي تَمُوتِي ... هَذَا حِيَاضُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيتِ) (وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ لَقِيتِ ... إِنْ تَفْعِلي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ) (وَإِنْ تَأَخَّرْتِ فَقَدْ شَقِيتِ ... ) ثُمَّ قَالَ يَا نَفْسُ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ تَتُوقِينَ؟ إِلَى فُلانَةَ؟ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلاثًا. وَإِلَى فُلانٍ وَفُلانٍ، غِلْمَانٍ لَهُ، [فَهُمْ أَحْرَارٌ] وَإِلَى مِعْجَفٍ حَائِطٍ لَهُ، فَهُوَ لله ولرسوله: (يا نفس مالك تَكْرِهَينَ الْجَنَّةْ ... طَائِعَةً أَوْ لَتُكْرَهَنَّهْ) (قَدْ طَالَ مَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّةْ ... هَلْ أَنْتِ إِلا نُطْفَةٌ فِي شَنَّةْ) (قَدْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرنة ... ) لله در أقوام تعبوا فأريحوا، وزهدوا فأبيحوا، جليت أبصارهم فشاهدوا، وأعطوا سلاح المعونة فجاهدوا، وتأملوا الدنيا وسبروها، وعرفوا حالها وخبروها، فصدت نفوسهم، ما صدها ما كانت تعبد وأقبلت على قبلة الاعتذار في مناجاة " ظلمت نفسي " فضربت بالدنيا وجه عشاقها، وشمرت في سوق الجد عن ساقها، ونقضت لتصحيح عملها مخدع الخديعة، ونفضت يد أملها من سراب بقيعة، فحدت ركائب سيرها في إدلاج سراها، وزادها نشاطا حادي الهمة لما حداها، فسبقت إلى الخلال الكرائم ووصلت إلى الإفضال وأنت نائم. (قالت المكرمات لست لمختار ... ولكن لصامد لي صمدا) (ويكد الجثمان والروح والجاه ... طويلا ولا يرى الكد كدا)

يا هذا لو صحت منك العزيمة أوقعت في جيش الهوى هزيمة، إن في البدن مضغة إذا صلحت صلح البدن وإذا فسدت فسد البدن ألا وهي القلب، يا هذا متى حصل الفساد في رأي الملك تشتت الأعوان، ومتى رمي القذر في فوهة النهر أثر في المشارع. (وإذا كان في الأنابيب خلف ... وقع الطيش في رؤوس الصغار) يا هذا إن أردت لقاءنا في حضرة القدس، واشتاق سمعك إلى نغمات الأنس، فصم عن لذات النفس وشهوات الحس، واصبر على قطع مفاوز الحسن واستأنس ببثك في بيت الوجد، وقض نهار المنى بمحادثة الفكر، واقطع أمل الهوى بقهر العزم، واقرع فضول الكلام بسوط الصمت، وأقم على طرف طرفك حاجب الغض، وانبذ إلى كلب الشهوات كسر الصبر، وفرغ دار عزلتك من شواغل القلب، فإذا سمعت ضجيج محبوس النفس يستغيث من سجن الزهد لشدة الحصر فصح [به] : يا صاح صبراً على ضيق الحبس، لعلك تخرج إلى رياض {اجعلني على خزائن الأرض} . (وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ دَهْرِي كُلِّهَا ... وَيَوْمُ لقاكم ذاك فطر صيامي)

المجلس الرابع والثلاثون في فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم

المجلس الرابع والثلاثون في فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم الحمد لله خالق الجامد والحساس، ومبدع الأنواع والأجناس، القوي في سلطانه الشديد الباس، المنزه عن السنة والنعاس، المخرج رطب الثمار من يابس الأغراس، نفذ قضاؤه فلم يمتنع بأحراس، وقهر عزه كل صعب المراس لا يعزب عن سمعه حركات الأضراس، ولا دبيب ذر بالليل، في مطاوي قرطاس، نفذت مشيئته فكم مجتهد عاد بالياس، يفعل ما يريد لا بمقتضى تدبير الخلق والقياس، قدم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عن كل نبي دبر وساس، فسبحان من أجزل له العطا، وجعله خير نبي حارب وسطا، وقال لأمته: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} . أحمده حمدا يدوم بدوام اللحظات والأنفاس، وأصلي على رسوله محمد الذي شرعه مستقر ثابت الأساس، وعلى صاحبه أبي بكر الثابت العزم وقد ارتد الناس، وعلى عمر قاهر الجبابرة الأشواس، وعلى عثمان الصابر يوم الشهادة على مرير الكاس، وعلى علي أهدى الجماعة إلى نص أو قياس، وعلى عمه وصنو أبيه العباس. قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} الكاف في قوله: {كذلك} كاف التشبيه، فالكلام معطوف على قوله تعالى: {ولقد اصطفيناه في الدنيا} والتقدير: فكما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم: كذلك

جعلناكم أمة وسطا أي عدولا خيارا. ومثله: {قال أوسطهم} أي خيرهم وأعدلهم. (هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم) وأصل هذا أن خير الأشياء أوساطها وأن الغلو والتقصير مذمومان. {لتكونوا شهداء على الناس} وفيه قولان: أحدهما لتكونوا شهداء يوم القيامة للأنبياء على أممهم بأنهم قد بلغوا. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَخْبَرَنَا أحمد بن جعفر، حدثنا عبد الله ابن أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُدْعَى نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيُقَالُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} . قَالَ: الْوَسَطُ: الْعَدْلُ. قَالَ: فَتُدْعَوْنَ فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلاغِ. قَالَ {ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ} . قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلانِ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: لا. فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَيُدْعَى مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيُقَالُ: وَمَا عِلْمُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جَاءَنَا نَبِيُّنَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّ الرُّسَلَ قَدْ بَلَّغُوا. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} قَالَ: يَقُولُ: عَدْلا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويكون الرسول عليكم شهيدا} .

الْقَوْلُ الثَّانِي: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ لِمُحَمَّدٍ عَلَى الأُمَمِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا فُضِّلَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ فُضِّلَتْ أُمَّتُنَا عَلَى سَائِرِ الأُمَمِ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَالْيَوْمُ لَنَا وَلِلْيَهُودِ غَدًا وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ ". قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ فَقَالَ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قُلْنَا نَعَمْ. قَالَ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لا يَدْخُلُهَا إِلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلا كَالشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ أَوِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَحْمَرَ ". قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ أَلا فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ أَلا فَعَمِلَتِ النَّصَارَى. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ أَلا فَأَنْتُمُ الَّذِينَ عَمِلْتُمْ. فَغَضِبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: نَحْنُ كُنَّا أَكْثَرُ عَمَلا وَأَقَلُّ عَطَاءً. قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لا. قَالَ: إِنَّمَا هُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أشاء ".

وَاعْلَمْ أَنَّ فَضِيلَةَ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِ الْحَقِّ لَهَا وَتَقْدِيمِهِ إِيَّاهَا إِلا أَنَّهُ جَعَلَ لِذَلِكَ سَبَبًا، كَمَا جَعَلَ سَبَبَ سُجُودِ الْمَلائِكَةِ لآدَمَ عِلْمَهُ بِمَا جَهِلُوا، فَكَذَلِكَ جَعَلَ لِتَقْدِيمِ هَذِهِ الأُمَّةِ سَبَبًا هُوَ الْفِطْنَةُ وَالْفَهْمُ وَالْيَقِينُ وَتَسْلِيمُ النُّفُوسِ. واعتبر حَالَهُمْ بِمَنْ قَبْلَهُمْ: فَإِنَّ قَوْمَ مُوسَى رَأَوْا قُدْرَةَ الْخَالِقِ فِي شَقِّ الْبَحْرِ ثُمَّ قَالُوا: {اجعل لنا إلها} . ثُمَّ مَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ. وعرضت لهم غزاة فقالوا: {اذهب أنت وربك فقاتلا} وَلَمْ يَقْبَلُوا التَّوْرَاةَ حَتَّى نُتِقَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلُ. وَلَمَّا اخْتَارَ سَبْعِينَ مِنْهُمْ فَوَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مَا أَوْجَبَ تَزَلْزُلَ الْجَبَلِ بِهِمْ. وَلِهَذَا لَمَّا صَعِدَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حِرَاءٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ تَزَلْزَلَ الْجَبَلُ فَقَالَ: " اسْكُنْ فَمَا عَلَيْكَ إِلا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ ". فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ مَنْ يَشُكُّ كَقَوْمِ مُوسَى. وَمَنْ تَأَمَّلَ حَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَآهُمْ قَدْ أُمِرُوا بقول " حطة " فقالوا: " حنطة " وقيل لهم: {ادخلوا الباب سجدا} فَدَخَلُوا زَحْفًا. وَقَالُوا عَنْ نَبِيِّهِمْ: هُوَ آدَرُ. وَمِنْ مَذْهَبِهِمُ التَّشْبِيهُ وَالتَّجْسِيمُ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ التَّغْفِيلِ، لأَنَّ الْجِسْمَ مُؤَلَّفٌ، وَلا بُدَّ لِلْمُؤَلَّفِ مِنْ مُؤَلِّفٍ. وَمِنْ غَفْلَةِ النَّصَارَى: اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَوْهَرٌ وَالْجَوْهَرُ يَتَمَاثَلُ، وَلا مَثَلَ لِلْخَالِقِ. ثُمَّ يَقُولُونَ: عِيسَى ابْنُهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الابْنَ بَعْضٌ، وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ لا يَتَجَزَّأُ فَلا يَتَبَعَّضُ. ثُمَّ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ عِيسَى لا يَقُومُ إِلا بِالطَّعَامِ، وَالإِلَهُ مَنْ قَامَتْ بِهِ الأَشْيَاءُ لا مَنْ قَامَ بِهَا. وَقَدْ عُرِفَ يَقِينُ أُمَّتِنَا وَبَذْلُهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي الْحُرُوبِ وَطَاعَةُ الرَّسُولِ، وَحِفْظُهُمْ لِلْقُرْآنِ، وَأُولَئِكَ كَانُوا لا يَحْفَظُونَ كِتَابَهُمْ، فَلِهَذَا فُضِّلُوا.

الكلام على البسملة

فَهُمْ أَوَّلُ أُمَّةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: " أَهْلُ الْجَنَّةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا، أُمَّتِي مِنْهُمْ ثَمَانُونَ صَفًّا ". أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا عبد الله ابن أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَلا إِنَّكُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ". فَالْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَعْطَانَا بِجُودِهِ وَفَضْلِهِ مَا لَسْنَا مِنْ أَهْلِهِ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (لِلنَّقْصِ مِنْ أعمارنا ما يكمل ... والدهر يوئسنا وَنَحْنُ نُؤَمِّلُ) (تَمْشِي الْمَنُونُ رُوَيْدَهَا لِتَغُرَّنَا ... أَبَدًا فَتُدْرِكَنَا وَنَحْنُ نُهَرْوِلُ) (يَا مُعْجَبًا بِالْعَيْشِ طَالَ بَقَاؤُهُ ... بَطَرًا بَقَاؤُكَ فِي الْمَنِيَّةِ أَطْوَلُ) (عَنْ جَانِبَيْ دُنْيَاكَ فَارْغَبْ إِنَّهُ ... أَوْدَى الْحَرِيصُ وَمَا نَجَا الْمُتَوَكِّلُ) (وَإِذَا الْجُفُونُ تَخَلَّصَتْ مِنْ ... مُجْمَلِ الشُّبُهَاتِ خَلَّصَ نَفْسَهُ مَنْ يَعْقِلُ) (دُنْيَا تُسِرُّ بِمَا يُضَرُّ بِمِثْلِهِ ... وَاسْمٌ لَهَا شَهْدٌ وَمَعْنًى حَنْظَلُ) يَا هَذَا: الدُّنْيَا دَارُ الْمِحَنِ وَدَائِرَةُ الْفِتَنِ، سَاكِنُهَا بِلا وَطَنٍ وَاللَّبِيبُ قَدْ فَطِنَ، أَيْنَ مَنْ مَالَ إِلَى حُبِّ الْمَالِ بِالآمَالِ وَصَبَا، وَأَصْبَحَ بَيْنَ غُبُوقِهِ وَصُبُوحِهِ لا يَعْرِفُ وَصَبًا، وَتَقَلَّبَ بِجَهْلِهِ فِي رَوْضَتَيْ هَوًى وَصِبًا، وَأَضْحَى عَلَمُ شَهَوَاتِهِ عَلَى قِبَابِ عِزِّهِ مُنْتَصِبًا، وَظَلَّ رَبِيعُ رَبْعِهِ بِوُفُورِ جَمْعِهِ خِصْبًا، وَكُلَّمَا دُعِيَ إِلَى نَفْعِهِ فِي عَاقِبَتِهِ أَبَى، أَمَا شَارَكَ بِمَصْرَعِهِ الْفَاجِعِ لَهُ أُمًّا وَأَبًا، أَمَا صَارَ إِذْ رَحَلَ نَبَا، أَتُرَاهُ تَزَوَّدَ لِمَذْهَبِهِ إِذْ أُذْهِبَ ذَهَبًا، لَقَدْ لَقِيَ وَاللَّهِ إِذْ نَصَبَ الْمَوْتُ شَرَكَهُ نَصَبًا، أَيْنَ مَنْ رَضِيَ ظِلالَ الْبَطَالَةِ بِضَلالِهِ رَبْعًا وَفِنَا، أَمَا أَدْرَكَهُ التَّلَفُ فِي أَسْوَإِ حَالِهِ ثِيَابًا وَفَنَا، لَقَدْ غادره جفاؤه لما يَنْفَعْهُ جَفَا، لا يَجِدُ لِمَرَضِهِ إِذْ تَمَكَّنَ مِنْ جُمْلَتِهِ شِفَا، أَيْنَ مَنْ كَانَ مَجْلِسُهُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الصُّدُورِ، أَيْنَ مَنْ كَانَتْ همته

نِضَارَ الْقُصُورِ، أَمَا اسْتَلَبَهُ الْمَوْتُ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالْقُصُورِ، أَيْنَ مَنْ كَانَتْ تَقْوَى بِسِقَائِهِ الظُّهُورُ، أَمَا عَدِمَ الظَّهِيرَ عِنْدَ الْمَوْتِ حِينَ الظُّهُورِ، حَامَ الْحِمَامُ حَوْلَ حِمَاهُ فَلَمْ يَنْفَعْهُ الْحِمَى، وَرَامَ رَامِيهِ مَرَامِيَهُ فَرَمَاهُ إِذْ رَمَى، وَصَاحَتْ بِهِ هَاتِفَاتُ الْفِرَاقِ بِمِلْءِ فِيهَا، وَلَفَظَتْهُ الْمَنَازِلُ كأن لم يكن فيها، كأن لم تَعَلَّقَ رَاحَتَهُ بِرَاحَةِ الْهَوَى إِذْ زَلَّ قَدَمُهُ فِي التَّلَفِ وَهَوَى، وَكَأَنَّهُ مَا عَزَمَ عَلَى غَرَضٍ وَلا نَوَى إِذْ جَذَبَتْهُ بِأَيْدِيهَا النَّوَى، وَكَأَنَّهُ مَا تَحَرَّكَ مِنْ مُرَادٍ وَلا الْتَوَى حِينَ أَدْرَكَهُ سُكُونُ التَّلَفِ وَالْتَوى، انْبَتَّ وَاللَّهِ حَبْلُ بَقَائِهِ بِأَقْطَعِ الْمُدَى، وَانْتَثَرَ مَنْظُومُ حَيَاتِهِ وَانْقَطَعَ الْمَدَى، فَأُخْرِجَ عَنِ الإِنْسِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْجِنْسِ، وَكَفَّ كَفُّهُ فِي الرَّمْسِ بَعْدَ تَصَرُّفِ الْخَمْسِ، وَأَصْبَحَتْ مَنَازِلُهُ إِذْ لَمْ يُصْبِحْ بِهَا وَلَمْ يُمْسِ كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ. (أخي إنما الدنيا محلة تغصة ... وَدَارُ غُرُورٍ آذَنَتْ بِفِرَاقِ) (تَزَوَّدْ أَخِي مِنْ قَبْلِ أَنْ تَسْكُنَ الثَّرَى ... وَيَلْتَفَّ سَاقٌ لِلْمَمَاتِ بِسَاقِ) مَا أَقْرَبَ مَا هُوَ آتٍ، مَا أَبْعَدَ مَا قَدْ فَاتَ، مَا أَغْفَلَ الأَحْيَاءَ عَمَّا حَلَّ بِالأَمْوَاتِ. (يَا غَافِلِينَ عَنِ الْفَنَا ... لَيْسَ الْفَنَا عَنْكُمْ بِغَافِلِ) أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمُدِيرُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْمَأْمُونِ، أَخْبَرَنَا الدَّارَقُطْنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بريد، عن أبي بردة، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنِي وَأَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ. فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا وَانْطَلَقُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

الكلام على قوله تعالى

وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلا نَدِمَ قَالُوا: فَمَا نَدَمُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ نَزَعَ ". يَا مَنْ لا يَسْمَعُ قَوْلَ نَاصِحٍ، أَمَا هَذَا الشَّيْبُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ، لِمَنْ نُحَدِّثُ وَالْقَلْبُ غَائِبٌ، لَيْتَنَا نَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهُ فَنُكَاتِبُ، قُلْنَا لَهُ: بياض الشيب قد فضحك فَضَحِكَ، يَجْمَعُ التَّقْصِيرَ إِلَى التَّفْرِيطِ وَيَضُمُّ، وَيَنْوِي فِعْلَ الذُّنُوبِ فَيَعْزِمُ وَيَهِمُّ، وَيْحَكَ تَأَمَّلْ هِلالَ الْهُدَى فَمَا خَفِيَ وَلا غَمَّ، وَاسْمَعْ وَاعِظَ الْعِبَرِ فَقَدْ زَعْزَعَ الْجِبَالَ الشُّمَّ، وَأَيْقِظْ قَلْبَكَ الْغَافِلَ وَهَيْهَاتَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ، وَعُمْ فِي بحر حزنك على ذنوب تعم، فلقد بَالَغْنَا فِي زَجْرِكَ يَا مَنْ بِالزَّجْرِ قَدْ أُمَّ، فَإِذَا رَضِيتَ أَنْ تَكُونَ لِنَفْسِكَ مُبِيرًا فَلَحَى اللَّهُ ظِئْرًا أَشْفَقَ مِنَ الأُمِّ. الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس} فِي {كُنْتُمْ} قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَاضِي. ثُمَّ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: كَانَ وَصْفُكُمْ فِي الْبِشَارَةِ بِكُمْ قَبْلَ وُجُودِكُمْ: أَنَّكُمْ خَيْرُ النَّاسِ. قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالثَّانِي: كُنْتُمْ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُهُ. قَالَهُ ابْنُ مِقْسَمٍ. وَالثَّالِثُ: كُنْتُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَدْ كُتِبْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. وَالرَّابِعُ: كُنْتُمْ مُذْ كُنْتُمْ. وَالْمَعْنَى: مَا زِلْتُمْ. قَالَهُ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ. وَالْخَامِسُ: وُجِدْتُمْ وَخُلِقْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى {كُنْتُمْ} : أَنْتُمْ. مِثْلُ قوله تعالى: {وكان الله غفورا رحيما} قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَقَدْ يَأْتِي الْفِعْلُ عَلَى بِنْيَةِ الْمَاضِي وَهُوَ ذَاهِبٌ أَوْ مُسْتَقْبَلٌ كَقَوْلِهِ: {كُنْتُمْ} ) وَمَعْنَاهُ أَنْتُمْ وَمِثْلُهُ {إِذْ قال الله} أَيْ وَإِذْ يَقُولُ. وَمِثْلُهُ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) {ومثله} (من كان في المهد) {ومثله} (فسقناه إلى بلد ميت} أَيْ فَنَسُوقُهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فِي قَوْلِهِ {كنتم خير أمة أخرجت للناس} : يَجِيئُونَ بِهِمْ وَالأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ فَيَدْخُلُونَ فِي الإِسْلامِ. قَالَ عَطِيَّةُ: يَشْهَدُونَ لِلأَنْبِيَاءِ بِالتَّبْلِيغِ. اعْلَمْ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ تَشْمَلُ أُمَّتَنَا أَوَّلَهَا وَآخِرَهَا وَإِنْ كَانَ لِلأَوَّلِ فَضْلُ السَّبْقِ. أَخْبَرَنَا الْكَرُوخِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ عَامِرٍ الأَزْدِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْغُورَجِيُّ، قَالا أَنْبَأَنَا الْجَرَّاحِيُّ، حَدَّثَنَا الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ} . فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُوجِبُ تَرَدُّدًا فِي تَفْضِيلِ الصَّحَابَةِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ أَرَادَ تَقْرِيبَ آخِرِ الأُمَّةِ إِلَى أَوَّلِهَا فِي الْفَضْلِ، كَمَا تَقُولُ: لا أَدْرِي: أَوَجْهُ هذا الثواب خَيْرٌ أَمْ مُؤَخَّرُهُ؟ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ وَجْهَهُ أَفْضَلُ، لَكِنَّكَ تُرِيدُ تَقْرِيبَ مُؤَخَّرِهِ مِنْ وَجْهِهِ فِي الْجَوْدِ. ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. فَأَمَّا فَضْلُ الصَّحَابَةِ فَلا يُشَكُّ فِيهِ إِذْ لَهُمْ صَبْرٌ عَلَى الْحَقِّ لا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ. كَانَ بِلالٌ يُعَذَّبُ فِي الرَّمْضَاءِ وَيَقُولُونَ لَهُ قُلِ: اللاتِ وَالْعُزَّى. وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وَكَانَ عَمُّ الزُّبَيْرِ يُعَلِّقُ الزُّبَيْرَ وَيُدَخِّنُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ وَيَقُولُ: ارْجِعْ إِلَى الْكُفْرِ فَيَقُولُ: لا أَرْجِعُ.

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الحسن علي بن محمد بن الْخَطِيبُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ صَفْوَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ، أَخْبَرَنَا علي ابن الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الشِّمْرِ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أَرَاكَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلاةَ الْفَجْرِ فَلَمَّا سَلَّمَ انْفَتَلَ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ مَكَثَ كَأَنَّ عَلَيْهِ كَآبَةً، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ عَلَى حَائِطِ الْمَسْجِدِ قِيدَ رُمْحٍ قَلَّبَ يَدَهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَرَى الْيَوْمَ أَحَدًا يُشْبِهُهُمْ، لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثًا غُبْرًا بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ أَمْثَالُ رُكَبِ الْمِعْزَى، قَدْ بَاتُوا للَّهِ سُجَّدًا وَقِيَامًا يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَأَقْدَامِهِمْ، فَإِذَا أَصْبَحُوا فَذَكَرُوا اللَّهَ مَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ فِي يَوْمِ الرِّيحِ وَهَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ ثِيَابَهُمْ، وَاللَّهِ لَكَأَنَّ الْقَوْمَ بَاتُوا غَافِلِينَ. ثُمَّ نَهَضَ فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مفترا يَضْحَكُ، حَتَّى ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجِمٍ. وَلَقَدْ جَاءَ مِنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ سَادَاتُ بَرَزُوا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيُّ قَدْ عَلَّقَ فِي مَسْجِدِهِ سَوْطًا يُعَذِّبُ بِهِ نَفْسَهُ كُلَّمَا فَتَرَتْ وَيَقُولُ: أَتَظُنُّ الصَّحَابَةَ أن يستأثروا بمحمد دوننا؟ والله لأزاحمنهم عَلَيْهِ زِحَامًا حَتَّى يَعْلُمُوا أَنَّهُمْ قَدْ خَلَّفُوا رجالا. وكان عامر بن عبد قَيْسٍ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ. وَكَانَ كَهْمَسُ يَخْتِمُ فِي الشَّهْرِ تِسْعِينَ خَتْمَةً. وَصَلَّى سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ غَايَةً فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَغَلَبَهُ الْخَوْفُ فَصَارَ يَبُولُ الدَّمَ، فَحُمِلَ مَاؤُهُ إِلَى الطَّبِيبِ فَقَالَ: هَذَا لا يُشْبِهُ مَاءَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا مَاءُ الرُّهْبَانِ، هَذَا رَجُلٌ فَتَّتَ الْحُزْنُ كَبِدَهُ. وَحُمِلَ مَاءُ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ إِلَى الطَّبِيبِ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: هَذَا بَوْلُ عَاشِقٍ. قَالَ حَامِلُهُ: فَصُعِقْتُ وَغُشِيَ عَلَيَّ. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى سَرِيٍّ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ

مَا أَبْصَرَهُ. (إِذَا أَنَا وَاجَهْتُ الصَّبَا عَادَ بردها ... من حر أنفاسي عليه لهيب) (وقد أكثرت في الأطباء قولهم ... ومالي إِلا أَنْ أَرَاكَ طَبِيبُ) (يُسَالِمُ قَلْبِي الْهَمَّ فَهْوَ حَلِيفُهُ ... وَبَيْنَ جُفُونِي وَالرُّقَادُ حُرُوبُ) كَانَ أبو عبيدة الخواص يقول: واشوقاه إلى من يراني ولا أراه. وكان ولهان الْمَجْنُونُ يَقُولُ: عَدِمْتُ قَلْبًا يُحِبُّ غَيْرَكَ، وَثَكِلْتُ خواطر أنت بِسِوَاكَ. وَقِيلَ لِبَعْضِ عُقَلاءِ الْمَجَانِينِ: لِمَ سُمِّيتَ مَجْنُونًا؟ فَقَالَ: لَمَّا طَالَ حَبْسِي عَنْهُ فِي الدُّنْيَا سُمِّيتُ مَجْنُونًا لِخَوْفِ فِرَاقِهِ. (قَلْبِي يُحِبُّكَ مَا يَفِيقُ ... وَجَفْنُ عَيْنِي مَا يَنَامُ) (قَدْ طَالَ فِيكَ اللَّيْلُ حَتَّى ... مَا يُقَالُ لَهُ انْصِرَامُ) (وَالنَّجْمُ فِيهِ رَاكِدٌ ... وَالْفَجْرُ يَمْنَعُهُ الظَّلامُ) (لَيْلٌ بِغَيْرِ نِهَايَةٍ ... وَلِكُلِّ مِفْتَاحٍ خِتَامُ) (فِي وَصْلِكَ الْعَيْشُ الْهَنِيُّ ... وَهَجْرُكَ الْمَوْتُ الزُّؤَامُ) قَالَ الشِّبْلِيُّ: جُزْتُ بِرَاهِبٍ فَقُلْتُ: لِمَنْ تَعْبُدُ؟ فَقَالَ: لعِيسَى، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لأَنَّهُ بَقِيَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لا يَأْكُلُ. فَقُلْتُ: فَعُدَّهَا عَلَيَّ. فَأَقَمْتُ تَحْتَ صَوْمَعَتِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ آكُلْ فَأَسْلَمَ. أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْمَرٍ الأَنْصَارِيُّ، أَنْبَأَنَا مَحْفُوظُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، قَالَ: قَالَ لَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ غَالِبٍ الْحِيرِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ أَحْمَدَ بْنَ الْمُبَارَكِ الْبَزَّازَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَمِّيَ محمد ابن أَحْمَدَ يَقُولُ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَامِعِ الْخَلِيفَةِ وَإِلَى جَانِبِهِ رَجُلٌ مُكْتَهِلٌ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ: هو عيسى بن مَرْيَمَ وَهُوَ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي الرُّهْبَانُ؟ أَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي الأَحْبَارُ؟ أَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ؟ فَدَخَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ سَمْعُونٍ فَقَالَ لَهُ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي أُمَّتِكَ مِثْلُ هَذَا: فَسَكَتَ. فَانْتَبَهْتُ. كَانَتْ قُلُوبُهُمْ بِالْحَقِّ مُتَعَلِّقَةً، وَأَنْوَارُهُمْ عَلَى الظَّوَاهِرِ مُتَأَلِّقَةً، كُلَّمَا هَدَلَتْ حَمَائِمُ نَوْحِهِمْ هَطَلَتْ غَمَائِمُ شَجْوِهِمْ، دُمُوعُهُمْ فِي الدُّجَى ذَوَارِفُ لِمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَخَاوِفِ، يَغْسِلُونَ بِالْبُكَاءِ ذُنُوبَ الصَّحَائِفِ، خَوْفُهُمْ شَدِيدٌ وَمَا فِيهِمْ مُخَالِفٌ، إِذَا جَنَّ اللَّيْلُ فَالْقَدَمُ وَاقِفٌ، يَحِنُّونَ إِلَى الْحَبِيبِ حَنِينَ شَارِفٍ، الدَّمْعُ مُسَاعِدٌ وَالْحُزْنُ مُسَاعِفٌ، يَفْزَعُونَ إِلَى التَّذَكُّرِ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ، أَحْوَالُهُمْ عُجَابٌ وَأُمُورُهُمْ طَرَائِفُ، كَمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِ مُوسَى؟ انْقَدُوا يَا صَيَارِفُ. (أُولَئِكَ قَوْمٌ إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبِنَا ... وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا) (وَإِنْ كَانَتِ النَّعْمَاءُ فِيهِمْ جُزُوا بِهَا ... وَإِنْ أَنْعَمُوا لا كَدَّرُوهَا وَلا كَدُّوا) (وَحَدَّثْتَنِي يَا سَعْدُ عَنْهُمْ فَزِدْتَنِي ... جُنُونًا فَزِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ يَا سَعْدُ) عَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ يَفْنَى فَعَبَرُوهَا وَمَا عَمَرُوهَا لِلسُّكْنَى، وَاشْتَغَلُوا بِدَارٍ كُلَّمَا نُقِضَتْ هَذِهِ تُبْنَى، طَرَقَ الْوَعْظُ أَسْمَاعَهُمْ فَتَلَمَّحُوا الْمَعْنَى، يَأْخُذُونَ أُهْبَةَ الرَّحِيلِ وَلا يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى، لا كِبْرَ عِنْدَهُمْ تَرَاهُمْ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَالزَّمْنَى، لَوْ تَأَمَّلْتَهُمْ رَأَيْتَ ضُلُوعًا عَلَى الْمَحَبَّةِ تُحْنَى، حَلَفَ صَادِقُهُمْ عَلَى هَجْرِ الْهَوَى فَلا وَاللَّهِ مَا اسْتَثْنَى، وَأَقْبَلُوا عَلَى قَدَمِ الْفَقْرِ فَلَمَّا رَآهُمْ أَغْنَى، ذَكَرُوا الْجَنَّةَ فَاشْتَاقُوا وَلا شَوْقَ قَيْسٍ إِلَى لُبْنَى. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اشْتَاقَتِ الْجَنَّةُ إِلَى عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَسَلْمَانَ ". (إِلَى الزُّهَّادِ فِي الدُّنْيَا ... جِنَانُ الْخُلْدِ تَشْتَاقُ) (عَبِيدٌ مِنْ خَطَايَاهُمْ ... إِلَى الرَّحْمَنِ أُبَّاقُ) (حَدَتْهُمْ نَحْوَهُ الرَّغْبَةُ ... وَالرَّهْبَةُ فَاشْتَاقُوا) (وَرَاقَتْ لَهُمُ الدُّنْيَا ... وَعَاقَتْهُمْ فَمَا انْعَاقُوا) (عَلَيْهِمْ حِينَ تَلْقَاهُمْ ... سُكَيْنَاتٌ وَإِطْرَاقُ) (يَضِجُّونَ إِلَى اللَّهِ ... وَدَمْعُ الْعَيْنِ مُهْرَاقُ) (تَوَهَّمُهُمْ وَقَدْ مَالَتْ ... بِسُكْرِ الْقَوْمِ أَحْدَاقُ)

(وَقَدْ قَامُوا فَلا يَهْجَعُ ... مَنْ قَدْ ذَاقَ مَا ذَاقُوا) قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: هَجَمْنَا مَرَّةً عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْعُبَّادِ فِي بَعْضِ السَّوَاحِلِ فَتَفَرَّقُوا حِينَ رَأَوْنَا فَارْتَقَيْنَا عَلَى تِلْكَ الْجَزِيرَةِ وَبِتْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَمَا كُنَّا نَسْمَعُ عَامَّةَ اللَّيْلِ إِلا الصُّرَاخَ وَالنُّفُورَ مِنَ النَّارِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا طَلَبْنَاهُمْ وَتَبِعْنَا آثَارَهُمْ فَلَمْ نر أحداً! نَفِذَتْ أَبْصَارُ بَصَائِرِهِمْ بِنُورِ الْغَيْبِ إِلَى مُشَاهَدَةِ مَوْصُوفِ الْوَعْدِ، تَعَلَّقَتْ أَكُفُّ الآمَالِ بِمَا عَايَنَتْ نَوَاظِرُ الْقُلُوبِ، فَأَخْمَصُوا الْبُطُونَ وَغَضُّوا الْجُفُونَ، وَأَهْمَلُوا الدُّمُوعَ عَلَى تَمَلْمُلِ مَلْسُوعٍ، لَوْ رَأَيْتَهُمْ مِنْ خَوْفِ الْبَيْنِ عَلَى أَرْجَاءِ الرَّجَا، الدُّمُوعُ كَالسَّيْلِ وَاللَّيْلُ قَدْ دَجَا، ذَكَرُوا ظُلْمَ النُّفُوسِ وَالظَّلامُ قَدْ سَجَا، فَمَالَ الْقَلْبُ إِلَى الْيَأْسِ بِفَتْوَى الْحِجَا، فَهَبَّ عَلَيْهِمْ نَسِيمُ الظَّنِّ فَرَجًا فَرَجًا. (وَقَفْنَا فَمِنْ بَاكٍ أَجَابَتْ دُمُوعُهُ ... وَمُعْتَصِمٍ بِالصَّبْرِ لم يملك الصبرا) (ومن سائر أَجْفَانَهُ بِيَمِينِهِ ... وَمُلْقٍ عَلَى أَحْشَائِهِ يَدَهُ الْيُسْرَى) (وَمِنْ طَائِشٍ لَمْ يُسْعِدِ الدَّمْعُ وَجْدَهُ ... وَشَرُّ البكا ما استنفد الأدمع العزرا) (وقد ملقت خوص الركاب لبيننا ... فلم تستطن ضَعْفًا لِشَارِدِهَا زَجْرَا) قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: لَقِيتُ غُلامًا فِي طَرِيقِ مَكَّةَ يَمْشِي وَحْدَهُ فَقُلْتُ لَهُ: مَا مَعَكَ مُؤْنِسٌ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي؟ قُلْتُ: أَمَا مَعَكَ زَادٌ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: الإِخْلاصُ وَالتَّوْحِيدُ وَالإِيمَانُ وَالتَّوَكُّلُ. قُلْتُ: هَلْ لَكَ في مرافقتي؟ فقال: الرفيق يشغل على اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلا أُحِبُّ أَنْ أُرَافِقَ مَنْ يَشْغَلُنِي عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. قُلْتُ أَمَا تَسْتَوْحِشُ فِي هَذِهِ الْبَرِّيَّةِ؟ قَالَ: إِنَّ الأُنْسَ بِاللَّهِ قَطَعَ عَنِّي كُلَّ وَحْشَةٍ، فَلَوْ كُنْتُ بَيْنَ السِّبَاعِ مَا خِفْتُهَا. قُلْتُ: أَلَكَ حَاجَةٌ؛ قَالَ: نَعَمْ إِذَا رَأَيْتَنِي فَلا تُكَلِّمْنِي فَقُلْتُ: ادْعُ لِي. قَالَ: حَجَبَ اللَّهُ طَرْفَكَ عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ وَأَلْهَمَ قَلْبَكَ الْفِكْرَ فِيمَا يُرْضِيهِ. قُلْتُ: حَبِيبِي أَيْنَ أَلْقَاكَ؟ قَالَ: أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِلِقَائِي، وَأَمَّا الآخِرَةَ فإنها تجمع الْمُتَّقِينَ فَإِنْ طَلَبْتَنِي هُنَاكَ فَاطْلُبْنِي فِي زُمْرَةِ النَّاظِرِينَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قُلْتُ: وَكَيْفَ عَلِمْتَ؟ قَالَ: بِغَضِّ طَرْفِي لَهُ

سجع

عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ وَاجْتِنَابِي فِيهِ كُلَّ مُنْكَرٍ وَمَأْثَمٍ، وَقَدْ سَأَلْتُهُ أَنْ يَجْعَلَ جَنَّتِي النَّظَرَ إِلَيْهِ. ثُمَّ صَاحَ وَأَقْبَلَ يَسْعَى حَتَّى غَابَ عَنْ بَصَرِي: (وَمَا تَلُومُ جِسْمِي عَنْ لِقَائِكُمُ ... إِلا وَقَلْبِي إِلَيْكُمْ شَيِّقٌ عَجِلُ) (وَكَيْفَ يَقْعُدُ مشتاق يحركه ... إليكم الحافزان الشواق والأمل) (فإن نهضت فمالي غيركم وطر ... وإن قعدت فمالي غَيْرُكُمْ شُغُلُ) (وَكَمْ تَعْرِضُ لِيَ الأَقْوَامُ بَعْدَكُمُ ... يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى قَلْبِي فَمَا وَصَلُوا) سَجْعٌ سُبْحَانَ مَنْ قَدَّمَنَا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَسَقَانَا مِنْ مَعْرِفَتِهِ أَرْوَى كَاسٍ، وَجَعَلَ نَبِيَّنَا أَفْضَلَ نَبِيٍّ رَعَى وَسَاسَ، فَلَمَّا فَضَّلَهُ عَلَى الأُمَّةِ وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا بِعُلُوِّ الْهِمَّةِ قَالَ لَنَا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أخرجت للناس} . أَفِي الأُمَمِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَوْ عُمَرَ الَّذِي أَغَصَّ كِسْرَى بِالرِّيقِ، أَوْ عُثْمَانَ الصَّابِرِ عَلَى مُرِّ الْمَذِيقِ، أَوْ عَلِيٍّ بَحْرِ الْعِلْمِ الْغَمْرِ الْعَمِيقِ؛ أَوْ مِثْلِ حَمْزَةَ وَالْعَبَّاسِ. أَفِيهِمْ مِثْلُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ الْقَرِينَيْنِ، أَوْ سَعْدٍ وسعيد هَيْهَاتَ مِنْ أَيْنَ، أَلَهُمْ صَبْرُ خَبَّابٍ وَخُبَيْبٍ وَمَنْ مِثْلُ الاثْنَيْنِ، إِنْ شَبَّهْنَاهُمْ بِهِمْ أَبْعَدْنَا الْقِيَاسَ. هَلْ شَجَرَةُ الرِّضْوَانِ فِي أَشْجَارِهِمْ، هَلْ وَقْعَةُ بَدْرٍ مِنْ أَسْمَارِهِمْ، إِنَّمَا عَرَضَتْ لَهُمْ غَزَاةٌ فِي جَمِيعِ أَعْمَارِهِمْ، وَجَهَادْنَا مَعَ الأَنْفَاسِ {كنتم خير أمة أخرجت للناس} . أَيْنَ أَصْحَابُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا، هَيْهَاتَ مَا الْقَوْمُ مِنْ أَضْرَابِنَا، وَلا ثَوَابُهُمْ فِي الأُخْرَى مِثْلُ ثَوَابِنَا، نُتِقَ الْجَبَلُ فَقَالُوا: أَقِلْنَا وَنَحْنُ قُلْنَا فِي كِتَابِنَا عَلَى الْعَيْنَيْنِ وَالرَّأْسِ {كُنْتُمْ خير أمة أخرجت للناس} . رَدُّوا كِتَابَهُمْ وَقَدْ سُطِرَ وَصُكَّ، وَطَلَبُوا صَنَمًا وَقَيْدُ الْهَجْرِ قَدْ فُكَّ،

وشكوا عند الجبل وما فينا من يَشُكُّ، إِنَّ تَشْبِيهَ الْمِسْكِ بِاللَّكِ وَسْوَاسٌ. غَمَرَهُمُ التَّغْفِيلُ وَتَنَاهَى فَاعْتَقَدُوا لِلْخَالِقِ أَشْبَاهًا، فَقَالُوا يَوْمَ اليم {اجعل لنا إلها} وما في عقائدنا نحن الْتِبَاسٌ. آثَرَ الصَّحَابَةُ الْفَقْرَ وَالْمَجَاعَةَ، وَاشْتَغَلُوا عَنِ الدُّنْيَا بِالطَّاعَةِ، وَسَأَلَتِ النَّصَارَى مَائِدَةً لِلْمَجَاعَةِ، إِنَّمَا طَلَبُوا قُوتَ الأَضْرَاسِ. أَعِنْدَ رُهْبَانِهِمْ كَزُهْدِ أُوَيْسٍ أَفِي مُتَعَبِّدِيهِمْ كَعَامِرِ بْنِ قَيْسٍ، أَفِي خَايِفِهِمْ كَالْفُضَيْلِ، هَيْهَاتَ لَيْسَ ضَوْءُ الشَّمْسِ كَالْمِقْبَاسِ. أَفِيهِمْ مِثْلُ بِشْرٌ وَمَعْرُوفٌ، أَفِي زُهَّادِهِمْ مَذْكُورٌ مَعْرُوفٌ، أَفِي طَوَائِفِهِمْ طَائِفَةٌ صَلَّتْ وَقَدْ صَلْصَلَتِ السُّيُوفُ وَرَنَّتِ الأَقْوَاسُ. أَفِيهِمْ مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، أَوْ كَالشَّافِعِيِّ الْهَادِي إِلَى الْمَسَالِكِ، كَيْفَ لا تَمْدَحُهُ وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحْسَنَ بُنْيَانَهُ وَالأَسَاسَ. أَفِيهِمْ أَعْلَى مِنَ الْحَسَنِ وَأَنْبَلَ، أو ابن سيرين الذي بالورع تقبل، أو كَأَحْمَدَ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ وَسَبَّلَ، تَاللَّهِ مَا فيهم مثل ابن حنبل، ارفع صوتك بهذا وَلا بَاسَ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . انْتَهَى الْجُزْءُ الأَوَّلُ مِنْ كِتَابِ التَّبْصِرَةِ لِلإِمَامِ أبي الفرج عبد الرحمن ابن الْجَوْزِيِّ وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الثَّانِي وَأَوَّلُهُ: " الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ ".

بسم الله الرحمن الرحيم المجلس الأول

بسم الله الرحمن الرحيم المجلس الأول فِي ذِكْرِ عَاشُورَاءَ وَالْمُحَرَّمِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي طهر بتأديبه من أَهْلِ تَقْرِيبِهِ نُفُوسًا، وَسَقَى أَرْبَابَ مُصَافَاتِهِ مِنْ شراب مناجاته كؤوساً، وَدَفَعَ كَيْدَ الشَّيْطَانِ عَنْ قُلُوبِ أَهْلِ الإِيمَانِ فَأَصْبَحَ عَنْهَا مَحْبُوسًا، وَصَرَفَ عَنْ أَهْلِ وِدَادِهِ بِلُطْفِهِ وَإِسْعَادِهِ أَذًى وَبُوسًا، وَأَذَلَّ بِقَهْرِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ أَعْنَاقًا وَرُءُوسًا، وَأَعَادَ ذِكْرَ الأَصْنَامِ بِعِزِّ التَّوْحِيدِ وَالإِسْلامِ مَطْمُوسًا، وَجَعَلَ عَدَدَ السِّنِينَ بِجَرَيَانِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِلْحَاسِبِينَ مَحْرُوسًا، وَكَرَّمَ عَشْرَ الْمُحَرَّمِ وَكَلَّمَ فِي عَاشُورَاءَ مِنْهُ نَبِيَّهُ مُوسَى. أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمٍ لا تُحْصَى عَدَدًا وَمَا أَقْضِي بِالْحَمْدِ حَقًّا، وَأَشْكُرُهُ وَلَمْ يَزَلْ لِلشُّكْرِ مُسْتَحِقًّا، وَأَشْهَدُ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِلرِّقَابِ كُلِّهَا رِقًّا، كَوَّنَ الأَشْيَاءَ وَأَحْكَمَهَا خَلْقًا، وَفَتَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَكَانَتَا رَتْقًا، وَقَسَّمَ الْعِبَادَ فَأَسْعَدَ وَأَشْقَى {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السماء رزقا} . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَشْرَفُ الْخَلائِقِ خَلْقًا وَخُلُقًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صاحبه أبي بكر الصِّدِّيقِ الَّذِي حَازَ كُلَّ الْفَضَائِلِ سَبْقًا وَيَكْفِيهِ: {وسيجنبها الأتقى} وَعَلَى عُمَرَ الْعَادِلِ فَمَا يُحَابِي خَلْقًا، وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي اسْتَسْلَمَ لِلشَّهَادَةِ

فَمَا يَتَوَقَّى، وَعَلَى عَلِيٍّ بَائِعِ مَا يَفْنَى وَمُشْتَرِي مَا يَبْقَى، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ صِنْوِ أَبِيهِ حَقًّا. اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِخْوَانِي أَنَّ شَهْرَ الْمُحَرَّمِ شَهْرٌ شَرِيفُ الْقَدْرِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُحَرَّمَ لأَنَّ الْقِتَالَ كَانَ يَحْرُمُ فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {والفجر وليال عشر} أَنَّهَا الْعَشْرُ الأَوَائِلُ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَقَالَ قَتَادَةُ: أراد بالفجر الفجر أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كَيْسَانَ، أَنْبَأَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عن حميد ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ ". أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عبيد الله ابن أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي خَيْثَمَةُ، حَدَّثَنِي أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان ابن سَعْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِشَهْرٍ أَصُومُهُ بَعْدَ رَمَضَانَ فَقَالَ: " إِنْ كُنْتَ صَائِمًا شَهْرًا بَعْدَ رَمَضَانَ فَصُمِ الْمُحَرَّمَ فَإِنَّهُ شَهْرُ اللَّهِ، وَفِيهِ يَوْمٌ تَابَ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ وَيُتَابُ فِيهِ عَلَى آخَرِينَ ". وَقَدْ رَوَى ابْنُ شَاهِينَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ صَامَ يَوْمًا مِنَ الْمُحَرَّمِ فَلَهُ ثَلاثُونَ يَوْمًا ". وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ صَامَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرٍ حَرَامٍ الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةَ تِسْعِ مائة سنة ".

وَرُوِيَتْ أَحَادِيثُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لا تَثْبُتُ فَلِهَذَا تَرَكْنَاهَا. وَيُسْتَحَبُّ صِيَامُ التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ، أَمَّا التَّاسِعُ فَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ هُوَ عَاشُورَاءَ قَالَ الأَزْهَرِيُّ: كَأَنَّهُ تَأَوَّلَ فِيهِ عِشْرَ الْوِرْدِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: وَرَدَتِ الإِبِلُ عَشْرًا إِذَا وَرَدَتْ يَوْمَ التَّاسِعِ. وَأَمَّا يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ وَيَقُولُونَ: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ " فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذَّنَ فِي النَّاسِ: مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ: يَعْنِي بَقِيَّةَ يَوْمِهِ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ علي بن محمد ابن كَيْسَانَ، أَنْبَأَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عبيد الله ابن أَبِي يَزِيدَ، قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: " مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ يَوْمًا يَتَحَرَّى فَضْلَهُ عَلَى الأَيَّامِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ: يَعْنِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَهَذَا الشَّهْرَ، يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ ". قَالَ يُوسُفُ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ غَيْلانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " صَوْمُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ الْعَامَ الَّذِي قَبْلَهُ ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. وَقَدْ رُوِيَ فِي فَضَائِلِ عَاشُورَاءَ أَحَادِيثَ مَوْضُوعَةً فَلا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهَا، مثل: من اغتسل ومن اكتحل وَمَنْ صَافَحَ. وَكُلُّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: صَامَ نُوحٌ وَمَنْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ قَالَ ابْنُ شَاهِينَ: وَمِمَّنْ

الكلام على البسملة

بَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُصَيْنِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٌ. وَفِي الْجُمْلَةِ هُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ فِيهِ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْخَيْرِ. [فَهُوَ وَأَمْثَالُهُ مَوَاسِمُ الْخَيْرَاتِ فَاغْتَنَمُوهَا وَاحْذَرُوا الْغَفَلاتِ] . الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (خُلِقْنَا لأَحْدَاثِ اللَّيَالِي فَرَائِسَا ... تَزُفُّ إِلَى الأَجْدَاثِ مِنَّا عَرَائِسَا) (تُجَهِّزُ مِنَّا لِلْقُبُورِ عَسَاكِرًا ... وَتُرْدِفُ أَعْوَادَ الْمَنَايَا فَوَارِسَا) (إِذَا أَمَلٌ أَرْخَى لَنَا مِنْ عِنَانِهِ ... غَدًا أَجْلٌ عَمَّا نُحَاوِلُ حَابِسَا) (أَرَى الْغُصْنَ لَمَّا اجْتُثَّ وَهُوَ بِمَائِهِ ... رطيباً وما أَصَبْحَ الْغُصْنُ يَابِسَا) (نَشِيدُ قُصُورًا لِلْخُلُودِ سَفَاهَةً ... وَنَصْبِرُ مَا شِئْنَا فُتُورًا دَوَارِسَا) (وَقَدْ نَعَتِ الدُّنْيَا إِلَيْنَا نُفُوسَنَا ... بِمَنْ مَاتَ مِنَّا لَوْ أَصَابَتْ أَكَايِسَا) (لَقَدْ ضَرَبَتْ كِسْرَى الْمُلُوكَ وَتُبَّعًا ... وَقَيْصَرَ أَمْثَالا فَلَمْ نَرَ قَائِسَا) (نَرَى مَا نَرَى مِنْهَا جِهَارًا وَقَدْ غَدَا ... هَوَاهَا عَلَى نُورِ الْبَصِيرَةِ طَامِسَا) (وَقَدْ فَضَحَ الدُّنْيَا لَنَا الْمَوْتُ وَاعِظًا ... وَهَيْهَاتَ مَا نَزْدَادُ إِلا تَقَاعُسَا) غَيْرُهُ: (أَبَدًا تُفْهِمُنَا الْخُطُوبُ كُرُورَهَا ... وَنَعُودُ فِي عَمَهٍ كَمَنْ لا يَفْهَمُ) (تَلْفَى مَسَامِعُنَا الْعِظَاتِ كَأَنَّمَا ... فِي الظِّلِّ يَرْقُمُ وَعْظَهُ مَنْ يَرْقُمُ) (وَصَحَائِفُ الأَيَّامِ نَحْنُ سُطُورُهَا ... يَقْرَا الأَخِيرُ وَيُدْرِجُ الْمُتَقَدِّمُ) (لَحْدٌ عَلَى لَحْدٍ يُهَالُ ضَرِيحُهُ ... وَبِأَعْظُمٍ رِمَمٍ عَلَيْهَا أَعْظُمُ) (مَنْ ذَا تَوَقَّاهُ الْمَنُونُ وَقَبْلَنَا ... عَادٌ أَطَاحَهُمُ الْحِمَامُ وَجُرْهُمُ) (وَالتُّبَّعَانِ تَلاحَقَا وَمُحَرّقٌ ... وَالْمُنْذِرَانِ وَمَالِكٌ وَمُتَمَّمُ) كَأَنَّكَ بِمَا يُزْعِجُ وَيَرُوعُ، وَقَدْ قُلِعَ الأُصُولُ وَقُطِعَ الْفُرُوعُ، يَا نَائِمًا إِلَى كَمْ هَذَا الْهُجُوعُ، إِلَى مَتَى بِالْهَوَى هَذَا الْوُلُوعُ، أَيَنْفَعُكَ وَقْتَ الْمَوْتِ الدُّمُوعُ، كَمْ لَكَ إِلَى

التُّقَى عِنْدَ النَّزْعِ نُزُوعُ، هَيْهَاتَ لا يَنْفَعُ الذُّلُّ إِذًا وَالْخُضُوعُ، يَقُولُ فَرِّقُوا الْمَالَ فَالْعَجَبُ لجود المنوع، هذا وَمَلَكُ الْمَوْتِ يَسُلُّهَا مِنْ بَيْنِ الضُّلُوعِ، رَشَقَكَ سَهْمُ الْمَنُونِ فَمَا أَغْنَتِ الدُّرُوعُ، وَأَتَى حَاصِدُ الزَّرْعِ وَأَيْنَ الزُّرُوعُ، وَخَلَتْ مِنْكَ الْمَسَاكِنُ وَفَرَغَتِ الرُّبُوعُ، وَنَابَ غُرَابُ الْبَيْنِ عَنِ الْوَرْقَاءِ السَّجُوعِ، وَتَمَنَّيْتَ أَنْ لَوْ زِدْتَ مِنْ سُجُودٍ وَرُكُوعٍ، فَاحْذَرْ مَكْرَ الْعَدُوِّ وَلا تَقْبَلْ قَوْلَ الْخَدُوعِ. (ضَيَّعْتَ وَقْتَكَ فَانْقَضَى فِي غَفْلَةٍ ... وَطَوَيْتَ فِي طَلَبِ الْخَوَادِعِ أَدْهُرَا) (أَفَهِمْتَ عَنْ هَذَا الزَّمَانِ جوابه ... فلقد أبان لك العظات وكررا) (عانيت ما ملأ الصدرو مَخَافَةً ... وَكَفَاكَ مَا عَايَنْتَهُ مَنْ أَخْبَرَا) يَا عَجَبًا كَيْفَ أَنِسَ بِالدُّنْيَا مُفَارِقُهَا، وَأَمِنَ النَّارَ وَارِدُهَا، كَيْفَ يَغْفَلُ مَنْ لا يُغْفَلُ عَنْهُ، كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ سَنَتَهُ وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ، كَيْفَ يَلْهُو مَنْ يَقُودُهُ عُمْرُهُ إِلَى أَجَلِهِ وَحَيَاتُهُ إِلَى مَوْتِهِ. إِخْوَانِي: الدُّنْيَا فِي إِدْبَارٍ، وَأَهْلُهَا مِنْهَا فِي اسْتِكْثَارٍ، وَالزَّارِعُ فِيهَا غَيْرَ التُّقَى لا يَحْصُدُ إِلا النَّدَمَ. قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ بَيْتَانِ: بَيْتٌ شَاهِدٌ وَبَيْتٌ غَائِبٌ، فَلا يُلْهِيَنَّكَ بَيْتُكَ الْحَاضِرُ الَّذِي فِيهِ عُمْرُكَ قَلِيلٌ عَنْ بَيْتِكَ الْغَائِبِ الَّذِي عُمْرُكَ فِيهِ طَوِيلٌ. إِخْوَانِي: أَنْفَاسُ الْحَيِّ خُطَاهُ إِلَى أَجَلِهِ وَرُبَّمَا أَوْرَدَ الطَّمَعُ وَلَمْ يَصْدُرْ يَا مَنْ يَفْنَى بِبَقَائِهِ وَيَسْقَمُ بِسَلامَتِهِ وَيُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِ تَيَقَّظْ، الْجِدَّ الْجِدَّ قَبْلَ بَغَتَاتِ الْمَنَايَا وَمُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْبِلَى، لَيَحُلَّنَّ بِكُمْ مِنَ الْمَوْتِ يَوْمٌ ذُو ظُلْمٍ يُنْسِيكُمْ مُعَاشَرَةَ اللَّذَّاتِ وَالنِّعَمِ، وَلا يُبْقِي فِي الأَفْوَاهِ إِلا طَعْمَ النَّدَمِ. (سَلْ بِالزَّمَانِ خَبِيرًا ... إِنَّهُ بِهِ لَعَلِيمُ) (داعي الأمانة ظَاعِنٌ ... بِالْمَرْءِ وَهْوَ مُقِيمُ) (وَوَرَاءَ ضِيقِ حَيَاتِهِ ... نَفْسٌ وَلَيْسَ يَدُومُ)

(يَا سَادِرًا فِي غَيِّهِ ... حَتَّامَ أَنْتَ مُلِيمُ) (لا تُخْدَعَنَّ بِمَنِيَّةٍ ... أُمُّ الْخُلُودِ عَقِيمُ) (حَتَّامَ يَجْذِبُكَ الْمَشِيبُ ... بِكَفِّهِ وَتَهِيمُ) (وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَبْرَقَتْ ... فَرَجَاؤُكَ الْمَهْزُومُ) (عِشْقُ الْبَقَاءِ وَإِنَّمَا ... طُولُ الْحَيَاةِ هُمُومُ) أَيْنَ الَّذِينَ مَلَكُوا الدُّنْيَا وَنَالُوا، زَالُوا سَبَقُوكَ يَا هَذَا إِلَى مَا إِلَيْهِ آلُوا، أَيْنَ الْمَغْرُورُونَ بِالآلِ آلُوا إِلَى الشَّتَاتِ، أَيْنَ المسرورون بِالْمَالِ مَالُوا إِلَى الْكِفَاتِ، غَلَقَ رَهْنُ أَعْمَالِهِمْ، وَمَا عَلِقُوا إِلا بِالْوَبَالِ، وَصَارَتْ آصَارُهُمْ فِي مَصِيرِهِمْ كَالْجِبَالِ، فَنَدِمُوا إِذْ لا نَدَمٌ يَنْفَعُ، وَنَدَبُوا عَلَى الْمُصَابِ وَلَكِنْ بَعْدَ الْمَصْرَعِ، وَتَجَرَّعُوا كؤوس الْبَأْسِ مِنْ كُلِّ مَطْمَعٍ وَضُرِبُوا بِسُيُوفٍ مِنَ الْحَسَرَاتِ إِذْ تَهُزُّ تَقْطَعُ. (ظِلٌّ مِنَ الدُّنْيَا تَقَلَّصَ زَائِلا ... وَمُنًى يُذَاقُ عَلَى جَنَاهَا الْعَلْقَمُ) (مَا هَذِهِ الآمَالُ إِلا رَقْدَةٌ ... فِيهَا بِأَضْغَاثِ الأَمَانِي نَحْلُمُ) (وَالْكُلُّ فِي رِقِّ الْفَنَاءِ وَإِنَّمَا ... لِلنَّائِبَاتِ مُعَرَّضٌ مَنْ يَهْرَمُ) (أَبَدًا تُفَهِّمُنَا الْخُطُوبُ كُرُورَهَا ... وَنَعُودُ فِي عَمَهٍ كَمَنْ لا يَفْهَمُ) (تَلْقَى مَسَامِعُنَا الْعِظَاتِ كَأَنَّمَا ... فِي الظِّلِّ يَرْقُمُ وَعْظَهُ مَنْ يَرْقُمُ) (وَصَحَائِفُ الأَيَّامِ نَحْنُ سُطُورُهَا ... يَقْرَا الأَخِيرُ وَيُدْرِجُ الْمُتَقَدِّمُ) (لَحْدٌ عَلَى لَحْدٍ يُهَالُ ضَرِيحُهُ ... مَعَ أَعْظُمٍ رِمَمٍ عَلَيْهَا أَعْظُمُ) (مَنْ ذَا تَوَقَّاهُ الْمَنُونُ وَقَبْلَنَا ... عَادٌ أَطَاحَهُمُ الْحِمَامُ وَجُرْهُمُ) (وَالتُّبَّعَانِ تَلاحَقَا وَمُحَرّقٌ ... وَالْمُنْذِرَانِ وَمَالِكٌ وَمُتَمَّمُ) (وَمَمَالِكٌ مَنَعَتْ بِهَا أَرْبَابُهَا ... فَتَجَبَّرُوا ثِقَةً بِهَا وَتَعَظَّمُوا) (سُلِبُوا ثِيَابَ الْخُنْزُوَانَةِ عَنْوَةً ... فَهَوَوْا وَشَامِخُ عِزِّهِمْ مُتَهَدِّمُ)

الكلام على قوله تعالى

الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التي حرم الله إلا بالحق} رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ: " دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلا فَلا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلالا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ". أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ " قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَنْ يَزَالَ الْمَرْءُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ الْبُخَارِيُّ وَاتَّفَقَا عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الحسين ابن النَّقُّورِ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ الْكِنَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ بَشِيرٍ يَعْنِي ابْنَ الْمُهَاجِرِ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا ". وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اخْتَارَ هَذَا الْيَوْمَ لاسْتِشْهَادِ الْحُسَيْنِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا عبد الله ابن أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ

أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ وَأَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ فَسَأَلَهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ فَقَالَ لَهُ: ممن أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ. أَخْبَرَنَا الْكَرُوخِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَامِرٍ الأَزْدِيُّ. وَأَبُو بَكْرٍ الْغُورَجِيُّ، أَنْبَأَنَا الْجَرَّاحِيُّ، حَدَّثَنَا الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَنْبَأَنَا الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَذَانِ ابْنَايَ فَمَنْ أَحَبَّهُمَا فقد أحبني " يعني الحسن والحسين عليهما السلام. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بن أحمد بن البشرى، أخبرنا عبيد الله بن محمد ابن رَيْطَةَ إِذْنًا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: كَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُسَيْنٌ مَعِي فَبَكَى فَتَرَكْتُهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْتُهُ فَبَكَى فَأَرْسَلْتُهُ فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَتُحِبُّهُ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ سَتَقْتُلُهُ فَإِنْ شِئْتَ أَرَيْتُكَ تُرْبَةَ أَرْضِهِ الَّتِي يُقْتَلُ بِهَا. فَبَسَطَ جَنَاحَهُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي يُقْتَلُ بِهَا يُقَالُ لَهَا كَرْبَلاءُ وَأَخَذَ بِجَنَاحِهِ فَأَرَاهُ إِيَّاهُ. قَالَ حَمَّادٌ: فأَخْبَرَنِي أَبَانٌ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّ الْحُسَيْنَ لَمَّا نَزَلَ كَرْبَلاءَ شَمَّ الأَرْضَ وَسَأَلَهُمْ عَنِ اسْمِهَا فَقَالُوا: كَرْبَلاءُ، فَقَالَ كَرْبٌ

وَبَلاءٌ فَقُتِلَ بِهَا. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَجِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَارَ مَعَ عَلِيٍّ عليه السلام وَكَانَ صَاحِبَ مَطْهَرَتِهِ فَلَمَّا حَاذَى نِينَوَى وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى صِفِّينَ نَادَى عَلِيٌّ: اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بِشَطِّ الْفُرَاتِ. قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَغْضَبَكَ أَحَدٌ مَا شَأْنَ عَيْنَيْكَ تَفِيضَانِ؟ قَالَ: قَامَ مِنْ عِنْدِي جِبْرِيلُ قَبْلُ فَحَدَّثَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ يُقْتَلُ بِشَطِّ الْفُرَاتِ وَقَالَ لِي: هَلْ لَكَ أَنْ أُشِمَّكَ مِنْ تُرْبَتِهِ قُلْتُ: نَعَمْ فَمَدَّ يَدَهُ فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَأَعْطَانِيهَا فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ أَنْ فَاضَتَا. وَرَوَى عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ نِصْفَ النَّهَارِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَعَهُ قَارُورَةٌ فِيهَا دَمٌ يَلْتَقِطُهُ أَوْ يَتَتَبَّعُ فِيهَا شَيْئًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ قَالَ: دَمُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ لَمْ أَزَلْ أَتَتَبَّعُهُ مُنْذُ الْيَوْمِ. قَالَ عَمَّارٌ: فَحَفِظْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَوَجَدْنَاهُ قُتِلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ. إِنَّمَا رَحَلَ الْحُسَيْنُ إِلَى الْقَوْمِ لأَنَّهُ رَأَى الشَّرِيعَةَ قَدْ رُفِضَتْ، فَجَدَّ فِي رَفْعِ قَوَاعِدِ أَصْلِهَا الْجَدُّ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ حَصَرُوهُ فَقَالَ: دَعُونِي أَرْجِعُ. فَقَالُوا: لا، انْزِلْ عَلَى حُكْمِ ابْنِ زِيَادٍ. فَاخْتَارَ الْقَتْلَ عَلَى الذُّلِّ، وَهَكَذَا النُّفُوسُ الأَبِيَّةُ. (تَأْبَى الدَّنَاءَةَ لِي نَفْسٌ نَفَاسَتُهَا ... تَسْعَى لِغَيْرِ الرِّضَا بِالرِّيِّ وَالشِّبَعِ) (فَلاكْتِسَابِ الْعُلا حِلِّي وَمُرْتَحَلِي ... وفي حمى المجد مصطافي ومرتعي) (لِي هِمَّةٌ مَا أَظُنُّ اللَّحْظَ يُدْرِكُهَا ... إِلا وَقَدْ جَاوَزَتْ فِي كُلِّ مُمْتَنَعِ) (لا صَاحَبَتْنِي نَفْسٌ إِنْ هَمَمْتُ بِأَنْ ... أَرْمِي بِهَا لَهَوَاتِ الْمَوْتِ لَمْ تُطِعِ) وَلَقَدْ تَبِعَ طَرِيقَ الْحُسَيْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ عَرَضَ عَلَيْهِ الأَمَانَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ فِي عِزٍّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَيَاةٍ فِي ذُلٍّ! وَكَانَ يُحَارِبُهُمْ وَيُنْشِدُ:

(اصْبِرْ عِصَامُ إِنَّهُ شِبْرَاقْ قَدْ سَنَّ ... أَصْحَابُكَ ضَرْبَ الأَعْنَاقْ) (وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَلَى سَاقْ ... ) فَقِيلَ لَهُ قَدْ لَحِقَ فُلانٌ وَفُلانٌ بِالْحَجَّاجِ. فأنشد: (فرت سلامان وفرت النمر ... قد تتلاقى مَعَهُمْ فَلا نَفِرُّ) وَكَانُوا يَرْمُونَ بِالْحِجَارَةِ فَيُقَالُ لَهُ مَا تَأْمَنُ أَنْ يُصِيبَكَ حَجَرٌ؟ فَيَقُولُ: (هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّ الأُمُورَ ... بِكَفِّ الإِلَهِ مَقَادِيرُهَا) (فَلَيْسَ بِآتِيكَ مَنْهِيُّهَا ... وَلا قَاصِرٌ عَنْكَ مَأْمُورُهَا) وَلَبِسَ دِرْعًا وَجَاءَ يُوَدِّعُ أُمَّهُ أَسْمَاءَ فَقَالَتْ: مَا هَذَا الدِّرْعُ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لَبِسْتُهُ إِلا لأُقَوِّيَ نَفْسَكِ!. (فَإِنِّي لَيُغْنِينِي عَنِ السَّيْفِ عَزْمَتِي ... فَهَلْ فِيهِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ كَفِّ ضَارِبِ) (إِذَا عَرَضُ الدُّنْيَا أَلانَ صِلابَهَا ... شَمَخْتُ بِأَنْفِي عَنْهُ وَازْوَرَّ جَانِبِي) (فَلا تَنْتَسِبُ إِلا إِلَى بُعْدِ هِمَّةٍ ... وَلا تَكْتَسِبُ إِلا بِحُرِّ الْمَقَانِبِ) (فَإِنَّ دَنِيَّاتِ السَّجَايَا إِذَا هَوَى ... بِهَا الْمَرْءُ لَمْ يَنْفَعْهُ عِزُّ الْمَنَاصِبِ) للَّهِ دَرُّ هَذِهِ الأَنْفُسِ فَمَا أَعَزَّهَا وَهَذِهِ الْهِمَمِ فَمَا أَرْفَعَهَا! (وَلَمَّا رَأَوْا بَعْضَ الْحَيَاةِ مَذَلَّةً ... عَلَيْهِمُ وَعِزَّ الْمَوْتِ غَيْرَ مُحَرَّمِ) (أَبَوْا أَنْ يَذُوقُوا الْعَيْشَ وَالذَّمُّ وَاقِعٌ ... عَلَيْهِ وَمَاتُوا مِيتَةً لَمْ تُذَمَّمِ) (وَلا عَجَبٌ لِلأُسْدِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهَا ... كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ) (فَحَرْبَةُ وَحْشِيٍّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى ... وَحَتْفُ عَلِيٍّ فِي حُسَامِ ابْنِ مُلْجَمِ) أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ السُّرِّيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُطَّةَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا هِلالُ بْنُ بِشْرٍ، حدثنا عبد الملك ابن مُوسَى عَنْ هِلالِ بْنِ ذَكْوَانَ، قَالَ لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ مُطِرْنَا مَطَرًا بَقِيَ أَثَرُهُ فِي ثِيَابِنَا مِثْلَ الدَّمِ.

قُلْتُ: لَمَّا كَانَ الْغَضْبَانُ يَحْمَرُّ وَجْهُهُ فَيَتَبَيَّنُ بِالْحُمْرَةِ تَأْثِيرُ غَضَبِهِ، وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، أَظْهَرَ تَأْثِيرَ غَضَبِهِ بِحُمْرَةِ الأُفُقِ حِينَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ. وَبِالإِسْنَادِ قَالَ ابْنُ بُطَّةَ: وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: لَمْ تُرَ هَذِهِ الْحُمْرَةُ فِي السَّمَاءِ حَتَّى قُتِلَ الْحُسَيْنُ. قَالَ ابْنُ بُطَّةَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْبَاغَنْدِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْوَرَّاقُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بن أَخِي شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ يَقُولُ: نَاحَتِ الْجِنُّ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالَتْ جِنِّيَّةٌ: (جَاءَتْ نِسَاءُ الْحَيِّ يَبْكِينَ شَجِيَّاتِ ... وَيَلْطُمْنَ خُدُودًا كَالدَّنَانِيرِ نقيات) (ويلبسن ثياب السود بعد االقصبيات ... ) وَرُوِّينَا فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ حُفِظَ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ: (مَسَحَ النَّبِيُّ جَبِينَهُ ... فَلَهُ بَرِيقٌ فِي الْخُدُودِ) (أَبَوَاهُ مِنْ عَلْيَا قُرَيْشٍ ... وَجَدُّهُ خَيْرُ الْجُدُودِ) وَقَالَ جِنِّيٌّ آخَرُ: (أَبْكِي قَتِيلا بِكَرْبَلاءَ ... مُضَرَّجَ الْجِسْمِ بِالدِّمَاءِ) (أَبْكِي قَتِيلا بَكَى عَلَيْهِ ... حُزْنًا بَنُو الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ) (أَبْكِي قَتِيلَ الطُّغَاةِ ظُلْمًا ... بِغَيْرِ جُرْمٍ سِوَى الْوَفَاءِ) (هُتِّكَ أَهْلُوهُ فَاسْتَحَلُّوا ... مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الإِمَاءِ) (يَا بِأَبِي جِسْمُهُ الْمُعَرَّى ... إِلا مِنَ الدِّينِ وَالْحَيَاءِ) (كُلُّ الرَّزَايَا لَهَا عَزَاءٌ ... وَمَا لِذَا الرُّزْءِ مِنْ عَزَاءِ) وَرُوِّينَا أَنَّ صَخْرَةً وُجِدَتْ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاثِ مِائَةِ سَنَةٍ وَعَلَيْهَا مَكْتُوبٌ بِالْيُونَانِيَّةِ:

(أَيَرْجُو مَعْشَرٌ قَتَلُوا حُسَيْنًا ... شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الْحِسَابِ) وَيْحَ قَاتِلِ الْحُسَيْنِ! كَيْفَ حَالُهُ مَعَ أَبَوَيْهِ وَجَدِّهِ! (لا بُدَّ أَنْ تَرِدَ الْقِيَامَةَ فَاطِمُ ... وَقَمِيصُهَا بِدَمِ الْحُسَيْنِ مُلَطَّخُ) (وَيْلٌ لِمَنْ شُفَعَاؤُهُ خُصَمَاؤُهُ ... وَالصُّورُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُنْفَخُ) إِخْوَانِي: بِاللَّهِ عَلَيْكُمْ مَنْ قَبَّحَ عَلَى يُوسُفَ بِأَيِّ وَجْهٍ يَلْقَى يَعْقُوبَ! لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِينَهُ فَمَا نَامَ، فَكَيْفَ لَوْ سَمِعَ أَنِينَ الْحُسَيْنِ؟ لَمَّا أَسْلَمَ وَحْشِيٌّ قَالَ لَهُ: غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي. هَذَا وَاللَّهِ وَالْمُسْلِمُ لا يُؤَاخَذُ بِمَا كَانَ فِي الْكُفْرِ، فَكَيْفَ يَقْدِرُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْصِرَ مَنْ قَتَلَ الْحُسَيْنَ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} . لَقَدْ جَمَعُوا فِي ظُلْمِ الْحُسَيْنِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ أَحَدٌ، وَمَنَعُوهُ أَنْ يَرِدَ الْمَاءَ فِيمَنْ وَرَدَ، وَأَنْ يَرْحَلَ عَنْهُمْ إِلَى بَلَدٍ، وَسَبُّوا أَهْلَهُ وَقَتَلُوا الْوَلَدَ، وَمَا هَذَا حَدُّ دَفْعٍ عَنِ الْوِلايَةِ هَذَا سُوءُ مُعْتَقَدٍ. نَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ جَدِّهِ فَمَا سَقَوْهُ مِنْهُ قَطْرَةً! كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ون حُبِّ الْحُسَيْنِ يُقَبِّلُ شَفَتَيْهِ وَيَحْمِلُهُ كَثِيرًا عَلَى عَاتِقَيْهِ، وَلَمَّا مَشَى طِفْلا بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ نَزَلَ إِلَيْهِ، فَلَوْ رَآهُ مُلْقَى عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْهِ وَالسُّيُوفُ تَأْخُذُهُ وَالأَعْدَاءُ حَوَالَيْهِ وَالْخَيْلُ قَدْ وَطِئَتْ صَدْرُهُ وَمَشَتْ عَلَى يَدَيْهِ وَدِمَاؤُهُ تَجْرِي بَعْدَ دُمُوعِ عَيْنَيْهِ لَضَجَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَغِيثًا مِنْ ذَلِكَ وَلَعَزَّ عَلَيْهِ. (كَرْبَلاءُ زِلْتِ كَرْبًا وَبَلا ... مَا لَقِيَ عِنْدَكِ أَهْلُ الْمُصْطَفى) (كَمْ عَلَى تُرْبِكَ لَمَّا صُرِّعُوا ... مِنْ دَمٍ سَالَ وَمِنْ دَمْعٍ جَرَى) (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ عَايَنْتَهُمْ ... وَهُمُ مَا بَيْنَ قتل وسبا)

(مِنْ رَمِيضٍ يُمْنَعُ الظِّلَّ وَمِنْ ... عَاطِشٍ يُسْقَى أَنَابِيبَ الْقَنَا) (لَرَأَتْ عَيْنَاكَ فِيهِمْ مَنْظَرًا ... لِلْحَشَا شَجْوًا وَلِلْعَيْنِ قَذَى) (لَيْسَ هَذَا لِرَسُولِ اللَّهِ يَا ... أُمَّةَ الطُّغْيَانِ وَالْمَيْنِ جَزَا) (غَارِسٌ لَمْ يَأْلُ فِي الْغَرْسِ لَهُمْ ... فَأَذَاقُوا أَهْلَهُ مُرَّ الْجَنَى) (جَزَرُوا جَزْرَ الأَضَاحِي نَسْلَهُ ... ثُمَّ سَاقُوا أهله سوق الإما) (هاتقات يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي ... بُهَرِ السَّعْيِ وَعَثَرَاتِ الْخُطَا) (قَتَلُوهُ بَعْدَ عِلْمٍ مِنْهُمُ ... أَنَّهُ خَامِسُ أَصْحَابِ الْكِسَا) (يَا جِبَالَ الْمَجْدِ عِزًّا وَعُلا ... وَبُدُورَ الأَرْضِ نُورًا وَسَنَا) (جَعَلَ اللَّهُ الَّذِي نَالَكُمْ ... سَبَبَ الْوَجْدِ طَوِيلا وَالْبُكَا) (لا أَرَى حزنكم ينسى ولا ... رزأكم يُسْلَى وَلَوْ طَالَ الْمَدَى) سُبْحَانَ مَنْ رَفَعَ لِلْحُسَيْنِ بِقَتْلِهِ مَكَانًا، وَدَمَغَ مَنْ عَادَاهُ فَعَادَ بَعْدَ الْعِزِّ مُهَانًا، مَا ضَرَّهُ حِينَ الشَّهَادَةِ مَنْ أَوْسَعَهُ خِذْلانًا {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جعلنا لوليه سلطانا} هَلَكَ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالْعِنَادِ وَكَأَنَّهُمْ مَا مَلَكُوا الْبِلادَ وَعَادَ عَلَيْهِمُ اللَّعْنُ كَمَا عَادَ عَلَى عَادٍ، أَيْنَ يَزِيدُ أَيْنَ زِيَادٌ، كَأَنَّهُمَا مَا كَانَا لا كَانَا {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} . تَمَتَّعُوا أَيَّامًا يَسِيرَةً، ثُمَّ عَادَتْ أَجْنِحَةُ الْمُلْكِ كَسِيرَةً، وَبَقِيَتْ سِيرَةُ الْحُسَيْنِ أَحْسَنَ سِيرَةٍ، وَمَنْ عزت عاقبته والسيرة فكأن لَمْ يَلْقَ هَوَانًا {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} . مُزِّقُوا وَاللَّهِ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَتَفَرَّقُوا بِالشَّتَاتِ أَيَّ مُتَفَرَّقٍ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ رَفُّوا مَا جَنَوْا فَتَخَرَّقَ، إِنَّ نَاصِرَ الْمَظْلُومِ لا يَتَوَانَى {فَقَدْ جَعَلْنَا لوليه سلطانا} . تَعَزَّزُوا عَلَى [مِثْلِ] الْحُسَيْنِ وَطَالُوا، وَظَنُّوا بَقَاءَ الْمُلْكِ لَهُمْ بِمَا احْتَالُوا، وَكِيلَ لَهُمْ مِنَ الذَّمِّ أَضْعَافُ مَا كَالُوا، وَعُجِّلَ قَلْعُهُمْ مِنَ السُّلْطَةِ فَزَالُوا سُلْطَانًا سُلْطَانًا {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سلطانا} .

وَيْلَهُمْ لَوْ دَبَّرُوا أَمْرَهُمْ لَرَفَعُوا بِطَاعَةِ الْحُسَيْنِ قَدْرَهُمْ، مَلَكُوا أَيَّامًا ثُمَّ بَقِيَ الْخِزْيُ دَهْرَهُمْ، اشْتَغِلُوا الْيَوْمَ بِتَسْبِيحِكُمْ وَدَعُوا ذِكْرَهُمْ أَهْوَانًا {وَمَنْ قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

المجلس الثاني في ذكر رجب

المجلس الثاني فِي ذِكْرِ رَجَبٍ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي فَلَقَ النَّوَى وَالْحَبَّ، وَخَلَقَ الْفَاكِهَةَ والأَبَّ، وَأَبْغَضَ وَكَرِهَ وأحب، وأمرض وداوى وطب، أنشأ الْحَيَوَانَ بِقُدْرَتِهِ فَدَبَّ، وَبَنَاهُ فَأَحْسَنَ تَدْبِيرَهُ حِينَ رَبَّ، فَالْعَجَبُ لِمَرْبُوبٍ يَجْحَدُ الرَّبَّ، عَمَّ إِنْعَامُهُ فَلَمْ يَنْسَ فِي الْبَحْرِ الْحُوتَ وَفِي الْبَرِّ الضَّبَّ أَحْمَدُهُ عَلَى تَبْلِيغِنَا هَذَا الشَّهْرَ الشَّرِيفَ الأَصَبَّ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى إِيمَانٍ بِهِ فِي الْقُلُوبِ صَبَّ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً اجْتَمَعَ بِهَا مُرَادُ التَّوْحِيدِ وَاسْتَتَبَّ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُسَمَّى الأَمِينَ صَغِيرًا وَمَا شَبَّ، ثُمَّ قَهَرَ الأَعْدَاءَ فَأَلْبَسَهُمُ الزُّنَّارَ وَالْقَبَّ وَأُجِيبَ عَنْهُ لِكُلِّ مَنْ عَابَهُ وَسَبَّ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وتب} وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي خُلِقَ صَافِيًا فِي الصُّحْبَةِ وَلَبَّ، وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي قَمَعَ كُلَّ جَبَّارٍ عَلَى الْكُفْرِ أَكَبَّ فَكَبَّ، وَعَلَى عُثْمَانَ الْمُنَاجِي طَوِيلَ لَيْلَتِهِ مُنَاجَاةَ الصَّبِّ، وَعَلَى عَلِيٍّ أَشْجَعِ مَنْ حَامَى عَنِ الإِسْلامِ وَذَبَّ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي أَتَتْهُ السَّحَابُ لَمَّا ذكره اسْمُهُ وَهَبَّ. اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَهْرِ رَجَبٍ الأَصَمِّ وَاحْفَظْنَا فِيهِ مِنْ مُوجِبَاتِ السَّخَطِ وَالذَّمِّ، وَحُطْنَا حِيَاطَةً نَنْسَى بِهَا لُطْفَ الأَبِ وَالْعَمِّ، عُمَّنَا بِأَيَادِيكَ يَا خَيْرَ مَنْ أَعْطَى وَعَمَّ. اعْلَمُوا إِخْوَانِي أَنَّ شَهْرَكُمْ هَذَا شَهْرٌ مُحَرَّمٌ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ مَحْبُوبٍ،

أنبأنا طراد ابن مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ بُرْهَانٍ، حدثني عثمان بن أحمد، حدثنا إسحاق ابن إِبْرَاهِيمَ الْحُبلِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الصُّدَائِيُّ، [قَالَ] حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ شَهْرَ رَجَبٍ شَهْرٌ عَظِيمٌ مَنْ صَامَ مِنْهُ يَوْمًا جَزَى [اللَّهُ] لَهُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَنْ صَامَ مِنْهُ يَوْمَيْنِ جَزَى [اللَّهُ] لَهُ أَلْفَيْ سَنَةٍ وَمَنْ صَامَ مِنْهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ جَزَى [اللَّهُ] لَهُ [صَوْمَ] ثَلاثَةِ آلافِ سَنَةٍ، وَمَنْ صَامَ مِنْ رَجَبٍ سَبْعَةَ أَيَّامٍ غُلِّقَتْ عَنْهُ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ فُتِّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ فَيَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُهُ حَسَنَاتٍ وَنَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ قَدْ غُفِرَ لَكَ فَاسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ ". وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ نَهَرًا يُقَالُ لَهُ رَجَبٌ مَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْ رَجَبٍ سَقَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ النَّهَرِ ". وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " رَجَبٌ مِنَ الشُّهُورِ الْحُرُمِ وَأَيَّامُهُ مَكْتُوبَةٌ عَلَى أَبْوَابِ السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَإِذَا صَامَ الرَّجُلُ مِنْهُ يَوْمًا وَجَرَّدَ صَوْمَهُ لِتَقْوَى اللَّهِ نَطَقَ الْبَابُ وَنَطَقَ الْيَوْمُ وَقَالا: يَا رَبِّ اغْفِرْ لَهُ. وَإِذَا لَمْ يُتِمَّ صَوْمَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ لَمْ يَسْتَغْفِرَا لَهُ وَقِيلَ لَهُ خُذْ حُظَّ نَفْسِكَ ". وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضَائِلِهِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ غَيْرَ أَنَّهَا لا تَثْبُتُ وَلا تَصِحُّ، فَلِذَلِكَ تَجَنَّبْنَا ذِكْرَهَا. [وَمَا يُرْوَى فِيهِ مِنْ صَلاةِ الرَّغَائِبِ فَحَدِيثٌ لا أَصْلَ لَهُ وَإِنِّي لأَغَارُ لِصَلاةِ التَّرَاوِيحِ مِنْ صَلاةِ الرَّغَائِبِ وَإِنَّمَا يُتَّهَمُ بِوَضْعِهَا ابْنُ جَهْضَمٍ] . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ يُعْجِبُنِي أَنْ يُفَرِّغَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ فِي أَرْبَعِ لَيَالٍ: لَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَلَيْلَةِ الأَضْحَى، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَأَةَ: إِنَّ عَلَيْكَ بِأَرْبَعِ

لَيَالٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يُفْرِغُ فِيهِنَّ الرَّحْمَةَ إِفْرَاغًا. فَذَكَرَ هَذِهِ اللَّيَالِيَ الأَرْبَعَ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ رَجَبٍ يَمْحُو اللَّهُ مَا شَاءَ وَيُثْبِتُ. وَقَدْ أُغْرِيَ الْقُصَّاصُ وَالْمُتَزَهِّدُونَ بِالتَّحْرِيضِ عَلَى صَوْمِهِ، وَإِنَّمَا يَصُومُهُ كُلَّهُ مَنْ يَصُومُ السَّنَةَ. قَالَ حَنْبَلٌ سَأَلْتُ أَبَا عبد الله بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ فَقَالَ: مَنْ كَانَ يَصُومُ السَّنَةَ وَإِلا فَلا يَصُمْهُ مُتَوَالِيًا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ وَلا يُشَبَّهُ بِرَمَضَانَ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ أَكُفَّ النَّاسِ فِي رَجَبٍ حَتَّى يَضَعُوهَا فِي الطَّعَامِ وَيَقُولُ: كُلُوا فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تُعَظِّمُهُ. وَدَخَلَ أَبُو بَكْرَةَ عَلَى أَهْلِهِ فَرَأَى عِنْدَهُمْ سِلالا وَكِيزَانًا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: رَجَبٌ نَصُومُهُ. فَقَالَ: أَجَعَلْتُمْ رَجَبًا كَرَمَضَانَ فَأَلْقَى السِّلالَ وَالْكِيزَانَ. قَالَ عَمْرٌو الزَّاهِدَ: حَدَّثَنَا ثَعْلَبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنِ الْفَرَّاءِ، عَنِ الأَصْمَعِيِّ وَعَنِ ابْنِ الأَعْرَابِيِّ عَنِ الْفَضْلِ قَالَ: كُلُّ الْعَرَبِ تَقُولُ: رَجَبْتُ فُلانًا أَرْجُبُهُ رَجْبًا وَرُجُوبًا إِذَا عَظَّمْتُهُ. قَالَ ثَعْلَبٌ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ رَجَبًا لِتَعْظِيمِهِ. قَالَ سُلَيْمَانُ الشَّاذَكُونِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ الأَصَمَّ لأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لا يُغِيرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِيهِ وَلا تَحْمِلُ فِيهِ السِّلاحَ، وَكَانُوا لا يَسْمَعُونَ قَعْقَعَةَ السِّلاحِ فَسُمِّيَ أَصَمَّ بِهِ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ بِرَجَبِ مُضَرَ فَلأَنَّهَا كَانَتْ تُعَظِّمُهُ أَشَدَّ مِنْ جَمِيعِ الْعَرَبِ فَأُضِيفَ إِلَيْهَا. وَقَدْ خَصَّهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فِيهِ. وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ فَإِنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَالِ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ، فَمَتَى مَلَكَ النِّصَابَ فِي الْمُحَرَّمِ مَثَلا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي الْمُحَرَّمِ، فَمَتَى أَخَّرَهَا إِلَى صَفَرٍ أَثِمَ لأَنَّهَا حُقُوقُ الْفُقَرَاءِ فُرِضَتْ لِحَاجَتِهِمْ فَلا وَجْهَ لِلتَّأْخِيرِ. وَقَدْ يَرْوِي الْقُصَّاصُ فِي رَجَبٍ مِنَ الْفَضَائِلِ وَأَفْعَالَ الطَّاعَاتِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لا نَرَى ذِكْرَ شَيْءٍ مِنْهَا لِعِلْمِنَا بِعَدَمِ صِحَّتِهِ، بَلْ نَقُولُ: يَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ أَنْ يُبَادِرَ [إِلَى] فِعْلِ الْخَيْرِ عَلَى الدَّوَامِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

الكلام على البسملة

الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (ألا يَا غَافِلا يُحْصَى عَلَيْهِ ... مِنَ الْعَمَلِ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَهْ) (يُصَاحُ بِهِ وَيُنْذَرُ كُلَّ يَوْمٍ ... وَقَدْ أَنْسَتْهُ غَفْلَتُهُ مَصِيرَهْ) (تَأَهَّبْ لِلرَّحِيلِ فَقَدْ تَدَانَى ... وَأَنْذَرَكَ الرَّحِيلُ أَخٌ وَجِيرَهْ) (وَأَنْتَ رَخِيُّ بَالٍ فِي غُرُورٍ ... كَأَنْ لَمْ تَقْتَرِفْ فِيهَا صَغِيرَهْ) (وَكَمْ ذَنْبٍ أَتَيْتَ عَلَى بَصِيرَةْ ... وَعَيْنُكَ بِالَّذِي تَأْتِي قَرِيرَهْ) (تُحَاذِرُ أن تراك هناك عين ... وإن عليك للعين البصيرة) (وَكَمْ حَاوَلْتَ مِنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ ... مُنِعْتَ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَخِيرَهْ) (وَكَمْ مِنْ مَدْخَلٍ لَوْ مِتَّ فِيهِ ... لَكُنْتَ بِهِ نَكَالا فِي الْعَشِيرَهْ) (وُقِيتَ السُّوءَ وَالْمَكْرُوهَ فِيهِ ... وَرُحْتَ بِنِعْمَةٍ فِيهِ سَتِيرَهْ) (وكم من نعمة لله تمسي ... وتصبح ليس تَعْرِفُهَا كَثِيرَهْ) يَا مَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَوْتُ وَالْحِسَابُ، وَالتَّوْبِيخُ الشَّدِيدُ وَالْعِتَابُ، وَعَلَيْهِ بِأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ كِتَابٌ، وَقَدْ أَذْنَبَ كَثِيرًا غَيْرَ أَنَّهُ مَا تَابَ، وَكُلَّمَا عُوتِبَ خَرَجَ مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ، إِلَى مَتَى هَذَا الْجَهْلُ وَإِلامَ هَذَا الْعَابُ، مَا أَظُنُّكَ حَاضِرًا عَدُّوكَ فِيمَنْ غَابَ. (أَيَقْظَانٌ أَنْتَ الْيَوْمَ أَمْ أَنْتَ نَائِمٌ ... فَكَيْفَ يُطِيقُ النَّوْمَ حَيْرَانٌ هَائِمُ) أَلَسْتَ الَّذِي دُمْتَ عَلَى الْخَطَايَا وَعَصَيْتَ، وَبَارَزْتَ بِالْقَبِيحِ وَمَا اسْتَحْيَيْتَ، وَعَلِمْتَ تَحْرِيمَ الذَّنْبِ ثُمَّ أَتَيْتَ، وَعَرَفْتَ عَظِيمَ الْجَزَاءِ وَتَنَاسَيْتَ، سَتَكُفُّ [مِنْكَ] الْخَمْسُ بَعْدَ الْحَرَكَةِ وَاللَّمْسِ، وَسَيَذْهَبُ الْيَوْمَ كَمَا ذَهَبَ أَمْسِ، وَسَيُبَدَّلُ النُّطْقُ بِالسُّكُوتِ وَالْهَمْسِ، وَسَتَعْدَمُ نُورَ الْقَمَرِ وَضَوْءَ الشَّمْسِ، وَسَيُقْلَعُ الْبُسْتَانُ وَيَيْبَسُ الْغَرْسُ، وَقَدْ قَرُبَ وَقْتُ الْغَمْسِ فِي بَحْرِ الرَّمْسِ، وَسَيَنْسَى ذُو الْعِلْمِ الدَّرْسَ [بِالدَّرْسِ] : (لا تَلْبَسِ الدَّهْرَ عَلَى غِرَّةٍ ... فَمَا لِمَوْتِ الْحَيِّ مِنْ بُدِّ)

(وَلا يُخَادِعْكَ طَوِيلُ الْبَقَا ... فَتَحْسَبَ الطُّولَ مِنَ الْخُلْدِ) (يَنْفَدُ مَا كَانَ لَهُ آخِرٌ ... مَا أَقْرَبَ الْمَهْدَ مِنَ اللَّحْدِ) يَا مَنْ يُنْصَحُ وَلَيْسَ مِنْهُ إِلا الإِبَاءُ، أَيْنَ الأَجْدَادُ أَيْنَ الآبَاءُ، أَيْنَ الإِخْوَانُ أَيْنَ الأَقْرِبَاءُ، أَدْرَكَ الْقَوْمَ بعد القهر السباء، فبكى لسوى مُنْقَلَبِهِمُ الْغُرَبَاءُ، تَاللَّهِ لَقَدْ قَامَتْ بِالْمَوَاعِظِ الْخُطَبَاءُ، وَلَقَدْ أَذَّنَتْ بِرَحِيلِ الْجَيْشِ النُّقَبَاءُ، وَلَكِنْ قَدْ عَمَّتِ الْغَفْلَةُ وَالْغَبَاءُ، وَكَأَنْ قَدْ كَفَّتْ عَنِ الدَّوَاءِ الأَطِبَّاءُ، وَهَلْ مَرَضُ الْقُلُوبِ إِلا حُبُّ الدُّنْيَا، فَعَلَى الدُّنْيَا الْعَفَاءُ: (أَقَلُّ قَلِيلِهَا يَكْفِيكَ مِنْهَا ... وَلَكِنْ لَسْتَ تَقْنَعُ بِالْقَلِيلِ) (وَمَنْ هَذَا الَّذِي يَبْقَى وَتَبْقَى ... مُضَارِبُهُ بِمَدْرَجَةِ السُّيُولِ) وَيْحَكَ أَنْتَ فِي الْقَبْرِ مَحْصُورٌ إِلَى أَنْ يُنْفَخَ فِي الصُّورِ، ثُمَّ رَاكِبٌ أَوْ مَجْرُورٌ، حَزِينٌ أَوْ مَسْرُورٌ، مُطْلَقٌ أَوْ مَأْسُورٌ، فَمَا هَذَا اللَّهْوُ وَالْغُرُورُ. الْحَازِمُ مَنْ تَزَوَّدَ لِمَا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ لِمَآبِهِ. إِخْوَانِي إِنَّكُمْ تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ فِي آجَالٍ قَدْ غُيِّبَتْ عَنْكُمْ، فَانْظُرُوا لِخَلاصِكُمْ قَبْلَ انْقِضَاءِ أَعْمَارِكُمْ، الْوَحَا الْوَحَا، فَالطَّالِبُ حَثِيثٌ، تَذَكَّرُوا تِلْكَ الصَّرْعَةَ بَيْنَ الأَهْلِ وَهُمْ لا يَقْدِرُونَ عَلَى ضَرٍّ وَلا نَفْعٍ، وَاللَّهِ مَا بَاتَ عَاقِلٌ قَطُّ إِلا عَلَى فِرَاشِ حَذَرٍ، إِنَّمَا هُوَ دَبِيبٌ مِنْ سُقْمٍ ثُمَّ تُؤْخَذُونَ بِالْكَظْمِ، فَإِنْ زَلَّتِ الْقَدَمُ لَمْ يَنْفَعْ ندم، وإلا تَوْبَةٌ تُنَالُ وَلا عَثْرَةٌ تُقَالُ وَلا فِدَاءٌ بِمَالٍ. (أَأَغْفُلُ وَالدَّهْرُ لا يَغْفُلُ ... وَأَنْسَى الَّذِي شَأْنُهُ أَعْضَلُ) (وَيُطْمِعُنِي أَنَّنِي سَالِمٌ ... وَدَاءُ السَّلامَةِ لِي أَقْتَلُ) (وَيَمْضِي نَهَارِي وَلَيْلِي مَعًا ... بِمَا غَيْرُهُ الأَحْسَنُ الأَجْمَلُ) (وَآمُلُ أَنِّي أَفُوتُ الْحِمَامَ ... أَمَانٍ لَعَمْرُكَ لِي ضُلَّلُ) (وَكَيْفَ يَرَى آخَرُ أَنَّهُ ... سَيَبْقَى وَقَدْ هَلَكَ الأَوَّلُ) (فَحَتَى مَتَى أَنَا لا أَرْعَوِي ... وَكَمْ ذَا أَقُولُ وَلا أَفْعَلُ) (أَيَا ذَاهِلا وَنِدَاءُ الْحُتُوفِ ... فِي النَّاسِ تُوقِظُ مَنْ يَذْهَلُ)

(أَلا أَيْنَ أَهْلَ النَّعِيمِ الْعَزِيزِ ... وَأَيْنَ الأَجَالِدُ وَالْبُزَّلُ) (تَنَاوَلَهُمْ مِنْ قِلالِ الْقُصُورِ ... فَأَهْلَكَهُمْ مُزْعِجٌ مُعْجَلُ) قُلْ لِلَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الْهُدَى فَمَا تَبِعُوا، وَخُوِّفُوا يَوْمَ الرَّدَى فَمَا ارْتَدَعُوا، وَسَمِعُوا الْمَوَاعِظَ فَكَأَنَّهُمْ مَا سَمِعُوا، تَقَلَّبُوا كَيْفَ شِئْتُمْ وَمَا شِئْتُمْ فَاصْنَعُوا. (غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَتْ ... وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا) (إِنْ أَحْسَنُوا أحسنوا لأنفسهم ... وإن أساؤوا فَبِئْسَ مَا صَنَعُوا) للَّهِ دَرُّ أَقْوَامٍ بَادُروا الأَعْمَالَ وَاسْتَدْرَكُوهَا، وَجَاهَدُوا النُّفُوسَ حَتَّى مَلَكُوهَا، وَتَأَهَّبُوا لِسَبِيلِ التَّوْبَةِ ثُمَّ سَلَكُوهَا، وَعَرَفُوا عُيُوبَ الْعَاجِلَةِ فَتَرَكُوهَا، اسْتِعْمَالُهُمُ الأَدَبِ فِي جُمَادَى كَرَجَبٍ. يَا هَذَا إِذَا هَمَمْتَ بِخَيْرٍ فَبَادِرْ هَوَاكَ لِئَلا تُغْلَبُ، وَإِذَا هَمَمْتَ بِشَرٍّ فَسَوِّفْ هَوَاكَ لَعَلَّكَ تَغْلِبُ. الْحِكْمَةُ نُورُ الْفِطْرَةِ، وَالصَّوَابُ فَرْعُ الرَّوِيَّةِ، وَالتَّدْبِيرُ قِيمَةُ الْهِمَّةِ، وَالْهَوَى ضِدُّ الْحَزْمِ، ثَقِّفْ نَفْسَكَ بِالآدَابِ قَبْلَ صُحْبَةِ الْمُلُوكِ، فَإِنَّ سِيَاسَةَ الأَخْلاقِ مَرَاقِي الْمَعَالِي، قَالَ بُزُرْجُمِهْرُ: أَخَذْتُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنَ مَا فِيهِ حَتَّى مِنَ الْكَلْبِ وَالْغُرَابِ وَالْهِرَّةِ. قِيلَ: وَمَا أَخَذْتَ مِنَ الْكَلْبِ؟ قَالَ: ذَبَّهُ عَنْ حَرِيمِهِ وَإِلْفَهُ لأَهْلِهِ. قِيلَ: فَمِنَ الْهِرَّةِ؟ قَالَ: رِفْقَهَا عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ وَلِينَ صِيَاحِهَا. قِيلَ: فَمِنَ الْغُرَابِ؟ قَالَ: شِدَّةَ حذره. يا هذا صن حياة عقلك عن مُخَالَطَةِ غَوْغَاءِ نَفْسِكَ، مَنْ طَلَبَ الْمَعَالِيَ اسْتَقْبَلَ الْعَوَالِيَ، مَنْ لازَمَ الرُّقَادَ فَاتَهُ الْمُرَادُ، مَنْ دَامَ كَسَلُهُ خَابَ أَمَلُهُ. (مَنْ صَغُرَتْ نَفْسُهُ فَهِمَّتُهُ ... أَبْلَغُ فِي قَصْدِهِ مِنَ الْمِحَنِ) (وَقَلَّ مَا الْتَذَّ بِالسُّرُورِ فَتًى ... لَمْ يَجْنِهِ مِنْ عواقب الحزن)

الكلام على قوله تعالى:

لَوْلا سَخَطُ نَفْسِ أَبِي بَكْرٍ عَلَيْهِ لِمُفَارَقَةِ هَوَاهَا مَا نَالَ مَرْتَبَةَ " أَنَا عَنْكَ رَاضٍ " لَوْلا عُرْيُ أُوَيْسٍ مَا لَبِسَ حُلَّةً " يُشَفَّعُ فِي مِثْلِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ ". الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عشر شهرا في كتاب الله} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِنْ أَجْلِ النَّسِيءِ الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ. وَالنَّسِيءُ تَأْخِيرُ الشَّيْءِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُحَرِّمُ الشُّهُورَ الأَرْبَعَةَ. هَذَا ما تَمَسَّكَتْ بِهِ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَرُبَّمَا احْتَاجُوا إِلَى تَحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ لِحَرْبٍ تَكُونُ بَيْنَهُمْ فَيُؤَخِّرُونَ تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ إِلَى صَفَرٍ ثُمَّ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَأْخِيرِ صَفَرٍ، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى تَتَدَافَعَ الشُّهُورُ فَيَسْتَدِيرُ التَّحْرِيمُ عَلَى السَّنَةِ، فَكَانُوا يَسْتَنْسِئُونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَيَسْتَقْرِضُونَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَرَادُوا الصَّدْرَ مِنْ مِنًى قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَكَانَ رَئِيسَ الْمَوْسِمِ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي لا أُعَابُ وَلا أُخَابُ وَلا يُرَدُّ لِيَ قَضَاءٌ. فَيَقُولُونَ: أَنْسِئْنَا شَهْرًا يُرِيدُونَ أَخِّرْ عَنَّا حُرْمَةَ الْمُحَرَّمِ فَاجْعَلْهَا فِي صَفَرٍ. فَيَفْعَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ النَّسِيءَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ الْكِنَانِيُّ فَوَافَقَتْ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ذَا الْقَعْدَةِ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَذَلِكَ حِينَ قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ، أَنْبَأَنَا الدَّاوُدِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَنْبَأَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو

الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ [الَّذِي] بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ أَنَّ عَدَدَ شُهُورِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَعُدُّونَهَا اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا عَلَى مَنَازِلِ الْقَمَرِ. وَقَوْلُهُ {فِي كتاب الله} أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وَإِنَّمَا سَمَّاهَا حُرُمًا لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهَا. وَالثَّانِي: لِتَعْظِيمِ انْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ فِيهَا. وَقَوْلُهُ تعالى: {ذلك الدين القيم} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يَعْنِي الْحِسَابَ الصَّحِيحَ وَالْعَدَدَ المستوي. {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى الاثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لا تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلالا وَلا حَلالَهَا حَرَامًا كَفِعْلِ أَهْلِ النَّسِيءِ. والثاني: أنها ترجع إلى الأربعة الْحُرُمِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْفَرَّاءِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِمَا بَيْنَ الثَّلاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ: لَثَلاثٌ خَلَوْنَ وَأَيَّامٌ خَلَوْنَ. فَإِذَا جَازَتِ الْعَشَرَةُ قَالُوا: خَلَتْ وَمَضَتْ. وَيَقُولُونَ لِمَا بَيْنَ الثَّلاثَةِ إلى العشرة هن وهؤلاء فإذا جزت الْعَشَرَةُ قَالُوا: هِيَ وَهَذِهِ، إِرَادَةَ أَنْ يُعْرَفَ اسْمُ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ. وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا الظُّلْمِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَصَّ النَّهْيَ عَنِ الظُّلْمِ بِهَذِهِ الأَشْهُرِ لأَنَّ شَأْنَ الْمَعَاصِي يُعَظَّمُ فيه أَشَدَّ مِنْ تَعْظِيمِهِ فِي غَيْرِهَا لِفَضْلِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا كَمَا عُظِّمَتْ طَاعَةُ الْحَرَمِ وَمَعْصِيَتُهُ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ فِي غَيْرِهَا. هَذَا قَوْلُ الأَكْثَرِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ فِيهِنَّ فِعْلُ النَّسِيءِ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِ الشُّهُورِ عَلَى بَعْضٍ لِيَكُونَ الْكَفُّ عَنِ الْهَوَى ذَرِيعَةً إِلَى

اسْتِدَامَةِ الْكَفِّ فِي غَيْرِهَا، تَدْرِيجًا لِلنَّفْسِ إِلَى فِرَاقِ مَأْلُوفِهَا الْمَكْرُوهِ شَرْعًا. فَبَادِرُوا فِي هَذَا الشَّهْرِ مِنَ الْخَيْرِ كُلَّ مُمْكِنٍ مَا دَامَ الأَمْرُ يُمْكِنُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْعُمْرَ لا قِيمَةَ لأَوْقَاتِهِ وَزَمَانُ الصِّحَةِ لا مَثَلَ لِسَاعَاتِهِ، فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ الْحِسَابِ وَأَعِدُّوا لِلسُّؤَالِ صَحِيحَ الْجَوَابِ، وَاحْفَظُوا بِالتَّقْوَى هَذِهِ الأَيَّامَ وَاغْسِلُوا عَنِ الإِجْرَامِ قَبِيحَ الإِجْرَامِ، قَبْلَ نَدَمِ النُّفُوسِ حِينَ سِيَاقِهَا، قَبْلَ طَمْسِ شَمْسِ الْحَيَاةِ بَعْدَ إِشْرَاقِهَا، قَبْلَ ذَوْقِ كَأْسٍ مُرَّةٍ فِي مَذَاقِهَا، قَبْلَ أَنْ تَدُورَ بُدُورُ السَّلامَةِ فِي أَفْلاكِ مَحَاقِهَا، قَبْلَ أَنْ تُجْذَبَ الأَبْدَانُ إِلَى الْقُبُورِ بِأَطْوَاقِهَا، وَتَفْتَرِشَ فِي اللُّحُودِ أَخْلاقَ أَخْلاقِهَا، وَتَنْفَصِلَ الْمَفَاصِلُ بَعْدَ حُسْنِ اتِّسَاقِهَا، وَتَشْتَدَّ شِدَّةُ الْحَسَرَاتِ حَاسِرَةً عَنْ سَاقِهَا، وَتَظْهَرَ مُخَبَّآتُ الدُّمُوعِ بِسُرْعَةِ انْدِلاقِهَا، وَتَتَقَلَّبَ الْقُلُوبُ فِي ضَنْكِ ضِيقِ خَنَاقِهَا، وَيَطُولَ جَزَعُ مَنْ كَانَ فِي عُمْرِهِ نَاقِهًا، وَتَبْكِي النُّفُوسُ فِي أَسْرِهَا عَلَى زَمَانِ إِطْلاقِهَا: (أَلا يَا لِقَوْمِي لِحَيٍّ رَدِيٍّ ... وَلِلْمَرْءِ يَجْهَلُ مَا فِي غَدِ) (وَلِلْمَيِّتِ جَمَّعَ أَمْوَالَهُ ... لآخَرَ فِي الْحَيِّ لَمْ يُجْهَدِ) (سَيُلْقِيكَ أَهْلُكَ وَالْحَامِلُونَ ... وَأَعْضَاءُ جِسْمِكَ لَمْ تَبْرُدِ) (وَيُصْبِحُ مَالُكَ لِلْوَارِثِينَ ... وَأَنْتَ شَقِيتَ وَلَمْ تُحْمَدِ) هَذَا حَادِي الْمَمَاتِ قَدْ أَسْرَعَ، هَذِهِ سُيُوفُ الْمُلِمَّاتِ قَدْ تَقْطَعُ، هَذِهِ قُصُورُ الإخوان بلقع، مال صاحب الْمَالِ فَإِذَا الْمَالُ يُوَزَّعُ، أَنَفِعَهُ حِرْصُهُ حِينَ سُلِبَ مَا جَمَعَ أَجْمَعَ، إِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا فَخُذْ مِنْهَا أَوْ دَعْ، إِنْ وَصَلَتْ فَعَلَى نِيَّةِ أَنْ تَقْطَعَ، وَإِنْ بَذَلَتْ فَبِعَزِيمَةٍ أَنْ تَمْنَعَ، انْتَظِرْ سَلْبَهَا يَا مَشْغُولا بِهَا، وَتَوَقَّعْ أَسَفًا لِكَبِدٍ عَلَى حُبِّهَا تَتَقَطَّعُ، أَتُرَاهَا أَنَّهَا مَا عَلِمَتْ أَنَّهَا تَخْدَعُ، أَفِيهَا حِيلَةٌ أَمْ فِي وَصْلِهَا مَطْمَعٌ، أَيْنَ كِسْرَى أَيْنَ قَيْصَرُ أَيْنَ تُبَّعُ، أَيْنَ حَاتِمُ الْجُودِ أَيْنَ مَنْ كَانَ يَجْمَعُ، أَيْنَ قَيْسٌ وَسَحْبَانُ أَيْنَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ، إِنَّهَا لَتَمْحُو الْعَيْنَ ثُمَّ لِلأَثَرِ تَقْلَعُ، إِنَّ لَكَ مَقْنَعًا فِي وَعْظِهَا لَوْ كَفَاكَ الْمَقْنَعُ، يَا مُفَرِّقًا فِي الْبِلَى قُلْ لِمَنْ تَجْمَعُ، إِذَا خَلَوْتَ وَخَلَّيْتَ فَكَيْفَ تَصْنَعُ، أَتُرَى أنت عندنا أو ما تَسْمَعُ، يَا أُطْرُوشَ الشَّقْوَةِ أَمَا الْحَدِيثُ

مَعَكَ أَمَا التَّخْوِيفُ لَكَ، وَا عَجَبًا رَجَبٌ الأَصَمُّ أَمْ أَنْتَ: (أَدْمُعِي لِفُرْقَتِكُمْ ... فِي انْهِمَالِهَا سحب) (مسمعي إذ عَذَلُوا ... فِي صَبَابَتِي رَجَبُ) (مَنْ مُبْلِغٌ قَوْمِي عَلَى قُرْبِهِمُ ... وَبُعْدِ أَسْمَاعٍ مِنَ الْوَاعِظِينْ) (هُبُّوا فَقَدْ طَالَتْ بِكُمْ نَوْمَةٌ ... وَانْتَبِهُوا مِنْ رَقْدَةِ الْغَافِلِينْ) (حُثُّوا مَطَايَا الْجِدِّ تَرْفُلْ بِكُمْ ... نَاجِينَ فِي النَّاجِينَ أَوْ مُعْذَرِينْ) (سَلُوا قِبَابَ الْمُلْكِ عَنْ مَعْشَرٍ ... كَانُوا لَهَا مِنْ قَبْلِكُمْ مُبْتَنِينْ) (تُخْبِرْكُمُ عَنْ زَمَنٍ لَمْ يَزَلْ ... يَحْدُو لِقَوْمٍ مَضَوْا لاعِبِينْ) (قَدْ شَاخَ جِدُّ النَّاسِ فِي بَاطِلٍ ... وَضَرَبُوا فِي غَمْرَةٍ حَائِرِينْ) (وَأَطْبَقَ الشَّرُّ عَلَى جَمْعِهِمْ ... وَدَقَّ شَخْصُ الْحَقِّ فِي الْعَالَمِينْ) (وَرَكَضُوا فِي الْجُورِ رَكْضًا فَمَا ... تَحْسَبُهُمْ تَقْوَى حَيَاءً وَدِينْ) (تَسُرُّهُمْ خَضْرَاءُ دُنْيَاهُمْ ... قَدْ أَمِنُوا الدَّهْرَ وَبِئْسَ الْقَرِينْ) (فَإِنْ يَكُونُوا مِنْ أُنَاسٍ دَرَوْا فَإِنَّنِي ... كُنْتُ مِنَ النَّاصِحِينَ) (مَعْذِرَةٌ مِنِّي إِلَى حَاضِرٍ ... وَأَثَرٌ فِي صُحُفِ الْغَابِرِينَ) (يَا عَجَبًا مِنْ نَاصِحٍ لَمْ يُطَعْ ... كَمْ حَازِمٍ قَدْ ضَاعَ فِي الْجَاهِلِينْ) للَّهِ دَرُّ قَوْمٍ فَهِمُوا مِنَ الْوُجُودِ، وَتَأَمَّلُوا الْمَقْصُودَ وَاشْتَغَلُوا بِطَاعَةِ الْمَعْبُودِ، وَانْتَبَهُوا وَالْخَلْقُ رُقُودُ، يَصُفُّونَ الأَقْدَامَ [يُنَاجُونَ الْمَلِكَ الْعَلامَ] وَيَصُفُّونَ الْهِمَمَ، وَيُصَفُّونَ تَقْصِيرَهُمْ وَيُصْفُونَ الشُّكْرَ لِلنِّعَمِ، تَحَمَّلُوا تَعَبَ السَّهَرِ وَكَابَدُوا مَشَقَّةَ الظَّمَإِ، وَأَخْلَصُوا الْعَمَلَ فَزَادَ عَمَلُهُمْ وَنَمَا، وَجَرَى الْقَدَرُ فَرَضُوا وَلَمْ يَعْتَرِضُوا بِلَمْ وَلَمَّا، فَيَا حُسْنَ مُجْتَهِدِهِمْ يَذْكُرُ الذَّنْبَ فَيَبْكِي نَدَمًا. إِخْوَانِي: اسْلُكُوا جَادَّةَ الْقَوْمِ لَعَلَّ مَشَاعِلَهُمْ تَلُوحُ لَكُمْ، تَعَلَّقُوا بِغُبَارِهِمْ لَعَلَّ الْحَادِيَ يُنَوِّهُ بِكُمْ، صَوِّتُوا بِالْقَوْمِ عَسَى يَقِفُ بَعْضُ السَّاقَةِ لَكُمْ، ابْكُوا عَلَى تَأَخُّرِكُمْ لَعَلَّ عَطْفَ الرَّحْمَةِ تَنْعَطِفُ نَحْوَكُمْ. (أُومِضَ لِي عَلَى الْغَوِيرِ بَارِقٌ ... فَهَاجَ مِنْ وميضه التأسف)

(لَهْفِي عَلَى عَيْشٍ مَضَى بِرَامَةٍ ... أَوْرَدَ مُشْتَاقًا بِهِ تَلَهَّفُ) (يَا مَالِكِي رِقِّ الْمُحِبِّ قَسِّمَا ... عَلَيْكُمُ بِحُبِّهِ تَعَطَّفُوا) (وَيَا حُدَاةَ الظَّعْنِ قَدْ أَسْلَمَنِي ... إِلَى الضَّنَا فِرَاقُكُمْ لِي فَقِفُوا) (لَعَلَّنِي أَنْ أَشْتَفِي بِنَظْرَةٍ ... يُبَلُّ مِنْهَا الْمُسْتَهَامُ الْمُدْنِفُ) (ففي الضلوع جمرة ماتنطفي ... وفي الشؤون عِبْرَةٌ مَا تَنْزِفُ) إِخْوَانِي: كَأَنَّكُمْ بِالْحَافِظِ الَّذِي حَرَسَكُمْ وَقَدْ حَصَدَكُمْ بَعْدَ أَنْ غَرَسَكُمْ، وَبَعَثَ الْمَوْتَ فَسَيَّبَ فَرَسَكُمْ وَفَرَسَكُمْ، فَلِينُوا إِلَى التُّقَى فِي هَذِهِ الأَشْهُرِ وَخَلُّوا شَرَسَكُمْ {فَلا تَظْلِمُوا فيهن أنفسكم} . هَذِهِ أَوْقَاتٌ مُعَظَّمَةٌ وَسَاعَاتٌ مُكْرَمَةٌ وَقَدْ صَيَّرْتُمْ ضُحَاهَا بِالذُّنُوبِ عَتَمَةً، فَبَيِّضُوا بِالتَّوْبَةِ صُحُفَكُمُ الْمُظْلِمَةَ، فَالْمَلَكُ يَكْتُبُ خُطَاكُمْ وَنَفَسَكُمْ {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنفسكم} . لَقَدْ ضَيَّعْتُمْ مُعْظَمَ السَّنَةِ فَدَعُوا مِنَ الآنَ هَذِهِ السِّنَةَ، وَاسْمَعُوا الْمَوَاعِظَ فَقَدْ نَطَقَتْ بِأَلْسِنَةٍ، وَدَعُوا الْخَطَايَا فَيَكْفِي مَا قَدْ وَكَسَكُمْ {فَلا تظلموا فيهن أنفسكم} . الْبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ الْفَوْتِ، الْحِذَارَ الْحِذَارَ فَقَدْ قَرُبَ الْمَوْتُ، الْيَقَظَةَ الْيَقَظَةَ فَقَدْ أُسْمِعَ الصَّوْتُ، قَبْلَ أَنْ يُضَيِّقَ الْحِسَابُ مَحْبَسَكُمْ {فَلا تَظْلِمُوا فيهن أنفسكم} . لا بُدَّ أَنْ تَنْطِقَ الْجَوَارِحُ وَتَشْهَدَ عَلَيْكُمْ بالقبائح، فاملأوا الأَوْقَاتَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا نَزَلْتُمْ بُطُونَ الصفائح آنسكم {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} . اعْزِمُوا الْيَوْمَ عَلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ، وَاجْتَهِدُوا فِي إِزَالَةِ الْعُيُوبِ، وَاحْذَرُوا سَخَطَ عَلامِ الْغُيُوبِ، وَاكْتُبُوا عَلَى صَفَحَاتِ الْقُلُوبِ مَجْلِسَكُمْ {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنفسكم} .

المجلس الثالث في ذكر المعراج

المجلس الثالث فِي ذِكْرِ الْمِعْرَاجِ الْحَمْدُ للَّهِ فَالِقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَخَالِقِ الْعَبْدِ وَمَا نَوَى، الْمُطَّلِعِ عَلَى بَاطِنِ الضَّمِيرِ وَمَا حَوَى، بِمَشِيئَتِهِ رَشَدَ مَنْ رَشَدَ وَغَوَى مَنْ غَوَى، وَبِإِرَادَتِهِ فَسَدَ مَا فَسَدَ وَاسْتَوَى مَا اسْتَوَى، صَرَفَ مَنْ شَاءَ إِلَى الْهُدَى وَعَطَفَ مَنْ شَاءَ إِلَى الْهَوَى، قَرَّبَ مُوسَى نَجِيًّا وَقَدْ كَانَ مَطْوِيًّا مِنْ شِدَّةِ الطَّوَى، فَمَنَحَهُ فَلاحًا وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا وَهُوَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طِوَى، وَعَرَجَ بِمُحَمَّدٍ إِلَيْهِ فَرَآهُ بِعَيْنَيْهِ ثُمَّ عَادَ وَفِرَاشُهُ مَا انْطَوَى. فَأَخْبَرَ بِقُرْبِهِ مِنْ رَبِّهِ وَحَدَّثَ بِمَا رَأَى وَرَوَى، فَأَقْسَمَ عَلَى تَصْدِيقِهِ مَنْ حَرَسَهُ بِتَوْفِيقِهِ عَنْ قُوًى {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وما غوى} . أَحْمَدُهُ عَلَى صَرْفِ الْهَمِّ وَالْجَوَى، حَمْدَ مَنْ أناب وارغوى، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِيمَا نَشَرَ وَطَوَى، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وَعُودُ الْهُدَى قَدْ ذَوَى، فَسَقَاهُ مَاءَ الْمُجَاهَدَةِ حَتَّى ارْتَوَى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ صَاحِبِهِ إِنْ رَحَلَ أَوْ ثَوَى، وَعَلَى الْفَارُوقِ الَّذِي وَسَمَ بِجِدِّهِ جَبِينَ كُلِّ جَبَّارٍ وَكَوَى، وعَلَى ذِي النُّورَيْنِ الصَّابِرِ عَلَى الشَّهَادَةِ سَاكِنًا مَا الْتَوَى، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي زَهِدَ فِي الدُّنَيْا فَبَاعَهَا وَمَا احْتَوَى، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي مَنَعَ اللَّهُ بِهِ الْخِلافَةَ عَنْ غَيْرِ نَبِيِّهِ وَزَوَى. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالنَّجْمِ إذا هوى} .

هَذَا قَسَمٌ. وَفِي النَّجْمِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ الثُّرَيَّا. رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الثُّرَيَّا وَهِيَ سِتَّةُ أَنْجُمٍ نَجْمًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ سَبْعَةُ أَنْجُمٍ، فَسِتَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَوَاحِدٌ خَفِيَ يَمْتَحِنُ النَّاسُ بِهِ أَبْصَارَهُمْ. وَالثَّانِي: الرُّجُومُ مِنَ النُّجُومِ، وَهِيَ مَا يُرْمَى بِهِ الشَّيَاطِينُ. رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْقُرْآنُ نَزَلَ نُجُومًا مُتَفَرِّقَةً. رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ يَنْزِلُ نُجُومًا، ثَلاثَ آيَاتٍ وَأَرْبَعَ آيَاتٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالرَّابِعُ: نُجُومُ السَّمَاءِ كُلِّهَا. رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ. فَعَلَى هَذَا هُوَ اسْمُ جِنْسٍ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهَا الزُّهْرَةُ قَالَهُ السُّدِّيُّ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: النَّجْمُ [هُوَ] الثُّرَيَّا يَكُونُ {هوى} بِمَعْنَى غَابَ. وَمَنْ قَالَ: هِيَ الرُّجُومُ يَكُونُ هُوِيُّهَا فِي رَجْمِ الشَّيَاطِينِ وَمَنْ قَالَ الْقُرْآنُ يكون هوى نَزَلَ. وَمَنْ قَالَ نُجُومُ السَّمَاءِ كُلِّهَا فَفِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هُوِيَّهَا حِينَ تَغَيَّبَ. وَالثَّانِي: أَنْ تَنْتَثِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا ضل صاحبكم} هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالْمَعْنَى: مَا ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى وَالْمُرَادُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم {وما غوى} . قوله {وما ينطق عن الهوى} أَيْ مَا يَتَكَلَّمُ بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عن بِمَعْنَى الْبَاءِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ يَقُولُ القرآن من تلقاء نفسه. {ان هو} أي ما القرآن إلا {وحي} من الله {يوحى علمه شديد القوى} أَيْ عَلَّمَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم. وكان من قوته أنه قلع قريات قَوْمِ لُوطٍ وَحَمَلَهَا عَلَى جَنَاحِهِ فَقَلَبَهَا عَلَيْهِمْ. وَصَاحَ بِثَمُودَ فَأَصْبَحُوا خَامِدِينَ.

{فاستوى وهو بالأفق الأعلى} فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا فَاسْتَوَى جِبْرِيلُ، وَهُو يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا بِالأُفُقِ الأَعْلَى لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَالثَّانِي: فَاسْتَوَى جِبْرِيلُ وَهُوَ، يَعْنِي جِبْرِيلَ، بِالأُفُقِ الأَعْلَى عَلَى صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ، لأَنَّهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا هَبَطَ عليه بالوحي فِي صُورَةِ رَجُلٍ، وَأَحَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرَاهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَاسْتَوَى فِي أُفُقِ الْمَشْرِقِ فَمَلأَ الأُفُقَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: فَاسْتَوَى جِبْرِيلُ بِالأُفُقِ الأَعْلَى فِي صُورَتِهِ قاله الزجاج. والأفق الأعلى: مَطْلَعِ الشَّمْسِ وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الأَعْلَى لأَنَّهُ فَوْقَ جَانِبِ الْمَغْرِبِ فِي صَعِيدِ الأَرْضِ لا فِي الْهَوَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} قال الزجاج دنا: بعنى قرب. وتدلى: زاد فِي الْقُرْبِ وَمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ. وَفِي الْمُشَارِ إليه بقوله: {ثم دنا} ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ اللَّهُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ ومسلم في الصحيحين من حديث شريك ابن أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: {ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ} وَقَدْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا مِنْ غَلَطِ شَرِيكٍ رَاوِي أَنَسٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ الدُّنُوُّ لا عَلَى ما يَعْقِلُ فِي الأَجْسَامِ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْبَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا} فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَقَدْ حُصِرَ قَدْرُ الْمَسَافَةِ؟ قُلْنَا: إِنَّهُ مُثِّلَ بِأَقْرَبِ الأَشْيَاءِ كَمَا قَالَ: {وَنَحْنُ أقرب إليه من حبل الوريد} . وَالثَّانِي: ثُمَّ دَنَا مُحَمَّدٌ مِنْ رَبِّهِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ جِبْرِيلَ دَنَا مِنْ مُحَمَّدٍ. قَالَهُ الْحَسَنُ.

وَالْقَابُ: الْقَدْرُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْقَابُ مَا بَيْنَ الْمَقْبِضِ وَالسِّيَةِ، وَهِيَ مَا عَطَفَ مِنْ طرفي القوس. وقال ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَدْرَ قَوْسَيْنِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَرَادَ بالقوسين قوساً واحداً. " أو أدنى " بل أدنى. {فأوحى} اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ما كذب الفؤاد ما رأى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمَعْنَى: مَا أَوْهَمَهُ فُؤَادُهُ أَنَّهُ رَأَى وَلَمْ ير. {ولقد رآه نزلة أخرى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ. وَبَيَانُ هَذَا: أَنَّهُ لَمَّا تَرَدَّدَ لأَجْلِ الصَّلَوَاتِ رَأَى رَبَّهُ مَرَّةً أُخْرَى. وَقَالَ كَعْبٌ: قَسَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَلامَهُ وَرُؤْيَتَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى فَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ، وَكَلَّمَهُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ. قَوْلُهُ تعالى: {عند سدرة المنتهى} السِّدْرَةُ: شَجَرَةُ النَّبْقِ وَهِيَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى لأَنَّ إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُصْعَدُ بِهِ مِنَ الأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَهْبِطُ بِهِ مَنْ فَوْقَهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي عِلْمُ الْمَلائِكَةِ. {عِنْدَهَا جَنَّةُ المأوى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ وهي منزل الشهداء. {إذا يغشى السدرة ما يغشى} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: غَشْيُهَا فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ {ما زاغ البصر} أَيْ مَا عَدَلَ بَصَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يميناً ولا شمالاً {وما طغى} أَيْ مَا جَاوَزَ مَا رَأَى. وَهَذَا كَانَ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمِعْرَاجَ كَانَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: سَنَةٌ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

وَالثَّانِي: سِتَّةُ أَشْهُرٍ. قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَالثَّالِثُ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. ذَكَرَ هَذِهِ الأَقْوَالَ عَنْهُمْ أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ. وَالرَّابِعُ: ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ. فَأَمَّا الْهِجْرَةُ فَإِنَّهَا كَانَتْ فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعِ الأَوَّلِ، أَعْنِي الْيَوْمَ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ. فَعَلَى الْقَوْلِ الأَوَّلِ يَكُونُ الْمِعْرَاجُ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ. وَعَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ يَكُونُ فِي رَمَضَانَ. وَعَلَى الرَّابِعِ يَكُونُ فِي رجب. وقد ذكر محمد بن سعد عن الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُ قَالُوا: كَانَ الْمِعْرَاجُ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا. إِلا أَنَّهُ لَمَّا اشْتُهِرَ ذِكْرُ الْمِعْرَاجِ بِرَجَبٍ ذَكَرْنَاهُ فِيهِ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّيْمِيُّ. أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قال: بينما أنا في الحطيم وَرُبَّمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعٌ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: الأَوْسَطُ بَيْنَ الثَّلاثَةِ. قَالَ فَأَتَانِي فَقَدْ وَسَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي مَا يَعْنِي؟ قَالَ: مِنْ ثَغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ. وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ قَالَ فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي. قَالَ: فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا وَحِكْمَةً فَغُسِلَ قَلْبِي ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: أَهُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ. قَالَ: فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: أو قد بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقِيلَ مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. قَالَ: فَفَتَحَ لَهُ فَلَمَّا خلصت إذا

فِيهَا آدَمُ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عليه. قال: فسلمت عليه فرد السلام قم قَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: محمد. قيل: أو قد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. قَالَ: فَفَتَحَ [لَنَا] فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا بِيَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ، قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا. قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا فَرَدَّا السَّلامَ ثُمَّ قَالا: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قيل: وقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. قَالَ: فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ. قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. قَالَ: فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا إِدْرِيسُ. قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صعد حتى أتى السماء الخامسة فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفَتَحَ لَهُ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا أَنَا بِهَارُونَ. قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أتى السماء السادسة فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفَتَحَ لَهُ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا أَنَا بِمُوسَى. قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لأَنَّ غُلامًا بُعِثَ بَعْدِي

يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي! قَالَ: ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السماء السابعة فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ! قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. قَالَ: فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا إِبْرَاهِيمُ. قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. قَالَ: ثُمَّ رُفِعْتُ إِلى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلالِ هَجَرٍ وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى. قَالَ: وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. قَالَ: ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ. قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ. ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، قَالَ: فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ قَالَ: هَذِهِ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ. قَالَ: ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلاةُ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاةً، وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ قَالَ: فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: بِأَرْبَعِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ أَرْبَعِينَ صَلاةً [فِي] كُلِّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ [وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ] فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ قَالَ: فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا أُخَرَ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِثَلاثِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ ثَلاثِينَ كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إسرائيل

أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ. قَالَ: فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا أُخَرَ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: بعشرين صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ عِشْرِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ. قَالَ: فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، قال: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ. فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ قَالَ: فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يوم، قال: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ [وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخِفْيفَ قَالَ: قُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَيْسَ لِمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ مَرَّ بِآدَمَ وَعَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ آدَمُ وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، عَنْ يَمِينِهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَعَنْ يَسَارِهِ أَهْلُ النَّارِ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ فَرَكِبْتُهُ فَسَارَ بِي حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُ الدَّابَّةَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ فِيهَا الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ دَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ رَكْعَتْيَنِ. وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو ذَرٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَأُمُّ هَانِئٍ فِي آخَرِينَ.

الكلام على البسملة

الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (يَا صَاحِ إِنْ كُنْتَ لَبِيبًا حَازِمًا ... فَكُنْ لأَسْبَابِ الْهَوَى مُرَاغِمَا) (وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَفُوزَ فِي غَدٍ ... فَكُنْ تَقِيًّا وَاهْجُرِ الْمَحَارِمَا) (لا تَهْوَ دُنْيَاكَ فَإِنَّ حُبَّهَا ... رَأْسُ الْخَطَايَا يُكْسِبُ الْمَآثِمَا) (غَدَّارَةٌ فَكُلُّ مَنْ حَلَتْ لَهُ ... لا بُدَّ أَنْ تُذِيقَهُ الْعَلاقِمَا) (وَإِنَّهَا تَخْدِمُ مَنْ أَهَانَهَا ... كَمَا تُهِينُ مَنْ أَتَاهَا خَادِمَا) (فَكُنْ بِهَا مِثْلَ غَرِيبٍ مُصْلِحٍ ... أَزْوَادَهُ عَلَى الرَّحِيلِ عَازِمَا) (فَإِنَّمَا عُمْرُ الْفَتَى سُوقٌ لَهُ ... يَرُوحُ عَنْهَا خَاسِرًا وَغَانِمَا) (يَا عَجَبًا لِمَعْشَرٍ أَتَتْهُمُ ... الدُّنْيَا فَلَمْ يَبْنُوا بِهَا الْمَكَارِمَا) (وَلا شَرَوْا مَعَ عِلْمِهِمْ زَوَالَهَا ... بِهَا جِنَانًا وَنَعِيمًا دَائِمَا) (إِيَّاكَ وَالتَّسْوِيفَ فَالْعَاقِلُ مَنْ ... يُنْجِزُ مَا كَانَ عَلَيْهِ عَازِمَا) (وَإِنَّمَا الْمَوْتُ مُغِيرٌ هَائِلٌ ... أَعْظِمْ بِهِ عَلَى النُّفُوسِ هَاجِمَا) (وَالْقَبْرُ إِمَّا رَوْضَةٌ لِلْمُتَّقِي ... أَوْ حُفْرَةُ النَّارِ تُصِيبُ الظَّالِمَا) (يَا لَهْفَتِي مِنَ اشْتِقَاقِ حُفْرَتِي ... وَمَحْشَرِي إِلَى الْحِسَابِ رَاغِمَا) (وَمَوْقِفِي أُسْأَلُ عَمَّا قَدْ جَنَتْ ... يَدَايَ مِنْ سُوءٍ فَأَبْقَى وَاجِمَا) (وَحِينَ يَأْتِينِي كِتَابِي فَأَرَى ... فِيهِ الَّذِي أَتَيْتُهُ مُكَاتِمَا) (فَإِنْ يُنَاقِشْنِي فَعَبْدٌ هَالِكٌ ... وَإِنْ عَفَا نَجَوْتُ مِنْهَا سَالِمَا) إِخْوَانِي: هَذَا شَهْرُ رَجَبٍ قَدْ رَحَلَ أَكْثَرُهُ وَبَانَ، وَنُورُ شَعْبَانَ قَدْ لاحَ وَبَانَ، وَقَدْ سَارَ إِلَى دِيَارِ الْفَوْزِ رُكْبَانٌ، وَأَقْدَمَ الشُّجَاعُ وَوَلَّى الْجَبَانُ، هَذَا الشَّهْرُ الأَصَمُّ يُؤْذِنُكُمْ بِإِقْلاعِهِ وَيُخْبِرُكُمْ بِرَحِيلِهِ وَوَدَاعِهِ، فَأَيُّكُمْ وَدَّعَهُ وَقَدْ أَوْدَعَهُ مَا يَنْفَعُهُ غَدًا، وَأَيُّكُمْ دَاوَمَ الْمَعَاصِيَ فَلَمْ يُقْلِعْ حَتَّى غَدَا، وَيْلٌ لِمَنْ ذَهَبَ عَنْهُ شَهْرُ رَجَبٍ وَانْصَرَمَ وَهُوَ فِي عِدَادِ مَنْ هَجَرَ الْهُدَى وَصَرَمَ، كَيْفَ يَرْجُو الْفَضْلَ وَالْكَرَمَ مَنِ اجْتَرَمَ وَمَا احْتَرَمَ. أَكْثَرُ هَذَا الشَّهْرِ قَدْ مَضَى وَتَوَلَّى عَنْكُمْ معرضاً، وباقيه قد نادى للتوبة

معرضاً، فَاحْذَرُوا أَنْ يَفُوتَكُمُ الْغُفْرَانُ مَعَ الرِّضَا. أَيْنَ مَنِ اسْتَدْرَكَ بَاقِيَ سَاعَاتِهِ وَقَضَى، وَطَالَبَ نَفْسَهُ بِالإِنَابَةِ وَاقْتَضَى، أَيْنَ مَنْ خَافَ لَهَبَ السَّعِيرِ وَحَرَّ لَظَى، فَبَادَرَ إِلَى مَا يُؤْثَرُ مِنَ الْخَيْرِ وَيُرْتَضَى، أَيْنَ مَنْ جَرَّدَ سَيْفَ التَّوْبَةِ عَلَى الْخَطَايَا وَانْتَضَى، قَبْلَ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ التَّحْرِيضَ حَرَضًا. آهٍ لأَوْقَاتٍ مَضَتْ مِنْ رَجَبٍ لا سَبِيلَ إِلَى رُجُوعِهَا، وَأَهْلا بِنُفُوسٍ صَبَرَتْ فِيهِ عَلَى عَطَشِهَا وَجُوعِهَا، وَيَا أَسَفَا لأَعْمَالٍ مَا يُقْبَلُ شَيْءٌ مِنْ مَرْفُوعِهَا، وَلأَصْوَاتٍ رُدَّتْ لِعَدَمِ صِدْقِ مَسْمُوعِهَا. إِخْوَانِي: فَارِقُوا خَطَايَاكُمْ قَبْلَ مُفَارَقَتِهِ، وَسَابِقُوا بِالتَّوْبَةِ رَحِيلَهُ قَبْلَ مُسَابَقَتِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأَوْقَاتَ عَلَيْكُمْ شَاهِدَةٌ بِمَا هِيَ مِنْكُمْ مُشَاهِدَةٌ. فَالْحِذَارَ الْحِذَارَ أَنْ يَفُوتَ وَقْتُ الاقْتِدَارِ، فَمَا زَالَتِ الدُّنْيَا تَخْدَعُ وَتَغُرُّ ثُمَّ تَرْحَلُ وَتَمُرُّ. (غَنَّتْكَ دُنْيَاكَ الْخَلُوبُ ... وَحُبُّهَا فِي الْكَفِّ عود) (أما إساءتها فقد ... كانت وحسناها وعود) لِغِرْبَانِ الْمَوْتِ عَلَى دِيَارِنَا نَعيِبٌ، وَنَحْنُ نَحْرِصُ عَلَى مَا لِطَالِبِهِ نَعِيبُ، الْخَلْقُ بِأَسْرِهِمْ فِي قَبْضَةِ التَّلَفِ أَسْرَى، وَمَا يَعُدُّونَهُ أَرْبَاحًا يَعُودُ غَدًا خُسْرًا، سَيْفُ الْمَنُونِ مَا يَنْبُو وَلا يَقْنَعُ، وَبَطْنُ الأَرْضِ يَأْكُلُ الْخَلائِقَ وَمَا يَشْبَعُ. إِخْوَانِي: لا لِلْمَوْتِ بِالاسْتِعْدَادِ تَنْتَظِرُونَ، وَلا بِالْقُلُوبِ فِي الذِّكْرِ تَحْضُرُونَ، وَكَأَنَّكُمْ لِلتَّلَفِ تَأْمَنُونَ أَوْ بالوعيد ما تؤمنون، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّكُمْ تَرْحَلُونَ، أَمَا تَرَوْنَ الأَقْرَانَ أَيْنَ يَنْقَلِبُونَ، كَأَنَّنَا وَاللَّهِ بِنَا إِذْ قَدِمْنَا وَقَدْ نَدِمْنَا، وَوُضِعَ الْحِسَابُ وَقُدِّمْنَا، وَطَلَبْنَا مَا يُرْضِي مِنَ الْعَمَلِ فَعَدِمْنَا، وَرَبِحَ الْمُتَّقُونَ بِالتُّقَى وَحُرِمْنَا، وَأَقَمْنَا لِقِرَاءَةِ الصُّحُفِ فَلَمَّا فَهِمْنَا هِمْنَا، فَرَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا اسْتَدْرَكَ بَقِيَّةَ هَذَا الشَّهْرِ فَرُبَّمَا لا يَرَى مِثْلَهُ فِي الدَّهْرِ، قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِشِدَّةِ الْقَهْرِ وَيُحَاسَبَ عَلَى فِعْلِ السِّرِّ وَالْجَهْرِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ الْيَوْمَ السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ يَوْمٌ مُعَظَّمٌ.

أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَنْصَارِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن علي الآبنوسي، أنبأنا عبد الملك ابن عُمَرَ الْبَزَّارُ، أَنْبَأَنَا أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ، عَنِ ابْنِ أَبِي شَوْذَبٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ شهر ابن حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " مَنْ صَامَ يَوْمَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ كُتِبَ لَهُ صيام ستين شهراً ". وهو اليوم الَّذِي نَزَلَ فِيهِ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوَّلُ يَوْمٍ هَبَطَ فِيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا} مَعْنَى التَّسْبِيحِ: التَّنْزِيهُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَبَّحَ نَفْسَهُ عِنْدَ كُلِّ عَظِيمٍ لَمَّا كَانَ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ عَجَائِبِ الأُمُورِ وَمِمَّا لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، ثُمَّ ادَّعَى الْمُشْرِكُونَ وُجُودَ شَرِيكٍ مَعَهُ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تمسون وحين تصبحون} وَلَمَّا اخْتَارَ عَائِشَةَ لِنَبِيِّهِ فَقُذِفَتْ سَبَّحَ نَفْسَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِلْمُخْتَارِ إِلا خَيِّرَةً فَقَالَ: {سُبْحَانَكَ هذا بهتان عظيم} وَلَمَّا أَسْرَى بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَذَّبَهُ الْكُفَّارُ سَبَّحَ نَفْسَهُ لأَنَّ قُدْرَتَهُ لا تُعْجَزُ. وَالْمُنْعَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَهْلٌ فَقَالَ: {سُبْحَانَ الذي أسرى بعبده ليلا} . وأسرى بِمَعْنَى سَيْرُ عَبْدِهِ. وَيُقَالُ: سَرَيْتُ وَأَسْرَيْتُ، إِذَا سِرْتُ لَيْلا. وَقَدْ جَاءَتِ اللُّغَتَانِ فِي الْقُرْآنِ. قال تعالى: {والليل إذا يسر} . والمراد بعبده ها هنا: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وتعالى: {من المسجد الحرام} فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْمَسْجِدِ قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ: {بَيْنَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ أَوْ فِي الْحِجْرِ} .

الثَّانِي: أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هانئ. ذكر جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَعَلَى هَذَا يَعْنِي بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ. وَأَمَّا الْمَسْجِدِ الأَقْصَى فهو بيت المقدس. وقيل له الأقصى لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ. وَمَعْنَى {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الأَنْهَارَ وَأَنْبَتَ الأَشْجَارَ. وَقِيلَ إِنَّهُ مَقَرُّ الأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطُ الْمَلائِكَةِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَصَلَّى فِيهِ بِالأَنْبِيَاءِ ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْمِعْرَاجَ مِنْ هُنَالِكَ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ كَذَلِكَ لأَرْبَعَةِ فَوَائِدَ: الْفَائِدَةُ الأُولَى: أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بِصُعُودِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِي بَدْءِ الْحَدِيثِ لاشْتَدَّ إِنْكَارُهُمْ وَلَوْ وَصَفَهَا لَهُمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَوَصَفَهُ لَهُمْ دَلَّ صِدْقُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلا اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ ". وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْبَحَ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِذَلِكَ فَسَعَى رِجَالٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إلى بيت المقدس؟ قال: وقد قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ. قَالُوا: تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الشَّامِ فِي لَيْلَةٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنِّي لأُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ. فَلِذَلِكَ سمي أبوبكر الصِّدِّيقَ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ سَيَّرَهُ فِي الأَرْضِ يَسْتَأْنِسُ ثُمَّ دَرَجَ إِلَى الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا موسى} فلما أَنِسَ بِالْخِطَابِ حَمَلَ الرِّسَالَةَ إِلَى فِرْعَوْنَ.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الأَنْبِيَاءَ جُمِعُوا هُنَالِكَ فَصَلَّى بِهِمْ فَبَانَ فَضْلُهُ بِالتَّقْدِيمِ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ. وَكَانَ ائْتِمَامُهُمْ بِهِ مُشِيرًا إِلَى نَسْخِ شَرَائِعِهِمْ بِشَرْعِهِ. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ مَرَّ بِالنَّوَاحِي الَّتِي كُلِّمَ عِنْدَهَا مُوسَى، ثُمَّ صَعِدَ فَكُلِّمَ فِي السَّمَوَاتِ لِيُظْهِرَ التَّفَاوُتَ بِتَقْدِيمِهِ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَعْبٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ رَبِّي تَبَارَكَ وتَعَالَى ". وَقَدْ تَعَلَّقَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بِإِنْكَارِ عَائِشَةَ أَنْ يَكُونَ رَآهُ. وَالْجَوَابُ مِنْ ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَأْيٌ مِنْهَا لا رِوَايَةٌ، فَلا يُقَاوِمُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " رَأَيْتُ رَبِّي ". وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَفَتْ وَالْعَمَلُ عَلَى الإِثْبَاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَنِ الْمِعْرَاجِ صَغِيرَةً وَلَمْ تَكُنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُ الرِّجَالِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ. وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ مَنَامًا. وَيَرُدُّ قَوْلَهُمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَا قَالَ، وَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ. وَقَدْ رَأَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابن أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ

زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قُلْتُ مَنْ هَؤُلاءِ قَالَ: خُطَبَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا يَعْقِلُونَ ". إِخْوَانِي: قِفُوا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ عَلَى قَدَمِ الشُّكْرِ، تَارَةً لِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ مِنْ إِسْرَائِهِ، وَتَارَةً لِلإِنْعَامِ عَلَيْكُمْ بِالإِيمَانِ بِمِعْرَاجِهِ، وَالَّذِي نَالَهُ الْمُصْطَفَى مِنَ الارْتِفَاعِ وَالْعُلُوِّ يَحُثُّ أُمَّتَهُ عَلَى الْتِمَاسِ الْقُرْبِ وَالدُّنُوِّ، فَالسَّعِيدُ مَنْ تَأَهَّبَ لِلِقَاءِ رَبِّهِ بِتَأْدِيبِ نَفْسِهِ وَتَطْهِيرِ قَلْبِهِ. بِأَيِّ عَيْنٍ تَرَانِي يَا مَنْ بَارَزَنِي وَعَصَانِي، بِأَيِّ وَجْهٍ تَلْقَانِي، يَا مَنْ نَسِيَ عَظَمَةَ شَأْنِي خَابَ الْمَحْجُوبُونَ عَنِّي وَهَلَكَ الْمُبْعَدُونَ مِنِّي: (يَا مَنْ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ ... بِدُخُولِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (إِنْ كُنْتَ مُتَّقِيًا فَأَنْتَ ... عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ) (لا تَرْجُوَنَّ سَلامَةً ... مِنْ غَيْرِ مَا قَلْبٍ سَلِيمِ) (فَاسْلُكْ طَرِيقَ الْمُتَّقِينَ ... وَظُنَّ خَيْرًا بِالْكَرِيمِ) (وَاذْكُرْ وُقُوفَكَ خَائِفًا ... وَالنَّاسُ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ) (إِمَّا إِلَى ذُلِّ الشَّقَاوَةِ ... أَوْ إِلَى الْعِزِّ الْمُقِيمِ) (فَاجْعَلْ تُقَاكَ وِقَايَةً ... فِي الْحَشْرِ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) (وَاغْنَمْ حَيَاتَكَ وَاجْتَهِدْ ... وَأَنْبِ إِلَى الرَّبِّ الرَّحِيمِ) سُبْحَانَ مَنْ أَسْرَى بِعَبْدِهِ فَأَصْبَحَ الْحُسَّادُ أَسْرَى، قَصَرَتْ دَوَلْتُهُ قَيْصَرَ وَكَسَرَتْ هَيْبَتُهُ كِسْرَى، أَقَامَهُ بِاللَّيْلِ مِنْ وِطَائِهِ وَدِثَارِهِ، وَرَفَعَهُ فوق السماوات بِقُوَّتِهِ وَاقْتِدَارِهِ، وَأَرَاهُ مَا فِي جَنَّتِهِ وَمَا فِي نَارِهِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى مِنْ أَسْرَارِهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي اللَّيْلِ إِلَى مَسْكَنِهِ وَقَرَارِهِ، وَجَاوَزَ أُفُقَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَعَلا عَلَى الْمَلائِكَةِ وَالْبَشَرِ، وَفَازَ بِالتَّقْرِيبِ وَالنَّظَرِ، وَمَا حَضَرَ أَحَدٌ قَطُّ حَيْثُ حَضَرَ، ارْتَقَى إِلَى مَقَامِ الْقُرْبِ بِقَدَمَيْهِ، وَالأَمْلاكُ تَحِفُّ بِهِ مِنْ جَانِبَيْهِ، وجبريل يمشي

خَادِمًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالرَّبُّ قَدْ أَنْعَمَ بِتَقْرِيبِهِ إِلَيْهِ، وَكَشَفَ لَهُ الْحِجَابَ حَتَّى رَآهُ بِعَيْنَيْهِ، فَحَمَاهُ بِأَلْطَافِهِ مِنَ الزَّيْغِ فِي طَرِيقِهِ، وَأَيَّدَهُ بِإِسْعَافِهِ وَإِسْعَادِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَعَضَّدَهُ فِي صِدْقِهِ بِتَصْدِيقِ صَدِيقِهِ، سُبْحَانَ مَنْ رَفَعَهُ فَوْقَ الأَفْلاكِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَالأَمْلاكِ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ أَهْلٌ لِذَاكَ، لأَنَّهُ أَطْوَلُ الْقَوْمِ فِي جِهَادِ أَهْلِ الإِشْرَاكِ ذيلاً {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} . طَيَّبَهُ بِأَزْكَى الْخَلائِقِ ثُمَّ رَفَعَهُ [عَلَى أَزْكَى الْخَلائِقِ] فَوْقَ السَّبْعِ الشِّدَادِ الطَّرَائِقِ، فَيَا فَخْرَ ذَاكَ الْمُقَدَّمِ السَّابِقِ رَجْلا وَخَيْلا {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بعبده ليلا} . أَوْقَدَ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ سِرَاجَهُ، وَشَادَ قَوَاعِدَ دِينِهِ وَأَبْرَاجِهِ، وَقَوَّى دَلِيلَهُ وَأَظْهَرَ احْتِجَاجِهِ، فَالْخِزْيُ كُلُّ الْخِزْيِ لِمَنْ جَحَدَ مِعْرَاجَهُ وَيْلا لَهُ وَيْلا {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} . كَلَّمَهُ كِفَاحًا، وَمَنَحَهُ فَلاحًا، وَسَقَاهُ مِنْ شَرَابِ الْمَحَبَّةِ رَاحًا يَمِيلُ بِأَعْطَافِهِ مَيْلا {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بعبده ليلا} . أَصْلَحَ بِتَدْبِيرِهِ طِبَاعَ الْمَرْضَى، وَجَعَلَ طَاعَتَهُ عَلَى الْخَلْقِ فَرْضًا، وَضَمِنَ أَنْ يُعْطِيَهُ حَتَّى يَرْضَى، كَيْلا يَحْصُرُ مَا يُعْطَى وَزْنًا وَكَيْلا {سُبْحَانَ الذي أسرى بعبده ليلا} . عَاشَ فِي الدُّنْيَا بِالْقَنَاعَةِ، وَصَبَرَ عَلَى الْفَقْرِ وَالْمَجَاعَةِ، وَيَكْفِيهِ فَخْرًا شَرَفُ الشَّفَاعَةِ، وَشَغَلَهُ ذِكْرُ الْقِيَامَةِ وَالسَّاعَةِ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا أَوْ قَيْلا {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} . كَانَ يَجُوعُ فَيَشُدُّ الْحَجَرَ، وَيَفْتَقِرُ فَيُصَابِرُ الضَّرَرَ، رَاضِيًا بِالظَّمَإِ وَقَطْرُ الْمَطَرِ مِنْ سَحَابِ الدُّنْيَا يَجْرِي سَيْلا {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا} . سُبْحَانَ مَنْ شَرَّفَنَا بِهَذَا الرَّسُولِ، وَرَزَقَنَا مُوَافَقَةَ الْمَنْقُولِ، فَنَحْنُ أَهْلُ السُّنَّةِ لا أَهْلُ الْفُضُولِ، لا نَزَالُ عَلَى الصِّرَاطِ وَلا نَزُولُ، مَا نَعْرِفُ مَيْلا {سُبْحَانَ الَّذِي

أسرى بعبده ليلا} . فَخْرُ نَبِيِّنَا أَجَلُّ وَأَعْلَى، وَمَنَاقِبُهُ مِنَ الشَّمْسِ أَجْلَى، وَذِكْرُهُ فِي قُلُوبِنَا وَاللَّهِ أَحْلَى عِنْدَ قَيْسٍ مِنْ لَيْلَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ليلا} . والحمد لله وحده.

المجلس الرابع في ذكر فضائل شعبان

المجلس الرابع فِي ذِكْرِ فَضَائِلِ شَعْبَانَ الْحَمْدُ للَّهِ أَحَقُّ مَنْ شُكِرَ وَأَوْلَى مَنْ حُمِدَ، وَأَكْرَمُ مَنْ تَفَضَّلَ وَأَرْحَمُ مَنْ قَصَدَ، الْمَعْرُوفُ بِالدَّلِيلِ وَبِالدَّلِيلِ عُبِدَ، الْقَدِيمُ لَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَلِدْ، أَحَاطَ عِلْمًا بِالْمَعْلُومَاتِ وَحَوَاهَا، وَأَنْشَأَ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْقُدْرَةِ وَبَنَاهَا، وَأَظْهَرَ الْحُكْمَ فِي الْمَوْجُودَاتِ إِذْ بَرَاهَا، وَمَنْ يتيح حُكْمَهَا لَمَّا رَآهَا فَلْيَنْظُرْ بِالْفَهْمِ وَلْيَفَتَقَّدْ، تَعَرَّفْ إِلَى خَلْقِهِ بِالْبَرَاهِينِ الظَّاهِرَةِ، وَأَظْهَرَ فِي مَصْنُوعَاتِهِ الْعَجَائِبَ الْبَاهِرَةَ، وَتَفَرَّدَ فِي مُلْكِهِ بِالْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ، وَوَعَدَ الْمُتَّقِينَ الْفَوْزَ فِي الآخِرَةِ، فَالْبُشْرَى لِلْمَوْعُودِ بما وعد. تعالى أن يشبه ما صَنَعَهُ وَأَنْ يُقَاسَ بِمَا جَمَعَهُ، سُبْحَانَهُ لا وَزِيرَ لَهُ وَلا شَرِيكَ مَعَهُ، نَادَى مُوسَى لَيْلَةَ الطُّورِ فَأَسْمَعَهُ، فَاعْلَمْ هَذَا وَاعْتَقِدْ وَتَمَسَّكْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلا تَمِلْ عَنْهُمَا وَسَلِّمْ إِلَيْهِمَا وَتَسَلَّمِ الْعِلْمَ مِنْهُمَا ولا تَنْطِقْ بِرَأْيِكَ وَظَنِّكَ فِيهِمَا، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ لا تُنْقِصْ وَلا تَزِدْ. أَحْمَدُهُ حَمْدًا إِذَا قِيلَ صَعِدَ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ خَيْرِ مَوْلُودٍ وُلِدَ. عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: " حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ: قَالَتْ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولُ لا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ ".

وَفِي لَفْظٍ انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ قَالَتْ: كَانَ يصومه إلا قليلا. أخبرنا محمد نَاصِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَصِلَهُ بِرَمَضَانَ، وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ شَهْرًا تَامًّا إِلا شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَعْبَانَ لَمِنْ أَحَبِّ الشُّهُورِ إِلَيْكَ أَنْ تَصُومَهُ. فَقَالَ: " نَعَمْ يَا عَائِشَةُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ فِي سَنَةٍ إِلا كُتِبَ أَجَلُهَا فِي شَعْبَانَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُكْتَبَ أَجَلِي وَأَنَا فِي عِبَادَةِ رَبِّي وَعَمَلٍ صَالِحٍ ". وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُكَ تَصُومُ فِي شَعْبَانَ صَوْمًا لا تَصُومُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الشُّهُورِ إِلا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ: " ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَشَهْرِ رَمَضَانَ تُرْفَعُ فِيهِ أَعْمَالُ النَّاسِ، فَأُحِبُّ أَنْ لا يُرْفَعَ عَمَلِي إِلا وَأَنَا صَائِمٌ ". وَاعْلَمْ أَنَّ الأَوْقَاتَ الَّتِي يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهَا مُعَظَّمَةُ الْقَدْرِ لاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْعَادَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَإِذَا ثَابَرَ عَلَيْهَا طَالِبُ الْفَضْلِ دَلَّ عَلَى حِرْصِهِ عَلَى الْخَيْرِ. وَلِهَذَا فُضِّلَ شُهُودُ الْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ لِغَفْلَةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَفُضِّلَ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وَفُضِّلَ قِيَامُ نِصْفِ اللَّيْلِ وَوَقْتِ السَّحَرِ. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ يَصُومُونَ رَجَبًا فَقَالَ: " فَأَيْنَ هُمْ عَنْ صِيَامِ شَعْبَانَ ". قَالَتْ لُؤْلُؤَةُ مَوْلاةُ عَمَّارٍ: كَانَ عَمَّارٌ يَتَهَيَّأُ لِصَوْمِ شَعْبَانَ كَمَا يَتَهَيَّأُ لِصَوْمِ رَمَضَانَ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلائِيُّ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ أَغْلَقَ حَانُوتَهُ وَتَفَرَّغَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ. وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ شهيل، قَالَ: قَالَ شَعْبَانُ: يَا رَبِّ جَعَلْتَنِي بَيْنَ شهرين عظيمين فمالي؟ قَالَ: جَعَلْتُ فِيكَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي حَدِيثٍ أَنَّ الآجَالَ تُكْتَبُ فِي شَعْبَانَ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " تُقْطَعُ

الكلام على البسملة

الآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى شَعْبَانَ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ وَلَقَدْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى ". فَهَذَا الْحَدِيثُ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ لَمْ يُعَيَّنْ فِيهِمَا مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ شَعْبَانَ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ تُنْسَخُ فِيهَا الآجَالُ وَالأَرْزَاقُ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، إِذَا كَانَ هِلالُ شَعْبَانَ دُفِعَ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ صَحِيفَةٌ يَقْبِضُ مَنْ فيها إلى شبعان مِنْ قَابِلُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْرِسُ الْغَرْسَ وَيَبْنِي الْبُنْيَانَ وَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ وَيَظْلِمُ وَيَفْجُرُ وَمَا لَهُ فِي السَّمَاءِ اسْمٌ وَمَا اسْمُهُ إِلا فِي صَحِيفَةِ الْمَوْتَى إِلَى أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُهُ الذي يقبض فيه أو ليلته. فيا أيها الْغَافِلُ تَنَبَّهْ لِرَحِيلِكَ وَمَسْرَاكَ، وَاحْذَرْ أَنْ تُسْتَلَبَ عَلَى مُوَافَقَةِ هَوَاكَ، انْتَقِلْ إِلَى الصَّلاحِ قَبْلَ أَنْ تُنْقَلَ، وَحَاسِبْ نَفْسَكَ عَلَى مَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ، وَلا تَغْفُلْ عَنِ التَّدَارُكِ اللَّهَ اللَّهَ لا تَفْعَلْ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (قَدْ آنَ بعد ظلام الجهل إبصاري ... الشيب صح يُنَاجِينِي بِإِسْفَارِ) (لَيْلُ الشَّبَابِ قَصِيرٌ فَاسْرِ مُبْتَدِرًا ... إِنَّ الصَّبَاحَ قُصَارَى الْمُدْلِجِ السَّارِي) (كَمِ اغْتِرَارِي بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... أَبْنِي بِنَاهَا عَلَى جُرْفٍ لَهَا هَارِي) (وَوَعْدُ زُورٍ وَعَهْدٌ لا وَفَاءَ لَهُ ... تعلم الغدر منها كل غدار) (دار مآنها تَبْقَى وَلَذَّتُهَا ... تَفْنَى أَلا قَبَّحْتَ هَاتَيْكَ مِنْ دَارِ) (فَلَيْتَ إِذْ صَفِرَتْ مِمَّا كَسِبَتْ يَدِي ... لَمْ تَعْتَلِقْ مِنْ خَطَايَاهَا بِأَوْزَارِ) (لَيْسَ السَّعِيدُ الَّذِي دُنْيَاهُ تُسْعِدُهُ ... إِنَّ السَّعِيدَ الَّذِي يَنْجُو مِنَ النَّارِ) لَقَدْ بَالَغَتِ الْمَوَاعِظُ وَبَلَّغَتْ أَيَّ إبلاغ وأي بلوغ، وأنت تتلون هَكَذَا وَهَكَذَا ثُمَّ تَرُوغُ إِيَّاكَ وَسُؤْرَ الْهَوَى فَسُؤْرُ الْهَوَى مَا يَسُوغُ، وَقَدْ رَأَيْتَ غَيْرَكَ أَفَلا يَتَّعِظُ الْمَلْدُوغُ، يَا مُمْحِلا قَدْ أَجْدَبَ عامه، يا مغرقاً قد أهلك قلبه سلمه،

يَا مَقْتُولَ الْهَوَى قَدْ قَطَعَهُ حُسَامُهُ. أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّامِيَ لا تَطِيشُ سِهَامُهُ، أَيْنَ الظباء الكنس، اأين الْكَمِيُّ الأَشْوَسُ، أَيْنَ مَنْ تَكَبَّرَ وَعَبَسَ تَسَاوَى فِي الْقُبُورِ اللَّيِّنُ وَالأَحْمَسُ، وَاعْتَدَلَ فِي اللُّحُودِ النَّطُوقُ وَالأَخْرَسُ، وَرَمَى الْكُلَّ سَهْمُ الْمَنُونِ فَقَرْطَسَ، وعروا في العراء من حللهم فَتَمَاثَلَ الْمُلْبَسُ. (وَنَادَتْنَا الرُّسُومُ وَهُنَّ صُمٌّ ... وَمَنْطِقُهَا الْمَعَاجِمُ وَالسِّطَارُ) (وَكَانَ الْيَأْسُ أَجْمَلَ فَانْصَرَفْنَا ... وَدَمْعُ الْعَيْنِ مَجْرَاهُ انْحِدَارُ) زَارَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قُبُورَ آبَائِهِ ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: نَادَانِيَ التُّرَابُ: أَلا تَسْأَلْنِي عَمَّا صنعت بأحبابك؟ فقلت: ما فعلت؟ قال: فَصَلْتُ الْكَفَّيْنِ مِنَ السَّاعِدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ مِنَ السَّاقَيْنِ، وَفَعَلْتُ وَفَعَلْتُ. فَلَمَّا وَلَّيْتُ نَادَانِي: أَلا أَدُلُّكَ على كف لا يَبْلَى؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: التَّقْوَى. إِخْوَانِي: سَلُوا الْمَقَابِرَ بِأَلْسِنَةِ الْفِكْرِ تُجِبْكُمْ بِكَلامِ الْعِبَرِ: (عُوجُوا فَحَيُّوا لِنُعْمٍ دِمْنَةَ الدَّارِ ... مَاذَا تُحَيُّونَ من نؤى وأحجار) (أقوى وأقفر مِنْ نُعْمٍ وَغَيَّرَهَا ... هَوْجُ الرِّيَاحِ بِهَارِي التُّرْبِ مَوَّارِ) (وَقَفْتُ فِيهَا سَرَاةَ الْيَوْمِ أَسْأَلُهَا ... عَنْ آلِ نُعْمٍ أَمَوْنًا عَبْرَ أَسْفَارِ) (فَاسْتَعَجَمَتْ دَارُ نعمى مَا تُكَلِّمُنَا ... وَالدَّارُ لَوْ كَلَّمَتْنَا ذَاتُ أَخْبَارِ) (فَمَا وَجَدْتُ بِهَا شَيْئًا أُعِيجُ بِهِ ... إِلا الثُّمَامَ وَإِلا مَوْقِدَ النَّارِ) أَمَا يَكْفِي الْعَاقِلَ تَجَارِبُهُ، أَمَا أَيْقَظَ الْفَطِنَ نَوَائِبُهُ، غَلَبَ الْمَوْتُ فَمَنْ ذَا يُغَالِبُهُ، قَهَرَ الْخَلْقَ فَمَنْ ذَا يحاربه، كأنكم به قد دبت عقاربه، قل للمفرط وقد حانت مَصَائِبُهُ، الْقَلْبُ غَائِبٌ فَكَيْفَ نُعَاتِبُهُ، لَقَدْ قَتَلَ الهوى آلة بلا آلة فما لكم وماله، خَلُّوا لَهُ مَالَهُ، كَمْ طَالَبَ مُرَادَ مَا نَالَهُ، كَمْ لَذَّةٍ أَفْنَيْتَ وَأَبْقَتْ قَالَةً، إِيَّاكُمْ وإيا الدنيا فَإِنَّهَا مُحْتَالَةٌ. (وَمَكَاسِبُ الدُّنْيَا وَإِنْ كَثُرَتْ فَمَا ... يَبْقَى سِوَى تَبِعَاتِهَا وَالْمَأْثَمِ) (فَعَلَيْكَ بِالْفِعْلِ الْجَمِيلِ فَإِنَّهُ ... أُنْسُ الْمُقِيمِ غَدًا وَزَادُ الْمُعْدَمِ)

الكلام على قوله تعالى

كَانَ حَبِيبٌ الْعَجَمِيُّ إِذَا أَصْبَحَ بَكَى، وَإِذَا أَمْسَى بَكَى فَسُئِلَتْ زَوْجَتُهُ عَنْ بُكَائِهِ، فَقَالَتْ: يَخَافُ وَاللَّهِ إِذَا أَمْسَى أَنْ لا يُصْبِحَ وَإِذَا أَصْبَحَ أَنْ لا يُمْسِيَ، يَقُولُ لِي: إِنْ مِتُّ فَافْعَلِي كَذَا وَاصْنَعِي كَذَا. وَكَانَ شُمَيْطُ بْنُ عَجْلانَ يَقُولُ: أَيُّهَا الْمُغْتَرُّ بِصِحَّتِهِ أَمَا رَأَيْتَ مَيِّتًا مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ أَيُّهَا الْمُغْتَرُّ بِطُولِ الْمُهْلَةِ أَمَا رَأَيْتَ مَأْخُوذًا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ؟! كَانَ شَيْخٌ مُتَعَبِّدٌ فِي تَيْمِ اللَّهِ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ فِتْيَانُ الْحَيِّ فَيَعِظُهُمْ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَتَفَرَّقُوا قَالَ: يَا إِخْوَتَاهْ قُومُوا قِيَامَ قَوْمٍ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْمُعَاوَدَةِ لِمَجْلِسِهِمْ خَوْفًا مِنْ وَرَطَاتِ الذُّنُوبِ وَخَوْفًا مِنْ خَطَفَاتِ الْمُوَكَّلِ بِالنُّفُوسِ فَيَبْكِي. وَيُبْكِي. وَكَانَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ يَقُولُ: إِلَى مَتَى تَقُولُ غَدًا أَفْعَلُ كَذَا وَبَعْدَ غَدٍ أَفْعَلُ كَذَا أَغَفَلْتَ سَفَرَكَ الْبَعِيدَ وَنَسِيتَ الْمَوْتَ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ دُونَ غَدٍ ليلة تحترم فِيهَا أَنْفُسٌ، أَمَا رَأَيْتَ صَرِيعًا بَيْنَ أَحْبَابِهِ لا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّ جَوَابِهِمْ؟! (مَضَى أُنَاسٌ وأصبحنا على ثقة ... أنا سنتبع بالأشجان تعتلج) (إِنْ أَدَلْجُوا وَتَخَّلْفَنَا وَرَاءَهُمُ ... وَمَا نَسِيرُ فَإِنَّا سَوْفُ نُدَّلَجُ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمنوا وعملوا الصالحات} قَامَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لَيْلَةً إِلَى الصَّبَاحِ بِهَذِهِ الآيَةِ وَكَذَلِكَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ قَامَ بِهَا لَيْلَةً لَمْ يَزِدْ. قَالَ الْحَسَنُ: لا يَجْعَلُ اللَّهُ عَبْدًا أَسْرَعَ إِلَيْهِ كَعَبْدٍ أَبْطَأَ عَنْهُ. وَقَالَ شُمَيْطُ بْنُ عَجْلانَ: النَّاسُ ثَلاثَةٌ: فَرَجُلٌ ابْتَكَرَ الْخَيْرَ فِي حَدَاثَةِ سِنِّهِ ثُمَّ دَاوَمَ عليه حتى خرج من الدنيا فهذا الْمُقَرَّبُ. وَرَجُلٌ ابْتَكَرَ عُمْرَهُ بِالذُّنُوبِ

وَطُولِ الْغَفْلَةِ ثُمَّ رَاجَعَ بِتَوْبَةٍ، فَهَذَا صَاحِبُ يَمِينٍ. وَرَجُلٌ ابْتَكَرَ الشَّرَّ فِي حَدَاثَةِ سِنِّهِ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا فَهَذَا صَاحِبُ شِمَالٍ. إِخْوَانِي: الْمَعَاصِي تُنَكِّسُ الرَّأْسَ وَمَا مُخَلِّطٌ كَمَنْ كَاسَ، وَلا بَانٍ عَلَى رَمْلٍ كَمُحْكِمِ الأَسَاسِ، إِنَّ بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ الطَّهَارَةِ وَالأَنْجَاسِ، وَعَلَى وَجْهِ الطَّائِعِ نُورُ طَاعَتِهِ وَعَلَى وَجْهِ الْعَاصِي ظَلامُ مُخَالَفَتِهِ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ يَتَلَقَّى هَذَا بِالْبِشَارَةِ وَيَقَعُ هَذَا فِي الْخَسَارَةِ، وَفِي الْقَبْرِ يَفْتَرِشُ هَذَا مِهَادَ الْفَلاحِ ويلقى ذاك على حسك القباج، وَعِنْدَ الْحَشْرِ هَذَا يَرْكَبُ وَذَاكَ يُسَحْبُ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْعُصَاةِ: هَلا ذَكَرْتُمْ وَلِلطَّائِعِينَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بما صبرتم. كَمْ بَيْنَ خَجِلٍ يَذِلُّ وَبَيْنَ طَائِعٍ يَدِلُّ. إِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ وَالذُّنُوبَ، احَذْرُوا عَوَاقِبَ الْعُيُوبِ، لَقَدْ وَرَّطَتِ الذُّنُوبُ أَرْبَابَهَا أَيَّ إِيرَاطٍ، وَأَسْعَطَتْ أَصْحَابَهَا أَيَّ إِسْعَاطٍ، وَأَبْعَدَتْهُمْ عَنْ أَغْرَاضِهِمْ أَشْوَاطًا بَعْدَ أَشْوَاطٍ، وَضَرَبَتْ عَلَيْهِمْ سُرَادِقًا مِنَ النَّدَمِ بَعْدَ فُسْطَاطٍ، هَذَا جَنَى الْجِنَايَةِ فَأَيْنَ التَّقِيُّ الْمُحْتَاطُ. تَنَبَّهُوا لِهَذَا يَا أَصْحَابِ اللَّمَمِ الشماط، تَيَقَّظُوا فَهَذا الْمَوْتُ بِكُمْ قَدْ أَحَاطَ، إِيَّاكُمْ وَالزَّلَلَ فَكَمْ مِنْ دَمٍ قَدْ أَشَاطَ، آذَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالذُّنُوبِ فَمَهْلا كَمْ إِفْرَاطٍ، هَذَا الْعَدُوُّ مُرَاصِدٌ فَعَلَيْكُمْ بِالرِّبَاطِ، هَذَا الْفُتُورُ وَإِنَّمَا مَهْرُ الْجِدِّ النَّشَاطُ، سَارَ الصَّالِحُونَ وَقَدْ سَلَكْتُمْ غَيْرَ الصِّرَاطِ، مَا الَّذِي شَغَلَكُمْ عَنْ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ؟ جَمْعُ الْحَبَّةِ وَالْقِيرَاطِ، كَانُوا يَصُومُونَ وَأَنْتُمْ مُفْطِرُونَ، وَيَقُومُونَ وَأَنْتُمْ نَائِمُونَ، وَيَبْكُونَ خَوْفًا وَأَنْتُمْ تَضْحَكُونَ. رُوِيَ عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ: أَيْنَ الْعَابِدُونَ. فَيَقُومُ نَاسٌ فَيُصَلُّونَ ثُمَّ يُنَادِي فِي وَسَطِ اللَّيْلِ: أَيْنَ الْفَائِزُونَ فَيَقُومُ نَاسٌ فَيُصَلُّونَ. ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّحَرِ: أَيْنَ الْمُسْتَغْفِرُونَ؟ فَيَقُومُ نَاسٌ فَيُصَلُّونَ. فَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ: أَيْنَ الْغَافِلُونَ. يَا مَنْ إِذَا صَلَّى خَفَّفَ وَإِذَا كَالَ طَفَّفَ، وَإِذَا دُعِيَ تَخَلَّفَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ تُبْ سَوْفَ، مَا يُؤْثَرُ عِنْدَهُ قَوْلُ مَنْ حَذَّرَ وَخَوَّفَ، ثُمَّ يَطْمَعُ فِي لِحَاقِ الصَّالِحِينَ فَمَا أَنْصَفَ، جَدَّ الْقَوْمُ وَأَنْتَ قَاعِدٌ، وَقَرَّبُوا وَأَنْتَ مُتَبَاعِدٌ، كَمْ بَيْنَ رَاغِبٍ وَزَاهِدٍ، كَمْ

بَيْنَ سَاهِرٍ وَرَاقِدٍ، شَغَلَهُمْ حُبُّ مَوْلاهُمْ عَنْ لَذَّاتِ دُنْيَاهُمْ، اسْمَعْ حَدِيثَهُمْ إِنْ كُنْتَ مَا تَرَاهُمْ، خَوْفُهُمُ الشَّدِيدُ قَدْ أَزْعَجَ وَأَقْلَقَ، وَحَذَرُهُمُ الْعَظِيمُ قَدْ أَتْلَفَ وَأَحْرَقَ، وَحَادِي جِدِّهِمْ مُجِدٌّ مَا يَتَرَفَّقُ، كُلَّمَا رَأَى طُولَ الطَّرِيقِ نَصَّ وَأَعْنَقَ، وَكَيْفَ يُحْسِنُ الْفُتُورَ وَأَوْقَاتُ السَّلامَةِ تُسْرَقُ، دُمُوعُهُمْ فِي أَنْهَارِ الْخُدُودِ تَجْرِي وَتَتَدَفَّقُ، يَكَادُ حَزِينُهُمْ لِكَثْرَةِ الذُّنُوبِ يَشْرَقُ، يَشْتَاقُونَ إِلَى الْحَبِيبِ وَالْحَبِيبُ إِلَيْهِمْ أَشْوَقُ، يَا حُسْنَهُمْ فِي الدُّجَى وَنُورُهُمْ قَدْ أَشْرَقَ، وَالْحَيَاءُ فَائِضٌ وَالرَّأْسُ قَدْ أَطْرَقَ وَالْحَنِينُ وَالأَنِينُ قَدْ أَخْرَسَا الْحَمَامَ الْمُطَوَّقَ، وَالأَسِيرُ يَبْكِي وَيَشْكُو وَيَرْجُو أَنْ يُعْتَقَ، فَإِذَا جَاءَ النَّهَارُ دَخَلُوا سُورًا مِنَ التُّقَى بَعْدَ خَنْدَقٍ، تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلِلصِّدْقِ رَوْنَقٌ، اسْلُكْ طَرِيقَهُمْ وَسَلْ مَعِينَهُمْ تُوَفَّقْ. احْذَرْ مِنَ الْهَوَى فَالْهَوَى عَدُوٌّ أَزْرَقُ، يَا مَنْ كُلَّمَا أَتْهَمَ نَاصِحُهُ أَنْجَدَ، وَكُلَّمَا غَرَّبَ شَرَّقَ، قَدْ بَقِيَ الْقَلِيلُ وَهَذَا الرَّهْنُ يَغْلَقُ. (أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي بِقَضَائِهِ ... مُطِرَ السَّحَابُ وَأَخْصَبَ الأَبُّ) (تَبًّا لِقَوْمٍ أَذْهَبُوا أَوْقَاتَهُمْ ... لَعِبًا وَأَشْهَدُ أَنَّهُمْ تُبُّوا) (وَصَبَوْا إِلَى الدُّنْيَا فَكُلُّهُمْ بِهَا ... كَلَفٌ يُغَرُّ بِحُبِّهَا صَبُّ) (شنوا الحروب عَلَى حُطَامٍ زَائِلٍ ... وَعَلَى فَسَادِ غَرَائِزٍ شُبُّوا) (رَقَدُوا فَمَا فَقَدَتْ كَرًى أَجْفَانُهُمْ ... حَتَّى إِذَا حَانَ الرَّدَى هَبُّوا) (لُبُّوا وَقَدْ دَعَتِ الدُّعَاةُ إِلَى الْخَنَا ... فَجَمِيعُهُمْ خَطِئُوا فَمَا لَبُّوا) يَا قَلِيلَ النَّظَرِ فِي أَمْرِهِ، يَا غَافِلا عَنْ ذِكْرِ قَبْرِهِ، أَمَا نَقَلَ الْمَوْتُ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَهَا هُوَ قَدْ أَضْحَى نَحْوَكَ قَاصِدًا، كَمْ سَلَبَ وَلَدًا وَأَخَذَ وَالِدًا، إِلَى مَتَى تُصْبِحُ جَاهِلا وَتُمْسِي مَارِدًا، وَتُحَثُّ عَلَى النُّهُوضِ وَمَا تَبْرَحُ قَاعِدًا، مَتَى يَذُوبُ دَمْعٌ مَا يَزَالُ جَامِدًا، مَتَى يَنْقُصُ جَهْلٌ مَا يَفْتَأُ زَائِدًا، يَا مَنْ إِذَا قَارَبَهُ النُّصْحُ أَضْحَى مُتَبَاعِدًا، لَقَدْ نَظَرْتَ لِنَفْسِكَ نَظَرًا فَاسِدًا، كَمْ أَشْمَتَّ بِكَ عَدُوًّا وَأَفْرَحْتَ حَاسِدًا، يَا نَائِمًا عَنْ خَلاصِهِ رَاقِدًا؛ يَا مَرِيضًا مَا نَرَى لَهُ عَائِدًا، كَمْ نُوَضِّحُ الأَمْثَالَ وَنَضْرِبُ حَدِيدًا بَارِدًا، أَتَرْضَى هَذَا الْحَالَ أَنْ يَكُونَ زَادًا لارْتِحَالٍ، تَذَكَّرْ عَبَثَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ إِذَا خَابَتْ جَمِيعُ الآمَالِ وَرَأَيْتَ حَسْرَةَ مَا

جَمَعْتَ مِنْ مَالٍ، وَتَيَقَّنْتَ فِرَاقَ الأَيْتَامِ وَالأَطْفَالِ، وَحَمَلْتَ هَمًّا خَفَّتْ عِنْدَهُ الْجِبَالُ، وَبَانَ لَكَ أَنَّ حَدِيثَ الْمُنَى مُحَالٌ، يَا مُؤْثِرَ الْغَيِّ تَأَمَّلْ رُشْدَكَ، يَا رَاحِلا عَنْ قَلِيلٍ تَعَرَّفْ قَصْدَكَ، أَصْلِحْ بِالتُّقَى يَوْمَكَ قَبْلَ أَنْ تَلْقَى غَدَكَ، إِيَّاكَ وَالْهَوَى وَدَعْ مُتَعَوَّدَكَ: (أَصْبَحْتَ عَادَيْتَ لِلصِّبَا رَشَدَكْ ... جَهْلا وَأَسْلَمْتَ لِلْهَوَى قَوَدَكْ) (حَتَّى مَتَى لا تَفِيقُ مِنْ سِنَةٍ ... وَلا يُدَاوِي مُفَنِّدٌ فَنَدَكْ) (تَعْمَلُ فِي صَيْدِ كُلِّ صَائِدَةٍ ... خَتَلَكَ طَوْرًا وَتَارَةً طَرَدَكْ) (تَرْمِي الَّتِي إِنْ أَصَابَ ظَاهِرَهَا ... سَهْمُكَ شَكَّتْ بِحَدِّهِ كَبِدَكْ) كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: حَادِثُوا هَذِهِ الْقُلُوبَ فَإِنَّهَا سَرِيعَةُ الدُّثُورِ، وَاقْرَعُوا هَذِهِ الأَنْفُسَ فَإِنَّهَا طُلَعَةٌ، وَإِنَّهَا تُنَازِعُ إِلَى شَرِّ غَايَةٍ، فَتَبَصَّرُوا وَتَشَدَّدُوا؛ فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ قَلائِلُ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ رَكْبٌ وُقُوفٌ يُوشَكُ أَنْ يُدْعَى أَحَدُكُمْ فَيُجِيبَ وَلا يَلْتَفِتَ، فَانْتَقِلُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ. يَا هَذَا زَاحِمْ بِاجْتِهَادِكَ الْمُتَّقِينَ، وَسِرْ فِي سِرْبِ أَهْلِ الْيَقِينِ، هَلِ الْقَوْمُ إِلا رِجَالٌ طَرَقُوا بَابَ التَّوْفِيقِ ففتح لهم، وما نيأس لَكَ مِنْ ذَلِكَ. (إِذَا أَعْجَبَتْكَ خِصَالُ امْرِئٍ ... فَكُنْهُ يَكُنْ مِنْكَ مَا يُعْجِبُكْ) (فَلَيْسَ عَلَى الْجُودِ وَالْمُكْرَمَاتِ ... إِذَا جِئْتَهَا حَاجِبٌ يَحْجِبُكْ) لَقَدْ رَضِيتَ لِنَفْسِكَ الْغَبِينَةَ، وَبِعْتَ الدَّارَ الشَّرِيفَةَ بِالدَّارِ الْمَهِينَةِ، وَأَعْجَبَكَ مَعَ عَقْلِكَ مَا يُعْجِبُ الأَطْفَالَ مِنَ الزِّينَةِ، أَتُرَاكَ مَا عَلِمْتَ أَنَّ الدُّنْيَا صُحْبَةُ سَفِينَةٍ، إِنْ ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَلَسْتَ فِيهِمْ، وَإِنْ عُدَّ الأَبْرَارُ فَمَا أَنْتَ مَعَهُمْ، وَإِنْ قَامَ الْعُبَّادُ لَمْ تُرَ بَيْنَهُمْ، وَيْحَكَ أَتْطَمَعُ فِي الْحَصَادِ وَلا بَذْرَ لَكَ، أَتَرْجُو الأَرْبَاحَ وَلا تِجَارَةَ مَعَكَ، تَبْنِي بِلا أَسَاسٍ وَلا يَثْبُتُ الْبِنَاءُ، وَتَحْمِلُ عَلَى عَسْكَرِ الْهَوَى بِلا عَزْمٍ فَلا تَصِلُ إِلَى مُرَادٍ، وَيْحَكَ دُمْ عَلَى الْحِمْيَةِ يَزُلْ أَثَرُ التَّخْلِيطِ، وَاسْتَوْثِقْ مِنْ عَقْدِ الْعَزْمِ خَوْفًا أَنْ يَنْحَلَّ، فَإِنْ عَرَضَ تَقْصِيرٌ يُوهِنُ فَاسْتَدْرِكْ تُعَنْ

(إِذَا مَا عَقَدْتَ الْعَقْدَ ثُمَّ تَرَكْتَهُ ... وَلَمْ تَثْنِهِ عَقْدًا وَهِيَ ذَلِكَ الْعَقْدُ) (وَمَا الْيَدُ لَوْلا أُخْتُهَا بِقَوِيَّةٍ ... وَلا الرَّجُلُ لَوْلا الرَّجُلُ تَمْشِي وَلا تَعْدُو) (وَلا كُلُّ مُحْتَاجٍ إِلَى ما يشده ... فيعسف إِلا وَالْوَهَاءُ لَهُ وَكْدُ) (تَرَفَّعْ عَنِ التَّعْذِيرِ غَيْرَ مُذَمَّمٍ ... إِلَى شَرَفِ الإِعْذَارِ يَخْلُصْ لَكَ الْحَمْدُ) وَيْحَكَ ضَاقَ الْوَقْتُ فَمَتَى تَتَزَوَّدُ، تَعِبَ الرَّائِضُ وَمَا تَتْرُكُ الْمُتَعَوَّدَ. (عَجِبْتُ لِلطَّالِبِ الأَمْرَ الْبَصِيرِ بِمَا فِيهِ ... مِنَ الْغَيِّ إِذْ يَسْعَى لَهُ طَلَبَا ... ) (وَلِلْمُكِبِّ عَلَى مَالٍ يُثَمِّرُهُ ... وَسَوْفَ يصبح منه المال منتهيا) (وَلِلْمُدَاوِي ضَنَى جِسْمُ عُرَاهُ وَقَدْ ... دَعَا إِلَى نفسه الأوجاع والوصبا) (فَذَكِّرِ النَّفْسَ هَوْلا أَنْتَ رَاكِبُهُ ... وَكُرْبَةً سَوْفَ تَلْقَى بَعْدَهَا كُرَبَا) (لا تُحَقِّرَنَّ مِنَ الآثَامِ مُحْتَقِرًا ... كُلُّ امْرِئٍ سَوْفَ يُجْزَى بِالَّذِي اكْتَسَبَا) (إِذَا أَتَيْتَ الْمَعَاصِيَ فَاخْشَ غَايَتَهَا ... مَنْ يَزَرْعِ الشَّوْكَ لا يَحْصِدْ بِهِ عِنَبَا) لَتُعَظَّمَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمُخَالَفَاتِ الآفَاتُ، وَلَتُقَطَّعَنَّ أَفْئِدَةُ الْمُفَرِّطِينَ بِالزَّفَرَاتِ، وَلَيَشْتَهِرَنَّ الْفَاجِرُ فِي الْخَلَوَاتِ بِالْجَلَوَاتِ، وَلَتَمُورَنَّ السُّوقُ يَوْمَ السَّوْقِ إِلَى سُوقِ الْمُحَاسَبَاتِ، وَلَتَسِيلَنَّ الدِّمَاءُ بَعْدَ الدُّمُوعِ عَلَى الْوَجَنَاتِ، وَلَيَتَحَسَّرَنَّ أَهْلُ الْمَعَاصِي إِذَا لاحَتْ دَرَجَاتُ الْجَنَّاتِ، وَلَيُنَادِيَنَّ مُنَادِي الْجَزَاءِ يخبر بتفاوت العطاء ووقوع السَّيِّئَاتِ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} .

المجلس الخامس في ذكر ليلة النصف من شعبان

المجلس الخامس فِي ذِكْرِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لا نَاقِضَ لِمَا بَنَاهُ، وَلا حَافِظَ لِمَا أَفْنَاهُ، وَلا مَانِعَ لِمَا أَعْطَاهُ، وَلا رَادَّ لِمَا قَضَاهُ، وَلا مُظْهِرَ لِمَا أَخْفَاهُ، وَلا سَاتِرَ لِمَا أَبْدَاهُ، وَلا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَاهُ، وَلا هَادِيَ لِمَنْ أَعْمَاهُ، أَنْشَأَ الْكَوْنَ بِقُدْرَتِهِ وَمَا حَوَاهُ، وَرَزَقَ الصَّوْنَ بِمِنَّتِهِ وَمَنِّهِ مَنْ وَالاهُ، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلا إياه} . خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَسَوَّاهُ وَأَسْكَنَهُ فِي حَرَمِ قُرْبِهِ وَحِمَاهُ، وَأَمَرَهُ كَمَا شَاءَ وَنَهَاهُ، وَأَجْرَى القضاء بموافقته هواه، فنزعت يد يَدُ التَّفْرِيطِ مَا كَسَاهُ، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِ فَرَحِمَهُ وَاجْتَبَاهُ وَحَالَهُ يُنْذِرُ مَنْ يَسْعَى فِيمَا اشْتَهَاهُ، وَطَرَدَ إِبْلِيسَ وَكَانَتِ السَّمَوَاتُ مَأْوَاهُ، فَأَصَمَّهُ بِمُخَالَفَتِهِ كَمَا شَاءَ وَأَعْمَاهُ، وَأَبْعَدَهُ عَنْ بَابِهِ لِلْعِصْيَانِ وَأَشْقَاهُ وَفِي قِصَّتِهِ نَذِيرٌ لِمَنْ خَالَفَهُ وعصاه. ألان الحديد لداود كما تمناه، يأمن لابسه مَنْ يَلْقَاهُ، ثُمَّ صَرَعَ صَانِعَهُ بِسَهْمِ قَدْرٍ أَلْقَاهُ، فَلَمَّا تَسَوَّرَ الْمِحْرَابَ خَصْمَاهُ أَظْهَرَ جدال التوبيخ فخصماه {وظن داود أنما فتناه} وَذَهَبَ ذُو النُّونِ مُغَاضِبًا فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَأَخْفَاهُ، فَنَدِمَ إِذْ رَأَتْ عَيْنَاهُ مَا جَنَتْ يَدَاهُ، فَلَمَّا أَقْلَقَهُ كَرْبُ ظَلامٍ تَغَشَّاهُ تَضَرَّعَ مُسْتَغِيثًا ينادي مولاه: {إني كنت من الظالمين. فنجيناه} . تَعَالَى رَبُّنَا وَسُبْحَانَهُ وَحَاشَاهُ أَنْ يُخَيِّبَ رَاجِيَهُ وَيَنْسَى مَنْ لا يَنْسَاهُ، أَخَذَ مُوسَى مِنْ أُمِّهِ طِفْلا وَرَاعَاهُ، وَسَاقَهُ إِلَى حِجْرِ عَدُوِّهِ فَرَبَّاهُ، وَجَادَ عَلَيْهِ بِنِعَمٍ لا تُحْصَى وَأَعْطَاهُ، فَمَشَى فِي الْبَحْرِ وَمَا ابْتَلَّتْ قَدَمَاهُ، وَتَبِعَهُ العدو فأدركه الغرق

وواراه، فقال آمنت فإذا جبريل بمدفاه، وكان من غَايَةِ شَرَفِهِ وَمُنْتَهَاهُ أَنَّهُ خَرَجَ يَطْلُبُ نَارًا فناداه: {يا موسى إني أنا الله} وَشَرَّفَ أُمَّتَهُ شَرَفًا بَيِّنًا أَوْلاهُ {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ على العالمين} بِكُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أَخَذْنَاهُ. خَلَقَ مُحَمَّدًا وَاخْتَارَهُ عَلَى الْكُلِّ وَاصْطَفَاهُ، وَكَشَفَ لَهُ الْحِجَابَ عِنْدَ قَابَ قَوْسَيْنِ فَرَآهُ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مِنْ سِرِّهِ الْمَسْتُورِ مَا أَوْحَاهُ، وَوَعَدَهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ وَسَيُبْلِغُهُ مُنَاهُ. فَالْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي دَلَّنَا بِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ وَعَرَّفَنَاهُ، وَأَجَلَّنَا بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْقَدِيمِ وَعَلَّمَنَاهُ، وَهَدَانَا إِلَى بَابِهِ بِتَوْفِيقٍ أَوْدَعَنَاهُ، حَمْدًا لا يَنْقَضِي أُولاهُ وَلا يَنْفَدُ أُخْرَاهُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ مَا تَحَرَّكَتِ الأَلْسُنُ وَالشِّفَاهُ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ صَلاةً دَائِمَةً تَدُومُ بِدَوَامِ مُلْكِ اللَّهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ النصف، عظيمة القدر وعجيبة الوصف، يطلع اللَّهُ فِيهَا عَلَى الْعِبَادِ، فَيَغْفِرُ لِكُلٍّ مَا خَلا أَهْلَ الْعِنَادِ. عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَخَرَجْتُ فَإِذَا هُوَ بِالْبَقِيعِ رَافِعَ رَأْسِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: كُنْتِ تَخَافِينَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَتَيْتَ بَعْضَ نِسَائِكَ. فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعَرِ غَنَمِ كَلْبٍ ". وَعَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ: كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَيْلَتِي فَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدِي، فَلَمَّا كَانَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَقَدْتُهُ فَأَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ النِّسَاءَ مِنَ الْغَيْرَةِ. فَتَلَفَّعْتُ بِمِرْطِي، أَمَا وَاللَّهِ مَا كَانَ مِرْطِي خَزًّا وَلا قَزًّا وَلا حَرِيرًا وَلا دِيبَاجًا وَلا قُطْنًا وَلا كَتَّانًا. قِيلَ: فَمِمَّ كَانَ؟ قَالَتْ: كَانَ سَدَاهُ شَعَرًا

وَلُحْمَتُهُ مِنْ أَوْبَارِ الإِبِلِ. قَالَتْ: فَطَلَبْتُهُ فِي حُجَرِ نِسَائِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ فَانْصَرَفْتُ إِلَى حُجْرَتِي فَإِذَا بِهِ كَالثَّوْبِ السَّاقِطِ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ سَاجِدًا وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: سَجَدَ لَكَ سَوَادِي وَخَيَالِي وَآمَنَ بِكَ فُؤَادِي، هَذِهِ يَدَايَ وَمَا جَنَيْتُ بِهِمَا عَلَى نَفْسِي، يَا عَظِيمًا يُرْتَجَى لِكُلِّ عَظِيمٍ اغْفِرِ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ، أَقُولُ كَمَا قَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ أُعَفِّرُ وَجْهِيَ بِالتُّرَابِ لِسَيِّدِي وَحَقٌّ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي قَلْبًا نَقِيًّا مِنَ الشِّرْكِ لا كَافِرًا وَلا شَقِيًّا. ثُمَّ سَجَدَ وَقَالَ: أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ مُعَاقَبَتِكَ، لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَتْ: ثُمَّ انْصَرَفَ وَدَخَلَ مَعِي فِي الْخَمِيلَةِ وَلِي نَفَسٌ عَالٍ فَقَالَ: مَا هَذَا النَّفَسُ يَا حُمَيْرَاءُ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرْتُهُ فَطَفِقَ يَمْسَحُ بِيَدِهِ عَلَى رُكْبَتَيَّ وَيَقُولُ: " وَيْحَ هَاتَيْنِ الرُّكْبَتَيْنِ مَاذَا لَقِيَتَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ ". وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَا حُمَيْرَاءُ أَمَا تَدْرِينَ مَا هَذِهِ اللَّيْلَةُ؟ هَذِهِ لَيْلَةُ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ بِعَدَدِ شَعَرِ غَنَمِ كَلْبٍ. قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا بَالُ غَنَمِ كَلْبٍ؟ قَالَ: لَيْسَ فِي الْعَرَبِ قَوْمٌ أَكْثَرَ غَنَمًا مِنْهُمْ، لا أَقُولُ فِيهِمْ ستة: مدمن خمر ولا عاق والديه وَلا مُصِرٌّ عَلَى رِبًا أَوْ زِنًا وَلا مُصَارِمٌ وَلا [مُصَوِّرٌ] وَلا قَتَّاتٌ ". وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلا لاثْنَيْنِ: مُشَاحِنٍ وَقَاتِلِ نَفْسٍ ". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ إِلا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ ". قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ مِنَ الْمُشَاحِنِ أَنَّهُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ عَدَاوَةٌ. وَقَدْ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ: هُوَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ شَحْنَاءُ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَسِحُّ اللَّهُ الْخَيْرَ في أربع

لَيَالٍ سَحًّا: الأَضْحَى وَالْفِطْرِ وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شعبان تنسخ فيها الآجَالُ وَالأَرْزَاقُ وَيُكْتَبُ فِيهَا الْحَاجُّ، وَفِي لَيْلَةِ عَرَفَةَ إِلَى الأَذَانِ ". وَفِي حَدِيثٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: خَمْسُ لَيَالٍ لا يُرَدُّ فِيهِنَّ الدُّعَاءُ. فَذَكَرَ مِنْهُنَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ. وَرَوَى ابْنُ كُرْدُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَحْيَا لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبِ ". وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَرْزِقٍ فَأَرْزُقَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ. فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِ لَيْلَتِهَا وَصِيَامِ نَهَارِهَا ". وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ كَيْسَانَ: يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَمَنْ طَهَّرَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ زَكَّاهُ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلُ. رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " فِيهَا يُفْرَقُ كل أمر حكيم " قَالَ: فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يُدَبِّرُ اللَّهُ أَمْرَ السَّنَةِ وَيَنْسَخُ الأَحْيَاءَ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَيَكْتُبُ حَاجَّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلا يَزِيدُ فِيهِمْ أَحَدًا وَلا يَنْقُصُ مِنْهُمْ أَحَدًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِهَذَا عَنْ عِكْرِمَةَ مُضْطَرِبَةٌ، فَتَارَةً يَرْوِي هكذا وتارة يَرْوِي أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ كَبَاقِي الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ سَبَقَتِ الأَحَادِيثُ أَنَّ الآجَالَ تُكْتَبُ فِي شَعْبَانَ، فَجَائِزٌ أَنْ يَخْتَصَّ شَعْبَانَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالآجَالِ وَيَكُونُ الْقَدَرُ الْعَامُّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَقَدْ رُوِيَتْ لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ لَيْسَ فِي أَسَانِيدِهَا شَيْءٌ صَحِيحٌ، وَلا فِيهَا مَا يَثْبُتُ، فَلِذَلِكَ سَكَتْنَا عَنْ ذِكْرِهَا، فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِذَا لَمْ يَصِحَّ كَانَ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ.

الكلام على البسملة

الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (سَهْمُ الْمَنَايَا أَبَدًا صَائِبٌ ... يَدْعُو إِلَيْهِ النَّاسَ مُسْتَعْرِضَا) (بَيْنَا الْفَتَى فِي عَيْشِهِ نَاعِمٌ ... تَغُرُّهُ الأَيَّامُ حَتَّى قَضَى) (وَكُلُّ يَوْمٍ مَرَّ مِنْ عُمْرِهِ ... يَحْدُوهُ لِلتِّرْحَالِ مُسْتَنْهِضَا) (وَالنَّفْسُ دَيْنُ الْمَوْتِ عِنْدَ الْوَرَى ... وَدَيْنُهُ لا بُدَّ أَنْ يُقْتَضَى) (يَا عَجَبًا مِنْ عَالِمٍ آمِنٍ ... مِنْ غَدْرِهِ أَوْ سَيْفِهِ الْمُنْتَضَى) (أَيْنَ الَّذِينَ اسْتَبَقُوا لِلنُّهَى ... وَاغْتَبَقُوا بِالْمَشْرَبِ الْمُرْتَضَى) (طَوَتْهُمُ الأَجْدَاثُ فِي ضِيقِهَا ... وَعَادَ مَنْ يَهْوَاهُمْ مُعْرِضَا) أَيْنَ الْحَبِيبُ وَالْخَلِيلُ؟ وَدَعَا، أَيْنَ الرَّفِيقُ، رَحَلَ عَنْكُمْ وَدَعَا، أَأَبْقَى الْمَوْتُ لَكُمْ فِي الْحَيَاةِ مَطْمَعًا؟ أَخَذَ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ مَعًا، صَاحَ بِالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ فَأَسْرَعَا، جُزْ عَلَى الْقُبُورِ تَرَى الْقَوْمَ خشعا، أين الفهم والتدبر، أين أهل الجمل وَالتَّكَبُّرِ، أَيْنَ مَنْ فَسَّحَ لِنَفْسِهِ فِي الزَّلَلِ، أَيْنَ مَنْ خَانَهَا بِقَبِيحِ الْعَمَلِ، بَيْنَا هُوَ يَعْمُرُ فِي رِبَاعِهَا، وَقَدِ اشْتَرَاهَا وَمَا بَاعَهَا، يَحْفِرُ فِيهَا الأَنْهَارَ، وَيَغْرِسُ فِيهَا الأَشْجَارَ، وَالْمَمَالِيكُ تَدُورُ حَوْلَ الدَّارِ [وَالسَّرَارِي بِحُسْنِهَا تُسِرُّ، وَنُحُورُهَا قَدْ زَانَهَا الدُّرُّ، وَالتُّخُوتُ تَمْلأُ الصَّنَادِيقَ، وَرُكْنُ الْعِزِّ فِي الدُّنْيَا وَثِيقٌ، وَالْمَالُ يُجْمَعُ فَوْقَ الْمَالِ، وَالْخَيْلُ تَرْدِي فِي الْجِلالِ، وَالْمَرَاكِبُ مِنَ الْحُلِيِّ تُصَاغُ، وَقَدْ مُنِحْتَ الصِّحَّةَ إِلَى الْفَرَاغِ، ثُمَّ سَاعَدَ سَاعِدُ الشَّبَابِ كَفَّ الْهَوَى عَلَى الاسْتِلابِ، وَالْعُودُ قَدْ رَثَّ ثُمَّ عَادَ، وَالْبَطْشُ فِي الْمُلْكِ بَطْشُ عَادٍ، وَقَدْ أَسْكَرَتْ مِنْ قَبْلِ شُرْبِ الْخَمْرِ لَذَّةُ النَّهْيِ وَالأَمْرِ، صَاحَتْ بَيْنَ الْبَيْنِ أَغْرِبَةُ الْبَيْنِ، فَمَزَّقَتِ الْعَيْنَ وَأَسْخَنَتِ الْعَيْنَ، تَاللَّهِ لَقَدِ اسْتُلِبَ صَاحِبُ الْقَصْرِ بِكَفِّ الْقَسْرِ، فَصَارَ بِالْقَهْرِ أُحْدُوثَةَ الدَّهْرِ، وَلَقَدْ كَانَ على غاية المنى في أول الشهر، فوا عجبا لِجَنَّةٍ صَارَتْ كَالصَّرِيمِ بَعْدَ الزَّهْرِ] . (نُودِيَ بِصَوْتٍ أَيُّمَا صَوْتٍ ... مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ الْمَوْتِ) (كَأَنَّ أَهْلَ الْغَيِّ فِي غَيِّهِمْ ... قَدْ أَخَذُوا أَمْنًا مِنَ الْفَوْتِ)

(كَمْ مُصْبِحٍ يُعَمِّرُ بَيْتًا لَهُ ... لَمْ يُمْسِ إِلا خَرِبَ الْبَيْتِ) (هَذَا وَكَمْ حَيٍّ بَكَى مَيِّتًا ... فَأَصْبَحَ الْحَيُّ مَعَ الْمَيْتِ) يَا مَشْغُولا بِمَا لَدَيْهِ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ، يَا غَافِلا عن الموت وقد دَنَا إِلَيْهِ، يَا سَاعِيًا إِلَى مَا يَضُرُّهُ بِقَدَمَيْهِ، يَا مُخْتَارَ الْمُؤْذِي لَهُ مِنْ حَالَتَيْهِ، يَأْمَنُ الدَّهْرَ وَقَدْ رَأَى صِرْفَيْهِ،، كَمْ عَايَنَ مَيِّتًا لَوِ اعْتَبَرَ بِعَيْنَيْهِ، إِنَّمَا أَغَارَ عَلَى شَبَابِهِ هَاجِمٌ عَلَى فَوْدَيْهِ، أَيَنْفَعُهُ يَوْمَ الرَّحِيلِ دَمْعٌ يَمْلأُ خَدَّيْهِ؟ يَا مَنْ يَصِيرُ عَنْ قَلِيلٍ إِلَى حُفْرَةٍ، تَنَبَّهْ لِنَفْسِكَ مِنْ هَذِهِ السَّكْرَةِ، لَوْ أَنَّكَ تَذَكَّرْتَ لَحْدَكَ كَيْفَ تَبِيتُ وحدك، ويباشر التراب خدك وتتقسم الدِّيدَانُ جِلْدَكَ، وَيَضْحَكُ الْمُحِبُّ بَعْدَكَ نَاسِيًا عَنْهُ بُعْدَكَ، وَالأَهْلُ قَدْ وَجَدُوا الْمَالَ وَمَا وَجَدُوا فَقْدَكَ، إِلَى مَتَى وَحَتَّى مَتَى تَتْرُكُ رُشْدَكَ، أَمَا تُحْسِنُ أَنْ تُحْسِنَ قَصْدَكَ، الأَمْرُ مُجِدٌّ جِدًّا فَالْزَمْ جِدَّكَ. (ذَهَبَ الأَحِبَّةُ بَعْدَ طُولِ تَوَدُّدٍ ... وَنَأَى الْمَزَارُ فَأَسْلَمُوكَ وَأَقْشَعُوا) (خَذَلُوكَ أَفْقَرَ مَا تَكُونُ لِغُرْبَةٍ ... لَمْ يُؤْنِسُوكَ وَكُرْبَةً لَمْ يَدْفَعُوا) (قُضِيَ الْقَضَاءُ وَصِرْتَ صَاحِبَ حُفْرَةٍ ... عَنْكَ الأَحِبَّةُ أَعْرَضُوا وَتَصَدَّعُوا) إِخْوَانِي: إِنَّكُمْ تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ فِي آجَالٍ قَدْ غُيِّبَتْ عَنْكُمْ، لا تَدْرُونَ مَتَى تَهْجِمُ عَلَيْكُمْ، فَالْوَحَا الْوَحَا فَالطَّالِبُ حَثِيثٌ. (يَجِدُّ بِنَا صَرْفُ الزَّمَانِ وَنَهْزِلُ ... وَنُوقَظُ بِالأَحْدَاثِ فِيهِ وَنَغْفُلُ) (وَمَا النَّاسُ إِلا ظَاعِنٌ أَوْ مُوَدِّعٌ ... وَمُسْتَلَبٌ مُسْتَعْجَلٌ أَوْ مُؤَجَّلُ) (وَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَنَازِلٌ ... إِذَا مَا قَطَعْنَا مَنْزِلا بَانَ مَنْزِلُ) (فِنَاءٌ مُلِحٌّ مَا يُغِبُّ جَمِيعَنَا ... إِذَا عَاشَ مِنَّا آخِرٌ مَاتَ أَوَّلُ) (وَكَمْ صَاحِبٍ لِي كُنْتُ أَكْرَهُ فَقْدَهُ ... تَسَلَّمَهُ مِنِّي الْفَنَاءُ الْمُعَجَّلُ) اسْمَعُوا عِظَةَ الزَّمَانِ إِنْ كُنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَتَأَمَّلُوا تَقَلُّبَ الأَحْوَالِ إِنْ كُنْتُمْ تُبْصِرُونَ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لَوْ سَمِعَ الْخَلائِقُ صَوْتَ النِّيَاحَةِ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ أَلْسِنَةِ

الكلام على قوله تعالى

الفناء لتساقطت القلوب منهم حُزْنًا، وَلَوْ رَأَتِ الْعُقُولُ بِعَيْنِ الإِيمَانِ نُزْهَةَ الْجَنَّةِ لَذَابَتِ النُّفُوسُ شَوْقًا، وَلَوْ أَدْرَكَتِ الْقُلُوبُ كُنْهَ الْمَحَبَّةِ لِخَالِقِهَا لَتَخَلَّعَتْ مَفَاصِلُهَا وَلَهًا. فَسُبْحَانَ مَنْ أَغْفَلَ الْخَلِيقَةَ عَنْ كُنْهِ عَيْنِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ، وَأَلْهَاهُمْ بِالْوَصْفِ عَنْ حَقَائِقِ هَذِهِ الأَنْبَاءِ: (مَنْ نَالَ مِنْ جَوْهَرِ الأَشْيَاءِ بُغْيَتَهُ ... يَأْسَى ويحقر قوما حَظُّهُمْ عَرَضُ) (إِنِّي لأَعْجَبُ مِنْ قَوْمٍ يَشِفُّهُمُ ... حُبُّ الزَّخَارِفِ لا يَدْرُونَ مَا الْغَرَضُ) (أَلا عُقُولٌ أَلا أَحْلامٌ تَزْجُرُهُمْ ... بَلَى عُقُولٌ وَأَحْلامٌ بِهَا مَرَضُ) إِخْوَانِي: مَنْ آثَرَ قِنَاعَ الْقَنَاعَةِ حَاطَهُ مِنْ رِدَاءِ الرَّدَى، وَمَتَى سَاعَدَ الْفَقْرَ سَاعِدُ الصَّبْرِ قَلَعَ قَلْعَةَ الْحِرْصِ فَاسْتَنَارَتْ طَرِيقُ الْهُدَى بِمِصْبَاحِ الْيَقَظَةِ، وَمَتَى تَأَجَّجَتْ نِيرَانُ الْخَوْفِ أَحْرَقَتْ مَوَاطِنَ الْهَوَى وَطَرَدَتْ عَنْهُ الدُّنْيَا: (تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ هَالِكٌ ... وَتَتْرُكُ لِلأَعْدَاءِ مَا أَنْتَ مَالِكُ) (وَوَسِّعْ طَرِيقًا أَنْتَ سَالِكُهُ غَدًا ... فَلا بُدَّ مِنْ يَوْمٍ تَضِيقُ الْمَسَالِكُ) الْكَلامُ على قوله تعالى {حم والكتاب المبين} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي " حم " عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَعْرُوفَةُ الْمَعْنَى. ثُمَّ لِهَؤُلاءِ فِيهَا قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا حُرُوفٌ مِنْ أَسْمَاءٍ. وَلِهَؤُلاءِ فِيهَا ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مِنَ الرَّحْمَنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الر، وَحم، وَن، اسْمُ الرَّحْمَنِ عَلَى الْهِجَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَاءَ مِفْتَاحٌ اسْمُهُ حَمِيدٌ وَالْمِيمَ مِفْتَاحٌ اسْمُهُ مَجِيدٌ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ.

وَالثَّالِثُ أَنَّ الْحَاءَ مِفْتَاحُ كُلِّ اسْمٍ ابْتِدَاؤُهُ حَاءٌ مِثْلُ حَكِيمٍ وَحَلِيمٍ وَحَيٍّ. وَالْمِيمُ مِفْتَاحُ كُلِّ اسْمٍ ابْتِدَاؤُهُ مِيمٌ مِثْلُ مَلِكٍ وَمَجِيدٍ. حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى حم: قُضِيَ مَا هُوَ كَائِنٌ. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. كَأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى حُمَّ الأَمْرُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: حم قَسَمٌ جوابه: {إنا أنزلناه} وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنُ. {فِي ليلة مباركة} وَفِيهَا قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. قَالَهُ الأَكْثَرُونَ. وَالثَّانِي: لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ: وَقَدْ ذكرناه عن عكرمة. {إنا كنا منذرين} أي مخوفين عقابنا. {فيها يفرق} أي يفصل {كل أمر حكيم} . اجْتَهِدُوا اللَّيْلَةَ فِي مَحْوِ ذُنُوبِكُمْ وَاسْتَغِيثُوا إِلَى مَوْلاكُمْ مِنْ عُيُوبِكُمْ، هَذِهِ لَيْلَةُ الإِنَابَةِ فِيهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ الإِجَابَةِ أَيْنَ اللائِذُ بِالْجَنَابِ، أَيْنَ الْمُتَعَرِّضُ بِالْبَابِ، أَيْنَ الْبَاكِي عَلَى مَا جَنَى، أَيْنَ الْمُسْتَغْفِرُ لأَمْرٍ قَدْ دَنَا، كَمْ مَنْقُولٍ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنْ دِيوَانِ الأَحْيَاءِ مُثْبَتٌ فِي صُحُفِ أَهْلِ التَّلَفِ وَالْفَنَا، فَهُوَ عَنْ قَرِيبٍ يُفْجَأُ بِالْمَمَاتِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى السَّيِّئَاتِ، أَلا رُبَّ فَرِحٍ بِمَا يُؤْتَى قَدْ خَرَجَ اسْمُهُ مَعَ الْمَوْتَى، أَلا رُبَّ غَافِلٍ عَنْ تَدْبِيرِ أَمْرِهِ قَدِ انْفَصَمَتْ عُرَى عُمْرِهِ، أَلا رُبَّ مُعْرِضٍ عَنْ سَبِيلِ رُشْدِهِ قَدْ آنَ أَوَانُ شَقِّ لَحْدِهِ، أَلا رُبَّ رَافِلٍ فِي ثَوْبِ شَبَابِهِ قَدْ أَزِفَ فِرَاقُهُ لأَحْبَابِهِ، أَلا رُبَّ مُقِيمٍ عَلَى جَهْلِهِ قَدْ قَرُبَ رَحِيلُهُ عَنْ أَهْلِهِ، أَلا رُبَّ مَشْغُولٍ بِجَمْعِ مَالِهِ قَدْ حَانَتْ خَيْبَةُ آمَالِهِ، أَلا رُبَّ سَاعٍ فِي جَمْعِ حُطَامِهِ قَدْ دَنَا تَشْتِيتُ عِظَامِهِ، أَلا رُبَّ مُجِدٍّ فِي تَحْصِيلِ لَذَّاتِهِ قَدْ آنَ خَرَابُ ذَاتِهِ، أَيْنَ مَنْ كَانَ مِثْلَ هَذِهِ الأَيَّامِ فِي مَنَازِلِهِ يَنْسَأُ فِي طَمَأْنِينَتِهِ إِزْعَاجَ مَنَازِلِهِ، مَشْغُولا بِشَهَوَاتِهِ مَغْرُورًا بِعَاجِلِهِ، أَمَا أَصَابَ مَقَاتِلَهُ سَهْمٌ مُقَاتِلُهُ، أَمَا ظَهَرَ خَسَارُهُ عِنْدَ حِسَابِ مُعَامِلِهِ، أَيْنَ الْمُعْتَذِرُ مِمَّا جَنَاهُ فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مَوْلاهُ، أَيْنَ الْبَاكِي عَلَى تَقْصِيرِهِ قَبْلَ تَحَسُّرِهِ

فِي مَصِيرِهِ، يَا مَطْرُودًا مَا دَرَى، تُعَاتِبُ وَلا تَفْهَمُ مَا جَرَى، مَتَى تُرَى عَلَى الْبَابِ تُرَى: (تَعَالَوْا كُلَّ مَنْ حَضَرَا ... لِنَطْرِقَ بَابَهُ سَحَرَا) (وَنَبْكِي كُلُّنَا أَسَفًا ... عَلَى مَنْ بَاتَ قَدْ هَجَرَا) رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَفْرَحُونَ بِدُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ الْحُورِ وَالْخَزَنَةِ وَالْوِلْدَانِ كَمَا يَفْرَحُ أَهْلُ النَّارِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ إِذَا سَكَنُوهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْعَثُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكُنَّ أَيَّتُهَا الْجِنَانُ أَنَا جِبْرِيلُ الأَمِينُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَزَيَّنِي وَتَجَدَّدِي وَازْدَادِي نُورًا وَتَلأْلَئِي وَافْتَحِي أَبْوَابَ مَقَاصِيرِكَ الْمَرْجَانِيَّةَ وَحِجَالَكِ الْعَبْقَرِيَّةَ الَّتِي بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَحَشْوُهَا أَذْفَرِيَّاتُ الْمِسْكِ، وَأَخْرِجِي مُتَضَمِّنَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْتَقَ فِي لَيْلَتِكِ هَذِهِ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ وَعَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَلَيَالِيهَا وَعَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ وَزِنَةِ الْجِبَالِ وَعَدَدَ الرِّمَالِ. يَا مُضَيِّعًا الْيَوْمَ تضيعه أمس، تيقظ ويحك فقد قتلت النفس، وتبه للسعود فإلى كم تحس، وَاحْفَظْ بَقِيَّةَ الْعُمْرِ فَقَدْ بِعْتَ الْمَاضِيَ بِالْبَخْسِ. (أَطِلْ جَفْوَةَ الدُّنْيَا وَتَهْوِينَ شَأْنِهَا ... فَمَا الْعَاقِلُ المغرور فيها بعاقل) (يرجى خُلُودًا مَعْشَرٌ ضَلَّ ضُلُّهُمُ ... وَدُونَ الَّذِي يَرْجُونَ غول الغوائل) (وليس الأماني للبقاء وبان مَضَتْ ... بِهَا عَادَةً إِلا تَعَالِيلَ بَاطِلِ) (وَمَا الْمُفْلِتُونَ أَجْمَلَ الدَّهْرُ فِيهِمُ ... بِأَكْثَرَ مِمَّنْ فِي عِدَادِ الْحَبَائِلِ) (يُسَارُ بِنَا قَصْدَ الْمَنُونِ وَإِنَّنَا ... لَنُسْعَفُ أَحْيَانًا بِطَيِّ الْمَرَاحِلِ) (غَفَلْنَا عَنِ الأَيَّامِ أَطْوَلَ غَفْلَةٍ ... وَمَا جَوْبُهَا الْمَخْشِيُّ مِنْهَا بِغَافِلِ) إِخْوَانِي حِبَالُ الأَمَلِ رِثَاثٌ، وَسَاحِرُ الْهَوَى نَفَّاثٌ، رَحَلَ الأَقْرَانُ إِلَى ظَلامِ الأَجْدَاثِ، للَّهِ مَا صَنَعَتِ الأَجْدَاثُ فِي الأَحْدَاثِ، أَفْسَدَهُمْ بَلاهُمْ فَإِذَا هم

بِلاهُمْ أَيْ وَاللَّهِ وَعَاثَ. بَاتُوا شِبَاعًا مِنَ الأَمَلِ فَإِذَا هُمْ غِرَاثٌ وَبَانَ لَهُمْ أَنَّ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْهَوَى أَضْغَاثٌ وَاسْتَغَاثُوا بالخلاص وقد فات الغيات، عجبا لهم مالهم صَيَّرَ النَّوَى مَالَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ. فَدَبِّرُوا أَنْتُمْ أَحْوَالَكُمْ فَغَدًا تَرَوْنَ أَمْوَالَكُمْ لِلْوُرَّاثِ، أَسَفًا لأَجْسَامٍ ذُكُورٍ وَعُقُولِ إِنَاثٍ: (أَكَبَّ بَنُو الدُّنْيَا عَلَيْهَا وَإِنَّهَا ... لَتَنْهَاهُمُ الأَيَّامُ عَنْهَا لَوِ انْتَهَوْا) (مَضَى قَبْلَنَا قُدُمًا قُرُونٌ كَثِيرَةٌ ... وَنَحْنُ وَشِيكًا مَا سَنَمْضِي كَمَا مَضَوْا) (سَيَبْكُونَ حُزْنًا حَوْلَ قَبْرِكَ سَاعَةً ... وَلا يَبْرَحُونَ الْقَبْرَ إِلا وَقَدْ سَلَوْا) (رَأَيْتَ بَنِي الدُّنْيَا إِذَا مَا سَمَوْا بِهَا ... هَوَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا عَلَى قَدْرِ مَا سَمَوْا) يَا مَنْ يَجُولُ فِي الْمَعَاصِي قَلْبُهُ وَهَمُّهُ، يَا مُؤْثِرَ الْهَوَى عَلَى التُّقَى لَقَدْ ضَاعَ حَزْمُهُ، يَا مُعْتَقِدًا صِحَّتَهُ فِيمَا هُوَ سُقْمُهُ، يَا مَنْ كُلَّمَا زَادَ عُمْرُهُ زَادَ إِثْمُهُ، يَا طَوِيلَ الأَمَلِ وَقَدْ رَقَّ عَظْمُهُ، أَمَا وَعَظَكَ الزَّمَانُ وَزَجَرَكَ مَلَمُّهُ، أَيْنَ الشَّبَابُ قُلْ لِي قَدْ بَانَ رَسْمُهُ، أَيْنَ زَمَانُ الْمَرَحِ لَمْ يَبْقَ إِلا اسْمُهُ، أَيْنَ اللَّذَّةُ ذَهَبَ الْمَطْعُومُ وَطَعْمُهُ، كَيْفَ يُقَاوِي الْمُقَاوِي وَالْمَوْتُ خَصْمُهُ، كَيْفَ خَلاصُ مَنْ قَدْ أُغْرِقَ فِيهِ سَهْمُهُ، يَا لَدِيغَ الأَمَلِ قَدْ بَالَغَ فِيهِ سُمُّهُ، يَا قَلِيلَ الْعِبَرِ وَقَدْ رَحَلَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ، يَا مَنْ سَيَجْمَعُهُ اللَّحْدُ عَنْ قَلِيلٍ وَيَضُمُّهُ، كَيْفَ يُوعَظُ مَنْ لا يَعِظُهُ عَقْلُهُ وَلا فَهْمُهُ، كَيْفَ يُوقَظُ مَنْ نَامَ قَلْبُهُ لا عَيْنُهُ وَلا جِسْمُهُ. (إِذَا لَمْ تَكُنْ دُنْيَاكَ دَارَ إِقَامَةٍ ... فَمَا لَكَ تَبْنِيهَا بِنَاءَ مُقِيمْ) (وَمَا صَحَّ وُدُّ الْخِلِّ فِيهَا وَإِنَّمَا ... يُغَرُّ بِوُدٍّ فِي الْحَيَاةِ سَقِيمْ) (وَجَدْتَ بَنِي الأَيَّامِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ ... يَعُدُّونَ فِيهَا شَقْوَةً كَنَعِيمْ) (تزيدك فقرا كلما ازددت ثروة ... فتلفى غنيا في ثياب عديم)

المجلس السادس

المجلس السادس لاستفتاح شهر رمضان الحمد لله اللطيف الرؤوف الْعَظِيمِ الْمَنَّانِ، الْكَبِيرِ الْقَدِيرِ الْقَدِيمِ الدَّيَّانِ، الْغَنِيِّ الْعَلِيِّ الْقَوِيِّ السُّلْطَانِ، الْحَلِيمِ الْكَرِيمِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، الأَوَّلِ فَالسَّبْقُ لِسَبْقِهِ، الْمُنْعِمُ فَمَا قَامَ مَخْلُوقٌ بِحَقِّهِ، الْمُوَالِي بِفَضْلِهِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ بِشَرَائِفِ الْمَنَائِحِ عَلَى تَوَالِي الزَّمَانِ، جَلَّ عَنْ شَرِيكٍ وَوَلَدٍ، وَعَزَّ عَنِ الاحْتِيَاجِ إِلَى أَحَدٍ، وَتَقَدَّسَ عَنْ نَظِيرٍ وَانْفَرَدَ، وَعَلِمَ مَا يَكُونُ وَأَوْجَدَ مَا كَانَ. أَنْشَأَ الْمَخْلُوقَاتِ بِحِكْمَتِهِ وَصَنَعَهَا، وَفَرَّقَ الأَشْيَاءَ بِقُدْرَتِهِ وَجَمَعَهَا، وَدَحَا الأَرْضَ عَلَى الْمَاءِ وأوسعها " والسماء رفعها ووضع الميزان ". سَالَتِ الْجَوَامِدُ لِهَيْبَتِهِ وَلانَتْ، وَذَلَّتِ الصِّعَابُ لِسَطْوَتِهِ وَهَانَتْ، وَإِذَا بَطَشَ {انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} . يُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي، وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي، وَيُبْقِي ويفني، ويشين ويزين، وينقص ويبني {كل يوم هو في شأن} . قَدَّرَ التَّقْدِيرَ فَلا رَادَّ لِحُكْمِهِ وَعَلِمَ سِرَّ الْعَبْدِ وَبَاطِنَ عَزْمِهِ {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إلا بعلمه} ، وَلا يَنْتَقِلُ قَدَمٌ مِنْ مَكَانٍ. مَدَّ الأَرْضَ فَأَوْسَعَهَا بِقُدْرَتِهِ، وَأَجْرَى فِيهَا أَنْهَارَهَا بِصَنْعَتِهِ، وَصَبَغَ أَلْوَانَ نَبَاتِهَا بِحِكْمَتِهِ، فَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى صَبْغِ تِلْكَ الأَلْوَانِ. ثَبَّتَهَا بِالْجِبَالِ الرَّوَاسِي فِي

نَوَاحِيهَا، وَأَرْسَلَ السَّحَابَ بِمِيَاهٍ تُحْيِيهَا، وَقَضَى بِالْفَنَاءِ عَلَى جَمِيعِ سَاكِنِيهَا {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} . مَنْ خَدَمَهُ طَامِعًا فِي فَضْلِهِ نَالَ، وَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ فِي رَفْعِ كَرْبِهِ زَالَ، وَمَنْ عَامَلَهُ أَرْبَحَهُ وَقَدْ قَالَ: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إلا الإحسان} . إِلَهٌ يُثِيبُ عِبَادَهُ وَيُعَاقِبُ، وَيَهَبُ الْفَضَائِلَ وَيَمْنَحُ الْمَنَاقِبَ، فَالْفَوْزُ لِلْمُتَّقِي وَالْعِزُّ لِلْمُرَاقِبِ {وَلِمَنْ خَافَ مقام ربه جنتان} . أَنْعَمَ عَلَى الأُمَّةِ بِتَمَامِ إِحْسَانِهِ، وَعَادَ عَلَيْهَا بِفَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَجَعَلَ شَهْرَهَا هَذَا مَخْصُوصًا بِعَمِيمِ غفرانه {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} . أَحْمَدُهُ عَلَى مَا خَصَّنَا بِهِ فِيهِ مِنَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى بُلُوغِ الآمَالِ وَسُبُوغِ الإِنْعَامِ، وَأَشْهَدُ أَنَّهُ الَّذِي لا تُحِيطُ بِهِ الْعُقُولُ وَالأَذْهَانُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا أَفْضَلُ خَلْقِهِ وَبَرِيَّتِهِ، الْمُقَدَّمُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِبَقَاءِ مُعْجِزَتِهِ، الَّذِي انْشَقَّ لَيْلَةَ وِلادَتِهِ الإِيوَانُ، [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ، وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَفِيقِهِ فِي الْغَارِ، وَعَلَى عُمَرَ فَتَّاحِ الأَمْصَارِ، وَعَلَى شَهِيدِ الدَّارِ عُثْمَانَ، وَعَلَى عَلِيٍّ كَاشِفِ غَمِّهِ سَيِّدِ الشُّجْعَانِ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الْمُطَهَّرِ مِنَ الأَرْجَاسِ، الَّذِي دُعِيَ بِهِ فَسَالَ مِنَ السَّحَابِ تَهْتَانٌ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فيه القرآن} . إِنَّمَا سُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا لِشُهْرَتِهِ فِي دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ. قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَأَمَّا أَسْمَاءُ الشُّهُورِ فَذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ الأَزْهَرِيُّ عَنِ الْمُفَضَّلِ قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَقُولُ لِرَمَضَانَ نَاتِقٌ، وَلِشَوَّالٍ وَعْلٌ، وَلِلْمُحَرَّمِ مُؤْتَمِرٌ، وَلِصَفَرٍ نَاجِرٌ، وَلِرَبيعٍ الأَوَّلِ خَوَّانٌ، وَلِرَبِيعٍ الآخِرِ بُصَّانٌ، وَلِجُمَادَى الأُولَى رُبَّى، ولجماد الآخِرِ حَنِينٌ، وَلِرَجَبٍ الأَصَمُّ، وَلِشَعْبَانَ عَاذِلٌ. قَالَ: وَكَانَتْ عَادٌ تُسَمِّي هَذِهِ الأَشْهُرَ بِهَذَا فَلَمَّا نَقَلَتِ الْعَرَبُ أَسْمَاءَ هَذِهِ الأَشْهُرِ سَمَّوْهَا بِمَا وَقَعَتْ فِيهِ مِنَ الزَّمَانِ. قَالَ ثَعْلَبٌ:

سُمِّيَ رَمَضَانَ لأَنَّ الإِبِلَ تَرْمَضُ فِيهِ مِنَ الحر، وسمي شوال لأَنَّ الأَلْبَانَ كَانَتْ تَشُولُ فِيهِ أَيْ تَذْهَبُ وتقل. وسمي ذو القعدة لأنهم كانوا يقعدون فيه. وذو الْحِجَّةِ لأَنَّهُمْ كَانُوا يَحُجُّونَ فِيهِ. وَالْمُحَرَّمَ لِتَحْرِيمِ القتال فيه. وصفر لأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْقَطْرَ فِيهِ، يُقَالُ صَفِرَ السقاء إذا خلا. وربيع لأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْبَعُونَ فِيهِمَا. وَجُمَادَى لأَنَّ الْمَاءَ يجمد فيهما، ورجب مِنَ التَّعْظِيمِ يُقَالُ رَجَّبَهُ يُرَجِّبُهُ إِذَا عَظَّمَهُ. وقال شمر: ومنه سمي رجب. وَشَعْبَانَ لأَنَّهُمْ يَتَفَرَّقُونَ وَيَتَشَعَّبُونَ فِيهِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: سُمِّيَ صَفَرًا لأَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ إِلَى بِلادٍ تُسَمَّى الصَّفَرِيَّةَ يَمْتَارُونَ مِنْهَا. وَقَدْ أَحْدَثَتِ الْعَرَبُ لأَسْمَاءِ شُهُورِ الأَعَاجِمِ أَسْمَاءَ. فَنَقَلْتُ مِنْ خَطِّ أَبِي بَكْرِ بْنِ الأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابٍ قَدْ صَنَعَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الصُّبْحِيُّ قَالَ: لَقَّبَتِ الْعَرَبُ شُهُورَ الْعَجَمِ بِأَلْقَابٍ غَيْرَ مَا سَمَّتْهَا بِهِ الْعَجَمُ: تِشْرِينُ الأَوَّلُ أَحَدٌ وَثَلاثُونَ يَوْمًا وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي ثَلاثُونَ يَوْمًا وَاسْمُهُ عِنْدَ الْعَرَبِ طَلِيقٌ، وَتُسَمِّي التِّشْرِينَيْنِ الْقَصَّابَيْنِ لِفُشُوِّ الْمَوْتِ فِيهِمَا وَكَثْرَةِ مَنْ يَمُوتُ، وَكَانُونُ أَحَدٌ وَثَلاثُونَ يَوْمًا وَاسْمُهُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِجْدَحٌ، وَكَانُونُ الآخِرُ اسمه عند العرب حديج وتسميهما أَيْضًا شَيْبَانُ وَمِلْحَانَ لِلثَّلْجِ وَبَيَاضِهِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ قَالَ الْكُمَيْتُ: (وَأَصْبَحَتِ الآفَاقُ حُمْرًا جُنُوبُهَا ... بِشَيْبَانَ أَوْ مِلْحَانَ فَالْيَوْمُ أَشْيَبُ) وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا الْهَزَّارُ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ. وَشبَاطُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَاسْمُهُ عِنْدَ الْعَرَبِ فُرَيْحٌ، وَآذَارُ أَحَدٌ وَثَلاثُونَ يَوْمًا وَاسْمُهُ عِنْدَ الْعَرَبِ مسهلٌ. وَنِيسَانُ ثَلاثُونَ يَوْمًا وَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ صِحَانٌ، وَحَزِيرَانُ ثَلاثُونَ يَوْمًا وَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ وَاقِدٌ، وَتَمُّوزُ أَحَدٌ وَثَلاثُونَ يَوْمًا وَاسْمُهُ عِنْدَهْمُ ضرامٌ، وَأَيْلُولُ ثَلاثُونَ يَوْمًا وَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ طلقٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِي رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أُنْزِلَ نُجُومًا. وَالثَّانِي: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِفَرْضِ صِيَامِهِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ. وَالثَّالِثُ: أُنْزِلَ فِي فَضْلِهِ الْقُرْآنُ. قَالَهُ سفيان بن عيينة. والرابع: ابتدىء فِيهِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {هدى للناس} أي بيانا لهم. والبينات: الآيَاتُ الْوَاضِحَاتُ. وَالْفُرْقَانُ: الْمُفَرِّقُ فِي الدِّينِ بَيْنَ الضَّلالَةِ وَالشُّبْهَةِ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ نَافِعِ بْنِ أُوَيْسٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ ". وَقَدْ رُوِّينَاهُ أَيْضًا عَالِيًا عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكٍ فَذَكَرَهُ. وقال: فتحت أَبْوَابُ الْجَنَّةِ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَنَافِعٌ يُكَنَّى أَبَا سُهَيْلٍ وَهُوَ مِنْ تَابِعِ التَّابِعِينَ، وَالزُّهْرِيُّ مِنَ التَّابِعِينَ فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ، فَهُوَ يُخْرَجُ فِي رِوَايَةِ الأَكَابِرِ عَنِ الأَصَاغِرِ. وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ التَّابِعِينَ فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَمْرٍو وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ كُلُّهُمْ عَنْ كَعْبٍ. وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَوْلادِهِمْ، فَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَنْ عَائِشَةَ حَدِيثَيْنِ، وَرَوَى الْعَبَّاسُ عَنِ ابْنِهِ الْفَضْلِ حَدِيثًا وَعَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثًا وَرَوَى سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنِ ابْنِهِ المعتمر حديثين، وروى أبو بكر ابن عَيَّاشٍ عَنِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ حَدِيثًا وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ عَنِ ابْنِهِ حَدِيثَيْنِ، فِي خَلْقٍ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ. أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِتَارِكٍ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ صَبِيحَةَ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ إِلا غَفَرَ لَهُ "

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ فَلا يُفْتَحُ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِحَّتْ أَبْوَابُ الْجِنَانِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَللَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ". أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سلمة وَلَفْظُهُ: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ". أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْهُنَائِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَهَلَّ شَهْرُ رَمَضَانَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلامَةِ وَالإِسْلامِ وَالْعَافِيَةِ وَالْمُحَلَّلَةِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ وَدِفَاعِ الأَسْقَامِ وَالْعَوْنِ عَلَى الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ، اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ وَسَلِّمْهُ مِنَّا حَتَّى يَنْقَضِيَ وَقَدْ غَفَرْتَ لَنَا وَرَحِمْتَنَا وَعَفَوْتَ عَنَّا. ثُمَّ يُقْبِلُ على الناس بوجهه فيقول: يا أيها الناس إنه إِذَا اسْتَهَلَّ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَأَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَأَبْوَابُ الْجِنَانِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ وَكَانَ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَنَادَى مُنَادٍ كُلَّ لَيْلَةٍ: اللَّهُمَّ أَعْطِ كُلَّ مُمْسِكٍ تَلَفًا وأعط كل منفق خَلَفًا. فَإِذَا اسْتَهَلَّ هِلالُ شَوَّالٍ نُودِيَ الْمُؤْمِنُونَ أَنِ اغْدُوا إِلَى جَوَائِزِكُمْ. وَأَقَلُّ مَا يُجَازَى بِهِ الرَّجُلُ أَنْ يُكْتَبَ لَهُ أَلْفُ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَيُمْحَى عَنْهُ أَلْفُ أَلْفِ سَيِّئَةٍ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ نَظَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ وَإِذَا نَظَرَ اللَّهُ إِلَى عَبْدٍ لَمْ يُعَذِّبْهُ أَبَدًا، وَللَّهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ أَلْفُ أَلْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ ". قَالَ أَبُو عَمْرٍو: فَشَكَكْتُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَكَتَبْتُهُ مِنَ الحسن بن

يَزِيدَ، وَكُنْتُ سَمِعْتُهُ أَنَا وَالْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الله بن الحكيم، حدثنا القاسم بن الحكم العرني، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ الْجَنَّةَ لَتُنَجَّدُ وَتُزَيَّنُ مِنَ الْحَوْلِ إِلَى الْحَوْلِ لِدُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ. فَإِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هَبَّتْ رِيحٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ يُقَالُ لَهَا الْمُثِيرَةُ فَتَصْفِقُ وَرَقَ أَشْجَارِ الْجَنَّاتِ وَحِلَقَ الْمَصَارِيعِ فَيُسْمَعُ لِذَلِكَ طَنِينٌ لَمْ يسمع السماعون أحسن منه، فيشرقن الْحُورُ الْعِينُ حَتَّى يَقِفْنَ عَلَى شَجَرِ الْجَنَّةِ فَيُنَادِينَ: هَلْ مِنْ خَاطِبٍ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُزَوِّجُهُ؟ ثُمَّ يَقُلْنَ: يَا رِضْوَانُ مَا هَذِهِ اللَّيْلَةُ؟ فَيُجِيبُهُنَّ بِالتَّلْبِيَةِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا خَيْرَاتٌ حِسَانٌ هَذِهِ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رمضان فتفتح فيها أبواب الجنات للصائمين مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقول الله عز وجل يا رضوان افتح أَبْوَابُ الْجِنَانِ يَا مَالِكُ أَغْلِقْ أَبْوَابَ الْجَحِيمِ عَنِ الصَّائِّمِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا جِبْرِيلُ اهْبِطْ إِلَى الأَرْضِ فَصَفِّدْ مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ وَغُلَّهُمْ فِي الأَغْلالِ ثُمَّ اقْذِفْ بِهِمْ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ حَتَّى لا يُفْسِدُوا عَلَى أُمَّةِ حَبِيبِي صِيَامَهُمْ. قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ سُؤَلْهُ. هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ مَنْ يُقْرِضُ الْمَلِيءُ غَيْرَ الْمُعْدَمِ الْوَفِيِّ غَيْرِ الظَّلُومِ. قَالَ: وَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَ الإِفْطَارِ أَلْفُ أَلْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَعْتَقَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ أَلْفَ أَلْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ كُلُّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْتَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَدَدِ مَا أَعْتَقَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِهِ، فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ يَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جِبْرِيلَ فَيَهْبِطُ فِي كَبْكَبَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مَعَهُ لِوَاءٌ أَخْضَرُ فَيَرْكِزُ اللواء على ظهر الكعبة وله ستمائة جَنَاحٍ مِنْهَا جَنَاحَانِ لا يَنْشُرُهُمَا إِلا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَيَنْشُرُهُمَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَيُجَاوِزَانِ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ قَالَ: وَيَبُثُّ جِبْرِيلُ الْمَلائِكَةَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ فَيُسَلِّمُونَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ وَمُصَلٍّ وَذَاكِرٍ، فَيُصَافِحُونَهُمْ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِمْ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى جِبْرِيلُ: يَا مَعْشَرَ الْمَلائِكَةِ الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ. فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ مَا صَنَعَ اللَّهُ فِي حَوَائِجِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ إِلَيْهِمْ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَعَفَا عَنْهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ إِلا أَرْبَعَةً. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهَؤُلاءِ الأَرْبَعَةُ

مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَعَاقٌّ لِوَالِدَيْهِ، وَقَاطِعُ رَحِمٍ وَمُشَاحِنٌ؟ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْمُشَاحِنُ؟ قَالَ: هُوَ الْمُصَارِمُ. فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْفِطْرِ سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْجَائِزَةِ، فَإِذَا كَانَ غَدَاةُ الْفِطْرِ يَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلائِكَةَ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَيَهْبِطُونَ إِلَى الأَرْضِ فَيَقُومُونَ عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَيُنَادُونَ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ جَمِيعُ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ إِلا الْجِنَّ وَالإِنْسَ فَيَقُولُونَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ اخْرُجُوا إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ يَغْفِرُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ. فَإِذَا بَرَزُوا فِي مُصَلاهُمْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا مَلائِكَتِي مَا جَزَاءُ الأَجِيرِ إِذَا عَمِلَ عَمَلَهُ؟ فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا جَزَاؤُهُ أَنْ تُوَفِّيَهُ أَجْرَهُ. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أُشْهِدُكُمْ يَا مَلائِكَتِي أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ ثَوَابَهُمْ فِي صِيَامِهِمْ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِمْ رِضَايَ وَمَغْفِرَتِي. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: سَلُونِي فَوَعِزَّتِي وَجَلالِي لا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئًا فِي جَمْعِكُمْ هَذَا لآخِرَتِكُمْ إِلا أَعْطَيْتُكُمُوهُ وَلا لِدُنْيَا إِلا نَظَرْتُ لَكُمْ، وَعِزَّتِي لأَسْتُرَنَّ عَلَيْكُمْ عَثَرَاتِكُمْ مَا رَاقَبْتُمُونِي، وَعِزَّتِي لا أُخْزِيكُمْ وَلا أَفْضَحُكُمْ بَيْنَ أَصْحَابِ الْحُدُودِ أَوِ الْجُدُودِ. شَكَّ أَبُو عَمْرٍو. انْصَرِفُوا مَغْفُورًا لَكُمْ قَدْ أَرْضَيْتُمُونِي وَرَضِيتُ عَنْكُمْ. قَالَ: فَتَفْرَحُ الْمَلائِكَةُ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِمَا يُعْطِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الأَمَّةَ إِذَا أَفْطَرُوا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ تُعْطَهُنَّ أُمَّةٌ قَبْلَهُمْ: خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْمَلائِكَةُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وَيُزَيِّنُ اللَّهُ كُلَّ يَوْمٍ جنته ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون يُلْقُوا عَنْهُمُ الْمُؤْنَةَ أَوِ الأَذَى وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ. وَتُصَفَّدُ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ فَلا يَخْلُصُونَ إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، وَيُغْفَرُ لَهُمْ في آخر ليلة. قبل يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالَ: لا وَلَكِنِ الْعَامِلُ يُوَفَّى أَجْرُهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ قَالا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَطْلَقَ كُلَّ أَسِيرٍ وَأَعْطَى كُلَّ سَائِلٍ. وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْعَرْشِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: قال الله تعالى: يا موسى ابن عِمْرَانَ إِنِّي آمُرُ حَمَلَةَ الْعَرْشِ أَنْ يُمْسِكُوا عَنِ الْعِبَادَةِ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَأَنْ يَقُولُوا كُلَّمَا دَعَا صَائِمٌ رَمَضَانَ: آمِينَ. فَإِنِّي آليت على

الكلام على البسملة

نَفْسِي أَنْ لا أَرُدَّ دَعْوَةَ صَائِمِ رَمَضَانَ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (مَنْ نَالَهُ دَاءٌ دَوٍ بِذُنُوبِهِ ... فَلْيَأْتِ فِي رَمَضَانَ بَابَ طَبِيبِهِ) (فَخُلُوفُ هَذَا الصَّوْمِ يَا قَوْمِ اعْلَمُوا ... أَشْهَى مِنَ المسك السحيق وطيبه) (أو ليس هَذَا الْقَوْلُ قَوْلَ مَلِيكِكُمْ ... الصَّوْمُ لِي وَأَنَا الَّذِي أَجْزِي بِهِ) أَيْنَ مَنْ كَانَ مَعَكُمْ في رمضان الماضي؟ أما أفتنه آفَاتُ الْمَنُونِ الْقَوَاضِي، أَيْنَ مَنْ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ؟ سَافَرَ عَنْ دَارِهِ مُنْذُ زَمَانٍ وَلَمْ، أَيْنَ مَنْ صَبَرَ عَلَى مَشَقَّةِ الْجُوعِ وَالظَّمَا، غَابَ فَمَا آبَ وَمَضَى فَمَا، أَيْنَ الَّذِينَ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالأَدْعِيَةِ خَرَجَتْ تِلْكَ الْجَوَاهِرُ مِنْ تِلْكَ الأَوْعِيَةِ، أَيْنَ مَنْ جَمَعَ مَالا وَوَفَرَّا، وَأَعْلَقَ مِنْ ظُفْرِهِ بِالْمُرَادِ ظَفْرًا، وَمَشَى إِلَى أَغْرَاضِهِ جَمْزًا وَطَفْرًا، أَمَا أَخْرَجَ الْمَوْتُ كَفَّهُ صِفْرًا؟ أَمَا أَعَادَ دِيَارَهُ بِالْخَرَابِ قَفْرًا؟ كَانَتْ تُلاحِظُهُ عُيُونُ الأَجْدَاثِ خَزْرًا وَتَلْمَحُهُ وَهُوَ فِي لَذَّاتِهِ شَزْرًا، فَنَقَلَتْهُ وَهُوَ أَثْقَلُ بِالْوِزْرِ أَزْرًا، ثُمَّ طَالَ عَذَابُهُ وَإِنَّمَا نَالَ نُزْرًا، وَأَوْطَأَتْهُ جَمْرًا لا يُشْبِهُ جَمْرًا فَبَانَ فِي أَسْرِهِ أَذَلَّ الأَسْرَى. (سَلِ الأَيَّامَ مَا فَعَلَتْ بِكِسْرَى ... وَقَيْصَرَ وَالْقُصُورَ وَسَاكِنِيهَا) (أَمَا اسْتَدْعَتْهُمْ لِلْمَوْتِ طُرًّا ... فَلَمْ تَدَعِ الْحَلِيمَ وَلا السَّفِيهَا) (دَنَتْ نَحْوَ الدَّنِيِّ بِسَهْمِ خَطْبٍ ... فَأَصْمَتْهُ وَوَاجَهَتِ الْوَجِيهَا) (أَمَا لَوْ بِيعَتِ الدُّنْيَا بِفَلْسٍ ... أَنِفْتُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَشْتَرِيهَا) إِخْوَانِي: تَفَكَّرُوا لِمَاذَا خُلِقْتُمْ فَالتَّفَكُّرُ عِبَادَةٌ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَ الإِلَهِ فَقَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ، وَالْتَفِتُوا عَنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ إِلَى أَسْبَابِ السَّعَادَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ فِي نَقْصٍ مِنَ الأَعْمَارِ لا فِي زِيَادَةٍ. آهٍ لِنَفْسٍ أَقْبَلَتْ عَلَى الْعَدُوِّ وَقَبِلَتْ، وَبَادَرَتْ مَا يُؤْذِيهَا مِنَ الْخَطَايَا وَعَجِلَتْ، مَنْ لَهَا إِذَا نُوقِشَتْ عَلَى أَفْعَالِهَا وَسُئِلَتْ، وَقُرِّرَتْ بِقَبَائِحِهَا يَوْمَ الْحَشْرِ

فَخَجِلَتْ، وَقُيِّدَتْ بِقُيُودِ النَّدَمِ عَلَى التَّفْرِيطِ وَكُبِلَتْ، وَشَاهَدَتْ يَوْمَ الْجَزَاءِ قُبْحَ مَا كَانَتْ عَمِلَتْ، وَسُلَّ عَلَيْهَا سَيْفُ الْعِتَابِ يَوْمَ الْحِسَابِ فَقُتِلَتْ. أَيُّهَا الْغَافِلُ عَنْ فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ اعْرِفْ زَمَانَكَ، يَا كَثِيرَ الْحَدِيثِ فِيمَا يُؤْذِي احْفَظْ لِسَانَكَ، يَا مَسْئُولا عَنْ أَعْمَالِهِ اعْقِلْ شَانَكَ، يَا مُتَلَوِّثًا بِالزَّلَلِ اغْسِلْ بِالتَّوْبَةِ مَا شَانَكَ، يَا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ كُلُّ قَبِيحٍ تَصَفَّحْ دِيوَانَكَ. (أَقْلِلْ كَلامَكَ وَاحْتَرِزْ مِنْ شَرِّهِ ... إِنَّ الْبَلاءَ بِبَعْضِهِ مَقْرُونُ) (وَكِلْ فُؤَادَكَ بِاللِّسَانِ وَقُلْ لَهُ ... إن الكلام عليكما موزون) (فزناه فليك مُحْكَمًا فِي قِلَّةٍ ... إِنَّ الْبَلاغَةَ فِي الْقَلِيلِ تَكُونُ) يَا مَنْ أَكْثَرُ عُمْرِهِ قَدْ مَضَى، يَا مَنْ نَفْسُهُ مَعَ اللَّحَظَاتِ تُقْتَضَى، يَا مَنْ قَدْ أَنْذَرَهُ سَلْبُ الْقَرِينِ مُعَرِّضًا، كَيْفَ يَحْتَرِسُ الْعُرْيَانُ مِنْ سَيْفٍ مُنْتَضَى، إِنْ كَانَ مَا فَرَّطَ يُوجِبُ السَّخَطَ فَاطْلُبْ فِي هَذَا الشَّهْرِ الرِّضَا، يَا كَثِيرَ الْقَبَائِحَ غَدًا تَنِطْقُ الْجَوَارِحُ، أَيْنَ الدُّمُوعُ السَّوَافِحُ عَلَى تِلْكَ الْقَبَائِحِ، يَا ذَا الدَّاءِ الشَّدِيدِ الْفَاضِحِ، مَا أَعْسَرَ مَرَضَ الْجَوَانِحِ، هَذَا الشَّيْبُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى عَذُولٌ نَاصِحٌ، جَائِحَتُهُ لا تُشْبِهُ الْجَوَائِحُ، يُضَعْضِعُ الأَرْكَانَ الصَّحَائِحَ، يَسُدُّ أَبْوَابَ اللَّهْوِ وَالْمَمَازِحِ، وَالْمَوْتُ فِي خِلالِهِ مُبِينٌ لائِحٌ، أَيْنَ زادك يا أيها الرَّائِحُ، أَيْنَ مَا حَصَّلْتَ هَلْ أَنْتَ رَابِحٌ، يَا أَسَفَى لِهَذَا النَّازِحِ، كَيْفَ حَالُهُ فِي الضَّرَائِحِ، مَنْ لَهُ إِذَا أَوْثَقَهُ الذَّابِحُ، مَنْ لَهُ إِذَا قَامَ النَّائِحُ، وَاسْتَوَى لَدَيْهِ الْعَائِبُ وَالْمَادِحُ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ فِي بُطُونِ الصَّفَائِحِ إِلا عَمَلٌ إِنْ كَانَ لَهُ صَالِحٌ، أَتُرَاهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ النَّصِيحَ مَازِحٌ، ضَاعَتِ الْمَوَاعِظُ إِلا أَنَّ الْمَوْعُوظَ سَكْرَانُ طَافِحٌ. يَا مَنْ قَدْ سَارَتْ بِالْمَعَاصِي أَخْبَارُهُ، يَا مَنْ قَدْ قَبُحَ إِعْلانُهُ وَإِسْرَارُهُ، يَا فَقِيرًا مِنَ الْهُدَى أَهْلَكَهُ إِعْسَارُهُ، أَتُؤْثِرُ الْخُسْرَانَ قُلْ لِي أَوْ تَخْتَارُهُ؟ يَا كَثِيرَ الذُّنُوبِ وَقَدْ دَنَا إِحْضَارُهُ، يَا أَسِيرًا فِي حَبْسِ الطَّرْدِ لا يَنْفَعُهُ إِحْضَارُهُ، نَقْدُكَ بَهْرَجٌ إِذَا حُكَّ مِعْيَارُهُ، كَمْ رُدَّ عَلَى مِثْلِكَ دِرْهَمُهُ وَدِينَارُهُ، يَا مُحْتَرِقًا بِنَارِ الْحِرْصِ حَتَّى مَتَى تَخْبُو نَارُهُ، الْمُذَكِّرُونَ بَيَنْكُمْ قَدْ أَصْبَحُوا كَالسُّمَّارِ، وَأَنْتُمْ قَدْ جَعَلْتُمُ الْمَوَاعِظَ مِثْلَ

الكلام على قوله تعالى

الأَسْمَارِ، وَكَأَنَّ الْقُرْآنَ عِنْدَكُمْ صَوْتُ مِزْمَارٍ، وَقَدْ ضَاعَتْ فِي هَذِهِ الأُمُورِ الأَعْمَارُ، فَأَيْنَ يَكُونُ لِهَذَا الْغَرْسِ إِثْمَارٌ: (مَضَى زَمَانِي وَتَقَضَّى الْمَدَى ... فليتني وفقت هذا الزمين) (أرزمت النار وعارضتها ... فليعجب السامع للمرزمين) (ليت دموعي بمنى سبلت ... لِيَشْرَبَ الْحُجَّاجُ مِنْ زَمْزَمَيْنِ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} كتب: بِمَعْنَى فُرِضَ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي صَادِقٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَاكَوِيَةَ، قَالَ سَمِعْتُ حَسَّانَ بْنَ أَحْمَدَ الْهَاشِمِيَّ يَقُولُ: سَأَلَ الْمَأْمُونُ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا: أَيُّ شَيْءٍ فَائِدَةُ الصَّوْمِ فِي الْحِكْمَةِ؟ فَقَالَ: عَلِمَ اللَّهُ مَا يَنَالُ الْفَقِيرُ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ فَأَدْخَلَ عَلَى الْغَنِيِّ الصَّوْمَ لِيَذُوقَ طَعْمَ الْجُوعِ ضَرُورَةً حَتَّى لا يَنْسَى الْفَقِيرَ مِنْ [شِدَّةِ] الْجُوعِ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لا كَتَبْتُ هَذَا إِلا بِيَدِي! وَلِلصَّوْمِ آدَابٌ يَجْمَعُهَا: حِفْظُ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ وَحِرَاسَةُ الْخَوَاطِرِ الْبَاطِنَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَلقَّى رَمَضَانُ بِتَوْبَةٍ صَادِقَةٍ وَعَزِيمَةٍ مُوَافِقَةٍ. وَيَنْبَغِي تَقْدِيمُ النِّيَّةِ وَهِيَ لازِمَةٌ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَلا بُدَّ مِنْ مُلازَمَةِ الصَّمْتِ عَنِ الْكَلامِ الْفَاحِشِ وَالْغِيبَةِ فَإِنَّهُ مَا صَامَ مَنْ ظَلَّ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، وَكَفُّ الْبَصَرِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْحَرَامِ، وَيَلْزَمُ الْحَذَرَ مِنْ تِكْرَارِ النَّظَرِ إِلَى الْحَلالِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ للَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا ". وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ فَإِنَّهُ لَهُ طَهُورٌ ". وَفِي حَديِثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا قُرِّبَ إِلَى أَحَدِكُمْ طَعَامُهُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ". وَيُسْتَحَبُّ السَّحُورُ وَتَأْخِيرُهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً ". وَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَشَاغَلَ طُولَ نَهَارِهِ بِالذِّكْرِ وَالتِّلاوَةِ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْتِمُ فِي رَمَضَانَ سِتِّينَ خَتْمَةً. أَخْبَرَنَا الْكَرُوخِيُّ بِسَنَدِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ تَسْبِيحَةٍ فِي غَيْرِهِ. (حَقُّ شَهْرِ الصِّيَامِ شَيْئَانِ إِنْ كُنْتَ ... مِنَ الْمُوجِبِينَ حَقَّ الصِّيَامِ) (تَقْطَعُ الصَّوَمْ فِي نَهَارِكَ بِالذِّكْرِ ... وَتُفْنِي ظَلامَهُ بِالْقِيَامِ) أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْجُرَيْرِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " ذَاكِرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي رَمَضَانَ مَغْفُورٌ لَهُ وَسَائِلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ لا يَخِيبُ ". وَعَنْ قَيْسٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: إِنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَصُومُهُ الْعَبْدُ مِنْ رَمَضَانَ يَجِيءُ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ فِي عِمَامَةٍ مِنْ نُورٍ فِي تِلْكَ الْعِمَامَةِ قَصْرٌ مِنْ دُرٍّ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ بَابٍ كُلُّ بَابٍ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ؟ وَيُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ أَنْ يُفْطِرَ الصُّوَّامَ إِذَا أَمْكَنَهُ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ أَوْ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الصَّائِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا، وَمَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ لَهُ أَوْ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْغَازِي شَيْئًا ". فَبَادِرُوا إِخْوَانِي شَهْرَكُمْ بِأَفْعَالِ الْخَيْرِ، وَأَفْرِدُوهَا عَنِ الْخَطَايَا لِتَكُونَ وَحْدَهَا لا غير، واعلموا أن شهركم هذا شهر إِنْعَامٌ وَمَيْرٌ، تَعْرِفُ حُرْمَتَهُ الْمَلائِكَةُ وَالْجِنُّ وَالطَّيْرُ، وَاهًا لأَوْقَاتِهِ مِنْ زَوَاهِرَ مَا أَشْرَفَهَا، وَلِسَاعَاتِهِ الَّتِي كَالْجَوَاهِرِ مَا أَظْرَفَهَا، أَشْرَقَتْ لَيَالِيهَا بِصَلاةِ التَّرَاوِيحِ، وَأَنَارَتْ أَيَّامُهَا بِالصَّلاةِ وَالتَّسْبِيحِ، حِلْيَتُهَا الإِخْلاصُ وَالصِّدْقُ، وَثَمَرَتُهَا الْخَلاصُ وَالْعِتْقُ. تَيَقَّظْ يَا غَافِلُ وانهض ببدارك، فمالك لأَهْلِكَ وَأَنْتَ ضَيْفٌ بِدَارِكَ، وَاسْتَدْرِكْ قَدِيمَكَ وَأَصْلِحْ بِالتُّقَى حَدِيثَكَ، وَامْنَعْ لِسَانَكَ اللَّغْوَ وَاجْعَلِ الذِّكْرَ حَدِيثَكَ، وَصَحِّحْ بِمُجَانَبَةِ الْهَوَى إِيمَانَكَ وَيَقِينَكَ، وَتَدَرَّعْ كَلِمَاتِي هَذِهِ فِي حَرْبِ الْغُرُورِ يَقِينَكَ، إِلَى مَتَى فِي حُبِّ الْبَطَالَةِ مُنْكَمِشٌ، وَبِلَذَّاتِ الْكَسَلِ جَذْلانُ دَهِشٌ، وَإِذَا فَاتَ الْهَوَى بِتَّ مِنَ الْحُزْنِ تَرْتَعِشُ أَمَا رَأَيْتَ ذَا مَالٍ وَأَمَلٍ لَمْ يَعِشْ، أَمَا شَغَلَكَ الْمَوْتُ عَنْ زُخْرُفٍ قَدْ نُقِشَ، أَمَا تَعْلَمُ أَنَّكَ لِلْمَوْتِ فِي الْقَبْرِ تَفْتَرِشُ، أَمَا تَحْذَرُ يَوْمًا لا تَجِدُ الْمَاءَ مِنَ الْعَطَشِ، عَجَبًا لِمُوقِنٍ بِالْقِيَامَةِ لَمْ يجع ولم يعطش. كان أصحاب أبو هريرة يَعْتَكِفُونَ فِي رَمَضَانَ وَيَقُولُونَ: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا. وَاعْتَكَفَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُرَيْرِيُّ فِي الْحَرَمِ سَنَةً لَمْ يَمُدَّ رِجْلَهُ وَلَمْ يَضْطَجِعْ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ قَدَرْتَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: عَلِمَ صِدْقَ بَاطِنِي فَأَعَانَنِي عَلَى ظَاهِرِي.

إِخْوَانِي: هَذَا شَهْرُ التَّيَقُّظِ، هَذَا أَوَانُ التَّحَفُّظِ، إِخْوَانِي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ سَفَرٌ، وَالأَعْمَارُ فِيهَا قِصَرٌ، وَكُلُّكُمْ وَاللَّهِ عَلَى خَطَرٍ، كُونُوا عَلَى خَوْفٍ مِنَ الْقَدَرِ، وَاعْرِفُوا قَدْرَ مَنْ قَدَرَ، وَتَذَكَّرُوا كيف عصيم وَسَتَرَ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ قُمْتُمْ عَلَى الْبَصَرِ، وَسَجَدْتُمْ شُكْرًا عَلَى الإِبَرِ مَا وَفَّيْتُمْ بِشُكْرِ نَعِيمٍ مُحْتَقَرٍ، أَمَا طَوَى الْقَبِيحَ وَالْجَمِيلَ نَشَرَ، أَمَا بَعْضُ نِعَمِهِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ. إِخْوَانِي: آنَ الرَّحِيلُ وَمَا عِنْدَكُمْ خَبَرٌ، إِلَى كَمْ تُوعَظُونَ وَلا تَتَّعِظُونَ، وَتُوقَظُونَ وَلا تَتَيَقَّظُونَ، وَتُتْعِبُونَ النَّاصِحَ وَلا تَقْبَلُونَ، وَيَكْفِي فِي الْبَيَانِ رُؤْيَةُ الأَقْرَانِ يَرْحَلُونَ {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} . أَكُلِّفْتُمْ مَا لا تُطِيقُونَ، أَكُلِّمْتُمْ بِمَا لا تَفْهَمُونَ، مَا لَكُمْ عَنْ مَآلِكُمْ مُعْرِضُونَ، مَا هَذَا الْفُتُورُ وَأَنْتُمْ سَالِمُونَ، مَا هَذَا الرُّقَادُ وَأَنْتُمْ مُنْتَبِهُونَ: (أَقْضِي الدَّهْرَ مِنْ فِطْرٍ وَصَوْمٍ ... وَآخُذُ بُلْغَةً يَوْمًا بِيَوْمِ) (وَأَعْلَمُ أَنَّ غَايَتِي الْمَنَايَا ... فَصَبْرًا تِلْكَ غَايَةُ كُلِّ قَوْمِ) (فَإِنْ تَقِفِ الْحَوَادِثُ دُونَ نَفْسِي ... فَمَا يَتْرُكْنَ إِشْمَامِي وَرَوْمِي) كُمْ مُؤَمِّلٍ إِدْرَاكَ شَهْرٍ مَا أَدْرَكَهُ، فَاجَأَهُ الْمَوْتُ بَغْتَةً فَأَهْلَكَهُ، كَمْ نَاظِرٍ إِلَى يَوْمِ صَوْمِهِ بِعَيْنِ الأَمَلِ طَمَسَهَا بِالْمَمَاتِ كَفُّ الأَجَلِ، كَمْ طَامِعٍ أَنْ يَلْقَاهُ بَيْنَ أَتْرَابِهِ أَلْقَاهُ الْمَوْتُ فِي عُقْرِ تُرَابِهِ. (اسْتَغْفِرِ اللَّهَ بِقَلْبٍ مُنِيبْ ... يَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْهُ قَرِيبْ) (مَأْخُوذُ مَالٍ حَرْبًا يَشْتَكِي ... وَعَادِمُ الدِّينِ الأَخِيذُ الْحَرِيبْ) (وَالإِنْسُ جِنْسٌ كُلُّهُ ظَالِمٌ ... وَالْمُنْصِفُ الْعَادِلُ فِيهِمْ غَرِيبْ) (وَالْعَيْشُ مَحْبُوبٌ أَتَاكَ الأَذَى ... مِنْهُ فَوَاهًا لِلْبَغِيضِ الْحَبِيبْ) (اصْبِرْ إِذَا الْعَامُ سَطَا جدبه ... فطالما جاءك عام خصيب) (خاطبت أقومًا فَلَمْ يَسْمَعُوا ... فَهَلْ تَشَبَّهْتَ بِهِمْ يَا خَطِيبْ) (تَغْسِلُ كَفَّيْكَ مِنَ الزَّهَمِ أَلا ... فَاغْسِلْ فَاكَ مِنْ لَفْظِكَ حَتَّى يَطِيبْ)

أَيُّهَا الْمُجْتَهِدُ هَذَا رَبِيعُ جِدِّكَ، أَيُّهَا الطَّالِبُ هَذِهِ أَوْقَاتُ رِفْدِكَ، تَيَقَّظْ أَيُّهَا الْغَافِلُ مِنْ سِنَةِ الْبَطَالَةِ، تَحَفَّظْ أَيُّهَا الْجَاهِلُ مِنْ شُبَهِ الضَّلالَةِ، اغْتَنِمْ سَلامَتَكَ فِي شَهْرِكَ قَبْلَ أَنْ تُرْتَهَنَ فِي قَبْرِكَ، قَبْلَ انْقِرَاضِ مُدَّتِكَ وَعَدَمِ عدتك وإزماع موتك وَانْقِطَاعِ صَوْتِكَ، وَعُثُورِ قَدَمِكَ وَظُهُورِ نَدَمِكَ، فَإِنَّ الْعُمْرَ سَاعَاتٌ تَذْهَبُ وَأَوْقَاتٌ تُنْهَبُ. وَكُلُّهَا مَعْدُودٌ عَلَيْكَ وَالْمَوْتُ يَدْنُو كُلَّ لَحْظَةٍ إِلَيْكَ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ الْعَامِرِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَرْبِيُّ قَالَ سَمِعْتُ أَحْمَدَ ابن الْمُغَلِّسِ قَالَ سَمِعْتُ سَرِيًّا السَّقَطِيَّ يَقُولُ: السَّنَةُ شَجَرَةٌ، وَالشُّهُورُ فُرُوعُهَا وَالأَيَّامُ أَغْصَانُهَا وَالسَّاعَاتُ أَوْرَاقُهَا وَأَنْفَاسُ الْعِبَادِ ثَمَرَتُهَا، فَشَهْرُ رَجَبٍ أَيَّامُ تَوْرِيقِهَا، وَشَعْبَانُ أَيَّامُ تَفْرِيعِهَا، وَرَمَضَانُ أَيَّامُ قَطْفِهَا، وَالْمُؤْمِنُونَ قُطَّافُهَا. هَذِهِ الأَشْهُرُ الثَّلاثُ الْمُعَظَّمَةُ كَالْجَمَرَاتِ الثَّلاثِ، فَرَجَبٌ كَأَوَّلِ جَمْرَةٍ تُحْمَى بِهَا الْعَزَائِمُ، وَشَعْبَانُ كَالثَّانِيَةِ تَذُوبُ فِيهَا مِيَاهُ الْعُيُونِ، وَرَمَضَانُ كَالثَّالِثَةِ تُورِقُ فِيهَا أَشْجَارُ الْمُجَاهَدَاتِ، وَأَيُّ شَجَرَةٍ لَمْ تُورِقْ فِي الرَّبِيعِ قُطِعَتْ لِلْحَطَبِ! فَيَا مَنْ قَدْ ذَهَبَتْ عَنْهُ هَذِهِ الأَشْهُرُ وَمَا تَغَيَّرَ أَحْسَنَ اللَّهُ عَزَاءَكَ! إِخْوَانِي: إِنَّمَا شُرِعَ الصَّوْمُ لِيَقَعَ التَّقَلُّلُ، فَأَمَّا مَنْ أَوْثَقَ الرِّزْمَةَ فَمَا لَهُ نِيَّةٌ فِي الْبَيْعِ، إِذَا اسْتَوْفَيْتَ الْعِشَاءَ تَكَدَّرَ اللَّيْلُ بِالنَّوْمِ، وَإِذَا اسْتَوْفَيْتَ السَّحُورَ تَخَبَّطَ النهار بالكسل، وإنما شرع السحور ليتقوى المتقلل مِنَ الْعِشَاءِ وَلِيَنْتَبَهِ الْغَافِلُ، وَمَا أَرَى رَمَضَانَ إِلا زَادَكَ شِبَعًا وَغَفْلَةً. وَا عَجَبًا لَوْ عُرِضَ عَلَيْكَ أَنْ تَشْرَبَ شَرْبَةَ مَاءٍ فِي رَمَضَانَ لَمَا شَرِبْتَ وَلَوْ ضُرِبْتَ، وَأَنْتَ فِيهِ تَغِشُّ فِي الْبَيْعِ وَتُطَفِّفُ فِي الْمِيزَانِ، فَإِذَا خَرَجَ شَرِبْتَ الْخَمْرَ فِي شَوَّالٍ، أَمَا كَانَ النَّاهِي عَنْ هَذَا هُوَ النَّاهِي عَنْ ذَاكَ {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} . تَاللَّهِ لَوْ قِيلَ لأَهْلِ الْقُبُورِ تَمَنَّوْا لَتَمَنَّوْا يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، إِلَى مَتَى أَنْتَ فِي ثياب

الْبَطَرِ، أَمَا تَعْلَمُ مَصِيرَ الصُّوَرِ، عَجَبًا لَكَ تُؤْمِنُ وَتَأْمَنُ الْغِيَرَ، أَمَا يَنْفَعُكَ مَا تَرَى مِنَ الْعِبَرِ، أَصُمَّ السَّمْعُ أَمْ غُشِيَ الْبَصَرُ، تَاللَّهِ إِنَّكَ لَعَلَى خَطَرٍ، آنَ الرَّحِيلُ وَدَنَا السَّفَرُ، وَعِنْدَ الْمَمَاتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ. كُلَّمَا خَرَجْتَ مِنْ ذُنُوبٍ دَخَلْتَ فِي أُخَرَ، يَا قَلِيلَ الصَّفَا إِلَى كَمْ هَذَا الْكَدَرُ، أَنْتَ فِي رَمَضَانَ كَمَا كُنْتَ فِي صَفَرٍ، إِذَا خَسِرْتَ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَمَتَى تَرْبَحُ، وَإِذَا لَمْ تسافر فيه نحو الْفَوَائِدُ فَمَتَى تَبْرَحُ، يَا مَنْ إِذَا تَابَ نَقَضَ، يَا مَنْ إِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، يَا مَنْ إِذَا قَالَ كَذَبَ، كَمْ سَتَرْنَاكَ عَلَى مَعْصِيَةٍ، كَمْ غَطَّيْنَاكَ عَلَى مُخْزِيَةٍ. (يَا عَامِرًا مَا يَقْطُنُ ... يَا هَالِكًا مَا يَفْطِنُ) (يَا سَاكِنَ الْحُجُرَاتِ مَا ... لَكَ غَيْرُ قَبْرِكَ مَسْكَنُ) (أَحْدِثْ لِرَبِّكَ تَوْبَةً ... وَسَبِيلُهَا لَكَ مُمْكِنُ) (فَكَأَنَّ شَخْصَكَ لَمْ يَكُنْ ... فِي النَّاسِ سَاعَةَ تُدْفَنُ) (وَكَأَنَّ أَهْلَكَ قَدْ بَكَوْا ... سِرًّا عَلَيْكَ وَأَعْلَنُوا) (فَإِذَا مَضَتْ بِكَ لَيْلَةٌ ... فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَحْزَنُوا) (النَّاسُ فِي غَفَلاتِهِمْ ... وَرَحَى الْمَنِيَّةِ تَطْحَنُ) (مَا دون دائرة الردى ... حصن لمن يتحصن) (مالي رَأَيْتُكَ تَطْمَئِنُّ ... إِلَى الْحَيَاةِ وَتَرْكَنُ) (وَجَمَعْتَ مَا لا ينبغي ... وبنيت مالا تَسْكُنُ) (وَسَلَكْتَ فِيمَا أَنْتَ فِي ... الدُّنْيَا بِهِ مُتَيَقِّنٌ) (أَظَنَنْتَ أَنَّ حَوَادِثَ ... الأَيَّامِ لا تَتَمَكَّنُ)

المجلس السابع

المجلس السابع لانْتِصَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ الْحَمْدُ للَّهِ الأَحَدِيِّ الذَّاتِ، الْعَلِيِّ الصِّفَاتِ الْجَلِيِّ الآيَاتِ الْوَفِيِّ الْعِدَاتِ، رَافِعِ السماوات وَسَامِعِ الأَصْوَاتِ، عَالِمِ الْخَفِيَّاتِ وَمُحْيِي الأَمْوَاتِ، تَنَزَّهَ عَنِ الآلاتِ وَتَقَدَّسَ عَنِ الْكَيْفِيَّاتِ، وَتَعَظَّمَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، جَلَّ عَنِ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، ثَبَّتَ الأَرْضَ بِالأَطْوَادِ الرَّاسِيَاتِ، وَأَحْيَاهَا بَعْدَ مَوْتِهَا بِالسُّحُبِ الْمَاطِرَاتِ، فَإِذَا أَرْخَتْ عَزَالَيْهَا ضَحِكَ بِاخْضِرَارِهِ النبات، وقال الْمُبْتَدَعَاتُ بِأَلْسُنِ الإِشَارَاتِ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} . إِذَا بَسَطَ بِسَاطَ الْعَدْلِ تَزَلْزَلَتْ أَقْدَامُ أَهْلِ الثَّبَاتِ، وَإِذَا نَشَرَ رِدَاءُ الْفَضْلِ غَمَرَ الذُّنُوبَ الْمُوبِقَاتِ، {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السيئات} . حَيٌّ بِحَيَاةٍ تَنَزَّهَتْ عَنْ طَارِقِ الْمَمَاتِ، عَالِمٌ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ جَمِيعَ الْمَعْلُومَاتِ، قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى جَمِيعِ الْمَقْدُورَاتِ، أَرَادَ فَلانَتْ لِهَيْبَتِهِ صِعَابُ الْمُرَادَاتِ، وَسَمِعَ فَلَمْ يَعْزُبْ عَنْ سَمْعِهِ خَفِيُّ الأَصْوَاتِ، وَأَبْصَرَ سَوَادَ الْعَيْنِ فِي أَشَدِّ الظُّلُمَاتِ، اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ لا كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا مَرْوِيٌّ بِنَقْلٍ عَنِ الثِّقَاتِ، وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْجَنَّةِ بِالْعُيُونِ النَّاظِرَاتِ، نَصِفُهُ بِالنَّقْلِ الْمُبَايَنِ بِصِحَّتِهِ سَقِيمُ الشُّبُهَاتِ، مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ فِي الأَوْصَافِ وَلا تَشْبِيهٍ فِي الذَّوَاتِ، فَهَلْ عَلَيْنَا مَلامٌ أَمْ هُوَ طَرِيقُ النَّجَاةِ، أَحْمَدُهُ عَلَى جَمِيعِ الْحَالاتِ حَمْدًا يَدُومُ بِدَوَامِ الأَوْقَاتِ، وَأُقِرُّ بِوَحْدَانِيَّتِهِ كَافِرًا بِاللاتِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدا عبده

وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالأَدِلَّةِ الْوَاضِحَاتِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ النَّاهِضِ يَوْمَ الرِّدَّةِ عَلَى أَقْدَامِ الثَّبَاتِ، الْقَائِمِ بِنَصْرِ الإِسْلامِ وَقَدْ قَعَدَ أَهْلُ الْعَزَمَاتِ، الْقَائِلِ: أُقَاتِلُهُمْ وَلَوْ لَمْ أَجِدْ غَيْرَ الْبَنَاتِ، وَعَلَى عُمَرَ الْعَادِلِ فِي الْقَضِيَّاتِ، كَانَ إِذَا مَشَى فَرَقَ الشَّيْطَانُ مِنْ تِلْكَ الْخَطَوَاتِ، وَعَلَى عُثْمَانَ الْمُتَهَجِّدِ بِالْقُرْآنِ فِي الظُّلُمَاتِ، الصَّابِرِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِأَيْدِي الْعِدَاةِ، وَعَلَى عَلِيٍّ ذِي الْمَنَاقِبِ الْعَالِيَاتِ، الْمَخْصُوصِ بِأُخُوَّةِ الرَّسُولِ دُونَ ذَوِي الْقَرَابَاتِ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي بِالسُّؤَالِ بِهِ سَالَتْ عَزَالِي السُّحُبِ الْمَاطِرَاتِ. أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ شَهْرَكُمْ هَذَا قَدِ انْتَصَفَ، فَهَلْ فِيكُمْ مَنْ قَهَرَ نَفْسَهُ وَانْتَصَفَ، وَهَلْ فِيكُمْ مَنْ قَامَ فِيهِ بِمَا عَرَفَ، وَهَلْ تَشَوَّقَتْ هِمَمُكُمْ إِلَى نَيْلِ الشَّرَفِ، أَيُّهَا الْمُحْسِنُ فِيمَا مَضَى مِنْهُ دُمْ، وَأَيُّهَا الْمُسِيءُ وَبِّخْ نَفْسَكَ عَلَى التَّفْرِيطِ وَلُمْ، إِذَا خَسِرْتَ فِي هَذَا الشَّهْرِ مَتَى تَرْبَحُ، وَإِذَا لَمْ تُسَافِرْ فيه نحو الفوائد فمتى تبرح. كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ: كَانَ يُقَالُ مَنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِي رَمَضَانَ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ! أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّارُ بِسَنَدِهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أنس ابن مَالِكٍ يَقُولُ: ارْتَقَى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: آمِينَ ثُمَّ ارْتَقَى ثَانِيَةً فَقَالَ آمِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ فَقَالَ آمِينَ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: عَلامَ أَمَّنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ. فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلاهُ الْجَنَّةَ. فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ. فَقُلْتُ: آمِينَ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَذَا رَمَضَانُ قَدْ جَاءَ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّاتِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ بَعُدَ امْرُؤٌ أَدْرَكَ رَمَضَانَ لَمْ يُغْفَرْ له، إذا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَمَتَى؟! ". وَبِالإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ". (إِذَا الرَّوْضُ أَمْسَى مُجْدِبًا فِي رَبِيعِهِ ... فَفِي أَيِّ حِينٍ يَسْتَنِيرُ وَيَخْصُبُ)

أخبرنا عبد الله بن علي المقري بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمَ: " إِنَّ أُمَّتِي لَنْ يُخْزَوْا أَبَدًا مَا أَقَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خِزْيُهُمْ؟ قَالَ: مِنْ إِضَاعَتِهِمْ شَهْرِ رَمَضَانَ بِانْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ، فَمَنْ عَمِلَ سُوءًا أَوْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ شَهْرُ رَمَضَانَ،، وَلَعَنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمَلائِكَةُ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْحَوْلِ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلْيَسْتَبْشِرْ بِالنَّارِ، فَاتَّقُوا شَهْرَ رَمَضَانَ فَإِنّ الْحَسَنَاتِ تُضَاعَفُ فِيهِ وَكَذَلِكَ السَّيِّئَاتُ ". عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ شَهْرَكُمْ هَذَا لا قِيمَةَ لَهُ وَلا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ مَا ضَاعَ بِالتَّفْرِيطِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلا رُخْصَةٍ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ وَإِنْ صَامَهُ ". قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: أَبُو الْمُطَوَّسِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُطَوَّسِ ثِقَةٌ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ فِي كِتَابِ النَّصِيحَةِ أَنَّ مَذْهَبَ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنْ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ ثَلاثَةِ آلافِ يَوْمٍ. قَالَ: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرٍ متتابع. وقال الربيع ابن أبي ربيعة ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ صِيَامُ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، لأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ صِيَامَ شَهْرٍ مِنَ اثْنَيْ عشر شهر. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يضاعف: الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. " الصَّوْمُ جُنَّةٌ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. عِبَادَ اللَّهِ: فَرْحَةُ الْحِسِّ عِنْدَ الإِفْطَارِ تَنَاوُلُ الطَّعَامِ، وَفَرْحَةُ الإِيمَانِ بِالتَّوْفِيقِ

الكلام على البسملة

لإِتْمَامِ الصِّيَامِ. يَا هَذَا قَدِّمْ دُسْتُورَ الْحِسَابِ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَإِنْ وَجَدْتَ خَلَلا فَارْقَعْهُ بِرُقْعَةِ اسْتِغْفَارٍ، فَإِذَا جَاءَ السَّحَرُ فَاعْقِدْ عُقَدَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ نِيَّةِ الصَّوْمِ، وَتَجَرَّعْ جَرْعَةَ دَمْعَةٍ فِي إِنَاءٍ رَكْعَةً لَعَلَّكَ تَطَّلِعُ عَلَى خَبَايَا خَفَايَا مَا أُعِدَّ لِلصَّائِمِينَ مِنْ مَسْتُورٍ {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} . الكلام على البسملة (قل للمؤمل إِنَّ الْمَوْتَ فِي أَثَرِكَ ... وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكَ الأَمْرُ مِنْ نَظَرِكَ) (فِيمَنْ مَضَى لَكَ إِنْ فَكَّرْتَ مُعْتَبَرٌ ... وَمَنْ يَمُتْ كُلَّ يَوْمٍ فَهْوَ مِنْ نُذُرِكَ) (دَارٌ تُسَافِرُ عَنْهَا مِنْ غَدٍ سفراً ... فلا تؤوب إِذَا سَافَرْتَ مِنْ سَفَرِكَ) (تُضْحِي غَدًا سَمَرًا لِلذَّاكِرِينَ كَمَا ... كَانَ الَّذِينَ مَضَوْا بِالأَمْسِ مِنْ سَمَرِكَ) يَا مُضَيِّعَ الزَّمَانِ فِيمَا يَنْقُصُ الإِيمَانَ، مَا أَرَاكَ فِي رَمَضَانَ إِلا كَجُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَمَا يَشُوقُكَ إِلَى الْخَيْرِ مَا يَشُوقُ، أَمَا يَعُوقُكَ عَنِ الضَّيْرِ مَا يَعُوقُ، مَتَى تَصِيرُ سَابِقًا يَا مَسْبُوقُ، إِلَى مَتَى سَوْقُ الشَّوْقِ إِلَى سَوْقِ الْفُسُوقِ، أَوَّلُ الْهَوَى سَهْلٌ ثُمَّ تَتَخَرَّقُ الْخُرُوقُ، كُلَّمَا حُصِدَ نَبَاتُهُ بِمِنْجَلِ الصَّبْرِ أخرجت العروق، وإن لذيذ شربه فشربه شجى في الخلوق، وَإِنَّمَا لَذَّاتُ الدُّنْيَا كَخَطْفِ الْبُرُوقِ، مَيِّزْ بَيْنَ مَا يَفْنَى وَمَا يَبْقَى تَرَ الْفُرُوقَ، خَلِّ التَّوَانِيَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَفُوقَ عَلَيْكَ حَافِظٌ وَضَابِطٌ، لَيْسَ بِنَاسٍ وَلا غَالِطٍ، يَكْتُبُ الْكَلِمَاتِ السَّوَاقِطَ، وَأَنْتَ فِي لَيْلِ الْحَدَثِ خَابِطٌ، تَتَعَرَّضُ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ لِلْمَسَاخِطِ، يَا مَنْ قَدْ شَابَ إِلَى كَمْ تُغَالِطُ، لا بُدَّ لِلَّيْلِ مِنْ فَجْرٍ مُنِيرٍ كَاشِطٍ، كَيْفَ يَنْهَضُ لِلَّعِبِ واللهو الأشامط، مَاذَا بَقِيَ وَهَذا الشَّيْبُ وَاخِطٌ، أَمَا تَسْتَحِي وَأَنْتَ فِي الإِثْمِ وَارِطٌ، يَا قَاعِدًا عِنْدَ التُّقَى وَهُوَ فِي الْهَوَى نَاشِطٌ، كُلَّمَا رُفِعْتَ لَمْ تَرِدْ إِلا الْمَهَابِطَ، تَيَقَّظْ لِنَفْسِكَ فَقَدْ مَضَى الْفَارِطُ، وَابْكِ عَلَى ذَنْبِكَ وَيَكْفِي الْفَارِطُ، أَصْلِحْ مَا بَقِيَ وَاقْبَلْ مِنَ الْوَسَائِطِ،

جاهد هواك في الدنيا فالفخر للمرابط، نظر لِمَنْ تُعَاشِرُ وَاعْرِفْ لِمَنْ تُخَالِطُ، احْذَرْ جَزَاءَ الْقِسْطِ عَلَيْكَ يَا قَاسِطُ، لا تَغْتَرِرْ بِالسَّلامَةِ فربما قبض الباسط، في لَنَا بِالشُّرُوطِ وَنَحْنُ نَفِي بِالشَّرَائِطِ، ذَكِّرْ نَفْسَكَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الشَّدِيدُ الضَّاغِطُ، إِذَا تَحَيَّرْتَ فِي الأُمُورِ وَزَالَ الْجَأْشُ الرَّابِطُ، لا تَنْفَعُ الأَقَارِبُ وَلا تَدْفَعُ الأَرَاهِطُ، وَنَفْسُ النَّفْسِ يَخْرُجُ مِنْ سَمِّ إِبْرَةِ خَائِطٍ. بَاعَ قَوْمٌ جَارِيَةً قُبَيْلَ رَمَضَانَ، فَلَمَّا حَصَلَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي قَالَ لَهَا هَيِّئِي لَنَا مَا يَصْلُحُ لِلصَّوْمِ، فَقَالَتْ لَقَدْ كُنْتُ قَبْلَكُمْ لِقَوْمٍ كُلُّ زَمَانِهِمْ رَمَضَانُ! للَّهِ دَرُّ أَقْوَامٍ تَفَكَّرُوا فَأَبْصَرُوا، وَلاحَتْ لَهُمُ الْغَايَةُ فَمَا قَصَّرُوا، وَجَعَلُوا اللَّيْلَ رُوحَ قُلُوبِهِمْ وَالصِّيَامَ غِذَاءَ أَبْدَانِهِمْ، وَالصِّدْقَ عَادَةَ أَلْسِنَتِهِمْ وَالْمَوْتَ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ. كَتَبَ رَجُلٌ إِلَى دَاوُدَ الطَّائِيِّ: عِظْنِي. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَاجْعَلِ الدُّنْيَا كَيَوْمٍ صمته عن شهوتك وَاجْعَلْ فِطْرَكَ الْمَوْتَ فَكَأَنْ قَدْ صِرْتَ إِلَيْهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: زِدْنِي. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ فَارْضَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ مَعَ سَلامَةِ دِينِكَ كَمَا رَضِيَ أَقْوَامٌ بِالْكَثِيرِ مَعَ ذَهَابِ دِينِهِمْ. وَالسَّلامُ. كَانَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ قَدْ وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ عِشْرِينَ دِينَارًا فَأَنْفَقَهَا فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَكَانَ جَالِسًا فِي دَارِهِ فَإِذَا وَقَعَ سَقْفٌ تَقَدَّمَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنْ بَقِيَ دِهْلِيزُ الدَّارِ فَمَاتَ فِيهِ. وَتَحْتَ رَأْسِهِ لَبِنَةٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ السَّمَّاكِ فَقَالَ: الْيَوْمَ تَرَى ثَوَابَ مَا كُنْتَ تَعْمَلُ! وَرَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ في المنام فقال له: أوصني، فقال: داو قروح بَاطِنَكَ بِالْجُوعِ وَاقْطَعْ مَفَاوِزَ الدُّنْيَا بِالأَحْزَانِ، وَآثِرْ حب الله على هواك لا تُبَالِ مَتَى تَلْقَاهُ. طُوبَى لِعَبْدٍ بَالَغَ فِي حِذَارِهِ، وَاحْتَفَرَ بِكَفِّ فِكْرِهِ قَبْرَهُ قَبْلَ احْتِفَارِهِ، وَانْتَهَبَ زَمَانَهُ بِأَيْدِي بِدَارِهِ، وَأَعْذَرَ فِي الأَمْرِ قَبْلَ شَيْبِ عِذَارِهِ، وَلَمْ يَرْضَ فِي زَادِهِ

الكلام على قوله تعالى:

بِتَقْلِيلِهِ وَاخْتِصَارِهِ، وَرَأَى عَيْبَ الْهَوَى فَلَمْ يَصْطَلِ بِنَارِهِ، وَدَافَعَ الشَّهَوَاتِ وَصَابَرَ الْمَكَارِهَ، إِنْ بَحَثْتَ عَنْهُ رَأَيْتَهُ صَائِمٌ نَهَارَهُ، وَإِنْ سَأَلْتَ عَنْ لَيْلِهِ فَقَائِمٌ أَسْحَارَهُ، وَإِنْ تَلَمَّحْتَهُ فَالزَّفِيرُ فِي إِصْعَادِهِ وَالدَّمْعُ فِي انْحِدَارِهِ، وَلا يَتَنَاوَلُ مِنَ الدُّنْيَا إِلا قَدْرَ اضْطِرَارِهِ، بَاعَهَا فَاشْتَرَى بِهَا مَا يَبْقَى بِاخْتِيَارِهِ، هَلْ فِيكُمْ مُتَشَبِّهٌ بِهَذَا أَوْ عَلَى نِجَارِهِ؟ يَا حُسْنَهُ وَمَصَابِيحُ النُّجُومِ تُزْهِرُ وَالنَّاسُ قَدْ نَامُوا وَهُوَ فِي الْخَيْرِ يسهر، غسل وجهه من ماء عينه وَعَيْنُ الْعَيْنِ أَطْهَرُ، فَلَمَّا قَضَى وِرْدَ الدُّجَى جَلَسَ يَتَفَكَّرُ، فَخَطَرَ عَلَى قَلْبِهِ كَيْفَ يَمُوتُ وَكَيْفَ يُقْبَرُ، وَتَصَوَّرَ صَحَائِفَهُ كَيْفَ تُطْوَى وَكَيْفَ تنشر، فهام قلبه فِي بَوَادِي الْقَلَقِ وَتَحَيَّرَ، فَطَلَّقَ الدُّنْيَا ثَلاثًا وَهَلْ يُسْتَوْطَنُ مَعْبَرٌ. (طَوَى مُدَّةً مِنْ دَهْرِهِ دَارَ زُخْرُفٍ ... إِلَى أَبَدٍ ذِي سُنْدُسٍ وَحَرِيرِ) (أَلا تِلْكُمُ الدَّارُ الَّتِي حَلَّ أَهْلُهَا ... بِنَاءٍ عَنِ الْخَطْبِ الْمُخَوِّفِ شَطِيرِ) (لَهُمْ مَا اشْتَهَوْا فيها مَسُوقًا إِلَيْهِمُ ... مَقُودًا إِذَا شَاءُوا بِغَيْرِ جَرِيرِ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أنزل فيه القرآن} إِخْوَانِي: اسْتَدْرِكُوا بَاقِي الشَّهْرِ فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَوْقَاتِ الدَّهْرِ، وَاحْصُرُوا النُّفُوسَ عَنْ هَوَاهَا بِالْقَهْرِ، وَقَدْ سَمِعْتُمْ بِالْحُورِ الْعِينِ فَاهْتَمُّوا بِالْمَهْرِ. أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ بِسَنَدِهِ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ صَدَقَةُ رَمَضَانَ ". عِبَادَ اللَّهِ: اعْلَمُوا أَنَّ النِّصْفَ الأَخِيرَ أَفْضَلُ مِنَ الأَوَّلِ، لأَنَّ فِيهِ الْعَشْرَ وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَالأَعْمَالُ تُضَاعَفُ بِشَرَفِ وَقْتِهَا وَمَكَانِهَا.

(قَدْ بَلَغَ الشَّهْرُ إِلَى نِصْفِهِ ... وَلَيْسَ عَنِّي الشَّهْرُ بِالرَّاضِي) (ظَلَمْتُ صَوْمَ الشَّهْرِ فِي حَقِّهِ ... يَا وَيْلَتَا إِنْ عَدَلَ الْقَاضِي) أَتُرَى صَحَّ لَكَ صَوْمُ يَوْمٍ، أَتُرَى تَسْلَمُ فِي شَهْرِكَ من لوم، أترى لفيك خلوق أم فيك خَلاقٌ، مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ أَجْرُ صَائِمٍ، فَاجْتَهِدْ أَنْ تَصُومَ رَمَضَانَ سِتِّينَ يَوْمًا. (أَيُّهَا الرَّاقِدُ عَنْ نُهْزَتِهِ ... مَا يَرُوعُ السَّيْفَ حَتَّى يشهرا) (وأبي المجد لقد فَازَ بِهِ ... سَالِكٌ فِيهِ الطَّرِيقَ الأَوْعَرَا) إِنَّمَا أَنْتَ ضَيْفٌ أَصْبَحْتَ فِي مَتْرَكٍ، وَمَا فِي يَدَيْكَ وَدِيعَةٌ عِنْدَكَ، وَيُوشِكُ الضَّيْفُ أَنْ يَرْتَحِلَ وَالْوَدِيعَةُ أَنْ تُرَدَّ. ابْكِ عَلَى نَفْسِكَ أَيَّامَ الْحَيَاةِ بُكَاءَ مَنْ وَدَّعَ الدُّنْيَا: (قَدْ كَشَفَ الدَّهْرُ عَنْ يَقِينِي ... قِنَاعَ شَكِّي فِي كُلِّ شَيْءِ) (لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحُلَّ مَوْتٌ ... عُقْدَةَ نَفْسٍ مِنْ كُلِّ حَيِّ) مَتَى تَتَّبِعُ أَوْصَافَ الإِنْصَافِ، إِلَى مَتَى تَرْضَعُ أَخْلافَ الْخِلافِ، أَيْقَظَكَ الدَّهْرُ وَأَرْشَدَكَ الْوَعْظُ فَهِمْتَ، وَحَدَّثَكَ الْمَوْتُ فَمَا فَهِمْتَ، أَلِبَّ حُبَّ الدُّنْيَا بِلُبِّكَ، وَأَقْلِبْ هَوَاهَا مُسْتَقِيمَ قَلْبِكَ، كَمْ نُوقِظُ عَقْلَكَ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ. وَهُوَ لا يَزْدَادُ إِلا رُقَادًا وَسِنَةً، كَمْ نَرْمِي هَدَفَ سَمْعِكَ بِرَشْقِ كَلامٍ لَمْ يَلْذَعْ أَصْلَ قَلْبِكَ بِحُبِّهِ مَلامٌ: (عَيْنُ الْمَنِيَّةِ يَقْظَى غَيْرُ مُطْرِقَةٍ ... وَطَرْفُ مَطْلُوبِهَا مُذْ كَانَ وَسْنَانُ) (جَهْلا تَمَكَّنَ مِنْهُ حِينَ مَوْلِدِهِ ... وَالنُّطْقُ صَاحَ وَلُبُّ الْمَرْءِ سَكْرَانُ) لَقِيَ رَاهِبٌ رَاهِبًا فَقَالَ: أَتَرْضَى حَالَتَكَ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا لِلْمَوْتِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَهَلْ عَزَمْتَ عَلَى تَوْبَةٍ مِنْ غَيْرِ تَسْوِيفٍ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَهَلْ تَعْلَمُ دَارًا تَعْمَلُ فِيهَا سِوَى هَذِهِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَهَلْ لِلإِنْسَانِ نَفْسَانِ إِذَا مَاتَتْ وَاحِدَةٌ عَمِلَ بِالأُخْرَى؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَهَلْ تَأْمَنُ هُجُومَ الْمَوْتِ عَلَى حَالَتِكَ هَذِهِ؟ قال: لا.

قَالَ: فَمَا أَقَامَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ عَاقِلٌ! صَعِدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ عَلَى يَقِينٍ فَأَنْتُمْ حَمْقَى، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ فَأَنْتُمْ هَلْكَى. ثُمَّ نَزَلَ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ فَقَالَ: مَا بِكَ؟ قَالَ: أَمْرَاضٌ وَأَعْلالٌ. قَالَ: لَتَصْدُقَنِّي قَالَ: ذُقْتُ حَلاوَةَ الدُّنْيَا مُرًّا (وَهَبْنِي كَتَمْتُ الْحَقَّ إِذْ قُلْتُ غَيْرَهُ ... أَتَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْعُقُولِ السَّرَائِرُ) (أَيَا ذَاكَ إِنَّ السِّرَّ فِي الْوَجْهِ نَاطِقٌ ... وَإِنَّ ضَمِيرَ الْقَلْبِ فِي الْعَيْنِ ظَاهِرُ) قَالَ صَالِحٌ الْمُرِّيُّ: كَانَ عَطَاءٌ السُّلَمِيُّ قَدِ اجْتَهَدَ حَتَّى انْقَطَعَ فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: إِنِّي مُكْرِمُكَ بِكَرَامَةٍ فَلا تَرُدَّ كَرَامَتِي. فَبَعَثْتُ إِلَيْهِ شَرْبَةً مِنْ سَوِيقٍ مَعَ وَلَدِي وَقُلْتُ لَهُ لا تَبْرَحْ حَتَّى يَشْرَبَهَا. فَجَاءَ فَقَالَ قَدْ شَرِبَهَا. فَبَعَثْتُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِثْلَهَا فَجَاءَ فَقَالَ مَا شَرِبَهَا. فَأَتَيْتُ إِلَيْهِ فَلُمْتُهُ وَقُلْتُ: رَدَدْتَ عَلَيَّ كَرَامَتِي وَهَذَا يُقَوِّيكَ عَلَى الْعِبَادَةِ. فَقَالَ: يَا أَبَا بِشْرٍ لَقَدْ شَرِبْتُهَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ وَاجْتَهَدْتُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَمْ أَقْدِرْ، كُلَّمَا هَمَمْتُ بِشُرْبِهَا ذَكَرْتُ قوله تعالى: " وطعاما ذا غصة " قَالَ: فَقُلْتُ أَنَا فِي وَادٍ وَأَنْتَ فِي وَادٍ! (أَطَلْتَ وَعَنَّفْتَنِي يَا عَذُولُ ... بَلَيْتَ فَدَعْنِي حَدِيثِي طَوِيلُ) (هَوَايَ هَوَى بَاطِنٍ ظَاهِرٌ ... قَدِيمٌ حَدِيثٌ لَطِيفٌ جَلِيلُ) (أَلا مَا لِذَا اللَّيْلِ لا يَنْقَضِي ... كَذَا لَيْلُ كُلِّ مُحِبٍّ طَوِيلُ) (أَبِيتُ أُسَاهِرُ نَجْمَ الدُّجَى ... إِلَى الصُّبْحِ وَحْدِي وَدَمْعِي يَسِيلُ) للَّهِ دَرُّ تِلْكَ الْقُلُوبِ الطَّاهِرَةِ، أَنْوَارُهَا فِي ظَلامِ الدُّجَى ظَاهِرَةٌ، رَفَضَتْ حِلْيَةَ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ فَاخِرَةً، كَمْ تَرَكَتْ شَهْوَةً وَهِيَ عَلَيْهَا قَادِرَةٌ، بَاتَتْ عُيُونُهَا وَالنَّاسُ نِيَامٌ سَاهِرَةً، زَفَرَاتُ الْخَوْفِ تُثِيرُ سَحَائِبَ الأَجْفَانِ الْمَاطِرَةَ، يَنْدُبُونَ عَلَى الذُّنُوبِ وَإِنْ كَانَتْ نَادِرَةً، كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ يَا بَائِعَ الآخِرَةِ، شَيْبٌ وَعَيْبٌ أمثال

سَائِرَةٌ، أَمَلٌ مَعَ هَرَمٍ هَذِهِ نَادِرَةٌ، كَمْ أَقْوَامٍ أَمَّلُوا هَذَا الشَّهْرَ فَخَابَ الأَمَلُ، أَيْنَ هم خلوا فِي الأَلْحَادِ بِالْعَمَلِ، تَاللَّهِ إِنَّ نِسْيَانَ النُّقَلِ فِي الْعَقْلِ خَلَلٌ، أَمَا يَكْفِي زَجْرُ الْمُقِيمِ بِمَنْ رَحَلَ: (كُلُّ حَيٍّ فَقِصَارَاهُ الأَجَلْ ... لَيْسَ لِلْخَلْقِ بِذَا الْمَوْتِ قِبَلْ) (نُوَبٌ قُلْنَ لِعَادٍ قَبْلَنَا ... آنَ مِنْ ذَاتِ الْعِمَادِ الْمُرْتَحَلْ) (وَاسْتَوَى مِنْ ذَلِكَ الشِّرْبُ الَّذِي ... صَارَ عَلا لِسِوَاهُمْ وَنَهَلْ) (أَلْبَسَتْ نَاسًا سِوَاهُمْ حَلْيَهُمْ ... ثُمَّ بَزَّتْهُ فَرَاحُوا بِالْعَطَلْ) (فَكَأَنَّ الدَّهْرَ لَمْ يَجْمَعْ لَهُمْ ... رَغَدَ الْعَيْشِ وَإِعْزَازَ الدُّوَلْ) (فَاسْأَلِ الإِيوَانَ عَنْ أَرْبَابِهِ ... كَيْفَ حَلَّتْ بِهِمْ تِلْكَ الرِّحَلْ) (نَقَلَتْهُمْ عَنْ فَضَاءٍ وَاسِعٍ ... يَسْرَحُ الطَّرْفُ بِهِ حَتَّى يَمِلْ) (نَحْنُ أَعْرَاضُ خُطُوبٍ إِنْ رَمَتْ ... عَادَتِ الأدراع لينا كالحلل) (وإذا ما اختلفت أَسْهُمُهَا ... فَأَصَابَتْ بَطَلَ الْقَوْمِ بَطَلْ) يَا مَنْ عُمْرُهُ قَدْ وَهَى فِي سِلْكِ الْهَوَى فَهُوَ مُتَهَافِتٌ، مَتَى تَسْتَدْرِكُ فِي هَذِهِ الْبَقِيَّةِ بِالتُّقْيَةِ الْفَائِتَ، مَتَى يَشْبَعُ النَّوْمُ فَتَجْتَمِعُ الْهُمُومُ الشَّتَائِتُ، أَيُّهَا الْمَرِيضُ الْبَالِي وَمَا يُبَالِي بِوَصْفِ نَاعِتٍ، إِلَى مَتَى أَنْتَ بِالْعُيُوبِ إِلَى عَلامِ الْغُيُوبِ مُتَمَاقِتٌ، مُتَعَرِّضٌ صَبَاحًا لِلسَّاخِطِ وَمَسَاءً لِلْمَاقِتِ، وَتَعْمَلُ بالأغراض في الإعراض عمل الصفارات. يَا مُتَكَلِّمًا فِي ضُرِّهِ فَأَمَّا فِي نَفْعِهِ فَسَاكِتٌ، كُلَّمَا نَقَصَ أَجَلُهُ زَادَ أَمَلُهُ وَهَذَا مُتَفَاوِتٌ، أَمَا رَأَيْتَ الْمَنَايَا تَحْصِدُ الْمُنَى فِي الْمَنَابِتِ، كَمْ مُقَهْقِهٍ رَجَعَ الْقَهْقَرَى إِلَى حُزْنٍ بَاكِتٍ، كَأَنَّكَ بِالْمَوْتِ إِذْ ثَوَى قَدْ فَزَّعَ الثَّوَابِتَ، وَنَزَلَ بِكَ إِذْ نَزَلَ بِكَ إِلَى حَيْرَةِ بَاهِتٍ، يَا جَاهِلا قَدْ غُرَّ لَقَدْ سُرَّ بِفِعْلِكَ الشَّامِتُ: (كَأَنَّكَ بِالْمُضِيِّ إِلَى سَبِيلِكْ ... وقد جد الْمُجَهِّزُ فِي رَحِيلِكْ) (وَجِيءَ بِغَاسِلٍ فَاسْتَعْجَلُوهُ ... بِقَوْلِهِمْ لَهُ افْرُغْ مِنْ غَسِيلِكْ) (وَلَمْ تَحْمِلْ سِوَى خِرَقٍ وَقُطْنٍ ... إِلَيْهِمْ مِنْ كَثِيرِكَ أَوْ قَلِيلِكْ) (وَقَدْ مَدَّ الرِّجَالُ إِلَيْكَ نَعْشًا ... فَأَنْتَ عَلَيْهِ ممتدا بطولك)

(وَصَلَّوْا ثُمَّ إِنَّهُمْ تَدَاعَوْا ... بِحَمْلِكَ فِي بُكُورِكَ أَوْ أَصِيلِكْ) (فَلَمَّا أَسْلَكُوكَ نَزَلْتَ قَبْرًا ... وَمَنْ لَكَ بِالسَّلامَةِ فِي نُزُولِكْ) (أَعَانَكَ يَوْمَ تَدْخُلُهُ رحيم ... رؤوف بِالْعِبَادِ عَلَى دُخُولِكْ) (فَسَوْفَ تُجَاوِرُ الْمَوْتَى طَوِيلا ... فَدَعْنِي مِنْ قَصِيرِكَ أَوْ طَوِيلِكْ) (أَخِي إِنِّي نَصَحْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِي ... وَبِاللَّهِ اسْتَعَنْتُ عَلَى قَبُولِكْ) (أَلَسْتَ تَرَى الْمَنَايَا كُلَّ يَوْمٍ ... تُصِيبُكَ فِي أَخِيكَ وَفِي خَلِيلِكْ) إِخْوَانِي: هَذِهِ أَيَّامٌ تُصَانُ، هِيَ كَالتَّاجِ عَلَى رَأْسِ الزَّمَانِ، وَصَلَ تَوْقِيعُ الْقِدَمِ مِنَ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أنزل فيه القرآن} . يَا لَهُ مِنْ وَقْتٍ عَظِيمِ الشَّانِ تَجِبُ حِرَاسَتُهُ مِمَّا إِذَا حَلَّ شَانَ، كَأَنَّكُمْ بِهِ قَدْ رَحَلَ وَبَانَ وَوَجْهُ الصُّلْحِ مَا بَانَ {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} . مِنَ اللازِمِ فِيهِ أَنْ تُحْرَسَ الْعَيْنَانِ، وَمِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُحْفَظَ اللِّسَانُ، وَمِنَ الْمُتَعَيَّنِ أَنْ تَمْنَعَ مِنَ الْخُطَى فِي الْخَطَا الْقَدَمَانِ {شَهْرُ رمضان الذي أنزل فيه القرآن} . زِنُوا أَفْعَالَكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ بِمِيزَانٍ، وَاشْتَرُوا خَلاصَكُمْ بِمَا عَزَّ وَهَانَ، فَإِنْ عَجَزْتُمْ فَسَلُوا الْمُعِينَ وَقَدْ أَعَانَ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فيه القرآن} . قَدْ ذَهَبَ نِصْفُ الْبِضَاعَةِ فِي التَّفْرِيطِ وَالإِضَاعَةِ، وَالتَّسْوِيفُ يَمْحَقُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بحسبان {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} . يَا وَاقِفًا فِي مَقَامِ التَّحَيُّرِ هَلْ أَنْتَ عَلَى عَزْمِ التَّغَيُّرِ؟ إِلَى مَتَى تَرْضَى بِالنُّزُولِ فِي مَنْزِلِ الْهَوَانِ. هَلْ مَضَى مِنْ يَوْمِكَ يَوْمٌ صَالِحٌ سَلِمْتَ فِيهِ مِنْ جَرَائِمِ الْقَبَائِحِ، تَاللَّهِ لَقَدْ سَبَقَ الْمُتَّقِي الرَّابِحُ وَأَنْتَ رَاضٍ بِالْخُسْرَانِ. عَيْنُكَ مُطْلَقَةٌ فِي الْحَرَامِ، وَلِسَانُكَ مُنْبَسِطٌ فِي الآثَامِ، وَلأَقْدَامِكَ عَلَى الذُّنُوبِ إِقْدَامٌ، وَالْكُلُّ مُثْبَتٌ فِي الدِّيوَانِ. قَلْبُكَ غَائِبٌ فِي صَلَوَاتِكَ وَفِكْرُكَ يَنْقَضِي فِي شَهَوَاتِكَ، فَإِنْ رَكِنَ إِلَيْكَ مُعَامِلٌ فِي مُعَامَلاتِكَ دَخَلْتَ بِهِ خَانَ مَنْ خَانَ أَكْثَرُ كَلامِكَ لَغْوٌ وَهَذَرٌ، وَالْوَقْتُ بِالتَّفْرِيطِ شذر مذر،

وَإِنِ اغْتَبْتَ مُسْلِمًا لَمْ تُبْقِ وَلَمْ تَذَرْ، الأَمَانَ مِنْكَ الأَمَانَ. تَاللَّهِ لَوْ عَقِلْتَ حَالَكَ أَوْ ذَكَرْتَ ارْتِحَالَكَ أَوْ تَصَوَّرْتَ أَعْمَالَكَ لَبَنَيْتَ بَيْتَ الأَحْزَانِ: سَيَشْهَدُ رَمَضَانُ عَلَيْكَ بِنُطْقِ لِسَانِكَ ونظر عينيك، وسيشار يوم الجمع إِلَيْكَ شَقِيَ فُلانٌ وَسَعِدَ فُلانٌ. فِي كُلِّ لَحْظَةٍ تَقْرُبُ مِنْ قَبْرِكَ، فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِكَ، وَمَا أَرَاكَ إِلا كَأَوَّلِ شَهْرِكَ، الأَوَّلُ وَالآخِرُ سِيَانٌ، قَدْ ذَهَبَ مِنَ الشَّهْرِ النِّصْفُ وَمَا أَرَى مِنْ عَمَلِكَ النَّصْفَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَاضِي قَدْ قَبُحَ الْوَصْفُ فَقُمِ الآن. والحمد لله وحده.

المجلس الثامن في ذكر العشر وليلة القدر

المجلس الثامن فِي ذِكْرِ الْعَشْرِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ الْحَمْدُ للَّهِ عالم السِّرَّ وَالْجَهْرَ، وَقَاصَمَ الْجَبَابِرَةَ بِالْعِزِّ وَالْقَهْرِ، مُحْصِي قَطَرَاتِ الْمَاءِ وَهُوَ يَجْرِي فِي النَّهْرِ، فَضَّلَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى أَوْقَاتَ الدَّهْرِ {ليلة القدر خير من ألف شهر} . فهو المتفرد بِإِيجَادِ خَلْقِهِ الْمُتَوَحِّدُ بِإِدْرَارِ رِزْقِهِ، الْقَدِيمُ فَالسَّبْقُ لِسَبْقِهِ، الْكَرِيمُ فَمَا قَامَ مَخْلُوقٌ بِحَقِّهِ، عَالِمٌ بِسِرِّ الْعَبْدِ وَسَامِعٌ نُطْقَهُ، وَمُقَدِّرٌ عِلْمَهُ وَعَمَلَهُ وَعُمْرَهُ وَفِعْلَهُ وَخَلْقَهُ، وَمُجَازِيهِ عَلَى عَيْبِهِ وَذَنْبِهِ وَكَذِبِهِ وَصِدْقِهِ، الْمَالِكُ الْقَهَّارُ فَالْكُلُّ فِي أَسْرِ رِقِّهِ، الْحَلِيمُ السَّتَّارُ فَالْخَلْقُ فِي ظِلِّ رِفْقِهِ، أَرْسَلَ السَّحَابَ تُخَافُ صَوَاعِقُهُ وَيُطْمَعُ فِي وَدْقِهِ، يُزْعِجُ الْقُلُوبَ رَوَاعِدُهُ وَيَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ، جَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَالْقَمَرَ نُورًا بَيْنَ غَرْبِهِ وَشَرْقِهِ. أَحْمَدُهُ عَلَى الْهُدَى وَتَسْهِيلِ طُرُقِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي رَتْقِهِ وَفَتْقِهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وَالضَّلالُ عَامٌّ فَمَحَاهُ بِمَحْقِهِ، صَلَّى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ السَّابِقِ بِصِدْقِهِ، وَعَلَى عُمَرَ كَاسِرِ كِسْرَى بِتَدْبِيرِهِ وَحِذْقِهِ، وَعَلَى عُثْمَانَ جَامِعِ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَبْدِيدِهِ فِي رِقِّهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ وَاعْذُرُونَا فِي عِشْقِهِ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ مُشَارِكِهِ فِي أَصْلِهِ وَعِرِقْهِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . الهاء في {أنزلناه} كِنَايَةٌ عَنِ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أُنْزِلَ جُمْلَةً فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ وَهُوَ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا.

وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَيْلَةُ الْعَظَمَةِ، يُقَالُ: لِفُلانٍ قَدْرٌ. قَالَهُ الزُّهْرِيُّ. وَيَشْهَدُ لَهُ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قدره} . وَالثَّانِي: أَنَّهُ الضِّيقُ. أَيْ هِيَ لَيْلَةٌ تَضِيقُ فِيهَا الأَرْضُ عَنِ الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ. قَالَهُ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَيَشْهَدُ لَهُ: {وَمَنْ قُدِرَ عليه رزقه} . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْقَدْرَ الْحُكْمُ كَأَنَّ الأَشْيَاءَ تُقَدَّرُ فِيهَا. قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَالرَّابِعُ: لأَنَّ مَنْ لم يكن قدر صار بمراعاتها إذا قَدْرٍ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ. وَالْخَامِسُ: لأَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا كِتَابٌ ذُو قَدْرٍ وَيَنْزِلُ فِيهَا رَحْمَةٌ ذَاتُ قَدْرٍ وَمَلائِكَةٌ ذَوُو قَدْرٍ. حَكَاهُ شَيْخُنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وما أدراك ما ليلة القدر} هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لَهَا وَالتَّشْوِيقِ إلى خبرها. في قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شهر} قولان: أحدهما: أنها مِنْ زَمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ فِي ذَلِكَ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا مَا رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَمَلَ السِّلاحَ عَلَى عَاتِقِهِ أَلْفَ شَهْرٍ فَعَجِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ وَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي أُمَّتِهِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَقَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ الَّتِي حَمَلَ فِيهَا الإِسْرَائِيلِيُّ السِّلاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ فِيمَا مَضَى لا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ عَابِدٌ حَتَّى يَعْبُدَ اللَّهَ أَلْفَ شَهْرٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِيهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الأَلْفَ شَهْرٍ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: قِيَامُهَا وَالْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ أَلْفِ شَهْرٍ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ وَصِيَامِهَا لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَهَذَا قَوْلُ قتادة واختيار الْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: الْمَلائِكَةُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى. وَفِي الرُّوحِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جِبْرِيلُ. قَالَهُ الأَكْثَرُونَ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي كَبْكَبَةٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ يُصَلُّونَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ قَائِمٍ أَوْ قاعد يذكر اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرُّوحَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ لا تَرَاهُمُ الْمَلائِكَةُ إِلا تِلْكَ اللَّيْلَةَ يَنْزِلُونَ مِنْ لَدُنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. قَالَهُ كَعْبٌ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَلَكٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ. قَالَهُ الواقدي. قوله تعالى: {فيها} أَيْ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: " بإذن ربهم " أَيْ بِأَمْرِ رَبِّهِمْ وَالْمَعْنَى: مَا أَمَرَ بِهِ وقضاه. {من كل أمر} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ بِكُلِّ أَمْرٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَنْزِلُونَ بِكُلِّ أَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى قَابِلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {سلام هي} أَيْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ سَلامٌ. وَفِي مَعْنَى السَّلامِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لا يَحْدُثُ فِيهَا دَاءٌ وَلا يُرْسَلُ فِيهَا شَيْطَانٌ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ: وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى السَّلامِ الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ هِيَ أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ فِي رَمَضَانَ. قُلْتُ: تَكُونُ مَعَ الأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قُلْتُ: فِي

أَيِّ رَمَضَانَ هِيَ؟ قَالَ: الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأُوَلِ وَالْعَشْرِ الأُخَرِ. قُلْتُ: فِي أَيِّ الْعُشْرَيْنِ هِيَ؟ قَالَ: ابْتَغُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، لا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدُ. ثُمَّ حَدِّثْ وَحَدِّثْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ لَمَا أَخْبَرْتَنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِيَ؟ فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ عَلَيَّ مِثْلَهُ قَالَ: " الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ لا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا ". وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ. أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ بِسَنَدِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: هِيَ لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ لا شَكَّ فِيهَا. ثُمَّ قَالَ: لَيْلَةُ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وَأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالأَفْرَادِ وَاخْتَلَفُوا فِي الأَخَصِّ بِهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: أُرِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيَهَا قَالَ: أَرَانِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وطين. فوالذي أكرامه لَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي بِنَا صَلاةَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَإِنَّ جَبْهَتَهُ وَأَرْنَبَةَ أَنْفِهِ لَفِي الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَالثَّانِي: لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَرَانِي صَبِيحَتَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ " فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ. وَأَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُتِيتُ وَأَنَا نَائِمٌ فَقِيلَ لِي: إِنَّ اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ. فَقُمْتُ وَأَنَا نَاعِسٌ فَتَعَلَّقْتُ بِبَعْضِ أَطْنَابِ فُسْطَاطِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يُصَلِّي فَنَظَرْتُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْضَحُ الْمَاءَ فِي وُجُوهِ نِسَائِهِ لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ من رمضان.

تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ أَبُو بَحْرٍ. وَالثَّالِثُ: لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَرَوَى هَذَا الْمَعْنَى أَبُو بَكْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالرَّابِعُ: لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيًا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ". أَوْ قَالَ: تَحَرُّوهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَحَلَفَ لا يَسْتَثْنِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. فَقُلْتُ: بِمَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ؟ فَقَالَ: بِالآيَةِ أَوْ بِالْعَلامَةِ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهَا تُصْبِحُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَلَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ قَالَ: قلت لأبي بن كعب: أَبَا الْمُنْذِرِ أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قَالَ: صَاحِبُنَا يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْهَا قَالَ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْهَا. فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ وَلَكِنْ أَحَبَّ أَنْ لا تَتَّكِلُوا وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ لَمْ يَسْتَثْنِ قُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ أَنَّى أَعْلَمُ ذَلِكَ؟ قَالَ: بِالآيَةِ الَّتِي قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ لا شُعَاعَ لَهَا كَأَنَّهَا طَسْتٌ حَتَّى تَرْتَفِعَ. لَفْظُ الْمُقَدَّمِيِّ. قَالَ ابْنُ نَاصِرٍ: عَالٍ صَحِيحٌ. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بِسَنَدِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلا أَتَى نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ يَشُقُّ عَلَيَّ الْقِيَامُ فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أن يوفقني فيها لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالسَّابِعَةِ. أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ بِسَنَدِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سبع وعشرين ".

وهذا مذهب علي عليه السلام وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّبْعَةَ تَتَكَرَّرُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فالأرض سبع. والثاني: أن قوله " هي " هِيَ الْكَلْمَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ. وَقَالَ عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ: ذُقْتُ مَاءَ الْبَحْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَوَجَدْتُهُ عَذْبًا. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَكَرَّرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَهِيَ تِسْعَةُ أَحْرُفٍ، وَالتِّسْعَةُ إِذَا كُرِّرَتْ ثَلاثًا كَانَتْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ. وَالْخَامِسُ: مَشْكُوكٌ فِيهِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلاحَى رَجُلانِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلاحَى رَجُلانِ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ أَوِ السَّابِعَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا حَيْوَةُ، عَنِ ابْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ بَقِيَّةَ، عَنْ بُجَيْرِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي مَنْ قَامَهُنَّ ابْتِغَاءَ حِسْبَتِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَهِيَ لَيْلَةٌ وَتْرٌ تِسْعٌ أَوْ سَبْعٌ أَوْ خَامِسَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ أَوْ آخِرُ لَيْلَةٍ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا سَاكِنَةٌ صَاحِيَةٌ لا بَرْدَ فِيهَا وَلا حَرَّ، وَلا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ ". قَالَ أَحْمَدُ: وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ عِمْرَانَ الْقَطَّانِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِنَّهَا

لَيْلَةٌ سَابِعَةٍ أَوْ تَاسِعَةٍ وَعِشْرِينَ إِنَّ الْمَلائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي وَيَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمُدِيرُ بِسَنَدِهِمَا عَنْ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اطْلُبُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ وَآخِرِ لَيْلَةٍ، وَهِيَ لَيْلَةٌ بَلْجَةٌ لا حَارَّةٌ وَلا بَارِدَةٌ وَلا يُرْمَى فِيهَا بِنَجْمٍ وَلا يَنْبَحُ فِيهَا كَلْبٌ ". أَخْبَرَنَا الْكَرُوخِيُّ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: ذُكِرَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عِنْدَ أَبِي بَكْرَةَ فَقَالَ: مَا أَنَا بِمُلْتَمِسِهَا لِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " الْتَمِسُوهَا فِي تِسْعٍ بَقِينَ أَوْ سَبْعٍ بَقِينَ أَوْ خَمْسٍ بَقِينَ أَوْ ثَلاثٍ بَقِينَ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ أَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَلاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كُنَّا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَخَفَقَ رَأْسَهُ خَفْقَةً فَقَالَ: أَيُّ لَيْلَةٍ هَذِهِ؟ قُلْنَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. قَالَ: اللَّيْلَةُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لأَنَّ الْمَلائِكَةَ نَزَلُوا مِنَ السَّمَاءِ وَعَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ. قُلْتُ: وَالْحِكْمَةُ فِي إِخْفَائِهَا أَنْ يَتَحَقَّقَ اجْتِهَادُ الطَّالِبِ كَمَا أُخْفِيَتْ سَاعَةُ اللَّيْلِ وَسَاعَةُ الْجُمُعَةِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ كَانَ يَسْهَرُ لَيْلَهُ وَيَحْمِلُ كَلَّهُ فَيَشُدُّ مِئْزَرَهُ وَيَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا أبوعبد اللَّهِ السَّلالُ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ".

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ وَيُوقِظُ أَهْلَهُ وَيَشُدُّ الْمِئْزَرَ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حديث ابن عمر قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ الأُوَلَ مِنْ رَمَضَانَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ". وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ". قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَمَا أَدْعُو؟ فَقَالَ: " قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ". وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَتَأَهَّبُونَ لَهَا. فَكَانَ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ حُلَّةٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَلْبَسُهَا فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرْجَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَكَانَ ثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ يَغْتَسِلانِ وَيَتَطَيَّبَانِ وَيَلْبَسَانِ أَحْسَنَ ثِيَابِهِمَا وَيُطَيِّبَانِ مَسَاجِدَهُمَا فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي تُرْجَى فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. إِخْوَانِي: وَاللَّهِ مَا يَغْلُو فِي طَلَبِهَا عَشْرٌ، لا وَاللَّهِ وَلا شَهْرٌ، لا وَاللَّهِ وَلا دَهْرٌ. فَاجْتَهِدُوا فِي الطَّلَبِ فَرُبَّ مُجْتَهِدٍ أَصَابَ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لما

الكلام على البسملة

دَخَلَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلا كُلُّ مَحْرُومٍ ". الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (اكْدَحْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي مَهَلٍ ... وَلا تَكُنْ جَاهِلا فِي الْحَقِّ مُرْتَابَا) (إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَوْرُودٌ مَنَاهِلُهَا ... لا بُدَّ مِنْهَا وَلَوْ عُمِّرْتَ أَحْقَابَا) (وَفِي اللَّيَالِي وَفِي الأَيَّامِ تِجْرِبَةٌ ... يَزْدَادُ فِيهَا أُولُو الأَلْبَابِ أَلْبَابَا) (بَعْدَ الشَّبَابِ يَصِيرُ الصَّلْبُ مُنْحَنِيًا ... وَالشَّعْرُ بَعْدَ سَوَادٍ كَانَ قَدْ شَابَا) (يُفْنِي النُّفُوسَ وَلا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ ... لَيْلٌ سَرِيعٌ وَشَمْسٌ كَرُّهَا دَابَا) (لِمُسْتَقَرٍّ وَمِيقَاتٍ مُقَدَّرَةٍ ... حَتَّى يَعُودَ شُهُودُ النَّاسِ غُيَّابَا) (وَمَنْ تَعَاقَرُهُ الأَيَّامُ تُبْدِلُهُ ... بِالْجَارِ جَارًا وَبِالأَصْحَابِ أَصْحَابَا) (خَلَّوْا بُرُوجًا وَأَوْطَانًا مُشَيَّدَةً ... وَمُؤْنِسِينَ وَأَصْهَارًا وَأَنْسَابَا) (فَيَا لَهُ سَفَرًا بُعْدًا وَمُغْتَرَبًا ... كُسِيتَ مِنْهُ لِطُولِ النَّأْيِ أَثْوَابَا) (بِمُوحِشٍ ضَيِّقٍ نَاءٍ مَحَلَّتُهُ ... وَلَيْسَ مِنْ حِلِّهِ مِنْ غَيْبَةٍ آبَا) (كَمْ مَنْ مَهِيبٍ عَظِيمِ الْمُلْكِ مُتَّخِذٍ ... دُونَ السرادق حراساً وحجابا) (أَضْحَى ذَلِيلا صَغِيرَ الشَّأْنِ مُنْفَرِدًا ... وَمَا يُرَى عِنْدَهُ فِي الْقَبْرِ بَوَّابَا) (وَقَبْلَكَ النَّاسُ قَدْ عَاشُوا وَقَدْ هَلَكُوا ... فَأَضْرَبَ الْحَيُّ عَنْ ذِي النأي إضرابا) (يا أيها الرَّجُلُ النَّاسِي لِمَصْرَعِهِ ... أَصْبَحْتَ مِمَّا سَتَلْقَى النَّفْسُ هَرَّابَا) (اكْدَحْ لِنَفْسِكَ مِنْ دَارٍ تُزَايِلُهَا ... وَلا تَكُنْ لِلَّذِي يُؤْذِيكَ طَلابَا) يَا مَنْ أَمَلُهُ إِلَى أَجَلِهِ يَقُودُهُ، أَنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ نَيْلِ مَا تُرِيدُهُ، كَمْ مِنْ غُصْنٍ غَضٍّ كُسِرَ عُودُهُ، كَمْ مَلِكٍ عَاتٍ تَفَرَّقَتْ جُنُودُهُ، لقط طَرَقَ الْمَوْتُ الْغَيْلَ فَهَلَكَتْ أُسُودُهُ، كَمْ هَدَّ الْمَوْتُ مِنْ جَبَلٍ، كَمْ رَحَّلَ إِلَى الْقُبُورِ وَنَقَلَ، فَرَّغَ الْمَنَازِلَ وَأَخْلَى

الْحُلَلَ وَأَعْرَى فِي الْعَرَاءِ أَصْحَابَ الْحُلَلِ، وَنَقَضَ بِمِعْوَلِ التَّلَفِ رُكْنَ الأَمَلِ، وَمَحَا مِنْ كِتَابِ اللَّهْوِ سُطُورَ الْجَذَلِ، وَصَاحَ بِصَوْتِهِ الْهَائِلِ: جَاءَ الأَجَلُ، لَقَدْ غَرَّكَ مِنَ الأَمَانِي لُمُوعُهَا وَإِنَّ أَشْقَى النُّفُوسِ طُمُوعُهَا، إِنَّهَا الدُّنْيَا قَدْ صُرَّتْ ضُرُوعُهَا، وَكَمْ جَرَّ جَرِيرَةً مَا جُنِيَ جُرُوعُهَا، طوبى لنفسي طَالَ عَنْهَا جُوعُهَا، وَصَفَتْ لَهَا الْجَنَّةُ فَاشْتَدَّ نُزُوعُهَا، تَفَكَّرَتْ فِي تَقْصِيرِهَا فَسَالَتْ دُمُوعُهَا، مَا عِنْدَكَ خَبَرٌ مِمَّا تَحْوِي ضُلُوعُهَا: (أَرَأَيْتَ مِنْ دَاءِ الصَّبَابَةِ عَائِدًا ... وَوَجَدْتَ فِي شَكْوَى الْغَرَامِ مُسَاعِدَا) (هَيْهَاتَ مَا تَرِدُ الْمَطَالِبُ نَائِمًا ... عَنْهَا وَلا تَصِلُ الْكَوَاكِبُ قَاعِدَا) إِنَّ جَوَاهِرَ الأَشْيَاءِ يُظْهِرُهَا سَبْكُهَا، وَإِنَّ قُلُوبَ الْمُوقِنِينَ قَدْ زَالَ شَكُّهَا، يَا ذَا الْكَسَلِ هَذَا زَمَانُ النَّشَاطِ، يَا ذَا الأَنَفَةِ إِنَّ لِلتَّوْبِيخِ أَلَمَ السِّيَاطِ. إِخْوَانِي: رَاعُوا حَقَّ هَذِهِ الأَيَّامِ مَهْمَا أَمْكَنَكُمْ، وَاشْكُرُوا الَّذِي وَهَبَ لَكُمُ السَّلامَ وَمَكَّنَكُمْ، فَكَمْ مُؤَمِّلٍ لَمْ يَبْلُغْ مَا أَمَّلَ، وَإِنْ شَكَكْتَ فَتَلَمَّحْ جِيرَانَكَ وَتَأَمَّلْ، كَمْ مِنْ أُنَاسٍ صَلَّوْا مَعَكُمْ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ التَّرَاوِيحَ، وَأَوْقَدُوا فِي المساجد طلبا للأجر المصابيح، اقتضهم قَبْلَ تَمَامِهِ الصَّائِدُ فَقُهِرُوا، وَأَسَرَتْهُمُ الْمَصَايِدُ فَأُسِرُوا، وَغَمَسَهُمُ التَّلَفُ فِي بَحْرِهِ فَمُقِلُوا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمُ الْمَالُ وَالآمَالُ لَمَّا نُقِلُوا، أَدَارَتْ عَلَيْهِمُ الْمَنُونُ رَحَاهَا، وَحَكَّ وُجُوهَهُمُ الثَّرَى فَمَحَاهَا، فَأَعْدَمَتْهُمْ صَوْمًا وَفِطْرًا، وَزَوَّدَتْهُمْ مِنَ الْحَنُوطِ عِطْرًا، وَأَصْبَحَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي اللَّحْدِ سَطْرًا، هَذَا حَالُكَ يَا مَنْ لا يَعْقِلُ أَمْرًا، كَمْ تُحَرَّضُ وَمَا يَنْفَعُ التَّحْرِيضُ، وَنُعَرِّضُ لَكَ بِاللَّوْمِ وَمَا يُجْدِي التَّعْرِيضُ، يَا مَنْ لا يَنْتَبِهُ بِالتَّصْرِيحِ وَلا بِالتَّعْرِيضِ، يَا مُتَعَوِّضًا مَا يَفْنَى عَمَّا يَبْقَى بئس التعويض، يا مُسَوِّدًا صَحَائِفَهُ مَتَى يَكُونُ التَّبْيِيضُ، قَدْ أَمْهَلْنَاكَ فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ الْعَرِيضِ، كَمْ يُقَالُ لَكَ ولا تقبل، والحر تَكْفِيهِ الْمَلامَةُ، أَمَارَةُ الْخَيْرِ مَا تَخْفَى، طَرَفُ الْفَتَى يُخْبِرُ عَنْ ضَمِيرِهِ، تَاللَّهِ إِنَّ رَائِضَكَ لمتقف يَضَعُ الْهِنَاءَ مَوَاضِعَ النَّقْبِ، لَوِ ارْعَوَيْتَ لاسْتَوَيْتَ، لَوْ صَحَّ مِنْكَ الْهَوَى أُرْشِدْتَ لِلْحِيَلِ، زَاحِمِ التَّائِبِينَ وَادْخُلْ فِي حِزْبِ الْبَكَّائِينَ، وَكُلُّ غَرِيبٍ للغريب نسيب.

قال يحيى بن معاذ: يا بن آدم طلبت الدنيا طلب من لا بد له منها، وطلبت الآخرة طلب من لا حاجة له إليها، والدنيا قَدْ كُفِيتَهَا وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْهَا، وَالآخِرَةُ بِالطَّلَبِ منك تنالها، فاعقل شأنك يا بن آدَمَ، حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَأَنْتَ تَكْرَهُهَا، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ وَأَنْتَ تَطْلُبُهَا، فَمَا أَنْتَ إِلا كَالْمَرِيضِ الشَّدِيدِ الدَّاءُ، إِنْ صَبَرَتْ نَفْسُهُ عَلَى مَضَضِ الدَّوَاءِ اكْتَسَبَتْ بِالصَّبْرِ عَافِيَةَ الشِّفَاءِ، وَإِنْ جَزَعَتْ نَفْسُهُ مِمَّا يَلْقَى طَالَتْ بِهِ عِلَّتُهُ: (وَفِي الشَّيْبِ مَا يَنْهَى الْحَكِيمَ عَنِ الصِّبَا ... إذا استوقدت نيرانه في عذاره) (وأي امرىء يَرْجُو مِنَ الْعَيْشِ غِبْطَةً ... إِذَا اصْفَرَّ مِنْهُ الْعُودُ بَعْدَ اخْضِرَارِهِ) (وَللَّهِ فِي عَرْضِ السَّمَوَاتِ جَنَّةٌ ... وَلَكِنَّهَا مَحْفُوفَةٌ بِالْمَكَارِهِ) أَمِتْ نَفْسَكَ حَتَّى تُحْيِيَهَا، فَعَاقِبَةُ الصَّبْرِ حُلْوَةٌ. كَمْ صَبَرَ بِشْرٌ عَنْ مُشْتَهًى حَتَّى سَمِعَ: كُلْ يَا مَنْ لَمْ يَأْكُلْ. مَا مُدَّ سِجَافٌ: " نِعْمَ الْعَبْدُ " على قبة " ووهبنا له أهله " حَتَّى جُرِّبَ فِي أَمَانَةِ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} . إِنَّ الأَلَمَ لَيُحْمَدُ إِذَا كَانَ طَرِيقًا إِلَى الصِّحَّةِ، وَإِنَّ الصِّحَّةَ لَتُذَمُّ إِذَا كَانَتْ سَبِيلا إِلَى الْمَرَضِ، أَيُّ فَائِدَةٍ فِي لَذَّةِ سَاعَةٍ أَوْقَعَتْ غَمًّا طَوِيلا، مَا فَهِمَ مَوَاعِظَ الزَّمَانِ مَنْ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِالأَيَّامِ، إِيَّاكَ أَنْ تَسْمَعَ كَلامَ الأَمَلِ فَإِنَّهُ غُرُورٌ مَحْضٌ: (أَمَا تَرَى الدَّهْرَ لا يَبْقَى عَلَى حَالٍ ... طَوْرًا بِأَمْنٍ وَطَوْرًا جَا بِأَوْجَالِ) (مَتَى بَانَ الْفَتَى قَالُوا دَنَا أَجَلٌ ... يَا هَلْ أَرَى فِي اللَّيَالِي غير آجال) (بذل يؤول إِلَى مَنْعٍ وَعَافِيَةٌ ... تَجُرُّ دَاءً وَنَكْسٌ بَعْدَ إِبْلالِ) (وَمَا سُرِرْتُ بِأَيَّامِ الْكَمَالِ فَمَا ... تَنَاقَصُ الشَّيْءُ إِلا عِنْدَ إِقْبَالِ) (نُلْقِي الْمَخَاوِفَ فِي الدُّنْيَا وَنَأْمَنُهَا ... وَنَطْلُبُ الْعِزَّ فِي الدُّنْيَا بِإِذْلالِ) (وتستذم إلينا كل شارقة ... ومالها مُبْغِضٌ فِينَا وَلا قَالِي) (لَذَاذَةٌ لَمْ تُنَلْ إِلا بِمُؤْلِمَةٍ ... وَصِحَّةٌ لَمْ تَدُمْ إِلا بِإِعْلالِ)

الكلام على قوله تعالى

إِذَا اسْتَوْطَنْتَ السَّلامَةَ فَتَذَكَّرِ الْعَطَبَ، وَإِذَا طَابَ لَكَ الأَمْنُ فَتَفَكَّرْ فِي الْمَخَاوِفِ، وَإِذَا لَذَّتْ لَكَ الْعَافِيَةُ فَلا تَنْسَ قُرْبَ السَّقَمِ، وَإِنْ كنت محبا لنفسك فلا تسىء إِلَيْهَا بِالزَّلَلِ، إِنَّ طَالِبَ الدُّنْيَا لا يَنَالُ مِنْهَا حَظًّا إِلا بِفَوْتِ نَصِيبٍ مِنَ الآخِرَةِ. هَلِ الْعُمْرُ إِلا ثَلاثَةُ أَيَّامٍ: يَوْمٌ انْقَضَى بما فيه ذهبت لذته وبقيت ضعفته، وَيَوْمٌ مُنْتَظَرٌ لَيْسَ مِنْهُ إِلا الأَمَلُ، وَيَوْمٌ أَنْتَ فِيهِ قَدْ صَاحَ بِكَ مُؤَذِّنًا بِالرَّحِيلِ فَاصْبِرْ فِيهِ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الصَّبْرَ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْمَحْبُوبِ سَهُلَ. الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تعالى {سلام هي حتى مطلع الفجر} إِخْوَانِي: إِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ قَدْ قَرُبَ رَحِيلُهُ وَأَزِفَ تَحْوِيلُهُ، وَهُوَ ذَاهِبٌ عَنْكُمْ بِأَفْعَالِكُمْ وَقَادِمٌ عَلَيْكُمْ غَدًا بِأَعْمَالِكُمْ، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَاذَا أَوْدَعْتُمُوهُ وَبِأَيِّ الأَعْمَالِ وَدَّعْتُمُوهُ؟ أَتُرَاهُ يَرْحَلُ حَامِدًا صَنِيعَكُمْ أَوْ ذَامًّا تَضْيِيعَكُمْ؟ مَا كَانَ أَعْظَمَ بركات ساعاته، وما كان أحلى جَمِيعَ طَاعَاتِهِ، كَانَتْ لَيَالِي عِتْقٍ وَمُبَاهَاةٍ، وَأَوْقَاتُهُ أَوْقَاتَ خَدَمٍ وَمُنَاجَاةٍ، وَنَهَارُهُ زَمَانَ قُرْبَةٍ وَمُصَافَاةٍ، وساعاته أحيان اجتهاد وَمُعَانَاةً، فَبَادِرُوا الْبَقِيَّةَ بِالتُّقْيَةِ قَبْلَ فَوَاتِ الْبِرِّ وَنُزُولِ الْبَرِّيَّةِ وَتَخَلَّى عَنْكَ جَمِيعُ الْبَرِيَةِ. أَيْنَ الْمُخْلِصُ الْمُتَعَبِّدُ، أَيْنَ الرَّاهِبُ الْمُتَزَهِّدُ، أَيْنَ الْمُنْقَطِعُ الْمُتَفَرِّدُ، أَيْنَ الْعَامِلُ الْمُجَوِّدُ، هَيْهَاتَ بَقِي عَبْدُ الدُّنْيَا وَمَاتَ السَّيِّدُ، وَهَلَكَ مَنْ خَطَؤُهُ خَطَأٌ وَعَاشَ الْمُتَعَمِّدُ، وَصَارَ مَكَانَ الْخَاشِعِينَ كُلُّ مُنَافِقٍ مُتَمَرِّدٌ، رَحَلَ عَنْكَ شَهْرُ الصِّيَامِ، وَوَدَّعَكَ زَمَانُ الْقِيَامِ، وَلَحَّ النَّصِيحُ وَقَدْ لامَ، أَفَتُشْرِقُ شَمْسُ الإِيقَاظِ وَتَنَامُ، فَاسْتَدْرِكْ مَا قَدْ بَقِيَ مِنَ الأَيَّامِ، قَدْ رَأَيْتُكَ تَوَانَيْتَ فِي الأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَمَا بَعْدَ أَنْ دَنَا الصَّبَاحُ.

أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أُعْتِقَ فِيهِ مِثْلُ جَمِيعِ مَا أُعْتِقَ " أَنْبَأَنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ بِسَنَدِهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ للَّهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شهر رمضان ستمائة أَلْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ أَعْتَقَ بِعَدَدِ مَنْ مَضَى ". وَقَدْ رُوِّينَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا كَانَتْ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ أَعْتَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَدَدِ مَا أَعْتَقَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِهِ ". وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ يُحْيِي لَيْلَةَ الْفِطْرِ وَيَقُولُ: هِيَ لَيْلَةُ غَفْلَةٍ. وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَحْيَا لَيْلَتَيِ الْعِيدِ وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ ". وَكَانَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ يَدْعُو فِي آخِرِ رَمَضَانَ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ رَمَضَانَ مُنَزِّلَ الْقُرْآنِ هَذَا شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَقَدْ تَصَرَّمَ، أَيْ رَبِّ فَأَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَتِي هَذِهِ أَوْ يَخْرُجُ رَمَضَانُ وَلَكَ عِنْدِي ذَنْبٌ تُرِيدُ أَنْ تُعَذِّبَنِي يَوْمَ أَلْقَاكَ. وَمِنَ الْمُتَعَلِّقِ بِالصِّيَامِ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ مُعَلَّقٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا يُرْفَعُ إِلا بِزَكَاةِ الْفِطْرِ ". وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الاجْتِهَادُ فِي أَوَاخِرِ الشَّهْرِ أَكْثَرَ من أوله لشيئين: أحدهما لشرف هذا الْعَشْرِ وَطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. فَقَدْ رُوِّينَا فِيمَا تَقَدَّمَ: " اطْلُبُوهَا فِي خَمْسٍ بَقِينَ أَوْ ثَلاثٍ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ ".

وَالثَّانِي: لِوَدَاعِ شَهْرٍ لا يَدْرِي هَلْ يَلْقَى مِثْلَهُ أَمْ لا. إِخْوَانِي: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةٌ يُفْتَحُ فِيهَا الْبَابُ وَيُقَرَّبُ فِيهَا الأَحْبَابُ وَيُسْمَعُ الْخِطَابُ وَيُرَدُّ الْجَوَابُ وَيُسْنَى لِلْعَامِلِينَ عَظِيمُ الأَجْرِ {سلام هي حتى مطلع الفجر} . يَسْعَدُ بِهَا الْمُوَاصِلُ وَيَتَوَفَّرُ فِيهَا الْحَاصِلُ وَيَقْبَلُ فِيهَا الْمُجَامِلُ، فَيَا رِبْحَ الْمُعَامِلِ فِي الْبَحْرِ {سلام هي حتى مطلع الفجر} . لَيْلَةٌ تُتَلَقَّى فِيهَا الْوُفُودُ، وَيَحْصُلُ لَهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْقَبُولِ وَالْفَوْزِ وَالسُّعُودِ، أَتُرَى مَا يُؤْلِمُكَ أَيُّهَا الْمَطْرُودُ هَذَا الْهَجْرُ {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفجر} أَخْلَصُوا وَمَا أَخْلَصْتَ قَصْدَكَ، وَبَلَغُوا الْمُرَادَ وَمَا بَلَغْتَ أَشُدَّكَ، وَكُلَّمَا جِئْتَ بِلا نِيَّةٍ رَدَّكَ، أو ليس مَا يُؤَثِّرُ عِنْدَكَ شَدِيدُ هَذَا الزَّجْرِ {سَلامٌ هي حتى مطلع الفجر} . أَيْقِظْ نَفْسَكَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَانْتَظِرْ مَا سَيَأْتِي عَنْ قَلِيلٍ إِلَيْهَا وَأَسْمِعْهَا الْمَوَاعِظَ فَقَدْ حَضَرَتْ لَدَيْهَا، وَاقْبَلْ نُصْحِي وَخُذْ عَلَيْهَا ضَرْبَ الحجر {سلام هي حتى مطلع الفجر} . هَذِهِ أَوْقَاتٌ يَرْبَحُ فِيهَا مَنْ فَهِمَ وَدَرَى، وَيَصِلُ إِلَى مُرَادِهِ كُلُّ مَنْ جَدَّ وَسَرَى، وَيُفَكُّ فِيهَا الْعَانِي وَتُطْلَقُ الأَسْرَى، تَقَدَّمَ الْقَوْمُ وأنت راجع إلى ورا، أو ليس كُلُّ هَذَا قَدْ جَرَى وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ {سلام هي حتى مطلع الفجر} . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المجلس التاسع في ذكر عيد الفطر

المجلس التاسع فِي ذِكْرِ عِيدِ الْفِطْرِ الْحَمْدُ للَّهِ مُوَفِّرِ الثَّوَابِ لِلأَحْبَابِ وَمُكْمِلِ الأَجْرِ، وَبَاعِثِ ظَلامِ اللَّيْلِ يَنْسَخُهُ نُورُ الْفَجْرِ، الْمُحِيطِ عِلْمًا بِخَائِنَةِ الأَعْيُنِ وَخَافِيَةِ الصَّدْرِ، وَمُعَلِّمِ الإِنْسَانِ مَا لَمْ يَعْلَمْ به ولم يدر، المتعلي عَنْ دَرَكِ خَوَاطِرِ النَّفْسِ وَهَوَاجِسِ الْفِكْرِ، الْمُوَالِي رِزْقَهُ فَلَمْ يَنْسَ النَّمْلَ فِي الرَّمْلِ وَالْفَرْخَ فِي الْوَكْرِ، جَلَّ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِي الْحَوَادِثِ عَلَى مُرُورِ الدَّهْرِ، وَتَقَدَّسَ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ باطن السر وظاهر الجهر، مننه تيجان الرؤوس وَقَلائِدُ النَّحْرِ {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ والبحر} أَحْصَى عَدَدَ الرَّمْلِ فِي الْفَيَافِي وَالنَّمْلَ فِي الْقَفْرِ، وَشَاءَ فَأَجْرَى كَمَا شَاءَ تَقْدِيرَ الإِيمَانِ والكفر، أغنى وأفقر فبإرادته وُقُوعُ الْغِنَاءِ وَالْفَقْرِ، وَأَصَمَّ وَأَسْمَعَ فَبِمَشِيئَتِهِ أَدْرَكَ السَّمْعَ وَمُنِعَ الْوَقْرُ، أَبْصَرَ فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ دَبِيبُ الذَّرِّ فِي الْبَرِّ، وَسَمِعَ فَلَمْ يَعْزُبْ عَنْ سَمْعِهِ دُعَاءُ الْمُضْطَرِّ فِي السِّرِّ، وَقَدَرَ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُعِينٍ يَمُدُّهُ بِالنَّصْرِ، وَأَجْرَى الأَقْدَارَ كَمَا شَاءَ فِي سَاعَاتِ الْعَصْرِ، فَهُوَ الَّذِي هَدَانَا إِلَيْهِ بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ وَسَلِيمِ السِّرِّ، وَخَصَّنَا مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ بِشَهْرِ الصِّيَامِ وَالصَّبْرِ، وَغَسَلَ بِهِ ذُنُوبَ الصَّائِمِينَ كَغَسْلِ الثَّوْبِ بِمَاءِ القطر، فله الحمد إذ رَزَقَنَا إِتْمَامَهُ وَأَرَانَا عِيدَ الْفِطْرِ. أَحْمَدُهُ حَمْدًا لا مُنْتَهَى لِعَدَدِهِ وَأَشْهَدُ بِتَوْحِيدِهِ شَهَادَةَ مُخْلِصٍ فِي مُعْتَقَدِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الذي نبع الماء مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ يَدِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَفِيقِهِ فِي شَدَائِدِهِ، وَعَلَى عُمَرَ كَهْفِ الإِسْلامِ وَعَضُدِهِ، وَعَلَى عُثْمَانَ جَامِعِ الْقُرْآنِ فسقيا لِمُتَبَدِّدِهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ كافي الحروب

وَشُجْعَانِهَا بِمُفْرَدِهِ وَالْمُضْطَجِعِ لَيْلَةَ خُرُوجِهِ عَلَى مَرْقَدِهِ وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ مُقَدَّمِ بَيْتِ هَاشِمٍ وَسَيِّدِهِ. عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ يَوْمَكُمْ هَذَا يَوْمَ الْعِيدِ قَدْ مُيِّزَ فِيهِ الشَّقِيُّ وَالسَّعِيدُ، فَكَمْ فَرِحَ بِهَذَا الْيَوْمِ مَسْرُورٌ وَهُوَ مَطْرُودٌ مَهْجُورٌ. وَقَدْ رُوِّينَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَتْ غَدَاةُ الْفِطْرِ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مَلائِكَةً فِي كُلِّ بَلَدٍ فَيَهْبِطُونَ إِلَى الأَرْضِ فَيَقُومُونَ عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَيُنَادُونَ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ جَمِيعُ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ إِلا الْجِنَّ وَالإِنْسَ فَيَقُولُونَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ اخْرُجُوا إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ يَغْفِرُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ، فَإِذَا بَرَزُوا فِي مُصَلاهُمْ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا مَلائِكَتِي مَا جَزَاءُ الأَجِيرِ إِذَا عَمِلَ عَمَلَهُ؟ فَيَقُولُونَ: إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا جَزَاؤُهُ أَنْ تُوَفِّيَهُ أَجْرَهُ. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا مَلائِكَتِي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ ثَوَابَهُمْ فِي صِيَامِهِمْ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِمْ رِضَايَ وَمَغْفِرَتِي. وَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: سَلُونِي فَوَعِزَّتِي وَجَلالِي لا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئًا فِي جَمْعِكُمْ هَذَا لآخِرَتِكُمْ إِلا أَعْطَيْتُكُمُوهُ وَلا لِدُنْيَا إِلا نَظَرْتُ لَكُمْ. انْصَرِفُوا مَغْفُورًا لَكُمْ قَدْ أَرْضَيْتُمُونِي وَرَضِيتُ عَنْكُمْ. وَقَدْ سَبَقَ هذا الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَوَّلُ وَظِيفَةٍ تَخْتَصُّ بِالْعِيدِ الْغُسْلُ، ثُمَّ الْبُكُورُ وَالْخُرُوجُ عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ، إِلا أَنْ يَكُونَ مُعْتَكِفًا فَيَخْرُجُ فِي ثِيَابِ اعْتِكَافِهِ وَيُخْرِجُ مَعَهُ زَكَاةَ فِطْرِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ جَازَ، وَإِنْ صَلَّى الْعِيدَ وَلَمْ يُخْرِجْهَا أَخْرَجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ، فَإِذَا مَشَى فِي الطَّرِيقِ غَضَّ بَصَرَهُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: خَرَجْتُ مَعَهُ يَوْمَ عِيدٍ فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا غَضُّ الْبَصَرِ. وَرَجَعَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ مِنْ عِيدِهِ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: كَمْ مِنَ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ قَدْ رَأَيْتَ؟ فَقَالَ: مَا نَظَرْتُ إِلا فِي إِبْهَامِي مُنْذُ خَرَجْتُ إِلَى أن رجعت!

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ قَبْلَ الصَّلاةِ، بِخِلافِ الأَضْحَى. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ سَبْعَ تَمَرَاتٍ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمُصَلَّى. أَنْبَأَنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَأْكُلُونَ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلاةِ وَلا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ. وَإِذَا صَلَّى الْعِيدَ رَجَعَ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ يَوْمَ الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ وَيَرْجِعُ فِي غَيْرِهِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَشْيَاءَ مِنْهَا: أنا قد رويت أَنَّ الْمَلائِكَةَ تَقِفُ عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ يَوْمَ الْعِيدِ فَيَقُولُونَ لِلنَّاسِ: اخْرُجُوا إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ يَغْفِرُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ. فَيَكُونُ الاسْتِحْبَابُ فِي تَغْيِيرِ الطَّرِيقِ أَنْ يَمُرَّ عَلَى مَلإٍ مِنْهُمْ لَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِمْ لِيَحْصُلَ لَهُ الْبَرَكَةُ بِدُعَائِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِيَلْقَى قَوْمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا لَقِيَهُمْ فَيَدْعُو لَهُمْ وَيَدْعُونَ لَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّفَاؤُلِ بِتَغَيُّرِ الْحَالِ، كَأَنَّهُ خَرَجَ وَعَلَيْهِ ذَنْبٌ وَرَجَعَ مَغْفُورًا لَهُ. وَلا يُسَنُّ التَّطَوُّعُ قَبْلَ صَلاةِ الْعِيدِ وَلا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ صَلاةِ الْعِيدِ. وَقَدْ رُوِيَتْ صَلاةٌ لِلَيْلَةِ وَلِيَوْمِ الْعِيدِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَثْبُتُ وَلا يَصِحُّ، فَلِهَذَا تَنَكَّبْنَا ذِكْرَهَا. وَيَنْبَغِي لِمَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ أن يوسع على الفقراء في هذا وليوم وَيَتَطَوَّعَ بِإِطْعَامِ مَنْ قَدَرَ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا يَوْمَ الْفِطْرِ أَنْ نُفَطِّرَ الْفُقَرَاءَ مِنْ إِخْوَانِنَا، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ فَطَّرَ وَاحِدًا يُعْتَقُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ فَطَّرَ اثْنَيْنِ كُتِبَ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، وَمَنْ فَطَّرَ ثَلاثَةً وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَزَوَّجَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ. قَالَ: وَكَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُطْعِمَ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ وَالْخُبْزَ والزيت والخبر وَاللَّبَنَ. وَكَانَ يَقُولُ آدِمُوا طَعَامَكُمْ يُؤْدَمْ لَكُمْ عَيْشُكُمْ. يَقُولُ: يُلَيِّنُهُ. وَيُسْتَحَبُّ إِتْبَاعُ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بسنده عن

الكلام على البسملة

أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَمَنْ صَامَ الدَّهْرَ ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ السِّرَّ فِي هَذَا أن أيام السنة ثلاثمائة وَسِتُّونَ يَوْمًا وَهَذِهِ السِّتَّةُ مَعَ رَمَضَانَ سِتَّةٌ وَثَلاثُونَ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَمَنْ دَامَ عَلَى هَذَا فَكَأَنَّهُ كَمَنْ صَامَ الدَّهْرَ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مَرْفُوعًا. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بِسَنَدِهِ عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " صِيَامُ رَمَضَانَ بعشرة أشهر وصيام ستة أيام شهرين فَذَلِكَ صِيَامُ سَنَةٍ ". أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِسَنَدِهِ عَنِ الأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ بَابِ مُعَاوِيَةَ وَوُضِعَتِ الْمَوَائِدُ فَجَعَلَ أَبُو ذَرٍّ. يَأْكُلُ وَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ يَا أَحْمَرُ؟ أَتُرِيدُ أَنْ تَشْغَلُنِي عَنْ طَعَامِي؟ فَقُلْتُ: أَلَمْ تَزْعُمْ عَلَى الْبَابِ أَنَّكَ صَائِمٌ. فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: بَلَى. ثُمَّ قَالَ: قَرَأْتُ مَنْ جاء بالحسنة فله عشر أمثالها سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " صوم شهر الصبر وثلاثة مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ " وَقَدْ صُمْتُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ فَأَنَا صَائِمٌ الشَّهْرَ كله. وبالإسناد حدثنا حماد بن سلمة بْنِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَلَمَّا نَزَلَ وَوُضِعَتِ السُّفْرَةُ بَعَثُوا إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ فَلَمَّا كَادُوا أَنْ يَفْرُغُوا جَاءَ فَجَعَلَ يَأْكُلُ فَنَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِهِمْ فَقَالَ: مَا تَنْظُرُونَ، قَدْ وَاللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ صَائِمٌ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ صَدَقَ إِنِّي سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلو: " صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ ". وَقَدْ صُمْتُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَأَنَا مُفْطِرٌ فِي تَخْفِيفِ اللَّهِ وَصَائِمٌ فِي تَضْعِيفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (عِيدِي مُقِيمٌ وَعِيدُ النَّاسِ منصرف ... والقلت مني عن اللذات منحرف)

(ولي قرينان مالي مِنْهُمَا خَلَفٌ ... طُولُ الْحَنِينِ وَعَيْنٌ دَمْعُهَا يَكِفُ) يَا مَنْ يَفْرَحُ فِي الْعِيدِ بِتَحْسِينِ لِبَاسِهِ، وَيُوقِنُ بِالْمَوْتِ وَمَا اسْتَعَدَّ لِبَاسِهِ، وَيَغْتَرُّ بِإِخْوَانِهِ وَأَقْرَانِهِ وَجُلاسِهِ، وَكَأَنَّهُ قَدْ أَمِنَ سُرْعَةَ اخْتِلاسِهِ، كَيْفَ تَقَرُّ بِالْعِيدِ عَيْنُ مَطْرُودٍ عَنِ الصَّلاحِ، كَيْفَ يَضْحَكُ سِنُّ مَرْدُودٍ عَنِ الْفَلاحِ، كَيْفَ يُسَرُّ مَنْ يُصِرُّ عَلَى الأَفْعَالِ الْقِبَاحِ، كَيْفَ لا يَبْكِي مَنْ قَدْ فَاتَهُ جَزِيلُ الأَرْبَاحِ، النَّوْحُ أَحَقُّ بِكَ مِنَ السُّرُورِ يَا مَغْرُورُ، وَالْحُزْنُ أَجْدَرُ بِكَ مِنْ جَمِيعِ الأُمُورِ، وَالْجِدُّ أَوْلَى بِكَ مِنَ التَّوَانِي وَالْفُتُورِ، كَيْفَ يُسَرُّ بِعِيدِهِ مَنْ تَابَ ثُمَّ عَادَ، كَيْفَ يَفْرَحُ بِالسَّلامَةِ مَنْ آثَامُهُ فِي ازْدِيَادٍ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي ثَابِتٍ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُوسَى يَقُولُ: رَأَيْتُ فَتْحًا الْمَوْصِلِيَّ يَوْمَ عِيدٍ وَقَدْ رَأَى عَلَى النَّاسِ الطَّيَالِسَ وَالْعَمَائِمَ فَقَالَ لِي: يَا إِبْرَاهِيمُ أَمَا تَرَى ثَوْبًا يَبْلَى وَجَسَدًا يَأْكُلُهُ الدُّودُ غَدًا؟ هَؤُلاءِ قَوْمٌ قَدْ أَنْفَقُوا خَزَائِنَهُمْ عَلَى بُطُونِهِمْ وَظُهُورِهِمْ وَيَقْدُمُونَ عَلَى رَبِّهِمْ مَفَالِيسَ. أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفْرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشَّقَّاقِ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ: نَظَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْفِطْرِ إِلَى النَّاسِ وَشُغُلِهِمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الأَكْلِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ فَقَالَ: لَئِنْ كَانُوا هَؤُلاءِ قَدْ أَنْبَأَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَدْ تَقَبَّلَ مِنْهُمْ صِيَامَهُمْ وَقِيَامَهُمْ لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَصْبَحُوا مَشَاغِيلَ بِأَدَاءِ الشُّكْرِ، وَلَئِنْ كانوا يَخَافُونَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ فَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا أَشْغَلَ وَأَشْغَلَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيِّ سَمِعْتُ مُظَفَّرَ بْنَ سَهْلٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ مُسْلِمٍ صَاحِبِ قَنْطَرَةِ بُرْدَانَ يَوْمَ عيد فوجدته وعليه قميص مرقوع مطبق وَقُدَّامُهُ قَلِيلُ خَرْنُوبٍ يَقْرِضُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ الْيَوْمُ يَوْمُ عِيدِ الْفِطْرِ تَأْكُلُ الْخَرْنُوبَ؟ فَقَالَ لِي: لا تَنْظُرْ إِلَى هَذَا وَلَكِنِ انْظُرْ إِنْ سَأَلَنِي مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ أَيَّ شَيْءٍ أَقُولُ! أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ النَّهْدِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي إدريس بن

يَحْيَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبَّادٍ الْخَوَّاصِ يَوْمَ عِيدٍ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَخَرَجَ إِلَيَّ وَهُوَ يَبْكِي وَيَنُوحُ عَلَى نَفْسِهِ قَالَ: فَدَخَلْتُ مَعَهُ فَقَالَ: إِنِّي ذَكَرْتُ الْيَوْمَ تَنَعُّمَ النَّاسِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ اللَّذَّاتِ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَنَعَّمَ بِمَا تَرَى. وَكَانَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْجَلِيلِ إِذَا انْصَرَفَ يَوْمَ الْعِيدِ جَمَعَ عِيَالَهُ وَجَلَسَ يَبْكِي فَيَقُولُ لَهُ إِخْوَانُهُ: هَذَا يَوْمُ سُرُورٍ. فَيَقُولُ: صَدَقْتُمْ وَلَكِنِّي عَبْدٌ أَمَرَنِي سَيِّدِي أَنْ أَعْمَلَ لَهُ عَمَلا فَعَمِلْتُهُ، فَلا أَدْرِي أَقَبِلَهُ مِنِّي أَمْ لا؟ فَالأَوْلَى بِي طُولُ الْحُزْنِ! أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي عَنْ هَنَّادِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: كَانَ الشِّبْلِيُّ يَوْمَ الْعِيدِ يَنُوحُ وَيَصِيحُ وَيَصْرُخُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ سُودٌ وَزُرْقٌ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَسَأَلُوهُ عَنْ نَوْحِهِ وَبُكَائِهِ فَقَالَ: (تَزَيَّنَ الناس يوم العيد للعيد ... وقد لبثت ثياب الزرق والسود) (وأصبح الناس مسرورا بِعِيدِهِمُ ... وَرُحْتُ فِيكَ إِلَى نَوْحٍ وَتَعْدِيدِ) (فَالنَّاسُ فِي فَرَحٍ وَالْقَلْبُ فِي تَرَحٍ ... شَتَّانِ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ فِي الْعِيدِ) وَخَرَجَ الشِّبْلِيُّ يَوْمَ الْعِيدِ وَهُوَ يَقُولُ: (لِلنَّاسِ فِطْرٌ وَعِيدٌ ... إِنِّي فَرِيدٌ وَحِيدُ) (يَا غَايَتِي وَمُنَايَ ... أَتِمَّ لِي ما أربد) وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَسَأَلُوهُ الدُّعَاءَ فَمَدَّ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ فَجَعَلَ يَدْعُو فَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ: اضْرِبْهُمْ بِسِيَاطِ الْخَوْفِ، أَقْبِلْ بِهِمْ بِأَزِمَّةِ الشَّوْقِ، أَعِنْهُمْ بِمُلاحَظَاتِ الْفُهُومِ، كُنْ لَهُمْ كَمَا كُنْتَ لِمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بِأَنْ صِرَتْ كَلا لَهُ. وَقِيلَ لَهُ يَوْمَ عِيدٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ الْيَوْمُ يَوْمُ عِيدٍ. فَقَالَ: (النَّاسُ بِالْعِيدِ قَدْ سُرُّوا وَقَدْ فَرِحُوا ... وَمَا فَرِحْتُ بِهِ وَالْوَاحِدِ الأَحَدِ) (لَمَّا تَيَقَّنْتُ أَنِّي لا أُعَايِنُكُمْ ... غَمَّضْتُ عَيْنِي فَلَمْ أَنْظُرْ إِلَى أَحَدِ) وَرُئِيَ يَوْمَ عِيدٍ خَارِجًا وَهُوَ يَقُولُ:

الكلام على قوله تعالى

(إِذَا مَا كُنْتَ لِي عِيدًا ... فَمَا أَصْنَعُ بِالْعِيدِ) (جَرَى حُبُّكَ فِي قَلْبِي ... كَجَرْيِ الْمَاءِ فِي الْعُودِ) وَاللَّهِ مَا عِيدُ يَعْقُوبَ إِلا لِقَاءُ يُوسُفَ، وَلا أَيَّامُ تَشْرِيقِ الصِّدِّيقِ إِلا الْغَارُ. يَا مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعَاصِي فِي شَوَّالٍ أَلِلشَّهْرِ احْتَرَمْتَ أَمْ لِرَبِّ الشَّهْرِ، وَيْحَكَ! رَبُّ الشَّهْرَيْنِ وَاحِدٌ. تَقُولُ أُصْلِحُ رَمَضَانَ وَأُفْسِدُ غَيْرَهُ وَعَزْمُكَ فِي رَمَضَانَ عَلَى الزَّلَلِ فِي شَوَّالٍ أَفْسَدْتَ رَمَضَانَ، إِذَا طَالَبْتَ نَفْسَكَ فِي شَوَّالٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَذَكِّرْهَا سَيَلانَ الْعَيْنِ عَلَى الْخَدِّ فِي اللَّحْدِ وَعَمَلَ الْبِلَى فِي الْمَفَاصِلِ لَعَلَّ الْكَفَّ يَكُفُّ. هَيْهَاتَ لَيْسَ الْمُحِبُّ مَنْ غَيَّرَهُ الْبُعْدُ وَالْهَجْرُ، وَلا الْمُخْلِصُ مَنْ حَرَّكَهُ الثَّوَابُ وَالأَجْرُ، لَكِنَّهُ مَنْ تَسَاوَى عِنْدَهُ الْوَصْلُ وَالصَّدُّ، وَإِلْفُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ الْجِدُّ وَالْكَدُّ. (يَا رَاكِبًا تَطْوِي الْمَهَامِهَ عِيسُهُ ... فَتُرِيهِ رَضْرَاضَ الْحَصَى مُتَرَضْرِضَا) (بَلِّغْ رَعَاكَ اللَّهُ سُكَّانَ الْغَضَى ... مِنِّي التَّحِيَّةَ إِنْ عَرَضْتَ مَعْرِضَا) (وَقُلِ انْقَضَى زَمَنُ الْوِصَالِ وَوُدُّنَا ... بَاقٍ عَلَى مَرِّ اللَّيَالِي مَا انْقَضَى) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هم يحزنون} أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي ولياُ فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ

اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ " وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: " مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمَحَارَبَةِ وَإِنِّي لأَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي وَإِنِّي لأَغْضَبُ لَهُمْ أَشَدَّ مَنْ غَضَبِ اللَّيْثِ الْحَرِبِ ". أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طاهر عن حميد عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ ". أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا رَبِّ مَنْ أَهْلُكَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُكَ الَّذِينَ تُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِكَ؟ قَالَ: هُمُ الْبَرِيئَةُ أَيْدِيهِمُ الطَّاهِرَةُ قُلُوبُهُمُ الَّذِينَ يَتَحَابُّونَ بِجَلالِي، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرُوا بِي وَإِذَا ذُكِرُوا ذُكِرْتُ بِذِكْرِهِمْ، الَّذِينَ يُسْبِغُونَ الْوُضُوءَ فِي الْمَكَارِهِ وَيُنِيبُونَ إِلَى ذِكْرِي كَمَا تُنِيبُ النُّسُورُ إِلَى وُكُورِهَا وَيَكْلَفُونَ بِحُبِّي كَمَا يَكْلَفُ الصَّبِيُّ بِحُبِّ النَّاسِ وَيَغْضَبُونَ لِمَحَارِمِي إِذَا اسْتُحِلَّتْ كَمَا يَغْضَبُ النَّمِرُ إِذَا حُرِبَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: يَا عِيسَى مَنْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهُمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ؟ فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: الَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى بَاطِنِ الدُّنْيَا حِينَ نَظَرَ النَّاسُ إِلَى ظَاهِرِهَا، وَالَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى آجِلِ الدُّنْيَا حِينَ نَظَرَ النَّاسُ إِلَى عَاجِلِهَا فَأَمَاتُوا مِنْهَا مَا خَشُوا أَنْ يُمِيتَهُمْ وَتَرَكُوا مَا عَلِمُوا أَنْ سَيَتْرُكُهُمْ، فَصَارَ اسْتِكْثَارُهُمْ مِنْهَا اسْتِقْلالا وَذِكْرُهُمْ إِيَّاهَا فَوَاتًا، وَفَرَحُهُمْ بِمَا أَصَابُوهُ مِنْهَا حُزْنًا، فَمَا عَارَضَهُمْ مِنْ نَائِلِهَا رَفَضُوهُ أَوْ مَنْ رَفَعَتْهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ وَضَعُوهُ، خُلِقَتِ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ فَلَيْسُوا يُجَدِّدُونَهَا، وَخَرِبَتْ بَيْنَهُمْ فَلَيْسُوا يُعَمِّرُونَهَا، وَمَاتَتْ فِي صُدُورِهِمْ فَلَيْسُوا يُحْيُونَهَا، يَهْدِمُونَهَا فَيَبْنُونَ بِهَا آخِرَتَهُمْ وَيَبِيعُونَهَا فَيَشْتَرُونَ بِهَا مَا يَبْقَى لَهُمْ، رَفَضُوهَا فَكَانُوا بِرَفْضِهَا فَرِحِينَ، وَبَاعُوهَا فَكَانُوا بِبَيْعِهَا رَابِحِينَ، نَظَرُوا إِلَى أَهْلِهَا صَرْعَى قَدْ حَلَّتْ بهم المثلات،

فَأَحْيُوا ذِكْرَ الْمَوْتِ وَأَمَاتُوا ذِكْرَ الْحَيَاةِ، يُحِبُّونَ اللَّهَ وَيُحِبُّونَ ذِكْرَهُ وَيَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِ، لَهُمْ خَبَرٌ عَجِيبٌ وَعِنْدَهُمُ الْخَبَرُ الْعَجِيبُ، بِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا، وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا، وَبِهِمْ عُلِمَ الْكِتَابُ وَبِهِ عُلِمُوا، لَيْسُوا يَرَوْنَ نَائِلا وَلا أَمَانًا دُونَ مَا يَرْجُونَ وَلا خَوْفًا دُونَ مَا يَحْذَرُونَ. وَقَدْ رُوِيَ ذِكْرُ عَدَدِ الأَوْلِيَاءِ فِي أَحَادِيثَ لا تَصِحُّ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَنْصَارِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأَبْدَالُ أَرْبَعُونَ رَجُلا وَأَرْبَعُونَ امْرَأَةً كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلا، وَكُلَّمَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهَا امْرَأَةً ". أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بِسَنَدِهِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " لَمْ يَزَلْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يُدْفَعُ بِهِمُ الْعَذَابُ ". أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: لَمَّا ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ وَكَانُوا أَوْتَادَ الأَرْضِ أَخْلَفَ اللَّهُ مَكَانَهُمْ أَرْبَعِينَ رَجُلا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُمُ الأَبْدَالُ، لا يَمُوتُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ مَكَانَهُ آخَرَ يَخْلُفُهُ وَهُمْ أَوْتَادُ الأَرْضِ، لَمْ يفضلوا الناس بكثرة الصيام ولا بكثرة القيام ولا بحسن التخشع ولا بحسن الحلية بَلْ بِصِدْقِ الْوَرَعِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ وَسَلامَةِ الْقُلُوبِ وَالنَّصِيحَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلامَةُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لا يعلنون شيئا ولا يؤذنون أَحَدًا، وَلا يَتَطَاوَلُونَ عَلَى أَحَدٍ تَحْتَهُمْ وَلا يُحَقِّرُونَهُ، وَلا يَحْسُدُونَ أَحَدًا فَوْقَهُمْ، لَيْسُوا بِمُتَخَشِّعِينَ وَلا مُتَمَاوِتِينَ وَلا بِمُعْجَبِينَ وَلا يُحِبُّونَ الدُّنْيَا، لَيْسُوا الْيَوْمَ فِي خَشْيَةٍ وَغَدًا فِي غَفْلَةٍ. رَمَضَانُ الْقَوْمِ دَائِمٌ وَشَوَّالُهُمْ كَذَلِكَ صَائِمٌ، وَأَعْيَادُهُمْ سُرُورُ الْقَوْمِ بِالْمَحْبُوبِ، وَأَفْرَاحُهُمْ بِكَمَالِ التُّقَى وَتَرْكِ الذُّنُوبِ، إِذَا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ عَادَتِ الْقُلُوبُ بِالْمُنَاجَاةِ جُدُدًا، وَإِذَا جَاءَ النَّهَارُ سَلَكُوا مِنَ الْجِدِّ جَدَدًا، يَجْمَعُونَ هِمَمَهُمْ فِيمَا

أَهَمَّهُمْ إِذَا بَاتَ هَمُّ الْغَافِلِ بَدَدًا، جَزَمُوا عَلَى مَا عَزَمُوا وَمَا انْهَزَمُوا، أَبَدًا أَعْيَادُهُمْ بِقُرْبِ الْقُلُوبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ دَائِمَةٌ، وَأَقْدَامُهُمْ فِي الدُّجَى عَلَى بَابِ اللَّجَإِ قَائِمَةٌ، وَأَرْوَاحُهُمْ بِالاشْتِيَاقِ إلى الملك الخلاق هائمة، قر بهم مَوْلاهُمْ وَأَدْنَى فَالنُّفُوسُ عَنِ الْفَانِي الأَدْنَى صَائِمَةٌ، تَزَيَّنَتْ لَهُمْ لَذَّاتُ الدُّنْيَا مَعًا فَمَا وَجَدَتْ فِي قُلُوبِهِمْ لَهَا مَوْضِعًا، لَمَّا وَجَدُوا كِسْرَةً وَخَلَقًا أَقْنَعَا. (قَالُوا غَدًا الْعِيدُ مَاذَا أَنْتَ لابِسُهُ ... فَقُلْتُ خِلْقَةُ سَاقٍ حُبُّهُ جَرَعَا) (فَقَرٌّ وَصَبْرٌ هُمَا ثَوْبَانِ تَحْتَهُمَا ... قَلْبٌ يَرَى إِلْفَهُ الأَعْيَادَ وَالْجُمُعَا) (أَحْرَى الْمَلابِسِ أَنْ يُلْقَى الْحَبِيبُ بِهَا ... يَوْمَ التَّزَاوُرِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي خَلَعَا) (الدَّهْرُ لِي مَأْتَمٌ إِنْ غِبْتَ يَا أَمَلِي ... وَالْعِيدُ مَا كُنْتَ لِي مَدًّا وَمُسْتَمَعَا) إِخْوَانِي: لَيْسَ الْعِيدُ ثَوْبًا يَجُرُّ الْخُيَلاءُ جَرَّهُ، وَلا تَنَاوُلُ مَطْعَمٍ بِكَفٍّ شَرِهٍ لا يُؤْمَنُ شَرُّهُ، إِنَّمَا الْعِيدُ لُبْسُ تَوْبَةِ عَاصٍ تَائِبٍ يُسَرُّ بِقُدُومِ قَلْبٍ غَائِبٍ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ بِسَنَدِهِ عَنِ الْحِيرِيِّ، عَنِ ابْنِ بَاكَوِيَةَ الشِّيرَازِيِّ قَالَ: أَنْشَدَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْحَنْظَلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ يُنْشِدُ يَوْمَ الْعِيدِ: (لَيْسَ عِيدُ الْمُحِبِّ قَصْدَ الْمُصَلَّى ... وَانْتِظَارَ الْخَطِيبِ وَالسُّلْطَانِ) (إِنَّمَا الْعِيدُ أَنْ تَكُونَ لَدَى الْحِبِّ ... كَرِيمًا مُقَرَّبًا فِي أَمَانِ) يَا مَنْ وَفَّى رَمَضَانَ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ، لا تَتَغَيَّرْ بَعْدَهُ فِي شَوَّالٍ، يَا مَنْ رَأَى الْعِيدَ وَوَصَلَ إِلَيْهِ، مَتَى تَشْكُرُ الْمُنْعِمَ وَتُثْنِي عَلَيْهِ، كَمْ مِنْ صَحِيحٍ هَيَّأَ طِيبَ عِيدِهِ، صَارَ ذَاكَ الطِّيبُ فِي تَلْحِيدِهِ، سَلَبَتْهُمْ وَاللَّهِ أَيْدِي الْمَنُونِ، فَأَنْزَلَتْهُمْ قَفْرًا لَيْسَ يمسكون، فَهُمْ فِي الْقُبُورِ بَعْدَ الْبَيَانِ خَرِسُونَ، وَمِنْ نَيْلِ آمَالِهِمْ أَوْ بَعْضِهَا آيِسُونَ، وَهَكَذَا أَنْتُمْ عَنْ قَرِيبٍ تَكُونُونَ، وَقَدْ دَلَّهُمْ عَلَى صِدْقِ قَوْلِي مَا تَعْمَلُونَ، أَمَا تَرَوْنَ الأَتْرَابَ كَيْفَ يَتَقَلَّبُونَ، أَتَرَى ضَلَّتِ الأَفْهَامُ أَمْ عَمِيَتِ الْعُيُونُ، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون. إِلَى مَتَى تَرْضَوْنَ مِنَ الْعَمَلِ بِالْفَاسِدِ وَمِنَ السِّلَعِ بِالْكَاسِدِ، وَتَنْسَوْنَ الْحَتْفَ

الرَّابِضَ الْمُسْتَاسِدَ، لَقَدْ أَشْمَتُّمْ بِكُمْ كُلَّ حَاسِدٍ، يَا مُظْهِرُونَ ضِدَّ مَا بِهِ الْكِتَابُ وَارِدٌ، إِلَى مَتَى تُبَهْرِجُونَ وَالْبَصِيرُ نَاقِدٌ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُكُمْ وَهُوَ عَلَيْكُمْ شَاهِدٌ: (عَجِبْتُ مِنْ مُسْتَيْقِظٍ ... وَالْقَلْبُ مِنْهُ رَاقِدُ) (مُضَيِّعٌ لِدِينِهِ ... وَلِلذُّنُوبِ زَائِدُ) (كَأَنَّهُ عَلَى مَدَاهُ ... مُهْمَلٌ وَخَالِدُ) (فَأَحْسِنُوا أَعْمَالَكُمْ ... فَهْيَ لَكُمْ قَلائِدُ) (وَلا تُضَيِّعُوا وَاجِبًا ... وَاجْتَهِدُوا وَجَاهِدُوا) للَّهِ دَرُّ أَقْوَامٍ تَلَمَّحُوا الْعَوَاقِبَ فَعَمِلُوا عَمَلَ مُرَاقِبٍ، وَجَاوَزُوا الْفَرَائِضَ إِلَى طَلَبِ الْمَنَاقِبِ، عَلَتْ هِمَمُهُمْ عَنِ الدَّنَايَا وَارْتَفَعَتْ، وَكَفَّتِ الأَكُفَّ عن الأذايا وامتنعت، ووسعت خطاها إِلَى الْفَضَائِلِ وَسَعَتْ، مَنْ يُحِبُّ الْعِزَّ يَدْأَبُ إِلَيْهِ، وَكَذَا مَنْ طَلَبَ الدُّرَّ غَاصَ عَلَيْهِ، كَانُوا إِذَا ابْتَلاهُمْ مَوْلاهُمْ يَصْبِرُونَ، وَإِذَا أَعْطَاهُمْ مُنَاهُمْ يَشْكُرُونَ، وَإِذَا اسْتَرَاحَ الْبَطَّالُونَ يَدْأَبُونَ، فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ يَوْمَ يَقُولُ {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ توعدون} {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} . زَالَ الْخَوْفُ عَنْهُمْ وَانْدَفَعَ، فَأَفَادَهُمْ حُزْنُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَنَفَعَ، وَتَمَّ السُّرُورُ لَهُمْ وَاجْتَمَعَ، وَزَالَ الْحِجَابُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وَارْتَفَعَ، فَهُمْ إِلَى وَجْهِ الكريم ينظرون {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} . قوله تعالى: {الذين آمنوا وكانوا يتقون} . قَطَعُوا بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَاجْتَمَعُوا عَلَى طَاعَتِهِ، وَامْتَنَعُوا مِنْ مخالفته وارتبضوا فِي رِيَاضِ مَعْرِفَتِهِ، وَاضْطَبَعُوا بِأَرْدِيَةِ خِدْمَتِهِ، وَاطَّلَعُوا بِالْعُلُومِ عَلَى هَيْبَتِهِ، فَيَا بُشْرَاهُمْ يَوْمَ يَحْضُرُونَ {الذين آمنوا وكانوا يتقون} . امْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مَوْلاهُمْ، وَاجْتَنَبُوا مَا عَنْهُ نَهَاهُمْ، فَإِذَا أَخْرَجَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا

وَتَوَفَّاهُمْ اسْتَقْبَلُوا الرَّوْحَ وَالرَّيْحَانَ وَتَلَقَّاهُمْ، فَإِذَا حَضَرُوا لَدَيْهِ أَكْرَمَ مَثْوَاهُمْ، وَكَشَفَ الْحِجَابَ فَأَشْهَدَهُمْ وَأَرَاهُمْ، وَهَذَا غَايَةُ مَا كَانُوا يَأْمُلُونَ {الَّذِينَ آمَنُوا وكانوا يتقون} . كَانُوا يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الأَمْرِ بِالْخَيْرِ وَالتَّوَاصِي، وَيَحْذَرُونَ يَوْمَ الأَخْذِ بِالأَقْدَامِ وَالنَّوَاصِي، فَاجْتَهِدْ فِي لِحَاقِهِمْ أَيُّهَا الْعَاصِي، قَبْلَ أَنْ تبغتك المنون {الذين آمنوا وكانوا يتقون} . قَوْلُهُ تَعَالَى {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وفي الآخرة} رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْعَبْدُ أَوْ تُرَى لَهُ ". كَانَتْ قُلُوبُهُمْ فِي خِدْمَتِهِ حَاضِرَةً، وَنُفُوسُهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ مُثَابِرَةً، وَأَلْسِنَتُهُمْ عَلَى الدَّوَامِ ذَاكِرَةً، وَهِمَمُهُمْ إِلَى مَا يُرْضِيهِ مُبَادِرَةً {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} . مَنَازِلُهُمْ عِنْدَهُ عَظِيمَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَلَيْهِ كَرِيمَةٌ، كَانَتْ قُلُوبُهُمْ مِنَ الشَّكِّ سَلِيمَةً، سَارُوا إِلَى الْجِهَادِ عَلَى خَيْلِ الْعَزِيمَةِ، فَإِذَا وَقَعَاتُهُمْ لِلْعَدُوِّ كَاسِرَةٌ {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} . زَمُّوا مَطَايَا الصِّدْقِ وَسَارُوا، وَجَالُوا حَوْلَ دَارِ الكريم وَدَارُوا، وَنَهَضُوا إِلَى مَرَاضِيهِ وَثَارُوا، وَطَلَبُوا عَدُوَّهُمْ فَأَوْقَعُوا بِهِ وَأَغَارُوا، فَيَا حُسْنَهُمْ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى الصَّلاةِ وَاسْتَدَارُوا، وَالدُّمُوعُ فِي مَحَارِبِهِمْ مَاطِرَةٌ {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} . أَقْبَلَ الْقَوْمُ فَقُبِلُوا، وَعَرَفُوا لِمَاذَا خُلِقُوا فَعَمِلُوا، إِذَا رَجَعَ النَّاسُ إِلَى لَذَّاتِهِمْ

عَادُوا إِلَى عِبَادَاتِهِمْ، وَإِذَا سَكَنَ الْخَلْقُ إِلَى أَوْطَانِهِمْ سَكَنُوا إِلَى حُرُقَاتِ أَشْجَانِهِمْ، وَإِذَا أَقْبَلَ التُّجَّارُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَقْبَلُوا عَلَى تَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ، وَإِذَا الْتَذَّ الْغَافِلُونَ بِالْمَنَامِ عَلَى جُنُوبِهِمْ تَلَذَّذُوا فِي الْقِيَامِ بِكَلامِ مَحْبُوبِهِمْ، فَلَوْ ذُقْتَ مِنْ كُئُوسِ الْمُنَاجَاةِ الدَّائِرَةِ فِي خَيْمَةِ الدُّجَى الدَّائِرَةِ {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} . نصبوا الآخرة بين أيديهم وجدوا، ومثلوا المنادي يُنَادِيهِمْ فَاسْتَعَدُّوا، وَتَضَرَّعُوا فِي طَلَبِ الإِعَانَةِ فَأَمَدُّوا، وَأَقْبَلُوا إِلَى الْبَابِ صَادِقِينَ فَمَا رُدُّوا، فَفَازُوا بِالأَرْبَاحِ الْجَمَّةِ الْوَافِرَةِ {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدنيا وفي الآخرة} . أَقْلَقَهُمْ ذِكْرُ الذُّنُوبِ فَمَا نَامُوا، وَشَوَّقَهُمْ رَجَاءُ الْمَطْلُوبِ فَقَامُوا، وَذَكَرُوا الْعَرْضَ يَوْمَ تَبْدِيلِ الأَرْضِ فَاسْتَقَامُوا، وَتَفَكَّرُوا فِي تَصَرُّمِ الْعُمْرِ فَاجْتَهَدُوا وَدَامُوا، وَتَذَكَّرُوا سَالِفَ الذَّنْبِ فَوَبَّخُوا النُّفُوسَ وَلامُوا، وَبَاتَتْ أَعْيُنُهُمْ سَاهِرَةً لِذِكْرِ أَرْضِ السَّاهِرَةِ {لَهُمُ الْبُشْرَى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} . أَذْبَلُوا الشِّفَاهَ يَطْلُبُونَ الشِّفَاءَ بِالصِّيَامِ، وَأَنْصَبُوا لَمَّا انْتَصَبُوا الأَجْسَادَ يَخَافُونَ الْمَعَادَ بِالْقَيَامِ، وَحَفِظُوا الأَلْسِنَةَ عَمَّا لا يَعْنِي عَنْ فُضُولِ الْكَلامِ، وَأَنَاخُوا عَلَى بَابِ الرَّجَاءِ فِي الدُّجَى إِذَا سَجَى الظَّلامُ، فَأَنْشَبُوا مَخَالِيبَ طَمَعِهِمْ فِي الْعَفْوِ فَإِذَا الأَظَافِيرُ ظَافِرَةٌ {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وفي الآخرة} . يَا هَذَا سَبَقَكَ الْقَوْمُ وَتَخَلَّفْتَ، وَمَضَى أَكْثَرُ الْعُمْرِ وَتَسَوَّفْتَ، ثُمَّ تُعْصِي الْمُنْعِمَ بِالنِّعَمِ فَمَا أَنْصَفْتَ، وَتُؤْثِرُ الضَّلالَ عَلَى الْهُدَى وَقَدْ عَرَفْتَ، أَمَا تَخَافُ أَنْ تَقُولَ إِذَا حَضَرْتَ وَوَقَفْتَ {تلك إذا كرة خاسرة} . يَا مَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحِسَابُ وَالصِّرَاطُ، وَهُوَ عَظِيمُ الْجُرْأَةِ كَثِيرُ الانْبِسَاطِ، مُتَكَاسِلٌ فِي الطَّاعَاتِ وَفِي الْمَعَاصِي ذُو نَشَاطٍ، يُدْعَى إِلَى الْعُلُوِّ وَيَأْبَى إِلا الانْهِبَاطَ، أَمُؤْمِنَةٌ هَذِهِ النَّفْسُ بِالْوَعِيدِ أَمْ كَافِرَةٌ. يَا مُبَارِزًا مَوْلاهُ لَمْ يَخَفْ مِنْ بَطْشِهِ، يَا مُقْبِلا عَلَى الْهَوَى لا تَغْتَرِرْ بِنَفْسِهِ، تَفَكَّرْ

فِي مَنْ سَكَنَ الثَّرَى بَعْدَ لِينِ فَرْشِهِ، وَانْتَبِهْ بِالتَّعْرِيضِ قَبْلَ ظُهُورِ التَّصْرِيحِ بِفُحْشِهِ، أَمَا أَبْقَاكَ وَأَرَاكَ سِوَاكَ مَحْمُولا عَلَى نَعْشِهِ إِلَى أَنْ أُلْقِيَ فِي الْحَافِرَةِ. يَا خَاسِرًا فَاتَهُ جَزِيلُ الأَرْبَاحِ، يَا مَنْ أَبْعَدَتْهُ عَنَّا خَطَايَاهُ الْقِبَاحُ، يَا مَنْ لَوِ انْتَبَهَ لِنَفْسِهِ لَبَكَى عليها وَنَاحَ، أَتَأْمَنُ عَلَيْهَا أَنْ تُؤْخَذَ عَلَى بَعْضِ الاجْتِرَاحِ، فَيُفْعَلُ بِهَا فَاقِرَةٌ. أَيْقَظَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذِهِ الرَّقْدَةِ وَحَفِظَ إِيمَانَنَا وَلا أَذَاقَنَا فقده.

المجلس العاشر في عشر ذي الحجة

المجلس العاشر فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الْحَمْدُ للَّهِ الْعَالِمِ بِعَدَدِ الرَّمْلِ وَالنَّمْلِ وَالْقَطْرِ، وَمُصَرِّفِ الْوَقْتِ وَالزَّمَنِ وَالدَّهْرِ، الْخَبِيرِ بِخَافِي السِّرِّ وَسَامِعِ الْجَهْرِ، الْقَدِيرِ عَلَى مَا يَشَاءُ بِالْعِزِّ وَالْقَهْرِ، أَقْرَبَ إِلَى الْعَبْدِ مِنَ الْعُنُقِ إِلَى النَّحْرِ {هُوَ الَّذِي يسيركم في البر والبحر} . الْقَدِيمِ فَلا إِلَهَ سِوَاهُ، الْكَرِيمِ فِي مَنْحِهِ وَعَطَايَاهُ، الْقَاهِرِ لِمَنْ خَالَفَهُ وَعَصَاهُ، خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَسَوَّاهُ وَاسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ كَالذَّرِّ. أَنْعَمَ فَلا فَضْلَ لِغَيْرِهِ، وَقَضَى بِنَفْعِ الْعَبْدِ وَضَيْرِهِ وَأَمْضَى الْقَدَرَ بِشَرِّهِ وَخَيْرِهِ، فَحَثَّ عَلَى الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ أحاط علما بالأشياء وحواها. كيف لا وهو الَّذِي بَنَاهَا، وَقَهَرَ الْمُضَادَّاتِ فَسَوَّاهَا بِلا مُعِينٍ يَمُدُّهُ بِالنَّصْرِ. لا كَيْفَ لَهُ وَلا شَبِيهَ ولا يجوز عليه التشبيه، عالم السِّرَّ وَمَا يُعْرَضُ فِيهِ، مُتَنَزِّهٌ عَنْ تَصَوُّرِ الْفِكْرِ. أَقْسَمَ فِي الْقُرْآنِ بِصَنْعَتِهِ، وَالْقَسَمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِقُدْرَتِهِ، فَتَأَمَّلْ مَا تَحْتَ الْقَسَمِ مِنْ فائدته {والفجر وليال عشر والشفع والوتر} أَحْمَدُهُ حَمْدًا لَيَسْ لَهُ نِهَايَةٌ، وَأُقِرُّ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ فَكَمْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةٌ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي مَا رُدَّتْ لَهُ رَايَةٌ، صَلاةً تَصِلُ إِلَيْهِ فِي الْقَبْرِ. وَعَلَى ضَجِيعِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ الشَّدِيدِ فِي الْحَقِّ الْوَثِيقِ وَعُثْمَانَ الْمُحِبِّ الشَّفِيقِ وَعَلَى الرَّفِيعِ الْقَدْرِ، وَعَلَى عَمِّهِ أَبِي الْفَضْلِ الْعَبَّاسِ، الشَّرِيفِ الأَصْلُ كَرِيمِ الأَغْرَاسِ، الَّذِي نَسَبُهُ فِي الأَنْسَابِ لا يقاس.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} ، الفجر: ضَوْءُ النَّهَارِ إِذَا انْشَقَّ عَنْهُ اللَّيْلُ. وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْفَجْرِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْفَجْرُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي هُوَ بَدْءُ النَّهَارِ. قَالَهُ علي بن أبي طالب وعكرمة وزيد ابن أَسْلَمَ وَالْقُرْطُبِيُّ. وَالثَّانِي: صَلاةُ الْفَجْرِ. وَالثَّالِثُ النَّهَارُ كُلُّهُ، فَعَبَّرَ بِالْفَجْرِ عَنْهُ لأَنَّهُ أَوَّلُهُ. وَالأَقْوَالُ الثَّلاثَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ خَاصَّةً. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْخَامِسُ: فَجْرُ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَالسَّادِسُ: أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ تَنْفَجِرُ مِنْهُ السَّنَةُ. قَالَهُ قَتَادَةُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَيَالٍ عشر} فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ. رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قال مجاهد ومسروق وقتادة والضحاك والسدي وَمُقَاتِلٌ وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْعَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ قَالَهُ أَبُو ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: الْعَشْرُ الأُوَلُ مِنْ رَمَضَانَ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَالرَّابِعُ: العشر الأول من المحرم. قاله يمان ابن رئاب. قوله تعالى: {والشفع والوتر} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {وَالْوِتْرِ} بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا الأكثرون، وهما لغتان والكسر لقريش وتميم وأسد، وَالْفَتْحُ لأَهْلِ الْحِجَازِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ عشرون قولا:

أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الأَضْحَى، والوتر ليلة النحر. رواه أبو أَيُّوبُ الأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ وَالْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ. رَوَاهُ جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّفْعَ وَالْوَتْرَ الصَّلاةُ، مِنْهَا شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ. رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الشَّفْعَ الْخُلُقُ كُلُّهُ، وَالْوَتْرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْوَتْرَ آدَمُ شُفِعَ بِزَوْجَتِهِ عَلَيْهِمَا السَّلامُ. رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ الشَّفْعَ يَوْمَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ النَّفْرُ الأَوَّلُ وَالْوَتْرُ الْيَوْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ النَّفْرُ الأَخِيرُ. قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ الشَّفْعَ صَلاةُ الْغَدَاةِ وَالْوَتْرَ صَلاةُ الْمَغْرِبِ. حَكَاهُ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ. وَالثَّامِنُ: أَنَّ الشَّفْعَ الرَّكْعَتَانِ مِنْ صَلاةِ الْمَغْرِبِ وَالْوَتْرَ الرَّكْعَةُ الثَّالِثَةُ. قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَالتَّاسِعُ: أَنَّ الشَّفْعَ وَالْوَتْرَ الْخَلْقُ كُلُّهُ مِنْهُ شَفْعٌ وَمِنْهُ وَتْرٌ. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَالْعَاشِرُ: أَنَّ الْعَدَدَ مِنْهُ شَفْعٌ وَمِنْهُ وتر. قاله الحسين. وَالْحَادِي عَشَرَ أَنَّ الشَّفْعَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَالْوَتْرَ أيَّامٌ مِنَ الثَّلاثَةِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَالثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ هُوَ اللَّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رابعهم} والوتر هو الله قوله تعالى: {قل هو الله أحد} قَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ.

وَالثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ آدَمُ وَحَوَّاءُ، وَالْوَتْرَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ. وَالرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ هُوَ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي وَالْوَتْرَ الْيَوْمُ الَّذِي لا لَيْلَةَ مَعَهُ وَهُو يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ. وَالْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ دَرَجَاتُ الْجَنَّاتِ لأَنَّهَا ثَمَانٍ، وَالْوَتْرَ دَرَكَاتُ النَّارِ لأَنَّهَا سَبْعٌ، فَكَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَقْسَمَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ. قَالَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ. وَالسَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ تَضَادُّ أَوْصَافِ الْمَخْلُوقِينَ: عَزٌّ وَذُلٌّ، وَقُدْرَةٌ وَعَجْزٌ، وَقُوَّةٌ وَضَعْفٌ، وَعِلْمٌ وَجَهْلٌ، وَحَيَاةٌ وَمَوْتٌ. وَالْوَتْرُ انْفِرَادُ صِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: عَزٌّ بِلا ذُلٍّ، وَقُدْرَةٌ بِلا عَجْزٍ، وَقُوَّةٌ بِلا ضَعْفٍ، وَعِلْمٌ بِلا جَهْلٍ، وَحَيَاةٌ بِلا مَوْتٍ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ. وَالسَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، وَالْوَتْرَ الْبَيْتُ. وَالثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ مَسْجِدُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالْوَتْرَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَالتَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ الشَّفْعَ الْقَرَانُ فِي الْحَجِّ وَالتَّمَتُّعِ، والوتر الإفراد. والعشرون: الشَّفْعُ الْعِبَادَاتُ الْمُتَكَرِّرَةُ كَالصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ، وَالْوَتْرُ الْعِبَادَةُ الَّتِي لا تَتَكَرَّرُ وَهِيَ الْحَجُّ. حَكَى هَذِهِ الأَرْبَعَةَ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {والليل إذا يسر} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ: {يَسْرِي} بِيَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَوَافَقَهُمَا فِي الْوَصْلِ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: {يسر} بِغَيْرِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. قَالَ اللُّغَوِيُّونَ منهم الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: وَالاخْتِيَارُ حَذْفُ حَرْفِ الْيَاءِ لِثَلاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لِمُشَارَكَتِهَا مِنَ الآيَاتِ.

وَالثَّانِي لاتِّبَاعِ الْمُصْحَفِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَحْذِفُ الْيَاءَ وَتَكْتَفِي مِنْهَا بِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا، وأنشدوا: (كفاك كف ما يليق دِرْهَمًا ... جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا) وَفِي قوله تعالى: {يسر} قَوْلانِ: أَنَّ الْفِعْلَ لِلَّيْلِ، ثُمَّ فِي ذَلِكَ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا إِذَا يَسْرِي ذَاهِبًا. رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَالثَّانِي: إِذَا يَسْرِي مُقْبِلا. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الفعل لغيره، والمعنى: إذا يُسْرَى فِيهِ، كَمَا يُقَالُ لَيْلٌ نَائِمٌ أَيْ يُنَامُ فِيهِ. قَالَهُ الأَخْفَشُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ في ذلك} أي فيما ذكر {قسم لذي حجر} أَيْ عَقْلٍ. وَسُمِّيَ الْحِجْرُ حِجْرًا لأَنَّهُ يَحْجُرُ صَاحِبَهُ عَنِ الْقَبِيحِ، وَسُمِّيَ عَقْلا لأَنَّهُ يَعْقِلُ عَمَّا لا يَحْسُنُ، وَسُمِّيَ النُّهَى لأَنَّهُ يَنْهَى عَمَّا لا يَجْمُلُ. وَمَعْنَى الْكَلامِ: أَنَّ مَنْ كَانَ ذَا لُبٍّ عَلِمَ أَنَّ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ فِيهِ دَلائِلُ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَقُدْرَتِهِ فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يُقْسِمَ به. وجواب القسم: {إن ربك لبالمرصاد} فَاعْتَرَضَ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تر كيف فعل ربك بعاد} . وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَشْرِ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ ". يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: " وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا رَجُلا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ".

انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ التَّهْلِيلَ وَالتَّكْبِيرَ وَالتَّحْمِيدَ ". أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ المقري بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِ الدُّنْيَا الْعَشْرُ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا مَنْ عَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ ". وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ يَعْدِلُ صِيَامَ سَنَةٍ، وَلَيْلَةَ جَمْعٍ تَعْدِلُ ليلة القدر. قال أبوعثمان النَّهْدِيُّ: كَانُوا يُعَظِّمُونَ ثَلاثَ عَشَرَاتٍ: الْعَشْرَ الأُوَلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْعَشْرَ الأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْعَشْرَ الأُوَلَ مِنَ الْمُحَرَّمِ. اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ عَشْرَكُمْ هَذَا لَيْسَ كَعَشْرٍ وَهُوَ يَحْتِوي عَلَى فَضَائِلَ عَشْرٍ: الأُولَى: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وجل أقسم به فقال {وليال عشر} . وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ سَمَّاهُ الأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ فَقَالَ تَعَالَى: " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَالرَّابِعَةُ: حدث عَلَى أَفْعَالِ الْخَيْرِ فِيهِ. وَالْخَامِسَةُ: أَنَّهُ أَمَرَ بِكَثْرَةِ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ فِيهِ. وَالسَّادِسَةُ: أَنَّ فيه يوم التروية. وفي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ

قَالَ: " مَنْ صَامَ الْعَشْرَ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَوْمُ شَهْرٍ , وَلَهُ بِصَوْمِ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ سَنَةٌ ". قَالَ الزَّاهِدِيُّ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِيَوْمِ التَّرْوِيَةِ لأَنَّ عَرَفَاتٍ لَمْ يَكُنْ بِهَا مَاءٌ فَكَانُوا يَتَرَوَّوْنَ مِنَ الْمَاءِ إِلَيْهَا. وَالسَّابِعَةُ: أَنَّ فِيهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَصَوْمُهُ بِسَنَتَيْنِ. وَالثَّامِنَةُ: أَنَّ فِيهِ لَيْلَةَ جَمْعٍ وَهِيَ لَيْلَةُ الْمُزْدَلِفَةِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ فَضْلِهَا. وَالتَّاسِعَةُ: أَنَّ فِيهِ الْحَجَّ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلامِ. وَالْعَاشِرَةُ: وُقُوعُ الأُضْحِيَةِ الَّتِي هِيَ عَلَمٌ لِلْمِلَّةِ الإِبْرَاهِيمِيَّةِ وَالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ كُرِهَ لَهُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ أَنْ يَأْخُذَ بَشَرَتَهُ وَأَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ أَوْ يَحْلِقَ شَعَرَهُ، وَلْيَتَشَبَّهْ بِالْمُحْرِمِينَ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ يَحْرُمُ ذَلِكَ كُلُّهُ. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بِسَنَدِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ فَإِذَا أَهَلَّ هِلالُ ذِي الْحِجَّةِ فَلا يَأْخُذْ مِنْ شَعَرِهِ وَلا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ ". (مَا لِنَفْسِي عَنْ مَعَادِي غَفَلَتْ ... أَتُرَاهَا نَسِيَتْ مَا فَعَلَتْ) (أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فِي لَهْوِ الْهَوَى ... كُلُّ نَفْسٍ سَتَرَى مَا عَمِلَتْ) (أُفٍّ لِلدُّنْيَا فَكَمْ تَخْدَعُنَا ... كَمْ عَزِيزٍ فِي هَوَاهَا خَذَلَتْ) (رُبَّ رِيحٍ بِأُنَاسٍ عَصَفَتْ ... ثُمَّ مَا أَنْ لَبِثَتْ أَنْ سَكَنَتْ) (وَكَذَاكَ الدَّهْرُ فِي تَصْرِيفِهِ ... قَدَمٌ زَلَّتْ وَأُخْرَى ثَبَتَتْ) (وَيَدُ الأَيَّامِ مِنْ عَادَاتِهَا ... أَنَّهَا مُفْسِدَةٌ مَا أَصْلَحَتْ) (أَيْنَ مَنْ أَصْبَحَ فِي غَفْلَتِهِ ... فِي سُرِورٍ وَمُرَادَاتٍ خَلَتْ) (أَصْبَحَتْ آمَالُهُ قَدْ خَسِرَتْ ... وَدِيَارُ لَهْوِهِ قَدْ خَرِبَتْ) (فَغَدَتْ أَمْوَالُهُ قَدْ فُرِّقَتْ ... وَكَأَنَّ دَارَهُ مَا سُكِنَتْ) (جُزْ عَلَى الدَّارِ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ ... ثُمَّ قُلْ يَا دَارُ مَاذَا فَعَلَتْ)

(أَوْجُهٌ كَانَتْ بُدُورًا طُلَّعًا ... وَشُمُوسًا طَالَمَا قَدْ أَشْرَقَتْ) (قَالَتِ الدَّارُ تَفَانَوْا فَمَضَوْا ... وَكَذَا كُلُّ مُقِيمٍ إِنْ ثَبَتْ) (عَايَنُوا أَفْعَالَهُمْ فِي تُرْبِهِمْ ... فَاسْأَلِ الأَجْدَاثَ عَمَّا اسْتَوْدَعَتْ) (كُلُّ نَفْسٍ سَوْفَ تَلْقَى فِعْلَهَا ... وَيْحَ نَفْسٍ بِهَوَاهَا شُغِلَتْ) (إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلٍّ زَائِلِ ... أَوْ كَأَحْلامِ مَنَامٍ ذَهَبَتْ) أَيْنَ مَنْ مَلَكَ وَقَهَرَ، وَاسْتَعْمَلَ فِي حَفْرِ النَّهَرِ وَنَهَرَ، ضَمَّ الْمَوْتُ ذَلِكَ الْبَشَرَ، وَأَخْمَدَ التلف ذلك الشرر، ونتضت الآفَاتُ قَوِيَّاتِ الْمِرَرِ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ لا يُصْلِحُ الأَشَرُ الْبَشَرَ، وَاسْتَبَانُوا أَنَّ بَيْعَهُمْ بَيْعُ الْغَرَرِ. كَمْ رَاعَتِ الْمَنُونُ سِرْبًا سِرْبًا، كَمْ أَثَارَتْ قَسْطَلا وَحَرْبًا، تَاللَّهِ لَقَدْ جَالَتْ بُعْدًا وَقُرْبًا، فَاسْتَلَبَتِ الْبُعْدَى وَذَوِي الْقُرْبَى، كَمْ عَمَّرَتْ بِخَرَابِ دُورِهِمْ تُرْبًا، فَسَلْ بِهَا حَالَ سَلْبِهَا كَيْفَ اسْتَلَبَتْهُمْ سَلْبًا. أَيْنَ مُلُوكُهَا وَأُمَرَاؤُهَا، وَمُدَّاحُهَا وَشُعَرَاؤُهَا وَسُحَرَاؤُهَا وَخُدَّامُهَا، وَأَحْرَارُهَا وَعَبِيدُهَا وَأَسْرَاهَا وَغِنَاؤُهَا بِالأَمْوَالِ وثراؤها، باكرتهم والله بكراؤها فأعجز إبطاءهم إيرادها فَضَمَّتْهُمْ عَنْ قَلِيلِ صَحَرَاؤُهَا: (أَمَّا الْجَدِيدَانِ مِنْ ثَوْبِي وَمِنْ جَسَدِي ... فَيَبْلَيَانِ وَلا يَبْلَى الْجَدِيدَانِ) (بُرْدُ الشَّبَابِ وَبُرْدُ النَّاسِجِ ابْتُذِلا ... وَهَلْ يَدُومُ عَلَى الْبَرْدَيْنِ بُرْدَانِ) (الدَّهْرُ لَوْنَانِ أَعْيَا ثَالِثٌ لَهُمَا ... وَكَمْ أَتَاكَ بِأَشْبَاهٍ وَأَلْوَانِ) (لَوْ كَانَ يَعْرِفُ دُنْيَاهُ مُصَاحِبُهَا ... أَرَادَهَا لِعَدُوٍّ دُونَ إِخْوَانِ) (وَمَا أُبَالِي وَأَرْدَانِي مُبَرَّأَةٌ ... مِنَ الْعُيُوبِ إِذَا مَا الْحَتْفُ أَرْدَانِي) يَا مَنْ قَدْ سَارَتْ بِالْمَعَاصِي أَخْبَارُهُ، يَا مَنْ قَدْ قَبُحَ إِعْلانُهُ وإسراره، فقيراً يا مِنَ الْهُدَى أَهْلَكَهُ إِعْسَارُهُ، أَتُؤْثِرُ الْخُسْرَانَ قُلْ لِي أَوْ تَخْتَارُهُ، يَا كَثِيرَ الذُّنُوبِ وَقَدْ دَنَا إِحْضَارُهُ، يَا مَأْسُورًا فِي حَبْسِ الزَّلَلِ لا يَنْفَعُهُ إِحْصَارُهُ، نَقْدُكَ بَهْرَجٌ إِذَا حُكَّ مِعْيَارُهُ، كَمْ رُدَّ عَلَى مِثْلِكَ دِرْهَمُهُ وَدِينَارُهُ، يَا مُحْتَرِقًا بِنَارِ الْهَوَى مَتَى تَخْبُو نَارُهُ، مَا يَلِينُ قَلْبُكَ لِغَامِزٍ، وَمَا يُرَى لِمَا تَشْتَهِي مُتَجَاوَزٌ، مَا هَذَا الْفِعْلُ فِعْلُ

فَائِزٍ، إِنَّ مُطِيعَ الزَّمَانِ حَالٌّ عَاجِزٌ، وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ لَمَفَاوِزَ، فِيهَا أَهْوَالٌ وَهَزَاهِزُ تُقَوِّمُكَ ولا تستوي، من يغير الغرائز؟ (أيها النَّفْسُ اسْمَعِي لِقِيلِي ... أَنْتِ مِنَ الْحَيَاةِ فِي أَصِيلِ) (وَفِي غُرُورِ أَمَلٍ طَوِيلٍ ... فَلا يَغُرَّنَّكِ ضُحَى التَّأْمِيلِ) (فَقَدْ دَنَتْ شَمْسُكَ لِلأُفُولِ ... ) عِبَادَ اللَّهِ: هَذِهِ الأَيَّامُ مَطَايَا فَأَيْنَ الْعُدَّةُ قَبْلَ الْمَنَايَا، أَيْنَ الأَنَفَةُ مِنْ دَارِ الأَذَايَا، أَيْنَ الْعَزَائِمُ أَرَضِيتُمْ بِالدَّنَايَا، إِنَّ بَلِيَّةَ الْهَوَى لا تُشْبِهُ الْبَلايَا، وَإِنَّ خَطِيئَةَ الإِصْرَارِ لا كَالْخَطَايَا، يَا مَسْتُورِينَ سَتَظْهَرُ الْخَبَايَا، سَرِيَّةُ الْمَوْتِ لا تُشْبِهُ السَّرَايَا، قَضِيَّةُ الزَّمَانِ لَيْسَتْ كَالْقَضَايَا، رَاعِي السَّلامَةِ يَقْتُلُ الرَّعَايَا، رَامِي الْمَنُونِ يُصْمِي الرَّمَايَا، مَلَكُ الْمَوْتِ لا يَقْبَلُ الْهَدَايَا. أَيُّهَا الشَّابُّ سَتُسْأَلُ عَنْ شَبَابِكَ، أَيُّهَا الْكَهْلُ تَأَهَّبْ لِعِتَابِكَ، أَيُّهَا الشَّيْخُ تَدَبَّرْ أَمْرَكَ قَبْلَ سَدِّ بَابِكَ، كُنْتَ فِي بِدَايَةِ الشَّبَابِ أَصْلَحَ، فَيَا عَجَبًا كَيْفَ أَفْسَدَ مَنْ أَصْلَحَ، يَا مَرِيضَ الْقَلْبِ قِفْ بِبَابِ الطَّبِيبِ، يَا مَبْخُوسَ الْحَظِّ اشْكُ فَوَاتَ النَّصِيبِ، لُذْ بِالْجَنَابِ ذَلِيلا، وَقِفْ عَلَى الْبَابِ طَوِيلا، وَاتَّخِذْ فِي هَذَا الْعَشْرِ سَبِيلا، وَاجْعَلْ جَنَابَ التَّوْبَةِ مَقِيلا، وَاجْتَهِدْ فِي الْخَيْرِ تَجِدْ ثَوَابًا جَزِيلا، قُلْ فِي الأَسْحَارِ: أَنَا تائب، ناد فِي الدُّجَى: قَدْ قَدِمَ الْغَائِبُ: (أَنَا الْمُسِيءُ المذنب الخاطي ... المفرط البين إفراطي) (فإنا تُعَاقِبْ أَنَا أَهْلٌ لَهُ ... وَأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ عَنْ خَاطِي) أَلْجَأَنِي إِلَى الذُّلِّ أَنَا الْجَانِي، وَأَلْقَانِي الزَّلَلُ عَلَى بَابِ الأَسَفِ بِدَمْعِي الْقَانِي ولقد أقرح شأني من خوف شانىء شَانِي: (اعْفُ عَنِّي وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي ... يَا عِمَادِي للمات الزَّمَنْ) (لا تُعَاقِبْنِي فَقَدْ عَاقَبَنِي ... نَدَمٌ أَتْلَفَ رُوحِي وَالْبَدَنْ) (لا تُطَيِّرْ وَسَنًا عَنْ مُقْلَةٍ ... أَنْتَ أَهْدَيْتَ لَهَا طِيبَ الْوَسَنْ) (إِنْ تُؤَاخِذْنِي فَمَنْ ذَا أَرْتَجِي ... وَإِذَا لَمْ تَعْفُ عَنْ ذنبي فمن)

الكلام على قوله تعالى

الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فعل ربك بعاد} خَوَّفَ الْمُخَالِفِينَ مَا فَعَلَ بِنُظَرَائِهِمْ. وَفِي إِرَمَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ اسْمُ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ، وَمَعْنَاهُ: الْقَدِيمَةُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ مِنْ قَوْمِ عَادٍ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمٌ لِجَدِّ عَادٍ لأَنَّهُ عَادُ بْنُ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. قَالَهُ إِسْحَاقُ. وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ: " بِعَادِ إِرَمَ " عَلَى الإِضَافَةِ وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ اسْمُ بَلْدَةٍ. ثُمَّ فِيهَا ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهَا دِمَشْقُ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعِكْرِمَةُ. وَالثَّانِي: الإِسْكَنْدَرِيَّةُ. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَدِينَةٌ صَنَعَهَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ قَالَهُ كَعْبٌ. فَيَخْرُجُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى " ذَاتِ العماد " أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عَمَدٍ وَخِيَامٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِمَادِ: الطُّولُ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ، يُقَالَ: عَمَدَ إِذَا كَانَ طَوِيلا. وَالثَّالِثُ: ذَاتُ الشِّدَّةِ. وَالرَّابِعُ: ذَاتُ الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} فيه قولان:

أَحَدُهُمَا: الْقَبِيلَةُ فِي طَوْلِهَا وَقُوَّتِهَا. وَالثَّانِي: الْمَدِينَةُ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بِسَنَدِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِلابَةَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ شَرَدَتْ، فَبَيْنَا هُوَ فِي صَحَارَى عَدَنِ أَبْيَنَ فِي تِلْكَ الْفَلَوَاتِ إِذْ هُوَ قَدْ وَقَعَ عَلَى حِصْنٍ، حَوْلَ ذَلِكَ الْحِصْنِ قُصُورٌ كَثِيرَةٌ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا ظَنَّ أَنَّ فِيهَا أَحَدًا يَسْأَلُهُ عَنْ إِبِلِهِ فَإِذَا لا خَارِجَ وَلا دَاخِلَ. فَنَزَلَ عَنْ نَاقَتِهِ فَعَقَلَهَا ثُمَّ اسْتَلَّ سَيْفَهُ وَدَخَلَ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ فَإِذَا هُوَ بِبَابَيْنِ عَظِيمَيْنِ لَمْ يَرَ فِي الدنيا شيء أَعْظَمَ مِنْهُمَا وَلا أَطْوَلَ، وَفِي الْبَابَيْنِ نُجُومٌ مِنْ يَاقُوتٍ أَبْيَضَ وَيَاقُوتٍ أَحْمَرَ تُضِيءُ الْبَابَيْنِ مَا بَيْنَ الْحِصْنِ وَالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ أَعْجَبَهُ وَتَعَاظَمَهُ الأَمْرُ فَدَخَلَ فَإِذَا هُوَ بِمَدِينَةٍ لَمْ يَرَ الرَّاءُونَ مِثْلَهَا قَطُّ، فَإِذَا هُوَ فِي قُصُورٍ كُلُّ قَصْرٍ مُعَلَّقٌ تَحْتَهُ أَعْمِدَةٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ. وَمِنْ فَوْقِ كُلِّ قَصْرٍ مِنْهَا غُرَفٌ. وَمِنْ فَوْقِ الْغُرَفِ غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، وَكُلُّ مَصَارِيعِ تِلْكَ الْقُصُورِ وَتِلْكَ الْغُرَفِ مِثْلُ مَصَارِعِ بَابِ الْمَدِينَةِ بِالْيَاقُوتِ الأَبْيَضِ وَالأَحْمَرِ، مَفْرُوشَةٌ تِلْكَ الْقُصُورُ وَتِلْكَ الْغُرَفُ بِاللُّؤْلُؤِ وَبَنَادِقُ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانُ، فَلَمَّا عَايَنَ الرَّجُلُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرَ أَحَدًا هَالَهُ ذَلِكَ وَأَفْزَعَهُ ثُمَّ نَظَرَ فِي الأَزِقَّةِ فَإِذَا هُوَ بِشَجَرٍ فِي كُلِّ زُقَاقٍ مِنْهَا قَدْ أَثْمَرَ، وَتَحْتَ الأَشْجَارِ أَنْهَارٌ مُطَّرِدَةٌ يَجْرِي مَاؤُهَا فِي قَنَوَاتٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ إِنَّ هَذِهِ لَلْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ حَمَلَ مَعَهُ مِنْ لُؤْلُئِهَا وَزَبَرْجَدِهَا ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ فَأَظْهَرَ مَا كَانَ مَعَهُ وَأَعْلَمَ النَّاسَ أَمْرَهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ فَكَتَبَ إِلَى صَنْعَاءَ فَجِيءَ بِهِ فَسَأَلَهُ عَمَّا رَأَى فَأَخْبَرَهُ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَأَرَاهُ مَا قَدْ أَخَذَ مِنْهَا لُؤْلُؤًا قَدِ اصْفَرَّ وَبَنَادِقَ مِسْكٍ لَمْ يَجِدْ لَهَا رِيحًا فَفَتَّهَا فَإِذَا رِيحُ الْمِسْكِ، فَبَعَثَ إِلَى كَعْبٍ وَقَالَ: إِنِّي دَعَوْتُكَ إِلَى شَيْءٍ رجَوْتُ أَنْ يَكُونُ عِلْمُهُ عِنْدَكَ هَلْ بَلَغَكَ أَنَّ فِي الدُّنْيَا مَدِينَةً مَبْنِيَّةً بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَمَدُهَا زَبَرْجَدٌ وَيَاقُوتٌ وَحَصْبَاؤُهَا لُؤْلُؤٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ هِيَ إِرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ الَّتِي بَنَاهَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ. قَالَ حَدِّثْنَا حَدِيثَهَا. فَقَالَ: إِنَّ عَادًا الأَوَّلَ كَانَ لَهُ ابْنَانِ شَدِيدٌ وَشَدَّادٌ فَهَلَكَ عَادٌ وَمَلَكَ ابْنَاهُ الْبِلادَ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إلا فِي طَاعَتِهِمَا ثُمَّ مَاتَ شَدِيدٌ فَمَلَكَ شَدَّادٌ وَحْدَهُ فَكَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا جَمِيعًا،

وَكَانَ مُولَعًا بِقِرَاءَةِ الْكُتُبِ وَكُلَّمَا مَرَّ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى أَنْ يَبْنِيَ مِثْلَهَا عُتُوًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَمَّرَ عَلَى صَنْعَتِهَا مِائَةَ قَهْرَمَانٍ مَعَ كُلِّ قَهْرَمَانٍ أَلْفٌ مِنَ الأَعْوَانِ ثُمَّ قَالَ: انْطَلِقُوا إِلَى أَطْيَبِ فَلاةٍ فِي الأَرْضِ وَأَوْسَعِهَا فَاعْمَلُوا لِي مَدِينَةً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَيَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ وَلُؤْلُؤٍ تَحْتَ تِلْكَ الْمَدِينَةِ أَعْمِدَةٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَفَوْقَ الْقُصُورِ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِ الْغُرَفِ غُرَفٌ وَاغْرِسُوا تَحْتَ تِلْكَ الْقُصُورِ فِي أَزِقَّتِهَا أَصْنَافَ الثِّمَارِ وَأَجْرَوْا تَحْتَهَا الأَنْهَارَ فَإِنِّي أَسْمَعُ فِي الْكُتُبِ صِفَةَ الْجَنَّةِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَ مِثْلَهَا فِي الدُّنْيَا. فَقَالُوا: كَيْفَ نَقْدِرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ لَنَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؟ قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مُلْكَ الدُّنْيَا كُلِّهَا بِيَدِي؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ فَانْطَلِقُوا إِلَى مَعَادِنِ الزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَخُذُوا مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ. وَكَتَبَ إِلَى كُلِّ مَلِكٍ فِي الدُّنْيَا يَأْمُرُهُ أَنْ يَجْمَعَ مَا فِي بِلادِهِ مِنْ جَوْهَرِهَا وَيَحْفِرُ مَعَادِنَهَا، فَجَمَعُوا ذَلِكَ فِي عَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ عَدَدُ الْمُلُوكِ مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ مَلِكًا وَخَرَجَ الْفَعَلَةُ فَتَبَدَّدُوا فِي الصَّحَارَى فَوَقَعُوا عَلَى صَحْرَاءَ عَظِيمَةٍ نَقِيَّةٍ مِنَ الْجِبَالِ وَالتِّلالِ فَإِذَا هُمْ بِعُيُونٍ مُطَّرِدَةٍ فَقَالُوا: صِفَةُ الَّتِي أُمِرْنَا بِهَا، فَأَخَذُوا بِقَدْرِ الَّذِي أَمَرَهُمْ مِنَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَأَجْرَوْا قَنَوَاتِ الأَنْهَارِ وَوَضَعُوا الأَسَاسَ وَأَرَسْلَتْ إِلَيْهِمُ الْمُلُوكُ بِالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَالذَّهَبِ والفضة واللؤلؤ والجوهر وأقاموا في ذلك ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سَنَةٍ فَلَمَّا أَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ بِفَرَاغِهِمْ مِنْهَا قَالَ: انطلقوا فاجعلوا عليها حِصْنًا وَاجْعَلُوا حَوْلَ الْحِصْنِ أَلْفَ قَصْرٍ عِنْدَ كُلِّ قَصْرٍ أَلْفُ عَلَمٍ يَكُونُ فِي كُلِّ قَصْرٍ وَزِيرٌ مِنْ وُزَرَائِي. فَفَعَلُوا ثُمَّ أَخْبَرُوهُ فَأَمَرَ أَلْفَ وَزِيرٍ مِنْ خَاصَّتِهِ وَمَنْ يَثِقُ به أن يتهيأوا لِلنُّقْلَةِ إِلَى إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ وَأَمَرَ مَنْ أَرَادَ مِنْ نِسَائِهِ وَخَدَمِهِ بِالْجَهَازِ فَأَقَامُوا فِي جَهَازِهِمْ عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ سَارَ بِمَنْ أَرَادَ فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَعَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ صَيْحَةً مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا وَلَمْ يَدْخُلْ إِرَمَ وَلا أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ وَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَتَّى السَّاعَةِ. وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ دَغْفَلٍ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عُلَمَاءِ حِمْيَرَ قَالُوا: لَمَّا هَلَكَ شَدَّادُ بْنُ عَادٍ

وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّيْحَةِ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ ابْنُ شَدَّادٍ وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ خَلَّفَهُ بِحَضْرَمَوْتَ عَلَى مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ فَأَمَرَ بِحَمْلِ أَبِيهِ مِنْ تِلْكَ الْمَغَارَةِ إِلَى حَضْرَمَوْتَ وَأَمَرَ فَحُفِرَتْ لَهُ حَفِيرَةٌ فِي مَغَارَةٍ فَاسْتَوْدَعَهُ فِيهَا عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَلْقَى عَلَيْهِ سَبْعِينَ حُلَّةً مَنْسُوجَةً بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ وَوَضَعَ عِنْدَ رَأْسِهِ لَوْحًا عَظِيمًا مِنْ ذَهَبٍ وَكَتَبَ عَلَيْهِ: (اعْتَبِرْ بِي أَيُّهَا المغرور ... بالعمر المديد) (أنا شداد عَادٍ ... صَاحِبُ الْحِصْنِ الْعَمِيدِ) (وَأَخُو الْقُوَّةِ وَالْبَأْسَاءِ ... وَالْمُلْكِ الْمَشِيدِ) (دَانَ أَهْلُ الأَرْضِ لِي ... مِنْ خَوْفِ وَعِيدِي) (وَمَلَكْتُ الشَّرْقَ وَالْغَرْبَ ... بِسُلْطَانٍ شَدِيدِ) (وَبِفَضْلِ الْمُلْكِ وَالْعِدَةِ ... فِيهِ وَالْعَدِيدِ) (فَأَتَى هُودٌ وَكُنَّا ... فِي ضَلالٍ قَبْلَ هُودِ) (فَدَعَانَا لَوْ قبلناه ... في الأمر الشديد) (فعصيناه وناديت ... ألاهل مِنْ مَجِيدِ) (فَأَتَتْنَا صَيْحَةٌ تَهْوِي ... مِنَ الأُفْقِ الْبَعِيدِ) (فَتَوَافَيْنَا كَزَرْعٍ ... وَسَفَا بَيْدَا حَصِيدِ) قَوْلُهُ تعالى {وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} قطعوه ونقبوه {وفرعون ذي الأوتاد} فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ يُعَذِّبُ النَّاسَ بِأَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ يَشُدُّهُمْ فِيهَا ثُمَّ يَرْفَعُ صَخْرَةً فَتُلْقَى عَلَى الإِنْسَانِ فَتَشْدِخُهُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: ذُو الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ. قاله الضحاك.

سجع على قوله تعالى

وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالأَوْتَادِ الْجُنُودُ، كَانُوا يَشُدُّونَ مُلْكَهُ. وَهَذِهِ الأَقْوَالُ الثَّلاثَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ يَبْنِي مَنَارًا يَذْبَحُ عَلَيْهَا النَّاسَ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ أُسْطُوَانَاتٍ يَأْخُذُ الرَّجُلَ فَيَمُدُّ كُلَّ قَائِمَةٍ مِنْهُ إِلَى أُسْطُوَانَةٍ فَيُعَذِّبُهُ. رُوِيَ الْقَوْلانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ أَوْتَادٌ وَأَرْسَانٌ وملاعب يلعب به عَلَيْهَا. قَالَهُ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ طغوا في البلاد} يعني عادا وثمودا وَفِرْعَوْنَ عَمِلُوا بِالْمَعَاصِي وَتَجَبَّرُوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تعالى فأكثروا فيها الفساد بِالْقَتْلِ وَالْمَعَاصِي. {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّمَا قَالَ: سَوْطُ عَذَابٍ لأَنَّ التَّعْذِيبَ قَدْ يَكُونُ بِالسَّوْطِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ جَعَلَ سَوْطَهُ الَّذِي ضَرَبَهُمْ بِهِ الْعَذَابَ. {إِنَّ ربك لبالمرصاد} أَيْ يَرْصُدُ مَنْ كَفَرَ بِهِ بِالْعَذَابِ. قَالَ الأَزْهَرِيُّ: الْمِرْصَادُ الْمَكَانُ الَّذِي يَجِدُ فِيهِ الرَّاصِدُ الْعَدُوَّ. سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} أَيْنَ مَنْ أَصْبَحَ بِلَذَّاتِهِ مُغْتَبِطًا، أَمْسَى فِي صُمَاتِهِ مُعْتَبِطًا، أَيْنَ مَنْ كَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، نَدِمَ إِذَا ارْتَكَبَ غَلَطًا، أَيْنَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلا شَطَطًا، نَزَلَ لَحْدًا مَا فِيهِ وِطَا، وَجَأَهُ الْمَلَكَانِ فَأَفْزَعَا وَأَفْرَطَا، وَافْتَضَحَ بِقَبِيحِهِ وَانْكَشَفَ الْغِطَا. (مَا بَيْنَ يَوْمِ الْمُهِينَاتِ ... وَبَيْنَ يَوْمِ المغريات)

(إِذَا تَأَمَّلْتَ بَعِيدًا ... إِلا كَمَا بَيْنَ هَا وَهَاتِ) قُلْ لِلْمَشْغُولِينَ بِالْفَسَادِ الْوَاقِفِينَ مَعَ الْعِنَادِ: إِلَى مَتَى ظُلْمُ الْعِبَادِ، كَمْ مُسْتَلَبٍ مَا نال المراد {إن ربك لبالمرصاد} . أَمَا عَادَ الْعَذَابُ عَلَى عَادٍ؟ أَمَا أُمْرِضَ وَمَا عَادَ، أَيْنَ مَنِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ أَوْ كَادَ؟ كَادَهُ الْجَبَّارُ فِيمَنْ كَادَ {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} . بيناهم فِي ظُلَمِ الْمَظَالِمِ سُلِبَ عَلَى أَقْبَحِ فِعْلِهِ الظَّالِمُ، فَبَاتَ يَقْرَعُ سِنَّ نَادِمٍ وَلَكِنْ لَمَّا عثر الجواد. أخذوا لله فِي مَضِيقِهِ، وَأَغَصَّهُ الْمَوْتُ بِرِيقِهِ، وَبَقِيَ مُتَحَيِّرًا فِي طَرِيقِهِ لا مَاءَ وَلا زَادَ. كَأَنَّكَ بِكَ قَدْ بَلَغْتَ النُّبُوَّةَ، وَصُرِعْتَ صَرْعَةً تُعْجِزُكَ الأَوْبَةَ. وَقُمْتَ تَعْرِضُ يَوْمَئِذٍ سِلَعَ التَّوْبَةِ وَلَكِنْ وَقْتَ الْكَسَادِ، فَلا تَغْتَرَّ بِمَالِكَ وَقَصْرِكَ، وَلا تُعْجَبْ بِنَهْيِكَ وَأَمْرِكَ، يَا طَائِرَ الْهَوَى سَتُؤْخَذُ مِنْ وَكْرِكَ وَمَا تُعْجِزُ الصَّيَّادَ، {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} . مَنْ لَكَ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ خُلُقِكَ وَجُوزِيتَ بِأَقْبَحِ عَمَلِكَ، تَاللَّهِ إِنْ تُبْتَ مِنْ ذَلِكَ فَكُلُّ عَشْرِكَ أَعْيَادٌ. كَمْ أَرْشُدُكَ إِلَى رَشَادِكَ وَأَنْتَ عَلَى فَسَادِكَ، كَمْ أَدْعُوكَ إِلَى إِسْعَادِكَ وأنت مع سعادك، ضرب بوق رحليك وَما اهْتَمَمْتَ بِزَادِكَ، أَنَا فِي وَادٍ وَأَنْتَ فِي وَادٍ. لَقَدْ بَالَغْتُ لَكَ فِي النَّصَائِحِ وَقُمْتُ مُنْذِرًا عُقْبَى الْقَبَائِحِ، وَالطَّرِيقُ وَاضِحٌ وَالْعَلَمُ لائح، {ومن يضلل الله فماله من هاد} وَالْحَمْدُ للَّهِ وَحْدَهُ.

المجلس الحادي عشر في ذكر يوم عرفة

الْمَجْلِسُ الْحَادِي عَشَرَ فِي ذِكْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لِهَيْبَةِ عَظَمَتِهِ تَحَرَّكَ السَّاكِنُ وَارْتَجَّ، وَلِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ الْتَطَمَتْ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ وَثَجَّ، وَمِنْ يَسِيرِ بَلائِهِ اسْتَغَاثَ الشَّدِيدُ الصَّبْرُ وَضَجَّ، وَإِلَى كَثِيرِ عَطَائِهِ قَطَعَ قَاصِدُوهُ الْعَمِيقَ الْفَجَّ، الَّذِي أَظْهَرَ فِي شَهْرِكُمْ هَذَا مِنْ دِمَاءِ الْقَرَابِينِ السَّفْحَ وَالشَّجَّ، وَأَحَبَّ مَنْ أَكْثَرَ الدُّعَاءَ فِيهِ وَأَلَحَّ وَلَجَّ، وَسَمَّاهُ ذَا الْحِجَّةِ وَشَرَعَ فِيهِ إِلَى بَيْتِهِ الْحَجَّ، الَّذِي اسْتَدْعَى مَنْ شَاءَ إِلَى زِيَارَةِ بَيْتِهِ الْعَتِيقِ، وَحَرَّكَ عَزْمَ الْقَاصِدِ وَأَعَانَهُ بِالتَّوْفِيقِ، وَسَهَّلَ لِلسَّالِكِينَ إِلَى حَرَمِهِ مُسْتَوْعَرَ الطَّرِيقِ، وَوَعَدَ الطَّائِعِينَ الْقَبُولَ وَهُوَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ خَلِيقٌ، وَأَزْعَجَ قَاصِدِيهِ عَنْ مَسَاكِنِهِمْ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ أَمَاكِنِهِمْ بِالتَّشْوِيقِ، فَرَضُوا مِنْ أَهْلِهِمْ وَفَرِيقِهِمْ بِالْبِعَادِ وَالتَّفْرِيقِ، وَسَارَتْ بِهِمُ الأَيْنُقُ عَنِ الرَّبْعِ الأَنِيقِ، وَجَدَّتْ بِهِمُ النَّجَائِبُ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ سَحِيقٍ، فَأَقْبَلُوا بَيْنَ مَاشٍ عَلَى قَدَمَيْهِ اسْتَسْعَاهُ يَقِينُ الصِّدِّيقِ {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كل فج عميق} . أَحْمَدُهُ حَمْدَ مُوقِنٍ آمِنٍ بِهِ وَعَرَفَهُ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى إِدْرَاكِ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَشْهَدُ لَهُ بِنَفْيِ الْمَثَلِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَةِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالرَّحْمَةِ وَبِالرَّأْفَةِ وَصَفَهُ، [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الَّذِي حَالَفَهُ وَمَا خَالَفَهُ، وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي رَفَضَ الدُّنْيَا أَنَفَةً، وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ وَأَسْعَفَهُ، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي مَا أَشْكَلَ عِلْمٌ إِلا وَكَشَفَهُ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي عَظَّمَ اللَّهُ بَيَتْهُ وَشَرَّفَهُ.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ يَوْمَكُمْ هَذَا يَوْمٌ قَدْ عَظَّمَ اللَّهُ أَمْرَهُ وَرَفَعَ عَلَى الأَيَّامِ قَدْرَهُ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ فقال: {والشفع والوتر} فَذَكَرْنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " الشَّفْعُ يَوْمُ النَّحْرِ وَالْوَتْرُ يَوْمُ عَرَفَةَ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال في قوله تعالى: {وشاهد ومشهود} قَالَ: الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ. وَمِنْ فَضَائِلِهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ فِيهِ: {الْيَوْمَ أكملت لكم دينكم} . أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دينا} قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَزَلَتْ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَمِنْ فَضَائِلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِالْحَاجِّ فِيهِ مَلائِكَتَهُ وَيَعُمُّ بِالْغُفْرَانِ. أَخْبَرَنَا سَعْدُ الْخَيْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةُ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلائِكَةَ فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ عَتِيقًا مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ". أخبرنا عبد الله بن علي المقرىء بِسَنَدِهِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلائِكَةِ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي هَؤُلاءِ شُعْثًا غُبْرًا جَاءُونِي مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ضَاجِّينَ يَسْأَلُونِي رَحْمَتِي وَلَمْ يَرَوْنِي وَيَتَعَوَّذُونَ بِي مِنْ عَذَابِي وَلَمْ يَرَوْنِي. فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عَتِيقًا وَلا عَتِيقَةً مِنْهُ، وَلا يَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِ لِمُخْتَالٍ ". أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْغَنَائِمِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ بِسَنَدِهِ عن الصباح ابن مُوسَى، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لا يَبْقَى أَحَدٌ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلا غُفِرَ لَهُ. فَقَالَ رجل: لأهل معرف يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ قَالَ: لا بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً. فَأَمَّا ثَوَابُ صَائِمِيهِ فَأَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: " كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ ". وَأَخْبَرَنَاهُ عَالِيًا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَنْمَاطِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ قَالَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ ". أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ أَنَّ

عبد الرحمن ابن أَبِي بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَوْمَ عَرَفَةَ وَهِيَ صَائِمَةٌ وَالْمَاءُ يُرَشُّ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفْطِرِي. فَقَالَتْ أُفْطِرُ وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ الْعَامَ الَّذِي قَبْلَهُ ". وَاعْلَمْ أَنَّ صَوْمَهُ مُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِ الْحَاجِّ. فَأَمَّا الْحَاجُّ فَلا يُسْتَحَبُّ لَهُ صَوْمُهُ لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ وَلِكَوْنِهِ ضَيْفًا للَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِالذِّكْرِ فِيهِ فَمِنْهُ التَّكْبِيرُ عُقَيْبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ فَابْتِدَاؤُهُ فِي حَقِّ الْمُحِلِّ: صَلاةُ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ. وَفِي حَقِّ الْمُحْرِمِ صَلاةُ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَجْتَمِعَانِ فِي صَلاةِ الْعَصْرِ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ شَفْعٌ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَللَّهِ الْحَمْدُ. وَمِنَ الأَذْكَارِ مَا أَخْبَرَنَا به أبو الفتح ابن أَبِي الْقَاسِمِ بِسَنَدِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خَيْرُ الدُّعَاءِ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ". وَقَدْ رُوِيَتْ صَلاةٌ لِيَوْمِ عَرَفَةَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصِحُّ وَلا يَثْبُتُ فَلِذَلِكَ تَنَكَّبْنَاهَا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحْيِي لَيْلَةَ النَّحْرِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي فَضْلِ إِحْيَائِهَا حَدِيثًا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَاعْلَمُوا أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ يَوْمٌ عَظِيمٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفْضَلُ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ النَّفْرِ ". وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ آدَابِ الْعِيدِ وَمَا يُفْعَلُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ: أَنْ لا يَأْكُلَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الصَّلاةِ وَأَنْ يُضَحِّيَ مَنْ أَمْكَنَهُ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الأُضْحِيَةِ " إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلافِهَا وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ

الكلام على البسملة

بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا ". وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " قُومِي إِلَى أُضْحِيَتِكَ فَاشْهَدِيهَا فَإِنَّ لَكِ بِكُلِّ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكِ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكَ. فَقِيلَ لَهُ: هَذَا لآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً؟ قَالَ بَلْ هِيَ لآلِ مُحَمَّدٍ وَلِلنَّاسِ عَامَّةً ". أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُجَلِّي بِسَنَدِهِ عَنْ عِيسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قال قرىء عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ زَيْدٍ وَأَنَا أَسْمَعُ قِيلَ لَهُ: حَدَّثَكُمْ عَمْرُو بْنُ النَّضْرِ الْغَزَّالُ، عَنْ عِصْمَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ " أَوَّلُ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِ الأُضْحِيَةِ كَفَّارَةٌ لأَرْبَعَةِ آلافِ خَطِيئَةٍ ". وَمِنْ شَرَفِ يَوْمِ النَّحْرِ أَنَّ الله سبحانه وتعالى ابتلى به الْخَلِيلَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْقِصَّةَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (لَكَ فِي الْمَشِيبِ أَكْبَرُ الْوَعْظِ لَوْ ... فَكَّرْتَ يَا مُعْرِضًا عَنِ الْوَعْظِ صَفْحَا) (أَهْدَتِ الأَرْبَعُونَ مِنْهُ إِلَى لَيْلِ ... عِذَارَيْكَ وَالْمَفَارِقَ صُبْحَا) (عَادَ فَوْدَاكَ وَالذَّوَائِبُ والعارض ... الله عنه فَجْرًا مِنْ بَعْدِ مَا كُنَّ جُنْحَا) (وَهَبَ الشَّيْبُ قَوْسَهُ لَكَ وَاعْتَاضَ ... عَلَى الْكَرَّةِ مِنْ شِطَاطِكَ رُمْحَا) (عَمَلُ الْمَرْءِ كَالتِّجَارَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ ... يَرَى خُسْرَانَهَا وَالرِّبْحَا) (فَلَحَى اللَّهُ مَعْشَرًا لا يَرَوْنَ الذَّمَّ ... ذَمًّا لَهُمْ وَلا الْمَدَائِحَ مَدْحَا) (كُلُّ ذِي غَفْلَةٍ تَرَاهُ بَخِيلا ... بِحُطَامِ الدُّنْيَا وَبِالدِّينِ سَمْحَا) (بَاتَ مِنْ جَهْلِهِ وَأَضْحَى يَظُنُّ اللعيد ... فِطْرًا يَأْتِي عَلَيْهِ وَأَضْحَى) (كَذَّبَتْهُ الظُّنُونُ مَا العيد إلا ... لامرىء آمِنٍ مِنَ النَّارِ لَفْحَا) للَّهِ دَرُّ أَقْوَامٍ أَعْيَادُهُمْ قَبُولُ الأَعْمَالِ، وَمُرَادُهُمْ أَشْرَفُ الآمَالِ، وَأَحْوَالُهُمْ تجري على كمال، وحلاهم التقى وياله من جمال.

أَنْبَأَنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ثَابِتٍ الْخَطَّابَ يَقُولُ: رَأَيْتُ فَتْحًا الْمَوْصِلِيَّ فِي يَوْمِ عِيدِ أَضْحَى وَقَدْ شَمَّ رِيحَ الْعِنَازِ فَدَخَلَ إِلَى زُقَاقٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: تَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ بِقُرْبَانِهِمْ وَأَنَا أَتَقَرَّبُ بِطُولِ حُزْنِي، يَا مَحْبُوبًا كَمْ تَتْرُكُنِي فِي أَزِقَّةِ الدُّنْيَا مَحْزُونًا. ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ وَحُمِلَ فَدَفَنَّاهُ بَعْدَ ثَلاثٍ. أَيْنَ مَنْ ضَحَّى بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ فَأَمَاتَ حَظَّهَا، أَيْنَ مَنْ حَثَّهَا عَلَى لِحَاقِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَحَضَّهَا، أَيْنَ مَنْ خَوَّفَهَا حِسَابَهَا وَحَذَّرَهَا عَرَضَهَا، أَيْنَ مَنْ قَطَعَ مِنْ طُولِ الْمُجَاهَدَةِ طُولَهَا وَعَرْضَهَا، وَأَيْنَ مَنْ أَدْرَكَ مِنْ مَقَامَاتِ الْمَقْبُولِينَ وَلَوْ بَعْضَهَا، أَيْنَ مَنْ أَعْمَلَ عَزَائِمَ الْوَفَاءِ وَأَهْمَلَ هِمَمَ الْجَفَاءِ وَقَصَدَ نَقْضَهَا، يَا مَنْ يُسَرُّ بِعِيدٍ وَقَدْ تَعَدَّى الْحُدُودَ، أَتَرْضَى أَنْ تُحْشَرَ فَتَتَحَسَّرَ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ. لَقَدْ أَسْمَعَتْكَ الْمَوَاعِظُ مِنْ إِرْشَادِهَا نُصْحًا، وَأَخْبَرَكَ الشَّيْبُ أَنَّكَ بِالْمَوْتِ تُقْصَدُ وَتُنْحَى، وَشَرَحَ الزَّمَانُ حَالَ مَنْ شَرَحَ قَبْلَكَ شَرْحًا. أَيْنَ مَنْ فَرِحَ بِعِيدِ الْفِطْرِ وَعِيدِ الأَضْحَى؟ أَمَا تَزَوَّدَ الْحَنُوطَ مِنَ الْعِطْرِ وفي القبر أضحى {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا} (جَمَعُوا لِيَنْتَفِعُوا فَلَمَّا أَنْ دَعَوْا ... أَمْوَالَهُمْ حِينَ الرَّدَى لَمْ تَنْفَعِ) (وَاسْتَدْفَعُوا بِالْمَالِ كُلَّ مَضَرَّةٍ ... حَتَّى أَتَى الأَمْرُ الْعَزِيزُ الْمَدْفَعِ) (وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي ... جَمَعُوا بِمَرْأَى لِلْخُطُوبِ وَمَسْمَعِ) (هَتَفَ الْحِمَامُ بِكُلِّ حَيٍّ مِنْهُمُ ... فَأَجَابَهُ مُسْتَكْرَهًا كَالطَّيِّعِ) (وَأَرَاهُمُ فِي مَضْجَعٍ وَأَتَاهُمُ ... مِنْ مَطْلَعٍ وَسَقَاهُمُ مِنْ مَكْرَعِ) يَا مَنْ كُلَّمَا جُذِبَ عَنْ لَهْوِهِ رَسَبَ، هَذَا يُرِيدُ الْمَوْتَ لَكَ فِي الطَّلَبِ، بَادِرْ قَبْلَ الْفَوَاتِ فَالزَّمَانُ يُنْتَهَبُ، وَانْتَظِرْ سَلْبَ الدَّهْرِ مَا وَهَبَ، أَيْنَ الْجَامِعُ المانع للمذهب؟ ذَهَبَ، أَيْنَ مُخَاصِمُ الأَقْدَارِ قُلْ لِي مَنْ غَلَبَ؟ أَتَاهُ الْفَاجِعُ فَاقْتَرَبَ وَمَا ارْتَقَبَ، وَأَبْرَزَهُ مِنْ قَصْرِهِ وَلَطَالَمَا احْتَجَبَ، يَا مُعْرِضًا عَنَّا عَنَّاكَ التَّعَبُ، يَا

الكلام على قوله تعالى

هَاجِرًا لَنَا إِلَى كَمْ ذَا الْغَضَبُ، يَا مُضْغَةً يَا عَلَقَةً خِدْمَتُنَا نَسَبٌ، يَا مُؤْثِرًا غَيْرَنَا بِعْتَ الدُّرَّ بِالْخَشَبِ، أَمَا يَسُوقُكَ إِلَى الْخَيْرِ مَا يَشُوقُ؟ أَمَا يَعُوقُكَ عَنِ الضَّيْرِ مَا يَعُوقُ؟ مَتَى تَرْجِعُ حُرًّا يَا مَرْقُوقُ، مَتَى تَصِيرُ سَابِقًا يَا مَسْبُوقُ، إِيَّاكَ وَالْهَوَى فَكَمْ قَتَلَ عَاشِقًا مَعْشُوقٌ، أَوَّلُ الْهَوَى سَهْلٌ ثُمَّ تَتَخَرَّقُ الْخُرُوقُ، كُلَّمَا حُصِدَ نَبَاتُهُ بِمِنْجَلِ الصَّبْرِ أَخْرَجَتِ الْعُرُوقُ، إِنْ لَذَّ شُرْبُهُ فِي الفم فشربه شجا فِي الْحُلُوقِ، وَإِنَّمَا لَذَّاتُ الدُّنْيَا مِثْلُ خَطْفِ الْبُرُوقِ، مَيِّزْ بَيْنَ مَا يَفْنَى وَمَا يَبْقَى تَرَ الْفُرُوقَ، خَلِّ خِلَّ التَّوَانِي إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَفُوقَ، تَاللَّهِ مَا نَصَحَكَ إِلا مُحِبٌّ أَوْ صَدُوقٌ. سَتَعْلَمُ أَيُّهَا الْعَاصِي مَا أَتَيْتَ، وَسَتَدْرِي يَوْمَ الْحِسَابِ مَنْ عَصَيْتَ، وَسَتَبْكِي دَمًا لِقُبْحِ مَا جَنَيْتَ، كَأَنَّكَ بِالْمَوْتِ قَدْ جَاءَ فَانْتَهَيْتَ وَارْعَوَيْتَ، وَتَذَكَّرْتَ تِلْكَ الْخَطَايَا فَتَعِسْتَ وَبَكَيْتَ، وَأُخْلِيَ مِنْكَ الْبَيْتُ شِئْتَ أَوْ أَبَيْتَ، وَصِحْتَ بِلِسَانِ الأَسَفِ: " رِبِّ ارْجِعُونِي " وَلَيْتَ، انْهَضْ يَا حَيًّا قَادِرًا قَبْلَ أَنْ تُسَمَّى بِاسْمِ مَيِّتٍ، وَيْحَكَ تَأَمَّلْ أَمْرَكَ وَافْتَحْ عَيْنَيْكَ، وَيْحَكَ كَمْ تعبى مِنَ الذُّنُوبِ عَلَيْكَ، إِنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ قَدْ فُوِّقَتْ إِلَيْكَ، اقْبَلْ نُصْحِي وَقُمْ نَادِمًا عَلَى قَدَمَيْكَ، وَأَحِسَّهَا أَرْضَ عَرَفَةَ وَقُلْ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَذِّنْ فِي الناس بالحج يأتوك رجالا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قَالَ: أَذِّنْ وعلي البلاغ. فعلا أبا قبيس وقال: يا أيها النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ قَدْ بَنَى بَيْتًا فَحُجُّوهُ. فأسمع من أصلاب الرجال وأرحام النساء ما سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَحُجَّ فَأَجَابُوهُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. وَقَوْلُهُ: " رِجَالا " أَيْ مُشَاةً. وَقَدْ حَجَّ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ مَاشِيَيْنِ، وحج

الحسن ابن عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ حَجَّةً مَاشِيًا وَالنَّجَائِبُ تُقَادُ مَعَهُ. وَحَجَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاشِيًا مَرَّتَيْنِ. سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رجالا} أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ الْخَلِيلَ بَعْدَ بِنَاءِ بَيْتِهِ الْجَلِيلِ أَنْ يُنَادِي عَبِيدَهُ إِلَى الْفَضْلِ الْجَزِيلِ، لِيَحُطَّ عَنْهُمْ مَوْلاهُمْ كُلَّ وِزْرٍ ثَقِيلٍ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رجالا} . يَا إِبْرَاهِيمُ نَادِهِمْ لِيَحْصُلَ نَفْعُهُمْ فِي مَعَادِهِمْ، وَأَزْعِجْهُمْ بِنِدَائِكَ مِنْ بِلادِهِمْ وَأَخْرِجْهُمْ عَنْ أَهْلِهِمْ وَأَوْلادِهِمْ فَلْيَقْصُدُوا بَابِي مُسْرِعِينَ عِجَالا {وَأَذِّنْ فِي الناس بالحج يأتوك رجالا} . يَا غَافِلا عَنِّي أَنَا الدَّاعِي، يَا مُتَخَلِّفًا عَنْ زِيَارَتِي أَنَا أَلْقَى السَّاعِي، يَا مَشْغُولا عَنْ قَصْدِي لَوْ عَرَفْتَ اطِّلاعِي، أَنَا أَقَمْتُ خَلِيلِي يَدْعُو إِلَى سَبِيلِي، وَأَقْبَلْتُ بِتَنْوِيلِي عَلَى مُحِبِّي إِقْبَالا {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رجالا} . للَّهِ دَرُّ أَقْوَامٍ فَارَقُوا دِيَارَهُمْ وَعَانَقُوا افْتِقَارَهُمْ، وَآثَرُوا غُبَارَهُمْ وَطَهَّرُوا أَسْرَارَهُمْ، يَدْعُونَ عِنْدَ الْبَيْتِ قَرِيبًا سَمِيعًا، وَيَقِفُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالذُّلِّ جَمِيعًا، وَيَسْعَوْنَ فِي مَرَاضِيهِ سَعْيًا سَرِيعًا، وَقَدْ وَدَّعُوا مَطْلُوبَ شَهَوَاتِهِمْ تَوْدِيعًا، فَأَفَادَهُمْ مَوْلاهُمْ أَنْ رَجَّعَهُمْ كَيَوْمِ أَخْرَجَهُمْ أَطْفَالا. هَجَرُوا الْكَدَرَ وَهَاجَرُوا إِلَى الصَّفَا، وَقَصَدُوا الْمَرْوَةَ بَعْدَ أَنْ أَمُّوا الصَّفَا، وَحَذِرُوا الرَّدَّ وَخَافُوا الْجَفَا، وَتَعَلَّقَتْ آمَالُهُمْ بِمَنْ هُوَ حَسْبُهُمْ وَكَفَى. (نَادِ زُوَّارِي أَنَا أَدْعُوهُمْ ... نَحْوَ بَيْتِي لِيَنَالُوا شَرَفَا) (فَهُمْ وَفْدِي إِذَا مَا نَزَلُوا ... بِحَرِيمِي إِذْ دَنَوْا مُزْدَلِفَا)

(وَلَهُمْ عِنْدِي مَزِيدٌ وَلَهُمْ ... مِنْ نَوَالِي مَا أَحَبُّوا طَرَفَا) (فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ إِذْ قَصَدُوا ... نَحْوَ بَابِي يَطْلُبُونَ الزُّلْفَى) (فَلَهُمْ مِنِّي مَهْمَا أَمَلُّوا ... سَلَفًا يَنْمَى وَيُنْشِي خَلَفَا) قَدْ أَحْرَمَ الْقَوْمُ عَنِ الْحَلالِ فَأَحْرِمُوا أَنْتُمْ عَنِ الْحَرَامِ، مَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الطَّيِّبِ فَاحْذَرُوا أَنْتُمْ جِيفَةَ الْهَوَى، يَا حُسْنَهُمْ وَقَدْ نَزَعُوا الْمَخِيطَ وَنَزَعُوا عَنِ التضييع والتفريط، وملأوا بِالتَّضَرُّعِ الْبَسِيطِ، فَارَقُوا لأَجْلِ مَوْلاهُمْ أَوْلادَهُمْ، وَأَعْرَوْا عَنْ رَقِيقِ الثِّيَابِ لَهُ أَجْسَادَهُمْ، وَتَرَكُوا فِي مَرَاضِيهِ مَحْبُوبَهُمْ وَمُرَادَهُمْ، فَأَصْبَحُوا قَدْ أَعْطَاهُمْ مَوْلاهُمْ وَأَمْسَوْا وَقَدْ أَفَادَهُمْ. اسْتَسْعَاهُمْ إِلَيْهِ فَاجْتَهَدُوا وَجَدُّوا، وَتَزَوَّدُوا التَّقْوَى فِي طَرِيقِهِمْ وَاسْتَعَدُّوا، وَأَتْعَبُوا الأَعْضَاءَ فِي خِدْمَتِهِ وَكَدُّوا، وَطَرَقُوا بِأَنَامِلِ الرَّجَاءِ بَابَ اللجا فَمَا رُدُّوا، نَادَاهُمْ وَهُمْ فِي الأَصْلابِ وَالأَرْحَامِ، وَاسْتَصْلَحَهُمْ لِزِيَارَةِ بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَأَكْرَمَهُمْ بِالْغُفْرَانِ فَيَا نعم الإكرام، ورحم شعث الرؤوس وَغُبَارَ الأَقْدَامِ، وَأَنْتُمْ إِنْ بَعُدْتُمْ عَنْ ذَلِكَ الْمَقَامِ فَقَدْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ، فَارْغَبُوا بِالتَّضَرُّعِ إِلَى الْمَلِيكِ الْعَلامِ، فَإِنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْفَضْلِ مَوْصُوفٌ بِالإِنْعَامِ. ذُكِرَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رحمه الله تعالى قال: صحبت جعفر الصَّادِقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يلبي تغير وجهه وارتعدت فرائصه فقلت: مالك يا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُلَبِّيَ. قُلْتُ: فَمَا يُوقِفُكَ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ أَسْمَعَ غَيْرَ الْجَوَابِ! وَقَفَ مُطَرِّفٌ وَبَكْرٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ مُطَرِّفٌ: اللَّهُمَّ لا تَرُدَّهُمْ مِنْ أَجْلِي. وَقَالَ بَكْرٌ: مَا أَشْرَفَهُ مِنْ مَقَامٍ لَوْلا أَنِّي فِيهِمْ! وَرُوِيَ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءَ الثَّكْلَى الْمُحْتَرِقَةِ، فَلَمَّا كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَسْقُطَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: وَاسَوْأَتَاهْ مِنْكَ وَإِنْ عَفَوْتَ!

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ بِسَنَدِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَزَارَمَرْدَ الصُّوفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَحْبُوبٍ تَلْمِيذَ أَبِي الأَدْيَانِ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ خَائِفًا إِلا رَجُلا وَاحِدًا، كُنْتُ بِالْمَوْقِفِ فَرَأَيْتُ شَابًّا مُطْرِقًا مُنْذُ وَقَفَ النَّاسُ إِلَى أَنْ سَقَطَ الْقُرْصُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا ابْسُطْ يَدَكَ لِلدُّعَاءِ فَقَالَ لِي: ثَمَّ وَحْشَةٌ. فَقُلْتُ لَهُ: فَهَذَا يَوْمُ الْعَفْوِ عَنِ الذُّنُوبِ. قَالَ فَبَسَطَ يَدَهُ وَوَقَعَ مَيِّتًا. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الدِّينَوَرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْجَلاءِ يَقُولُ: كُنْتُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَشَابٌّ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ، فَكَانَ يَقُولُ: يَا رب أريد أن أقول لبيك اللهم لبيك فَأَخْشَى أَنْ تُجِيبَنِي بِلا لَبَّيْكَ وَلا سَعْدَيْكَ. يُرَدِّدُ ذَلِكَ مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ وَخَرَجَتْ رُوحُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ سَرِيٌّ: لَقِيتُ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ حَبَشِيَّةً فَقُلْتُ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَتْ: الْحَجَّ. قُلْتُ: الطَّرِيقُ بَعِيدٌ. فَقَالَتْ: (بَعِيدٌ عَلَى كَسْلانَ أَوْ ذِي مَلالَةٍ ... فَأَمَّا عَلَى الْمُشْتَاقِ فَهْوَ قَرِيبُ) ثُمَّ قَالَتْ: يَا سَرِيُّ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ونراه قريبا. فَلَمَّا وَصَلَتِ الْبَيْتَ رَأَيْتُهَا تَطُوفُ كَالْفَتَى الشَّاطِرِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا سَرِيُّ أَنَا تِلْكَ الْعَبْدَةُ لَمَّا جِئْتُهُ بِضَعْفِي حَمَلَنِي بِقُوَّتِهِ، لَمَّا حَجَّ الشِّبْلِيُّ وَأَشْرَفَ عَلَى جُدْرَانِ مَكَّةَ قَالَ: (أَبُطْحَانَ مَكَّةَ هَذَا الَّذِي ... أَرَاهُ عَيَانًا وَهَذَا أَنَا!) ثُمَّ غُشِي عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: (هَذِهِ دَارُهُمْ وَأَنْتَ مُحِبٌّ ... مَا بَقَاءُ الدُّمُوعِ فِي الآمَاقِ) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ الْهَاشِمِيُّ، وَحَدَّثَنَا عَنْهُ ابْنُ نَاصِرٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ بِسَنَدِهِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَجَّ سَعِيدُ بْنُ وهب ماشيا

فَبَلَغَ مِنْهُ وَجَهْدٌ فَقَالَ: (قَدَمَيَّ اعْتَوِرَا رَمْلَ الْكَثِيبِ ... وَاطْرُقَا الآجِنَ مِنْ مَاءِ الْقَلِيبِ) (رُبَّ يَوْمٍ رُحْتَمَا فِيهِ عَلَى ... زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَفِي وَادٍ خَصِيبِ) (وَسَمَاعِ حُسْنِ مَنْ حَسَّنَ ... صَخْبَ الْمِزْهَرِ كَالظَّبْيِ الرَّبِيبِ) (فَاحْسِبَا ذَاكَ بِهَذَا وَاصْبِرَا ... وَخُذَا مِنْ كُلِّ فَنٍّ بِنَصِيبِ) (إِنَّمَا أَمْشِي لأَنِّي مُذْنِبٌ ... فَلَعَلَّ اللَّهَ يَعْفُو عَنْ ذُنُوبِي) كَأَنِّي الآنَ بِالْمَحَامِلِ تَئِنُّ، وَبِالزَّوَامِلِ تَحِنُّ، وَبِالْمَطِيِّ تَرْزُمُ، وَبِالْجُفُونُ تَسْجُمُ، وَالشَّوْقُ إِلَى الْبَيْتِ قَدْ عَمِلَ عَمَلَهُ، وَالْمُؤَمِّلُ يُلاحِظُ أَمَلَهُ: (وَلِي أَنَّةُ الشَّاكِي وَإِنْ بَعُدَ الْمَدَى ... مَا بَيْنَنَا وَتَنَفُّسُ المكروب) قوله تعالى {وعلى كل ضامر} أَيْ رُكْبَانًا عَلَى ضُمَّرٍ مِنَ السَّفَرِ. نَجَائِبَ تَحْمِلُ الأَحْبَابَ، صَوَابِرَ عَلَى الإِنْضَاءِ وَالإِتْعَابِ، تَرْفُلُ بِالزَّائِرِينَ إِلَى رَبِّ الأَرْبَابِ، ادَّخَرَتْ لَهُمُ التُّحَفَ وَالْبَشَائِرَ، وَنَظَرَتْ إِلَى صَبْرِهِمْ عَلَى فِرَاقِ الْعَشَائِرِ، ودعوتهم إِلَى نَيْلِ الأَمَلِ الْوَافِرِ، وَرَحِمَتْ شَعْثَ الشَّعَثِ وَغُبَارَ الْمُسَافِرِ، وَكَتَبَتْ فِي حَسَنَاتِهِمْ خَطَوَاتِ كُلِّ ذِي خُفٍّ وَحَافِرٍ، وَأَرْبَحَتْ تِجَارَةَ كُلِّ وَارِدٍ نَحْوِي وَصَادِرٍ، وَأَعَدَّتْهُمْ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَمَا فِيهِمْ من خَاسِرٌ، فَنَادِهِمْ: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} . قَوْلُهُ تَعَالَى {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} يَأْتِينَ: فِعْلٌ لِلنُّوقِ. وَقَرَأَ الأَعْمَشُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ " يَأْتُونَ " عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ

لِلرِّجَالِ. وَالْفَجُّ الْعَمِيقُ: الْمَكَانُ الْبَعِيدُ. صَبَرُوا عَلَى مَشَاقِّ الطَّرِيقِ بَيْنَ هُبُوطٍ وَصُعُودٍ وَمَضِيقٍ، وَاحْتَمَلُوا لأَجْلِي خُلُقَ الرَّفِيقِ، وَرَضُوا مِنْ فَرِيقِهِمْ بِالْبِعَادِ وَالتَّفْرِيقِ، وَحَدِيَتْ بِهِمُ الْمَطَايَا مِنْ كُلِّ بَلَدٍ سَحِيقٍ، وَجَانَبُوا مَا يَشِينُ وَصَاحَبُوا مَا يَلِيقُ، وَصَابَرُوا ظَمَأَ الشِّفَاهِ وَقِلَّةَ الرِّيقِ، فَلأُسْقِيَنَّهُمْ يَوْمَ لِقَائِي مِنَ السَّلْسَبِيلِ وَالرَّحِيقِ، فَنَادِهِمْ {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عميق} قوله تعالى {ليشهدوا منافع لهم} وَهِيَ رِبْحُ التِّجَارَةِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابُ فِي الأُخْرَى. سُبْحَانَ مَنْ إِلَى بَيْتِهِ حَمَلَهُمْ وَبِفِنَائِهِ أَنْزَلَهُمْ وَإِلَى حَرَمِهِ أَوْصَلَهُمْ، وَبِإِخْلاصِ قَصْدِهِ جَمَلَهُمْ، فَلَقَدْ جَمَعَ الْخَيْرَ الْجَمَّ لَهُمْ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لهم} . حَرَّكَهُمْ بِتَوْفِيقِهِ فَثَارُوا، وَاسْتَدْعَاهُمْ إِلَى بَيْتِهِ فَسَارُوا، وأوصلهم إلى حرمه فزاروا، فياحسنهم فِي الطَّوَافِ إِذَا سَعَوْا وَدَارُوا، وَاجْتَمَعُوا بِالآمَالِ حَوْلَ الْبَيْتِ وَاسْتَدَارُوا، فَضَافَهُمْ مَنْ أَضَافَهُمْ إِلَى الأحباب وأنزلهم {ليشهدوا منافع لهم} . يَا كَثْرَةَ مَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الْعَطَايَا، يَا شَرَفَ مَا أَنَالَهُمْ مِنَ الْهَدَايَا، فَلَقَدْ تَلَقَّاهُمْ بِالْجُودِ وَالتَّحَايَا، وَحَطَّ عَنْهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا مَا أَثْقَلَهُمْ. أَتْعَبَهُمُ الْمَشْيُ وَأَزْعَجَهُمُ الْمَرْكُوبُ، وَكَانَ ذَلِكَ هَيِّنًا فِي قُرْبِ الْمَحْبُوبِ فَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ، وَقَابَلَهُمْ بِالْعَفْوِ عَنِ الذُّنُوبِ وَقَبِلَهُمْ. تَعَلَّقُوا بِذَيْلِ رَحْمَتِي وَلُطْفِي، وَسَأَلُونِي مَوَدَّتِي وَعَطْفِي، وَاشْتَغَلُوا بِي دُونَ غَيْرِي وَيَكْفِي {فَلا تَعْلَمُ نفس ما أخفي لهم} .

إِخْوَانِي: إِنْ لَمْ نَصِلْ إِلَى دِيَارِهِمْ فَلْنَصِلِ انْكِسَارَنَا بِانْكِسَارِهِمْ، إِنْ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى عَرَفَاتٍ فَلْنَسْتَدْرِكْ مَا قَدْ فَاتَ، إِنْ لَمْ نَصِلْ إِلَى الْحِجْرِ فَلْيَلِنْ كُلُّ قَلْبٍ حَجَرٍ، إِنْ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى لَيْلَةِ جَمْعٍ وَمِنًى فَلْنَقُمْ بِمَأْتَمِ الأَسَفِ هَاهُنَا. أَيْنَ الْمُنِيبُ الأَوَّابُ أَيْنَ الْمُجِدُّ السَّابِقُ، هَذَا يَوْمٌ يُرْحَمُ فِيهِ الصَّادِقُ، هَذَا أَوَانٌ يَطْلُعُ فِيهِ الْخَالِقُ، يَا مُؤَمِّلا مِثْلَهُ قَدْ لا يُوَافِقُ، مَنْ لَمْ يَنُبْ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَمَتَى يُنِيبُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَمَتَى يُجِيبُ، وَمَنْ لَمْ يُتَعَرَّفْ بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ غَرِيبٌ، وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِالْعَفْوِ فَمَا لَهُ مِنْ نَصِيبٍ، أَسَفًا لِعَبْدٍ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ الْيَوْمَ مَا جَنَى، كُلَّمَا هَمَّ بِخَيْرٍ نَقَضَ الطَّرْدُ مَا بَنَى، حَضَرَ مَوَاسِمَ الأَرْبَاحِ فَمَا حَصَّلَ خَيْرًا وَلا اقْتَنَى، وَدَخَلَ بَسَاتِينَ الْفَلاحِ فَمَا مَدَّ كَفًّا وَلا جَنَى، لَيْتَ شِعْرِي مَنْ مَنَّا خَابَ وَمَنْ مِنَّا نَالَ الْمُنَى. فَيَا إِخْوَانِي: إِنْ فَاتَنَا نُزُولُ مِنًى، فَلْنُنْزِلْ دُمُوعَ الْحَسَرَاتِ هَاهُنَا، وَكَيْفَ لا نَبْكِي وَلا نَدْرِي مَاذَا يُرَادُ بِنَا، وَكَيْفَ بِالسُّكُونِ وَمَا نَعْلَمُ مَا عِنْدَهُ لَنَا: (فَلِذَا الْمَوْقِفِ أَعْدَدْنَا الْبُكَا ... وَلِذَا الْيَوْمِ الدُّمُوعُ تُقْتَنَى) اللَّهُمَّ إِنَّا نَقِفُ لَكَ عَلَى الأَقْدَامِ كَقِيَامِ الْقَاصِدِينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، يَا غَافِرَ الذُّنُوبِ اغْفِرْ ذُنُوبَنَا، يَا سَتَّارَ الْعُيُوبِ اسْتُرْ عُيُوبَنَا، يَا كَاشِفَ الْكُرُوبِ اكْشِفْ كُرُوبَنَا، يَا مُنْتَهَى الآمَالِ بَلِّغْنَا مَطْلُوبَنَا. بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الراحمين.

الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ خَلْقِ ابْنِ آدم والأرض والسماوات فيها ثلاثة مجالس

المجلس الأول

الْمَجْلِسُ الأَوَّلُ يُذْكَرُ فِيهِ خَلْقُ ابْنِ آدَمَ الْحَمْدُ للَّهِ الْخَالِقِ بِقُدْرَتِهِ مَا دَبَّ وَدَرَجَ، الْفَاتِقِ بِصَنْعَتِهِ مَا الْتَأَمَ وَارْتَتَجَ، الرَّاتِقِ بِحِكْمَتِهِ مَا افْتَرَقَ وَانْفَرَجَ، الدَّالِّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ، أَنْشَأَ الأَبْدَانَ مِنَ النُّطَفِ وَحَفِظَ فِيهَا الْمُهَجَ، وَنَوَّرَ الْعُيُونَ فَأَحْسَنَ فِي تَرْكِيبِهَا الدَّعَجَ، وَأَنْطَقَ اللِّسَانَ فَأَبَانَ سُبُلَ الْمُرَادِ وَنَهَجَ، وَعَلَّمَ الإِنْسَانَ الْبَيَانَ فَإِذَا خَاصَمَ فَلَجَ، بِقُدْرَتِهِ سَكَّنَ الْمُتَحَرِّكَ فَمَا زَالَ وَلا اخْتَلَجَ، وَلِهَيْبَتِهِ تَحَرَّكَ السَّاكِنُ فَتَغَيَّرَ وَانْزَعَجَ، طَوَى اللُّطْفَ فِي تَكَالِيفِ الْخَلائِقِ وَدَرَجَ " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ من حرج " خَلَقَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمَرَجَ، وَاسْتَخْرَجَ بَدَائِعَ الْوَدَائِعِ مِنْ بَوَاطِنِ اللُّجَجِ، وَعَلِمَ مَا ظَهَرَ فِي الأَرْضِ وَرَأَى مَا فِيهَا وَلَجَ، بَصِيرٌ يَرَى جَرَيَانَ الدِّمَاءِ فِي بَاطِنِ الْوَدَجِ، سَمِيعٌ يُدْرِكُ بِسَمْعِهِ صَوْتَ الْبَاكِي إِذَا نَشَجَ، لا يَخْفَى عَلَى بَصَرِهِ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ سَوَادُ الثَّبَجِ وَلا يَعْزُبُ عَنْ سَمِعْهِ أَنِينُ الْمُدْنِفِ يَرْجُو الْفَرَجَ، أَنْزَلَ كَلامًا قَدِيمًا مَنْ وَرَدَ بَحْرَهُ ارْتَوَى وَابْتَهَجَ، قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ. أَحْمَدُهُ حَمْدَ مَنْ جَمَعَ الْمَحَامِدَ فِي حَمْدِهِ وَدَرَجَ، وَأَشْهَدُ أَنَّهُ الْعَظِيمُ الْقَدْرِ الرَّفِيعُ الدَّرَجِ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي إِلَى قَابَ قَوْسَيْنِ عَرَجَ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الَّذِي لا يَبْغَضُهُ إِلا الرُّعَاعُ الْهَمَجُ، وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي يَفُوحُ مِنْ ذِكْرِهِ أَذْكَى الأَرَجِ، وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي جَمَعَ الإِنْفَاقَ إِلَى الصِّهْرِ فَازْدَوَجَ، وَعَلَى عَلِيٍّ الْمُجْمَعِ عَلَى حُبِّهِ فَإِنْ خَرَجَ شَخْصٌ مِنَ الإِجْمَاعِ خَرَجَ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي افْتَخَرَ بِهِ بَيْتُ الْخِلافَةِ وَابْتَهَجَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سلالة من طين} . الْمُرَادُ بِالإِنْسَانِ هَاهُنَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَالسُّلالَةُ فُعَالَةُ، وَهِيَ الْقَلِيلُ مِمَّا يُسَلُّ، فَاسْتَلَّ مِنْ كُلِّ الأَرْضِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ من قبضة قبضها مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثم جعلناه نطفة} يَعْنِي ابْنَ آدَمَ. وَالْمُرَادُ بِالنُّطْفَةِ الْمَنِيَّ {فِي قرار} يعني الرحم {مكين} أي حريز قد هيىء لاستقراره فيه. قوله تعالى: {ثم خلقنا النطقة علقة} والعلقة دم عبيط جامد. وسميت علقة لِتَعَلُّقِهَا بِمَا تَمُرُّ بِهِ، فَإِذَا جَفَّتْ فَلَيْسَتْ علقة. والمضغة لَحْمَةً صَغِيرَةً، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنَّهَا بِقَدْرِ مَا يُمْضَغُ. {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثم أنشأناه خلقا آخر} . وَفِي مَحَلِّ هَذَا الإِنْشَاءِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: بَطْنُ الأُمِّ. ثُمَّ صِفَةُ الإِنْشَاءِ فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: نَفْخُ الرُّوحِ. رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالشَّعْبِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ. ثُمَّ فِي صِفَةِ هَذَا الإِنْشَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ابْتِدَاءَ ذَلِكَ الإِنْشَاءِ أَنَّهُ اسْتَهَلَّ ثُمَّ دُلَّ عَلَى الثَّدْيِ وَتَقَلَّبَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِوَاءُ الشَّبَابِ. قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ. وَالثَّالِثُ: خُرُوجُ الأَسْنَانِ وَالشَّعَرِ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ.

وَالرَّابِعُ: إِعْطَاءُ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ. حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ. {فَتَبَارَكَ الله} أي تعالى ورفع {أحسن الخالقين} أَيِ الْمُصَوِّرِينَ وَالْمُقَدِّرِينَ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: " إِنّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ. فَوَالَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ. ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلا يَنْقُصُ ". قَالَ عُلَمَاءُ الْمُتَطَبِّبِينَ: أَوَّلُ الأَحْوَالِ الْحَادِثَةِ فِي الْمَنِيِّ أَنْ يَكُونَ لَهُ زَبَدٌ ثُمَّ يُوجَدُ النَّفْخُ مُنْدَفِعًا إِلَى وَسَطِ الرُّطُوبَةِ إِعْدَادًا لِمَكَانِ الْقَلْبِ، ثُمَّ تَتَمَيَّزُ الأَعْضَاءُ وَيَتَنَحَّى بَعْضُهَا عَنْ مَمَاسَّةِ بَعْضٍ وَيُحِيطُ بِالْجَنِينِ ثَلاثَةُ أَغْشِيَةٍ: غِشَاءٌ تُنْسَجُ فِيهِ الْعُرُوقُ، وَغِشَاءٌ يَنْصَبُّ فِيهِ بَوْلُ الْجَنِينِ، وَغِشَاءٌ يَجْمَعُ الرُّطُوبَةَ الَّتِي تَرْشَحُ مِنَ الْجَنِينِ.

وَلِلرَّأْسِ أَرْبَعَةُ عِظَامٍ: [ثَلاثَةٌ] كَالْجُدْرَانِ وَوَاحِدٌ كَالْقَاعِدَةِ، وجعلت هذه الجدرن أَصْلَبَ مِنَ الْيَافُوخِ لأَنَّ السَّقَطَاتِ وَالصَّدَمَاتِ عَلَيْهَا أَكْثَرُ وَيَخِفُّ الْقِحْفُ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِئَلا يَثْقُلَ عَلَى الدِّمَاغِ. وَالثَّانِي لِيَنْفُذَ مِنْهُ الْبُخَارُ. وَمِنَ الْعِظَامِ مَا هُوَ أَسَاسٌ لِلْبَدَنِ كَفِقَارِ الصُّلْبِ يُبْنَى عَلَيْهِ كَمَا يُبْنَى السَّقْفُ عَلَى الْخَشَبَةِ الأُولَى، وَمِنْهَا كَالْمِجَنِّ كَالْقِحْفِ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ لِلدِّمَاغِ مِنَ الآفَاتِ. وَخُلِقَ جَوْهَرُ الدِّمَاغِ بَارِدًا رَطْبًا لَيِنًّا دَسْمًا. فَأَمَّا بَرْدُهُ فَلأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَعْدِيلُ الْحَرَارَةِ الَّتِي تَنْفُذُ إِلَيْهِ مِنَ الْقَلْبِ. وَالثَّانِي: لِئَلا يَحْتَرِقَ لِكَثْرَةِ مَا يَتَأَدَّى إِلَيْهِ مِنْ حَرَكَاتِ الرُّوحِ فِي التَّخَيُّلِ وَالْفِكْرِ [وَالتَّفَكُّرِ وَالذِّكْرِ] . وَهَذِهِ الْقُوَى الثَّلاثُ مَسْكَنُهَا الدِّمَاغُ فَمَوْضِعُ التَّخَيُّلِ الْبَطْنَانِ الْمُقَدَّمَانِ مِنْ بُطُونِ الدِّمَاغِ، وَمَوْضِعُ الْفِكْرِ الْبَطْنُ الأَوْسَطُ، وَمَوْضِعُ الْحِفْظِ الْمُؤَخَّرُ مِنْ بُطُونِ الدِّمَاغِ. وَأَمَّا رُطُوبَتُهُ وَلِينُهُ فَلِئَلا تُجَفِّفَهُ الْحَرَكَاتُ، وَأَمَّا خَلْقُهُ دَسْمًا فَلِيَكُونَ مَا يَنْبُتُ فِيهِ مِنَ الْعَصَبِ لَيِّنًا. وَقَدْ جُلِّلَ الدِّمَاغُ بِغِشَائَيْنِ: أَحَدُهُمَا رَقِيقٌ يَلِيهِ وَالآخَرُ صَفِيقٌ يَلِي الْعَظْمَ. وَإِنَّمَا خُلِقَا لِيَكُونَا حَاجِزَيْنِ بَيْنَ الدِّمَاغِ وَالْعَظْمِ. وَأَمَّا الْعَيْنُ فَإِنَّمَا جُعِلَتَا اثْنَتَيْنِ لِيَتَكَوَّنَا إِذَا عَرَضَتْ لإِحْدَاهُمَا آفَةٌ قَامَتِ الأُخْرَى بِالْبَصَرِ. وَكُلُّ عَيْنٍ مُرَكَّبَةٌ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ وَهِيَ سَبْعُ طَبَقَاتٍ وَثَلاثُ رُطُوبَاتٍ، وَالطَّبَقَاتُ كَقُشُورِ الْبَصَلِ إِنْ أَصَابَتْ بَعْضَهَا آفَةٌ نَابَتِ الأُخْرَى. وَالرُّطُوبَاتُ يَقَعُ النَّظَرُ بِالْوُسْطَى وَهِيَ صَافِيَةٌ مُنِيرَةٌ وَالرُّطُوبَتَانِ مِنْ جَانِبَيْهَا، فَوَاحِدَةٌ مَوْضُوعَةٌ خَلْفَهَا تَقْرُبُ مِنْ طَبِيعَتِهَا تَتَنَاوَلُ الْغِذَاءَ أَوْ تُقَلِّبُهُ إِلَى طَبْعِهَا فَتَتَنَاوَلُ مِنْهُ الرُّطُوبَةُ الْمُبْصِرَةُ. وَالرُّطُوبَةُ الثَّانِيَةُ تُنَدِّي الْمُبْصِرَةَ لِئَلا تَجِفَّ. وَخُلِقَ

الْهُدْبُ لِيَدْفَعَ مَا يَطِيرُ إِلَى الْعَيْنِ وَلِيُعَدِّلَ الضَّوْءَ بِسَوَادِهِ. وَأَمَّا الأُذُنُ فَجُعِلَ لَهَا صَدَفٌ مُعَرَّجٌ لِيَجْمَعَ الصَّوْتَ. وَخُلِقَ الأَنْفُ لِيَنْحَصَرَ فِيهِ الْهَوَاءُ فَيَعْتَدِلُ فِي حُلُولِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْفُذَ إِلَى الدِّمَاغِ وَالرِّئَةِ، ثُمَّ هُوَ سِتْرٌ لِلْفَضَلاتِ الْمُنْحَدِرَةِ. وَاللِّسَانُ آلَةٌ لِتَقْلِيبِ الْمَمْضُوغِ وَتَقْطِيعِ الصَّوْتِ فِي إِخْرَاجِ الْحُرُوفِ وَإِلَيْهِ تَمْيِيزُ الذَّوْقِ. وَالشَّفَتَانِ غطاء للفم والأسنان ومحبسا للعاب ومعينا على الكلام وجمالا. وَاللَّهَاةُ: جَوْهَرٌ لَحْمِيٌّ مُعَلَّقٌ عَلَى أَعْلَى الْحَنْجَرَةِ وَمَنْفَعَتُهُ تَدْرِيجُ الْهَوَاءِ لِئَلا يَقْرَعَ بِبَرْدِهِ الرِّئَةَ فَجْأَةً. وَلِيَمْنَعَ الدُّخَانَ وَالْغُبَارَ كَأَنَّهُ بَابٌ مُوصَدٌ عَلَى مَخْرَجِ الصَّوْتِ بِقَدَرِهِ. وَالأَسْنَانُ اثْنَانِ وَثَلاثُونَ سِنًّا، فَمِنْهَا ثَنِيَّتَانِ مِنْ فَوْقُ وَثَنِيَّتَانِ مِنْ تَحْتُ وَرَبَاعِيَتَانِ مِنْ فَوْقُ وَرَبَاعِيَتَانِ مِنْ تَحْتُ، وَنَابَانِ مِنْ فَوْقُ وَنَابَانِ مِنْ تَحْتُ، ثُمَّ الأَضْرَاسُ وَهِيَ عِشْرُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْفَمِ خَمْسَةٌ، فَمِنْهَا الضَّوَاحِكُ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَضْرَاسٍ تَلِي الأَنْيَابَ إِلَى جَنْبِ كُلِّ نَابٍ مِنْ أَسْفَلِ الْفَمِ وَأَعْلاهُ ضَاحِكٌ، ثُمَّ بَعْدَ الضَّوَاحِكِ الطَّوَاحِنُ وَيُقَالُ لَهَا الأَرْحَاءُ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ طَاحِنًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْفَمِ وَاحِدٌ مِنْ فَوْقُ وَوَاحِدٌ مِنْ أَسْفَلَ، فَالأَنْيَابُ لِلْكَسْرِ وَالرَّبَاعِيَاتُ لِلْقَطْعِ وَالأَضْرَاسُ لِلطَّحْنِ. وَخَرَزُ الْعُنُقِ سَبْعٌ وَفِقَارُ الصَّدْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ فِقْرَةً وَالصَّدْرُ مُؤَلَّفٌ مِنْ سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَالسَّاعِدُ مُؤَلَّفٌ مِنْ عَظْمَيْنِ مُتَلاصِقَيْنِ يُسَمَّيَانِ الزَّنْدَيْنِ وَالْفَوْقَانِيُّ الَّذِي يَلِي الإِبْهَامَ أَدَقُّ وَالسُّفْلانِيُّ أَغْلَظُ لأَنَّهُ حَامِلٌ. وَعِظَامُ الأَصَابِعِ غَيْرُ مُجَوَّفَةٍ لِتَكُونَ أَقْوَى عَلَى الثَّبَاتِ فِي الْحَرَكَةِ وَالْقَبْضِ، وَطَالَ بَعْضُهَا لِتَسْتَوِيَ عِنْدَ الْقَبْضِ. وَالظُّفْرُ سَنَدٌ لِلأُنْمُلَةِ وَآلَةٌ لِلْحَكِّ وَالتَّنْقِيَةِ. وَالصُّلْبُ مَسْلَكُ النِّخَاعِ، وَالْمَعِدَةُ تَهْضِمُ بِحَرَارَةٍ فِي لَحْمِهَا وَبِحَرَارَةٍ أُخْرَى مُكْتَسَبَةٍ مِنَ الأَجْسَامِ الْمُجَاوِرَةِ، وَالطِّحَالُ مُنْفَرِشٌ تَحْتَهَا مِنَ الْيَسَارِ وَهُوَ وِعَاءٌ لِبَعْضِ فَضَلاتِهَا. وَلِلْكَبِدِ عِرْقَانِ أَحَدُهَما يَجْذِبُ إِلَيْهَا الطَّعَامَ فَيَطْبُخُهُ وَيُوَجِّهُهُ فِي

الْعِرْقِ الآخَرِ إِلَى الْبَدَنِ وَيَبْعَثُ الْمَاءَ مِنْهُ إِلَى الْكُلْيَتَيْنِ وَالرَّغْوَةَ الصَّفْرَاوِيَّةَ إِلَى الْمَرَارَةِ وَالرُّسُوبَ السَّوْدَاوِيَّ إِلَى الطِّحَالِ. وَالْقَلْبُ مَخْلُوقٌ مِنْ لَحْمٍ قَوِيٍّ لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنَ الآفَاتِ، وَقَدْ أُمِيلَ يَسِيرًا إِلَى الْيَسَارِ لِيَبْعُدَ عَنِ الْكَبِدِ، وَلَهُ زائدتان كالأذنين فهما كخزانتين يقبلان النَّسِيمَ وَيُرْسِلانِهِ إِلَى الْقَلْبِ بِقَدَرٍ. وَالْمَرَارَةُ كِيسٌ مُعَلَّقٌ مِنَ الْكَبِدِ إِلَى نَاحِيَةِ الْمَعِدَةِ تَجْذِبُ الْخَلْطَ الْغَلِيظَ وَالْمِرَارَ الأَصْفَرَ فَيُنَقِّي الْكَبِدَ عَنِ الْفُضُولِ وَيُسْخِنُهَا، وَلَوْلا أَنَّ الْمَرَارَةَ تَجْذِبُ الْمِرَّةَ الصَّفْرَاءَ لَسَرَتْ إِلَى الْبَدَنِ مَعَ الدَّمِ فَتَوَلَّدَ مِنْهَا الْيَرَقَانُ الأَصْفَرُ فَهِيَ تَجْذِبُهُ وَتَقْذِفُ مِنْهُ جُزْءًا إِلَى الْمِعَى فَيَغْسِلُ مَا فِيهَا مِنَ الأَثْقَالِ بِلَذْعِهِ وَتَحْرِيكِهِ لَهَا، وَجُزْءًا إِلَى الْمَعِدَةِ لِيُعِينَهَا بِحَرَارَتِهِ عَلَى الْهَضْمِ. وَجَمِيعُ عِظَامِ الْبَدَنِ بِعَدَدِ أَيَّامِ السَّنَةِ يَظْهَرُ مِنْهَا لِلْحِسِّ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ وَالْبَاقِيَةُ صِغَارٌ تُسَمَّى السِّمْسِمَانِيَّةَ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلاثِ مِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَهَلَّلَ اللَّهَ وَسَبَّحَ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا، أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عدد تلك الستين والثلاثمائة، فَإِنَّهُ يَمْشِي حِينَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النار ". وعضل البدن خمسمائة وَتِسْعٌ وَعِشْرُونَ عَضَلَةً. وَالْمَرَارَةُ بَيْتُ الصَّفْرَاءِ وَالرِّئَةُ بَيْتُ الْبَلْغَمِ وَالطِّحَالُ بَيْتُ السَّوْدَاءِ وَالْمَثَانَةُ بَيْتُ الْبُرُودَةِ وَالْكُلَى بَيْتُ الشَّهْوَةِ وَالْقَلْبُ بَيْتُ النَّفْسِ. وَفِي بَعْضِ هَذَا مَا يُحَرِّكُ الْفِكْرَ فَيُوجِبُ الْعِلْمَ بِعَظَمَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ فَيَحُثُّ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي مَرْكَبٍ فَهَاجَ الْبَحْرُ فَأَخْرَجَ كِتَابَ التَّشْرِيحِ

الكلام على البسملة

وَنَشَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ كَالْمُسْتَشْفِعِ بِهِ، فَأَنْكَرَ قَوْمٌ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَأَنْ يَقُولُ: يَا مَنْ هَذَا مِنْ آثَارِ حِكْمَتِهِ وَصَنْعَتِهِ اكْشِفْ عَنَّا! الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (لا تَرْقُدَنَّ لِعَيْنِكَ السَّهَرُ ... وَانْظُرْ إِلَى مَا تَصْنَعُ الْغِيَرُ) (انْظُرْ إِلَى عِبَرٍ مُصَرَّفَةٍ ... مَا دَامَ يُمْكِنُ طَرْفُكَ النَّظَرُ) (مَا زِلْتَ تَسْمَعُ أَوْ تَرَى عِبَرًا ... إِنْ لَمْ يَخُنْكَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ) (فَإِذَا جَهِلْتَ وَلَمْ تَجِدْ أَحَدًا ... فَسَلِ الزَّمَانَ فَعِنْدَهُ الْخَبَرُ) (وَإِذَا نَظَرْتَ تُرِيدُ مُعْتَبَرًا ... فَانْظُرْ إِلَيْكَ فَفِيكَ مُعْتَبَرُ) (أَنْتَ الَّذِي تُمْسِي وَتُصْبِحُ فِي ... الدُّنْيَا وَكُلُّ أُمُورِهِ غَرَرُ) (أَنْتَ الْمُصَرَّفُ كَانَ فِي صِغَرٍ ... ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِشَخْصِهِ الْكِبَرُ) (أَنْتَ الَّذِي تَنْعَاهُ خِلْقَتُهُ ... يَنْعَاهُ مِنْهُ الشَّعْرُ وَالْبَشَرُ) (أَنْتَ الَّذِي تُعْطَى وَتُسْلَبُ لا ... يُنْجِيهِ مِنْ أَنْ يُسْلَبَ الْحَذَرُ) (أَنْتَ الَّذِي لا شَيْءَ مِنْهُ له ... وأحق منك بملك الْقَدَرُ) (وَالْحَادِثَاتُ صُرُوفُهَا عَجَبٌ ... وَالْعَيْشُ فِيهِ الصَّفْوُ وَالْكَدَرُ) (يَبْغِي بَنُو الدُّنْيَا عِمَارَتَهَا ... وَلْيَخْرُبَنَّ جَمِيعُ مَا عَمَرُوا) (عَجَبًا مِنَ الدُّنْيَا وَمِنْ عِبَرِ الدُّنْيَا ... وَكَيْفَ تُصَرِّفُ الْغِيَرُ) (مَا زِلْتَ مُذْ صُوِّرْتَ فِي سَفَرٍ ... وَسَتَنْقَضِي وَسَيَنْقَضِي السَّفَرُ) (يَا مَنْ يُؤَمِّلُ أَنْتَ مُنْتَظِرٌ ... أَمَلا يَطُولُ وَلَسْتَ تُنْتَظَرُ) (مَاذَا تَقُولُ وَأَنْتَ فِي غُصَصٍ ... مَاذَا تَقُولُ وَأَنْتَ مُحْتَضَرُ) (مَاذَا تَقُولُ وَقَدْ وُضِعْتَ عَلَى ... ظَهْرِ السَّرِيرِ وَأَنْتَ تُبْتَدَرُ) (مَاذَا تَقُولُ وَأَنْتَ فِي جَدَثٍ ... مَاذَا تَقُولُ وَفَوْقَكَ الْمَدَرُ) ( ... مَاذَا تَقُولُ وَقَدْ لَحِقْتَ بِمَا ... يَجْرِي عَلَيْهِ الرِّيحُ وَالْمَطَرُ) (نَبْغِي الْبَقَاءَ وَلا بَقَاءَ لَنَا ... تَتَعَاوَرُ الرَّوْحَاتُ وَالْبُكَرُ) (كَمْ قَدْ عَفَتْ عَيْنٌ لَهَا أَثَرٌ ... دَرَسَتْ وَيَدْرُسُ بَعْدَهَا الأَثَرُ) الدُّنْيَا مَعْبَرٌ فَاقْنَعْ بِالْيَسِيرِ، وَلْيَكُنْ هَمُّكَ فِي الرَّحِيلِ وَالْمَسِيرِ، كَمْ مِنْ جَامِعٍ لَهَا

فرقته ومن محب لها أهلكته ومزقته، من قَنَعَ بِالْبُلْغَةِ فِيهَا سَلِمَ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْهَا أَسِفَ وَنَدِمَ. (عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَاقْنَعْ بِرِزْقِهِ ... فَخَيْرُ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ هُوَ قَانِعُ) (وَلا تَهْلِكِ الدُّنْيَا وَلا طَمَعٌ لَهَا ... فَقَدْ يُهْلِكُ الْمَغْرُورَ فِيهَا الْمَطَامِعُ) (صَبْرًا عَلَى نَوَبَاتِ مَا نَابَ وَاعْتَرِفْ ... فَمَا يَسْتَوِي حُرٌّ صَبُورٌ وَجَازِعُ) (أَعَاذِلٌ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ بِالنَّفْسِ مِنْهُ الأَضَالِعُ) مَرَّ أَبُو حَازِمٍ رحمه الله بِجَزَّارٍ فَقَالَ: يَا أَبَا حَازِمٍ خُذْ مِنْ هَذَا اللَّحْمِ. فَقَالَ: لَيْسَ مَعِي دِرْهَمٌ. فَقَالَ: أَنَا أُنْظِرُكَ. فَقَالَ: أَنَا أُنْظِرُ نَفْسِي. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يَكْفِيكَ مِنَ الدُّنْيَا مَا قَنَعْتَ بِهِ. كَانَ ابْنُ السَّمَّاكِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: (إِنِّي أَرَى مَنْ لَهُ قُنُوعٌ ... يَعْدِلُ مَنْ نَالَ مَا تَمَنَّى) (وَالرِّزْقُ يَأْتِي بِلا عَنَاءٍ ... وَرُبَّمَا فَاتَ مَنْ تَعَنَّى) كَانَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ يَعِظُ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ وَيَقُولُ لَهُ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَأْتِي الْمُلُوكَ وَتَحْمِلُ عِلْمَكَ إِلَيْهِمْ؟ يَا عَطَاءُ ارْضَ بِالدُّونِ مِنَ الدُّنْيَا مَعَ الْحِكْمَةِ وَلا تَرْضَ بِالدُّونِ مِنَ الْحِكْمَةِ مَعَ الدُّنْيَا، وَيْحَكَ يَا عَطَاءُ إِنْ كَانَ يُغْنِيكَ مَا يَكْفِيكَ فَإِنَّ أَدْنَى مَا فِي الدُّنْيَا يَكْفِيكَ، وَإِنْ كَانَ لا يُغْنِيكَ مَا يَكْفِيكَ فَلَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ يَكْفِيكَ. (نَصِفُ الْقَنُوعَ وَأَيُّنَا يَقْنَعُ ... أَوْ أَيُّنَا يَرْضَى بِمَا يَجْمَعُ) (للَّهِ دَرُّ ذَوِي الْقَنَاعَةِ مَا ... أَصْفَى مَعَاشَهَمْ وَمَا أَوْسَعُ) (مَنْ كَانَ يَبْغِي أَنْ يَلَذَّ وَأَنْ ... تُهْدَى جَوَارِحُهُ فَمَا يَطْمَعُ) (فَقْرُ النُّفُوسِ بِقَدْرِ حَاجَتِهَا ... وَغِنَى النُّفُوسِ بِقَدْرِ مَا تَقْنَعُ) عَرِيَ أُوَيْسٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَتَّى جَلَسَ فِي قَوْصَرَةٍ. وَقَدِمَ بِشْرٌ الْحَافِي مِنْ عَبَّادَانَ لَيْلا وَهُوَ مُتَّزِرٌ بِحَصِيرٍ. وَكَانَ أَبُو مُعَاوِيَةَ الأَسْوَدُ يَلْتَقِطُ الْخِرَقَ مِنَ

الْمَزَابِلِ وَيَغْسِلُهَا وَيَلْفُقُهَا فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ تَكْسِي خَيْرًا مِنْ هَذَا فَيَقُولُ: مَا ضَرَّهُمْ مَا أَصَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا جَبَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِالْجَنَّةِ كُلَّ مُصِيبَةٍ. وَأُتِيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ بِسِتِّينَ أَلْفًا فَرَدَّهَا وَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ أَمْحُوَ اسْمِيَ مِنْ دِيوَانِ الْفُقَرَاءِ. (رَأَتْ عُدَّتِي فَاسْتَرَاثَتْ رَحِيلِي ... سَبِيلُكَ أَنْ سِوَاهَا سَبِيلِي) (تُرَجِّي قُفُولِي لها في الثوب ... لَعَلَّ الْمَنِيَّةَ قَبْلَ الْقُفُولِ) (لَقَدْ قَذَفَتْ بِي صَعْبُ الْمَرَامِ ... وَاسْتَجْمَلَتْ لِي غَيْرَ الْجَمِيلِ) (سَأَقْنِي الْعَفَافَ وَأَرْضَى الْكَفَافَ ... وَلَيْسَ غِنَى النَّفْسِ جَوْرَ الْخَلِيلِ) (وَلا أَتَصَدَّى لِمَدْحِ الْجَوَادِ ... وَلا أَسْتَعِدُّ لِمَدْحِ الْبَخِيلِ) (وَأَعْلَمُ أَنَّ ثِيَابَ الرَّجَاءِ ... تُحِلُّ الْعَزِيزَ مَحَلَّ الذَّلِيلِ) (وَأَنْ لَيْسَ مُسْتَغْنِيًا بِالْكَثِيرِ ... مَنْ لَيْسَ مُسْتَغْنِيًا بِالْقَلِيلِ) كَتَبَ حَكِيمٌ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ فَاجْعَلِ الْقُنُوعَ ذُخْرًا وَلا تَعْجَلْ عَلَى ثَمَرَةِ لَمْ تُدْرَكْ، فَإِنَّكَ تُدْرِكُهَا فِي أَوَانِهَا عَذْبَةً، وَالْمُدَبِّرُ لَكَ أَعْلَمُ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَصْلُحُ لِمَا تُؤَمِّلُ فَثِقْ بِخِيرَتِهِ لَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْفَقِيهُ بِسَنَدِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ أُذَيْنَةَ قَالَ: لَمَّا أَتَى أَبِي وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَنْشَدُوهُ فَلَمَّا عَرَفَ أَبِي قَالَ: أَلَسْتَ الْقَائِلَ: (لَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا الإِسْرَافُ مِنْ خُلُقِي ... أَنَّ الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي) (أَسْعَى لَهُ فَيَعْنِينِي تَطَلُّبُهُ ... وَلَوْ قَعَدْتُ أَتَانِي لا يُعَنِّينِي) فَهَلا جَلَسْتَ فِي بَيْتِكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ؟ فَسَكَتَ أَبِي وَلَمْ يُجِبْهُ فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ جَلَسَ أَبِي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ وَأَمَرَ هِشَامٌ بِجَوَائِزِهِمْ فَقَعَدَ أَبِي فَسَأَلَ عَنْهُ فَلَمَّا خُبِّرَ بِانْصِرَافِهِ قَالَ: لا جَرَمَ وَاللَّهِ لَيَعْلَمَنَّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَأْتِيهِ. ثُمَّ أَضْعَفَ لَهُ مَا أَعْطَى وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَتَبَ لَهُ فَرِيضَتَيْنِ.

الكلام على قوله تعالى

(إِذَا ضَنَّ مَنْ تَرْجُو عَلَيْكَ بِنَفْعِهِ ... فَدَعْهُ فَإِنَّ الرِّزْقَ فِي الأَرْضِ وَاسِعُ) (وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا مُنَاهُ وَهَمَّهُ ... سَبَاهُ الْمُنَى وَاسْتَعْبَدَتْهُ الْمَطَامِعُ) (وَمَنْ عَقَلَ اسْتَحْيَى وَأَكْرَمَ نَفْسَهُ ... وَمَنْ قَنَعَ اسْتَغْنَى فَهَلْ أَنْتَ قَانِعُ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تعالى {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} يَا مَنْ هُوَ عَلَى مَحَبَّةِ الدُّنْيَا مُتَهَالِكٌ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ هَالِكٌ، أَمَا تَيَقَّنْتَ أَنَّ الدُّنْيَا مَحْبُوبٌ تَارِكٌ، ثُمَّ لَسْتَ لَهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا بِتَارِكٍ، قَدِّرْ أَنَّكَ مَلَكْتَ الْمَمَالِكَ، أَمَا الأَخِيرُ سَلَبَكَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، هَذَا حُسَامُ الْمَوْتِ مَسْلُولٌ، لَيْسَ بِكَالٍّ وَلا مَفْلُولٍ، وَكُلُّ دَمٍ أَرَاقَهُ مَطْلُولٌ، أَذَلَّ وَاللَّهِ أَصْعَبَ الْحَمْسِ وَفَتَكَ قَبْرًا بِالأَسْوَدِ الشَّمْسِ، وَفَلَّ السَّيْفَ وَلَمْ يَفِلَّ بِالتُّرْسِ، وَسَاوَى فِي الْقَبْرِ بَيْنَ الزِّنْجِ وَالْفُرْسِ، وَأَعَادَ الْفُصَحَاءَ تَحْتَ الْبَلاءِ كَالْخُرْسِ، وَمَحَا بِالتَّرَحِ أَثَرَ الْفَرَحِ بِالْعُرْسِ: (يَغْدُو ابْنَ آدَمَ لِلْمَعَاشِ فَيَلْقَاهُ ... الْحِمَامُ بِأَضْيَقِ الطُّرُقِ) (لا يَبْهُجَنَّ بِمُلْكِهِ مَلِكٌ ... فَالْبَدْرُ غَايَتُهُ إِلَى الْمَحْقِ) أَيْنَ الْوَالِدُونَ وَمَا وَلَدُوا، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ وَأَيْنَ مَا قَصَدُوا، أَيْنَ أَرْبَابُ الْمَعَاصِي عَلَى مَاذَا وَرَدُوا، أَمَا جَنَوْا ثَمَرَاتِ مَا جَنَوْا وَحَصَدُوا، أَمَا قَدِمُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ فِي مَآلِهِمْ وَوَفَدُوا، أَمَا خَلَوْا فِي ظُلُمَاتِ الْقُبُورِ؟ بَكَوْا وَاللَّهِ وَانْفَرَدُوا، أَمَا ذَلُّوا وَقَلُّوا بَعْدَ أَنْ عَتَوْا وَمَرَدُوا، أَمَا طَلَبُوا زَادًا يَكْفِي فِي طَرِيقِهِمْ فَفَقَدُوا، أَمَا حَلَّ الْمَوْتُ فَحَلَّ عَقْدُ مَا عَقَدُوا، عَايَنُوا وَاللَّهِ كُلَّ مَا قَدَّمُوا وَوَجَدُوا، فَمِنْهُمْ أَقْوَامٌ شَقُوا وَأَقْوَامٌ سَعِدُوا: (لا وَالِدٌ خَالِدٌ وَلا وَلَدُ ... كُلُّ جَلِيدٍ يَخُونُهُ الْجَلَدُ) (كَأَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ لَمْ يَسْكُنُوا الدور ... ولم يحي مِنْهُمْ أَحَدُ) (وَلَمْ يَكُونُوا إِلا كَهَيْئَتِهِمْ ... لَمْ يُولَدُوا قَبْلَهَا وَلَمْ يَلِدُوا) ( [يَا مَنْ نَعَى مَنْ مَضَى كَذَاكَ غَدًا ... تُنْعَى، فَبَادِرْ فَقَدْ أتاك غد] )

(يا ناسي الموت وهو يذكره ... مالك بِالْمَوْتِ إِذْ أَتَاكُ يَدُ) (دَارُكَ دَارٌ يَمُوتُ سَاكِنُهَا ... دَارُكَ يُبْلِي جَدِيدَهَا الأَبَدُ) (تَبْكِي عَلَى مَنْ مَضَى وَأَنْتَ غَدًا ... يُورِدُكَ الْمَوْتُ فِي الَّذِي وَرَدُوا) (لَوْ كُنْتَ تَدْرِي مَاذَا يُرِيدُ بِكَ ... الْمَوْتُ لأَبْكَى جُفُونَكَ السُّهُدُ) أَيْنَ الَّذِي ملكوا ونالوا؟ زالوا، وستئول إِلَى مَا إِلَيْهِ آلُوا، هَذَا مَصِيرُنَا يَا مَعَاشِرَ الْغَافِلِينَ، وَاللُّحُودُ بُيُوتُنَا بَعْدَ التَّرَفِ وَاللِّينِ، وَالْقِيَامَةُ تَجْمَعُنَا وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، وَالأَهْوَالُ عَظِيمَةٌ فَأَيْنَ المتفكر الحزين {إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين} . يَا رَهِينَ الآفَاتِ وَالْمَصَائِبِ، يَا أَسِيرَ الطَّارِقَاتِ النَّوَائِبِ، إِيَّاكَ وَإِيَّا الآمَالَ الْكَوَاذِبَ، فَالدُّنْيَا دَارٌ وَلَكِنْ لَيْسَتْ بِصَاحِبٍ، أَمَا أَرَتْكَ فِي فِعْلِهَا الْعَجَائِبَ فِيمَنْ مَشَى فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، ثُمَّ أَرَتْكَ فِيكَ شَيْبَ الذَّوَائِبِ، إِنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ لَصَوَائِبُ، لا يَرُدُّهَا مُحَارِبٌ وَلا يَفُوتُهَا هَارِبٌ، تَدُبُّ إِلَيْنَا دَبِيبَ الْعَقَارِبِ، بَيْنَا نَسْمَعُ صَوْتَ مِزْهَرٍ صَارَ صَوْتَ نَادِبٍ، يَا أَسِيرَ حُبِّ الدُّنْيَا إِنْ قَتَلَتْكَ مَنْ تُطَالِبُ، كَأَنَّكَ بِكَ قَدْ بِتَّ فَرِحًا مَسْرُورًا فَأَصْبَحْتَ تَرِحًا مَثْبُورًا، وَتُرِكَ مَالُكَ لِغَيْرِكَ مَوْفُورًا، وَخَرَجَ مِنْ يَدِكَ فَصَارَ لِلْكُلِّ شُورَى، وَعَايَنْتَ مَا فَعَلْتَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وَعَلِمْتَ أَنَّكَ كُنْتَ فِي الْهَوَى مَغْرُورًا، وَاسْتَحَالَتْ صَبَا الصِّبَا فَعَادَتْ دَبُورًا، وَأُسْكِنْتَ لَحْدًا تَصِيرُ فِيهِ مَأْسُورًا، وَنَزَلْتَ جَدَثًا خَرِبًا إِذْ تَرَكْتَ قَصْرًا مَعْمُورًا، وَدَخَلْتَ فِي خَبَرِ كان {وكان أمر الله قدرا مقدورا} . (وَمَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ ... فَيَحْزَنَ فِيهَا الْقَاطِنُ الْمُتَرَحِّلُ) (هِيَ الدَّارُ إِلا أَنَّهَا كَمَفَازَةٍ ... أَنَاخَ بِهَا رَكْبٌ وَرَكْبٌ تَحَمَّلُوا) (وَإِنَّا لَمِنْ مَرِّ الْجَدِيدَيْنِ فِي الْوَغَى ... إِذَا مَرَّ مِنْهَا جَحْفَلٌ كَرَّ جَحْفَلُ) (تُجَرِّدَ نَصْلا وَالْخَلائِقُ مَفْصِلٌ ... وَتُنْبِضُ سَهْمًا وَالْبَرِيَّةُ مَقْتَلُ)

(وَمَا خَلْفَنَا مِنْهَا مَفَرٌّ لِهَارِبٍ ... فَكَيْفَ لِمَنْ رَامَ النَّجَاةَ التَّخَيُّلُ) (وَكُلٌّ وَإِنْ طَالَ الثَّوَاءُ مَصِيرُهُ ... إِلَى مَوْرِدٍ مَا عَنْهُ لِلْخَلْقِ مَعْدِلُ) الموت مسرع مجد غير لابث، وَالأَمْوَالُ عَنْ قَلِيلٍ تَمْضِي لِلْوَارِثِ، وَكَأَنَّكَ بِوُقُوعِ الْحَادِثَاتِ وَحَصَادِ الْحَارِثِ، يَا طَوِيلَ الأَمَلِ هَلْ قلبك لا بث، لا تَسْمَعَنَّ الْمَحَالَّ فَلَسْتَ بِمَاكِثٍ، يَا مُطَالِبًا بِالْجِدِّ وَهُوَ لاعِبٌ عَابِثٌ، يَا مُعَاهِدًا بِاللِّسَانِ وَالْعَزْمُ نَاكِثٌ، يَا مَنْ أَعْمَالُهُ إِذَا فُتِّشَتْ خَبَائِثُ، صَرَّحَ الشَّيْبُ وَطَالَ مَا مَجْمَجَ وَوَضَحَ فَجْرُهُ وَمَا كَانَ قَدْ تَبَلَّجَ، أَوْضَحَ طَرِيقَ الْحَذَرِ وَبَيْنَ الْمَنْهَجِ، أَيْنَ الشَّبَابُ؟ رَحَلَ مُسْرِعًا وَهَمْلَجَ، إِنَّ نَارَ الْفِرَاقِ فِي الْقَلْبِ تَتَأَجَّجَ، إِنَّ فُؤَادَ الْمُتَفَكِّرِ يَكَادُ أَنْ يَنْضَجُ، هَذِهِ خُيُولُ الرَّحِيلِ قَدْ أُقِيمَتْ تُسْرَجُ، وَالشُّكُوكُ قَدْ أُزِيلَتْ وَالْحَقُّ أَبْلَجُ، هَذَا وَأَنْتَ بِالْمَعَاصِي مُغْرًى وَتَلْهَجُ، لَكَ كَأْسٌ مِنَ الْمَنُونِ صَرْفٌ لا يُمْزَجُ، يَا مَنْ هُوَ فِي الْكَفَنِ عَنْ قَلِيلٍ مُدْرَجٌ، يَا لابِسًا حُلَّةً مِنَ الْبَلاءِ لَمْ تُنْسَجْ، يَا مَنْ بِضَاعَتُهُ إِذَا نُقِدَتْ كُلُّهَا بَهْرَجٌ، يَا سَالِكًا طَرِيقُ الْهَوَى عَوْسَجٌ، كَيْفَ الطَّمَعُ فِي الْمُرْتَجَى وَالْبَابُ مُرْتَجٌّ، يَا مَنْ ضَيَّقَتِ الذُّنُوبُ خِنَاقَهُ أَيْنَ الْمَخْرَجُ، يَا عَظِيمَ فَقْرِكَ فِي الْقَبْرِ مَنْ مِنْكَ أَحْوَجُ، مَا هَذَا الْغُرُورُ أَيُّ مُطْمَئِنٍّ لَمْ يُزْعَجْ: (أَخْلَقَ الدَّهْرُ الشَّبَابَ الْحَسَنَا ... مَا أَظُنُّ الْوَقْتَ إِلا قَدْ دَنَا) (قَدْ قَطَعْنَا فِي التَّصَابِي بُرْهَةً ... وَجَرَرْنَا فِي الذُّنُوبِ الرَّسَنَا) (وَرَكِبْنَا غَيَّنَا جَهْلا بِهِ ... فَوَجَدْنَاهُ عَلَيْنَا لا لَنَا) (وَشَرَيْنَا الدُّونَ بِالدَّيْنِ فَمَا ... عُذْرُ مَنْ قَدْ بَاعَ بَيْعًا غَبَنَا) لَقَدْ بَانَ السَّبِيلُ وَلاحَ الْمَنْهَجُ، فَمَا لِلْقَلْبِ عَنِ الْهُدَى قَدْ عَرَجَ، أَمَا يُزْعِجُكَ التَّرْهِيبُ؟ أَمَا يُشَوِّقُكَ التَّرْغِيبُ؟ إِلامَ تَرُوغُ عَنِ النُّصْحِ رَوَغَانَ الذِّيبِ، وَتَلَفَّتُ إِلَى أَحَادِيثِ الْمُنَى الأَكَاذِيبِ قِفْ عَلَى بَابِ {وَإِنْ كُنَّا لخاطئين} لتسمع: {ولا تثريب} ، مِنَ التَّوْفِيقِ رَفْضُ التَّوَانِي، وَمِنَ الْخُذْلانِ مُسَامَرَةُ الأماني.

إِخْوَانِي: نَذِيرُكُمْ قَدْ صَدَقَ، وَالْمُجْتَهِدُ قَدْ سَبَقَ، وَقَدْ مَضَى نَهَارُ الْعُمُرِ وَبَقِيَ الشَّفَقُ، وَآخِرُ جَرْعَةِ اللَّذَّةِ شَرَقٌ، وَصَاحِبُ الدُّنْيَا مِنْهَا عَلَى فَرَقٍ. رُبَّ غُصْنٍ نَاضِرٍ كُسِرَ إِذَا سَبَقَ، رُبَّ زَرْعٍ قَامَتْ سُوقُهُ رَمَاهُ الْغَرَقُ. أَيْنَ الرَّقِيقُ سَاقَهُ سَوَّاقٌ مَا رَفَقَ، هَذَا وَكُلُّكُمْ يَدْرِي أَيْنَ انْطَلَقَ، أَمَا رَأَيْتُمْ مَضْجَعَهُ فِي الْقَبْرِ بِالْحِدَقِ، وَاعَجَبًا لِقَلْبِ الْمُتَفَكِّرِ كَيْفَ مَا احْتَرَقَ، أَمَا شَاهَدْتُمُوهُ وَقَدْ تَقَطَّعَتْ مِنْهُ الْعِلَقُ، وَتَقَمَّصَ بَعْدَ عُرْيِهِ جِلْبَابَ الْخَوْفِ وَالْفَرَقِ، وَخَرَسَ لِسَانُهُ وَقَدْ طَالَ مَا نَطَقَ: (فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... إِلا حَنُوطًا غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ) (وَغَيْرَ نَفْخَةِ أَعْوَادٍ يُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ) أَيُّهَا الْمُتَيَقِّظُونَ وهم نائمون، أتبنون مالا تَسْكُنُونَ وَتَجْمَعُونَ مَا لا تَأْكُلُونَ، كُونُوا كَيْفَ شِئْتُمْ فَسَتُنْقَلُونَ {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} : يَا مُقِيمِينَ سَتَرْحَلُونَ، يَا مُسْتَقِرِّينَ مَا تُتْرَكُونَ، يَا غَافِلِينَ عَنِ الرَّحِيلِ سَتَظْعَنُونَ، أَرَاكُمْ مُتَوَطِّنِينَ تَأْمَنُونَ الْمَنُونَ {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} . طُولَ نَهَارِكُمْ تَلْعَبُونَ وَطُولَ لَيْلِكُمْ تَرْقُدُونَ، وَالْفَرَائِضُ مَا تُؤَدُّونَ، وَقَدْ رَضِيتُمْ عَنِ الْغَالِي بِالدُّونِ، لا تَفْعَلُوا مَا تَفْعَلُونَ {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لميتون} أَمَّا الأَمْوَالَ فَتَجْمَعُونَ وَالْحَقَّ فِيهَا مَا تُخْرِجُونَ، وَأَمَّا الصَّلاةَ فَتُضَيِّعُونَ وَإِذَا صَلَّيْتُمْ تَنْقُرُونَ. أَتُرَى هَذَا إِلَى كَمْ يَكُونُ {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لميتون} أَيْنَ الْعُتَاةُ الْمُتَجَبِّرُونَ، أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ الْمُتَسَلِّطُونَ، أَيْنَ أَهْلَ الْخُيَلاءِ الْمُتَكَبِّرُونَ، قَدِّرُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ كَهُمْ أَمَا تَسْمَعُونَ، {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} مَا نَفَعَتْهُمُ الْحُصُونُ وَلا رَدَّ الْمَالُ الْمَصُونُ، هَبَّتْ زَعْزَعُ الْمَوْتِ فَكَسَرَتِ الْغُصُونَ، قَدِّرُوا أَنَّكُمْ تَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ وَلا تَنْقُصُونَ {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لميتون} تَقَلَّبُوا مِنَ اللَّذَّاتِ فِي فُنُونٍ، وَأَخْرَجَهُمُ الْبَطَرُ إِلَى الْجُنُونِ، فَأَتَاهُمْ مَا هُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ {كم تركوا من جنات وعيون، ثم إنكم بعد ذلك لميتون} . لَوْ حَصَلَ لَكُمْ كُلُّ مَا تُحِبُّونَ وَنَمَا جَمِيعُ مَا تُؤْتُونَ، وَنِلْتُمْ مِنَ الأَمَانِي مَا

تَشْتَهُونَ، أَيَنْفَعُكُمْ حِينَ تَرْحَلُونَ؟ {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لميتون} . إِلَى مَتَى وَحَتَّى مَتَى تُنْصَحُونَ وَأَنْتُمْ تَكْسِبُونَ الْخَطَايَا وَتَجْتَرِحُونَ، أَأَمِنْتُمْ وَأَنْتُمْ تَسْرَحُونَ ذِئْبَ هَلاكٍ فَلا تَبْرَحُونَ {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} . لا تَفْرَحُوا بِمَا تَفْرَحُونَ فَإِنَّهُ لِغَيْرِكُمْ حِينَ تطرحون، وإياكم من يراكم مَنْ يَرَاكُمْ تَمْرَحُونَ، قَدْ خَسِرْتُمْ إِلَى الآنَ فَمَا تَرْبَحُونَ {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} . وَيَحْكُمُ الدُّنْيَا دَارُ ابْتِلاءٍ وَفُتُونٌ، وَقَدْ زَجَرَكُمْ عَنْهَا الْمُفْتُونَ، وَكَمْ رَأَيْتُمْ مِنْ هَالِكٍ بِهَا مَفْتُونٍ وَكَأَنَّكُمْ بِكُمْ قَدْ حُمِلْتُمْ عَلَى الْمُتُونِ، كَمْ أَدُلُّكُمْ عَلَى النَّظَافَةِ وَتَخْتَارُونَ الأُتُونَ.

المجلس الثاني في ذكر السموات وما فيهن

الْمَجْلِسُ الثَّانِي فِي ذِكْرِ السَّمَوَاتِ وَمَا فِيهِنَّ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ مُزَيَّنَةً بِزِينَةِ النُّجُومِ، وَمُثَبِّتِ الأَرْضِ بِجِبَالٍ فِي أَقَاصِي التُّخُومِ، عَالِمِ الأَشْيَاءِ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ وَإِنْ تَعَدَّدَ الْمَعْلُومُ، وَمُقَدِّرِ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَحْمُودِ وَالْمَذْمُومِ، لا يَنْفَعُ مَعَ مَنْعِهِ سَعْيٌ فَكَمْ مُجْتَهِدٍ مَحْرُومٍ، وَلا يَضُرُّ مَعَ إِعْطَائِهِ عَجْزٌ فَكَمْ عَاجِزٍ وَافِرِ الْمَقْسُومِ، اطَّلَعَ عَلَى بَوَاطِنِ الأَسْرَارِ وَعَلِمَ خَفَايَا الْمَكْتُومِ، وَسَمِعَ صَوْتَ الْمَرِيضِ الْمُدْنِفِ الْمَحْرُومِ، وَأَبْصَرَ وَقْعَ الْقَطْرِ فِي سَحَابٍ مَرْكُومٍ {وَمَا نُنَزِّلُهُ إلا بقدر معلوم} . جَلَّ أَنْ تُحِيطَ بِهِ الأَفْكَارُ أَوْ تَتَخَيَّلَهُ الْوُهُومُ، وَتَكَلَّمَ فَكَلامُهُ مَسْمُوعٌ مَقْرُوءٌ مَرْقُومٌ، وَقَضَى فَقَضَاؤُهُ إِذَا شَاءَ إِنْفَاذَهُ مَحْتُومٌ، وَبِتَقْدِيرِهِ مَعْصِيَةُ الْعَاصِي وَعِصْمَةُ الْمَعْصُومِ، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هو الحي القيوم} . قَضَى عَلَى الأَحْيَاءِ بِالْمَمَاتِ، فَإِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ فَاتَ الْمَقْصُودُ الْمُرَامُ وَعَزَّ الْمَطْلُوبُ الْمَرُومُ، وَنُقِلَ الآدَمِيُّ عَنْ جُمْلَةِ الْوُجُودِ إِلَى حَيِّزِ الْمَعْدُومِ وَبَقِيَ أَسِيرَ أَرْضِهِ إِلَى يَوْمِ عَرْضِهِ وَالْقُدُومِ، فَإِذَا حَضَرَ حِسَابُهُ نُشِرَ كِتَابُهُ الْمَخْتُومُ وَجُوزِيَ عَلَى مَا حَوَاهُ الْمَكْتُوبُ وَجَمْعُهُ الْمَرْقُومُ {وَعَنَتِ الوجوه للحي القيوم} . أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَتَّصِلُ وَيَدُومُ، وَأَشْهَدُ أَنَّهُ خَالِقُ الأَعْيَانِ وَالرُّسُومِ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلاةً تَبْلُغُهُ عَلَى الْمَرُومِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَلَى السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَعَلَى عُمَرَ الْمُنْتَصِفِ بَيْنَ الظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، وَعَلَى عُثْمَانَ الْمُتَهَجِّدِ إِذَا رقد

النؤوم، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي حَازَ الشَّرَفَ وَالْعُلُومَ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ سَيِّدِ الأَعْمَامِ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فروج} . خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَاءَ فَثَارَ مِنْهُ دخان فبنى منه السموات. قال قال أبو القاسم ابن أَبِي بُرَّةَ: السَّمَاءُ بَيْضَاءُ لَكِنْ مِنْ بَعْدِهَا تُرَى خَضْرَاءَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: السَّمَوَاتُ أَوَّلُهَا مَوْجٌ مَكْفُوفٌ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ صَخْرَةٍ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ حَدِيدٍ، وَالرَّابِعَةُ مِنْ صُفْرٍ أَوْ نُحَاسٍ، وَالْخَامِسَةُ مِنْ فِضَّةٍ، وَالسَّادِسَةُ مِنْ ذَهَبٍ، وَالسَّابِعَةُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ. وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: السَّمَاءُ عَلَى الأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ. وَقَالَ أَبُو الحسين ابن الْمُنَادِي: لا اخْتِلافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السَّمَاءَ عَلَى مِثْلِ الْكُرَةِ فَإِنَّهَا تَدُورُ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ كَدَوْرِ الْكُرَةِ عَلَى قُطْبَيْنِ ثَابِتَيْنِ غَيْرِ مُتَحَرِّكَيْنِ، أَحَدُهُمَا فِي نَاحِيَةِ الشَّمَالِ وَالآخَرُ فِي نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ. وَكُرَةُ الأَرْضِ مَبْنِيَّةٌ فِي وَسَطِ كُرَةِ السَّمَاءِ كَالنُّقْطَةِ مِنَ الدَّائِرَةِ. وَفِي حَدِيثِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؟ قَالُوا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة

ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة ". وكنف كل سماء خمسمائة سَنَةٍ، وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَكَذَلِكَ الأَرْضُونَ السَّبْعُ فِي كَثَافَتِهَا وَبُعْدُ مَا بَيْنَ الْوَاحِدَةِ وَالأُخْرَى فَذَلِكَ مَسِيرَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ أَلْفَ سَنَةٍ، سِوَى مَا تَحْتَ الأَرْضِ مِنَ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ وَمَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ مِنَ الْحُجُبِ وَالظُّلْمَةِ إِلَى الْعَرْشِ. وَهَذا عَلَى قَدْرِ مَسِيرِ الآدَمِيِّ الضَّعِيفِ فَأَمَّا الْمَلَكُ فَإِنَّهُ يَخْرِقُ ذَلِكَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَفِي حَديِثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَبْرَمَ خَلْقَهُ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ آدَمَ خَلَقَ شَمْسَيْنِ مِنْ نُورِ عَرْشِهِ ثُمَّ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ فَأَمَرَّ جَنَاحَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَمَرِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَمَحَا عَنْهُ الضَّوْءَ وَبَقِيَ فِيهِ النُّورُ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الشَّمْسَ تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ فَتَسْتَأْذِنُ فِي الرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَهَا ". وَأَصْغَرُ النُّجُومِ بِقَدْرِ الدُّنْيَا مَرَّاتٍ. وَفِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ثُمَّ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ. وَبَعْدَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ مِنَ الأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَهْبِطُ بِهِ مَنْ فَوْقَهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا. وَبَعْدَ هَذَا الْكُرْسِيُّ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضٍ فَلاةٍ " ثُمَّ الْعَرْشُ وَهُوَ يَاقُوتَهٌ حَمْرَاءُ. فَأَمَّا الْمَلائِكَةُ فَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ ". وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَلائِكَةِ خَلْقًا حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَعَدَدُهُمُ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ قَدْ وُكِلَ بِالدُّعَاءِ لِنَسْلِ الآدَمِيِّ، وَالآخَرُ عَلَى صُورَةِ النَّسْرِ قَدْ وُكِلَ بِالدُّعَاءِ لأَجْنَاسِ الطَّيْرِ، وَالآخَرُ عَلَى صُورَةِ الثَّوْرِ قَدْ وُكِلَ بِالدُّعَاءِ لِلنَّسْلِ الْبَهِيمِيِّ، وَالآخَرُ عَلَى صُورَةِ السَّبُعِ قَدْ وُكِلَ بِالدُّعَاءِ لأَجْنَاسِ السِّبَاعِ، فَإِذَا جَاءَتِ الْقِيَامَةُ زِيدَ فيهم أربعة.

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بْنُ عِيسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سَنَةٍ ". أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بِسَنَدِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ قَدْ مَرَقَتْ رِجْلاهُ الأَرْضَ وَعُنُقُهُ مَثْنِيَّةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَكَ رَبَّنَا، قَالَ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ، مَا يَعْلَمُ ذَلِكَ الَّذِي يَحْلِفُ بِي كَاذِبًا ". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَلائِكَةَ وَاسْتَوَوْا عَلَى أَقْدَامِهِمْ رَفَعُوا رؤوسهم إِلَى السَّمَاءِ فَقَالُوا: رَبَّنَا مَعَ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مَعَ الْمَظْلُومِ حَتَّى يُؤدَّى إِلَيْهِ حَقُّهُ. فَأَمَّا أَعْمَالُ الْمَلائِكَةِ فَجُمْهُورُهُمْ مَشْغُولٌ بِالتَّعَبُّدِ كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يفترون} . أخبرنا ابن الحصين بسنده عن مؤرق، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقٌّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ ". وَمِنَ الْمَلائِكَةِ مُوكَلٌ بِعَمَلٍ، فَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ قَدْ وُكِلُوا بِحَمْلِهِ، وَجِبْرِيلُ صَاحِبُ الْوَحْيِ وَالْغِلْظَةِ فَهُوَ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ وَيَتَوَلَّى إِهْلاكَ الْمُكَذِّبِينَ، وَمِيكَائِيلُ صَاحِبُ الرِّزْقِ وَالرَّحْمَةِ وَإِسْرَافِيلُ صَاحِبُ اللَّوْحِ وَالصُّورِ، وَعَزْرَائِيلُ قَابِضُ الأَرْوَاحِ وَلَهُ أَعْوَانٌ وَهَؤُلاءِ الأَرْبَعَةُ هُمُ الْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا. وَمِنْهُمْ كُتَّابٌ عَلَى بَنِي آدَمَ وَهُمُ الْمُعَقِّبَاتُ، مَلَكَانِ فِي اللَّيْلِ وَمَلَكَانِ فِي النَّهَارِ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابن أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ،

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " الْمَلائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ، مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَقَالُوا تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَمِنْهُمْ مُوَكَّلٌ بِالشَّمْسِ، وَمِنْهُمْ مُوَكَّلٌ بِالْقَطْرِ، وَالرَّعْدُ صَوْتُ مَلَكٍ يَزْجُرُ السَّحَابَ، وَالْبَرْقُ ضَرْبُهُ إِيَّاهُ بِمَخَارِيقَ. وَمِنْهُمْ مُوَكَّلٌ بِالرِّيَاحِ وَالأَشْجَارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَيْسَ مِنْ شَجَرَةٍ تَخْرُجُ إِلا مَعَهَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهَا. وَمِنْهُمْ مَلائِكَةٌ سَيَّاحُونَ فِي الأَرْضِ يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، وَمَلائِكَةٌ يُبَلِّغُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمَّتِهِ السَّلامَ، وَمَلائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِيَمْنَعُوا عَنْهَا الدَّجَّالَ إِذَا خَرَجَ. وَمِنَ الْمَلائِكَةِ مَنْ هُوَ مَشْغُولٌ بِغَرْسِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَفْتُرُ فَيُقَالُ لَهُ: مالك؟ فَيَقُولُ: فَتَرَ صَاحِبِي عَنِ الْعَمَلِ فَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: أَمِدُّوهُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ. وَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَلَكًا يَصُوغُ حِلْيَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ! أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ يَقُولُ: إِنَّ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَلائِكَةً أَرْبَعَةً يُسَبِّحُونَ تَحْتَ الْعَرْشِ يُسَبِّحُ بِتَسْبِيحِهِمْ أَهْلُ السَّمَوَاتِ، يَقُولُ الْمَلَكُ الأَوَّلُ: سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ. وَيَقُولُ الثَّانِي: سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، وَيَقُولُ الثَّالِثُ: سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ. وَقَالَ هَارُونُ بْنُ رِئَابٍ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ يَتَجَاوَبُونَ بِصَوْتٍ رَخِيمٍ تَقُولُ أَرْبَعَةٌ: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ وَتَقُولُ الأَرْبَعَةُ الأُخَرُ: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ.

الكلام على البسملة

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: " أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا سُجُودٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَهْلَ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ رُكُوعٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَهْلَ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ قِيَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ مَلَكًا نِصْفُهُ مِنْ نَارٍ وَنِصْفُهُ مِنْ ثَلْجٍ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَنْ أَلَّفَ بَيْنَ الثَّلْجِ وَالنَّارِ فَلا النَّارُ تُذِيبُ الثَّلْجَ ولا الثلج يطفىء النَّارَ، أَلِّفْ بَيْنَ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (بَيْنَمَا الْمَرْءُ غَافِلٌ إِذْ أَتَاهُ ... مِنْ يَدِ الْمَوْتِ سَالِبٌ لا يُصَدُّ) (فَتَأَهَّبْ لِمَا لَهُ كُلُّ نَفْسٍ ... عُرْضَةُ الأَسْرِ إِنَّمَا الأَمْرُ جَدُّ) (خَابَ مَنْ كَانَ هَمُّهُ هَذِهِ الدُّنْيَا ... فَأَضْحَى مِنْ نَيْلِهَا يَسْتَمِدُّ) (فَجَنَاهَا إِنْ أَسْعَدَتْ مُسْتَعَارٌ ... لَيْسَ مِنْ رَدِّهِ لِمَنْ نَالَ بُدُّ) (كَمْ أَدَالَتْ مِنْ أَهْلِهَا وَأَزَالَتْ ... ذَا جَلالٍ مِنْ نِعْمَةٍ لا تُحَدُّ) (بَدَّلَتْهُ مِنْ طِيبِ مَغْنَاهُ فَقْرًا ... عَادِمًا مَا حَوَى وَلَمْ يُغْنِ جِدُّ) (أَيْنَ مَنْ كَانَ نَاعِمَ الْوَجْهِ أَضْحَى ... مَا لَهُ مِنْ نِهَايَةِ الْحُسْنِ ضِدُّ) (قَدْ مَحَاهُ ثَرَاهُ حِينَ حَوَاهُ ... وَوَهَى مِعْصَمٌ وَكَفٌّ وَزَنْدُ) (وَجَفَا أُنْسَهُ أَخٌ كَانَ بَرًّا ... وَصَدِيقٌ دَانَ وَصَحْبٌ وَجُنْدُ) (وَاسْتَوَى فِي الْبِلَى رَئِيسٌ ومرؤوس ... وَأَعْيَا بِالأَسْرِ حُرٌّ وَعَبْدُ) يَا غَافِلا قَدْ طُلِبَ، يَا مُخَاصِمًا قَدْ غُلِبَ، يَا وَاثِقًا قَدْ سُلِبَ، يَا حَازِمًا قَدْ خُلِبَ كَأَنَّهُ بِهِ قَدْ قُلِبَ، إِيَّاكَ وَالدُّنْيَا فَمَا الدُّنْيَا بمأمونة، وتزود للسفر فلا بد من مؤونة، إِذَا قَدَرْتَ عَلَى الْكَمَالِ فَلا تَرْضَ دُونَهُ، وَاصْدُقْ فِي أَمْرِكَ تَأْتِكَ الْمَعُونَةُ، أَيْنَ الْمَغْرُورُونَ بِغُرُورِهَا أَيْنَ الْمَسْرُورُونَ بِسُرُورِهَا؟ صَاحَ بِهِمُ الْمَوْتُ فَأَجَابُوا، وَاسْتَحْضَرَهُمُ الْبِلَى فَغَابُوا، ظَنُّوا بُلُوغَ الآمَالِ وَتَوَهَّمُوا، وَاعْتَقَدُوا دَوَامَ السَّلامَةِ فَلَمْ يَسْلَمُوا، وَأُعْلِمُوا بِالرَّحِيلِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُعْلَمُوا، وَنَاوَلُوا أَنْفُسَهُمْ أَعِنَّةَ الْهَوَى وَسَلَّمُوا، كَمْ هَتَفَ بِهِمْ نَذِيرُ الْفِرَاقِ فَلَمْ يَفْهَمُوا، فَلَمَّا بَلَغُوا مُنْتَهَى الآجَالِ وَلَمْ يُظْلَمُوا، خَلَوْا فِي أَلْحَادِهِمْ بِمَا كَانُوا قَدَّمُوا.

(وَلَسْنَا بِأَبْقَى مِنْهُمْ غَيْرَ أَنَّنَا ... أَقَمْنَا قَلِيلا بَعْدَهُمْ وَتَقَدَّمُوا) أُفٍّ لِنَفْسٍ تُؤْثِرُ مَا يُضِيرُهَا، مَا تَرْعَوِي وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهَا، مَا تُصْغِي إِلَى الْمَوَاعِظِ وَقَدْ قَالَ نَذِيرُهَا، أَمَا نَهَاهَا لَمَّا عَلاهَا قَتِيرُهَا، أَمَا لاحَ لِبَصَرِ الْبَصِيرَةِ مَصِيرُهَا، أَمَا يَرْجِعُ إِلَى الْعُقُولِ مُسْتَشِيرُهَا، أَتَقْدِرُ عَلَى نَفْسٍ إِنْ تَلِفَتْ تَسْتَعِيرُهَا؟ قُلْ لِهَذِهِ النَّفْسِ الْجَهُولَةِ فِي فِعْلِهَا وَيْحَهَا إِنَّمَا تَسْعَى فِي قَتْلِهَا، أَمَا لَهَا عِبَرٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهَا، كَأَنَّهَا بِهَا تَبْكِي عَلَى الأَيَّامِ كُلِّهَا، إِذَا حَانَتِ الْمَنِيَّةُ وَبَعَثَتْ بَعْضَ رُسُلِهَا، وَعَبِثَتْ يَدُ الْقَاطِعِ بِمَوْصُولِ حَبْلِهَا، وَامْتَدَّتْ كَفُّ الأَجَلِ إِلَى عُرَى الأَمَلِ تَحُلُّهَا. (تَسَاوَى النَّاسُ فِي طُرُقِ الْمَنَايَا ... فَمَا سَلِمَ الصَّرِيحُ وَلا الْهَجِينُ) (تَدَيَّنَّا الْبَقَاءُ مِنَ اللَّيَالِي ... وَمِنْ أَرْوَاحِنَا تُوفَى الدُّيُونُ) (كَأَنَّا قَدْ شَكَكْنَا فِي الْمَنَايَا ... وَعِنْدَ جَمِيعِنَا الْخَبَرُ الْيَقِينُ) إِخْوَانِي: تَأَمَّلُوا الْعَوَاقِبَ تَأَمُّلَ مَنْ يُرَاقِبُ، وَتَفَكَّرُوا فِي النِّهَايَةِ فَعَيْنُ الْعَقْلِ تَرَى الْغَايَةَ، الْمَوْتُ قَرِيبٌ أَمِمٌ، كَمْ أَهْلَكَ مِنْ أُمَمٍ، لَقَدِ ارْتَهَنَ الذِّمَمَ وَتَشَبَّثَ بِاللَّمَمِ، فَيَا مَنْ سَتَخْلَقُ مِنْهُ الرِّمَمُ أَسَمَاعٌ أَمْ صَمَمٌ، مَنِ ارْتَحَلَ بِغَيْرِ الطَّبْعِ حَسُنَ وَحَزَمَ، مَنْ عَلِمَ شَرَفَ الْمَطْلُوبِ جَدَّ وَعَزَمَ، إِنَّمَا يَكُونُ الاجْتِهَادُ عَلَى قَدْرِ الْهِمَمِ، إِنَّمَا يُنَافَسُ فِي الْمَطْلُوبِ عَلَى حَسْبِ الْقِيَمِ: (وَحُبُّ دُنْيَاكَ طَبْعٌ فِي الْمُقِيمِ بِهَا ... وَقَدْ مُنِّيتَ بِقَرْنٍ مِنْهُ غَلابُ) (لَمَّا رَأَيْتَ سَجَايَا الدَّهْرِ تَرْحَضُنِي ... رَدَدْتَ قَدْرِي إِلَى صَبْرِي فَأَغْلَى بِي) (وَالْعَقْلُ يَسْعَى لِنَفْسِي فِي مَصَالِحِهَا ... فَمَا لِطَبْعٍ إِلَى الآفَاتِ جَذَّابِ) (احْذَرْ مِنَ النَّاسِ أَدْنَاهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ ... وَإِنْ لَقُوكَ بِتَبْجِيلٍ وَتِرْحَابِ) (كَلَّمْتُ بِاللَّحْنِ أَهْلَ اللَّحْنِ أُونِسُهُمْ ... لأَنَّ عَيْبِي عِنْدَ الْقَوْمِ إِعْرَابِي) (عِنْدَ الْفَرَاقِدِ أَسْرَارِي مُخَبَّأَةٌ ... إِذْ لَسْتُ أَرْضَى لآرَابِي بِآرَابِ) أَيُّهَا الشَّابُّ تَدَبَّرْ أَمْرَكَ فَإِنَّكَ فِي زَمَنِ الرِّبْحِ وَوَقْتِ الْبَذْرِ وَإِبَّانِ الْفَضَائِلِ، احْذَرْ أَنْ يَخْدَعَكَ الْعَدُوُّ عَنْ نَفِيسِ هَذَا الْجَوْهَرِ فَتُنْفِقُهُ بِكَفِّ التَّبْذِيرِ، تَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لَتَغْرِسَنَّ بِذَلِكَ شَجَرَةَ النَّدَامَةِ فَيَتَسَاقَطُ عَلَيْكَ مِنْ كُلِّ فَنَنٍ مِنْهَا فَنُّ

الكلام على قوله تعالى

حَسْرَةٍ. وَاعْرِفْ قَدْرَ مَا تُؤَمِّنُ بِهِ هَذَا الْجَوْهَرَ مِنَ الْفَضَائِلِ، وَاحْذَرْ مِنَ اخْتِلاسِ الْعَدُوِّ لَهُ، فَصَابِرْ فَكَأَنْ قَدِ انْقَضَى الْمَوْسِمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يُرَاصِدُكَ لِيَفْتِنَكَ وَقُوَّةُ الطَّبْعِ لَهُ عَلَيْكَ، وَالشَّبَابُ شُعْبَةٌ مِنَ الْجُنُونِ، فَاكْسَرْ عَادِيَةَ الْهَوَى بِوَهَنِ أَسْبَابِهِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: طُوبَى لِمَنْ وَفَّى شَرَّ شَبَابِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ ابن عَيَّاشٍ: وَدِدْتُ أَنَّهُ صَفَحَ لِي عَمَّا كَانَ فِي الشَّبَابِ وَأَنَّ يَدِي قُطِعَتْ! وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ جِهَادُ الشَّبَابِ وَمُخَالَفَةُ الطَّبْعِ صَعْبًا صَارَ الشَّابُّ التَّائِبُ حَبِيبَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. إِخْوَانِي: مَنْ رَأَى التَّنَاهِيَ فِي الْمَبَادِي سَلِمَ، وَمَنْ لَمْ يَرَ الْعَوَاقِبَ شَغَلَهُ مَا هُوَ فِيهِ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ. يَا هَذَا: أَمَّا مَا قَدْ مَضَى مِنْ ذُنُوبِكَ فَلَيْسَ فِيهِ حِيلَةٌ إِلا التَّدَارُكَ، فَرُبَّ مُدْرِكٍ لِمَا فَات، الأَسَى بِالأَسَى، وَأَنَا أَضْرِبُ لَكَ مَثَلا لِتَحْذَرْ فِيمَا بَعْدُ جِنْسَ مَا كَانَ قَبْلُ: إِذَا رَاقَتِ الْحَلْوَاءُ لِمَحْمُومٍ اعْتَرَكَ الْهَوَى وَالْعَقْلُ فَالْهَوَى يَنْظُرُ إِلَى الْعَاجِلِ وَالْعَقْلُ يَتَلَمَّحُ الْعَوَاقِبَ، فَإِنْ آثَرَ مَشُورَةَ الْعَقْلِ مَنَعَ نَفْسَهُ عَمَّا تَشْتَهِي نَظَرًا إِلَى مَا إِلَيْهِ الصَّبْرُ يَنْتَهِي، فَإِذَا زَالَتْ حِمَاهُ تَنَاوَلَ مِنْ غَيْرِ أَذًى مَا اشْتَهَاهُ، وَإِنِ اجْتَذَبَهُ رَائِقُ الْمُشْتَهَى فَأَنْسَاهُ الْمُنْتَهَى تَمَتَّعَ يَسِيرًا بِبُلُوغِ الْغَرَضِ فَزَادَ بِهِ ذَلِكَ الْمَرَضُ، وَرُبَّمَا تَرَقَّى إِلَى الْمَوْتِ وَلا تَدَارَكَ بَعْدَ الْفَوْتِ. فَيَا عَجَبًا لِمُخْتَارِ الْعَاجِلِ وَهُوَ يَعْلَمُ نَدَمَهُ فِي الآجِلِ، لَقَدْ ضَيَّعَ مَوْهِبَةَ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ شُرِّفَ الآدَمِيُّ، وَزَاحَمَ الْبَهَائِمَ فِي مَقَامِ النَّظَرِ إِلَى الْحَاضِرِ. الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} الجاثية: الْجَالِسَةُ عَلَى الرُّكَبِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهَا غَيْرُ مُطْمَئِنَّةٍ، وَالأَقْدَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

مِثْلُ النَّبْلِ فِي الْجُعْبَةِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ يَجِدُ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعًا. قَوْلُهُ تَعَالَى {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كتابها} فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: كِتَابُ حَسَنَاتِهَا وَسَيِّئَاتِهَا. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: كِتَابُهَا الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِهَا. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الأَرْضُ كُلُّهَا نَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةُ مِنْ وَرَائِهَا يَرَوْنَ أَكْوَابَهَا وَكَوَاعِبَهَا، وَيَعْرَقُ الرَّجُلُ حَتَّى يَرْشَحَ عَرَقُهُ فِي الأَرْضِ قَامَةً ثُمَّ يَرْتَفِعُ إِلَى أَنْفِهِ وَمَا مَسَّهُ الْحِسَابُ بَعْدُ. قَالُوا: وَمِمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: مِمَّا يَرَى الناس يُصْنَعُ بِهِمْ. قِيلَ لَهُ: فَأَيْنَ الْمُؤْمِنُونَ؟ قَالَ: عَلَى كَرَاسِيٍّ قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِمْ بِالْغَمَامِ مَا طُولُ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَيْهِمْ إِلا كَسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ. يَا مَنْ قَدْ مَلأَ كِتَابَهُ بِالْقَبِيحِ وَهُوَ عَنْ قَلِيلٍ رَهْنَ الضَّرِيحِ، أَلا تَمْحُو قُبْحَ مَا سَطَّرْتَ، هَلا تَدَبَّرْتَ مَا تُمْلِي وَنَظَرْتَ، لَقَدْ سَوَّدْتَ الْكِتَابَ بِالزَّلَلِ، وَأَكْثَرُ مَا دَخَلَ الْمَنْطِقَ الدَّخَلُ، وَحَتَّامَ وَإِلامَ؟ أَبَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ وَهَنِ الْعِظَامِ؟ يَا دَائِمًا عَلَى هَجْرِهِ وَإِعْرَاضِهِ، يَا سَاعِيًا فِي هَوَاهُ وَأَغْرَاضِهِ، يَا مَنْ قَدْ أَخَذَ بِنَاءُ جِسْمِهِ فِي انْتِقَاضِهِ، عَلِيلَ الْخَطَايَا لا يَزَالُ فِي إِمْرَاضِهِ، هَذَا عَسْكَرُ الْمَمَاتِ قَدْ دَنَا بِارْتِكَاضِهِ، هَذَا بَرْقُ الْعِتَابِ قَدْ لَجَّ بِإِيمَاضِهِ، كَيْفَ قَدَرَ جَفْنُ الْعَاصِي عَلَى إِغْمَاضِهِ، كَيْفَ يَنْسَى مَا قَدْ مَاتَ قُدُمًا مِنْ أَبْعَاضِهِ، لَوْ سَمِعَ صَخْرُ الْفَلاةِ لَوْمَكَ أَوْ ذَاقَ الأَلَمَ مِنْ إِمْضَاضِهِ، لَعَادَتْ جَلامِيدُ الْفَلا كَرَضْرَاضِهِ، يَا مَنْ يَعْلَمُ غَلَطَ عُذْرِهِ وَوَجْهَ إِدْحَاضِهِ، يَا سَاعِيًا إِلَى مَا يُؤْذِي بِرِكَاضِهِ، يَا هَاجِرًا نَصِيحَهُ لَيْتَهُ أَبْغَضَ قَبِيحَهُ كَإِبْغَاضِهِ، اسْتَقْرَضَ الْمَالِكُ بَعْضَ مَالِكَ وَتَقْعُدُ عَنْ إِقْرَاضِهِ، لَقَدْ أَنْذَرَكَ سَهْمُ الرَّدَى وُقُوعَهُ قَبْلَ إِنْبَاضِهِ، فَأَحَدَّ حَدَّ حَدِيدَتِهِ وَأَسَنَّهُ بِمِقْرَاضِهِ: (بَادِرْ بِمَعْرُوفِكَ آفَاتَهُ ... فَبِنْيَةُ الدُّنْيَا عَلَى القلعة)

(وَازْرَعْ زُرُوعًا يُرْتَضَى رِيعُهَا ... يَوْمًا فَكُلٌّ حَاصِدٍ زَرْعَهْ) أُفٍّ لِعَيْشٍ آخِرُهُ النَّدَامَةُ، آهٍ مِنْ سَفَرٍ نِهَايَتُهُ بِدَايَةُ الْقِيَامَةِ. إِخْوَانِي: هَذَا نَذِيرُ الْمَوْتِ قَدْ غَدَا يَقُولُ: الرَّحِيلُ غَدًا، كَأَنَّكُمْ وَاللَّهِ وَالأَمْرَ مَعًا، طُوبَى لِمَنْ سَمِعَ فَوَعَى، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا صَاحَ إِسْرَافِيلُ فِي الصُّورِ بِالصُّورِ، فَخَرَجْتَ تَسْعَى مِنْ تَحْتِ الْمَدَرِ، وَقَدْ رُجَّتِ الأَرْضُ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ، وَشَخَصَتِ الأَبْصَارُ لِتِلْكَ الأَهْوَالِ، وَطَارَتِ الصَّحَائِفُ فَقَلِقَ الْخَائِفُ وَشَابَ الصِّغَارُ، وَبَانَ الصَّغَارُ، وَزَفَرَتِ النَّارُ وَأَحَاطَتِ الأَوْزَارُ، وَنُصِبَ الصِّرَاطُ وَآلَمَتِ السِّيَاطُ، وَحَضَرَ الْحِسَابُ وَقَوِيَ الْعَذَابُ، وَشَهِدَ الْكِتَابُ وَتَقَطَّعَتِ الأَسْبَابُ، فَكَمْ مِنْ شَيْخٍ يَقُولُ: وَاشَيْبَتَاهْ، وَكَمْ مِنْ كَهْلٍ يُنَادِي: وَاخَيْبَتَاهْ، وَكَمْ مِنْ شَابٍّ يَصِيحُ: وَاشَبَابَاهْ، بَرَزَتِ النَّارُ فَأَحْرَقَتْ، وَزَفَرَتْ غَضَبًا فَمَزَّقَتْ، وَتَقَطَّعَتِ الأَفْئِدَةُ وَتَفَرَّقَتْ، وَقَامَتْ ضَوْضَاءُ الْجَدَلِ، وَأَحَاطَ بِصَاحِبِهِ الْعَمَلُ، وَالأَحْدَاقُ قَدْ سَالَتْ وَالأَعْنَاقُ قَدْ مَالَتْ، وَالأَلْوَانُ قَدْ حَالَتْ، وَالْمِحَنُ قَدْ تَوَالَتْ، أَيْنَ عُدَّتُكَ لِذَلِكَ الزَّمَانِ، أَيْنَ تَصْحِيحُ الْيَقِينِ وَالإِيمَانِ، أَتَرْضَى يَوْمَئِذٍ بِالْخُسْرَانِ؟ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّكَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ؟ كَمْ فِي كِتَابِكَ مِنْ زَلَلٍ، كَمْ فِي عَمَلِكَ مِنْ خَلَلٍ، هَذَا وَقَدْ قَرُبَ الأَجَلُ، إِي وَاللَّهِ أَجَلْ، كَمْ ضَيَّعْتَ وَاجِبًا وَفَرْضًا وَنَقَضْتَ عَهْدًا مُحْكَمًا نَقْضًا، وَأَتَيْتَ حَرَامًا صَرِيحًا مَحْضًا، يَا أَجْسَادًا صِحَاحًا فِيهَا قُلُوبٌ مَرْضَى. عِبَادَ اللَّهِ: أَطْوَلُ النَّاسِ حُزْنًا فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُهُمْ فَرَحًا فِي الآخِرَةِ، وَأَشَدُّ النَّاسِ خَوْفًا فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُهُمْ أَمْنًا فِي الآخِرَةِ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " أَنَا لا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلا أَمْنَيْنِ، إِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ فِي الآخِرَةِ ". إِخْوَانِي: الْمُؤْمِنُ يَتَقَلَّبُ فِي الدُّنْيَا عَلَى جَمَرَاتِ الْحَذَرِ فِي نِيرَانِ الْخَوْفِ، يَرْهَبُ الْعَاقِبَةَ، وَيَحْذَرُ الْمُعَاقَبَةَ، فَالنَّارُ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ سُوَيْدَاءِ قَلْبِهِ، إِنْ هُوَ هَفَا تَوَقَّدَتْ فِي بَاطِنِهِ نَارُ النَّدَمِ، وَإِنْ تَذَّكَرَ ذَنْبًا اضْطَرَمَتْ نَارُ الْحَزَنِ، وَإِنْ تَفَكَّرَ فِي مُنْقَلَبِهِ الْتَهَبَتْ نَارُ الْحَذَرِ، وَإِنْ صَفَا قَلْبُهُ لِمَحَبَّةِ خَالِقِهِ صَارَ الْقَلْبُ جَمْرَةً بِنَارِ الْفَرَقِ، فَإِذَا

وَرَدَ الْقِيَامَةَ عَادَتْ نَارُهُ نُورًا يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، فَإِذَا جَازَ عَلَى الصِّرَاطِ لَمْ تُقَاوِمْ نَارُ التَّعْذِيبِ نِيرَانَ التَّهْذِيبِ، فَتُنَادِي بِلِسَانِ الاعْتِرَافِ بِالتَّفْضِيلِ: جُزْ فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي! فَإِنْ هُوَ حَضَرَ الْقِيَامَةَ عَلَى زَلَلٍ لَمْ تَصْدُقْ تَوْبَتُهُ مِنْهُ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خُمُودَ نُورِهِ فَقَدْ خَبَتْ نَارُ حَذَرِهِ فِي بَاطِنِ قَلْبِهِ، فَإِذَا لَفَحَتْهُ جَهَنَّمُ فَأَحْرَقَتْ ظَاهِرَهُ أَحَسَّتْ بِأَثَرِ شُعْلَةِ الْخَوْفِ فِي بَاطِنِهِ فَكَفَّتْ كَفَّهَا عَنْهُ. فَلَوْ قِيلَ لَهَا أَيْنَ شِدَّةُ شِدَّتِكَ وَأَيْنَ حَدِيدَةُ حِدَّتِكَ لَقَالَتْ: لا مُقَاوَمَةَ لِي بِنِيرَانِ بَاطِنِهِ وَإِنْ قُلْتُ: (يَحْرِقُ بِالنَّارِ مَنْ يُحِسُّ بِهَا ... فَمَنْ هُوَ النَّارُ كَيْفَ يَحْتَرِقُ) هَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِ فَأَيْنَ إِيمَانُكَ هَذَا لِذِي الْحَسَنَاتِ وَقَدْ خَسَرَ مِيزَانُكَ، شَأْنُكَ الْخَطَايَا فَهَلا قَرْحٌ شَانَكَ يَا مُهْمِلا نَفْسَهُ سَيَشْهَدُ جِلْدُكَ وَمَكَانُكَ، الْيَقَظَةَ الْيَقَظَةَ يَا نِيَامُ، الْحَذَرَ الْحَذَرَ فَقَدْ سُلَّ الْحُسَامُ، الزُّهْدَ الزُّهْدَ قَبْلَ الْفِطَامِ، كَأَنَّكُمْ بِكُمْ فِي أَثْوَابِ السِّقَامِ تَرُومُونَ الْخَلاصَ وَقَدْ عَزَّ الْمَرَامُ، فَسَتَنْدَمُونَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الآثَامِ، وَتَخْرَسُ الأَلْسُنُ وَيَنْقَطِعُ الْكَلامُ. إِخْوَانِي: أَحْضِرُوا الْقُلُوبَ لِهَذا الْمَلامِ، تَاللَّهِ مَا أَكْرَمَ نَفْسَهُ مَنْ لا يُهِينُهَا، وَلا يَزِينُهَا مَنْ لا يَشِينُهَا. دَخَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى غُلامٍ لَهُ يُعْلِفُ نَاقَتَهُ فَرَأَى فِي عَلَفِهَا مَا كَرِهَ فَأَخَذَ بِأُذُنِ غُلامِهِ فَعَرَكَهَا ثُمَّ نَدِمَ فَقَالَ: افْعَلْ بِي مَا فَعَلْتُ بِكَ، فَأَبَى الْغُلامُ فَلَمْ يَدَعْهُ حَتَّى فَعَلَ فَجَعَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَهُ: شُدَّ شُدَّ. حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مِنْهُ مِثْلُ مَا بَلَغَ ثُمَّ قَالَ عُثْمَانُ: وَاهًا لِقِصَاصِ الدُّنْيَا قَبْلَ قِصَاصِ الآخِرَةِ. كَانَ الْقَوْمُ تَحْتَ حَجْرِ الْمُحَاسَبَةِ وَكَأَنَّكَ مُطْلَقٌ. كَانَ ابْنُ السَّمَّاكِ يَقُولُ: أَلا مُنْتَبِهٌ مِنْ رَقْدَتِهِ، أَلا مُسْتَيْقِظٌ مِنْ غَفْلَتِهِ، أَلا مُفِيقٌ مِنْ سَكْرَتِهِ، أَلا خَائِفٌ مِنْ صَرْعَتِهِ، أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ الْقِيَامَةَ تَخْفِقُ

سجع)

بِزَلازِلِ أَهْوَالِهَا وَقَدْ عَلَتِ النَّارُ مُشْرِفَةً عَلَى أَهْلِهَا وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ لَسَرَّكَ أَنْ يَكُونَ لَكَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ مَنْزِلَةٌ وَزُلْفَى. أَبَعْدَ الدُّنْيَا دَارُ مُعْتَمَلٍ، أَمْ إِلَى غَيْرِ الآخِرَةِ مُنْتَقَلٌ؟ كَلا وَاللَّهِ لَقَدْ صُمَّتِ الأَسْمَاعُ عَنِ الْمَوَاعِظِ وَذَهِلَتِ الْقُلُوبُ عَنِ الْمَنَافِعِ. وَعَظَ أَعْرَابِيٌّ ابْنَهُ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إِنَّهُ مَنْ خَافَ الْمَوْتَ بَادَرَ الْفَوْتَ، وَمَنْ لَمْ يَكْبَحْ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ أَسْرَعَتْ بِهِ التَّبِعَاتُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ أَمَامَكَ. (فَيَا لَيْتَنِي هَامِدًا لا أَقُومُ ... إِذَا نَهَضُوا يَنْفُضُونَ اللَّمَمْ) (وَنَادَى الْمُنَادِي عَلَى غَفْلَةٍ ... فَلَمْ يَبْقَ فِي أُذُنٍ مِنْ صَمَمْ) (وَجَاءَتْ صَحَائِفُ قَدْ ضُمِّنَتْ ... كَبَائِرَ آثَامِهِمْ وَاللَّمَمْ) ( سَجْعٌ) يَا أَسَفَا لِلْعُصَاةِ فِي مَآبِهَا، إِذَا قَلِقَتْ لِقَطْعِ أَسْبَابِهَا، وَغَابَتْ فِي الأَسَى عِنْدَ حُضُورِ عتابها {كل أمة تدعى إلى كتابها} . قَامَتِ الأُمَمُ عَلَى أَقْدَامِهَا فَأَقَامَتْ تَبْكِي عَلَى إِقْدَامِهَا، وَسَالَتْ عُيُونٌ مِنْ عُيُونِ غَرَامِهَا نَدَمًا على آثامها في أيامها واحتقابها {كل أمة تدعى إلى كتابها} . ظَهَرَتْ أَهْوَالٌ لا تُوصَفُ، وَبَدَتْ أُمُورٌ لا تُعْرَفُ، وَكُشِفَ حَالاتٌ لَمْ تَكُنْ تُكْشَفُ، إِنْ لَمْ تَنْتَبِهْ لِهَذَا فَأَنْتَ أَعْرَفُ، سَتَعْلَمُ مَنْ يَلُومُ نَفْسَهُ عِنْدَ عَذَابِهَا {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كتابها} قُيِّدَتْ جَهَنَّمُ فَبَدَتْ بِأَزِمَّتِهَا، فَبَكَتِ النُّفُوسُ عَلَى دَنَاءَةِ هِمَّتِهَا، كَمْ مِنْ دُيُونٍ تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهَا، عَلَى أَنَّهُ يَكْفِيهَا مَا بِهَا {كُلُّ أُمَّةٍ تدعى إلى كتابها} . أَنْتَ تَدْرِي مَا فِي كِتَابِكَ، وَسَتَبْكِي وَاللَّهِ عِنْدَ عِتَابِكَ، وَسَتَعْلَمُ حَالَكَ يَوْمَ حِسَابِكَ، إِذَا كَلَّتْ كُلُّ الأَلْسُنِ عَنْ جَوَابِهَا {كُلُّ أُمَّةٍ تدعى إلى كتابها} يَا لَهُ يَوْمٌ لا كَالأَيَّامِ، تَيَقَّظَ فِيهِ مَنْ غَفِلَ وَنَامَ، وَيَحْزَنُ كُلُّ مَنْ فَرِحَ فِي الآثَامِ وَتَيَقَّنَ أَنَّ أَحْلَى مَا كُنْتَ فِيهِ أَحْلامٌ، وَاعَجَبًا لِضَحِكِ نَفْسٍ الْبُكَاءُ أَوْلَى بها {كل أمة

تدعى إلى كتابها} . كَمْ مِنْ نَفْسٍ تَرَى بِعَيْنِ الصَّلاحِ تَفْعَلُ الْخَيْرَ فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، عَمِلَتْ أَعْمَالا تَرْجُو بِهَا الْفَلاحَ، فَلاحَ لَهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهَا {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} . ذَكَّرَ اللَّهُ نُفُوسَنَا مُرَّ شَرَابِهَا، وَجَعَلَنَا مِمَّنْ مَدَّ بَاعَ التَّقْوَى فَبَاعَ وَشَرَى بِهَا، وَحَفِظَنَا إِذَا حَارَتِ النُّفُوسُ لِشِدَّةِ أَوْصَابِهَا، وَرَزَقَنَا قَبُولَ مَوْعِظَتِهِ فَقَدْ أَوْصَى بِهَا {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إلى كتابها} .

المجلس الثالث في ذكر الأرض وعجائبها

الْمَجْلِسُ الثَّالِثُ فِي ذِكْرِ الأَرْضِ وَعَجَائِبِهَا الْحَمْدُ للَّهِ الْقَدِيمِ فِي مَجْدِهِ، الْكَرِيمِ فِي رِفْدِهِ، الرَّحِيمِ فَكُلُّ خَيْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، اللَّطِيفِ فِي كُلِّ حَالٍ بِعَبْدِهِ، مَدَّ الأَرْضَ بِقُدْرَتِهِ وَالْعَجَبُ فِي مَدِّهِ، وَزَيَّنَهَا بِنَبَاتِهَا وَأَلْوَانِ وَرْدِهِ، وَسَقَاهَا كَأْسَ الْقَطْرِ بِوَاسِطَةِ بَرْقِهِ وَرَعْدِهِ، وَجَمَعَ فِي الْغُصْنِ الْوَاحِدِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ، وَقَوَّمَ الثِّمَارَ بِالْمَاءِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَبَرْدِهِ، إِلَهٌ خَوَّفَ بِوَعِيدِهِ وَشَوَّقَ بِوَعْدِهِ، وَقَدَّرَ فَاهْتَدَى مَنْ هَدَاهُ وَضَلَّ مَنْ لَمْ يَهْدِهِ، وَسَمِعَ فَلَمْ يَعْزُبْ عَنْ سَمْعِهِ صَوْتُ الْمُضْطَرِّ بَعْدَ جَهْدِهِ، وَأَبْصَرَ فَرَأَى جَرَيَانَ دَمِ الْعَبْدِ فِي عِرْقِهِ وَجِلْدِهِ، وَعَلِمَ مَا فِي بَاطِنِ سِرِّهِ مِنْ بِرِّهِ وَحِقْدِهِ، وَعَزْمِهِ وَحَزْمِهِ، وَبُغْضِهِ وَوُدِّهِ، وَغَمِّهِ وَفِكْرِهِ، وَعِلْمِهِ وَقَصْدِهِ، وَحِلْمِهِ وَحُبِّهِ وَزُهْدِهِ، وَلَفِّهِ وَنَقْضِهِ، وَأَخْذِهِ وَرَدِّهِ، وَقَدَّرَ أَعْمَالَهُ فِي حَيَاتِهِ وَحَالَهُ فِي لَحْدِهِ، وَجَعَلَ فِي الْحِكْمَةِ نِسْيَانَ أَهْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنْ كَانَ صَالِحًا عَبِقَ فِي قَبْرِهِ نَشْرُ وَرْدِهِ، وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا خُلِّيَ بقبيحه وخطىء بِبُعْدِهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لا يَعْتَرِضُ الْعَقْلُ عَلَى أَفْعَالِهِ بَلْ يَقِفُ عَلَى حَدِّهِ {وَإِنْ مِنْ شيء إلا يسبح بحمده} . أَحْمَدُهُ حَمْدًا لا يَقْدِرُ الْخَلائِقُ عَلَى عَدِّهِ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ وَعَبْدِهِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الَّذِي كَانَ الإِسْلامُ مُنْحَلا لَوْلا قُوَّةُ شَدِّهِ، وَعَلَى عُمَرَ وَحِيدِ التَّدْبِيرِ فِي السِّيَاسَةِ وَفَرْدِهِ، وَعَلَى عُثْمَانَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَالدَّمْعُ يَجْرِي عَلَى خَدِّهِ، وَعَلَى عَلِيٍّ الْمُصَلِّي مَعَ الرَّسُولِ قَبْلَ بُلُوغِ رُشْدِهِ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي أَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ عَلَى جُنْدِهِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي وأنبتنا فيها من كل شي موزون} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَاءَ فَكَانَ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ، وَخَلَقَ الْحُوتَ فَوْقَ الْمَاءِ ثُمَّ كَبَسَ الأَرْضَ عَلَيْهِ فَاضْطَرَبَ النُّونُ فَمَادَتِ الأَرْضُ، فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ: أَخْرَجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْمَاءِ دُخَانًا سَمَا عَلَيْهِ فَسَمَّاهُ سَمَاءً، ثُمَّ أَيْبَسَ الْمَاءَ فَجَعَلَهُ أَرْضًا وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ أَرْضِينَ، فَالأَرْضُ عَلَى حُوتٍ فِي الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى ظَهْرِ صَفَاةٍ، وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ وَالْحُوتُ فِي الرِّيحِ قَالَ وَهْبٌ: وَاسْمُ الْحُوتِ بهموتُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عُمْرَانُ الأَرْضِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ فَرْسَخٍ فِي مِثْلِهَا، فَالسِّنْدُ وَالْهِنْدُ مِنْ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ فَرْسَخٍ فِي مِثْلِهَا، وَهُمْ وَلَدُ حَامٍ، وَالصِّينُ ثَمَانِيَةُ آلافِ فَرْسَخٍ فِي مِثْلِهَا وَهُمْ وَلَدُ يَافِثَ. وَالرُّومُ ثَلاثَةُ آلافِ فَرْسَخٍ فِي مِثْلِهَا، وَالْعَرَبُ أَلْفُ فَرْسَخٍ وَهُمْ وَالرُّومُ جَمِيعًا مِنْ وَلَدِ سَامٍ. عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا فَاسْتَقَرَّتْ، فَتَعَجَّبَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ خَلْقِ الْجِبَالِ فَقَالَتْ: يَا رَبِّ هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ الْحَدِيدُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ النَّارُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ الْمَاءُ قَالَتْ: يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ الرِّيحُ. قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمْ ابْنُ آدَمَ يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا عَنْ شِمَالِهِ ". قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَوَّلُ جَبَلٍ وُضِعَ عَلَى الأَرْضِ جَبَلُ أَبِي قُبَيْسٍ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى فِيهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو قُبَيْسٍ، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ

الأَمِينُ لأَنَّ الرُّكْنَ كَانَ مُسْتَوْدَعًا فِيهِ مِنْ زَمَانِ الطُّوفَانِ، وَهُوَ أَحَدُ الأَخْشَبَيْنِ. وَمِنْ مَشَاهِيرِ الْجِبَالِ جَبَلُ ثَوْرٍ بِمَكَّةَ، وَالْحَجُونُ جَبَلٌ وَاحِدٌ بِالْمَدِينَةِ، وَجَبَلُ الْعَرْجِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ يَمْضِي إِلَى الشَّامِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِلُبْنَانَ ثُمَّ يَتَّصِلَ بِجِبَالِ أَنْطَاكِيَةَ وَالْمِصِّيصَةِ، فَيُسَمَّى هُنَالِكَ اللُّكَامَ. وَفِي سَرَنْدِيبَ الْجَبَلُ الَّذِي أُهْبِطَ عَلَيْهِ آدَمُ وَعَلَيْهِ الْعُودُ وَالْفُلْفُلُ وَفِيهِ دَابَّةُ الْمِسْكِ، وَجَبَلُ الرُّومِ الَّذِي سَدَّ فِيهِ ذُو الْقَرْنَيْنِ عَلَى يَأْجُوجَ ومأجوج طوله سبعمائة فَرْسَخٍ وَيَنْتَهِي إِلَى الْبَحْرِ الْمُظْلِمِ. وَقَدْ ذَكَرَ قُدَامَةُ أَنَّ الَّذِي وُجِدَ فِي الإِقْلِيمِ الأَوَّلِ مِنَ الْجِبَالِ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَفِي الإِقْلِيمِ الثَّانِي سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ جَبَلا، وَفِي الإِقْلِيمِ الثَّالِثِ أَحَدٌ وَثَلاثُونَ، وَفِي الرَّابِعِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَفِي الْخَامِسِ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَفِي السَّادِسِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَفِي السَّابِعِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَيْضًا. فَجَمِيعُ مَا عُرِفَ مِنَ الْجِبَالِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَتِسْعُونَ جَبَلا. وَقَدْ أحصيت المعادن كالجص والنورة فوجدوها سبعمائة مَعْدِنٍ. وَالأَقَالِيمُ سَبْعَةٌ: فَالإِقْلِيمُ الأَوَّلُ: الْهِنْدُ، وَالثَّانِي: الْحِجَازُ، وَالثَّالِثُ: مِصْرُ، وَالرَّابِعُ بَابِلُ، وَالْخَامِسُ: الرُّومُ، وَالسَّادِسُ التُّرْكُ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَالسَّابِعُ: الصِّينُ وَمِقْدَارُ كل إقليم سبعمائة فَرْسَخٍ. وَالْبَحْرُ الأَعْظَمُ مُحِيطٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ يُحِيطُ بِهِ جَبَلُ قَافٍ. وَأَمَّا الأَنْهَارُ فَمِنْهَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ وَدِجْلَةُ وَسَيْحَانُ وَجَيْحَانُ. وَكَانَ قَدْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى دَانْيَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: احْفِرْ لِي نَهْرَيْنِ بِالْعِرَاقِ فَقَالَ: إِلَهِي بِأَيِّ مِسَاحٍ وَبِأَيِّ رِجَالٍ؟ فَأَوْحَي إِلَيْهِ أَنْ أَعِدَّ سَكَّةَ حَدِيدٍ وَعَرِّضْهَا وَاجْعَلْهَا فِي خَشَبَةٍ فَأَلْقِهَا خَلْفَ ظَهْرِكَ فَإِنِّي بَاعِثٌ إِلَيْكَ الْمَلائِكَةَ يُعِينُونَكَ فَحَفَرَ فَكَانَ إِذَا انْتَهَى إِلَى أَرْضِ أَرْمَلَةٍ أَوْ يَتِيمٍ حَادَ عَنْهَا حَتَّى حَفَرَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتَ. وَمِنَ الْعَجَائِبِ فِي الدُّنْيَا: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي وُصِفَتْ فِي الدُّنْيَا أَرْبَعٌ: مَنَارَةُ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ عَلَيْهَا مِرْآةٌ حَدِيدٌ يَقْعُدُ

الْقَاعِدُ تَحْتَهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَيَرَى مَنْ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ الْبَحْرِ. وَسُودَانِيٌّ مِنْ نُحَاسٍ عَلَى قَضِيبٍ مِنْ نُحَاسٍ عَلَى بَابِ الشَّرْقِيِّ بِرُومِيَّةَ. فَإِذَا كَانَ أَوَانُ الزَّيْتُونِ صَفَّرَ ذَلِكَ السُّودَانِيُّ فَلا يَبْقَى سُودَانِيَّةٌ إِلا جَاءَتْ مَعَهَا بِثَلاثِ زَيْتُونَاتٍ: زَيْتُونَتَانِ فِي رِجْلَيْهَا وَزَيْتُونَةٌ فِي مِنْقَارِهَا فَأَلْقَتْهُ عَلَى ذَلِكَ السُّودَانِيِّ فَتَحْمِلُ أَهْلُ رُومِيَّةَ فَيَعْصِرُونَ مَا يَكْفِيهِمْ لِسَرْجِهِمْ وَإِدَامِهِمْ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ. وَرَجُلٌ مِنْ نُحَاسٍ بِأَرْضِ الْيَمَنِ مَادٌّ يَدَهُ إِلَى وَرَاءُ يَقُولُ: لَيْسَ وَرَائِي مَذْهَبٌ وَلا مَسْلَكٌ، وَهِيَ أَرْضٌ رَجْرَاجَةٌ لا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا الأَقْدَامُ غَزَاهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ نَمْلٌ كَالْبَخَاتِيِّ فَكَانَتِ النَّمْلَةُ تَخْطَفُ الْفَارِسَ عَنْ فَرَسِهِ. وَبَطَّةٌ مِنْ نُحَاسٍ عَلَى عَمُودٍ مِنْ نُحَاسٍ فِيمَا بَيْنَ الْهِنْدِ وَالصِّينِ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ شَرِبَتِ الْبَطَّةُ مِنَ الْمَاءِ حَاجَتَهَا وَمَدَّتْ مِنْقَارَهَا فَيَفِيضُ مِنْ فِيهَا مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِمْ لِزُرُوعِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الأَرْضَ الْجِنَّ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ تَنَاوَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْقَتْلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجِنُّ ضُعَفَاءُ الْجَانِّ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَلَكَ الأَرْضَ كُلَّهَا أَرْبَعَةٌ: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وذو القرنين عليهما السلام. والكافران: نمرود وبخت نصر. وَقَالَ كَعْبٌ: سَاكِنُ الأَرْضِ الثَّانِيَةِ الرِّيحُ الْعَقِيمُ، وَسَاكِنُ الأَرْضِ الثَّالِثَةِ حِجَارَةُ جَهَنَّمَ، وَفِي الرَّابِعَةِ كِبْرِيتُ جَهَنَّمَ، وَسَاكِنُ الأَرْضِ الْخَامِسَةِ حَيَّاتُ جَهَنَّمَ، وَسَاكِنُ الأَرْضِ السَّادِسَةُ عَقَارِبُ جَهَنَّمَ، وَفِي السَّابِعَةِ إِبْلِيسُ مُوثَقٌ يَدٌ أَمَامَهُ وَيَدٌ خَلْفَهُ وَرَجُلٌ أَمَامَهُ وَرَجُلٌ خَلْفَهُ فَتَأْتِيهِ جُنُودُهُ بِالأَخْبَارِ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْجِنُّ فَهُمْ ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ: جَانٌّ وَجِنٌّ وَشَيَاطِينُ. وَكُلُّهُمْ خُلِقُوا قَبْلَ آدَمَ. وَفِي الْجَانِّ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَبُو الْجِنِّ. رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ. وَالْمَارِجُ: لِسَانُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ فِي طَرَفِها إِذَا الْتَهَبَتْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَانَّ هُوَ إِبْلِيسُ. قَالَهُ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجَانَّ مَسِيخُ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ مَسِيخُ الإِنْسِ. رَوَاهُ

الكلام على البسملة

عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَهُوَ كُلُّ مُتَجَبِّرٍ عَاتٍ مِنَ الْجِنِّ، وَكَذَلِكَ الْمَارِدُ وَالْعِفْرِيتُ. وَفِي إِبْلِيسَ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلائِكَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ مِنَ الجن. قال مجاهد: لإبليس خمسة أولاد: نبر والأعور ومسوط وداسم وزلنبور. فأما نبر فَهُوَ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ يَأْمُرُ بِشَقِّ الْجُيُوبِ وَلَطْمِ الْخُدُودِ، وَأَمَّا الأَعْوَرُ فَيَأْمُرُ بِالزِّنَا، وَمِسْوَطٌ صَاحِبُ الْكَذِبِ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيُخْبِرُهُ بِالشَّيْءِ فَيَتَحَدَّثُ الرَّجُلُ بِهِ، وَدَاسِمٌ يُوقِعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ، وَزَلَنْبُورٌ يَرْكُزُ رَايَتَهُ فِي السُّوقِ وَيُوقِعُ بَيْنَهُمْ. الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (أَضْحَكَ سِنَّكَ بُعْدُ الأَمَلِ ... وَلَمْ يَبْكِ عَيْنُكَ قُرْبَ الأَجَلْ) (كَأَنَّكَ لَمْ تَرَ حَيًّا يُسَاقُ ... وَلَمْ تَرَ مَيِّتًا عَلَى مُغْتَسَلْ) قُلْ لِلَّذِينَ غَفِلُوا وَلَعِبُوا كَأَنَّهُمْ قَدْ تَعِبُوا، مَا لَهُمْ عِبْرَةٌ فِي الَّذِينَ ذَهَبُوا، أَمَا الْكَأْسُ بِيَدِ السَّاقِي وَمِنْهُ شَرِبُوا. (سَيْرُ اللَّيَالِي إِلَى أَعْمَارِنَا خَبَبٌ ... فَمَا تَبِينُ وَلا يَعْتَاقُهَا نَصَبُ) (كَيْفَ النَّجَاءُ وَأَيْدِيهَا مُصَمِّمَةٌ ... بِذَبْحِنَا بِمُدًى لَيْسَتْ لَهَا نُصَبُ) (وَهَلْ يُؤَمِّلْ نَيْلَ الشَّمْلِ مُلْتَئِمًا ... سَفَرٌ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ رِحْلَةٌ عَجَبُ) (وَمَا إِقَامَتُنَا فِي مَنْزِلٍ هَتَفَتْ ... فِيهِ بِنَا مُذْ سَكَنَّا رَبْعُهُ نُوَبُ) (وَآذَنَتْنَا وَقَدْ تَمَّتْ عِمَارَتُهُ ... بِأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ دَاثِرٍ خَرِبُ) (أَزْرَتْ بِنَّا هَذِهِ الدُّنْيَا فَمَا أَمَلٌ ... إِلا لِرَيْبِ الْمَنَايَا عِنْدَهُ أَرِبُ) (لَيْسَتْ سِهَامُ الْمَوْتِ طَائِشَةً ... وهل تطيش سهام كله نُصُبُ) (وَنَحْنُ أَغْرَاضُ أَنْوَاعِ الْبَلاءِ بِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ فَمَرْمِيٌّ وَمُرْتَقَبُ) (أَيْنَ الَّذِينَ تَنَاهَوْا فِي ابْتِنَائِهِمُ ... صَاحَتْ بِهِمْ نَائِبَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا) انْتَبِهُوا يَا نِيَامُ، افْهَمُوا هَذَا الْكَلامَ، قَدْ بَقِيَتْ لَكُمْ أَيَّامٌ، هَذَا عُودُ الْحَيَاةِ قَدْ

يَبِسَ، وَنُورُ الشَّبَابِ بِالشَّيْبِ مُنْطَمِسٌ، وَلِسَانُ الْفَرَحِ بِالتَّرَحِ قَدْ خَرِسَ، وَسَوَاءٌ فِي الْمَوْتِ الْمُهْمِلُ وَالْمُحْتَرِسُ، وَلا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ اللَّيِّنِ وَالشَّرِسِ. إِخْوَانِي: كَمْ رَأَيْتُمْ مِنْ قَبْرٍ مُنْدَرِسٍ، إِخْوَانِي: كَمْ تُلِيَ عَلَيْكُمْ زَجْرٌ وَدَرْسٌ. إِخْوَانِي: كَأَنَّكُمْ فِي كَفِّ الْمُخْتَلِسِ، إِنَّمَا هُوَ نَفَسٌ مُنْطَلِقٌ وَكَأَنْ قَدْ حُبِسَ، تُرَى مَتَى يَنْقَى هَذَا الْقَلْبُ الدَّنِسُ، إِلَى كَمْ ذَا الْمَرِيضُ كُلَّ يَوْمٍ يَنْتَكِسُ، إِنَّمَا أَنْتَ بَقِيَّةُ الرَّاحِلِينَ فَاعْتَبِرْ بِهِمْ وَقِسْ: (نَائِبَاتٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَنُوبُ ... وَخُطُوبٌ تَأْتِي وَتَمْضِي خُطُوبُ) (مَا عَجِيبٌ مَكْرُ الزَّمَانِ وَلَكِنْ ... ثِقَةُ النَّفْسِ بِالزَّمَانِ عَجِيبُ) (كَمْ دَعَتْنِي إِلَى زَخَارِفِهَا الدُّنْيَا ... فَنَادَتْ مِنِّي الَّذِي لا يُجِيبُ) (وَمَتَى سَامَحَتْ خَلِيلا بِحَظٍّ ... خَالَفَتْهَا فَاسْتَرْجَعَتْهُ الْخُطُوبُ) (كَمْ إِلَى كَمْ نَذُودُ عَنْهَا وَنَنْهَى ... غَيْرَ أَنَّ الْقُلُوبَ مَا تَسْتَجِيبُ) (وَصَلاحُ الأَجْسَامِ سَهْلٌ وَلَكِنْ ... فِي صَلاحِ الْقُلُوبِ يُعْيَى الطَّبِيبُ) الدُّنْيَا بَحْرٌ عُجَاجٌ، لَيْسَ رَاكِبُهُ بِنَاجٍ، الدُّنْيَا كَظُلْمَةِ لَيْلٍ دَاجٍ، لَيْسَ فِيهَا إِلا الزُّهْدُ سِرَاجٌ، هُدُوءُهَا انْزِعَاجٌ وَسُكُونُهَا اخْتِلاجٌ، ضَيِّقَةُ الْفِجَاجِ كَدِرَةُ الْمِزَاجِ، لا تَغُرَّنَّكَ وَلَوْ أَلْبَسَتْكَ التَّاجَ، وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ حَمَلَ فِي الْوَحْلِ الزُّجَاجَ، تُرِيكَ السَّلامَةَ تَغْرِيرًا وَتَمْوِيهًا، وَتُظْهِرُ الْمَحَاسِنَ وَالْقَبَائِحَ وَتُخْفِيهَا، تُبِينُ كُلُّ كَفٍّ كَانَتْ تَبْنِيهَا، مَا تَعْتَذِرُ إِلَى جَرِيحِهَا كِبْرًا وَتِيهًا: (هِيَ الدُّنْيَا فَلا يَغْرُرْكَ مِنْهَا ... زَخَارِفُ تَسْتَغِرُّ ذَوِي الْعُقُولِ) (أَقَلُّ قَلِيلِهَا يَكْفِيكَ مِنْهَا ... وَلَكِنْ لَيْسَ تَقْنَعُ بِالْقَلِيلِ) مِحَنُ الدُّنْيَا وَلَذَّاتُهَا أُنْمُوذَجُ مَا فِي الآخِرَةِ، فَلَوْ أَصْغَى سَمْعُ الْقَلْبِ فَهِمَ. لَمَّا أُهْدِيَتْ مُعَاذَةُ الْعَدَوِيَّةُ إِلَى صِلَةَ بْنِ أَشْيَمَ أَدْخَلَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَمَّامَ ثُمَّ أَدْخَلَهُ بَيْتًا مُطَيَّبًا فَقَامَ يُصَلِّي حَتَّى بَرِقَ الْفَجْرُ، فَقَامَتْ فَصَلَّتْ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا عَمُّ أُهْدِيَتْ إِلَيْكَ ابْنَةُ عَمِّكَ فَقُمْتَ تُصَلِّي؟! فَقَالَ يا بن أَخِي أَدْخَلْتَنِي أَمْسِ بَيْتًا أَذْكَرْتَنِي بِهِ النَّارَ، ثُمَّ أَدْخَلْتَنِي اللَّيْلَةَ بَيْتًا أَذْكَرْتَنِي بِهِ الْجَنَّةَ، فما زال فكري

فيهما إلى الصباح! يا أيها الرَّاحِلُ وَمَا لَهُ رَوَاحِلُ، يَكْفِي فِي الْوَعْظِ أَرْبَعُونَ كَوَامِلَ، كُلُّهُنَّ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ عَوَاطِلُ، مَتَى تَسْمَعُ قَوْلَ الْعَاذِلِ، مَتَى تُؤْثِرُ الْمُكَاتَبَاتِ بِالرَّسَائِلِ، أَمَا أَنْتَ فِي صَفِّ الْحَرْبِ تُقَاتِلُ، هَذَا الْعَدُوُّ يَنْصُبُ الْحَبَائِلَ قَدْ فُوِّقَ السَّهْمُ وَأَمَّ الْمُقَاتِلُ، إِلَى مَتَى تَرْضَى بِاسْمِ جَاهِلٍ، إِلَى مَتَى تُؤْثِرُ لَقَبَ غَافِلٍ، كَمْ تَعِدُ بِالتَّوْبَةِ وَكَمْ تُمَاطِلُ، أَيْنَ قَلْبُكَ؟ قَلَبَكَ عَلَى مَرَاحِلَ. كَمْ أَسْمَعَكَ الْمَوْتُ وَعِيدَكَ، فَلَمْ تَنْتَبِهْ حَتَّى قَطَعَ وَرِيدَكَ، وَنَقَضَ مَنْزِلَكَ وَهَدَمَ مَشِيدَكَ، وَمَزَّقَ مَالَكَ وَفَرَّقَ عَبِيدَكَ، وَأَخْلَى دَارَكَ وَمَلأَ بِيدَكَ، أَمَا رَأَيْتَ قَرِينَكَ؟ أَمَا أَبْصَرْتَ فَقِيدَكَ، يا ميتا عن قليل ممهد تَمْهِيدَكَ، وَانْظُرْ لِنَفْسِكَ مُجْتَهِدًا وَحَقِّقْ تَجْوِيدَكَ، لَقَدْ أَمْرَضَكَ الْهَوَى وَفِي عَزْمِهِ أَنْ يَزِيدَكَ، يَا عَجَبًا لِلْجَاهِلِ الْمَغْرُورِ كَيْفَ يَشْتَغِلُ بِعِمَارَةِ الدُّورِ، قَدْ بَعَثَ الْمَوْتُ لِلرَّحِيلِ الْمَنْشُورَ، السِّقَامُ أَقْلامُهُ وَاللُّحُودُ السُّطُورُ: (خُذْ مَا صَفَا لَكَ فَالْحَيَاةُ غُرُورٌ ... وَالْمَوْتُ آتٍ وَاللَّبِيبُ خَبِيرُ) (لا تَعْتِبَنَّ عَلَى الزَّمَانِ فَإِنَّهُ ... فَلَكٌ عَلَى قُطْبِ الْهَلاكِ يَدُورُ) (تَعْفُو السُّطُورُ إِذَا تَقَادَمَ عَهْدُهَا ... وَالْخَلْقُ فِي رِقِّ الْحَيَاةِ سُطُورُ) (كُلٌّ يَفِرُّ مِنَ الرَّدَى لِيَفُوتَهُ ... وَلَهُ إِلَى مَا فَرَّ مِنْهُ مَصِيرُ) (فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ فَالسَّلامَةُ نُهْزَةٌ ... وَزَمَانُهَا ضَافِي الجناح يطير) (مرآة عيشك بالشباب صَقِيلَةٌ ... وَجَنَاحُ عُمْرِكَ بِالْمَشِيبِ كَسِيرُ) (بَادِرْ فَإِنَّ الْوَقْتَ سَيْفٌ قَاطِعٌ ... وَالْعُمْرُ جَيْشٌ وَالشَّبَابُ أَمِيرُ) قَوْلُهُ تَعَالَى {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تَنْفَرِجُ السَّمَاءُ مِنَ الْمَجَرَّةِ لِنُزُولِ مَنْ فِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. {فَكَانَتْ

وردة كالدهان} . فِيهَا قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْفَرَسُ الْوَرْدَةُ تَكُونُ السَّمَاءُ كَلَوْنِهَا. قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ وَالضَّحَّاكُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْفَرَسُ الْوَرْدَةُ تَكُونُ فِي الرَّبِيعِ إِلَى الصُّفْرَةِ فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ كَانَتْ حَمْرَاءَ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ إِلَى الْغُبْرَةِ. فَشُبِّهَ تَلَوُّنُ السَّمَاءِ بِتَلَوُّنِ الْوَرْدَةِ مِنَ الْخَيْلِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْكُمَيْتُ الْوَرْدُ يَتَلَوَّنُ، فَيَكُونُ لَوْنُهُ فِي الشِّتَاءِ خِلافَ لَوْنِهِ فِي الصَّيْفِ، وَلَوْنُهُ فِي الْفَصْلِ خِلافَ لَوْنِهِ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَالسَّمَاءُ تَتَلَوَّنُ مِنَ الْفَزَعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَرْدَةُ النَّبَاتِ وَقَدْ تَخْتَلِفُ أَلْوَانُهَا إِلا أَنَّ الأَغْلَبَ عَلَيْهَا الْحُمْرَةُ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَفِي الدِّهَانِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَاحِدُ الأَدِيمِ الأَحْمَرِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعُ دُهْنٍ، وَالدُّهْنُ تَخْتَلِفُ أَلْوَانُهُ بِخُضْرَةٍ وَحُمْرَةٍ وَصُفْرَةٍ. حَكَاهُ الْيَزِيدِيُّ، وَإِلَى نَحْوِهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: شَبَّهَ تَلَوُّنَ السَّمَاءِ بِتَلَوُّنِ الْوَرْدَةِ مِنَ الْخَيْلِ، وَشَبَّهَ الْوَرْدَةَ فِي اخْتِلافِ أَلْوَانِهَا بِالدُّهْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لا يُسْأَلُونَ لِيُعْلَمَ حَالُهُمْ، لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي: لا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ حَالِهِ لاشْتِغَالِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ. وَالْقَوْلانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: لا يُسْأَلُونَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ لأَنَّهُمْ يُعْرَفُونَ بِسِيمَاهُمْ فَالْكَافِرُ أَسْوَدُ الْوَجْهِ وَالْمُؤْمِنُ أَغَرُّ مُحَجَّلٌ مِنْ أَثَرِ وُضُوئِهِ. قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الزجاج لا يسأل عن ذنبه بسيفهم وَلَكِنَّهُ يُسْأَلُ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} قَالَ الْحَسَنُ: بِسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقِ الأَعْيُنِ {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ تَجْمَعُ بَيْنَ نَوَاصِيهِمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ ثُمَّ يَدْفَعُونَهُمْ عَلَى

وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ. قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَالثَّانِي: يُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ يُسْحَبُونَ إِلَى النَّارِ. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَرَوَى مَرْدُوَيْهِ الصَّائِغُ قَالَ: صَلَّى بِنَا الإِمَامُ صَلاةَ الصُّبْحِ فَقَرَأَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ وَمَعَنَا عَلِيُّ ابن الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فَلَمَّا قَرَأَ {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بسيماهم} خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغْنَا مِنَ الصَّلاةِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قُلْنَا لَهُ أَمَا سَمِعْتَ الإِمَامَ يَقْرَأُ: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} فقال شغلني عنها: {يعرف المجرمون بسيماهم} . قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ عَزَّ وجل: {يطوفون بينها وبين حميم آن} الْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ. وَالآنِي: الَّذِي قَدِ انْتَهَتْ شِدَّةُ حَرِّهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ بَيْنَ عَذَابِ الْجَحِيمِ وَبَيْنَ الْحَمِيمِ إِذَا اسْتَغَاثُوا مِنَ النَّارِ جَعَلَ غِيَاثَهُمُ الْحَمِيمَ الشَّدِيدَ الْحَرَارَةِ. عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحمم حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ حَتَّى يَمْرُقَ مِنْ قَدَمَيْهِ ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ ". قَوْلُهُ عَزَّ وجل {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وَفِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: قِيَامُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَوْمَ الْجَزَاءِ. وَالثَّانِي: قِيَامُ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ بِإِحْصَاءِ مَا اكْتَسَبَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَلِمَنْ خَافَ مقام ربه جنتان} وَهُوَ الَّذِي إِذَا هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ ذَكَرَ مَقَامَ رَبِّهِ عَلَيْهِ فِيهَا فَانْتَهَى. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلسَّابِقِينَ وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِلتَّابِعِينَ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَابٌّ يُلازِمُ الْمَسْجِدَ وَالْعِبَادَةَ، فَعَشِقَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَتَتْهُ فِي خَلْوَةٍ فَكَلَّمَتْهُ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ فَشَهَقَ شَهْقَةً فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَجَاءَ عَمٌّ لَهُ فَحَمَلَهُ إِلَى بَيْتِهِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: يَا

عَمِّ انْطَلِقْ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلامَ وَقُلْ لَهُ: مَا جَزَاءُ من خاف مقام ربه؟ فانطلق عمر فَأَخْبَرَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ شَهَقَ فَمَاتَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَقَالَ: لَكَ جَنَّتَانِ. عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ". أَخْرَجَاهُ في الصحيحين. وقال يحيى ابن أبي كثير: لا يحمد ورع امرىء حَتَّى يَشْفِيَ عَلَى طَمَعٍ وَيَقْدِرَ عَلَيْهِ فَيَتْرُكَهُ حِينَ تَرَكَهُ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. آهٍ مِنْ نَفْسٍ مَا يَقِرُّ قَرَارُهَا، طَلَعَتْ شَمْسُ الشَّيْبِ وَمَا خَبَتْ نَارُهَا، مَا لاحَتْ لَهَا شَهْوَةٌ إِلا قَلَّ اصْطِبَارُهَا، مَا بَانَتْ لَهَا مَوْعِظَةٌ فَبَانَ اعْتِبَارُهَا، كَمْ وَعَظَهَا لَيْلَهَا وَنَهَرَهَا نَهَارَهَا، الذَّنْبُ لِبَاسُهَا وَالْجَهْلُ شِعَارُهَا، كَمْ نُكْثِرُ النَّصَائِحَ وَمَا تَقِلُّ أَوْزَارُهَا، كَمْ تُقَوَّمُ وَمَا يَصْلُحُ ازْوِرَارُهَا، كَمْ تَلاءَمُ لُطْفًا وَمَا يَرْعَوِي نِفَارُهَا، كُلَّمَا جَذَبَهَا أَمَلُهَا زَادَ اغْتِرَارُهَا، إِلَى كَمْ مَعَ الْمَعَاصِي أَمَا يُلْزِمُهَا عَارُهَا، أَسَاءَ تَدْبِيرَهَا أَمْ قُبِّحَ اخْتِيَارُهَا، مَنْ يَأْخُذُ بِيَدِهَا إِذَا طَالَ عِثَارُهَا. إِنَّ النَّفْسَ إِذَا أُطْمِعَتْ طَمِعَتْ، وَإِذَا أُقْنِعَتْ بِالْيَسِيرِ قَنَعَتْ، فَإِذَا أَرَدْتَ صَلاحَ مَرَضِهَا فَبِتَرْكِ غَرَضِهَا، احْبِسْ لِسَانَهَا عَنْ فُضُولِ كَلِمَاتِهَا، وَغُضَّ طَرْفَهَا عَنْ مُحَرَّمِ نَظَرَاتِهَا، وَكُفَّ كَفَّهَا عَنْ مُؤْذِي شَهَوَاتِهَا إِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْعَى لَهَا فِي نَجَاتِهَا. إِخْوَانِي: عَلامَةُ الاسْتِدْرَاجِ الْعَمَى عَنْ عُيُوبِ النَّفْسِ، مَا مَلَكَهَا عَبْدٌ إِلا عَزَّ وَمَا مَلَكَتْ عَبْدًا إِلا ذَلَّ:

(الْحِرْصُ فِي كُلِّ الأَفَانِينِ يَصِمْ ... أَمَا رَأَيْتَ كُلَّ ظَهْرٍ يَنْقَصِمْ) (وَعُرْوَةٌ مِنْ كُلِّ حَيٍّ تَنْفَصِمْ ... أَمَا سَمِعْتَ الْحَادِثَاتِ تَخْتَصِمْ) (بَلْ حُبُّكَ الأَشْيَاءِ يُعْمِي وَيُصِمّ ... ) قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي إِنِّي لأُهِمُّ بِعَذَابِ أَهْلِ الأَرْضِ فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى أَهْلِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ مِنْ مَخَافَتِي صَرَفْتُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: الذِّكْرُ ذِكْرَانِ: ذِكْرٌ بِاللِّسَانِ وَأَفْضَلُ مِنْهُ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ مَا يُشْرِفُ عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ. عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَ الْكِفْلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ أُرْعِدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: هَذَا عَمَلٌ لَمْ أَعْمَلْهُ قَطُّ. فَقَالَ اذْهَبِي وَالدَّنَانِيرُ لَكِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لا يَعْصِي اللَّهَ الْكِفْلُ أَبَدًا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ: قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِلْكِفْلِ. يَا مَنْ لا يَتْرُكُ ذَنْبًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، يَا مَنْ أَكْثَرُ عَمَلِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ، كَمْ ضَيَّعْتَ فِي الْمَعَاصِي عَصْرًا، كَمْ حَمَلْتَ عَلَى الأَزْرِ مِنَ الْوِزْرِ أُزُرًا، أَتَرْضَى أَنْ تُمْلأَ الصَّحَائِفُ عَيْبًا وَخُسْرًا، أَمَا يَكْفِي سَلْبُ الْقَرِينِ وَعْظًا وَزَجْرًا، لَقَدْ ضَيَّعْتَ شَطْرًا مِنَ الزَّمَانِ فَاحْفَظْ شَطْرًا، مَا أَبْقَتْ لَكَ الصِّحَّةُ حُجَّةً وَلا تَرَكَتْ عُذْرًا، كَمْ نِعْمَةٍ نَزَلَتْ بِكَ وَمَا قَرَنْتَهَا شُكْرًا، تُقَابِلُهَا بِالْمَعَاصِي فَتُبَدِّلُ الْعِرْفَ نُكْرًا، كَمْ سَتَرَكَ عَلَى الْخَطَايَا وَأَنْتَ لا تُقْلِعُ دَهْرًا، كَمْ نِمْتَ عَنْ صَلاةٍ وَكَمْ شَرِبْتَ خَمْرًا، كَانَ الشَّيْبُ هِلالا وَقَدْ صَارَ بَدْرًا، تُعَاهِدُ وَلا تَفِي إِلَى كَمْ غَدْرًا، أَطَالَ عَلَيْكَ الأَمَدُ فَصَارَ الْقَلْبُ صَخْرًا؟ إِنَّمَا بَقِيَ الْقَلِيلُ فَصَبْرًا يَا نَفْسُ صَبْرًا. (صِبَا مَنْ شَابَ مَفْرِقُهُ تَصَابِي ... وَإِنْ طَلَبَ الصِّبَا وَالْقَلْبُ صَابِي) (أَعَاذِلُ رَاضَنِي لَكَ شَيْبُ رَأْسِي ... وَلَوْلا ذَاكَ أَعْيَاكَ اقْتِضَابِي)

سجع

(كَفَى بِالشَّيْبِ مِنْ نَاهٍ مُطَاعٍ ... عَلَى كَرْهٍ وَمِنْ دَاعٍ مُجَابِ) (حَطَطْتُ إِلَى النُّهَى رَحْلِي وَكَلَّتْ ... مَطِيَّةُ بَاطِلِي بَعْدَ الْهِبَابِ) (وَقُلْتُ مُسَلِّمًا لِلشَّيْبِ أَهْلا ... بِهَادِي الْمُخْطِئِينَ إِلَى الصَّوَابِ) (يُذَكِّرُنِي الشباب وميض برق ... وسجع حَمَامَةٍ وَحَنِينُ نَابِ) (أَأُفْجَعُ بِالشَّبَابِ وَلا أُعَزَّى ... لَقَدْ غَفَلَ الْمُعَزِّي عَنْ مُصَابِي) سَجْعٌ يَا دَائِمَ الْخَطَايَا وَالْعِصْيَانِ، يَا شَدِيدَ الْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ، رَبِحَ الْمُتَّقُونَ وَلَكَ الْخُسْرَانُ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ ربه جنتان} . يَا مُعْتَكِفًا عَلَى زَلَلِهِ وَذَنْبِهِ، لا يُؤْثَرُ عِنْدَهُ أَلِيمُ عُتْبِهِ، أَمَا الْمُصِرُّ فَقَدْ طُمِسَ عَلَى قَلْبِهِ فَلا يَنْفَعُهُ وَعْظُ اللِّسَانِ {وَلِمَنْ خاف مقام ربه جنتان} . كَمْ خُوِّفْتَ وَمَا تَخَافُ، يَا مَنْ إِذَا أُمِرَ بِالْعَدْلِ حَافَ، الْوَيْلُ لَكَ يَا صَاحِبَ الإسراف {ولمن خاف مقام ربه جنتان} . لَوْ رَأَيْتَ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْعِنَادِ وَأَرْبَابَ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} {ولمن خاف مقام ربه جنتان} . قَدْ سُدَّتْ فِي وُجُوهِهِمُ الأَبْوَابُ وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ رَبُّ الأَرْبَابِ، وَالنَّارُ شَدِيدَةُ الالْتِهَابِ وَالْعَذَابُ فِيهَا ألوان {ولمن خاف مقام ربه جنتان} أَعْرَضَ عَنْهُمُ الرَّحِيمُ وَمَنَعَهُمْ خَيْرَهُ الْكَرِيمُ، وَيَتَقَلَّبُونَ في الجحيم {يطوفون بينهما وبين حميم آن} سَعِيرُهُمْ قَدْ أَحْرَقَ، وَزَمْهَرِيرُهُمْ قَدْ مَزَّقَ، وَنُورُ الْمُتَّقِينَ قَدْ أَشْرَقَ، {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا من إستبرق وجنى الجنتين دان} . سَارَتْ بِهِمْ إِلَى الْجِدِّ الْمَطَايَا، فَأَجْزَلَتْ لَهُمْ جَزِيلَ الْعَطَايَا وَلأَرْبَابِ الْخَطَايَا النِّيرَانُ. مَنَّ عَلَيْهِمْ بِنَعِيمِ مَا مُنَّ، لا يَخْطُرُ لِمَنْ يَتَوَهَّمُ وَيَظُنُّ، وَقَدْ كَفَانَا صِفَةَ الْحُورِ مَنْ وَصَفَهُنَّ {كأنهن الياقوت والمرجان} .

أَيُّهَا الْعَاصِي قَدِ اجْتَهَدْنَا فِي صَلاحِكَ، وَعَرَضْنَا فِي التِّجَارَةِ لأَرْبَاحِكَ، وَأَنْتَ عَلَى الْمَعَاصِي فِي مسائك وصباحك، وبعد فما نيأس مِنْ فَلاحِكَ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ولمن خاف مقام ربه جنتان} .

الطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَضَائِلِ الْعِلْمِ وَالْمُعَامَلاتِ فيها ثمانية وعشرون مجلساً

المجلس الأول في فضائل العلم والعمل

الْمَجْلِسُ الأَوَّلُ فِي فَضَائِلِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي بِيَدِهِ الإِيجَادُ وَالإِنْشَاءُ، وَالإِمَاتَةُ وَالإِحْيَاءُ، وَالإِعَادَةُ وَالإِبْدَاءُ، وَالإِنْعَامُ وَالآلاءُ، وَالرُّخْصُ وَالْغَلاءُ، وَالْحَظُّ وَالْعَلاءُ، وَالْعَافِيَةُ وَالْبَلاءُ، وَالدَّاءُ وَالدَّوَاءُ، خَلَقَ آدَمَ وَخُلِقَتْ لأَجْلِهِ الأَشْيَاءُ، فَمَنْ جَرَّاهُ كَانَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، وَالظُّلُمَاتُ وَالأَضْوَاءُ، وَالصَّبَاحُ وَالْمَسَاءُ، وَالرِّيحُ وَالْمَاءُ، وَعَلَّمَهُ الْعِلْمَ فَانْجَلَتْ عَنْهُ الظَّلْمَاءُ، وَعَرَّفَهُ خَطَّ الْخَطِّ فَجَاءَ الْهِجَاءُ: الأَلِفُ وَالْبَاءُ، وَالتَّاءُ وَالثَّاءُ، وَالْجِيمُ وَالْحَاءُ، وَالْخَاءُ وَالدَّالُ وَالذَّالُ وَالرَّاءُ، وَالزَّايُ وَالسِّينُ وَالشِّينُ وَالصَّادُ وَالضَّادُ وَالطَّاءُ، وَالظَّاءُ وَالْعَيْنُ وَالْغَيْنُ وَالْفَاءُ، وَالْقَافُ وَالْكَافُ وَاللامُ وَالْمِيمُ وَالنُّونُ وَالْهَاءُ، وَالْوَاوُ وَلامُ الأَلِفِ وَالْيَاءُ. وَبَثَّ مِنْ نَسْلِهِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، فَمِنْهُمُ الْعَالِمُ الذَّاكِرُ وَمِنْهُمُ الْجَاهِلُ النَّسَّاءُ، وَأَكْثَرُهُمُ الْغَافِلُونَ وَأَقَلُّهُمُ الأَلِبَّاءُ، وَلَيْسَتْ زَرْقَاءُ الْيَمَامَةِ كَالأَعْشَى، وَلا النَّهَارُ كَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . أَحْمَدُهُ لَهُ بِتَوْفِيقِي لِحَمْدِهِ الآلاءَ، وَأُقِرُّ بِأَنَّهُ مَالِكُ الْمُلْكِ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ رَاكِبٍ حَوَتْهُ الْبَيْدَاءُ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مُصَاحِبِهِ إِنْ وَقَعَتِ الشِّدَّةُ أَوِ الرَّخَاءُ، وَعَلَى عُمَرَ الْفَارُوقِ الَّذِي دَوَّخَ الْكُفْرَ فَذَلَّتْ لَهُ الأَعْدَاءُ، وَعَلَى عُثْمَانَ الصَّابِرِ وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْبَلاءُ، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي حَصَلَ لَهُ دُونَ الْكُلِّ الإِخَاءُ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي سَأَلَتِ الصَّحَابَةُ بِهِ الْغَيْثَ فَسَالَتِ السَّمَاءُ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ ". وَهَذَا الْمَثَلُ مِنْ أَوْقَعِ الْمِثَالِ، لأَنَّ طُرُقَ التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ بِالآخِرَةِ لا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ، وَالْعُلَمَاءُ هُمُ الأَدِلاءُ فَإِذَا فُقِدُوا ضَلَّ السَّالِكُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لم يبق عالم اتخذ العباد رؤوسا جُهَّالا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِمَا يَطْلُبُ ". وَذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعْنَى وَضْعِهَا أَجْنِحَتَهَا ثَلاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا بَسْطُ الأَجْنِحَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّوَاضُعَ لِطَالِبِ الْعِلْمِ. وَالثَّالِثُ: النُّزُولُ عِنْدَ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَتَرْكُ الطَّيَرَانِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا مِنْ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى إِلا حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلائِكَةُ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ عليه السلام: " وَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ". وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ سَلَكَ طِرَيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بحظ وافر ".

وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ للَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ، وَهُوَ الأُنْسُ فِي الْوَحْدَةِ وَالصَّاحِبُ فِي الْخَلْوَةِ. وَقَالَ كَعْبٌ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: أَنْ تَعَلَّمْ يَا مُوسَى الْخَيْرَ وَعَلِّمْهُ لِلنَّاسِ فَإِنِّي مُنَوِّرٌ لِمُعَلِّمِ الْخَيْرِ وَمُتَعَلِّمِهِ فِي قُبُورِهِمْ حَتَّى لا يَسْتَوْحِشُوا فِي مَكَانِهِمْ. وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: مَنْ تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ وَعَمِلَ فَذَلِكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: خُيِّرَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالْمُلْكِ، فَاخْتَارَ الْعِلْمَ فَأُعْطِيَ الْمَالَ وَالْمُلْكَ مَعَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَيْتَ شِعْرِي أَيُّ شَيْءٍ أَدْرَكَ مَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ فَاتَ مَنْ أَدْرَكَ الْعِلْمَ. وَلا يَخْفَى فَضْلُ الْعِلْمِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، لأَنَّهُ الْوَسِيلَةُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ وَسَبَبُ الْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ الدَّائِمِ، وَلا يُعْرَفُ التَّقَرُّبُ إِلَى الْمَعْبُودِ إِلا بِهِ، فَهُوَ سَبَبٌ لِمَصَالِحِ الدَّارَيْنِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَوْلا الْعُلَمَاءُ لَصَارَ النَّاسُ مِثْلَ الْبَهَائِمِ. وَقَالَ الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ: كِتَابَةُ حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ. وَكَيْفَ لا يَقُولُ هَذَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يُوزَنُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ مَعَ دَمِ الشُّهَدَاءِ فَيَرْجَحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَمِ الشُّهَدَاءِ ". وَمِنْ آدَابِ الْعَالِمِ: أَنْ يَتْرُكَ فُضُولَ الدُّنْيَا لِيَتَّبِعَهُ النَّاسُ، فَإِنَّ الاسْتِدْلالَ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنَ الاسْتِدْلالِ بِالْقَوْلِ، فَإِنَّ الطَّبِيبَ إِذَا أَمَرَّ الْحِمْيَةَ ثُمَّ خَلَطَ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى قَوْلِهِ. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هَمَّامٍ الْكَلاعِيِّ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ مَرَّ

بِبَعْضِ الْقُرَّاءِ عَلَى بَعْضِ أَبْوَابِ السَّلاطِينِ فَقَالَ: أَقْرَحْتُمْ جِبَاهَكُمْ وَفَرْطَحْتُمْ نِعَالَكُمْ وَجِئْتُمْ بِالْعِلْمِ تَحْمِلُونَهُ عَلَى رِقَابِكُمْ إِلَى أَبْوَابِهِمْ فَزَهَدُوا فِيكُمْ؟ أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ جَلَسْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يُرْسِلُونَ إِلَيْكُمْ لَكَانَ أَعْظَمَ لَكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ، تَفَرَّقُوا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ أَعْضَائِكُمْ! وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الزَّبَانِيَةَ إِلَى فَسَقَةِ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ أَسْرَعُ مِنْهُمْ إِلَى عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَالُنَا يَتَقَدَّمُونَ إِلَيْنَا؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لا يَعْلَمُ! أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ بِسَنَدِهِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ وَمَنْ تَفَقَّهَ نَبُلَ قَدْرُهُ، وَمَنْ كَتَبَ الْحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ اللُّغَةَ رَقَّ طَبْعُهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْحِسَابَ جَزِلَ رَأْيُهُ، وَمَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ. سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَطَاءٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا نَصْرٍ الْحَوَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَاتِمٍ الرَّازِيَّ يَقُولُ بِسَنَدِهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى يَقُولُ، سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: كَتَبَ حَكِيمٌ إِلَى حَكِيمٍ: يَا أَخِي قَدْ أُوتِيتُ عِلْمًا فَلا تُدَنِّسْ عِلْمَكَ بِظُلْمَةِ الذُّنُوبِ فَتَبْقَى فِي الظُّلْمَةِ يَوْمَ يَسْعَى أَهْلُ الْعِلْمِ بِنُورِ عِلْمِهِمْ. والمأخوذ على العلم: أَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ لِلْعَمَلِ بِهِ. فَفِي الْحَدِيثِ " مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ يُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ". وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى فِيهِ يوم القيامة ثلاثة، فذكر منهم وجلا تعلم العلم وعلمهه وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عَمِلْتَ! فَيَقُولُ: تعلت فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ الْقُرآنَ. فَيُقَالُ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ هُوَ عَالِمٌ فَقَدْ قِيلَ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ وَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ".

الكلام على البسملة

أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِمَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إسماعيل ابن تَوْبَةَ. يَقُولُ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الآدَمِيَّ الْقَارِئَ فِي النَّوْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ يَمُدُّ يَدَهُ فَقُلْتُ له: تلك الليالي والمواقف والقرآن؟ فقاليلي: مَا كَانَ شَيْءٌ أَضَرَّ عَلَيَّ مِنْهَا لأَنَّهَا كَانَتْ لِلدُّنْيَا. فَقُلْتُ لَهُ: فَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ انْتَهَى أَمْرُكَ؟ قَالَ: قَالَ لِي تَعَالَى: آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لا أُعَذِّبَ أَبْنَاءَ الثَّمَانِينَ. الكلام على البسملة (تبنى وتجمع وَالآثَارُ تَنْدَرِسُ ... وَنَأْمُلُ اللُّبْثَ وَالأَرْوَاحُ تُخْتَلَسُ) (ذَا اللُّبِّ فَكِّرْ فَمَا فِي الْخُلْدِ مِنْ طَبَعٍ ... لا بد ما بنتهى أَمْرٌ وَيَنْعَكِسُ) (أَيْنَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَمَنْ ... كَانُوا إِذَا النَّاسُ قَامُوا هَيْبَةً جَلَسُوا) (وَمَنْ سُيُوفُهُمْ فِي كُلِّ مَعْرَكَةٍ ... تُخْشَى وَدُونَهُمُ الْحِجَابُ وَالْحَرَسُ) (أَضْحَوْا بِمَهْلَكَةٍ فِي وَسْطِ مَعْرَكَةٍ ... صَرْعَى وَمَاشِي الْوَرَى مِنْ فَوْقِهِمْ يَطِسُ) (وَعَمَّهُمْ حَدَثٌ وَضَمَّهُمْ جَدَثٌ ... بَاتُوا وَهُمْ جُثَثٌ فِي الرَّمْسِ قَدْ حُبِسُوا) (كَأَنَّهُمْ قَطُّ مَا كَانُوا وَمَا خُلِقُوا ... وَمَاتَ ذِكْرُهُمُ بَيْنَ الْوَرَى وَنُسُوا) (وَاللَّهِ لَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ مَا صَنَعَتْ ... يَدُ الْبِلَى بِهِمْ وَالدُّودُ يَفْتَرِسُ) (لَعَايَنْتَ مَنْظَرًا تَشْجَى النُّفُوسُ بِهِ ... وَأَبْصَرْتَ نُكْرًا مِنْ دُونِهِ النُّكْسُ) (مِنْ أَوْجُهٍ نَاظِرَاتٍ حَارَ نَاظِرُهَا ... فِي رَوْنَقِ الْحُسْنِ كَيْفَ تَنْطَمِسُ) (وَأَعْظَمُ بَالِيَاتٍ مَا بِهَا رَمَقٌ ... وَلَيْسَ تَبْقَى وَهَذَا وَهْيَ تُنْتَهَسُ) (وَأَلْسُنٌ نَاطِقَاتٌ زَانَهَا أَدَبٌ ... مَا شَأْنُهَا شَانَهَا بِالآفَةِ الْخَرَسُ) (نُكْسُهُمْ أَلْسُنٌ لِلدَّهْرِ فَاغِرَةٌ ... فَاهًا فَآهًا لَهُمْ إِذْ بِالرَّدَى وُكِسُوا) (عُرُّوا عَنِ الْوَشْيِ لَمَّا أُلْبِسُوا حُلَلا ... مِنَ الرَّغَامِ عَلَى أَجْسَادِهِمْ وَكُسُوا) (وَصَارَ لُبْسُ الصَّفَايَا مِنْ خَلائِلِهِمْ ... جَوْنَ الثِّيَابِ وَقَدَمًا زَانَهُ الْوَرْسُ) (حَتَّامَ يَا ذَا النُّهَى لا تَرْعَوِي سَفَهًا ... وَدَمْعُ عَيْنَيْكَ لا يَهْمِي وَيَنْبَجِسُ) يَا غَافِلا عَنْ نَفْسِهِ أَمْرُكَ عَجِيبٌ، يَا قَتِيلَ الْهَوَى دَاؤُكَ غَرِيبٌ، يَا طَوِيلَ الأَمَلِ سَتُدْعَى فَتُجِيبُ، وَهَذا عَنْ قَلِيلٍ وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ، هَلا تَذَكَّرْتَ لَحْدَكَ

كَيْفَ تَبِيتُ وَحْدَكَ، وَيُبَاشِرُ الثَّرَى خَدَّكَ، وَتَقْتَسِمُ الدِّيدَانُ جِلْدَكَ، وَيَضْحَكُ الْمُحِبُّ بَعْدَكَ نَاسِيًا عَنْهُ بعدك، والأهل مذ وجدوا المال ما مَا وَجَدُوا فَقْدَكَ، إِلَى مَتَى وَحَتَّى مَتَى تَتْرُكَ رُشْدَكَ، أَمَا تُحْسِنُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَيْنَا قَصْدَكَ، الأَمْرُ جَدٌّ مُجِدٌّ فَلازِمٌ جِدُّكَ. (ذَهَبَ الأَحِبَّةُ بَعْدَ طُولِ تَوَدُّدٍ ... وَنَأَى الْمَزَارُ فَأَسْلَمُوكَ وَأَقْشَعُوا) (خَذَلُوكَ أَفْقَرَ مَا تَكُونُ لِغُرْبَةٍ ... لَمْ يُؤْنِسُوكَ وَكُرْبَةً لَمْ يَدْفَعُوا) (قُضِيَ الْقَضَاءُ وَصِرْتَ صَاحِبَ حُفْرَةٍ ... عَنْكَ الأَحِبَّةُ أَعْرَضُوا وَتَصَدَّعُوا) وَوُجِدَ عَلَى قَبْرٍ مَكْتُوبٌ: (سَيُعْرِضُ عَنْ ذِكْرِي وَتُنْسَى مَوَدَّتِي ... وَيُحْدَثُ بَعْدِي لِلْخَلِيلِ خَلِيلُ) (إِذَا انْقَطَعَتْ يَوْمًا مِنَ الْعَيْشِ مُدَّتِي ... فَإِنَّ غِنَاءَ الْبَاكِيَاتِ قَلِيلُ) إِلَى مَتَى هَذَا التَّخْلِيطُ وَالْمَوْتُ بِكُمْ مُحِيطٌ، أَيْنَ الأَخُ وَالْخَلِيطُ بَادَرَهُمَا مَوْتٌ نَشِيطٌ، كيف يلهوا هَذَا الشَّمِيطُ، وَلَهُ أَسَدٌ مُسْتَشِيطٌ، عَلَيْهِ وَسَخٌ وَمَا يُمِيطُ لا بَلْ دَمٌ عَبِيطٌ، يَا رُبَّمَا انْقَبَضَ النَّشِيطُ، تَيَقَّظْ فَكَمْ هَذَا الْغَطِيطُ، اقْبَلْ نُصْحِي وَاسْمَعْ مِنَ الْوَسِيطِ، يَا ذَا التَّحَرُّكِ فِي الْهَوَى لا بُدَّ لَهُ مِنْ سُكُونٍ، عَلَى هَذا كَانَتِ الدُّنْيَا وَعَلَيْهِ تَكُونُ، لا يَغُرَّنَّكَ سَهْلُهَا فَبَعْدَ السَّهْلِ حُزُونٌ، لا تَنْظُرْ إِلَى فَرْحِهَا فَكُلُّ فَرِحٍ مَحْزُونٌ، تَأَمَّلْ فِعْلَهَا بِغَيْرِكَ فَبُغْضُ الْمُقَبِّحِ يَهُونُ، إِنَّ رُوحَكَ دَيْنُ الْمَمَاتِ وَسَتُقْضَى الدُّيُونُ، مَا فَرَحُهَا مُسْتَتِمٌّ وَلا تَرَحُهَا مَأْمُونٌ، مَا أَضْحَكَتِ السِّنَّ إِلا وأبكت العيون، إياك وإيا المومس الخثون، إِنَّهَا لَدَارُ الْغُرُورِ وَمَنْزِلٌ لِلْمَنُونِ، كَمْ نَلُومُ عَلَى الْغَبْنِ وَمَا يَعْقِلُ الْمَغْبُونُ، مَهْلا أَضَعْتُمُ الْمَوَاعِظَ قَلْبُ هَذَا مَفْتُونٌ، يَا لائِمًا لِي فِي الْهَوَى مَاذَا هَوَى هَذَا جَنُونٌ. أَيُّهَا الْغَافِلُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ لا يَذْكُرُ الْمَوْتَ وَلا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، شَغَلَهُ عَنِ الْعَوَاقِبِ مَا لَدَيْهِ وَأَلْهَاهُ مَا لَهُ عَمَّا عَلَيْهِ: (يَا لِقَوْمِي لِلآمِلِ الْمَغْرُورِ ... وَلَجَاجٍ لا يَنْقَضِي فِي الصُّدُورِ) (وَلِنَفْسٍ مَخْدُوعَةٍ بِالأَمَانِي ... وَلَهُمْ مُوكَلٌ بِسُرُورِ)

(وَانْقِبَاضِ الْحَيَاةِ عَمَّا يُرَجِّيهِ ... الْفَتَى وَامْتِدَادِ حَبْلِ الْغُرُورِ) (يَلْتَحِيهِ الزَّمَانُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ... دَائِبًا كَالْتِحَاءِ غُصْنٍ نَضِيرِ) (يَتَمَنَّى فِي الْعَيْشِ مَا لَيْسَ يَلْقَاهُ ... وَيَنْسَى حَزْمَ الزَّمَانِ الْغَيُورِ) (وَلِعَيْنٍ غَفَتْ عَنِ الأَجَلِ الْيَقْظَانِ ... أَمْسَى بِهَا قَرِيبَ الْمَسِيرِ) (كُلَّ يَوْمٍ يَهِيضُ لِلْمَرْءِ عَظْمًا ... وَهُوَ يَسْطُو فِيهِ بِعَظْمٍ كَسِيرِ) (يَحْمِلُ الْمَوْتَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ إِذْ يَغْدُو ... وَيَخْشَاهُ مِنْ وَرَاءِ الثُّغُورِ) (كُلُّ نَفْسٍ فِي مُسْتَقَرٍّ عَلَيْهَا ... وَالِجٌ مِنْ حِمَامِهَا الْمَقْدُورِ) يَا مَنْ يَجُوبُ شَرْقَ الْهَوَى ثُمَّ يَقْطَعُ غَرْبَهُ، فَكَمْ لَهُ مِنْ طَلْعَةٍ فِي طَلَبِهِ وَغُرْبَةٍ، كَأَنَّهُ بِسَيْفِ الأَسَفِ قَدْ سَلَّ مِنْ جَفْنِهِ فَأَسَالَ مِنْ جَفْنِهِ غَرْبَهُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَسَنِ: لَيْتَ ابْنَ آدَمَ لَمْ يُخْلَقْ. فَقَالَ حَبِيبٌ الْعَجَمِيُّ: فَقَدْ وَقَعْتُمْ فَاحْتَالُوا! تَاللَّهِ مَا اهْتَمَّ بِالْخَلاصِ إِلا أَهْلُ التُّقَى وَالإِخْلاصِ، أَيَّامُهُمْ بِالصَّلاحِ زَاهِرَةٌ، وَدَوْلَتُهُمْ لِلْعَدُوِّ قَاهِرَةٌ، وَأَعْيَنُهُمْ فِي الدُّجَى سَاهِرَةٌ، يَخَافُونَ الْعَرْضَ عَلَى أَرْضِ السَّاهِرَةِ، وَالْعُقُولُ لِلنُّفُوسِ نَاهِيَةٌ آمِرَةٌ، وَأَخْلاقُ الثِّيَابِ عَلَى أَخْلاقِ طَاهِرَةٍ، وَالدُّنْيَا عَلَيْهِمْ وَالْقُلُوبُ صَابِرَةٌ، وَفِي الْجُمْلَةِ بَاعُوا الدُّنْيَا فَاشْتَرَوْا بِهَا الآخِرَةَ. قَالَ أَبُو يَزِيدَ: جَمَعْتُ أَسْبَابَ الدُّنْيَا فَرَبَطْتُهَا بِحَبْلِ الْقُنُوعِ، وَوَضَعْتُهَا فِي مِنْجَنِيقِ الصِّدْقِ، وَرَمَيْتُ بِهَا فِي جَبَلِ الْيَأْسِ، فَاسْتَرَحْتُ: (قَرَّبَ الْحِرْصُ مَرْكَبًا لِشَقِيٍّ ... إِنَّمَا الْحِرْصُ مَرْكَبُ الأَشْقِيَاءِ) (مَرْحَبًا بِالْكَفَافِ يَأْتِي عَفِيًّا ... وَعَلَى الْمُتْعِبَاتِ ذَيْلُ الْعَفَاءِ) (ضُلَّةٌ لامْرِئٍ يُشَمِّرُ فِي الْجَمْعِ ... لِعَيْشٍ مُشَمِّرٌ لِلْفَنَاءِ) (دَائِبًا يُكْثِرُ الْقَنَاطِيرَ لِلْوَارِثِ ... وَالْعُمْرُ دَائِبًا لانْقِضَاءِ) (حَبَّذَا كَثْرَةُ الْقَنَاطِيرِ لَوْ كَانَ ... لِرَبِّ الْكُنُوزِ كَنْزُ بَقَاءِ) (يَغْتَدِي يَرْحَمُ الأَسِيرَ أَسِيرًا ... جَاهِلا أَنَّهُ مِنَ الأُسَرَاءِ) (يَحْسَبُ الْحَظَّ كُلَّهُ فِي يَدَيْهِ ... وَهُوَ مِنْهُ عَلَى مدى الجوزاء)

الكلام على قوله تعالى

(ذَلِكَ الْخَائِبُ الشَّقِيُّ وَإِنْ كَانَ ... يَرَى أَنَّهُ مِنَ السُّعَدَاءِ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَالْيَوْمَ لا تظلم نفس شيئا} مِيزَانُ الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْتَقِيمُ اللِّسَانِ، تَبِينُ فِيهِ الذَّرَّةُ فَيُجْزَى الْعَبْدُ عَلَى الْكَلِمَةِ قَالَهَا فِي الْخَيْرِ وَالنَّظْرَةِ نَظَرَهَا فِي الشَّرِّ، فَيَا مَنْ زَادُهُ مِنَ الْخَيْرِ طَفِيفٌ، احْذَرْ مِيزَانَ عَدْلٍ لا يَحِيفُ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عبد الله بن عمرو ابن الْعَاصِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَخْلِصُ رجلا من أمتي على رؤوس الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلا كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ؛ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ قَالَ: لا يَا رَبِّ فَيَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ؟ فَيُبْهَتُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ فَيَقُولُ: بَلَى؛ إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً لا ظُلْمَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ؛ فَيُخْرِجُ لَهَا بِطَاقَةً فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: أَحْضِرُوهُ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاتِ؟ فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ. قَالَ: فَطَاشَتِ السِّجِلاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ ". الْبِطَاقَةُ: الْقِطْعَةُ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ بِسَنَدِهِ عن يونس بن عبيد عن الْحَسَنِ قَالَ: بَيْنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَتْ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا فِي ثَلاثَةِ مَوَاطِنَ فَلا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا: عِنْدَ الْمِيزَانِ حِينَ يُوضَعُ حَتَّى يَعْلَمَ أَتَثْقُلُ مَوَازِينُهُ أَمْ تَخِفُّ، وَعِنْدَ الْكِتَابِ حِينَ يُقَالُ {هَاؤُمُ اقرءوا كتابيه}

حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يَقَعُ كِتَابَهُ فِي يَمِينِهِ أَوْ فِي شِمَالِهِ أَوْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. وَعِنْدَ الصِّرَاطِ حِينَ يُوضَعُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَنْجُو أَمْ لا يَنْجُو. (أَخْبَرَنَا) الْكَرُوخِيُّ بِسَنَدِهِ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَهُ: أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا وَمَالا وَوَلَدًا وَسَخَّرْتُ لَكَ الأَنْعَامَ وَالْحَرْثَ وَتَرَكْتُكَ تَرْأَسُ وَتَرْتَعُ أَكُنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ مُلاقِي يَوْمِكَ هَذَا؟ فَيَقُولُ لا فَيَقُولُ الْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ في الدنيا، حتى إذا هذبوا ويقوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: {ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون} أَتُرَاكَ بِأَيِّ عَمَلٍ تُجْزَى، أَتُرَاكَ تُهَنَّى أَوْ تُعَزَّى، قَلْبُكَ عِنْدَ الصَّلاةِ فِي غَيْبَةٍ، وَلِسَانُكَ فِي الصَّوْمِ فِي غَيْبَةٍ، وَمَا صَفَتْ لَكَ فِي الْعُمْرِ رَكْعَةٌ، وَقَدْ مَرَّ أَكْثَرُ الأَجَلِ بِسُرْعَةٍ، فَانْتَبِهْ قَبْلَ أَنْ يَفُوتَ التَّدَارُكُ، وَفَرِّغْ قَلْبَكَ قَبْلَ أَنْ تُفَرِّغَ دَارَكَ. (أَنْبَأَنَا) أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَطَّارُ بِسَنَدِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَخْرُجُ مِنْ أَعْلاهَا وَمِنْ أَسْفَلِهَا خَيْلٌ مِنْ ذَهَبٍ مُسْرَجَةٌ مُلْجَمَةٌ بِلُجُمٍ مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتٍ لا تَرُوثُ وَلا تَبُولُ لَهَا أَجْنِحَةٌ خَطْوُهَا مَدُّ بَصَرِهَا، فَيَرْكَبُهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَتَطِيرُ بِهِمْ حَيْثُ شاؤوا فَيَقُولُ الَّذِينَ أَسْفَلَ مِنْهُمْ

دَرَجَةً: يَا رَبِّ بِمَ بَلَغَ عِبَادُكَ هَذِهِ الْكَرَامَةَ كُلَّهَا؟ قَالَ فَيُقَالُ لَهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ اللَّيْلَ وَأَنْتُمْ تَنَامُونَ، وَكَانُوا يَصُومُونَ وَكُنْتُمْ تَأْكُلُونَ، وَكَانُوا يُنْفِقُونَ وَكُنْتُمْ تَبْخَلُونَ، وَكَانُوا يُقَاتِلُونَ وَكُنْتُمْ تَجْبُنُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليوم في شغل فاكهون} وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو فِي شُغْلٍ بِإِسْكَانِ الْغَيْنِ وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمُرَ فِي شَغْلٍ بِفَتْحِ الشِّينِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي شَغَلٍ بِفَتْحِهِمَا. وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ الشُّغُلِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ افْتِضَاضُ الأَبْكَارِ. أَخْبَرَنَا مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ بِسَنَدِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليوم في شغل} قَالَ فِي افْتِضَاضِ الأَبْكَارِ. وَالثَّانِي: النِّعْمَةُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: شُغُلُهُمْ نَعِيمُهُمْ عَمَّا فِيهِ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْعَذَابِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فاكهون أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: فَرِحُونَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: مُعْجَبُونَ. قَالَهُ الْحَسَنُ. وَالثَّالِثُ: نَاعِمُونَ. قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَالرَّابِعُ: ذَوُو فَاكِهَةٍ، كَمَا يُقَالُ لابْنِ تَامِرٍ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكِهُونَ. وَهَلْ هِيَ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الأُولَى؟ فِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. كَمَا يُقَالُ حَاذِرٌ وَحَذِرٌ. قَالَهُ الْفُرَّاءُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَكِهَ: الَّذِي يَتَفَكَّهُ، يُقَالُ فُلانٌ يَتَفَكَّهُ بِالطَّعَامِ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظلال} الأَزْوَاجُ: الْحَلائِلُ. وَالظِّلالُ جَمْعُ ظِلٍّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فِي ظُلَلٍ. قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَهِيَ جَمْعُ ظِلٍّ، وَقَدْ تَكُونُ الظِّلالُ جَمْعُ ظُلَّةٍ أَيْضًا.

قال المفسرون: المراد بالظلال كنا الْقُصُورِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ بِنَاءَ الْجَنَّةِ مُحْكَمٌ عَالٍ فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ شَمْسٌ كَانَ فِي ظِلِّهِمْ مَا يَرُدُّ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ أَخْبَرَنَا الدَّاوُدِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلا يَمْتَخِطُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ وَأَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الْحُسْنِ لا اخْتِلافَ بَيْنَهُمْ وَلا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا " (وَقَالَ كَعْبٌ) لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَدَا مِعْصَمُهَا لَذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ! أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقَدِمَ عَلَيْهِ ابْنٌ لَهُ مِنْ غَزَاةٍ فَسَاءَلَهُ ثُمَّ قَالَ أَلا أُخْبِرُكَ عَنْ صَاحِبِنَا فُلانٍ؟ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي غَزَاتِنَا قَافِلِينَ إِذْ ثَارَ وَهُوَ يَقُولُ: وَاأَهْلاهْ وَاأَهْلاهْ. فَثُرْنَا إِلَيْهِ فَظَنَنَّا أَنَّ عَارِضًا عَرَضَ لَهُ فَقُلْنَا: لَهُ مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي أَنْ لا أَتَزَوَّجَ حَتَّى أُسْتُشْهِدَ فَيُزَوِّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى الْحُورَ الْعِينَ، فَلَمَّا - طَالَتْ عَلَيَّ الشَّهَادَةُ حَدَّثْتُ نَفْسِي فِي سَفَرِي هَذَا إِنْ أَنَا رَجَعْتُ تَزَوَّجْتُ، فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي فَقَالَ: أَنْتَ الْقَائِلُ: إِنْ أَنَا رَجَعْتُ تَزَوَّجْتُ؟ قُمْ فَقَدْ زَوَجَّكَ اللَّهُ الْعَيْنَاءَ. فَانْطُلِقَ بِي إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ مُعْشِبَةٍ فِيهَا عَشْرُ جَوَارٍ فِي يَدِ كُلِّ جَارِيَةٍ صَنْعَةٌ تَصْنَعُهَا لَمْ أَرَ مِثْلَهُنَّ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، قُلْتُ لَهُنَّ: فِيكُنَّ الْعَيْنَاءُ؟ قُلْنَ: لا نَحْنُ مِنْ خَدَمِهَا وَهِيَ أَمَامَكَ، فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَوْضَةٍ أَعْشَبَ مِنَ الأُولَى وَأَحْسَنَ فِيهَا عِشْرُونَ جَارِيَةً فِي يَدِ كُلِّ جَارِيَةٌ صَنْعَةٌ تَصْنَعُهَا لَيْسَ الْعَشْرُ إِلَيْهِنَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ. قُلْتُ: فِيكُنَّ الْعَيْنَاءُ؟ قُلْنَ: لا وَنَحْنُ مِنْ خَدَمِهَا وَهِيَ أَمَامَكَ. فَمَضَيْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَوْضَةٍ أُخْرَى أَعْشَبَ مِنَ الأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَأَحْسَنَ، فِيهَا أَرْبَعُونَ جَارِيَةً فِي يَدِ كُلِّ جَارِيَةٍ صَنْعَةٌ تَصْنَعُهَا لَيْسَ الْعَشْرُ

سجع)

وَالْعِشْرُونَ إِلَيْهِنَّ بِشَيْءٍ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ فَقُلْتُ: فِيكُنَّ الْعَيْنَاءُ؟ قُلْنَ: لا نَحْنُ مِنْ خَدَمِهَا وَهِيَ أَمَامَكَ. فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا أَنَا بِيَاقُوتَةٍ مُجَوَّفَةٍ فِيهَا سَرِيرٌ عَلَيْهَا امْرَأَةٌ قَدْ فَضَلَتِ السَّرِيرُ قُلْتُ: أَنْتِ الْعَيْنَاءُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ مَرْحَبًا فَذَهَبْتُ أَضَعُ يَدِي عَلَيْهَا فَقَالَتْ: مَهْ إِنَّ فِيكَ شَيْئًا مِنَ الرُّوحِ بَعْدُ، وَلَكِنَّ فِطْرَكَ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ. قَالَ: فَمَا فَرَغَ الرَّجُلُ مِنْ حَدِيثِهِ حَتَّى نَادَى مُنَادٍ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي وَأَبْشِرِي بِالْجَنَّةِ. قَالَ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الرَّجُلِ وَأَنْظُرُ إِلَى الشَّمْسِ وَنَحْنُ مُصَافُّونَ الْعَدُوَّ، وَأَذْكُرُ حَدِيثَهُ فَمَا أَدْرِي أَيَّهُمَا رَأَيْتُهُ بُدِرَ أَوَّلُ؟ هُوَ أَوِ الشَّمْسُ سَقَطَتْ أَوَّلُ؟ فَقَالَ أَنَسٌ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. ( سَجْعٌ) يَا هَذَا لَقَدْ بَلَغَ الْقَوْمُ الآمَالَ، وَنَالُوا مُلْكًا عَظِيمًا لا يُزَالُ، فَأَيْنَ ذَاكَ التَّعَبُ وَتِلْكَ الأَثْقَالُ، وَبِقَي الْمَدْحُ وَالتَّرَحُ زَالَ، {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ} . طالموا نَصَبُوا فِي خِدْمَةِ ذِي الْجَلالِ، فَشَغَلَتْهُمْ عَنِ اللَّذَّاتِ أَشْغَالٌ، وَأَزْعَجَتْهُمْ عَنِ الشَّهَوَاتِ أَوْجَالٌ، وَقَلَّقَهُمُ الْمَوْتُ إِذَا خَطَرَ بِالْقَلْبِ وَجَالَ، فَإِذَا وَرَدُوا تلقوا بالنوال، {هم وأزواجهم في ظلال} . بَالَغَ الْقَوْمُ فِي التَّحْقِيقِ، وَأَخَذُوا بِالأَمْرِ الْوَثِيقِ، وَأَنْذَرَهُمُ الْمَوْتُ فَمَا أَبْلَغَهُمُ الرَّفِيقُ فَجَدُّوا حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الْمَضِيقِ، فَأَمَّا الْبَطَّالُ فَإِنَّهُ لَمَّا تَلَمَّحَ الطَّرِيقَ، رَآهُ قَدْ طَالَ. صَامَ الْقَوْمُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَقَامُوا للَّهِ فِي الْخَلَوَاتِ، وَحَبَسُوا الأَلْسُنَ عَنْ فُضُولِ الْكَلِمَاتِ، وَتَرَكُوا فِي الْجُمْلَةِ جُمْلَةَ اللَّذَّاتِ، فَانْقَضَى رَمَضَانُ صَوْمِهِمْ، وَجَاءَ شَوَّالُ، {هم وأزواجهم في ظلال} . كَمْ بَيَنْكَ وَبَيْنَهُمْ، أَسْخَنَ الشَّرُّ عَيْنَكَ وَأَقَرَّ الْخَيْرُ أَعْيُنَهُمْ، نَالُوا الْحَظَّ وَنِلْتَ

سجع)

الْحَضِيضَ، أَيْنَ أَنْتَ وَأَيْنَ هُمْ، وَإِنَّمَا يُكَالُ لِلْعَبْدِ كَمَا كَالَ. سُبْحَانَ مَنْ أَصْلَحَهُمْ وَسَامَحَهُمْ، وَعَامَلَهُمْ فَأَرْبَحَهُمْ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَمَدَّحَهُمْ، وَأَقَالَ مُجْتَرَحَهُمْ وقال: {هم وأزواجهم في ظلال} . قَطَعُوا الْمَهَامِهَ فَفَازُوا، وَعَبَرُوا قَنَاطِرَ الْخَوْفِ وَجَازُوا، وَنَالُوا غَايَةَ الْمُنَى وَحَازُوا، فَسَلِمَ الرِّبْحُ وَرَأْسُ المال {هم وأزواجهم في ظلال} . قوله تعالى {على الأرائك متكئون} قَالَ ثَعْلَبٌ: لا تَكُونُ الأَرِيكَةُ إِلا سَرِيرًا فِي قُبَّةٍ عَلَيْهِ شَوَارُهُ وَمَتَاعُهُ، وَالشَّوَارُ مَتَاعُ الْبَيْتِ. تَعِبُوا فَأُرِيحُوا، وَزَهِدُوا فَأُبِيحُوا، زَالَ نَصَبُهُمْ وَارْتَفَعَ تَعَبُهُمْ، وَحَصَلَ مَقْصُودُهُمْ، وَرَضِيَ مَعْبُودُهُمْ. قَوْلُهُ تعالى: {ولهم ما يدعون} أَيْ مَا يَتَمَنَّوْنَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْعَرَبُ تَقُولُ ادْعُ مَا شِئْتَ. أَيْ تَمَنَّ مَا شِئْتَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الدُّعَاءِ وَالْمَعْنَى: كُلُّ مَا يَدْعُو بِهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ يأتيهم. وقوله: {سلام} يدل مِنْ مَا. وَالْمَعْنَى: لَهُمْ مَا يَتَمَنَّوْنَ سَلامٌ أَيْ هَذَا مُنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يُسَلِّمَ الله عز وجل عليهم. و {قولا} مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى: لَهُمْ سَلامٌ يَقُولُهُ اللَّهُ قَوْلا. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَلامٌ قولا من رب رحيم} فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَلا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ. ( سَجْعٌ) أَيْنَ الْمُسْتَعِدُّونَ لِهَذَا الأَمْرِ الْجَسِيمِ، أَيْنَ الْمُخَاطِرُ فِي طَلَبِ ذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، أَيْنَ الْمُتَأَهِّبُ لِخِلَعِ الْفَوْزِ وَالتَّقْدِيمِ {سلام قولا من رب رحيم} .

لَوْ رَأَيْتَهُمْ فِي دَارِ الإِقَامَةِ، عَلَى غَايَةِ الْفَوْزِ وَالسَّلامَةِ، وَعَلَى الْقَوْمِ حُلَلِ الْكَرَامَةِ، وَالْمَلِكُ يُسْمِعُهُمْ كَلامَهُ الْعَزِيزَ الْقَدِيمَ، {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رب رحيم} . حَلُّوا فِي جِوَارِ الْجَبَّارِ، فَحَلُّوا بِضَائَعَ الأَسْحَارِ، فَجُوزُوا أَنْ قِيلَ لَهُمْ: جُوزُوا بِلا عِثَارٍ، وَأَشْرَفَ مِنْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، أَنْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمُ الْكَرِيمُ بِكُلِّ تَكْرِيمٍ، {سَلامٌ قولا من رب رحيم} . طالموا تَمَلْمَلُوا تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ، وَبَكَوْا فِي الدُّجَى بُكَاءَ الْيَتِيمِ، فَانْقَشَعَ الأَمْرُ إِلَى أَنْ سَامَحَ الْغَرِيمُ، فَأَحَلَّهُمْ بِرِضْوَانِهِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَالْعُيُونُ تَجْرِي مِنْ رَحِيقٍ وَتَسْنِيمٍ، وَوَاسِطَةُ ذَلِكَ الْعِقْدِ الْمُثَمَّنِ النَّظِيمِ، {سلام قولا من رب رحيم} .

المجلس الثاني في ذكر الطهارة

الْمَجْلِسُ الثَّانِي فِي ذِكْرِ الطَّهَارَةِ الْحَمْدُ للَّهِ مُحْكِمِ الْمَخْلُوقِ وَمُتْقِنِ الصَّنْعَةِ، وَمَالِكِ يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْجَزَاءِ وَالرَّجْفَةِ، الْمُقَدِّرِ مَا شَاءَ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ، أَرَادَ فَلَمْ يَنْتَفِعِ الْعَبْدُ إِنْ بَذَلَ جُهْدَهُ وَوِسْعَهُ، وَعَلِمَ إِخْلاصَ النِّيَّةِ مِنْ مَقْصُودِ السُّمْعَةِ، وَسَمِعَ فَلَمْ يَمْنَعِ اخْتِلافُ اللُّغَاتِ سَمْعَهُ، وَأَبْصَرَ حَتَّى جَوْفَ الْجَوْفِ وَجَرَيَانَ الدَّمْعَةِ، وَشَرَّعَ فَشَهِدَتِ الْعُقُولُ بِصِحَّةِ الشِّرْعَةِ، وَمَنَعَ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُعْطِي مَا قَدَّرَ مَنْعَهُ، صِفَاتُهُ كَذَاتِهِ وَما يُشْبِهُ الصَّانِعُ صُنْعَهُ، الاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَدُومُ مَا دَامَتِ الأَيَّامُ السَّبْعَةُ، وَأَشْهَدُ أَنَّهُ فَالِقُ الْحَبِّ عَنِ الطَّلْعَةِ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ بِأَفْضَلِ شِرْعَةٍ، وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ أَوَّلِ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الرَّبْعَةَ، وَعَلَى عُمَرَ فَتَّاحِ الأَمْصَارِ فَكَمْ قَلَعَ قَلْعَةً، وَعَلَى عُثْمَانَ الصَّابِرِ عَلَى مَضِيضِ تِلْكَ الصَّرْعَةِ، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي مَدَائِحُهُ أَنْفَقُ مِنْ كُلِّ سِلْعَةٍ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَبِي الْخُلَفَاءِ وَأَكْرِمْ بِهَذَا الْبَيْتِ رِفْعَةً. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَنْصَارِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ يَحْيَى أَنَّ زَيْدًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا سَلامٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ تَمْلآنِ أَوْ تَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَالصَّلاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلٌّ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ.

اعْلَمْ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: الضَّرْبُ الأَوَّلُ: تَطْهِيرُ الْبَدَنِ عَنْ نَجَسٍ أَوْ حَدَثٍ أَوْ فَضْلَةٍ مِنَ الْبَدَنِ. فَأَمَّا طَهَارَةُ الأَنْجَاسِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: " إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْلِ ". قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا لَمْ يُعَذَّبَا فِي أَمْرٍ كَانَ بِكَبِيرٍ عَلَيْهِمَا فِعْلُهُ أَوْ يَشُقُّ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ ". وَأَمَّا طَهَارَةُ الأَحْدَاثِ فَفِي التَّفْرِيطِ فِيهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا قَالَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا: " وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يُضْرَبَ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ وَيَسْأَلُ حَتَّى صَارَتْ جَلْدَةً وَاحِدَةً، فَامْتَلأَ قَبْرُهُ عَلَيْهِ نَارًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: لِمَ جَلَدْتُمُونِي؟ قَالُوا: إِنَّكَ صَلَّيْتَ صَلاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَمَرَرْتَ عَلَى مَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرْهُ ". وَقَدْ مُدِحَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ. (أَخْبَرَنَا) هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَتَمَّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ ". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ أَوْ نَحْوِ هَذَا فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ

خَطِيئَةٍ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِ الْحَدِيثَيْنِ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا غُسْلُ الْجَنَابَةِ فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعَرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهِ كَذَا وَكَذَا من النار قال عليه السلام: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي. وَكَانَ يَجُزُّ رَأْسَهُ. وَأَمَّا الْفَضَلاتُ فَنَوْعَانِ: أَوْسَاخٌ تَعْتَرِي الْبَرَاجِمَ وَالأَسْنَانَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَبْطَأَ الْمَلَكُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ لِعَلِيٍّ أَبْطَأْتُ؟ قَالَ: قَدْ فَعَلْتَ. قَالَ: وَمَا لِي لا أَفْعَلُ وَأَنْتُمْ لا تَتَسَوَّكُونَ وَلا تَقُصُّونَ أَظْفَارَكُمْ وَلا تُنْقُونَ بَرَاجِمَكُمْ! قَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: الْبَرَاجِمُ: الْفُصُوصُ الَّتِي فِي فُصُولِ ظُهُورِ الأَصَابِعِ تَبْدُو إِذَا جُمِعَتْ وَتَغْمُضُ إِذَا بُسِطَتْ. وَالرَّوَاجِبُ: مَا بَيْنَ الْبَرَاجِمِ، بَيْنَ كُلِّ بُرْجُمَتَيْنِ رَاجِبَةٌ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَوْلا أَنَّ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، أَوْ عَلَى النَّاسِ، لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَأَخْرَجَا مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الشَّوْصُ وَالْمَوْصُ: الْغَسْلُ. وَقَالَ ابْنُ الأَعْرَابِيِّ: الشَّوْصُ: الدَّلْكُ وَالْمَوْصُ: الْغَسْلُ. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِمْ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " تَفْضُلُ الصَّلاةُ الَّتِي يُسْتَاكُ لَهَا عَلَى الصَّلاةِ الَّتِي لا يُسْتَاكُ لَهَا سَبْعِينَ ضِعْفًا، وَيَفْضُلُ الذِّكْرُ الْخَفِيُّ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الذِّكْرِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا ".

وَأَمَّا الإِجْزَاءُ: فَقَصُّ الشَّارِبِ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَحَلْقُ العانة وتقليم الأظافر. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: تَطْهِيرُ الْجَوَارِحِ عَنِ الآثَامِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كل أولئك كان عنه مسئولا} . وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَارِحَ كَالسَّوَاقِي تُوصِلُ إِلَى الْقَلْبِ الصَّافِي وَالْكَدِرِ، فَمَنْ كَفَّهَا عَنِ الشَّرِّ جَلَّتْ مَعِدَةُ الْقَلْبِ بِمَا فِيهَا مِنَ الأَخْلاطِ فَأَذَابَتْهَا وَكَفَى بِذَلِكَ حِمْيَةٌ، فَإِذَا جَاءَ الدَّوَاءُ صَادَفَ مَحَلا قَابِلا. وَمَنْ أَطْلَقَهَا فِي الذُّنُوبِ أَوْصَلَتْ إِلَى الْقَلْبِ وَسَخَ الْخَطَايَا وَظُلْمَ الْمَعَاصِي، فَلَوْ وُضِعَ الدَّوَاءُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَلْبِ حِجَابٌ، فَلا تَكَادُ الْجَوَارِحُ تَسْلَمُ مِنَ الْخَطَايَا إِلا بِالْعُزْلَةِ، فَمَنْ أَمْكَنَهُ فَمَا أَحْسَنَهُ، وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ تَحَفَّظَ فِي مُخَالَطَتِهِ لِلْخَلْقِ تَحَفُّظَ الْمُجَاهِدِ فِي الْحَرْبِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: تَطْهِيرُ الْقَلْبِ عَنِ الأَخْلاقِ الْمَذْمُومَةِ مِنَ الْحِرْصِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلا يُمْكِنُ مُعَالَجَتُهُ مِنْ أَدْوَائِهِ بِدَوَائِهِ حَتَّى تَقَعَ الْحِمْيَةُ الَّتِي وَصَفْنَاهَا فِي كَفِّ الْجَوَارِحِ، ثُمَّ يُعَالَجُ كُلُّ دَاءٍ بِدَوَائِهِ. وَكَمْ مِنْ مُتَعَبِّدٍ يُبَالِغُ فِي كَثْرَةِ الصَّلاةِ وَالصَّوْمِ وَلا يُعَانِي صَلاحَ الْقَلْبِ، وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ الْكِبْرُ وَالرِّيَاءُ وَالنِّفَاقُ وَالْجَهْلُ بِالْعِلْمِ وَلا يُحِسُّ بِذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ تَطَلُّعُهُ إِلَى تَقْبِيلِ يَدِهِ وَإِجَابَةِ دُعَائِهِ، وَهَذِهِ آفَاتٌ لا دَوَاءَ لَهَا إِلا الرِّيَاضَةَ بِالْعِلْمِ لِيَقَعَ التَّهْذِيبُ بِإِصْلاحِ دَائِهِ، وَإِنَّمَا تَنْفَعُ الْعِبَادَةُ وَتَظْهَرُ آثَارُهَا وَتَبِينُ لَذَّاتُهَا مَعَ إِصْلاحِ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بن يحيى الدبلي قَالَ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ عُمَارَةَ فَقَالَ: وَرَدْتُ الْحُجْرَةَ مَرَّةً فَإِذَا أَنَا بِمُحَمَّدِ بْنِ ثَوْبَانَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَعَبَّادٍ الْمُقْرِئِ وَهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلامٍ لا أَعْقِلُهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ؛ إِنِّي شَابٌّ كَمَا تَرَوْنَ أَصُومُ النَّهَارَ وَأَقُومُ اللَّيْلَ وَأَحجُّ سَنَةً وَأَغْزُو سَنَةً، مَا أَرَى فِي نَفْسِي زِيَادَةً. فَشُغِلَ الْقَوْمُ عَنِّي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا كَلامِي ثُمَّ حَانَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْتِفَاتَةٌ فَقَالَ: يَا غُلامُ إِنَّ هَمَّ الْقَوْمِ لَمْ يَكُنْ فِي كَثْرَةِ الصلاة والصيام

إِنَّمَا كَانَ هَمُّ الْقَوْمِ فِي نَفَاذِ الأَبْصَارِ حَتَّى أَبْصَرُوا. الضَّرْبُ الرَّابِعُ: تَطْهِيرُ السِّرِّ عَمَّا سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا وَلَمْ تَحْصُلْ إِلا لِمَنْ تَجَلَّتْ لَهُ أَوْصَافُ الْحَبِيبِ فَدَخَلَ فِي دَائِرَةِ الْمَحَبَّةِ. أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ظَفْرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ: سَأَلَ مَحْمُودٌ أَبَا سُلَيْمَانَ وَأَنَا حَاضِرٌ: مَا أَقْرَبُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَبَكَى أَبُو سُلَيْمَانَ ثُمَّ قَالَ: مثلي يسأل عن هذا! أقرت مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى قَلْبِكَ وَأَنْتَ لا تُرِيدُ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِلا هُوَ. قَالَ ابْنُ جَهْضَمٍ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ بِشْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلا يَقُولُ: مَنْ نَظَرَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَرِيبًا مِنْهُ بَعُدَ عَنْ قَلْبِهِ كُلُّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ طَلَبَ مَرْضَاتَهُ أَرْضَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ أَسْلَمَ قَلْبَهُ إِلَيْهِ تَوَلَّى اللَّهُ جَوَارِحَهُ. قَالَ ابْنُ جَهْضَمٍ: وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَا مِنْ سَاعَةٍ إِلا وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَأَيُّ قَلْبٍ رَأَى فِيهِ غَيْرَهُ سَلَّطَ عَلَيْهِ إِبْلِيسَ. قَالَ ابْنُ جَهْضَمٍ: وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: سُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} فقال: أبصار الرؤوس عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ، وَأَبْصَارِ الْقُلُوبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ بِسَنَدِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي الْحَوَارِيِّ يَقُولُ: بَاتَ أَبُو سُلَيْمَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ قَامَ لِيَتَوَضَّأَ فَلَمَّا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ حَتَّى انْفَجَرَ الصُّبْحُ وَكَانَ وَقْتُ الإِقَامَةِ فَخَشِيتُ أَنْ تَفُوتَ صَلاتُهُ فَقُلْتُ: الصَّلاةَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَقَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْمَدُ أَدْخَلْتُ يَدِي فِي الإِنَاءِ فَعَارَضَنِي عَارِضٌ مِنْ سِرِّي: هَبْ أَنَّكَ غَسَلْتَ بِالْمَاءِ مَا ظَهَرَ مِنْكَ، فَبِمَاذَا تَغْسِلُ قَلْبَكَ؟ فَبَقِيتُ مُتَفَكِّرًا حتى قلت:

الكلام على البسملة

بِالْهُمُومِ وَالأَحْزَانِ فِيمَا يَفُوتُنِي مِنَ الأُنْسِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. يَا هَذَا إِذَا تَوَضَّأْتَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ قِيلَ لِلْمَاءِ: ابْذُلْ لَهُ الْبَلَلَ لا الطَّهَارَةَ، فَإِذَا نَوَيْتَ قِيلَ لَهُ طَهَارَةَ الظَّاهِرِ، فَإِذَا صَفَا قَلْبُكَ فَقَدْ حَصَلَتْ طَهَارَتُكَ حَقِيقَةً! الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (أَرَى النَّاسَ سَفَرًا فِي طَرِيقِ الْمَتَالِفِ ... فَمَنْ بَالَغَ أُخْرَى الْمَدَى وَمَشَارِفِ) (وَمَا بَطْنُ هَذِي الأَرْضِ إِلا قَرَارَةٌ ... وَأَرْوَاحُنَا مِثْلُ السُّيُولِ الْجَوَارِفِ) (وَمَا الدَّهْرُ إِلا جَوْلَةٌ ثُمَّ أَوْلَةٌ ... وَنَحْنُ بِمِرْصَادِ الرَّقِيبِ الْمُشَارِفِ) أَيُّهَا الْمُتَفَكِّرُ فِي الْقُبُورِ الدَّوَارِسِ، الْبَاكِي عَلَى مَنْ كَانَ بِهِ يَسْتَأْنِسُ، ابْكِ مُطْلَقًا مَا يَرْعَوِي بِنَقْلِ أَهْلِ الْمَحَابِسِ، تَيَقَّظْ لِلْخَلاصِ، فَإِلَى كَمْ أَنْتَ نَاعِسٌ، وَقُمْ مُبَادِرًا لِلْفَوْتِ فَإِلَى كَمْ أَنْتَ جَالِسٌ، لَيْتَ شِعْرِي مَتَى تَتَزَوَّدُ، وَمَتَى تُبَيِّضُ الْقَلْبَ الأَسْوَدَ، أَيْنَ الْفِرَارُ وَالرَّقِيبُ بِالْمَرْصَدِ، إِلَى مَتَى مَعَ الزَّلَلِ وَالإِسْرَافِ، إِلَى كَمْ مَعَ الْخَطَايَا وَالاقْتِرَافِ، أَيْنَ النَّدَمُ وَأَيْنَ الاعْتِرَافُ، لَقَدْ سَمِعْتَ مِنَ الْوَعْظِ كُلَّ شَافٍ كَافٍ، أَنْتَ فِيمَا يَنْفَعُكَ قَاعِدٌ، وَفِيمَا يَضُرُّ نَاهِضٌ، تتوب بلسانك وتضر بحناحك، أَتُنَاقِضُ؟ الشَّرُّ فِي بَاطِنِكَ دَاخِلٌ فِي الْغَوَامِضِ، أُسْدُ الشَّرَى فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَا، فَإِذَا يَرَى الْخَدِيعَةَ خَلا الْمَرَابِضَ، يَا غَافِلا عَمَّا قَدْ أُعِدَّ لَهُ أَمَكْرٌ هَذَا أَمْ بَلَهٌ، مَا عُذْرُ مَنْ تَعَثَّرَ فِي ظُلُمَاتِ الْعَيْبِ، بَعْدَ إِضَاءَةِ نُورِ الشَّيْبِ، يَا أَسَفَى مَنْ لِلْمُحْتَضِرِ، إِذَا عَلِمَ مَنْ قَدْ حَضَرَ، وَقَلَّبَ الطَّرْفَ مُتَحَيِّرًا وَنَظَرَ وَرَأَى الْعَجَائِبَ وَقَلَّبَ الْبَصَرَ، وَنَدِمَ عَلَى إِغْفَالِهِ زَادَ السَّفَرِ، وَجَرَى دَمْعُ الأَسَى ثُمَّ انْهَمَرَ وَاحْتَاجَ إِلَى قَلِيلٍ مِنَ الزَّادِ وَافْتَقَرَ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ كُلُّ مَسْتُورٍ مُدَّخَرٍ، وَتَقَطَّعَ فُؤَادُهُ أَسَفًا وَانْفَطَرَ، إِنَّ هَذَا لَعِبْرَةٌ لِمَنِ اعْتَبَرَ، إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَكَ الْغَيْرُ فَأَنْتَ عَلَى الأَثَرِ، يَا هَذَا الْحِسَابُ شَدِيدٌ وَالطَّرِيقُ بَعِيدٌ وَقَدْ خَافَ مَنْ لا خَوْفَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ سَكَنَ مَنْ لا أَمْنَ لَهُ! كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي شَعْرَةٌ فِي صَدْرِ مُؤْمِنٍ.

وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي أُفْلِتُ كَفَافًا لا عَلَيَّ وَلا لِي لَوْ أَنَّ لِي طَلاعَ الأَرْضِ ذَهَبًا وَفِضَّةً لافْتَدَيْتُ بِهَا مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ، لَوْ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لافْتَدَيْتُ بِهَا مِنْ هَوْلِ مَا أَمَامِي قَبْلَ أَنْ أَعْلَمَ مَا الْخَبَرُ. لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لتهنك الجنة يا أمير المؤمنين قال: غر بهذا غيري يا بن عَبَّاسٍ: قَالَ: وَلِمَ لا أَقُولُ لَكَ هَذَا؟ فَوَاللَّهِ إِنْ كَانَ إِسْلامُكَ لَعِزًّا وَإِنْ كَانَتْ هِجْرَتُكَ لَفَتْحًا وَإِنْ كَانَتْ وِلايَتُكَ لَعَدْلا وَلَقَدْ قُتِلْتَ مَظْلُومًا. فَقَالَ: تَشْهَدُ لِي بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَكَأَنَّهُ تَلَكَّأَ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ جَانِبِهِ نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَشْهَدُ لَكَ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا خَوْفُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَيْنَ مِثْلُ عُمَرَ! كَانَتِ الصَّوَامِتُ تَنْطِقُ بِفَضْلِهِ وَهُوَ أَسِيرُ خَوْفِهِ وَحُزْنِهِ وَلَوْ رأيته لقلت له: (سل عن فضائك الزَّمَانَ فَتُخْبَرَا ... فَنَظِيرُ مَجْدِكَ لا أَرَاهُ وَلا يرى) (أو لا فَدَعْهُ وَادَّعِي الشَّرَفَ الَّذِي ... أَعْيَا الأَنَامَ فَلَسْتَ تَلْقَى مُنْكَرَا) (مَا احْتَاجَ يَوْمًا أَنْ يُقَامَ بِشَاهِدٍ ... حَقٌّ أَزَالَ الشَّكَّ وَاجْتَاحَ الْمِرَا) (فَلَقَدْ جَمَعْتَ مَنَاقِبًا مَا اسْتُجْمِعَتْ ... مَشْهُورَةً مَا اسْتُعْجِمَتْ فَتُفَسَّرَا) (فَضْلُ الأَنَامِ وَأَنْتَ أَثْبَتُهُمْ قِرَا ... فِي حَمْلِ نَائِبَةٍ وَأَعْجَلُهُمْ قِرَا) (لَوْ لَمْ تُمَلِّكُكَ الأُمُورُ قِيَادَهَا ... صَفَقَتْ قُرَى مِمَّا عَرَى وَوَهَتْ عُرَى) (فَتَقَدَّمَ الأُمَرَاءُ غَيْرَ مُنَازَعٍ ... فَوَرَاءَ زَنْدِكَ كُلُّ زَنْدٍ قَدْ وُرَى) (مَا بَيْنَ مَجْدِكَ وَالْمُحَاوِلِ مِثْلَهُ ... إِلا كَمَا بَيْنَ الثُّرَيَّا وَالثَّرَى) وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَوْ أَنِّي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لا أَدْرِي إِلَى أَيَّتِهِمَا أَصِيرُ لاخْتَرْتُ أَنْ أَكُونَ رَمَادًا قَبْلَ أَنْ أَعْلَمَ إِلَى أَيَّتِهِمَا أَصِيرُ. وَكَانَ عَلِيٌّ عليه السلام يَقُولُ: آهٍ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَبُعْدِ السَّفَرِ وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ! وَاعَجَبًا لِخَوْفِهِمْ مَعَ التَّقْوَى وَأَمْنِكَ مَعَ الْمَعَاصِي! يَا سَكْرَانَ الْهَوَى مَتَى تُفِيقُ، رَحَلَ الأَحْبَابُ وَمَا عَرَفْتَ الطَّرِيقَ، وَاتَّسَعَتِ

الرِّحَابُ وَأَنْتَ فِي الْمَضِيقِ، وَقَدْ بَقِيَ الْقَلِيلُ وَتَغُصُّ بِالرِّيقِ، وَتُعَايِنُ زَفِيرَ الْمَوْتِ وَتُعَالِجُ الشَّهِيقَ، وَيَبْطُلُ الْقَوِيُّ وَيَخْرَسُ الْمِنْطِيقُ، وَتُغْمَسُ فِي بَحْرِ التَّلَفِ وَمَنْ لِلْغَرِيقِ، وَيَخْلُو بِبَدَنِكَ الدُّودُ لِلتَّقْطِيعِ وَالتَّمْزِيقِ، وَخَرِبَ الْحِصْنُ وَحُطِّمَ الْغُصْنُ الْوَرِيقُ، وَخَلَوْتَ بِأَعْمَالِكَ وَتَجَافَاكَ الصَّدِيقُ، فَإِذَا قُمْتَ مِنْ قَبْرِكَ فَمَا تَدْرِي فِي أَيِّ فَرِيقٍ، يَا مُعْرِضًا كُلَّ الإِعْرَاضِ عَنِّي، كَمْ رَسُولٍ قَدْ أَتَاكَ مِنِّي، وَيْحَكِ عَنِّي أُمْنِيَةَ الْمُتَمَنِّي، أَتُصِرُّ عَلَى مَعْصِيَتِي وَتَقُولُ ظَنِّي، أَتَنْقُضُ عَزْمَكَ مَعِي وَمَعَ الْعَدُوِّ تَبْنِي، أَتَتْرُكُ كَلامِي وَتَخْتَارُ أَنْ تُغَنِّيَ، يَالَ لِلْهَوَى كَمْ صَارَ بِشِرْكِهِ، كَمْ عَقِلَ عَقْلا فَدَارَ فِي فُلْكِهِ، كَمْ غَيَّرَ نُورًا مِنَ الْهُدَى بِحُلْكِهِ، كَمْ بَطَّلَ بَطَلا فِي حَرْبِهِ وَمُعْتَرَكِهِ، كَمْ أَبْكَى مَغْرُورًا بَعْدَ لَهْوِهِ وَضَحِكِهِ، كَيْفَ يَفْرَحُ مَنِ الْمَوْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَيْفَ يَلْهُو مَنْ مَالُهُ بَلاءٌ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ يَغْفَلُ وَرُسُلُ الْمَوْتِ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ، كَيْفَ يَلْتَذُّ بِوَطَنِهِ مَنْ يَرَى اللَّحْدَ بِعَيْنَيْهِ: (إِنِّي أُبِثُّكَ مِنْ حَدِيثِي ... وَالْحَدِيثُ لَهُ شُجُونُ) (غَيَّرْتُ مَوْضِعَ مَرْقَدِي ... لَيْلا فَنَافَرَنِي السُّكُونُ) (قُلْ لِي فَأَوَّلُ لَيْلَةٍ ... فِي الْقَبْرِ كَيْفَ تُرَى تَكُونُ؟!) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} المراد بالماء ها هنا الْمَطَرُ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الرِّيحَ سببا لإثارته فقال عز وجل: {الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا} وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزَعِجُ إِذَا رَأَى الرِّيحَ أَوِ الْغَيْمَ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ

عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ. فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فيه عذاب؟ قد عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فقالوا: " هذا عارض ممطرنا ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّيَاحُ ثَمَانٍ: أَرْبَعٌ رَحْمَةٌ، وَأَرْبَعٌ عَذَابٌ. الرَّحْمَةُ: الْمُبَشِّرَاتُ، وَالْمُنْشِرَاتُ، وَالْمُرْسَلاتُ، وَالرَّخَاءُ. وَالْعَذَابُ: الْعَاصِفُ، وَالْقَاصِفُ وَهُمَا فِي الْبَحْرِ، وَالْعَقِيمُ وَالصَّرْصَرُ، وَهُمَا فِي الْبَرِّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ وَالصَّوَاعِقِ قَالَ: " اللَّهُّمَ لا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ وَلا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّعْدُ صَوْتُ مَلَكٍ يَزْجُرُ السَّحَابَ كَمَا يَنْعِقُ الرَّاعِي بِالْغَنَمِ. وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ يَقُولُ. إِنَّ هَذَا وعيد شديد لأهل الأرض. وقال شهر ابن حَوْشَبٍ: الرَّعْدُ مَلَكٌ مُوكَلٌ بِالسَّحَابِ يَسُوقُهُ كَمَا يَسُوقُ الْحَادِي الإِبِلَ يُسَبِّحُ كُلَّمَا خَالَفَتْ سَحَابَةٌ صَاحَ بِهَا فَإِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ طَارَ النَّارُ مِنْ فِيهِ. وَسَمِعَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ صَوْتَ الرَّعْدِ فَانْزَعَجَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: هَذَا صَوْتُ رَحْمَةٍ فَكَيْفَ لَوْ جَاءَ بِسَخَطٍ؟! وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: الْبَرْقُ مَخَارِيقُ بِأَيْدِي الْمَلائِكَةِ يَسُوقُونَ بِهَا

السَّحَابَ. وَقَالَ أَبُو الْجَلِدِ: الْبَرْقُ هُوَ تَلأْلُؤُ الْمَاءِ، وَالصَّوَاعِقُ مَخَارِيقُ يُزْجَرُ بِهَا السَّحَابُ. قَالَ عَطَاءٌ: الصَّاعِقَةُ لا تُصِيبُ ذَاكِرَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا مِنْ عَامٍ أَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُصَرِّفُهُ فِي الأَرْضِينَ. قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا رَبِّ هَذَا الْغَيْثُ لا يَنْزِلُ، وَيَنْزِلُ فَلا يَنْفَعُ؟ قَالَ: لِكَثْرَةِ الزِّنَا وَظُهُورِ الرِّبَا. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الرَّجْفَ مِنْ كَثْرَةِ الزِّنَا وَإِنَّ قُحُوطَ الْمَطَرِ مِنْ قُضَاةِ السُّوءِ وَأَئِمَّةِ الْجَوْرِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ بِسَنَدِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، عَنْ سُمَيْرِ بْنِ نَهَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ: لَوْ أَنَّ عِبَادِيَ أَطَاعُونِي لَسَقَيْتُهُمُ الْمَطَرَ بِاللَّيْلِ وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ وَلَمْ أُسْمِعْهُمْ صَوْتَ الرَّعْدِ ". قَالَ هَارُونُ: وَحَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُبَارَكٍ، عَنْ فَضَالَةَ قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: كَانُوا يَقُولُونَ - يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَوْ جَعَلَ هَذَا الْخَلْقَ خَلْقًا دَائِمًا لا يَتَصَرَّفُ لقَالَ الشَّاكُّ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: لَوْ كَانَ لِهَذَا الْخَلْقِ رَبٌّ لَحَادَثَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَادَثَ بِمَا تَرَوْنَ مِنَ الآيَاتِ، إِنَّهُ قَدْ جَاءَ بِضَوْءٍ طَبَّقَ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ وَجَعَلَ فِيهَا مَعَاشًا وَسِرَاجًا وَهَّاجًا ثُمَّ إِذَا شَاءَ ذَهَبَ بِذَلِكَ الْخَلْقِ، وَجَاءَ بِظُلْمَةٍ طَبَّقَتْ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ وَجَعَلَ فِيهَا سَكَنًا وَنُجُومًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَإِذَا شَاءَ بَنَى بِنَاءً جَعَلَ فِيهِ الْمَطَرَ وَالرَّعْدَ وَالْبَرْقَ وَالصَّوَاعِقَ، وَإِذَا شَاءَ صَرَفَ ذَلِكَ، وَإِذَا شَاءَ جَاءَ بِبَرْدٍ يُقَرْقِفُ النَّاسَ وَإِذَا شَاءَ جَاءَ بَحْرٌ يَأْخُذُ بِأَنْفَاسِ النَّاسِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ لِهَذَا الْخَلْقِ رَبًّا يُحَادِثُهُ بِمَا يَرَوْنَ مِنَ الآيَاتِ كُلِّهَا، كَذَلِكَ إِذَا شَاءَ ذَهَبَ بِالدُّنْيَا وجاء بالآخرة.

وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَسْقَى يَقُولُ: اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَكَ وَبَهَائِمَكَ، وَانْشُرْ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ اسْقِنًا غَيْثًا هَنِيئًا مَرِيعًا غَدَقًا طَبَقًا عَاجِلا غَيْرَ رَائِثٍ نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ اللَّهُمَّ اسْقِنَا سُقْيًا وَادِعَةً نَافِعَةً. قَالَ أَنَسٌ: أَصَابَنَا مَطَرٌ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ الْمَطَرُ وَقَالَ: إِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ. وَفِي لَفْظٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلْقِي ثِيَابَهُ أَوَّلَ مَطَرَةٍ تُمْطِرُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا مُطِرَ يَقُولُ: يَا عِكْرِمَةُ أَخْرِجِ الرِّيَاحَ أَخْرِجْ كَذَا حَتَّى يُصِيبَهُ الْمَطَرُ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا فَتُقِيمُ الأَرْضَ ثُمَّ يَبْعَثُ الْمُثِيرَةَ فَتُثِيرُ السَّحَابَ ثُمَّ يَبْعَثُ الْمُؤَلِّفَةَ فَتُؤَلِّفُهُ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّوَاقِحَ فَتُلَقِّحُ الشَّجَرَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يُنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَتَقَعُ الْقَطْرَةُ مِنْهُ عَلَى السَّحَابِ مِثْلَ الْبَعِيرِ. قَالَ كَعْبٌ: وَالسَّحَابُ غِرْبَالُ الْمَطَرِ وَلَوْلا السَّحَابُ لأَفْسَدَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَطَرُ مِزَاجُهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَإِذَا كَثُرَ الْمِزَاجُ كَثُرَتِ الْبَرَكَةُ وَإِذَا جَاءَ الْقَطْرُ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَتْ لَهُ الأَصْدَافُ فَكَانَ لُؤْلُؤًا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: عِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِذَا نَزَلَ الْقَطْرُ عَلَى الأَرْضِ اهْتَزَّتْ أَيْ تَحَرَّكَتْ لِلنَّبَاتِ، فَإِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ ارْتَفَعَتْ عَنْهُ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَرَبَتْ وأنبتت من كل زوج} أي من كل جنس {بهيج} أَيْ أَنَّهُ يُبْهِجُ وَيُسِرُّ. يَا مَنْ قَدْ أَجْدَبَتْ أَرْضُ قَلْبِهِ، مَتَى تَهُبُّ رِيحُ الْمَوَاعِظِ فَتُثِيرُ سَحَابًا، فِيهِ

سجع

رُعُودُ تَخْوِيفٍ وَبُرُوقُ خَشْيَةٍ فَتَقَعُ قَطْرَةٌ عَلَى صخر القلب فيتروى وينبت؟! يا من أَجْدَبَتْ أَرْضُ قَلْبِهِ، وَاشْتَغَلَ عَنْهَا وَلَهًا، اخْرُجْ إِلَى صَحْرَاءِ التَّيَقُّظِ وَاسْتَسْقِ لَهَا، هَيْهَاتَ أَنْ تَخْضَرَّ أَرْضُ الْقَلْبِ حَتَّى يَتَرَوَّى الْخَدُّ مِنْ عين العين. لا تيأس مِنْ جَدْبِ الْجَدْبِ فَلَيْسَ بِمُسْتَحِيلٍ أَنْ يَسْتَحِيلَ. سَجْعٌ سُبْحَانَ الْمُتَفَرِّدِ بِالْقُدْرَةِ، فَلا تُقَدِّرُ الْخَلائِقُ قَدْرَهُ، أَنْعَمَ فَمَنْ يُطِيقُ شُكْرَهُ، كَلا إِنَّ الْغَافِلَ فِي سَكْرَةٍ {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فتصبح الأرض مخضرة} . جَلَّ صِفَةً وَعَزَّ اسْمًا، وَبَسَطَ أَرْضًا وَرَفَعَ سما، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، فَحَمَّى النَّبَاتَ فَسَمَّوْهُ جمرة {فتصبح الأرض مخضرة} . تَعْرِفُهُ الْقُلُوبُ وَالأَلْبَابُ، وَيُسَبِّحُهُ الصَّحْوُ وَالضَّبَابُ، انْبَعَثَ الْغَيْمُ فَمَا تَوَقَّفَ السَّحَابُ، أَقْبَلَ الرَّعْدُ فِي صرة {فتصبح الأرض مخضرة} . تَأَخَّرَ الْغَيْثُ فَتَمَكَّنَ الضُّرُّ، ثُمَّ جَاءَ فَالْمُؤْمِنُ بِذَلِكَ سُرَّ، فَاسْتَغَاثَ النَّبَاتُ مِمَّا عُرَّ، فَجَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ مَرَّ، كَمْ كَرَّ كرة بعد كرة {فتصبح الأرض مخضرة} . أَصْبَحَ الثَّرَى عَطْشَانُ يُنَادِي وَالْيُبْسُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ بَادِي، فَصَاحَ الرَّعْدُ بِالسَّحَابِ صِيَاحَ الْحَادِي، فَتَرَوَّى الوادي وسالت الجرة {فتصبح الأرض مخضرة} . انْبَعَثَ السَّحَابُ فَطَبَّقَ الأَرْجَا، وَصَاحَ الْبَدَوِيُّ فِي الْبَدْوِ: النَّجَا، وَالْجُرُونُ مُتَلَفِّعَةٌ بِالْغُثَا، دَبَّ ثُمَّ نُعِشَ ثُمَّ قُطْقِطَ ثُمَّ أُفْرِطَ ثُمَّ جَاءَ بكرة {فتصبح الأرض مخضرة} . انْكَشَفَتْ سَمَاءُ الأَرْضِ عَنْ بُدُورِهَا، وَأَذِنَتِ الْغَائِبَاتُ النَّبَاتَ فِي حُضُورِهَا،

وَلَمْ تَخُنِ الأَرْضُ مِنْ بَذْرِ نَبَاتِهَا ذَرَّةً {فتصبح الأرض مخضرة} . أُحْضِرَتْ أُمَّهَاتُ الزَّرْعِ عَنْ بَنَاتِهَا، وَاجْتَمَعَتِ الأَغْصَانُ بِالْقَطْرِ بَعْدَ شَتَاتِهَا، وَتَزَيَّنَتْ لِلنَّاظِرِينَ بِأَنْوَاعِ نَبَاتِهَا، ولقد كانت عرة {فتصبح الأرض مخضرة} . فَشَتِ الزِّينَةُ فِي الصَّحَارِي وَالْبَرَى، وَأَظْهَرَتْ عَجَائِبَ الْقُدْرَةِ فِيمَا يُرَى، وَأَشَاعَ الثَّرَى كَمَا تَرَى من المكتوم سره {فتصبح الأرض مخضرة} . مَاتَتْ تَحْتَ الأَرْضِ كُلُّ الْبُذُورِ، فَإِذَا الرَّعْدُ يَنْفُخُ فِي الصُّورِ، فَضَحِكَ النَّوْرُ بِالنُّورِ لَمَّا سره {فتصبح الأرض مخضرة} . قَامَ مَيِّتُ الْبَذْرِ مِنْ حُفْرَتِهِ، وَقَدِمَ بَعْدَ طُولِ سَفْرَتِهِ، وَمُنِحَ النَّبَاتُ لِكَثَرْتِهِ قَانِعَةً وَمُعْتَرَّةً " فتصبح الأرض مخضرة ". تَكَلَّمَتِ الأَطْيَارُ وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ، وَارْتَاحَتْ بِنُطْقِهَا حَتَّى الْبُومُ، وَتَبَدَّلَتِ الأَرْضُ الْفَرَحَ مِنَ الْهُمُومِ، فَانْقَلَبَتْ تِلْكَ الْغُمُومُ كُلُّهَا مَسَرَّةً " {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} . جِيدَتِ الأَرْضُ فَرَوَتِ التُّرَابَ، وَأُجِيدَتِ الْمَوَاعِظُ فَهَلْ أُحْضِرَتِ الأَلْبَابُ؟! ، وَمَا يُؤْثَرُ اللَّوْمُ وَالْعِتَابُ، إِلا عند نفس حرة {فتصبح الأرض مخضرة} . وَالْحَمْدُ للَّهِ وَحْدَهُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

المجلس الثالث في ذكر الصلاة

الْمَجْلِسُ الثَّالِثُ فِي ذِكْرِ الصَّلاةِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَوْضَحَ سَبِيلَ هِدَايَتِهِ لأَرْبَابِ وِلايَتِهِ، وَأَبْهَجَ وَحَرَّكَ أَهْلَ عِبَادَتِهِ إِلَى مُعَامَلَتِهِ وَأَزْعَجَ، وَأَبْدَعَ بَدَائِعَ قُدْرَتِهِ فِي مُحْكَمِ صُنْعِهِ وَأَخْرَجَ، وَأَوْقَدَ نِيرَانَ مَحَبَّتِهِ فِي أَفْئِدَةِ أَحِبَّتِهِ وَأَجَّجَ، مَنْ عَرَفَ لُطْفَهُ ثَنَى عَطْفَهُ إِلَيْهِ وَأَدْلَجَ، وَمَنْ خَافَ عَتْبَهُ تَرَكَ ذَنْبَهُ وَتَحَرَّجَ، يُحِبُّ الإِخْلاصَ فِي الأَعْمَالِ وَلا يَخْفَى عَلَيْهِ الْبَهْرَجُ، حَلِيمٌ فَإِنْ غَضِبَ مَكَرَ بِالْعَبْدِ وَاسْتَدْرَجَ، لا يُغْتَرُّ بِحِلْمِهِ فَكَمْ عِقَابٍ فِي الْحِلْمِ أَدْرَجَ، وَاعْتَبِرْ بِأَبِيكَ إِذْ فَسَّحَ لِنَفْسِهِ فِي شَهْوَةٍ وَأَمْرَجَ، وحام حولي الْمَنْهِيِّ اغْتِرَارًا بِالصَّفْحِ وَعَرَّجَ، كَيْفَ أَصْبَحَ إِكْرَامُهُ بمرير الهوان يمزج، وأضحى بنسج الصُّوفَ إِذْ عَرِيَ عَمَّا يُنْسَجُ، وَصَارَ مُغَبَّرَ الْقَدَمَيْنِ بَعْدَ فَرَسِ الْعِزِّ الْمُسْرَجِ، وَلَمْ تَزَلْ تَجْرِي دُمُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى أَنْ تَابَ عَلَيْهِ وَفَرَّجَ، لا يَخْفَى عَلَيْهِ ضَمِيرُ الْقَلْبِ، وَإِنْ تَلَوَّى اللِّسَانُ وَمَجْمَجَ، وَلا يَغِيبُ عَنْ بَصَرِهِ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ طَرَفٌ أَدْعَجُ، يُبْصِرُ جَرْيَ اللَّبَنِ يَسْرِي فِي الْعُرُوقِ نَحْوَ الْمَخْرَجِ، وَيَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَأَيْنَ الَّذِي بِالْمُنَاجَاةِ يَلْهَجُ، فَيَسْتَعْرِضُ الْحَوَائِجَ إِلَى أَنْ يَلُوحَ الْفَجْرُ وَيَتَبَلَّجَ وَمَا انْتَقَلَ وَمَنْ عَقِلَ رَأَى الْحَقَّ أَبْلَجَ، هَذَا مَذْهَبٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْقَدِيمِ وَالنَّقْلُ الْقَوِيمُ مُسْتَخْرَجٌ، وَهُوَ الْمِنْهَاجُ الْعَظِيمُ فَلا تَعْرُجْ عَنِ الْمَنْهَجِ. أَحْمَدُهُ عَلَى مَا سَرَّ وَمَا أَزْعَجَ، وَأَشْهَدُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ بِغَيْرِ تَلَجْلُجٍ، شَهَادَةَ مُوقِنٍ مَا لَجْلَجَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي مَحَاسِنُ الشَّرَائِعِ فِي شَرِيعَتِهِ تُدْرَجُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ أَوَّلِ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ وَأَخْرَجَ، وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي اضْطَرَّ كِسْرَى إِلَى الْهَرَبِ وَأَحْوَجَ، وَعَلَى عُثْمَانَ الْمَظْلُومِ وَقَدْ عَذَلَ وَمَا عَدَلَ وَلا عَرَّجَ، وَعَلَى

عَلِيٍّ مُبِيدِ الطُّغَاةِ وَآخِرُهُمُ الْمُخْدَجُ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي قَرَنَ اللَّهُ نَسَبَهُ بِنَسَبِ الرَّسُولِ وَأَزْوَجَ. (أَخْبَرَنَا) هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، سَمِعْتُ الأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ الْمُعَيْطِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْدَانُ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ، قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ أَوْ قَالَ قُلْتُ بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ فَسَكَتَ ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّانِيَةَ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ، فَإِنَّكَ لا تَسْجُدُ للَّهِ سَجْدَةً إِلا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً " قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. (اعْلَمْ) أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَظَّمَ قَدْرَ الصَّلاةِ لأَنَّهَا أَوْفَى خِدْمَةِ الْعَبْدِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْعَبْدِ التَّعَبُّدُ، وَهِيَ جَامِعَةٌ بَيْنَ خُضُوعِ بَدَنِهِ وَنُطْقِ لِسَانِهِ وَحُضُورِ قَلْبِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عِبَادَةَ مَلائِكَتِهِ بَيْنَ سُجُودٍ وَرُكُوعٍ وَذِكْرٍ، وَذَلِكَ مَجْمُوعٌ فِي الصَّلاةِ، وَلَيْسَ لَنَا فِعْلٌ يَدْخُلُ بِهِ الْكَافِرُ فِي حُكْمِ الإِسْلامِ وَيَخْرُجُ بِتَرْكِهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الإِسْلامِ إِلا الصَّلاةَ، فَإِنَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا صَلَّى حُكِمَ بِإِسْلامِهِ سَوَاءٌ صَلَّى مَعَ جَمَاعَةٍ أَوْ مُنْفَرِدًا فَيُجْبَرُ عِنْدَنَا عَلَى الإِسْلامِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا كَقَوْلِنَا. وَالثَّانِيَةُ: اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ فِي جَمَاعَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا صَلَّى الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الإِسْلامِ حُكِمَ بِإِسْلامِهِ. وَأَمَّا تَارِكُ الصَّلاةِ فَلا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُنَا عَنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا أَوْ كُفْرًا. فِيهِ رِوَايَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ وَجَابِرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:

" بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ صَلاةٍ ". وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُقْتَلُ حَدًّا لا أَنَّهُ يَكْفُرُ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُحْبَسُ وَلا يُسْتَتَابُ وَلا يُقْتَلُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرْعَ عَظَّمَ أَمْرَ الصَّلاةِ وَضَرَبَ الأَمْثَالَ بِفَضْلِهَا. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَامِرٍ الأَزْدِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْغُورَجِيُّ، قَالا أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، أَنْبَأَنَا التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الْهَادِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ قَالُوا: لا. قَالَ فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ ". وَفِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ما من امرىء مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ ". (أَخْبَرَنَا) سَعِيدُ بْنُ أَحْمَدَ بِسَنَدِهِ إِلَى مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنه قال قال رسول الله: " اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصَوْا، وَاعْلَمُوا أَنَّ فَضْلَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاةُ، وَلا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلا مُؤْمِنٌ. وَقَدْ فَضَّلَ الشَّرْعُ تَقْدِيمَ الصَّلاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: " الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا ".

وَفُضِّلَتِ الصَّلاةُ فِي الْجَمَاعَةِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " صلاة الجماعة تفضل على الصلاة الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ". وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ صَلَّى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ لَمْ تَفُتْهُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بَرَائَتَيْنِ: بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةً مِنَ النِّفَاقِ ". (أَخْبَرَنَا) مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ بِسَنَدِهِ قَالَ الْبَغَوِيُّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيَّ يَقُولُ: لَمْ تَكُنْ تَفُوتُنِي صَلاةُ الْعَتَمَةِ فِي جَمَاعَةٍ، فَنَزَلَ بِي ضَيْفٌ فَشُغِلْتُ بِهِ فَخَرَجْتُ أَطْلُبُ الصَّلاةَ فِي قَبَائِلِ الْبَصْرَةِ فَإِذَا النَّاسُ قَدْ صَلَّوْا وَخَلَتِ الْقَبَائِلُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلاةِ الْفَذِّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ". وَرُوِيَ " سَبْعًا وَعِشْرِينَ ". فَانْقَلَبْتُ إِلَى مَنْزِلِي فَصَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، ثُمَّ رَقَدْتُ فَرَأَيْتُنِي مَعَ قَوْمٍ رَاكِبِي أَفْرَاسٍ وَأَنَا رَاكِبٌ فَرَسًا كَأَفْرَاسِهِمْ وَنَحْنُ نَتَجَارَى فَالْتَفَتُّ إِلَى أَحَدِهِمْ فَقَالَ لا تُجْهِدْ فَرَسَكَ فَلَسْتَ بِلاحِقِنَا. فَقُلْتُ: فَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّا صَلَّيْنَا الْعَتَمَةَ فِي جَمَاعَةٍ. وَوِرْدُ الثَّوَابِ لِمُنْتَظِرِ الصَّلاةِ. فَرُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ لا يَمْنَعُهُ إِلا انْتِظَارُهَا ". وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ لا يَمْنَعُهُ إِلا انْتِظَارُهَا ". وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ما قَالَ صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ فَعَقَبَ مَنْ عَقَبَ وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْسِرُ ثِيَابَهُ عَنْ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: " أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ

السَّمَاءِ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ يَقُولُ: " هَؤُلاءِ عِبَادِي قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى ". وَقَدْ عُظِّمَ الصَّفُّ الأَوَّلُ فَرُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا لاسْتَهَمُوا ". وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةً ". وَقَدْ أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِخَفْضِ رَأْسِهِ اسْتِعْمَالا لأَدَبِ الْخِدْمَةِ فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاةِ أَوْ لا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ ". وَأَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِالتَّثَبُّتِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، حَدَّثَنَا الْكَرُوخِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: " لا تجزىء صَلاةٌ لا يُقِيمُ فِيهَا الرَّجُلُ يَعْنِي صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ شَيْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لا يَنْظُرُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى رَجُلٍ لا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ". وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّلاةِ إِنَّمَا هُوَ تَعْظِيمُ الْمَعْبُودِ، وَتَعْظِيمُهُ لا يَكُونُ إِلا بِحُضُورِ الْقَلْبِ فِي الْخِدْمَةِ. وَقَدْ كَانَ فِي السَّلَفِ مَنْ يَتَغَيَّرُ إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ وَيَقُولُ: أَتَرَوْنَ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ أُرِيدُ أَنْ أَقِفَ؟! وَأَنْتَ تَعَلْمُ أَنَّ مَنْ حَضَرَ قَلْبُهُ فِي تَعْظِيمِ سُلْطَانِهِ فَحَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَنْ يَعْرِفُ مَنْ إِلَى جَانِبِهِ امْتَلأَ بِهَيْبَةِ الْمُعَظَّمِ، فَإِذَا أَرَدْتَ اسْتِجْلابَ حُضُورِ قَلْبِكَ الْغَائِبِ فَفَرِّغْهُ مِنَ الشَّوَاغِلِ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ. وَقَدْ كَانَ أَرْبَابُ التَّفَكُّرِ مِنَ السَّلَفِ يُشَاهِدُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِبْرَةً، فَيَذْكُرُونَ بِالأَذَانِ نِدَاءَ الْعَرْضِ، وَبِطَهَارَةِ الْبَدَنِ تَطْهِيرَ الْقَلْبِ، وَبِسَتْرِ الْعَوْرَةِ طلب ستر

الكلام على البسملة)

الْقَبَائِحِ مِنْ عُيُوبِ الْبَاطِنِ، وَبِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ صَرْفَ الْقَلْبِ إِلَى الْمَقْلَبِ، فَمَنْ لَمْ تَكُنْ صَلاتُهُ هَكَذَا فَقَلْبُهُ غَافِلٌ. يَا هَذَا إِذَا صَلَّيْتَ وَالْقَلْبُ غَائِبٌ وُجُودُهُ فَالصَّلاةُ كَالْعَدَمِ، وَهُوَ بِالرُّومِ مُقيِمٌ وَلَهُ بِالشَّامِ قَلْبٌ، يَا ذَاهِلَ الْقَلْبِ فِي الصَّلاةِ حَاضِرَ الذِّهْنِ فِي الْهَوَى، جَسَدُهُ فِي الْمِحْرَابِ وَقَلْبُهُ فِي بِلادِ الْغَفْلَةِ. جَاءَ مَمْلُوكٌ إِلَى سَيِّدِهِ فَقَالَ: ضَاعَتْ مِخْلاةُ الْفَرَسِ، فَقَامَ السَّيِّدُ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ قَالَ: هِيَ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا: فَقَالَ الْغُلامُ: يَا سَيِّدِي أَعِدِ الصَّلاةَ فَإِنَّكَ كُنْتَ تُفَتِّشُ عَلَى الْمِخْلاةِ! قَالَ الْحَسَنُ: يَابْنَ آدَمَ إِذَا هَانَتْ عَلَيْكَ صَلاتُكَ فَمَا الَّذِي يَعِزُّ عَلَيْكَ؟ وَلَمَّا كَانَ الْمَطْلُوبُ حُضُورَ الْقَلْبِ جَاءَ الْوَعْدُ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ عَلَيْهِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ لا يَسْهُو فِيهِمَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ". وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَالْقِرَاءَةَ فِيهَا قَالَتْ: حَفِظَكَ اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَنِي. ثُمَّ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ وَلَهَا ضَوْءٌ وَنُورٌ فَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَشْفَعَ لِصَاحِبِهَا. فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ رُكُوعَهَا وَلا سُجُودَهَا وَلا الْقِرَاءَةَ فِيهَا قَالَتْ: ضَيَّعَكَ اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي. ثُمَّ أُصْعِدَتْ إِلَى السَّمَاءِ وَعَلَيْهَا ظُلْمَةٌ فأغلقت دونها أبواب السماء فَلُفَّتْ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلِقُ، فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا ". ( الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ) (لا تَأْسَفَنَّ لأَمْرٍ فَاتَ مَطْلَبُهُ ... هَيْهَاتَ مَا فَائِتُ الدُّنْيَا بِمَرْدُودِ) (إِذَا اقْتَضَتْ أَخْذَتْ نَقْدًا وَإِنْ سُئِلَتْ ... فَدَأْبُهَا بِالأَمَانِي وَالْمَوَاعِيدِ) (وَمَا السُّرُورُ بِهَا الْمَوْرُوثُ آخِرُهُ ... أَنْ يَتْبَعَ الْحِرْصَ إِلا قَلْبُ مَكْدُودِ)

(وَلِلتَّأَسُّفِ يَبْقَى كُلُّ مُدَّخَرٍ ... وَلِلْمَنِيَّةِ يَغْدُو كُلُّ مَوْلُودِ) يَا مَخْلُوقًا مِنْ عَلَقٍ، اكْتَفِ مِنَ الدُّنْيَا بِالْعَلَقِ، وَاحْذَرْ فِي رِيِّ الْهَوَى مِنْ شَرَقٍ، وَتَذَكَّرْ يَوْمَ الرَّحِيلِ ذَاكَ الْقَلَقُ، وَتَفَكَّرْ فِي هَاجِمٍ يُسَوِّي بَيْنَ الْمُلُوكِ وَالسُّوَقِ، وَتَأَهَّبْ لَهُ فَرُبَّمَا بَكَّرَ وَرُبَّمَا طَرَقَ، يَا مَنْ شَابَ وَمَا تَابَ، اسْتُلِبَ بَاقِي الرَّمَقِ، أَبَعْدَ الْحِلْمِ جَهْلٌ أَمْ بَعْدَ الشَّيْبِ نَزَقٌ، كَانَ الشَّبَابُ غُصْنًا غَضًّا فَخُلِّيَ عَنْ وَرَقٍ، وَأَنْتَ فِي الشَّبَابِ كَالشَّيْبِ تَجْرِي عَلَى نَسَقٍ، يَا غَرِيقًا فِي الْهَوَى صِحَّ مِنْ قَبْلِ الْغَرَقِ، كَمْ طَالِبٍ خَلاصًا لَمَّا فَاتَ مَا اتَّفَقَ. لَيَأْتِيَنَّكَ مِنَ الْمَوْتِ مَا لا يَقْبَلُ رِشْوَةً وَلا مَالا، إِذَا حَالَ عَلَى الْقَوِيِّ وَالْقَوِيمِ مَالا، يَا مُخْتَارَ الْهَوَى جَهْلا وَضَلالا، لَقَدْ حَمَّلْتَ أَزْرَكَ أَوْزَارًا ثِقَالا، إِيَّاكَ وَالْمُنَى فَكَمْ وَعَدَ الْمُنَى مُحَالا، كَمْ قَالَ لِطَالِبِ نِعَمٍ: نَعَمْ سَأُعْطِيكَ نَوَالا وَقَدْ نَوَى: لا. كَمْ سقى الموت من الحسرات كؤوسا، كَمْ فَرَّغَ رَبْعًا عَامِرًا مَأْنُوسًا، كَمْ طَمَسَ بُدُورًا وَشُمُوسًا وَاسْتَلَبَ نَعِيمًا ثُمَّ أَعْطَى بُوسًا، وَأَذَلَّ جَبَابِرَةً كَانُوا شُوسًا، وَأَغْمَضَ عُيُونًا وَنَكَّسَ رؤوسا وَأَبْدَلَ التُّرَابَ عَنِ الثِّيَابِ مَلْبُوسًا. (إِذَا كَانَ مَا فِيهِ الْفَتَى عَنْهُ زَائِلا ... فَشَتَّانٌ فِيهِ أدرك الحظ أو أخطا) (وليس بفي يَوْمًا سُرُورًا وَغِبْطَةً ... بِحُزْنٍ إِذَا الْمُعْطِي اسْتَرَدَّ الَّذِي أَعْطَا) ذَهَبَ الشَّبَابُ الأَسْوَدُ، وَانْقَضَى الْعَيْشُ الأَرْغَدُ، وَقَالَ الشَّيْبُ: أَنَا الْمَوْتُ وَمَا أَبْعُدُ، هَذَا وَقَلْبُ الْغَافِلِ كَالْجَلْمَدِ: (لا بِدْعَ إِنْ ضَحِكَ الْفَقِيرُ ... فَبَكَى لِضِحْكَتِهِ الْكَبِيرُ) (عَاصَى الْعَزَاءُ عن الشباب ... وطلوع الدَّمْعُ الْغَزِيرُ) (سُقْيًا لأَيَّامٍ مَضَتْ ... فَطَوِيلُهَا عِنْدِي قَصِيرُ) (سَقْيُ الشَّبَابِ وَإِنْ عَفَى ... آثَارُ مَعْهَدِهِ الْقَتِيرُ) (مَا كَانَ إِلا الْمُلْكُ أَوْدَى ... بَلْ هَوًى وَهَوَى السَّرِيرُ)

(هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنَّهَا ... خَلْعٌ أُعَارِكُهَا مُعِيرُ) (وَالدَّهْرُ يَقْسِمُ مَرَّةً ... نَفْلا وَآوِنَةً يُغِيرُ) كُلُّ رَاحَاتِ الدُّنْيَا هُمُومٌ وَكُرُوبٌ، أَمَا دَوَامُ الْعَيْشِ بِالْمَشِيبِ مَشُوبٌ. نَظَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ وَزِيرُ الْمُهْتَدِي يَوْمًا فِي الْمِرْآةِ فَرَأَى شَيْبًا كَثِيرًا فَقَالَ: عَيْبٌ لا عَدِمْنَا. أَنْتَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى الْقَبْرِ تَتَقَرَّبُ، وَسَتَرْحَلُ إِلَى الْبِلَى وَتَتَغَرَّبُ، وَسَيَأْكُلُ الْمُحِبُّ بَعْدَكَ وَيَشْرَبُ، وَكَأَنَّكَ إِذَا ذُكِرْتَ أَضْرَبَ، فَخُذِ الْعُدَّةَ فَخَيْلُ الشِّدَّةِ تَسْرُبُ، وَاسْمَعْ نُصْحِي فَنُصْحِي مُجَرَّبٌ، يَا هَذَا احْذَرِ الأَمَلَ، وَبَادِرِ الْعَمَلَ، فَكَأَنَّكَ بِالأَجَلِ عَلَى عَجَلٍ. أَمَا الأَعْمَارُ كُلَّ يَوْمٍ نَاقِصَةٌ، أَمَا الْفَجَائِعُ وَارِدَةٌ وَاقِصَةٌ، أَمَا النَّكَبَاتُ لأَهْلِهَا مُعَاقِصَةٌ، أَمَا كَفُّ الْمَوْتِ قَابِضَةٌ قَانِصَةٌ، فَأَنَّى لِسَاكِنِ الدُّنْيَا بِالسَّلامَةِ الْخَالِصَةِ، كَأَنَّكَ بِالْمَوْتِ قَدْ ثَلَبَ وَقَدَحَ، وَأَوْرَى زِنَادَ الرَّحِيلِ وَقَدَحَ، وَخَلَتْ كَفُّكَ يَا مَنْ تَعِبَ وَكَدَحَ، وَتَسَاوَى لَدَيْكَ مَنْ ذَمَّ وَمَنْ مَدَحَ، مَا هَذِهِ الْعِمَارَةُ لِدَارِ خَرَابٍ، كُلَّمَا عَمَّرَهَا قَوْمٌ صَاحَ بَيْنَهُمْ لِلْبَيْنِ غُرَابٌ، أَتَبْنِي وَأَنْتَ نتقض، هَذَا الْعُجَابُ: (رُبَّ شَرِيفِ الْبِنَاءِ عَالِيَهْ ... بِالشَّيْدِ وَالسَّاجِ كَانَ بَانِيَهْ) (كَأَنَّمَا الشَّمْسُ فِي جَوَانِبِهِ ... بِاللَّيْلِ مِنْ حُسْنِهِ تُبَاهِيَهْ) (تَحَارُ فِي صَحْنِهِ الرِّيَاحُ كَمَا ... يَحَارُ سَارِي الظَّلامِ فِي التِّيَهْ) (كَانَتْ صُحُونُ فَيْحٍ تَضِيقُ بِهِ ... فَالشِّبْرُ فِي الْقَبْرِ صَارَ يَكْفِيَهْ) الْجِدَّ الْجِدَّ قَبْلَ بَغَتَاتِ الْمَنَايَا، الْبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ حُلُولِ الرَّزَايَا، لَيَحُلَّنَّ بِكُمْ مِنَ الْمَوْتِ يَوْمٌ ذُو ظُلْمٍ يُنْسِيكُمْ مُعَاشَرَةَ اللَّذَّاتِ وَالنِّعَمِ، وَلا يُبْقِي فِي الأَفْوَاهِ إِلا طَعْمُ النَّدَمِ: (سَلْ بِالزَّمَانِ خَبِيرًا ... إِنِّي بِهِ لَعَلِيمُ) (وَاهِي الأَمَانَةِ ظَاعِنٌ ... بِالْمَرْءِ وَهْوَ مقيم)

الكلام على قوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} سبب نزولها أنه لما نزل: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} شق ذلك على قريش وقالوا: شتم آلهتنا فجاء ابن الزبعرى فقال: مالكم؟ قالوا: شتم آلهتنا

(لا تُخْدَعَنَّ بِمُنْيَةٍ ... أُمُّ الْخُلُودِ عَقِيمُ) (وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَبْرَقَتْ ... فَرَجَاؤُكَ الْمَهْزُومُ) (عِشْقُ الْبَقَاءِ وَإِنَّمَا ... طُولُ الْحَيَاةِ هُمُومُ) مَا هَذِهِ الْخِصَالُ الْمَذْمُومَةُ، أَيُؤْثِرُ الْفَهُومُ لَذَّةً مَسْمُومَةً، إِنَّ هَذِهِ لَعُقُولٌ مَرْجُومَةٌ، مَتَى تَيَقَّظٌ هَذِهِ النُّفُوسُ الْمَلُومَةُ، إِنَّهَا لَظَالِمَةٌ وَكَأَنَّهَا مَظْلُومَةٌ، تَعَاهَدُوا وَالْعُهُودُ كُلَّ يَوْمٍ مَهْدُومَةٌ، لَتَتَمَنَّيَنَّ أَنْ تَكُونَ فِي غَدٍ مَعْدُومَةٍ، لَتَعْلَمَنَّ أَنَّ اخْتِيَارَاتِهَا كَانَتْ مَشْئُومَةً، مَنْ لَهَا إِذَا بَدَتْ لَهَا خِصَالٌ مَكْتُومَةٌ، كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا نُشِرَتِ الصُّحُفُ مَخْتُومَةً، مَا هَذَا الْحِرْصُ الشَّدِيدُ وَالأَرْزَاقُ مَقْسُومَةٌ، تُصْبِحُ حَزِينَةً وَتُمْسِي مَهْمُومَةً، أَتَقْدِرُ عَلَى رَدِّ مَا يُقَدَّرُ وَالأُمُورُ مَخْتُومَةٌ، أسفا لها الموت يطلبها وهو مؤومة، مَا حَارَبَتْ جُنْدَ هُوًى إِلا وَعَادَتْ مَهْزُومَةً، يَا لَهَا مَوْعِظَةٍ بَيْنَ الْمَوَاعِظِ كَالأَيَّامِ الْمَعْلُومَةِ أحسن من اللآلىء الْمَنْثُورَةِ. وَالْعُقُودِ الْمَنْظُومَةِ الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مبعدون} سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تعبدون من دون الله حصب جهنم} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَقَالُوا: شَتَمَ آلِهَتَنَا فجاء ابن الزبعرى فقال: مالكم؟ قَالُوا: شَتَمَ آلِهَتَنَا قَالَ: وَمَا قَالَ؟ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: ادْعُوهُ لِي. فَلَمَّا دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا شَيْءٌ لآلِهَتِنَا خَاصَّةً أَوْ لِكُلِّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلْ لِكُلِّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ ابْنُ الزَّبْعَرَى: خُصِمْتَ وَرَبِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ! أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ الْمَلائِكَةَ عِبَادٌ صَالِحُونَ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدٌ صَالِحٌ، وَأَنَّ عُزَيْرًا عَبْدٌ صَالِحٌ؟ فَهَذِهِ بَنُو مُلَيْحٍ يَعْبُدُونَ الْمَلائِكَةَ، وَهَذِهِ النَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى، وَهَذِهِ الْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا، فَضَجَّ أَهْلُ مَكَّةَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. قَالَهُ ابْنُ عباس.

اسْمُ ابْنِ الزَّبْعَرَى: عَبْدُ اللَّهِ كَانَ يَهْجُو أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [والزيعرى] بِفَتْحِ الْبَاءِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ {وما تعبدون} الأَصْنَامُ، لأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمَلائِكَةَ وَالنَّاسَ [لَقَالَ] وَمَنْ. وَالْحُسْنَى عِنْدَ الْعَرَبِ: كَلِمَةٌ تُوقِعُ كُلَّ مَحْبُوبٍ وَمَطْلُوبٍ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: (فَصِرْنَا إِلَى الْحُسْنَى وَرَقَّ كَلامُنَا ... وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةٌ أَيَّ إذلال) وقوله تعالى: {أولئك عنها} أي عن جهنم " مبعدون " وَالْبُعْدُ طُولُ الْمَسَافَةِ، وَالْحَسِيسُ: الصَّوْتُ تَسْمَعُهُ مِنَ الشَّيْءِ إِذَا مَرَّ قَرِيبًا مِنْكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا يَسْمَعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ حَسِيسَ أَهْلِ النَّارِ إِذَا نَزَلُوا مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ {وَهُمْ فيما اشتهت أنفسهم خالدون} . أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بِسَنَدِهِ إِلَى عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَقَالَ: إِنَّ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ فقال له: أو لست فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ. فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ واستحصاده، فيقول الله عز وجل: دونك يا بن آدَمَ لا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ. فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لا نَجِدُ هَذا إِلا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ. قَوْلُهُ تعالى " لا يحزنهم الفزع الأكبر " فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ النَّفْخَةُ الأَخِيرَةُ رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا إِطْبَاقُ النَّارِ عَلَى أَهْلِهَا. رَوَاهُ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ ذَبْحُ الْمَوْتِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ حِينَ يُؤْمَرُ بِالْعَبْدِ إِلَى النَّارِ. قَالَهُ الْحَسَنُ. قَوْلُهُ. {وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة} ، اخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ التَّلَقِّي عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ. قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَالثَّانِي: عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ. قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ. قوله {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} فِيهِ إِضْمَارٌ: يَقُولُونَ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فِيهِ الْجَنَّةَ. أَيْنَ مَنْ يَعْمَلُ لِذَلِكَ الْيَوْمِ، أَيْنَ الْمُتَيَقِّظُ مِنْ سِنَةِ النَّوْمِ، أَيْنَ مَنْ يَلْحَقُ بِأُولَئِكَ الْقَوْمِ، جِدُّوا فِي الصَّلاةِ وَأَخِّرُوا فِي الصَّوْمِ، وَعَادُوا عَلَى النُّفُوسِ بِالتَّوْبِيخِ وَاللَّوْمِ، لَيْتَكَ إِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الإِشْمَامِ لِطَرِيقَتِهِمْ حَصَّلْتَ الرَّوْمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ نَطْوِي السماء} وَذَلِكَ بِمَحْوِ رُسُومِهَا وَتَكْدِيرِ نُجُومِهَا وَتَكْوِيرِ شَمْسِهَا {كطي السجل} وفي السجل أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَلَكٌ. قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالسُّدِّيُّ. وَالثَّانِي: كَاتِبٌ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: السِّجِلُّ بِمَعْنَى الرَّجُلِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ: وَقَدْ قِيلَ: السِّجِلُّ بِمَعْنَى لُغَةِ الْحَبَشَةِ: الرَّجُلُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا الصَّحِيفَةُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَرَأْتُ عَلَى شَيْخِنَا أَبِي الْمَنْصُورِ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ: السِّجِلُّ: الْكِتَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلا أَلْتَفِتُ إِلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. وَالْمَعْنَى: كَمَا يُطْوَى السِّجِلُّ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْكِتَابِ. وَاللامُ بِمَعْنَى عَلَى. وقال

بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمَكْتُوبُ، فَلَمَّا كَانَ الْمَكْتُوبُ يَنْطَوِي بِانْطِوَاءِ الصَّحِيفَةِ جَعَلَ السِّجِلُّ كَأَنَّهُ يَطْوِي الْكِتَابَ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: {كَمَا بَدَأْنَا أول خلق نعيده} وَفِي مَعْنَاهُ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا كَمَا بَدَأْنَاهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا، كَذَلِكَ نُعِيدُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بِسَنَدِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كنا فاعلين ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَالْغُرْلُ: الْقُلْفُ، يُقَالُ هُوَ أَقْلَفُ وَأَغْرَلُ وَأَغْلَفُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَفِي بَعْضِ الأَحَادِيثِ بُهْمًا، وَمَعْنَاهُ: سَالِمِينَ مِنْ عَاهَاتِ الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا لا جُذَامَ بِهِمْ وَلا بَرَصَ وَلا عَمَى وَلا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْبَلايَا لَكِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ بِأَجْسَادٍ مُصَحَّحَةٍ لِخُلُودِ الأَبَدِ، إِمَّا فِي الْجَنَّةِ وَإِمَّا فِي النَّارِ، وَالْبُهْمُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَسْوَدُ بَهِيمٌ وَكُمَيْتٌ بَهِيمٌ وَأَشْقَرُ بَهِيمٌ: إِذَا كَانَ لا يُخَالِطُ لَوْنَهُ لَوْنٌ آخَرُ، فَكَذَلِكَ هَؤُلاءِ يُبْعَثُونَ مُعَافِينَ عَافِيَةً لا يُخَالِطُهَا سُقْمٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّا نُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ السَّمَاءَ تُمْطِرُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ فَيَنْبُتُونَ بِالْمَطَرِ فِي قُبُورِهِمْ كَمَا يَنْبُتُونَ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ. رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ أَنَّ الْمَعْنَى: قُدْرَتُنَا عَلَى الإِعَادَةِ كَقُدْرَتِنَا عَلَى الابْتِدَاءِ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ.

يَا لَهُ مِنْ يَوْمٍ مَا أَعْجَبَ أَحْوَالَهُ وَمَا أَصْعَبُ أَهْوَالَهُ وَمَا أَكْثَرُ أَوْحَالَهُ، مَرِيضٌ طَرْدُهُ لا يُرْجَى لَهُ، ذِكْرُ الْقِيَامَةِ أَزْعَجَ الْمُتَّقِينَ وَخَوْفُ الْعَرْضِ أَقْلَقَ الْمُذْنِبِينَ، وَيَوْمُ الْحِسَابِ أَبْكَى الْعَابِدِينَ، وَأَرَى قَلْبَكَ عِنْدَ ذِكْرِهِ لا يَلِينُ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُكَارِي عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَوْنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: وَيْحِي كَيْفَ أَغْفُلُ وَلا يُغْفَلُ عَنِّي، أَمْ كَيْفَ تُهَنِّينِي مَعِيشَتِي وَالْيَوْمُ الثَّقِيلُ وَرَائِي، أَمْ كَيْفَ لا يَطُولُ حُزْنِي وَلا أَدْرِي مَا فُعِلَ فِي ذَنْبِي، أَمْ كَيْفَ أُؤَخِّرُ عَمَلِي وَلا أَعْلَمُ مَتَى أَجَلِي، أَمْ كَيْفَ يَشْتَدُّ عَجَبِي بِالدُّنْيَا وَلَيْسَتْ بِدَارِي، أَمْ كَيْفَ أَجْمَعُ لَهَا وَفِي غَيْرِهَا قَرَارِي، أَمْ كَيْفَ تَعْظُمُ رَغْبَتِي فِيهَا وَالْقَلِيلُ مِنْهَا يَكْفِينِي، أَمْ كَيْفَ آمَنُ فِيهَا وَلا يَدُومُ فِيهَا حَالِي، أَمْ كَيْفَ يَشْتَدُّ حِرْصِي عَلَيْهَا وَلا يَنْفَعُنِي مَا تَرَكْتُ مِنْهَا بَعْدِي، أَمْ كَيْفَ أُؤْثِرُهَا وَقَدْ ضَرَّتْ مَنْ آثَرَهَا قَبْلِي، أَمْ كَيْفَ لا أَفُكُّ نَفْسِي مِنْ قَبْلِ أَنْ يُغْلَقَ رَهْنِي. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَرَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلالٍ، أَنَّ أُمَّهُ عَثَّامَةَ كَفَّ بَصَرُهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا ابْنُهَا يَوْمًا وَقَدْ صَلَّى فَقَالَتْ: أَصَلَّيْتُمْ أَيْ بُنَيَّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: (عثام مالك لاهِيَهْ ... حَلَّتْ بِدَارِكِ دَاهِيَهْ) (ابْكِي الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا ... إِنْ كُنْتِ يَوْمًا بَاكِيَهْ) (وَابْكِي الْقُرْآنَ إِذَا تُلِي ... أَنْ كُنْتِ يَوْمًا تَالِيَهْ) (تَتْلِينَهُ بِتَفَكُّرٍ ... وَدُمُوعُ عَيْنِكِ جَارِيَهْ) (فَالْيَوْمَ لا تَتْلِينَهُ ... إِلا وَعِنْدَكِ تَالِيَهْ) (لَهْفِي عَلَيْكِ صَبَابَةً ... مَا عِشْتُ طُولَ حَيَاتِيَهْ) يَا غَافِلا عَنِ الْقِيَامَةِ سَتَدْرِي بِمَنْ تَقَعُ النَّدَامَةُ، يَا مُعْرِضًا عَنِ الاسْتِقَامَةِ أَيْنَ وَجْهُ السَّلامَةِ، يَا مبنيا بِالْقُدْرَةِ سَيُنْقَضُ بِنَاؤُكَ، وَيَا مُسْتَأْنِسًا بِدَارِهِ سَتَخْلُو

أَوْطَانُكَ، يَا كَثِيرَ الْخَطَايَا سَيَخِفُّ مِيزَانُكَ، يَا مَشْغُولا بِلَهْوِهِ سَيُنْشَرُ دِيوَانُكَ، يَا أَعْجَمِيَّ الْفَهْمِ مَتَى تَفْهَمُ، أَتُعَادِي النَّصِيحَ وَتُوَالِي الأَرْقَمَ، وَتُؤْثِرُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَسْبَ دِرْهَمٍ، وَتَفْرَحُ بِذَنْبٍ عُقُوبَتُهُ جَهَنَّمُ، سَتَعْلَمُ حَالَكَ غَدًا سَتَعْلَمُ، سَتَرَى مَنْ يَبْكِي وَمَنْ يَنْدَمُ، إِذَا جَثَا الْخَلِيلُ وَتَزَلْزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ، يَا عَاشِقَ الدُّنْيَا كَمْ مَاتَ مُتَيَّمٌ، يَا مَنْ إِذَا خَطَرَتْ لَهُ مَعْصِيَةٌ صَمَّمَ، مَا فِعْلُكَ فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُسْلِمَ، مَا لِلْفَلاحِ عَلامَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِنْ كَانَ ثَمَّ عُذْرٌ فَقُلْ وَتَكَلَّمْ. أَيُّهَا الْمُثْخِنُ نَفْسَهُ بِجِرَاحَاتِ الشَّبَابِ، حَسْبُكَ مَا قَدْ مَضَى سَوَّدْتَ الْكِتَابَ، أَبَعْدَ الشَّيْبِ وَعْظٌ أَوْ زَجْرٌ أَوْ عِتَابٌ، هَيْهَاتَ تَفَرَّقَتْ وُصُلُ الْوَصْلِ وَتَقَطَّعَتِ الأَسْبَابُ. (حَسْبُكَ مَا قَدْ مَضَى مِنَ اللَّعِبِ ... فَتُبْ إِلَى اللَّهِ فِعْلَ مُرْتَقِبِ) (طَوَاكَ مر السنين فاطو ثيات اللَّهْوِ ... وَاخْلَعْ جَلابِيبَ الطَّرَبِ) (وَتُبْ فَإِنَّ الْجَحِيمَ تنتظر الأشيب ... إِنْ مَاتَ وَهْوَ لَمْ يَتُبِ) (تَظْهَرُ مِنْهَا عَلَيْهِ أَغْلَظَ مَا ... تُظْهِرُهُ لِلشَّبَابِ مِنْ غَضَبِ) السجع عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نعيده} . يَا مَنْ لا يُؤْثَرُ عِنْدَهُ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ، وَلا يُزْعِجُهُ تَخْوِيفُهُ وَتَهْدِيدُهُ، يَا مُطْلَقًا سَتُعَقِّلُهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ يُفْنِيهِ الْبِلَى وَيُبِيدُهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيُبْتَدَأُ تَجْدِيدُهُ {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خلق نعيده} . فَرَّقْنَا بِالْمَوْتِ مَا جَمَعْنَا، وَمَزَّقْنَا بِالتَّلَفِ مَا ضيعنا، فإذا نفخنا فِي الصُّورِ أُسْمِعْنَا، مُحْكَمُ الْمِيعَادِ فِي الْمِيعَادِ ونجيده {كما بدأنا أول خلق نعيده} . كَمْ حَسْرَةٍ فِي يَوْمِ الْحَسْرَةِ، وَكَمْ سَكْرَةٍ مِنْ أَجْلِ سَكْرَةٍ، يَوْمًا قَدْ جُعِلَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَدْرُهُ، كُلُّ سَاعَةٍ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، نَبْنِي فِيهِ مَا نَقَضْنَاهُ ونشيده {كما بدأنا أول خلق نعيده} . قَرَّبْنَا الصَّالِحِينَ مِنَّا وَأَبْعَدَنَا الْعَاصِينَ عَنَّا، أَحْبَبْنَا فِي الْقِدَمِ وَأَبْغَضْنَا، فَمَنْ

قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِالشَّقَاءِ أَهْلَكْنَا، فَهُوَ أَسِيرُ الْبُعْدِ وَطَرِيدُهُ، وَمَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى فَنَحْنُ نُنْعِمُ عَلَيْهِ وَنُفِيدُهُ {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نعيده} . يَوْمٌ كُلُّهُ أَهْوَالٌ، شُغْلُهُ لا كَالأَشْغَالِ، يَتَقَلْقَلُ فِيهِ الْقَلْبُ وَالْبَالُ، فَتَذْهَلُ عُقُولُ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَمِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْحَالِ لا يُنَادِي وَلِيدَهُ. تَجْرِي الْعُيُونُ وَابِلا وَطَلا، وَتَرَى الْعَاصِيَ يَقْلَقُ وَيَتَقَلَّى، وَيَتَمَنَّى الْعَوْدَ فَيُقَالُ: كَلا، وَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ لا نُرِيدُهُ. تَخْشَعُ فِيهِ الأَمْلاكُ، وَتَطِيرُ فِيهِ الضُّحَّاكُ، وَيَعِزُّ عَلَى الْمَحْبُوسِ الْفِكَاكُ، فأما المؤمن التقي فذاك عبده. إِخْوَانِي: ارْجِعُوا بِحُسْنِ النُّزُوعِ وَالأَوْبَةِ، وَاغْسِلُوا بِمِيَاهِ الدُّمُوعِ مَاضِيَ الْحَوْبَةِ، وَقَدْ نَصَبْنَا لِلْمُذْنِبِ شَرَكَ التَّوْبَةِ، أَفَتُرَى الْيَوْمَ تَصِيدُهُ. يَا مَنْ لا يَزَالُ مُطَالِبًا مَطْلُوبًا، يَا مَنْ أَصَبْحَ كُلُّ فِعْلِهِ مَحْسُوبًا، إِنْ حَرَّكَكَ الْوَعْظُ إِلَى التَّوْبَةِ صِرْتَ مَحْبُوبًا، وَإِنْ كَانَ الشَّقَا عَلَيْكَ مَكْتُوبًا فَمَا يَنْفَعُ تَرْدِيدُهُ.

المجلس الرابع في ذكر الزكاة

الْمَجْلِسُ الرَّابِعُ فِي ذِكْرِ الزَّكَاةِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لا وَاضِعَ لِمَا رَفَعَ، وَلا رَافِعَ لِمَا وَضَعَ، وَلا وَاصِلَ لِمَا قَطَعَ وَلا مُفَرِّقَ لِمَا جَمَعَ، سُبْحَانَهُ مِنْ مُقَدِّرِ ضُرٍّ وَنَفْعٍ، وَحَكَمَ فَالْكُلُّ حُكْمُهُ كَيْفَ وَقَعَ، أَمْرَضَ حَتَّى أَلْقَى عَلَى شَفَا ثُمَّ شَفَى الْوَجَعَ، وَوَاصَلَ مَنْ شَاءَ وَمَنْ شَاءَ قَطَعَ، جَعَلَ الْعُصَاةَ فِي خِفَارَةِ الطَّائِعِينَ وَفِي كَنَفِ الْقَوْمِ وَسِعَ، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لهدمت صوامع وبيع} . أَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَعْطَى وَمَنَعَ، وَأَشْكُرُهُ إِذْ كَشَفَ لِلْبَصَائِرِ سِرَّ الْخِدَعِ، وَأَشْهَدُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ أَحْكَمَ مَا صَنَعَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وَالْكُفْرُ قَدْ عَلا وَارْتَفَعَ، فَفَرَّقَ بِمُجَاهَدَتِهِ مَنْ شَرُّهُ مَا اجْتَمَعَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي نَجَمَ نَجْمُ سَعَادَتِهِ يَوْمَ الرِّدَّةِ وَطَلَعَ، وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي عَزَّ الإِسْلامُ بِهِ وَامْتَنَعَ، وعَلَى عُثْمَانَ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا وَمَا ابْتَدَعَ، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي دَحَضَ الْكُفْرَ بِجِهَادِهِ وَقَمَعَ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الَّذِي سُئِلَ بِهِ سَيْلُ السَّحَابِ فَهَمَعَ. اللَّهُمَّ يَا مَنْ إِلَى بَابِهِ كُلُّ رَاغِبٍ رَجَعَ، اجْعَلْنَا مِمَّنْ بِالْمَوَاعِظِ انْتَفَعَ، وَاحْفَظْنَا مِنْ مُوَافَقَةِ الطَّبْعِ وَالطَّمَعِ وَانْفَعْنِي بِمَا أَقُولُ وَكُلَّ مَنِ اسْتَمَعَ. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فبشرهم بعذاب أليم} . الْكَنْزُ: مَا لَمْ يُؤَدَّ زَكَاتُهُ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بِسَنَدِهِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ

نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: مَا كَانَ مِنْ مَالٍ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا، وَمَا لَيْسَ مَدْفُونًا لا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ الْكَنْزُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: {ولا ينفقونها} قَوْلانِ، ذَكَرَهُمَا الزَّجَّاجُ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى يَرْجِعُ إِلَى الْكُنُوزِ. وَالثَّانِي: إِلَى الْفِضَّةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَرَبُ إِذَا أَشْرَكُوا بَيْنَ اثْنَيْنِ قَصَرُوا فَأَخْبَرُوا عَنْ أَحَدِهِمَا اسْتِغْنَاءً بِذَلِكَ وَتَخْفِيفًا بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِ أَنَّ الآخَرَ قَدْ شَارَكَهُ وَدَخَلَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ: (وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {فبشرهم بعذاب أليم} . أَيِ اجْعَلْ مَكَانَ الْبِشَارَةِ هَذَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} . يَعْنِي الأَمْوَالَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ رَجُلٍ يُكْوَى بِكَنْزٍ فَيُوضَعُ دِينَارٌ عَلَى دِينَارٍ وَلا دِرْهَمٌ عَلَى دِرْهَمٍ، وَلَكِنْ يُوسَعُ فِي جِلْدِهِ فَيُوضَعُ كُلُّ دِينَارٍ عَلَى حِدَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ حَيَّةٌ تُطْوَى عَلَى جَنْبَيْهِ وَجَبْهَتِهِ فَتَقُولُ: أَنَا مَالُكَ الَّذِي بَخِلْتَ بِهِ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ المحرور بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. قَالَهَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي غَمٌّ وَجَعَلْتُ أَتَنَفَّسُ، قَالَ: قُلْتُ هَذَا شَرٌّ حَدَثَ فِيَّ. قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُمْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ قَالَ: الأَكْثَرُونَ أَمْوَالا إِلا مَنْ قَالَ فِي عِبَادِ اللَّهِ، هَكَذَا وَهَكَذَا، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ فَيَتْرُكُ غَنَمًا أَوْ إِبِلا أَوْ بَقَرًا لا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلا جَاءَتْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَ حَتَّى تَطَأَهُ بِأَظْلافِهَا وَتَنْطَحَهُ بِقُرُونِهَا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ النَّاسِ

ثُمَّ تَعُودَ أُولاهَا عَلَى أُخْرَاهَا " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَبِالإِسْنَادِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لا يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إِلا جَاءَتْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قَطُّ وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِقَوَائِمِهَا، وَلا صَاحِبِ غَنَمٍ لا يَفْعَلُ بِهَا حَقَّهَا إِلا جَاءَتْ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا لَيْسَ فِيهَا جَمَّاءُ وَلا مُنَكَّسٌ قَرْنُهَا، وَلا صَاحِبِ كَنْزٍ لا يَفْعَلُ فِيهِ حَقَّهُ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُهُ فَاغِرًا فَاهُ فَإِذَا أَتَاهُ مَرَّ مِنْهُ فَيُنَادِيهِ رَبُّهُ: خُذْ كَنْزَكَ الَّذِي خَبَّأْتَهُ فَإِنِّي عَنْهُ أعني مِنْكَ فَإِذَا رَأَى أَنْ لا بُدَّ لَهُ مِنْهُ سَلَكَ بِيَدِهِ فِي فِيهِ فَيَقْضِمُهَا قَضْمَ الْفَحْلِ ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. وَفِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَبْهَتُهُ وجنبه وظهره كلما تردت أعيدت إِلَيْهِ أُولاهَا أُعِيدَتْ أُخْرَاهَا أُعِيدَتْ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ: خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ ". أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي شِدْقَيْهِ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ وَتَلا هَذِهِ الآيَةُ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} الآيَةَ} . انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ خَصَّ الْجِبَاهَ وَالْجُنُوبَ وَالظُّهُورَ مِنْ بَقِيَّةِ الْبُدْنِ؟ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ مُجَوَّفَةٌ فَيَصِلُ الْحَرُّ إِلَى أَجْوَافِهَا، بِخِلافِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ: بَشَّرَ الْكَنَّازِينَ بِكَيٍّ فِي الْجِبَاهِ وَكَيٍّ فِي الْجُنُوبِ وَكَيٍّ فِي الظُّهُورِ حَتَّى يَلْتَقِيَ الْحَرُّ فِي أَجْوَافِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَنِيَّ إِذَا رَأَى الْفَقِيرَ انْقَبَضَ وَإِذَا ضَمَّهُ وَإِيَّاهُ مَجْلِسٌ ازْوَرَّ عَنْهُ وَوَلاهُ ظَهْرَهُ، فَكُوِيَتْ تِلْكَ الْمَوَاضِعُ مِنْهُ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {هذا ما كنزتم لأنفسكم} الْمَعْنَى: هَذَا مَا ادَّخَرْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ {فَذُوقُوا مَا كنتم تكنزون} أَيْ عَذَابَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الزَّكَاةَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِسْلامِ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ " فَذَكَرَ مِنْهُنَّ الزَّكَاةَ. وَيَنْبَغِي لِلْمُتَيَقِّظِ أَنْ يَفْهَمَ الْمُرَادَ مِنَ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ ثَلاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الابْتِلاءُ بِإِخْرَاجِ الْمَحْبُوبِ. وَالثَّانِي: التَّنَزُّهُ عَنْ صِفَةِ الْبُخْلِ الْمُهْلِكِ. وَالثَّالِثُ: شُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ، فَلْيَتَذَكَّرْ إِنْعَامَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذْ هُوَ الْمُعْطِي لا الْمُعْطَى. وَعَلَيْهِ أَلا يُؤَخِّرَهَا إِذَا حَالَ الْحَوْلُ لأَنَّهَا حَقٌّ لِلْفَقِيرِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَوْلِ، وَلا يَجُوزُ إِعْطَاءُ الْعِوَضِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِيَ الأَجْوَدَ لِلْفَقِيرِ، فَإِنَّ الَّذِي يُعْطِيهِ هُوَ الَّذِي يَلْقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلْيَتَخَيَّرْ لِنَفْسِهِ مَا يَصَّدَّقُ بِهِ، وَأَنْ يُقَدِّمَ فُقَرَاءَ أَهْلِهِ وَيَتَحَرَّى بِهَا أَهْلَ الدِّينِ، وَلا يُبْطِلُ صَدَقَتَهُ بِالْمَنِّ وَالأَذَى، فَلْيُعْطِ الْفَقِيرَ بِانْشِرَاحٍ وَلُطْفٍ حَتَّى كَأَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي يُنْعِمُ بِمَا يَأْخُذُهُ، وَلْيَسْتُرْ عَطَاءَهُ أَهْلَ الْمُرُوءَاتِ فَإِنَّهُمْ لا يُؤْثِرُونَ كَشْفَ سَتْرَ الْحَاجَةِ، فَإِنْ خَطَرَ لَهُ أَنَّ الزَّكَاةَ يَنْبَغِي أَنْ تُشَاعَ لِئَلا يُتَّهَمَ الإِنْسَانُ، فَفِي مَنْ لا يَسْتَحِي إِذَا أَخَذَهَا كَثْرَةٌ، فَلْيُشِعْهَا عِنْدَ أُولَئِكَ وَلْيَتْرُكْ أَرْبَابَ الأَنَفَةِ تَحْتَ سَتْرِ اللَّهِ عز وجل.

الكلام على البسملة)

( الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ) (غَوَالِبُ رَاحَةِ الدُّنْيَا عَنَاءٌ ... وَمَا تُعْطِيهِ مِنْ هِبَةٍ هَبَاءُ) (وَمَا دَامَتْ عَلَى عَهْدٍ بِخَلْقٍ ... وَلا وَعَدَتْ فَكَانَ لَهَا وَفَاءُ) (تُذِيقُ حَلاوَةً وَتُذِيقُ مُرًّا ... وَلَيْسَ لِذَا وَلا هَذَا بَقَاءُ) (وَتَجْلُو نفْسَهَا لَكَ فِي الْمَعَاصِي ... وَفِي ذَاكَ الْجَلاءِ لَهَا الْجَلاءُ) (إِذَا نَشَرَتْ لِوَاءَ الْمُلْكِ فِيهَا ... لَوَى قَلْبَ الْغَنِيِّ لَهَا اللِّوَاءُ) (فَدَعْهَا رَاغِبًا فِي ظِلِّ عَيْشٍ ... وملك ماله أَبَدًا فَنَاءُ) عَجَبًا لِمَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا ثُمَّ اغْتَرَّ، أَمَا يَقِيسُ مَا بَقِيَ بِمَا مَرَّ، أَيُؤْثِرُ لَبِيبٌ عَلَى الْخَيْرِ الشَّرَّ، أَيَخْتَارُ الْفَطِنُ عَلَى النَّفْعِ الضَّرَّ، كَمْ نِعْمَةٍ عَلَيْكَ قَدْ سُلِّفْتَهَا وَمَا قُمْتَ بِفَرِيضَةٍ كُلِّفْتَهَا، إِذَا دُعِيتَ إِلَى التَّوْبَةِ سَوَّفْتَهَا، وَإِنْ جَاءَتِ الصَّلاةُ ضَيَّعْتَهَا، وَإِذَا قُمْتَ فِي الْعِبَادَةِ خَفَّفْتَهَا، وَإِذَا لاحَ لَكَ وَجْهُ الدُّنْيَا تَرَشَّفْتَهَا، لَقَدْ آفَتْكَ آفَةُ الدُّنْيَا وَمَا أَفَتَّهَا، إِنَّهَا لَدَارُ قَلْعَةٍ تَضَيَّفْتَهَا أو ليس قَدْ شِبْتَ وَمَا عَرَفْتَهَا، كَمْ حِيلَةٍ فِي مَكَاسِبِهَا تَلَطَّفْتَهَا، وَلَوْ شَغَلَتْكَ عَنْهَا آيَاتٌ تَأَفَّفْتَهَا، كَمْ بَادِيَةٍ فِي أَرْبَاحِهَا تَعَسَّفْتَهَا، كَمْ قِفَارٍ فِي طَلَبِهَا طُفْتَهَا، كَمْ كَذَبَاتٍ مِنْ أَجْلِ الدُّنْيَا زَخْرَفْتَهَا، لَقَدِ اسْتَشْعَرْتَ مَحَبَّتَهَا إِي وَاللَّهِ وَالْتَحَفْتَهَا، تَحْضُرُ الْمَسْجِدَ وَقَلْبُكَ مَعَ الَّتِي أَلِفْتَهَا، أو ما يَكْفِيكَ أَمْوَالُكَ وَقَدْ أَلَّفْتَهَا، تَاللَّهِ لَوْ عَلِمْتَ مَا تَجْنِي عِفْتَهَا. أَنَسِيتَ تِلْكَ الذُّنُوبَ الَّتِي أَسْلَفْتَهَا، أَلَسْتَ الَّذِي تَذَكَّرْتَهَا ثُمَّ خِفْتَهَا، آهٍ لِمَرَاحِلِ أَيَّامٍ قَطَعْتَهَا وَخَلَّفْتَهَا، آهٍ لِبَضَائِعِ عُمْرٍ بَذَّرْتَ فِيهَا وَأَتْلَفْتَهَا، لَوْ أَرَدْتَ خَيْرًا وَبَّخْتَهَا وَعِفْتَهَا، لَوْ قَبِلْتَهَا بِالْوِفَاقِ فَهَلا خَالَفْتَهَا. إِخْوَانِي: قُولُوا لِلْمُفَرِّطِ الْجَانِي، قَالَ لَكَ الشَّيْبُ: أَمَا تَرَانِي، أَنَا كِتَابُ الْمَنُونِ وَالضَّعْفُ عُنْوَانِي، وَلَيْسَ فِي السُّطُورِ إِلا أَنَّكَ فَانِي: (أَنْكَرَتْ سَلْمَى مَشِيبًا عَرَانِي ... وَرَأَتْنِي غَيْرَ مَا قَدْ تَرَانِي) (أَشْرَفَ الشَّيْبُ عَلَى لَمَّتِي ... وَشَبَابُ الْمَرْءِ ظِلٌّ لِلزَّمَانِ) (إِنَّمَا أَنْتَ لِمَا قَدْ تَرَى ... لا يَغُرَّنَّكَ ضَمَانٌ لِلأَمَانِي)

(هَلْ تَرَى مِنْ عَائِشٍ خَالِدٍ ... كَمْ تَرَى مِنْ هَالِكٍ قَدْ صَارَ فَانِي) (لَوْ أَعَنْتَ الْعَيْنَ إِذَا أَبْصَرَتْ ... وَاعِظَاتِي بِفُؤَادِي لَكَفَانِي) (أَيُّ شَيْءٍ أَتَّقِي وَالرَّدَى ... بَيْنَ جَنْبَيَّ بِعَيْنِي يُدَانِي) (كُلُّ يَوْمٍ نَاقِصٌ دُولَةً ... مِنْ بَقَائِي جَاذِبٌ مِنِّي عِنَانِي) (وَأُلاقِيهِ بِلا جُنَّةٍ فَإِذَا ... شَاءَ أَنْ يَدْمَى لِحِينِي رَمَانِي) (تَابِعٌ يَتْبَعُ مَاضِي كَمَا ... يَتْبَعُ الْعَامِلُ جَرًّا لِلِسَانِي) (لَذَّةُ الدُّنْيَا إِذَا مَا حَضَرُوا ... ) فَإِذَا غَابُوا فَشُغْلٌ لِلأَمَانِي ... (ما اطمأن الدهر حتى نقضوا ... فَكَأَنْ لَمْ أَرَهُمْ فِي مَكَانِ) أَيْنَ أَهْلُ الْعَزَائِمِ رَحَلُوا وَمَاتُوا، أَيْنَ أَهْلُ الْيَقَظَةِ ذَهَبُوا وَفَاتُوا، قِفْ عَلَى قُبُورِهِمْ تَجِدْ رِيحَ الْعَزْمِ، تَنَفَّسْ عِنْدَهَا تُحِبَّ رَوْحَ الْحَزْمِ، أَقْبَلُوا بِالْقُلُوبِ عَلَى مُقَلِّبِهَا، وَأَقَامُوا النُّفُوسَ لَدَى مُؤَدِّبِهَا وَمَدُّوا الْبَاعَ مِنْ بَاعِ التَّسْلِيمِ إِلَى صَاحِبِهَا، وَأَحْضَرُوا الأُخْرَى فَنَظَرُوا إِلَى غَايَتِهَا وَسَهِرُوا اللَّيَالِيَ كَأَنَّهُمْ قَدْ وُكِلُوا بِرَعْيِ كَوَاكِبِهَا، وَنَادَوْا نُفُوسَهُمْ صَبْرًا عَلَى نَارِ الْبَلاءِ لِمَنْ كَوَاكَ بِهَا، وَمَقَتُوا الدُّنْيَا فَمَا مَالَ الْمَلأُ إِلَى مَلاعِبِهَا، وَاشْتَاقُوا إِلَى الْحَبِيبِ فَاسْتَطَالُوا مُدَّةَ الْمُقَامِ بِهَا. (أَنْتُمْ عَلَى الْبُعْدِ هُمُومِي إِذَا ... غِبْتُمْ وَأَشْجَانِي عَلَى الْقُرْبِ) (لا أَتْبَعُ الْقَلْبَ إِلَى غَيْرِكُمْ ... عَيْنِي لَكُمْ عَيْنٌ عَلَى قَلْبِي) إِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُمْ فِي السَّحَرِ فَتَلَمَّحْ آثَارَ الْحَبِيبِ عَلَيْهِمْ وَقْتَ الضُّحَى، وَاقْرَأْ فِي صَحَائِفِ الْوُجُوهِ سُطُورَ الْقَبُولِ بِمِدَادِ الأَنْوَارِ، وُجُوهٌ يَنْهَاهَا الْحُسْنُ أَنْ تَتَقَنَّعَا. أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْقَوْمِ، كَمْ بَيْنَ الْيَقَظَةِ وَالنَّوْمِ، يَا بَعِيدَ السَّلامَةِ قَدْ قُرِّبَتْ مِنْكَ النَّعَامَةُ يَا عَدِيمَ الاسْتِقَامَةِ، مَا أَرَى لِنَجَاتِكَ عَلامَةً، أَعْمَالُكَ لا تَصْلُحُ لِلْجَنَّةِ وَخِصَالُكَ الْبَاطِنَةُ أَوْصَافٌ. إِلَى مَتَى إِلَى مَتَى جِدٌّ فِي غَيْرِ الْجَدِّ وَالْكِمَاشِ، إِلَى كَمْ فِي الظَّلامِ وَقَدْ نُسِخَتِ الأَغْبَاشُ، تَمَكَّنَ حُبُّ الدُّنْيَا مِنَ الْقَلْبِ فَمَا يُخْرِجُهُ مِنْقَاشٌ، وَلاحَ نُورُ الْفَلاحِ وَكَيْفَ يُبْصِرُ خُفَّاشٌ، أَمَّا النَّهَارَ فَأَسِيرُ الْهَوَى فِي الْمَعَاشِ، وَأَمَّا اللَّيْلُ فَقَتِيلُ الْمَنَامِ

فِي الْفِرَاشِ، كَيْفَ يَصْحَبُ الصُّلَحَاءَ مَنْ هِمَّتُهُ صُحْبَةُ الأَوْبَاشِ، وَهَلْ يُبَارِزُ فِي صِفِّ الْحَرْبِ خَوَّارٌ ضَعِيفُ الْجَاشِ، دَخَلَ حُبُّ الدُّنْيَا فَاسْتَبْطَنَ بَطْنَ الْمُشَاشِ. (مِثْلُ الشَّبِيبَةِ كَالرَّبِيعِ إِذَا ... مَا جيد فاخضرت له الأرض) (فالشيب كالمحل الْجَمَادَ لَهُ ... لَوْنَانِ مُغْبَرٌّ وَمُبْيَضُّ) (سَنَحَتْ لَهُ دَهْيَاءُ مِنْ كَثَبٍ ... دَانَتْ خُطَاهُ وَمَا بِهِ أَيْضُ) (تَرَكَ الْجَدِيدُ جَدِيدَهُ هَمْلا ... لا الصَّوْنُ يُرْجِعُهُ وَلا الرَّحْضُ) (وَتَعَاقَبَ التَّفْتِيشُ يَقْدَحُ فِي ... صُمِّ الصَّفَا فَيَظَلُّ يَرْفَضُّ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مما تحبون} الْمَعْنَى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ الْكَامِلَ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يقول: المراد بالبر ها هنا الْجَنَّةَ، وَلَنْ يُدْرَكَ الْفَضْلُ الْكَامِلُ إِلا بِبَذْلِ مَحْبُوبِ النَّفْسِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بِسَنَدِهِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: " كَانَ أَبُو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مَالا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بئر حاء وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةً الْمَسْجِدَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تحبون} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب أموالي إلي بئرحاء وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَخٍ ذاك مال رابح أو رائج - شَكَّ ابْنُ مُسْلِمَةَ - وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ ". قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَاهُ حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ فَقَالَ فِيهِ: لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ

أُسِرَّهَا لَمْ أُعْلِنْهَا. فَقَالَ: اجْعَلْهُ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ جَلُولاءَ فَفَعَلَ فَدَعَاهَا عُمَرُ فَأَعْتَقَهَا ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حتى تنفقوا مما تحبون} . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: خَطَرَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِبَالِي: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فَفَكَّرْتُ فِيمَا أَعْطَانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ جَارِيَتِي رُمَيْثَةَ فَقُلْتُ: هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ فَلَوْلا أَنِّي لا أَعُودُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ للَّهِ لَنَكَحْتُهَا. فَأَنْكَحَهَا نَافِعًا فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَوَّادٍ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَدَّ عَجَبُهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ قَرَّبَهُ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ نَافِعٌ: كَانَ بَعْضُ رَقِيقِهِ قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنْهُ، فُرَبَّمَا شَمَّرَ أَحَدُهُمْ فَلَزِمَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَآهُ ابْنُ عُمَرَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْحَسَنَةِ أَعْتَقَهُ فَيَقُولُ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَاللَّهِ مَا بِهِمْ إِلا أَنْ يَخْدَعُوكَ! فَيَقُولُ ابْنُ عُمَرَ: فَمَنْ خَدَعَنَا بِاللَّهِ انْخَدَعْنَا لَهُ!. قَالَ نَافِعٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا ذَاتَ عَشِيَّةٍ وَرَاحَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى نَجِيبٍ لَهُ قَدْ أَخَذَهُ بِمَالٍ، فَلَمَّا أَعْجَبَهُ سَيْرُهُ أَنَاخَهُ مَكَانَهُ ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ وَقَالَ: يَا نَافِعُ انْزِعُوا زِمَامَهُ وَرَحْلَهُ وَجَلِّلُوهُ وأشعروه وأدخلوه في البدن. وروى بشير بن دعلوف عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ أَنَّهُ وَقَفَ سَائِلٌ عَلَى بَابِهِ فَقَالَ: أَطْعِمُوهُ سُكَّرًا فَإِنَّ الرَّبِيعَ يُحِبُّ السُّكَّرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الإِنْفَاقَ يَقَعُ عَلَى الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَعَلَى الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ، وَعَلَى الإِيثَارِ وَالْمُوَاسَاةِ لِلإِخْوَانِ، فَمَنْ أَخْرَجَ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا فَلْيَكُنْ مِنْ أَطْيَبِ مَالِهِ وَلْيُوقِنِ الْمُضَاعَفَةَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طيب - ولا

يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلا الطَّيِّبُ - فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سبعمائة نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ ". أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ بِسَنَدِهِ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: " إن الصدقة لتطفىء غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ ". أَخْبَرَنَا مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ بِسَنَدِهِ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " تَصَدَّقُوا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ فِكَاكٌ مِنَ النَّارِ وَالصَّدَقَةُ تَمْنَعُ سَبْعِينَ نَوْعًا مِنَ الْبَلاءِ أَهْوَنُهَا الْجُذَامُ وَالْبَرَصُ. وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَا يُخْرِجُ أَحَدٌ شَيْئًا مِنَ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَفُكَّ لِحْيَيْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا. وَيَنْبَغِي لِلْمُتَصَدِّقِ أَنْ يُصْلِحَ نِيَّتَهُ فَيَقْصِدُ بِالصَّدَقَةِ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللَّهِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ الْحَلالَ. فَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ ". وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: أَيُّهَا الْمُتَصَدِّقُ عَلَى الْمِسْكِينِ بِرَحْمَةٍ ارْحَمْ مَنْ ظَلَمْتَ. وَأَنْ يَتَخَيَّرَ الأَجْوَدَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تيمموا الخبيث منه تنفقون} . وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: إِذَا جَعَلَ أَحَدُكُمْ للَّهِ شَيْئًا فَلا يَجْعَلْ لَهُ مَا يَسْتَحِي أَنْ يَجْعَلَ لِكَرِيمِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمُ الْكُرَمَاءِ وَأَحَقُّ مَنِ اخْتِيرَ لَهُ. ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُ الْمَحْبُوبِ فِي زَمَانِ صِحَّةِ الْمُعْطِي وَزَمَانِ فَاقَةِ

الْمُعْطَى، وَلْيُقَدِّمِ الأَقْرِبَاءَ وَيُقَدِّمْ مِنَ الأَقَارِبِ مَنْ لا يَمِيلُ إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ. فَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ. وَلْيُخْرِجِ الْمُعْطِي مَا سَهُلَ وَإِنْ قَلَّ. فَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل: أي أي الصدقة أفضل؟ فقال: جهداً الْمُقِلِّ ". وَقَالَ الْحَسَنُ: أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا كَانُوا لا يَرُدُّونَ سَائِلا إِلا بِشَيْءٍ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ فَيَأْمُرُ أَهْلَهُ أَلا يَرُدُّوا سَائِلا. وَمِنْ آدَابِ الْعَطَاءِ أَنْ يَكُونَ سرا، فإن صدقة السر تطفىء غَضَبَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَيْرٍ: الصَّلاةُ تُبْلِغُكَ نِصْفَ الطَّرِيقِ وَالصَّوْمُ يُبْلِغُكَ بَابَ الْمَلِكِ، وَالصَّدَقَةُ تُدْخِلُكَ عَلَيْهِ. الْكَرِيمُ حُرٌّ لأَنَّهُ يَمْلِكُ مَالَهُ، وَالْبَخِيلُ عَبْدٌ لأَّنَ مَالَهُ يَمْلِكُهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُبِعَ عَلَى أَشْرَفِ الأَخْلاقَ وَقَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فَقَالَ: " يَأْبَى اللَّهُ لِيَ الْبُخْلَ " وَأَعْطَى غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَتَحَيَّرَ الَّذِي أَعْطَاهُ فِي صِفَةِ جُودِهِ فَقَالَ: هَذَا عَطَاءُ مَنْ لا يَخْشَى الْفَقْرَ، فَلَمَّا سَارَ فِي فَيَافِي الْكَرَمِ تَبِعَهُ صَدِيقُهُ فَجَاءَ بِكُلِّ مَالِهِ فَقَالَ: مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: (سَبَقَ النَّاسُ إِلَيْهَا صَفْقَةً ... لَمْ يَعُدْ رَائِدُهَا عَنْهَا بِغَبْنِ) (هِرَّةٌ لِلْجُودِ صَالَتْ نَشْوَةً ... لَمْ يُكَدَّرْ عِنْدَهَا العرف بمن) (طلبوا الشاء فَوَافَى سَابِقًا ... جَذَعٌ غَبَّرَ فِي وَجْهِ الْمُسِنِّ) نَزَعَ أَبُو بَكْرٍ مِخْيَطَ الْهَوَى فَمَزَّقَهُ عَلِيٌّ، رَمَى الصِّدِّيقُ جَهَازَ الْمُطَلَّقَةِ فَوَافَقَهُ عَلِيٌّ حَتَّى رَمَى الْخَاتَمَ: (حُبِّبَ الْفَقْرُ إِلَيْهِ إِنَّهُ ... سُؤْدَدٌ وَهُوَ بِذَاكَ الْفَقْرِ يَغْنَى) (وَشَرِيفُ الْقَوْمِ مَنْ بَقَّى لَهُمْ ... شَرَفَ الذِّكْرِ وَخَلَّى الْمَالَ يَفْنَى) (مَا اطْمَأَنَّ الْوَفْرُ فِي بُحْبُوحَةٍ ... فَرَأَيْتَ الْمَجْدَ فيها مطمئنا)

(تُهْدَمُ الأَمْوَالُ مِنْ آسَاسِهَا ... أَبَدًا مَا دَامَتِ الْعَلْيَاءُ تُبْنَى) كَانَ السَّلَفُ يُؤْثِرُونَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيُقَدِّمُونَ الأَجْوَدَ الْمَحْبُوبَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ مَا عِنْدَنَا إِلا الْمَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَضُمُّ هَذَا أَوْ يُضَيِّفُ هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلا قُوتُ الصِّبْيَانِ، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ وَأَصْلِحِي سِرَاجَكِ وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً فَفَعَلَتْ ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ فَجَعَلا يُرِيَانَهُ أَنَّهُمَا يَأْكُلانِ، فباتا طاوبين، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ، مِنْ فِعَالِكُمَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بِسَنَدِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ الأَعْرَابِيِّ قَالَ اسْتُشْهِدَ بِالْيَرْمُوكِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَأُتُوا بِمَاءٍ وَهُمْ صَرْعَى، فَتَدَافَعُوهُ حَتَّى مَاتُوا وَلَمْ يَذُوقُوهُ! أُتِيَ عِكْرِمَةُ بِالْمَاءِ فَنَظَرَ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ هشام ينظر إليه فقال: ابدأوا بِهَذَا فَنَظَرَ سُهَيْلٌ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ينظر إليه فقال: ابدأوا بِهَذَا فَمَاتُوا كُلُّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا، فَمَرَّ بِهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ: بِنَفْسِي أَنْتُمْ! نَقِهَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ مَرَضٍ فَاشْتَهَى سَمَكَةً، فَلَمَّا قُدِّمَتْ إِلَيْهِ جَاءَ سَائِلٌ فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا. واشتهى الربيع بن خشيم حَلْوَاءَ فَلَمَّا صُنِعَتْ دَعَا بِالْفُقَرَاءِ فَأَكَلُوا، فَقَالَ أَهْلُهُ: أَتْعَبْتَنَا وَلَمْ تَأْكُلْ فَقَالَ: وَهَلْ أَكَلَ غَيْرِي! كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمَوْصُوفِينَ كَمَا بَيْنَ الْمَجْهُولِينَ وَالْمَعْرُوفِينَ، آثَرْتَ الدُّنْيَا وَآثَرُوا الدِّينَ، فَتَلَمَّحْ تَفَاوُتَ الأَمْرِ يَا مِسْكِينُ، أَمَّا الْفَقِيرُ فَمَا يَخْطُرُ بِبَالِكَ، فَإِذَا جَاءَ

سَائِلٌ أَغْلَظْتَ لَهُ فِي مَقَالِكَ، فَإِنْ أَعْطَيْتَهُ فَحَقِيرًا يَسِيرًا مِنْ رَدِيءِ مَالِكَ إِلَى كَمْ تَتْعَبُ فِي جَمْعِ الْحُطَامِ وَتَشْقَى، وَتُؤْثِرُ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى: (يَحْصِي الْفَتَى مَا كَانَ مِنْ نَفَقَاتِهِ ... وَيُضَيِّعُ مِنْ أَنْفَاسِهِ مَا أَنْفَقَا) (لَمْ يَعْتَصِمْ مَلِكٌ يُشَيِّدُ مُلْكَهُ ... حِصْنًا يُغَرُّ بِهِ وَيَحْفِرُ خَنْدَقَا) (وَكَأَنَّمَا دُنْيَا ابْنِ آدَمَ عُرْسُهُ ... أَخَذَتْ جَمِيعَ تُرَاثِهِ إِذْ طَلَّقَا) السجع عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تنفقوا مما تحبون} . عِبَادَ اللَّهِ: إِلَى مَتَى تَجْمَعُونَ مَا لا تَأْكُلُونَ، وَتَبْنُونَ مَا لا تَسْكُنُونَ وَالْجَيِّدُ فِي بُيُوتِكُمْ تَدَّخِرُونَ، وَالرَّدِيءُ إِلَى الْفَقِيرِ تُخْرِجُونَ {لَنْ تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} . حَرِّكُوا هِمَمَكُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَأَزْعِجُوا، وَحُثُّوا عَزَائِمَكُمْ إِلَى الْجِدِّ وَأَدْلِجُوا، وَالْتَفِتُوا عَنِ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ وَعَرِّجُوا، وَآثِرُوا الْفَقِيرَ بِمَا تُؤْثِرُونَ. وَيْحَكُمْ! السَّيْرُ حَثِيثٌ، وَلا مُنْجِدَ لَكُمْ وَلا مُغِيثَ، فَبَادِرُوا بِالصَّدَقَةِ الْمَوَارِيثَ، {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تنفقون} كَمْ قَطَعَتِ الآمَالُ بَتًّا، كَمْ مُصَيِّفٍ مَا أَرْبَعَ وَلا شَتَّى، كَمْ عَازِمٍ عَلَى إِخْرَاجِ الْمَالِ مَا تَأَتَّى، سَبَقَتْهُ الْمَنُونُ {لَنْ تَنَالُوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} . يَا حَرِيصًا مَا يَسْتَقِرُّ، يَا طَالِبًا لِلدُّنْيَا مَا يَقَرُّ، إِنْ كُنْتَ تُصَدِّقُ بِالثَّوَابِ فَتَصَدَّقْ فِي السِّرِّ بِالْمَحْبُوبِ الْمَصُونِ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حتى تنفقوا مما تحبون} . يَا بَخِيلا بِالْفَتِيلِ شَحِيحًا بِالنَّقِيرِ، يَا صَرِيعًا بِالْهَوَى إِلَى مَتَى عَقِيرٌ، تَخْتَارُ لِنَفْسِكَ الأَجْوَدَ وَلِرَبِّكَ الْحَقِيرَ، مَا لا يَصْلُحُ لَكَ مِنَ الشَّيْءِ تُعْطِيهِ الْفَقِيرَ، فَمَا تَخْتَارُ لَنَا كَذَا يَكُونُ. اكْتِسَابُكَ عَلَى أَغْرَاضِكَ أَنْفَقْتَ، أَمْرَجْتَ نَفْسَكَ فِي الشَّهَوَاتِ وَأَطْلَقْتَ،

وَنَسِيتَ الْحِسَابَ غَدًا وَمَا أَشْفَقْتَ، فَإِذَا رَحِمْتَ الْفَقِيرَ وَتَصَدَّقْتَ أَعْطَيْتَ الرَّدَى الدُّونَ. أَمَّا الْمِسْكِينُ أَخُوكَ مِنَ الْوَالِدَيْنِ فَكَيْفَ كَفَفْتَ عَنْ إِعْطَائِهِ الْيَدَيْنِ، كَيْفَ تَحُثُّ عَلَى النَّفْلِ وَالزَّكَاةُ عَلَيْكَ دَيْنٌ، وَأَنْتُمْ فِيهَا تَتَأَوَّلُونَ. يَا وَحيِدًا عَنْ قَلِيلٍ فِي رَمْسِهِ، يَا مُسْتَوْحِشًا فِي قَبْرِهِ بَعْدَ طُولِ أُنْسِهِ، لَوْ قَدَّمَ خَيْرًا نَفَعَهُ فِي حَبْسِهِ. {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هم المفلحون} . تَجْمَعُ الدِّينَارَ عَلَى الدِّينَارِ لِغَيْرِكَ، وَيَنْسَاكَ مَنْ أَخَذَ كُلَّ خَيْرِكَ، وَلا تَزَوَّدْتَ مِنْهُ شَيْئًا لِسَيْرِكَ، هَذَا هُوَ الْجُنُونُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حتى تنفقوا مما تحبون} .

المجلس الخامس في ذكر الصيام

المجلس الخامس في ذِكْرُ الصِّيَامِ الْحَمْدُ للَّهِ خَالِقِ الدُّجَى وَالصَّبَاحِ وَمُسَبِّبِ الْهُدَى وَالصَّلاحِ، وَمُقَدِّرِ الْغُمُومِ وَالأَفْرَاحِ، الْجَائِدِ بِالْفَضْلِ الزَّائِدِ وَالسَّمَاحِ، مَالِكِ الْمُلْكِ الْمُنْجِي مِنَ الْهَلَكِ وَمُسَيِّرِ الْفُلْكِ وَالْفَلَكِ مُسَيِّرِ الْجَنَاحِ، عَزَّ فَارْتَفَعَ، وَفَرَّقَ وَجَمَعَ، وَوَصَلَ وَقَطَعَ، وَحَرَّمَ وَأَبَاحَ، مَلَكَ وَقَدَرَ، وَطَوَى وَنَشَرَ، وَخَلَقَ الْبَشَرَ وَفَطَرَ الأَشْبَاحَ، رَفَعَ السَّمَاءَ وَأَنْزَلَ الْمَاءَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ وَذَرَى الرِّيَاحَ، أَعْطَى وَمَنَحَ، وَأَنْعَمَ وَمَدَحَ وَعَفَا عَمَّنِ اجْتَرَحَ وَدَاوَى الْجِرَاحَ، عَلِمَ مَا كَانَ وَيَكُونُ، وَخَلَقَ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ، وَإِلَيْهِ الرُّجُوعُ والركون في الغد وَالرَّوَاحِ، يَتَصَرَّفُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَيَنْصِبُ مِيزَانَ العدل يوم العرض {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} . أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَأَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ لِعَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ عَنْ أَدِلَّةٍ صِحَاحٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُقَدَّمُ وَرَسُولُهُ الْمُعَظَّمُ، وَحَبِيبُهُ الْمُكَرَّمُ، تَفْدِيهِ الأَرْوَاحُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ رَفِيقِهِ فِي الْغَارِ، وَعَلَى عُمَرَ فَتَّاحِ الأَمْصَارِ، وَعَلَى عُثْمَانَ شَهِيدِ الدَّارِ وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي يَفْتِكُ رُعْبُهُ قَبْلَ لُبْسِ السِّلاحِ وَعَلَى الْعَبَّاسِ عَمِّهِ صِنْوِ أَبِيهِ أَقْرَبِ مَنْ فِي نَسَبِهِ يَلِيهِ. اعْلَمُوا أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ وَلَهُ فَضِيلَةٌ يَنْفَرِدُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ التَّعَبُّدَاتِ وَهِيَ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: " الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ".

أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أجزي يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ لِلْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ. يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ هَلُمُّوا إِلَى بَابِ الرَّيَّانِ. فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ ذَلِكَ الْبَابُ. وَفِي لَفْظٍ: فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرَهُمْ. هَذَانِ الْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: أَنْشَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوًا فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ لِي بِالشَّهَادَةِ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ. قَالَ: فَغَزَوْنَا فَسَلَّمَنَا وَغَنَّمَنَا. قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوًا ثَانِيًا فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لِي بِالشَّهَادَةِ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ. قَالَ: فَغَزَوْنَا فَسَلَّمَنَا وَغَنَّمَنَا. ثُمَّ أَنْشَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوًا ثَالِثًا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَتَيْتُكَ مَرَّتَيْنِ أَسْأَلُكَ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ لِي بِالشَّهَادَةِ فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ فَادْعُ اللَّهَ لِي بِالشَّهَادَةِ. فَقَالَ: اللهم سلمهم وعنمهم. قال: فعزونا فَسَلَّمَنَا وَغَنَّمَنَا ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِعَمَلٍ آخُذُهُ عَنْكَ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ. قَالَ: " عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ لأَنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ ". وَكَانَ أَبُو أُمَامَةَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ لا يُلْفَوْنَ إِلا صِيَامًا، فَإِنْ رَأَوْا [عِنْدَهُمْ] نَارًا أَوْ دُخَانًا بِالنَّهَارِ فِي مَنْزِلِهِمْ عَرَفُوا أَنْ قَدِ اعْتَرَاهُمْ ضَيْفٌ. قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قَدْ أَمَرْتَنِي بِأَمْرٍ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ نَفَعَنِي بِهِ، فَمُرْنِي بِأَمْرٍ آخَرَ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: " اعْلَمْ أَنَّكَ لا تَسْجُدُ للَّهِ سَجْدَةً

إِلا رَفَعَ اللَّهُ لَكَ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حط أوقال وَحَطَّ - شَكَّ مَهْدِيٌّ - عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْحَافِظُ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: خَرَجْنَا غَازِينَ فِي الْبَحْرِ فَبَيْنَمَا نَحْنُ وَالرِّيحُ لَنَا طَيِّبَةٌ وَالشِّرَاعُ لَنَا مَرْفُوعٌ، فَسَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ قِفُوا أُخْبِرْكُمْ حَتَّى وَالَى بَيْنَ سَبْعَةِ أَصْوَاتٍ. قَالَ أَبُو مُوسَى: فَقُمْتُ عَلَى صَدْرِ السَّفِينَةِ فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ وَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ أو ما تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَهَلْ نَسْتَطِيعُ وُقُوفًا؟ فَأَجَابَنِي الصَّوْتُ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِقَضَاءٍ قَضَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى أَخْبِرْنَا. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَضَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ عَطَّشَ نَفْسَهُ للَّهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرْوِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَكَانَ أَبُو مُوسَى يَتَوَخَّى ذَلِكَ الْيَوْمَ الْحَارَّ الشَّدِيدَ الْحَرِّ الَّذِي يَكَادُ يَنْسَلِخُ فِيهِ الإِنْسَانُ فَيَصُومُهُ! وَاعْلَمْ أَنَّ لِلصَّوْمِ آدَابًا مِنْهَا: كَفُّ النَّظَرِ وَاللِّسَانِ عَنِ الْفُضُولِ، وَالإِفْطَارُ عَلَى الْحَلالِ وَتَعْجِيلِهِ، وَأَنْ يُفْطِرَ عَلَى تَمْرٍ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِذَا صَامَ الإِنْسَانُ زَاغَ بَصَرُهُ فَإِذَا أَفْطَرَ عَلَى حَلاوَةٍ عَادَ بَصَرُهُ. وَيَقُولُ إِذَا أَفْطَرَ: اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. وَيُسْتَحَبُّ السَّحُورُ وَتَأْخِيرُهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلا يَجْهَلْ وَلا يَرْفُثْ فَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ ". وَقَدْ لا تُخْلَصُ النِّيَّةُ وَلا يَحْصُلُ الأَجْرُ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ". فَأَمَّا مَا يُسْتَحَبُّ صِيَامُهُ فَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ يَصُومُونَ الْمُحَرَّمَ.

وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ ". وَفِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي صَوْمِ! يَوْمِ عَاشُورَاءَ: " يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ فِي شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ. وَفِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ ". وَفِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ ". وَفِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تُفْتَحُ فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ ". أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَصُومُ لا تَكَادُ تُفْطِرُ، وَتُفْطِرُ لا تَكَادُ تَصُومُ إِلا يَوْمَيْنِ إِنْ دَخَلا فِي صِيَامِكَ وَإِلا صُمْتَهُمَا. قَالَ: أَيَّ يَوْمَيْنِ؟ قُلْتُ: يَوْمَ، الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ. قَالَ: ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ ". وَيُسْتَحَبُّ صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاثٍ: صِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَالِثَ عَشَرَ وَرَابِعَ عَشَرَ وَخَامِسَ عَشَرَ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم:

" أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ " وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ يَغْتَنِمُونَ الْعُمْرَ فَيَسْرُدُونَ الصَّوْمَ وَلا يُفْطِرُونَ إِلا الأَيَّامَ الْمُحَرَّمَةَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَسَرَدَهُ أَبُو طَلْحَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَبُو أُمَامَةَ. وَسَرَدَتْهُ عَائِشَةُ وَعُرْوَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ. أَخْبَرَنَا الْمُحَمَّدَانِ: ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ نَاصِرٍ قَالا: أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خَيْرُونٍ قال: قرى عَلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ: أَخْبَرَكُمْ أَبُو بَكْرٍ الأُرْمَوِيُّ الْقَارِئُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: قَالَ نَافِعٌ: خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَصْحَابٌ لَهُ فَوَضَعُوا سُفْرَةً لَهُمْ فَمَرَّ بِهِمْ رَاعٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: هَلُمَّ يَا رَاعِي فَأَصِبْ مِنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الشَّدِيدِ حَرُّهُ وَأَنْتَ بَيْنَ هَذِهِ الشِّعَابِ فِي آثَارِ هَذِهِ الْغَنَمِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْجِبَالِ تَرْعَى هَذِهِ الْغَنَمَ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟! فَقَالَ الرَّاعِي: أُبَادِرُ أَيَّامِيَ الْخَالِيَةَ. فَعَجِبَ ابْنُ عُمَرَ وَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنَا شَاةً مِنْ غَنَمِكَ نَجْتَرِزُهَا نُطْعِمُكَ مِنْ لَحْمِهَا مَا تُفْطِرُ عَلَيْهِ وَنُعْطِيكَ ثَمَنَهَا؟ قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لِي إِنَّهَا لِمَوْلايَ. قَالَ: فَمَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ لَكَ مَوْلاكَ إِنْ قُلْتَ: أَكَلَهَا الذِّئْبُ؟ فَمَضَى الرَّاعِي وَهُوَ رَافِعٌ إِصْبَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: فَأَيْنَ اللَّهُ؟. قَالَ: فَلَمْ يَزَلِ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ الرَّاعِي: فَأَيْنَ اللَّهُ! فَمَا عَدَا أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَبَعَثَ إِلَى سَيِّدِهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ الرَّاعِيَ وَالْغَنَمَ فَأَعْتَقَ الرَّاعِيَ وَوَهَبَ لَهُ الْغَنَمَ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَبْكِي عِنْدَ الْمَوْتِ فَقِيلَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي عَلَى يَوْمٍ مَا صُمْتُهُ وَلَيْلَةٍ مَا قُمْتُهَا! فَاغْتَنِمُوا إِخْوَانِي زَمَنَكُمْ، وَبَادِرُوا بِالصِّحَّةِ سَقَمَكُمْ، وَاحْفَظُوا أَمَانَةَ التَّكْلِيفِ لِمَنْ أَمِنَكُمْ، وَكَأَنَّكُمْ بِالْحَمِيمِ وَقَدْ دَفَنَكُمْ، وَبِالْعَمَلِ فِي الْقَبْرِ قَدِ ارْتَهَنَكُمْ.

الكلام على البسملة

الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (أَلَمْ يَأْنِ تَرْكِي مَا عَلَيَّ وَلا لِيَا ... وَعَزْمِي عَلَى مَا فِيهِ إِصْلاحٌ حَالِيَا) (وَقَدْ نَالَ مِنِّي الدَّهْرُ وَابْيَضَّ مَفْرِقِي ... بِكَرِّ اللَّيَالِي وَاللَّيَالِي كَمَا هِيَا) (أُصَوِّتُ بِالدُّنْيَا وَلَيْسَتْ تُجِيبُنِي ... أُحَاوِلُ أَنْ أَبْقَى وَكَيْفَ بَقَائِيَا) (وَمَا تَبْرَحُ الأَيَّامُ تَحْذِفُ مُدَّتِي ... بَعْدَ حِسَابٍ لا كَعَدِّ حِسَابِيَا) (أَلَيْسَ اللَّيَالِي غَاصِبَاتِي مُهْجَتِي ... كَمَا غَصَبَتْ قَبْلِي الْقُرُونَ الْخَوَالِيَا) (وَتُسْكِنُنِي لَحْدًا لِذِي حُفْرَةٍ بِهَا ... يَطُولُ إِلَى أُخْرَى اللَّيَالِي ثَوَائِيَا) (فَيَا لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ مَوْتِي وَمَبْعَثِي ... أَكُونُ تُرَابًا لا عَلَيَّ وَلا لِيَا) يَا مَنْ ذُنُوبُهُ كَثِيرَةٌ لا تُعَدُّ وَوَجْهُ صَحِيفَتِهِ بِمُخَالَفَتِهِ قَدِ اسْوَدَّ، كَمْ نَدْعُوكَ إِلَى الْوِصَالِ وَتَأْبَى إِلا الصَّدَّ، أَمَا الْمَوْتُ قَدْ سَعَى نَحْوَكَ وَجَدَّ، أَمَا عَزَمَ أَنْ يُلْحِقَكَ بِالأَبِ وَالْجَدِّ. أَمَا تَرَى مُنَعَّمًا أَتْرَبَ الثَّرَى مِنْهُ الْخَدَّ، كَمْ عَايَنْتَ مُتَجَبِّرًا كَفَّ الْمَوْتُ كَفَّهُ الْمُمْتَدَّ، فَاحْذَرْ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى الْمَعَاصِي فَإِنَّهُ إِذَا أَتَى أَبَى الرَّدَّ، إِلَى كَمْ ذَا الصَّبَا وَالْمَرَاحُ، أَأَبْقَى الشَّيْبُ مَوْضِعًا لِلْمُزَاحِ، لقد أغنى الصباح عن المصباح، وقام حَرْبَ الْمَنُونِ مِنْ غَيْرِ سِلاحٍ، اعْوَجَّتِ الْقَنَاةُ بِلا قَنًا وَلا صِفَاحٍ، فَعَادَ ذُو الشَّيْبَةِ بِالضَّعْفِ ثَخِينَ الْجِرَاحِ، وَنَطَقَتْ أَلْسُنُ الْفَنَاءِ بِالْوَعْظِ الصِّرَاحِ، وَا أَسَفَا صُمَّتِ الْمَسَامِعُ وَالْمَوَاعِظُ فِصَاحٌ، لَقَدْ صَاحَ لِسَانُ التَّحْذِيرِ يَا صَاحِ يَا صَاحِ، وَأَنَّى بِالْفَهْمِ لِمَخْمُورٍ غَيْرِ صَاحٍ، لَقَدْ أَسْكَرَكَ الْهَوَى سُكْرًا شَدِيدًا لا يُزَاحُ، وَمَا تُفِيقُ حَتَّى يَقُولَ الْمَوْتُ: لا بَرَاحَ. (أَلا تُبْصِرُ الآجَالَ كَيْفَ تَخَرَّمَتْ ... وَكُلُّ امْرِئٍ لِلْهَلْكِ وَالْمَوْتِ صَائِرُ) (وَأَنْتَ بِكَأْسِ الْقَوْمِ لا بُدَّ شَارِبٌ ... فَهَلْ أَنْتَ فِيمَا يُصْلِحُ النَّفْسَ نَاظِرُ) لَقَدْ وَعَظَ الزَّمَنُ بِالآفَاتِ وَالْمِحَنِ، وَلَقَدْ حَدَّثَ بِالطَّعْنِ كُلُّ مَنْ قَدْ ظَعَنَ، وَلَقَدْ أَنْذَرَ المطلق في أغراضه المرتهن، تالله لوصفت الْفِطَنُ أَبْصَرَتْ مَا بَطَنَ. إِخْوَانِي: أَمْرُ الْمَوْتِ قَدْ عَلَنَ، كَمْ طَحْطَحَ الرَّدَى وَكَمْ طَحَنَ، يَا بَائِعًا لِلْيَقِينِ

مُشْتَرِيًا لِلظَّنَنِ، يَا مُؤْثِرًا لِلرَّذَائِلِ فِي اخْتِيَارِ الْفِتَنِ، إِنَّ السُّرُورَ وَالشُّرُورَ فِي قَرَنٍ، أَنْتَ فِي الْمَعَاصِي مُطْلَقُ الرَّسَنِ وَفِي الطَّاعَةِ كَذِي وَسَنٍ، يَا رَضِيعَ الدُّنْيَا وَقَدْ آنَ فِطَامُهُ، يَا طَالِبَ الْهَوَى وَقَدْ حَانَ حِمَامُهُ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ للَّهِ مُنَادِيًا يُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ: أَبْنَاءَ الْخَمْسِينَ: هَلُمُّوا لِلْحِسَابِ، أَبْنَاءَ السِّتِّينَ مَاذَا قَدَّمْتُمْ وَمَاذَا أَخَّرْتُمْ؟ أَبْنَاءَ السَّبْعِينَ عُدُّوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْمَوْتَى: (كَبِرْتَ وَقَارَبْتَ نِصْفَ الْمِائَهْ ... وَبُدِّلْتَ يَا شَيْخُ بِالتَّسْمِيَهْ) (وَقَدْ نَشَرَ الشَّيْبُ فِي عَسْكَرِ الشَّبَابِ ... عَلَى رَأْسِكَ الأَلْوِيَهْ) (تَحَوَّلْ إِلَى تَوْبَةٍ لا تَحُورُ ... عَسَاهَا تَكُونُ هِيَ الْمُنْجِيَهْ) (وَلا تُطْلِقِ اللَّحْظَ فِي رِيبَةٍ ... وَلا تَسْأَلَنَّ فِتْنَةً مَا هِيَهْ) (وَهَلْ غَيْرُهَا قَدْ تَذَوَّقْتَهُ ... فَكَمْ تَعَتَدَّ الإِثْمَ وَالْمَعْصِيَهْ) إِلَى كَمْ يَا ذَا الْمَشِيبِ، أَمَا الأَمْرُ مِنْكَ قَرِيبٌ، كَمْ تَعِبَ فِي وَعْظِكَ خَطِيبٌ، كَمْ عَالَجَكَ طَبِيبٌ. إِنَّهُ لَمَرَضٌ عَجِيبٌ، إِنَّهُ لَدَاءٌ غَرِيبٌ عَظْمٌ وَاهِنٌ وَقَلْبٌ صَلِيبٌ، يَا هَذَا لا شَيْءَ أَقَلُّ مِنَ الدُّنْيَا وَلا أَعَزُّ مِنْ نَفْسِكَ، وَهَا أَنْتَ تُنْفِقُ أَنْفَاسَ النَّفَسِ النَّفِيسَةَ عَلَى تَحْصِيلِ الدُّنْيَا الْخَسِيسَةِ، مَتَى يُقْنِعُكَ الْكَفَافُ، مَتَى يَرُدُّكَ الْعَفَافُ مَتَى يُقَوِّمُكَ الثِّقَافُ، إِنَّكَ لَتَأْبَى إِلا الْخِلافَ، مَقَالِيدُكَ ثِقَالٌ وَرَكَعَاتُكَ خفاف، يا قبيح الخصال يا سيء الأَوْصَافِ، يَا مُشْتَرِيًا بِسِنِي الْخِصْبِ السِّنِينَ الْعِجَافَ، قِفْ مُتَدَبِّرًا لِحَالِكَ فَالْمُؤْمِنُ وَقَّافٌ، وَتَذَكَّرْ وَعِيدَ الْعُصَاةِ وَيْحَكَ أَمَا تَخَافُ: (مَا مِنَ الْحَزْمِ أَنْ تُقَارِبَ أَمْرًا ... تَطْلُبُ الْبُعْدَ عَنْهُ بَعْدَ قَلِيلِ) (وَإِذَا مَا هَمَمْتَ بِالشَّيْءِ فَانْظُرْ ... كَيْفَ مِنْهُ الْخُرُوجُ قَبْلَ الدُّخُولِ) (لا مَفَرًّا مِنَ الْمَقَادِيرِ لَكِنْ ... لِلْمَعَاذِيرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ) وَيْحَكَ إِنَّ الدُّنْيَا فِتْنَةٌ، وَكَمْ فِيهَا مِنْ مِحْنَةٍ، غَيْرَ أَنَّهَا لا تَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْفِطْنَةِ، لا يُعَزُّ ذَلِيلُهَا وَلا يُودَى قَتِيلُهَا، مَنْ سَكَنَهَا خَرَجَ، وَسَاكِنُهَا مُنْزَعِجٌ:

سجع على قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}

(إِنَّمَا الدُّنْيَا بَلاءٌ ... لَيْسَ فِي الدُّنْيَا ثُبُوتُ) (إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتٍ ... نَسَجَتْهُ الْعَنْكَبُوتُ) (كُلُّ مَنْ فِيهَا لَعَمْرِي ... عَنْ قَرِيبٍ سَيَمُوتُ) (إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْهَا ... أَيُّهَا الرَّاغِبُ قُوتُ) يَا هَذَا انْتَقِمْ مِنْ حِرْصِكَ بِالْقَنَاعَةِ، فَمَنْ مَاتَ حِرْصُهُ عَاشَتْ مُرُوءَتُهُ. خَلِّ فُضُولَ الدُّنْيَا وَقَدْ سَلِمْتَ، إِنْ لَمْ تَقْبَلْ نُصْحِي نَدِمْتَ، الْبُلْغَةُ مِنْهَا مَا يَقُوتُ وَالزَّاهِدُ فِيهَا مَا يَمُوتُ، فَأَعْرِضْ عَنْهَا جَانِبًا، وَكُنْ لأَهْلِهَا مُجَانِبًا وَإِذَا أَقْلَقَكَ: هَجِيرُ الْمَجَاعَةِ فَلِذَّ بِالصَّبْرِ فِي ظِلِّ الْقَنَاعَةِ. الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ ما توسوس به نفسه} . الإنسان: ابن أآدم، وما توسوس به نفسه: مَا تُحَدِّثُهُ بِهِ وَيَكِنُّهُ فِي قَلْبِهِ. وَهَذا يَحُثُّ عَلَى تَطْهِيرِ الْقَلْبِ مِنْ مُسَاكَنَةِ الْوَسَاوِسِ الرَّدِيئَةِ تَعْظِيمًا لِمَنْ يَعْلَمُ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا نَطَقْتَ فَاذْكُرْ مَنْ يَسْمَعُ، وَإِذَا نَظَرْتَ فَاذْكُرْ مَنْ يَرَى، وَإِذَا عَزَمْتَ فَاذْكُرْ مَنْ يَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حبل الوريد} الوريد: عِرْقٌ فِي بَاطِنِ الْعُنُقِ وَهُمَا وَرِيدَانِ بَيْنَ الْحُلْقُومِ وَالْعُلْيَاوَيْنِ، وَالْعُلْوَيَانِ: الْقَصَبَتَانُ الصَّفْرَاوَانِ فِي مَتْنِ العنق وحبل الوريد هُوَ الْوَرِيدُ، فَأُضِيفَ إِلَى نَفْسِهِ لاخْتِلافِ لَفْظَيِ اسْمِهِ. سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه من حبل الوريد} يَا مُطْلِقًا نَفْسَهُ فِيمَا يَشْتَهِي وَيُرِيدُ، اذْكُرْ عِنْدَ خَطَوَاتِكَ الْمُبْدِئَ الْمُعِيدَ، وَخَفْ قُبْحَ مَا جَرَى فَالْمَلِكُ يَرَى وَالْمَلَكُ شَهِيدٌ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه من حبل الوريد} .

هلا استحيت مِمَّنْ يَرَاكَ إِذَا رَكِبْتَ مِنْ هَوَاكَ مَا نَهَاكَ، سَتَبْكِي وَاللَّهِ عَيْنَاكَ مِمَّا جَنَتْ يَدَاكَ، أَمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ بِالْمِرْصَادِ فَقُلْ لِي أَيْنَ تَحِيدُ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . لَوْ صَدَقَ عِلْمُكَ بِهِ لَرَاقَبْتَهُ، وَلَوْ خِفْتَ وَعِيدَهُ فِي الْحَرَامِ مَا قَارَبْتَهُ، وَلَوْ عَلِمْتَ سُمُومَ الْجَزَاءِ فِي كَأْسِ الْهَوَى مَا شَرِبْتَهُ، لَقَدْ أَضَعْنَا الْحَدِيثَ عِنْدَ سَكْرَانَ يَمِيدُ، {وَنَحْنُ أقرب إليه من حبل الوريد} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مُنْفَرِدٍ فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ وَحْدَكَ؟ فَقَالَ: مَعِي رَبِّي وَمَلَكَايَ. فَقُلْتُ: أَيْنَ الطَّرِيقُ؟ فَأَشَارَ نَحْوَ السَّمَاءِ ثُمَّ مَضَى وَهُوَ يَقُولُ: أَكْثَرُ خَلْقِكَ شَاغِلٌ عَنْكَ. رَاوَدَ رَجُلٌ امْرَأَةً فَقَالَتْ: أَلا تَسْتَحِي؟ فَقَالَ: مَا يَرَانَا إِلا الْكَوَاكِبُ. فَقَالَتْ: وَأَيْنَ مُكَوْكِبُهَا؟! (كَأَنَّ رَقِيبًا مِنْكَ يَرْعَى خَوَاطِرِي ... وَآخَرُ يَرْعَى نَاظِرَيَّ وَلِسَانِي) (فَمَا نَظَرَتْ عَيْنَايَ بَعْدَكَ نَظْرَةً ... لِغَيْرِكَ إِلا قُلْتُ قَدْ رَمَقَانِي) (وَلا بَدَرَتْ مِنْ فِيَّ بَعْدَكَ لَفْظَةٌ ... لِغَيْرِكَ إِلا قُلْتُ قَدْ سَمِعَانِي) (وَلا خَطَرَتْ فِي غَيْرِ ذِكْرِكَ خَطْرَةٌ ... عَلَى الْقَلْبِ إِلا عَرَّجَتْ بِعِنَانِي) قَوْلُهُ تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان} وَهُمَا الْمَلَكَانِ يَلْتَقِيَانِ الْقَوْلَ وَيَكْتُبَانِهِ، عَنِ الْيَمِينِ كَاتِبُ الْحَسَنَاتِ وَعَنِ الشِّمَالِ كَاتِبُ السَّيِّئَاتِ {قَعِيدٌ} أَيْ قَاعِدٌ. وَالْمَعْنَى: عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " كَاتِبُ الْحَسَنَاتِ عَلَى يَمِينِ الرَّجُلِ وَكَاتِبُ السَّيِّئَاتِ عَلَى شِمَالِهِ، وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِينٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئَاتِ، فَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَهَا لَهُ صَاحِبُ الْيَمِينِ عَشْرًا، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ: أَمْسِكْ، فَيُمْسِكُ عَنْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ، فَإِنِ اسْتَغْفَرَ مِنْهَا لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ".

سجع على قوله تعالى: {عن اليمين وعن الشمال قعيد}

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَقْعَدُ مَلِيكِكَ عَلَى ثَنِيَّتِكَ، فَلِسَانُكَ قَلَمُهَا وَرِيقُكَ مِدَادُهَا ". سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وعن الشمال قعيد} مَا ظَنُّكَ بِمَنْ يُحْصِي جَمِيعَ كَلِمَاتِكَ، وَيَضْبِطُ كُلَّ حَرَكَاتِكَ، وَيُشْهِدُ عَلَيْكَ بِحَسَنَاتِكَ تُرْفَعُ الصَّحَائِفُ وَهِيَ سُودٌ وَعَمَلُ الْمُنَافِقِ مَرْدُودٌ، يَحْضُرُهُ الْمَلَكَانِ لَدَى الْمَعْبُودِ، يَا شَرَّ الْعَبِيدِ {عَنِ الْيَمِينِ وعن الشمال قعيد} . يَضْبُطَانِ عَلَى الْعَبْدِ مَا يَجْرِي مِنْ حَرَكَاتِهِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ نَظَرَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاخْتِلافِ أُمُورِهِ وَحَالاتِهِ، لا يَنْقُصُ وَلا يَزِيدُ {عَنِ الْيَمِينِ وعن الشمال قعيد} . قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَوْمًا لأَصْحَابِهِ: أَخْبِرُونِي لَوْ كَانَ مَعَكُمْ مَنْ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى السُّلْطَانِ، أَكُنْتُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِشَيْءٍ؟ قَالُوا: لا. قَالَ: فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لديه رقيب عتيد} أَيْ: مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ كَلامٍ فَيَلْفِظُهُ أَيْ يَرْمِيهِ مِنْ فِيهِ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، أَيْ حَافِظٌ وَهُو الْمَلِكُ الْمُوكَلُ بِهِ، وَالْعَتِيدُ الحاضر معه أينما كان. السجع عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لديه رقيب عتيد} يَا كَثِيرَ الْكَلامِ حِسَابُكَ شَدِيدٌ، يَا عَظِيمَ الإِجْرَامِ عَذَابُكَ جَدِيدٌ، يَا مُؤْثِرًا مَا يَضُرُّهُ مَا رَأْيُكَ سَدِيدٌ، يَا نَاطِقًا بِمَا لا يُجْدِي وَلا يُفِيدُ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لديه رقيب عتيد} .

كَلامُكَ مَكْتُوبٌ وَقَوْلُكَ مَحْسُوبٌ، وَأَنْتَ يَا هَذَا مَطْلُوبٌ، وَلَكَ ذُنُوبٌ وَمَا تَتُوبُ، وَشَمْسُ الْحَيَاةِ قَدْ أَخَذَتْ فِي الْغُرُوبِ، فَمَا أَقْسَى قَلْبَكَ مِنْ بَيْنِ الْقُلُوبِ، وَقَدْ أَتَاهُ مَا يُصَدِّعُ الْحَدِيدَ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رقيب عتيد} . أَتَظُنُّ أَنَّكَ مَتْرُوكٌ مُهْمَلٌ، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّهُ يَنْسَى مَا تَعْمَلُ، أَوْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الْكَاتِبَ يَغْفُلُ، هَذَا صَائِحُ النَّصَائِحِ قَدْ أَقَبْلَ، يَا قَاتِلا نَفْسَهُ بِكَفِّهِ لا تَفْعَلْ، يَا مَنْ أَجَلُهُ يَنْقُصُ وَأَمَلُهُ يَزِيدُ، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قول إلا لديه رقيب عتيد} . (أَنَا مِنْ خَوْفِ الْوَعِيدِ ... فِي قِيَامٍ وَقُعُودِ) (كَيْفَ لا أَزْدَادُ خَوْفًا ... وَعَلَى النَّارِ وُرُودِي) (كَيْفَ جَحْدِي مَا تَجَرَّمْتُ ... وَأَعْضَائِي شُهُودِي) (كَيْفَ إِنْكَارِي ذُنُوبِي ... أَمْ تُرَى كَيْفَ جُحُودِي) (وَعَلَى الْقَوْلِ يُحْصَى ... بِرَقِيبٍ وَعَتِيدِ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَتْ سكرة الموت بالحق} وَهِيَ غَمْرَتُهُ وَشِدَّتُهُ الَّتِي تَغْشَى الإِنْسَانَ وَتَغْلِبُ على عقله. وفي قوله: {بالحق} ) . قَوْلانِ ذَكَرَهُمَا الْفَرَّاءُ: أَحَدُهَمَا: بِحَقِيقَةِ الْمَوْتِ. وَالثَّانِي: بِالْحَقِّ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ} أَيْ ذَلِكَ الْمَوْتُ: {مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . أَيْ تَهْرُبُ وَتَفِرُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصور} . وهي نفخة البعث {ذلك يوم الوعيد} أَيْ يَوْمُ وُقُوعِ الْوَعِيدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَتْ كل نفس معها سائق وشهيد} . وَفِيهِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَلَكٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا. قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَرِينُهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ سُمِّيَ سَائِقًا لأَنَّهُ يُتْبِعُهَا وَإِنْ لَمْ يَحُثَّهَا. وَفِي الشَّهِيدِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أنه ملك يشهد عليها بِعَمَلِهَا. قَالَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَالْحَسَنُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَلَكَانِ سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ السائق:

الَّذِي يَكْتُبُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتِ. وَالشَّهِيدُ: هُوَ الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ لَهُ الْحَسَنَاتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْعَمَلُ يَشْهَدُ عَلَى الإِنْسَانِ. قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَالثَّالِثُ: الأَيْدِي وَالأَرْجُلِ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِعَمَلِهِ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ. إِخْوَانِي احْذَرُوا مِنَ الْعَرْضِ عَلَى مَالِكِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَأَعِدُّوا الْجَوَابَ إِذَا سُئِلْتُمْ عَنِ الْفَرْضِ، أَيْنَ الْحَيَاءُ مِنْ قُبْحِ الْمُضْمَرَاتِ، أَيْنَ الْبُكَاءُ عَلَى سَالِفِ الْخَطَرَاتِ، أَيْنَ الْخَوْفُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى خَطَوَاتِ الْخَطِيئَاتِ. كَتَبَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ إِلَى حُذَيْفَةَ الْمَرْعَشِيِّ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَالْعَمَلِ بِمَا عَلَّمَكَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُرَاقَبَةِ حَيْثُ لا يَرَاكَ إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالاسْتِعْدَادِ لِمَا لَيْسَ لأَحَدٍ فِيهِ حِيلَةٌ ولا يُنْتَفَعُ بِالنَّدَمِ عِنْدَ نُزُولِهِ، فَاحْسِرْ عَنْ رَأْسِكَ قِنَاعَ الْغَافِلِينَ، وَانْتَبِهْ مِنْ رَقْدَةِ الْمَوْتَى وَشَمِّرْ لِلسِّبَاقِ غَدًا، فَإِنَّ الدُّنْيَا مَيْدَانَ الْمُسَابِقِينَ، وَلا تَغْتَرَّ بِمَنْ أَظْهَرَ النُّسُكَ وَتَشَاغَلَ بِالْوَصْفِ وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِالْمَوْصُوفِ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّهُ لا بُدَّ لِي وَلَكَ مِنَ الْمُقَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، يَسْأَلُنَا عَنِ الدَّقِيقِ الْخَفِيِّ وَعَنِ الْجَلِيلِ الْخَافِي، وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَسْأَلَنِي وَإِيَّاكَ عَنْ وَسْوَاسِ الصُّدُورِ وَلَحَظَاتِ الْعُيُونِ وَالإِصْغَاءِ لِلاسْتِمَاعِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لا يُجْزِي مِنَ الْعَمَلِ الْقَوْلُ وَلا مِنَ الْبَذْلِ الْعِدَةُ وَلا مِنَ التَّوَقِيِّ التَّلاوُمُ. يَا مَنْ مَعَاصِيهِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، يَا مَنْ نَفْسُهُ بِمَنْ يَجْنِي عَلَيْهَا مَسْرُورَةٌ، أَفِي الْعَيْنِ كَمَهٌ أَمْ عَشَى أَمِ الأَمْرُ إِلَيْكَ يَجْرِي كَمَا تَشَا، أَعَلَى الْقَلْبِ حِجَابٌ أَمْ غِشَا، أَيَا مَنْ إِذَا قَعَدَ عَصَى وَكَذَا إِذَا مَشَى، كُلُّ فِعْلِكَ غَلَطٌ، كُلُّ عَمَلِكَ سَقَطَ، أَتُرَى هَذَا الْعَقْلَ اخْتَلَطَ، أَمَا قُوِّمَ بِهَذَا الشَّمَطِ، أَمَا عَلَّمَ الشَّيْبُ عَلَى حُرُوفِ الْمَوْتِ وَنَقَطَ، لَقَدْ عَزَمَ الأَجَلُ عَلَى النُّهُوضِ، وَطَالَ مَا أَقَامَ وَالدُّنْيَا قُرُوضٌ، قَصْرٌ يُبْنَى وَجِسْمٌ مَنْقُوضٌ، شَيْبٌ وَعَيْبٌ يُزَحْلِقُ الْفُرُوضَ: (إِلَى مَتَى أَنْتَ فِي ذُنُوبٍ ... قَلْبُكَ مِنْ أَجْلِهَا مَرِيضُ) (أُقْرِضْتَ عُمْرًا فَمَرَّ خَلْسًا ... وَآنَ أَنْ تُطْلَبَ الْقُرُوضُ) (فَاحْذَرْ مَجِيءَ الْحِمَامِ بَغْتًا ... وَأَنْتَ فِي بَاطِلٍ تَخُوضُ)

سجع على قوله تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا}

سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غفلة من هذا} كَأَنَّكَ بِالْعُمْرِ قَدِ انْقَرَضَ، وَهَجَمَ عَلَيْكَ الْمَرَضُ، وَفَاتَ كُلُّ مُرَادٍ وَغَرَضٍ، وَإِذَا بِالتَّلَفِ قَدْ عَرَضَ أَخَّاذًا {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا} . شخص البصر وسكن الصوت، ولم يمكن التَّدَارُكُ لِلْفَوْتِ، وَنَزَلَ بِكَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَسَامَتِ الرُّوحُ وَحَازَى {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا} . عَالَجْتَ أَشَدَّ الشَّدَائِدِ، فَيَا عَجَبًا مِمَّا تُكَابِدُ، كَأَنَّكَ قَدْ سُقِيتَ سُمَّ الأَسَاوِدِ فَقَطَعَ أَفْلاذًا {لقد كنت في غفلة من هذا} . بَلَغَتِ الرُّوحُ إِلَى التَّرَاقِي، وَلَمْ تَعْرِفِ الرَّاقِيَ مِنَ السَّاقِي، وَلَمْ تَدْرِ عِنْدَ الرَّحِيلِ مَا تُلاقِي، عِيَاذًا بِاللَّهِ عِيَاذًا {لَقَدْ كُنْتَ فِي غفلة من هذا} . ثُمَّ دَرَجُوكَ فِي الْكَفَنِ وَحَمَلُوكَ إِلَى بَيْتِ الْعَفَنِ، عَلَى الْعَيْبِ الْقَبِيحِ وَالأَفَنِ، وَإِذَا الْحَبِيبُ مِنَ التُّرَابِ قَدْ حَفَنَ، وَصِرْتَ فِي الْقَبْرِ جُذَاذًا {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} . وَتَسَرَّبَتْ عَنْكَ الأَقَارِبُ تَسْرِي، تَقُدُّ فِي مَالِكَ وَتُفْرِي، وَغَايَةُ أَمْرِهِمْ أَنْ تَجْرِيَ دُمُوعُهُمْ رَذَاذًا {لقد كنت في غفلة من هذا} . قَفَّلُوا الأَقْفَالَ وَبَضَّعُوا الْبِضَاعَةَ، وَنَسُوا ذِكْرَكَ يَا حَبِيبَهُمْ بَعْدَ سَاعَةٍ، وَبَقِيتَ هُنَاكَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، لا تَجِدُ وَزَرًا وَلا مَعَاذًا {لقد كنت في غفلة من هذا} . ثُمَّ قُمْتَ مِنْ قَبْرِكَ فَقِيرًا، لا تَمْلِكُ مِنَ الْمَالِ نَقِيرًا، وَأَصْبَحْتَ بِالذُّنُوبِ عَقِيرًا، فَلَوْ قَدَّمْتَ مِنَ الْخَيْرِ حَقِيرًا صَارَ مَلْجَأً وَمَلاذًا، {لقد كنت في غفلة من هذا} . وَنُصِبَ الصِّرَاطُ وَالْمِيزَانُ، وَتَغَيَّرَتِ الْوُجُوهُ وَالأَلْوَانُ، وَنُودِيَ: شَقِيَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ، وَمَا تَرَى لِلْعُذْرِ نَفَاذًا {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} . كَمْ بَالَغَ عَذُولُكَ فِي الْمَلامِ، وَكَمْ قَعَدَ فِي زَجْرِكَ وَقَامَ، فَإِذَا قَلْبُكَ مَا اسْتَقَامَ، قُطِعَ الْكَلامُ عَلَى ذَا {لَقَدْ كُنْتَ فِي غفلة من هذا} . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ.

المجلس السادس في ذكر الحج

المجلس السادس في ذِكْرُ الْحَجِّ الْحَمْدُ للَّهِ الْمَلِكِ الْقَدِيمِ، الْوَاحِدِ الْعَزِيزِ الْعَظِيمِ، الشَّاهِدِ سَامِعِ ذِكْرِ الذَّاكِرِ وَحَمْدِ الْحَامِدِ وَعَالِمِ ضَمِيرِ الْمُرِيدِ وَنِيَّةِ الْقَاصِدِ، لِعَظَمَتِهِ خَضَعَ الرَّاكِعُ وَذَلَّ السَّاجِدُ، وَبِهُدَاهُ اهْتَدَى الطَّالِبُ وَأَدْرَكَ الْوَاجِدُ، رَفَعَ السَّمَاءَ فَعَلاهَا وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُسَاعِدٍ، وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ رَاسِخَاتِ الْقَوَاعِدِ، تَنَزَّهَ عَنْ شَرِيكٍ مُشَاقِقٍ أَوْ نِدٍّ مُعَانِدٍ، وَعَزَّ عَنْ وَلَدٍ وَجَلَّ عَنْ وَالِدٍ، وَأَحَاطَ عِلْمًا بِالأَسْرَارِ وَالْعَقَائِدِ، وَأَبْصَرَ حَتَّى دَبِيبَ النَّمْلِ فِي الْجَلامِدِ، وَسَطَا فَسَالَتْ لِهَيْبَتِهِ صِعَابُ الْجَوَامِدِ، وَيَقُولُ فِي اللَّيْلِ: " هَلْ مِنْ سَائِلٍ " فَانْتَبِهْ يَا رَاقِدُ بَنَى بَيْتًا أَمَرَ بِقَصْدِهِ وَتَلَقَّى الْوَافِدَ، وَأَقْسَمَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَمَا يُنْكِرُ إِلا مُعَانِدٌ {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذكرا إن إلهكم لواحد} . أَحْمَدُهُ عَلَى الرَّخَاءِ وَالشَّدَائِدِ، وَأُقِرُّ بِتَوْحِيدِهِ إِقْرَارَ عَابِدٍ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ الَّذِي كَانَ لا يُخَيِّبُ السَّائِلَ الْقَاصِدَ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ التَّقِيِّ النَّقِيِّ الزَّاهِدِ، وَعَلَى عُمَرَ الْعَادِلِ فَلا يُرَاقِبُ الْوَلَدَ وَلا الْوَالِدَ، وَعَلَى عُثْمَانَ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا بِكَفِّ الْحَاسِدِ، وَعَلَى عَلِيٍّ الْبَحْرِ الْخِضَمِّ وَالْبَطَلِ الْمُجَاهِدِ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَقْرَبِ الأَقَارِبِ وَالأَبَاعِدِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حج البيت} فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَجَّ الْبَيْتَ بِهَذِهِ الآية. وقوله: {من استطاع إليه سبيلا} قال النحويون: " من " بَدَلٌ مِنَ النَّاسِ،

وَهَذَا بَدَلُ الْبَعْضِ كَمَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّسَفِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الاسْتِطَاعَةُ إِلَى الْحَجِّ؟ قَالَ: " الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ ". وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُجِيبَ قَدْ يُجِيبُ عَنِ الْمُشْكِلِ وَيَتْرُكُ الظَّاهِرَ ثِقَةً بِعِلْمِ السَّامِعِ، وَإِلا فَقَدْ يَكُونُ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ فَإِذَا خَرَجَ إِلَى الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَتْرُكُ لِعِيَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُدَبِّرُهُ فِي مَعَاشِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُودِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالإِسْلامِ وَالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَيَشْتَرِطُ فِي وُجُودِ الرَّاحِلَةِ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِمِثْلِهِ وَرَحْلُهَا وَآلَتُهَا، لأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَبِيرَ السِّنِّ فَلا يُمْكِنُهُ الرُّكُوبُ عَلَى الْقِتْبِ، وَأَنْ يَكُونَ وُجُودُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلا عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَنَفَقَةٍ لِعِيَالِهِ إِلَى أَنْ يَعُودَ وَقَضَاءِ دَيْنٍ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ إِذَا رَجَعَ مَا يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ مِنْ عَقَارٍ أَوْ بِضَاعَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ وَسَعَةِ الْوَقْتِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا ". وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} قَالَ: طَرِيقَ مَكَّةَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْحَجِّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ بِنَاءَ الْبَيْتِ وَفَضَائِلَهُ وَفَضْلَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ: " وَكَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَمَنْ قَالَ: أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار قالوا: آمين ".

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ فَهُوَ عِدْلُ مُحَرَّرٍ ". أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ بِسَنَدِهِ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ تَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ: سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ لَمْ يَرْفَعْ قَدَمًا وَلَمْ يَضَعْ أُخْرَى إِلا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ خَمْسِينَ مَرَّةً خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ". وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ تُضَاعَفُ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى: الدرهم بسبعمائة دِرْهَمٍ ". فَأَمَّا حَجُّ الْمَاشِي: فَأَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، بِسَنَدِهِمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ زَاذَانَ قَالَ: مَرِضَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَرَضًا شَدِيدًا فَدَعَا وَلَدَهُ فَجَمَعَهُمْ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ مَاشِيًا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خطوة سبعمائة حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ: بِكُلِّ حَسَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ ". وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتُصَافِحُ رُكْبَانَ الْحَجِّ وَتَعْتَنِقُ الْمُشَاةَ ". وَأَمَّا فَضِيلَةُ الْحَجِّ: فَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةَ، وَالْعُمْرَتَانِ - أَوِ الْعُمْرَةُ - إِلَى الْعُمْرَةِ تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا ".

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ". الْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَرَادَ دُنْيَا وَآخِرَةً فَلْيَؤُمَّ هَذَا الْبَيْتَ، مَا أَتَاهُ عَبْدٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى دُنْيَا إِلا أَعْطَاهُ مِنْهَا وَلا آخِرَةً إِلا ادَّخَرَ لَهُ مِنْهَا ". وَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يُشَارُ بِهِ إِلَى التَّجَرُّدِ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُفَارَقَةِ الْمَحْبُوبَاتِ. وَلْيَتَذَكَّرْ بِأَهْوَالِ الطَّرِيقِ الأَهْوَالَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْقِيَامَةِ، وَبِالإِحْرَامِ الْكَفَنَ، وَبِالتَّلْبِيَةِ إِجَابَةَ الدَّاعِي، وَلْيُحْضِرْ قَلْبَهُ لِتَعْظِيمِ الْبَيْتِ، وَلْيَتَذَكَّرْ بِالالْتِجَاءِ إِلَيْهِ الْتِجَاءَ الْمُذْنِبِ، وَبِالطَّوَافِ الطَّوَافَ حَوْلَ دَارِ السَّيِّدِ لِيَرْضَى، وَبِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ التَّرَدُّدَ إِلَى فِنَاءِ الدَّارِ، وَبِرَمْيِ الْجِمَارِ رَمْيَ الْعَدُوِّ. وَكَمَا أَنَّ لِلأَبْدَانِ حَجًّا فَلِلْقُلُوبِ حَجٌّ؛ فَإِنَّهَا تَنَهْضُ بِأَقْدَامِ الْعَزَائِمِ وَتَمْتَطِي غَوَارِبَ الشَّوْقِ، وَتُفَارِقُ كُلَّ مَحْبُوبٍ لِلنَّفْسِ، وَتُصَابِرُ فِي الطَّرِيقِ شِدَّةَ الْجَهْدِ، وَتَرِدُ مَنَاهِلَ الْوَفَاءِ لا غُدْرَانَ الْغَدْرِ، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى مِيقَاتِ الْوَصْلِ نَزَعَتْ مَخِيطَ الآمَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَاغْتَسَلَتْ مِنْ عَيْنِ الْعَيْنِ، وَنَزَلَتْ بِعَرَفَاتِ الْعِرْفَانِ، وَلَبَّتْ إِذْ لَبَّتْ مِنْ لُبَابِ اللُّبِّ، ثُمَّ طَافَتْ حَوْلَ الإِجْلالِ، وَسَعَتْ بَيْنَ صَفَا الصَّفَا وَمَرْوَةِ الْمُرُوءَةِ، فَرَمَتْ جِمَارَ الْهَوَى بِأَحْجَارٍ، فَوَصَلَتْ إِلَى قُرْبِ الْحَبِيبِ فَلَوْ تَرَنَّمَتْ بِشَرْحِ حَالِهَا لَقَالَتْ: (لا وَالَّذِي قَصَدَ الْحَجِيجُ لِبَيْتِهِ ... مِنْ بَيْنِ نَاءٍ طَارِقٍ وَقَرِيبِ) (وَالْحِجْرِ وَالْحَجَرِ الْمُقَبَّلِ تَلْتَقِي ... فِيهِ الشِّفَاهُ وَرُكْنِهِ الْمَحْجُوبِ) (لا كَانَ مَوْضِعُكَ الَّذِي مَلَّكْتَهُ ... مِنْ قَلْبِ عَبْدِكَ بَعْدَ ذَا لِحَبِيبِ) (لِي أَنَّةُ الشَّاكي إِذَا بَعُدَ الْمَدَى ... مَا بَيْنَنَا وَتَنَفُّسُ الْمَكْرُوبِ)

وَلَمَّا عَبَرَ الْخَلِيلُ هَذِهِ الْحَالَةَ قِيلَ لَهُ: قد بقي عيك ذِبْحٌ يُجَانِسُ هَذَا الْحَجَّ لَيْسَ لَهُ إِلا الْوَلَدُ وَمَا الْمُرَادُ إِرَاقَةُ دَمِهِ بَلْ فَرَاغُ قَلْبِكَ عَنْهُ، يَا خَلِيلِي مِنَ الْمَسْنُونِ اسْتِسْمَانُ الإِبِلِ وَأَلا يَكُونَ فِي الْمَذْبُوحِ عَيْبٌ، فَاخْتَبِرْ ذِبْحَكَ هَلْ فِيهِ عَيْبٌ أَوْ هُوَ سَلِيمٌ مُسَلَّمٌ؟ فَقَالَ لَهُ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أني أذبحك} فأجابه: {افعل ما تؤمر} فَعُلِمَ حُصُولُ الْكَمَالِ وَعَدَمُ الْعُيُوبِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: اسْتَحِدَّ مُدْيَتَكَ وَأَسْرِعْ مَرَّ السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِي وَإِذَا عُدْتَ إِلَى أُمِّي فَسَلِّمْ عَلَيْهَا عَنِّي. هَذَا قَوْلُ مَنْ لَمْ يُلِمَّ بِقَلْبِهِ خَوْفُ أَلَمٍ! (مِحْنَتِي فِيكَ أَنَّنِي ... لا أُبَالِي بِمِحْنَتِي) (يَا شِفَائِي مِنَ السِّقَامِ ... وَإِنْ كُنْتَ عِلَّتِي) وَإِذَا وَصَلَ الْحَاجُّ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ فيجعل على فكره تعظيم من يقصده، وَلْيَتَخَايَلْ فِي مَسَاجِدِهَا وَطُرُقَاتِهَا نَقْلَ أَقْدَامِ الْمُصْطَفَى هُنَاكَ وَأَصْحَابِهِ، وَلْيَتَأَدَّبْ فِي الْوُقُوفِ وَلْيَسْتَشْفِعْ بِالْحَبِيبِ وَلْيَأْسَفْ إِذْ لَمْ يَحْظَ بِرُؤْيَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي صَحَابَتِهِ. (وَمَا رُمْتُ مِنْ بُعْدِ الأَحِبَّةِ سَلْوَةً ... وَلَكِنَّنِي لِلنَّائِبَاتِ حَمُولُ) (وَمَا شَرَقِي بِالْمَاءِ إِلا تَذَكُّرًا ... لِمَاءٍ بِهِ أَهْلُ الْحَبِيبِ نُزُولُ) وَيَنْبَغِي لِمَنْ عَادَ مِنَ الْحَجِّ أَنْ يَقْوَى رَجَاؤُهُ لِلْقَبُولِ وَمَحْوِ مَا سَلَفَ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ تَجْدِيدِ زَلَلٍ. وَقَدْ سُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا الْحَجُّ الْمَبْرُورُ؟ فَقَالَ: أَنْ تَعُودَ زَاهِدًا: فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الآخِرَةِ. أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا يَقُولُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُوَفَّقِ: لَمَّا تَمَّ لِي سِتُّونَ حِجَّةً خَرَجْتُ مِنَ الطَّوَافِ وَجَلَسْتُ بِحِذَاءِ الْمِيزَابِ وَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ لا أَدْرِي أَيُّ شَيْءٍ حَالِي عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ كَثُرَ تَوَدُّدِي إِلَى هَذَا الْمَكَانِ؟ فَغَلَبَتْنِي عَيْنِي فَكَأَنَّ قَائِلا يَقُولُ لِي: يَا عَلِيُّ أَتَدْعُو إِلَى بَيْتِكَ إِلا مَنْ تُحِبُّهُ؟ قَالَ: فَانْتَبَهْتُ وَقَدْ سُرِّيَ عني ما

الكلام على البسملة)

كُنْتُ فِيهِ. ( الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ) (غَفَلْتُ وَلَيْسَ الْمَوْتُ فِي غَفْلَةٍ عَنِّي ... وَمَا أَحَدٌ يَجْنِي عَلَيَّ كَمَا أَجْنِي) (أُشَيِّدُ بُنْيَانِي وَأَعْلَمُ أَنَّنِي ... أَزُولُ، لِمَنْ شَيَّدْتُهُ وَلِمَنْ أَبْنِي) (كَفَانِي بِالْمَوْتِ الْمُنَغِّصِ وَاعِظًا ... بِمَا أَبْصَرَتْ عَيْنِي وَمَا سَمِعَتْ أُذُنِي) (وَكَمْ لِلْمَنَايَا مِنْ فُنُونٍ كَثِيرَةٍ ... تُمِيتُ وَقَدْ وُطِّنَتْ نَفْسِي عَلَى فَنِّ) (وَلَوْ طَرَقَتْ مَا اسْتَأْذَنَتْ مَنْ يُحِبُّنِي ... كَمَا أَفْقَدَتْنِي مَنْ أُحِبُّ بِلا إِذْنِ) (وَقَدْ كُنْتُ أُفْدِي نَاظِرَيْهِ مِنَ الْقَذَى ... فَغَطَّيْتُ مَا قَدْ كُنْتُ أُفْدِيهِ بِالْعَيْنِ) (سَتَسْجِنَنِي يَا رَبِّ فِي الْقَبْرِ بُرْهَةً ... فَلا تَجْعَلِ النِّيرَانَ مِنْ بَعْدِهِ سِجْنِي) (وَلِي عِنْدَ رَبِّي سَيِّئَاتٌ كَثِيرَةٌ ... وَلَكِنَّنِي عَبْدٌ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ) مَنْ لِلْعَاصِي إِذَا دُعِيَ فَحَضَرَ، وَنُشِرَ كِتَابُهُ وَنَظَرَ، لَمْ يُسْمَعْ عُذْرُهُ وَقَدِ اعْتَذَرَ، وَنَاقَشَهُ الْمَوْلَى فَمَا غَفَرَ، آهٍ لِرَاحِلٍ لَمْ يَتَزَوَّدْ لِلسَّفَرِ، وَلِخَاسِرٍ إِذَا رَبِحَ الْمُتَّقُونَ افْتَقَرَ وَلِمَحْرُومٍ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ حَلَّ فِي سَقَرٍ، وَلِفَاجِرٍ فَضَحَهُ فُجُورُهُ فَاشْتَهَرَ، وَلِمُتَكَبِّرٍ بِالذُّلِّ بَيْنَ الْكُلِّ قَدْ ظَهَرَ، وَإِلَى مَحْمُولٍ إِلَى جَهَنَّمَ فَلا مَلْجَأَ لَهُ وَلا وَزَرَ، آهٍ مِنْ يَوْمٍ تُكَوَّرُ فِيهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَا كَثِيرَ الرِّيَاءِ قُلْ إِلَى مَتَى تَخْلُصُ، يَا نَاسِيَ الأَنْكَالِ إِنْ كَالَ فَمُتَلَصِّصٌ، مَا يَتَخَلَّصُ مِنْ مُعَامِلٍ وَلا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ مُخْلِصٌ، الدَّهْرُ حَرِيصٌ عَلَى قَتْلِكَ يَا مَنْ يَحْرِصُ، تَفَكَّرْ فِيمَنْ أَصْبَحَ مَسْرُورًا فَأَمْسَى وَهُوَ مُتَنَغِّصٌ، وَمَتَى أَرَدْتَ لَذَّةً فَاذْكُرْ قَبْلَهَا الْمُنَغِّصَ، وَتَعَلَّمْ أَنَّ الْهَوَى ظِلٌّ وَالظِّلُّ مُتَقَلِّصٌ، وَخُذْ عَلَى نَفْسِكَ لا تُسَامِحْهَا وَلا تُرَخِّصْ، حَائِطُ الْبَاطِلِ خَرَابٌ فَإِلَى كَمْ تُجَصِّصُ، أَيْنَ الْهَمُّ الْمُجْتَمِعُ تَفَرَّقَ فَمَا يَنْتَفِعُ، يَدْعُوكَ الْهَوَى فَتَتَّبِعُ، وَتُحَدِّثُكَ الْمُنَى فَتَسْتَمِعُ، كَمْ زَجَرَكَ نَاصِحٌ فَلَمْ تُطِعْ، سَارَ الصَّالِحُونَ يَا مُنْقَطِعُ، مَا الَّذِي عَاقَكَ لَهْوٌ مُخْتَدِعٌ، شَرَوْا مَا يَبْقَى بِمَا يَفْنَى وَأَنْتَ لَمْ تَشْرِ وَلَمْ تَبِعْ، أَيْنَ تَعَبُهُمْ؟ نُسِخَ بِالرَّوْحِ وَلَمْ يَضِعْ، تَلَمَّحِ الْعَوَاقِبَ فَلِتَلَمِهَا الْعَقْلُ وُضِعَ، كَأَنَّهُ مَا جَاعَ قَطُّ مَنْ شَبِعَ.

جُزْ عَلَى الشُّونِيزِيَّةِ أَوْ عَلَى قَبْرِ أَحْمَدَ، وَمَيِّزْ مَنْ أَطَاعَ مِمَّنْ أَضَاعَ فَمَنْ أَحْمَدُ؟ قُبُورُ الصَّالِحِينَ تُؤْنِسُ الزَّائِرَ، وَقُبُورُ الظُّلْمَةِ عَلَيْهَا ظلام متوافر، جذ عَلَى قُبُورِ الْعِبَادِ وَنَادِ فِي ذَلِكَ النَّادِ: أَيَّتُهَا الأَوْدِيَةُ وَالْوِهَادُ، مَا فَعَلَتْ تِلْكَ الأَوْرَادُ: (تَعَاهَدَتْكَ الْعِهَادُ يَا طَلَلُ ... خَبِّرْ عَنِ الظَّاعِنِينَ مَا فَعَلُوا) (فَقَالَ لَمْ أَدْرِ غَيْرَ أَنَّهُمُ ... صَاحَ غُرَابُ الْبَيْنِ فَاحْتَمَلُوا) (لا طَابَ لَيْلِي وَلا النَّهَارُ لِمَنْ ... يَسْكُنُنِي أَوْ يَرُدُّهُمْ قَفَلُ) (وَلا تَحَلَّيْتُ بِالرِّيَاضِ وَبِالنُّورِ ... وَمَغْنَايَ مِنْهُمُ عَطَلُ) (خَلِّ هَذَا فَمَا عَلَيْكَ لَهُمْ ... قُلْتُ أَنِينٌ وَأَدْمُعٌ هَطَلُ) (وَأَنَّنِي مُقْفِلُ الضَّمَائِرِ عَنْ ... حُبِّ سِوَاهُمُ مَا حَنَّتِ الإِبِلُ) (فَقَالَ هَلا اتَّبَعْتَهُمْ أَبَدًا ... إِنْ نَزَلُوا مَنْزِلا وَإِنْ رَحَلُوا) سُبْحَانَ مَنْ قَسَمَ الأَقْسَامَ، فَلِقَوْمٍ يَقَظَةٌ وَلِقَوْمٍ مَنَامٌ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلانِ بَلَغَتْ بِهِمَا عِبَادَتُهُمَا أَنْ مَشَيَا عَلَى الْمَاءِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ فِي الْبَحْرِ إِذَا هُمَا بِرَجُلٍ يَمْشِي فِي الْهَوَاءِ فَقَالا لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بِأَيِّ شَيْءٍ أَدْرَكْتَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ؟ فَقَالَ: بِيَسِيرٍ مِنَ الدُّنْيَا: فَطَمْتُ نَفْسِي عَنِ الشَّهَوَاتِ وَكَفَفْتُ لِسَانِي عَمَّا لا يَعْنِينِي، وَرَغِبْتُ فِيمَا دَعَانِي، وَلَزِمْتُ الصَّمْتَ. فَإِنْ أَقْسَمْتُ عَلَى اللَّهِ أَبَرَّ قَسَمِي، وَإِنْ سَأَلْتُهُ أَعْطَانِي. يَا بَعِيدًا عَنِ الصَّالِحِينَ، يَا مَطْرُودًا عَنِ الْمُفْلِحِينَ، لَقَدْ نَصَبَ الشَّيْطَانُ الأَشْرَاكَ وَجَعَلَ حَبَّ الْفَخِّ هَوَاكَ، وَكَمْ رَأَيْتَ مَأْسُورًا وَسْطَ ذَاكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الآنَ إِلاكَ، احْذَرْ فَخَّهُ فَهُوَ بَعِيدُ الْفِكَاكِ، كَمْ يَوْمٍ غَابَتْ شَمْسُهُ وَقَلْبُكَ غَائِبٌ، وَكَمْ ظَلامٍ أَسْبَلَ سِتْرَهُ وَأَنْتَ فِي عَجَائِبَ، كَمْ لَيْلَةٍ بِالْخَطَايَا قَطَعْتَهَا، وَكَمْ مِنْ أَعْمَالٍ قَبِيحَةٍ رَفَعْتَهَا، وَكَمْ مِنْ ذُنُوبٍ جَمَعْتَهَا وَالصُّحُفَ أَوْدَعْتَهَا، كَمْ نَظْرَةٍ مَا تَحِلُّ مَا خِفْتَ وَلا مَنَعْتَهَا، كَمْ مِنْ مَوْعِظَةٍ تَعِيهَا وَكَأَنَّكَ مَا سَمِعْتَهَا، وَكَمْ مِنْ ذُنُوبٍ تَعِيبُ غَيْرَكَ بِهَا أَنْتَ صَنَعْتَهَا، وَكَمْ أَمَرَتْكَ النَّفْسُ بِمَا يُؤْذِي فَأَطَعْتَهَا، يَا مُوَافِقًا لِنَفْسِهِ آذَيْتَهَا، خَالِفْهَا وَقَدْ نَفَعْتَهَا:

(طَوَى نَفْسَهُ عَنْكَ الشَّبَابُ الْمُزَايِلُ ... وَأَسْلَمْتَ لِلشَّيْبِ الَّذِي لا يُزَايِلُ) (نَسِيرُ إِلَى الآجَالِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ) (وَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ ... إِذَا مَا تَخَطَّتْهُ الأَمَانِي بَاطِلُ) (وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا ... فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ فِي الرَّأْسِ شَامِلُ) (تَرَحَّلْ عَنِ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... فَعُمْرُكَ أَيَّامٌ وَهُنَّ قَلائِلُ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصلاة} كَانَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: هَذِهِ آية القراء. ومعنى يتلون: يقرؤون. وَفِي أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ". أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ الْعُقَيْلِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ. فَقِيلَ: مَنْ أَهْلُ اللَّهِ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ ". أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِإِسْنَادِهِمْ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يُعَذِّبُ اللَّهُ قَلْبًا وَعَى الْقُرْآنَ ". أَخْبَرَنَا الْكَرُوخِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنِ الأَلِفُ حَرْفٌ

وَاللامُ حَرْفٌ وَالْمِيمُ حَرْفٌ ". أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آية يقرؤها ". وَاعْلَمْ أَنَّ لِتِلاوَةِ الْقُرْآنِ آدَابًا: مِنْهَا: أَنْ يَقْرَأَ وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ مُتَأَدِّبًا مُطْرِقًا مُرَتِّلا بِتَحْزِينٍ وَبُكَاءٍ مُسِرًّا مُعَظِّمًا لِلْكَلامِ وَالْمُتَكَلَّمِ بِهِ مُحْضِرًا لِقَلْبِهِ، مُتَدَبِّرًا لِمَا يَتْلُوهُ. وَقَدْ كَانَ فِي السَّلَفِ مَنْ يَخْتِمُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْتِمُ فِي الْوِتْرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَخْتِمُ خَتْمَتَيْنِ. وَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْتِمُ فِي رَمَضَانَ سِتِّينَ خَتْمَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتِمُ ثَلاثَ خَتَمَاتٍ، وَهَؤُلاءِ الَّذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمُ انْتِهَابُ الْعُمْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَخْتِمُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ اشْتِغَالا بِنَشْرِ الْعِلْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَخْتِمُ كُلَّ شَهْرٍ إِقْبَالا عَلَى التَّدَبُّرِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ لَيْلَةً بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عبادك} . وَقَامَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ بِآيَةٍ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجترحوا السيئات} . وَكَذَلِكَ قَامَ بِهَا الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِنِّي لأُقِيمُ فِي الآيَةِ أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسَ لَيَالٍ. وَقَدْ بَقِيَ بَعْضُ السَّلَفِ سَنَتَيْنِ فِي خَتْمَةٍ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ: مُسْتَجَابَةٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ: مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ نَهَارًا غُفِرَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَمَنْ خَتَمَهُ لَيْلا غُفِرَ لَهُ تلك الليلة.

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ النَّقُّورِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ حُبَابَةَ، حَدَّثَنَا الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا هُدْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ أَبِي مِسْكِينٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُطَرِّفٍ قَالَ: مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي أَيِّ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ كَانَتْ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ أَوْ أَيِّ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ كَانَتْ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ ". وَرَوَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال: " ما من امرىء يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْسَاهُ إِلا لَقِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ أَجْذَمُ ". وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " اقرؤوا الْقُرْآنَ وَابْتَغُوا بِهِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَهُ مَقَامَ الْقِدْحِ يَتَعَجَّلُونَهُ وَلا يَتَأَجَّلُونَهُ ". قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إِذِ النَّاسُ نَائِمُونَ وَبِنَهَارِهِ إِذِ النَّاسُ مُفْرِطُونَ، وَبِحُزْنِهِ إِذِ النَّاسُ يَفْرَحُونَ، وَبِبُكَائِهِ إِذِ النَّاسُ يَضْحَكُونَ، وَبِصَمْتِهِ إِذِ النَّاسُ يَخُوضُونَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقَادِرِ، أَنْبَأَنَا يُوسُفُ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ: يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ مَاذَا زَرَعَ الْقُرْآنُ فِي قُلُوبِكُمْ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَنَّ الْغَيْثَ رَبِيعُ الأَرْضِ، وَقَدْ يَنْزِلُ الْغَيْثُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فَيُصِيبُ الْحَشَّ فَتَكُونُ فِيهِ الْحَبَّةُ فَلا يَمْنَعُهَا نَتَنُ مَوْضِعِهَا أَنْ تَخْضَرَّ وَتَهْتَزَّ وَتَحْسُنَ، فَيَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ مَاذَا زَرَعَ الْقُرْآنُ فِي قُلُوبِكُمْ؟. قَالَ الْفُضَيْلُ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَامِلُ الْقُرْآنِ حَامِلُ رَايَةِ الإِسْلامِ، لا يَنْبَغِي أَنْ يَلْهُوَ مَعَ مَنْ يَلْهُو وَلا يَسْهُو مَعَ مَنْ يَسُهو، وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ إِلَى أَحَدٍ حَاجَةٌ، " إِلَى الْخُلَفَاءِ إِلَى مَنْ دُونَهُمْ "، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ حَوَائِجُ النَّاسِ إِلَيْهِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ يَا رَبِّ: مَا أَفْضَلُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيْكَ؛ فَقَالَ: بِكَلامِي يَا أَحْمَدُ. فَقُلْتُ: يَا رَبِّ بِفَهْمٍ أَوْ بِغَيْرِ فَهْمٍ؟ فَقَالَ: بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقَامُوا الصلاة} المعنى: ويقيمون الصلاة وهو إِتْمَامُهَا بِحُدُودِهَا وَفِي مَوَاقِيتِهَا. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: رَأَيْتُ بِجَبَلِ اللُّكَامِ شَابًّا مُصْفَرًّا يُصَلِّي الْعِشَاءَ الآخِرَةَ ثُمَّ يَصُفُّ قَدَمَيْهِ فَيَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَبْكِي إِلَى الْفَجْرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية} كَانُوا إِذَا قَدَرُوا عَلَى السِّرِّ لَمْ يُخْرِجُوا الصَّدَقَةَ عَلانِيَةً، لأَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تَزِيدُ عَلَى الْعَلانِيَةِ سَبْعِينَ ضِعْفًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَبَا طلحة قال: أحب أموالي إلي بئرحاء وَهِيَ صَدَقَةٌ للَّهِ تَعَالَى لَوْ قَدَرْتُ أَنْ أُسِرَّهُ لَمْ أُعْلِنْهُ. يَا مُقَصِّرًا فِي أَعْمَالِهِ بَخِيلا بِمَالِهِ، لا تَسْأَلُوا عَنْ حَالِهِ يَوْمَ تِرْحَالِهِ، يَا دَائِمَ الْخُسْرَانِ فَمَا يَرْبَحُ، يَا مُقِيمًا عَلَى الْمَعَاصِي مَا يَبْرَحُ، مَتَى رَأَيْتَ مَنْ فَعَلَ فِعْلَكَ أَفْلَحَ، تَقْبَلُ مِنَ الْعَدُوِّ وَلا تَقْبَلُ مِمَّنْ يَنْصَحُ، قُمْ عَلَى قَدَمِ الطَّلَبِ فَاقْرَعِ الْبَابَ بِالأَدَبِ يُفْتَحْ، صَاحِبْ أَهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ، وَاسْتَفِدْ خِصَالَهُمْ وَخُذْ عَنْهُمْ. قوله تعالى: {يرجون تجارة} أي يرجون بفعلهم تجارة {لن تبور} أَيْ لَنْ تَفْسُدَ وَلَنْ تَكْسُدَ. وَهَذَا جَوَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} . لَمَّا سَمِعُوا مُضَاعَفَةَ الأَجْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سنبلة مائة حبة} . ثُمَّ سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كثيرة} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا يَنْقَضِي عَدَدُهَا.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكْتُبُ لِلْمُؤْمِنِ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفَيْ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَلَمَّا سَمِعُوا لَفْظَ " الْقَرْضُ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ ". بَادَرُوا بِالأَمْوَالِ. أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمدِيرُ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} : قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ يَعْنِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَالَ فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي. قَالَ وَحَائِطُهُ فيه ستمائة نَخْلَةٍ، وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهَا فَجَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَنَادَى: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ. قَالَتْ: لَبَّيْكَ. قَالَ: اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ عَمَدَتْ إِلَى صِبْيَانِهَا تُخْرِجُ مَا فِي أَفْوَاهِهِمْ وَتَنْفُضُ مَا فِي أَكْمَامِهِمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ فِي الْجَنَّةِ لأَبِي الدَّحْدَاحِ ". سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ تِلْكَ النُّفُوسَ وَاخْتَارَهَا، وَصَفَّاهَا بِالتُّقَى وَرَفَعَ أَكْدَارَهَا، وَجَعَلَ حِمَى مَعْرِفَتِهِ وَجَنَّتَهُ دَارَهَا، فَإِذَا مَرَّتْ عَلَى النَّارِ أَطْفَأَ نُورُهَا نَارَهَا، قَوْمٌ تَيَقَّظُوا فِي أُمُورِهِمْ وَعَقِلُوا، وَحَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَضَاعُوا وَلا غَفَلُوا، وَحَارَبُوا جُنُودَ الْهَوَى فَأَسَرُوا وَقَتَلُوا، وَتَدَبَّرُوا مَنَازِلَ الْيَقِينِ مَعَ سَادَةِ الْمُتَّقِينَ وَنَزَلُوا، فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا. إِخْوَانِي: رَحَلَ مَنْ أَصِفُهُ وَبَقِيَ مَنْ لا أَعْرِفُهُ، سَلْ عَنْهُمُ الشُّعْثَ الْغُبُورَ، وَزُرْ إذا اشتقتهم القبور. (لمن الطول كأنهن (م) يجزع ذِي سَلَمٍ سُطُورُ) (تَطْوِي مَعَالِمَهَا الصَّبَا ... طَوْرًا وَتَنْشُرُهَا الدَّبُورُ) (وَكَفَتْ بِهَا مِنْ أَدْمُعِي ... فِي الرَّكْبِ غَادِيَةً دُرُورُ) (وَلَقَلَّ مَا تُجْدِي الدُّمُوعُ ... وَيَنْفَعُ الصَّبَّ الزَّفِيرُ) (أَقْوَتْ مِنَ الْحَيِّ الدِّيَارُ ... فَمَا لَهَا فِي الْعَيْنِ نُورُ)

سجع على قوله تعالى: {يرجون تجارة لن تبور}

سَجْعٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تبور} كَانُوا يَقُومُونَ الدَّيْجُورَ، بِبُكَاءٍ مَطْرُودٍ مَهْجُورٍ، وَرَعْدُ قُلُوبِهِمْ مُقْلِقٌ زَجُورٌ، فَامْتَلأَتْ بِالْخَيْرَاتِ الْحُجُورُ {يَرْجُونَ تجارة لن تبور} . رَفَضُوا الدُّنْيَا شُغُلا عَنِ الزِّينَةِ، وَأَذَلُّوا نُفُوسَهُمْ فعادت مسكينة، وعلموا أن الدنيا سفينة فتهيأوا للعبور {يرجون تجارة لن تبور} . يُؤْثِرُونَ بِالطَّعَامِ وَيُؤْثِرُونَ الصِّيَامَ، وَيَأْمُلُونَ فَضْلَ الإِنْعَامِ، فَمَا كَانَتْ إِلا أَيَّامٌ حَتَّى اخْضَرَّتِ الْبُذُورُ {يرجون تجارة لن تبور} بَعَثُوا الأَمْوَالَ الْحَبِيبَةَ إِلَى بِلادِ الْبَعْثِ الْغَرِيبَةِ، فَإِذَا الأَرْبَاحُ عَنْ قَرِيبٍ قَرِيبَةٌ، وَعَلَى هَذَا التجارة تدور {يرجون تجارة لن تبور} . الْعَلِيلُ عَليِلٌ، وَالأَنِينُ طَوِيلٌ، وَالْعُيُونُ تَسِيلُ، وَمَا مضى إلا القليل حتى فرح الصبور {ترجون تجارة لن تبور} . يَقِفُونَ وُقُوفَ مِسْكِينٍ، وَيَذِلُّونَ ذُلَّ مُسْتَكِينٍ، فَنَالُوا الْمَقَامَ الأَمِينَ، وَانْشَعَبَ قَلْبُ الْحَزِينِ بِأَكْمَلِ الْحُبُورِ {ترجون تجارة لن تبور} سَلِيمُهُمْ كَالسَّلِيمِ، وَحُزْنُهُمْ مُقِيمٌ، يَحْذَرُونَ الْجَحِيمَ وَيَرْجُونَ النعيم في كمال الحبور {ترجون تجارة لن تبور} لَلْقَلْبُ مَعَ الدُّنْيَا نَبَا، كُلَّمَا عَارَضَهُ الْهَوَى نَبَا، يَنْدُبُونَ نَدْبَ الأَسْرَى الْغُرَبَا، وَالزَّفَرَاتُ عَلَى ذُنُوبِ الصِّبَا تَزِيدُ عَلَى الصَّبَا وَالدَّبُورِ {يَرْجُونَ تجارة لن تبور} . يَا مَنْ يَدْفِنُ مَالَهُ تَحْتَ الأَرْضِ وَلا يَفْهَمُ مَعْنَى الْقَرْضِ، سَيَخْرُجُ الْوَارِثُ بِالْفَرْضِ إِلَى الدرهم والدور. {يرجون تجارة لن تبور} . سُبْحَانَ مَنْ قَضَى لِقَوْمٍ سُرُورًا، وَعَلَى آخَرِينَ ثُبُورًا فَمَا لَهُمْ مِنْ نُورٍ {يَرْجُونَ تِجَارَةً لن تبور} . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.............

المجلس السابع في الأخوة والصداقة

الْمَجْلِسُ السَّابِعُ فِي الأُخُوَّةِ وَالصَّدَاقَةِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَطَفَ بِالْبَرَايَا إِذْ بَرَاهُمْ وَبَرَّ، وَرَوَّحَ أَرْوَاحَ أَهْلِ الصَّلاحِ بِرَاحِ الْفَلاحِ وَسَرَّ، وَاطَّلَعَ عَلَى ضَمِيرِ مَنْ نَوَى وَسَرَّ مَنْ أَسَرَّ، وَقَدَّرَ الأَشْيَاءَ فَقَضَى الْخَيْرَ وَقَضَى الشَّرَّ، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَفْقَرَ وَأَغْنَى وَنَفَعَ وَضَرَّ، جَفَّ الْقَلَمُ بِتَقْدِيرِهِ فَمَضَى الأَمْرُ وَاسْتَقَرَّ، بِقُدْرَتِهِ تَقْطَعُ الْمَرَاكِبُ الْبَحْرَ وَالْمَرْكُوبُ الْبَرَّ، لُطْفُهُ عَظِيمٌ وَجُودُهُ عَميِمٌ قَدِ اسْتَمَرَّ " رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّ " سَمِيعٌ يَسْمَعُ الْمُدْنِفَ الْمُضْطَرَّ، بَصِيرٌ يَرَى فِي دُجَى اللَّيْلِ الذَّرَّ، عَلِيمٌ بِانْكِسَارِ مَنْ نَدِمَ وَإِصْرَارِ مَنْ أَصَرَّ، حَلِيمٌ فَإِنْ سَطَا رَأَيْتَ الأَمْرَ الأَمَرَّ، مَا أَلْطَفَهُ بعبده يدعوه لرفع ما عر {فإذا كشفنا عنه ضره مر} . يَمُدُّ رُوَاقَ الظَّلامِ فَإِذَا لاحَ الصَّبَاحُ فَرَّ، وَيُنِيرُ النَّهَارَ فَإِذَا انْقَضَى عَادَ اللَّيْلُ وَكَرَّ، فَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ ". أَحْمَدُهُ عَلَى إِنْعَامٍ كُلَّمَا احْتُلِبَّ دَرَّ، وَأُقِرُّ بِوَحْدَانِيَّتِهِ عَنْ دَلِيلٍ قَدِ اسْتَقَرَّ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الَّذِي عَمَّتْ رِسَالَتُهُ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الْمُنْفِقِ حَتَّى تَخَلَّلَ وَزَرَّ، وَعَلَى عُمَرَ الزَّاهِدِ فَمَا غَرَّهُ مَا غَرَّ، وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي ارْتَفَعَ بِالْكَرَمِ فَبَرَّ وَأَبَرَّ، وَعَلَى عَلِيٍّ الَّذِي مَا أَقْدَمَ قَطُّ فَفَرَّ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ الْمُقَدَّمِ نَسَبًا وَالْفَخْرُ قَدِ اسْتَقَرَّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بنصره وبالمؤمنين} أَيَّدَكَ بِمَعْنَى قَوَّاكَ بِنَصْرِهِ............ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قلوبهم. التَّأْلِيفُ: الْجَمْعُ عَلَى مَا يُشَاكِلُ. وَالْمُرَادُ بِالآيَةِ

الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَهُمُ الأَنْصَارُ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَلَّفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الآيَاتِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي أَنَفَةٍ شَدِيدَةٍ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلا لَطَمَ رَجُلا لقاتلت عنه قبيلته حتى تدراك ثَأْرَهُ، فَآلَ لَهُمُ الإِسْلامُ إِلَى أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وَأَبَاهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ رَوَى أَبُو الأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} قَالَ: هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ تَعَالَى. اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى الْجَامِعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الإِسْلامُ، فَقَدِ اكْتَسَبُوا بِهِ أُخُوَّةً أَصْلِيَّةً، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ حُقُوقٌ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ". وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا " وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ". وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: لِجَارِهِ أَوْ لأَخِيهِ....... وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطِسَ، وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَشْهَدُ جِنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ ".

وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْحُقُوقُ لِلاشْتِرَاكِ فِي الإِسْلامِ فَكُلَّمَا زَادَتِ الْمُخَالَطَةُ وَصَفَا زَادَتِ الْحُقُوقُ، مِثْلُ الْقَرَابَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ وَالضِّيَافَةِ وَالصُّحْبَةِ وَالصَّدَاقَةِ وَالأُخُوَّةِ الْخَاصَّةِ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَأَمَّا حَقُّ الْقَرَابَةِ: فَمَعْلُومٌ: وُجُوبُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَتَقْدِيمُ الأُمِّ فِي الْبِرِّ وَوُجُوبُ صِلَةِ الرَّحِمِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوسِعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ وَيَنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ". وَأَمَّا حَقُّ الْجَارِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ". وَأَمَّا حَقُّ الضَّيْفِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ". وَأَمَّا حَقُّ الصُّحْبَةِ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَخْدِمَهُ فَكَانَ يَخْدِمُنِي أَكْثَرَ....... وَأَمَّا حَقُّ الصَّدَاقَةِ فَإِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى مَا دُونَ الأُخُوَّةِ، فَالأُخُوَّةُ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا، وَإِنَّمَا تَقَعُ الأُخُوَّةُ الصَّادِقَةُ إِذَا حَصَلَ التَّشَاكُلُ بَيْنَ الأَخَوَيْنِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ". قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: الإِخْبَارُ عَنْ مَبْدَإِ كَوْنِ الأَرْوَاحِ وَتَقَدُّمِهَا الأَجْسَادَ، عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الأَرْوَاحَ قَبْلَ الأَجْسَادِ بِكَذَا وَكَذَا، فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا خُلِقَتْ عَلَى ائْتِلافٍ وَاخْتِلافٍ فَتَأْتَلِفُ الأَجْسَادُ فِي الدُّنْيَا وَتَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ مَا وَقَعَ فِي مَبْدَإِ الْخِلْقَةِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأَرْوَاحَ لَيْسَتْ بِأَعْرَاضٍ وَأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الأَجْسَادِ، وَأَنَّهَا تَبْقَى بَعْدَ الأَجْسَادِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ

وَالسَّلامُ: " أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَعَلَّقُ فِي ثَمَرِ الْجَنَّةِ ". وَهَذِهِ الأُخُوَّةُ الْخَاصَّةُ هِيَ الَّتِي عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الأُخُوَّةَ الْعَامَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخوة} وَاقِعَةٌ قَبْلَ عَقْدِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَرَادَ الأَمْرَ الْخَاصَّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ آخَى بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ. وَقَدْ آخَى بَيْنَ خَلْقٍ كَثِيرٍ ذَكَرْتُهُمْ فِي كِتَابِ التَّلْقِيحِ....... وَهَذِهِ الأُخُوَّةُ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهِيَ أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ. كَذَلِكَ رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ ". وَمِنْ جُمْلَةِ ثَوَابِ الْمُتَحَابَّيْنِ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ " فَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ". أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي الْحُبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلِّي ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ. وَبِالإِسْنَادِ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ مَسْجِدَ أَهْلِ دِمَشْقَ فَإِذَا حَلْقَةٌ فِيهَا كُهُولٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا شَابٌّ فِيهِمْ أَكْحَلُ الْعَيْنِ بَرَّاقُ الثَّنَايَا كُلَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إِلَى الْفَتَى، فَقُلْتُ لِجَلِيسٍ لِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هذا معاذ ابن جَبَلٍ فَجِئْتُ مِنَ الْعَشِيِّ فَلَمْ يَحْضُرْ، فَغَدَوْتُ من الغد فلم يجيء، فَخَرَجْتُ فَإِذَا أَنَا بِالشَّابِّ يُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ فَرَكَعْتُ ثُمَّ تَحَوَّلْتُ إِلَيْهِ، قَالَ فَسَلَّمَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: فَمَدَّنِي إِلَيْهِ وَقَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْمُتَحَابُّونَ في الله

عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ "....... قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى لَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَذَكَرْتُ حَدِيثَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: " حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ ". وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَحَابُّونَ مِنْ أَجْلِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَصَافُّونَ مِنْ أَجْلِي ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادًا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَغْبِطُهُمُ الشُّهَدَاءُ. قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ". وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الثَّوَابَ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتْ للَّهِ تَعَالَى خَالِصَةً لا يَشُوبُهَا شَيْءٌ مِنَ الْكَدَرِ، وَمَتَى قَوِيَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْقَلْبِ قَوِيَتْ مَحَبَّةُ أَوْلِيَائِهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مَنْ يُؤَاخِي وَمَنْ يُحِبُّ، وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ إِلا مَنْ قَدْ سَلِمَ عَقْلُهُ وَدِينُهُ. وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: " الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ "....... فَإِذَا أَحَبَّ شَخْصًا فَلْيُعْلِمْهُ: وَرَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُعْلِمْهُ إِيَّاهُ. وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ: لَقَدْ أَحْبَبْتُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَلْفَ أَخٍ كُلُّهُمْ أَعْرِفُ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَقَبِيلَتَهُ وَمَكَانَ دَارِهِ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ: مَا تَحَابَّ رَجُلانِ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا

كَانَ أَفْضَلُهُمَا أَشَدَّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: اصحب من ذا صَحِبْتَهُ زَانَكَ، وَإِنْ خَدَمْتَهُ صَانَكَ، وَإِذَا أَصَابَتْكَ خَصَاصَةٌ مَانَكَ، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ حَسَنَةً سُرَّ بِهَا، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ سَقْطَةً سَتَرَهَا، وَمَنْ إِذَا قُلْتَ صَدَّقَ قَوْلَكَ، وَمَنْ هُوَ فَوْقَكَ فِي الدِّينِ وَدُونَكَ فِي الدُّنْيَا، وَكُلُّ أَخٍ وَجَلِيسٍ وَصَاحِبٍ لا تَسْتَفِيدُ مِنْهُ فِي دِينِكَ خَيْرًا فَانْبُذْ عَنْكَ صُحْبَتَهُ. فَإِذَا صَفَتِ الْمَحَبَّةُ وَخَلَصَتْ وَقَعَ الشَّوْقُ وَالتَّزَاوُرُ وَصَارَ بَذْلُ الْمَالِ أَحْقَرَ الأَشْيَاءِ. فَأَمَّا التَّزَاوُرُ فَقَدْ ذَكَرْنَا فَضِيلَتَهُ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ الأَخَ مِنْ إِخْوَانِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: يَا طُولَهَا مِنْ لَيْلَةٍ! فَإِذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ غَدَا إِلَيْهِ فَاعْتَنَقَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا مَشَى أَحَدُ الْمُتَحَابَّيْنِ إِلَى الآخَرِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَضَحِكَ إِلَيْهِ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ الأَزَجِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمٍ الْعَلافُ [عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ] قَالَ: امْشِ مِيلا صَلِّ جَمَاعَةً، امْشِ مِيلَيْنِ صَلِّ جُمُعَةً، امْشِ ثَلاثَةَ أَمْيَالٍ عُدْ مَرِيضًا،...... امْشِ أَرْبَعَةَ أَمْيَالٍ شَيِّعْ جِنَازَةً، امْشِ خَمْسَةَ أَمْيَالٍ شَيِّعْ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، امْشِ سِتَّةَ أَمْيَالٍ شَيِّعْ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، امْشِ سَبْعَةَ أَمْيَالٍ بِصَدَقَةٍ مِنْ رَجُلٍ إِلَى رَجُلٍ، امْشِ ثَمَانِيَةَ أَمْيَالٍ أَصْلِحْ بَيْنَ النَّاسِ، امْشِ تِسْعَةَ أَمْيَالٍ صِلْ رَحِمًا وَقَرَابَةً، امْشِ عَشَرَةَ أَمْيَالٍ فِي حَاجَةِ عِيَالِكَ، امْشِ أَحَدَ عَشَرَ مِيلا فِي مُعَاوَنَةِ أَخِيكَ، امْشِ بَرِيدًا وَالْبَرِيدُ اثْنَا عَشَرَ مِيلا - زُرْ أَخًا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ! وَأَمَّا بَذْلُ الْمَالِ فَلَهُ ثَلاثُ مَرَاتِبَ: أَهْوَنُهَا: الْمُسَاهَمَةُ فِي الْمَالِ، وَأَوْسَطُهَا الْمُوَاسَاةُ، وَأَعْلاهَا تَقْدِيمُ الأَخِ فِي الْمَالِ عَلَى النَّفْسِ. وَقَدْ رُوِّينَا آنِفًا: " حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ ".

الكلام على البسملة)

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا أَحَدُنَا بِأَحَقَّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كُنَّا نَعُدُّ الْبَخِيلَ الَّذِي يُقْرِضُ أَخَاهُ! وَقَالَ: لَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ يَرْبَحَ الرَّجُلُ على صديقه. وقال أبو جعفرالباقر لأَصْحَابِهِ: هَلْ يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ يَدَهُ فِي كُمِّ صَاحِبِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا يُرِيدُ؟ قَالُوا: لا. قَالَ: فَلَسْتُمْ بِإِخْوَانٍ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَلَطَّفُ فِي إِيصَالِ الْبُرِّ إِلَى إِخْوَانِهِ فَيَأْتِي بِالصُّرَّةِ فيها الأربعمائة والخمسمائة فَيُودِعُهَا أَحَدَهُمْ ثُمَّ يَلْقَاهُ بَعْدُ فَيَقُولُ: انْتَفِعُوا بِهَا فَهِيَ لَكُمْ. وَعَلَى هَذَا لا يَنْبَغِي لِلأَخٍ أَنْ يُجْحِفَ بِأَخِيهِ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْهُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لا كُلْفَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ زَمَنَ الْهِجْرَةِ: قَدْ عَلَفْتُ نَاقَتَيْنِ فَخُذْ إِحْدَاهُمَا فَقَالَ: بِالثَّمَنِ. هَيْهَاتَ! رَحَلَ الإِخْوَانُ وَأَقَامَ الْخَوَّانُ، وَقَلَّ أَنْ تَرَى فِي الزَّمَانِ إِلا مَنْ إِذَا دُعِيَ مَانَ....... ( الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ) (أَجِدُ الدِّيَارَ كَمَا عَهِدْتُ وَإِنَّمَا ... شَكْوَايَ أَنِّي أَفْقِدُ الْجِيرَانَا) (يَا وَحْدَتِي مَا أَكْثَرَ الإِخْوَانَ لِي ... نَظَرًا وَأَكْثَرَ فِيهِمُ الْخَوَّانَا!) (فِي كُلِّ مَطْرَحِ نَظْرَةٍ حَوْلِي أَخٌ ... صِنْوٌ إِذَا هَزَّ الْغِنَى الأَفْنَانَا) (رَاعٍ مَعِي أَبَدًا فَإِنْ هِيَ أَعْجَفَتْ ... إِبِلِي تَقَلَّبَ أَوْ يَعُدْنَ سِمَانَا) (أَشْرِيهِ مِنْ خَفْضِ الْمَعِيشَةِ غَالِيًا ... وَيَبِيعُنِي فِي ضَنْكِهَا مَجَّانَا) (أَلْقَاهُمْ عَدَدَ الْكَوَاكِبِ كَثْرَةً ... حَوْلِي وَأَلْقَى وَحْدِي الْحَدَثَانَا) إِخْوَانِي: إِنَّ الْبُخْلَ وَالْجَهْلَ لِلْقُلُوبِ قَدْ خَالَطَ، فَمَا يَعْرِفُ مَنْ يُخَالِطُ. كَانَ السَّلَفُ يَتَعَاشَرُونَ بِنَزْعِ الْغِلِّ عَلَى مُنَاصَحَةِ النُّفُوسِ، فَصَارَتْ عِشْرَةُ

الْعَشِيرَةِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْهَوَى بِدَخَنِ الضَّمِيرِ، كَانُوا يَمِيلُونَ عَلَى الدُّنْيَا بِالذَّمِّ فَصَارَ الْمَيْلُ إِلَيْهَا بِالْقَلْبِ، تَمَالَئُوا عَلَى حُبِّهَا وَمَالُوا، فَإِذَا فَرَّتْ عَنْ صَدِيقِهِمْ أَعْرَضُوا وَمَالُوا، فَافْتَحْ بَصَرَ الْبَصِيرَةِ فَعَلَى هَذَا تَرَاهُمْ، ثُمَّ الْتَفِتْ عَنْهُمْ وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُمْ: (اسْمَعِي مِنِّي أَبُثَّكِ شَانِي ... إِنَّمَا يُبْدِي ضَمِيرِي لِسَانِي) (كَمْ أَخٍ لِي كَانَ مِنِّي فَلَمَّا ... أَنْ رَأَى الدَّهْرَ جَفَانِي قَدْ جَفَانِي) (لَمْ يُرِعْنِي غَيْرَ خِلٍّ غَادِرٍ ... مُوتِرٍ نَحْرِي لِقَوْسِ الزَّمَانِ) (مُسْتَعِدٍّ لِي بِسَهْمٍ عِنْدَمَا ... أَنْ رَأَى الدَّهْرَ رَمَانِي قَدْ رَمَانِي) كَانَ الأَخُ فِي اللَّهِ يَخْلُفُ أَخَاهُ فِي أَهْلِهِ إِذَا مَاتَ أَرْبَعِينَ سَنَةً! وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ شَيْنَ أَخِيهِ طَلَبَ حَاجَتَهُ مِنْ غَيْرِهِ. خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سَفَرٍ وَمَعَهُ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَدَخَلُوا مَسْجِدًا فِي بَعْضِ الْمَفَاوِزِ وَالْبَرْدُ شَدِيدٌ وَلَيْسَ لِلْمَسْجِدِ بَابٌ، فَلَمَّا نَامُوا قَامَ إِبْرَاهِيمُ فَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ إِلَى...... الصَّبَاحِ، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ تَنَمْ؟ فَقَالَ: خَشِيتُ أَنْ يُصِيبَكُمُ الْبَرْدُ فَقُمْتُ مَقَامَ الْبَابِ! وَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى بَيْتِ صَدِيقٍ لَهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: علي أربعمائة دِرْهَمٍ فَدَخَلَ الدَّارَ فَوَزَنَهَا ثُمَّ خَرَجَ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى الدَّارِ بَاكِيًا فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ: هَلا تَعَلَّلْتَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ إِعْطَاؤُهُ يَشُقُّ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَبْكِي لأَنِّي لَمْ أَفْتَقِدْ حَالَهُ فَاحْتَاجَ أَنْ يَقُولَ لِي ذَلِكَ! (هَلْ تُحِسَّانِ لِي رَفِيقًا رَفِيقًا ... أَوْ تُصِيبَانِ لِي صَدِيقًا صَدُوقَا) (قَدْ فَشَا الْغَدْرُ وَالْخِيَانَةُ فِي النَّاسِ ... فَمَا إِنْ رَأَى رَفِيقًا شَفِيقَا) أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ بِسَنَدِهِ عَنْ رَبَاحِ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: جَاءَ فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ إِلَى مَنْزِلِ صَدِيقٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ عِيسَى التَّمَّارُ فلم يجده في المنزل، فقال للخادمة: أَخْرِجِي لِي كِيسُ أَخِي. فَأَخْرَجَتْهُ فَفَتَحَهُ فَأَخَذَ منه درهمين. وجاء عيسى فأخبرته الخادمة فَقَالَ: إِنْ كُنْتِ صَادِقَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ. فَنَظَرَ فَإِذَا هِيَ صَادِقَةٌ. فَعَتَقَتْ!

أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: كَانَ لِي أَخٌ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: أَعْطِنِي دَرَاهِمَ. فَقَالَ: كَمْ تُرِيدُ؟ فَسَقَطَ مِنْ عَيْنِي وَخَرَجَتْ أُخُوَّتُهُ مِنْ قَلْبِي بِقَوْلِهِ: كَمْ تُرِيدُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا عَلَتْ مَرْتَبَةُ الأُخُوَّةِ وَقَعَ فِدَاءُ الأَخِ بِالنَّفْسِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْقُرْطُبِيَّ وَأَبَا عَمْرٍو الآدَمِيَّ يَقُولانِ وَكَانَا يَتَآخَيَانِ فِي اللَّهِ تَعَالَى: خَرَجْنَا مِنْ بَغْدَادَ نُرِيدُ الْكُوفَةَ، فَلَمَّا سِرْنَا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ إِذَا نَحْنُ بِسَبُعَيْنِ رَابِضَيْنِ عَلَى الطَّرِيقِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لأَبِي عَمْرٍو: أَنَا أَكْبَرُ مِنْكَ سِنًّا فَدَعْنِي أَتَقَدَّمُكَ فَإِنْ كَانَ حَادِثَةٌ اشْتَغَلا بِي...... عَنْكَ وَجُزْتَ أَنْتَ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو نَفْسِي مَا تُسَامِحُنِي بِهَذَا، وَلَكِنْ نَكُونُ جَمِيعًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةٌ كُنَّا جَمِيعًا. فَجَازَا جَمِيعًا بَيْنَ السَّبُعَيْنِ فَلَمْ يَتَحَرَّكَا وَمَرَّا سَالِمَيْنِ. وَرَكِبَ أَخَوَانِ فِي اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَحْرِ فَكُسِرَ بِهِمَا الْمَرْكَبُ فَجَعَلا يَسْبَحَانِ وَيَتَعَلَّقُ أَحَدُهُمَا بِالآخَرِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: إِنْ تَعَلَّقْتَ بِي هَلَكْنَا جَمِيعًا فَدَعْنِي فَرُبَّمَا سَلِمَ أَحَدُنَا فَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنِّي أَنَا أَنْتَ فَإِذَا وَقَعَ الْفِرَاقُ فَنَعَمْ. فَتَنَحَّى عَنْهُ، فَقُدِّرَتْ لَهُمَا السَّلامَةُ فَلَمْ يَصْحَبْهُ ذَلِكَ بَاقِيَ عُمْرِهِ. إِخْوَانِي: نُسِخَ فِي هَذَا الزَّمَانِ رَسْمُ الأُخُوَّةِ وَحُكْمُهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلا الْحَدِيثُ عَنِ الْقُدَمَاءِ، فَإِنْ سَمِعْتَ بِإِخْوَانٍ صِدْقٍ فَلا تُصَدِّقْ. (مَا هَذِهِ الأَلِفُ الَّتِي قَدْ زِدْتُمْ ... فَدَعَوْتُمُ الْخُوَّانَ بِالإِخْوَانِ) (مَا صَحَّ لِي أَحَدٌ أُصَيِّرُهُ أَخًا ... فِي اللَّهِ حَقًّا، لا وَلا الشَّيْطَانِ) (إِمَّا مُوَلٍّ عَنْ وِدَادِي مَا لَهُ ... وَجْهٌ وَإِمَّا مَنْ لَهُ وَجْهَانِ)

الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قياما وقعودا وعلى جنوبهم} فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الذِّكْرِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الذِّكْرُ فِي الصَّلاةِ، يُصَلِّي الإِنْسَانُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ. هَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذِكْرٌ فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الْخَوْفُ. فَالْمَعْنَى يَخَافُونَ اللَّهَ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِمْ....... أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ جَاءَنِي يَمْشِي جِئْتُهُ هَرْوَلَةً ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ قَالَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكَرَاتِ ". وَفِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا حَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ". وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ لا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلا وَجْهَ اللَّهِ إِلا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ قَدْ بَدَّلْتُ سَيِّئَاتِكُمْ حَسَنَاتٍ.

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ للَّهِ تَعَالَى مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَهُو أَعْلَمُ بِهِمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَذْكُرُونَكَ وَيُسَبِّحُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ...... يَا رَبِّ مَا رَأَوْكَ. قَالَ: فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْكَ لَكَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَأَكْثَرَ تَسْبِيحًا. قَالَ: فَيَقُولُ: وَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ قَالَ: فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً فَيَقُولُ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ! قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ قَالَ: يَقُولُ: فَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ مَا رَأَوْهَا. قَالَ يَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ ". وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ ذَكَرَنِي يَوْمًا أَوْ خَافَنِي فِي مَقَامٍ ". وَفِي حَدِيثِهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " مَجَالِسُ الذِّكْرِ ". وَكَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يَقُولُ: إِلَهِي إِذَا مَرَرْتُ عَلَى مَلإٍ يَذْكُرُونَكَ فَجَاوَزْتُهُمْ فَاكْسِرِ الرِّجْلَ الَّتِي تَلِيهِمْ.......

وَاعْلَمْ أَنَّ الذَّاكِرِينَ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ. فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَيُقَدِّمُهُ عَلَى كُلِّ ذِكْرٍ. وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَخْتِمُ كُلَّ يَوْمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتِمُ خَتْمَتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَكْثَرُ ذِكْرِهِ التَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ: " لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلُ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ قَالَ فِي يَوْمِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ ". وَقَالَ سَعِيدُ بن عبد العزيز قلت لعمر بن هانىء: أَرَى لِسَانَكَ لا يَفْتُرُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَمْ تُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَ: مائة ألف إلا أن تخطىء الأَصَابِعُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ الْبُنَانِيُّ: ذَهَبْتُ أُلَقِّنُ أَبِي وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ خَلِّ عَنِّي فَإِنِّي فِي وِرْدِي السَّادِسِ أَوِ السَّابِعِ! (ذِكْرُكَ لِي مُؤْنِسٌ يُعَارِضُنِي ... يَعِدُنِي عَنْكَ مِنْكَ بِالظَّفْرِ) (وَكَيْفَ أَنْسَاكَ يَا مَدَى هِمَمِي ... وَأَنْتَ مِنِّي بِمَوْضِعِ النَّظَرِ) وَمِنَ الذَّاكِرِينَ مَنْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ حُبُّ الْمَذْكُورِ فَلا يَزَالُ فِي الذِّكْرِ وَالتَّعَبُّدِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ حَبِيبٍ بِسَنَدِهِ قَالَ: سَمِعْتُ فَاطِمَةَ أُخْتَ أَبِي عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيِّ تَقُولُ:...... سَمِعْتُ أَخِي يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَعْبَدَ للَّهِ مِنْ سري

السَّقَطِيٍّ، أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانٍ وَسَبْعُونَ سَنَةً مَا رُئِيَ مُضْطَجِعًا إِلا فِي عِلَّةِ الْمَوْتِ. وَمِنَ الذَّاكِرِينَ مَنْ صَارَ الذِّكْرُ لَهُ إِلْفًا لا عَنْ كُلْفَةٍ، فَمَا لَهُ هَمٌّ غَيْرُهُ، فَهُوَ يذكر أبدا على جهة الحضور. وقال مجمش الْجَلابُ: صَحِبْتُ أَبَا حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيَّ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً فَمَا رَأَيْتُهُ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى حَدِّ الْغَفْلَةِ وَالانْبِسَاطِ، مَا كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ إِلا عَلَى سَبِيلِ الْحُضُورِ وَالْحُرْمَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى تَغَيَّرَ عَلَيْهِ حَالُهُ حَتَّى كَانَ يَرَى ذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَهُ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: صَحِبْتُ فِي طَرِيقِي رَجُلا أَسْوَدَ فَكَانَ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى ابْيَضَّ! (وشغلت عني فهم الحديث سوى ... ما كان منك وعندكم شغلي) (وأديم نحو محدثي نظري ... أن قد فهت وَعِنْدَكُمْ عَقْلِي) أَيْنَ أَهْلُ الأَذْكَارِ، أَيْنَ قُوَّامُ الأَسْحَارِ، أَيْنَ صُوَّامُ النَّهَارِ، خَلَتْ وَاللَّهِ مِنْهُمُ الدِّيَارُ، وَامْتَلأَتْ بِهِمُ الْقِفَارُ فَصِلْ إِلَيْهِمْ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ فَهُمُ الأَحْرَارُ. (سَلامٌ عَلَى أَهْلِ الْحِمَى عَدَدَ الرَّمْلِ ... وَقُلْ لَهُ التَّسْلِيمُ مِنْ تَائِقٍ مِثْلِي) (وَقَفْتُ وُقُوفَ الْغَيْثِ بَيْنَ طُلُولِهِ ... بِمُنْسَكِبٍ سَحَّ وَمُنْهَمِلٍ وَبِلِ) (وَمَا رُمْتُ حَتَّى خَالَنِي الرِّيمُ رِمَّةً ... وَأَذْرَفَ أَطْيَارُ الْحِمَى الدَّمْعَ مِنْ أجلي) (خليلي قد غدبتماني مَلامَةً ... كَأَنْ لَمْ يَطُفْ فِي دِمْنَةٍ أَحَدٌ قَبْلِي) ...... (فَلا بَرِحَتْ عَيْنِي تَنُوبُ عَنِ الْحَيَا ... بِدَمْعٍ عَلَى تِلْكَ الْمَنَاهِلِ مُنْهَلِ) (لَيَالِي لا رَوْضَ الْكَثِيبِ بِلا نَدَى ... وَلا شَجَرَاتِ الأَبْرَقَيْنِ بلا طل)

السجع عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وقعودا وعلى جنوبهم} . سُبْحَانَ مَنْ قَضَى عَلَى الْغَافِلِينَ كَسَلا وَقُعُودًا، وَرَفَعَ الْمُتَّقِينَ عُلُوًّا وَصُعُودًا وَمَنَحَهُمْ مِنْ إِنْعَامِهِ فَوْزًا وَسُعُودًا بِمَطْلُوبِهِمْ {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وعلى جنوبهم} . أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فَأَعْطَاهُمْ، وَاسْتَخْلَصَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَقَلِيلٌ مَا هم، اشْتَغَلَ النَّاسُ بِدُنْيَاهُمْ وَاشْتَغَلُوا بِذِكْرِ مَحْبُوبِهِمْ {يَذْكُرُونَ الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} . قَنَعُوا بِأَدْوَنِ الْمَطْعَمِ وَاللِّبَاسِ، وَأَلْقَوْا نُفُوسَهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ كَالأَحْلاسِ، يَمْشُونَ بِالسَّكِينَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَا دَرَوْا بِهِمْ فِي دُرُوبِهِمْ {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وقعودا وعلى جنوبهم} . اكْتَفَوْا مِنَ اللَّيْلِ بِيَسِيرِ النَّوْمِ، وَاشْتَغَلُوا بِالصَّلاةِ وَبِالصَّوْمِ، وَكَانَتْ وَاللَّهِ هِمَمُ الْقَوْمِ فِي صَلاحِ قُلُوبِهِمْ {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} . تَنَاوَلُوا لُقَمَ التَّرْتِيلِ وَقَالُوا: هَذِهِ لِلْجُوعِ تُزِيلُ، فَهُمْ يَقْنَعُونَ بِالْقَلِيلِ فِي مَطْعُومِهِمْ وَمَشْرُوبِهِمْ {يَذْكُرُونَ الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} . قَامُوا قِيَامَ الْمُسْتَعِدِّ، وَوَرَدُوا بَحْرَ الْجُودِ الْعِدِّ، وَتَسَلَّحُوا سِلاحَ الْعَزْمِ وَالْجِدِّ فِي جَمِيعِ حُرُوبِهِمْ {يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} . لَبِسُوا ثِيَابَ السَّفَرِ، وَرَحَلُوا عَلَى أَكْوَارِ السَّهَرِ، فَلَوْ سَمِعْتَ وَقْتَ السَّحَرِ تَرَنُّمَ طُرُوبِهِمْ {يَذْكُرُونَ الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} ....... تناولوا كؤوس الدَّمْعِ يَتَجَرَّعُونَ، فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ فِي طَرِيقِ الْخُضُوعِ يَتَضَرَّعُونَ وَالْقَوْمُ يَقْلَقُونَ وَيَضَّرَّعُونَ فِي سَتْرِ عُيُوبِهِمْ {يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} .

يَسْتَغِيثُونَ إِلَى الْحَقِّ وَيَشْكُونَ، وَالْيَتَامَى فِي الذُّلِّ يَحُكُّونَ، وَجُمْلَةُ الأَمْرِ أَنَّهُمْ يَبْكُونَ عَلَى قُبْحِ مَكْتُوبِهِمْ {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} . يَعْتَذِرُونَ مِنْ زَلَلِ الْقَدَمِ، وَيَتَمَنَّوْنَ بَعْدَ الْوُجُودِ الْعَدَم، وَقَدْ بَعَثُوا رِسَالَةَ النَّدَمِ مَعَ مَنْدُوبِهِمْ {يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} . قَلَّبَتْهُمُ الأَشْجَانُ، وَغَيَّرَتْهُمُ الأَحْزَانُ، يَنْزَعِجُونَ لِمَا قَدْ كَانَ مِنْ سَالِفِ ذُنُوبِهِمْ {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وقعودا وعلى جنوبهم} . أَمَّا اللَّيْلُ فَسَهَارَى، وَأَمَّا النَّهَارُ فَأُسَارَى، وَكَأَنَّهُمْ بِالْمَحَبَّةِ سُكَارَى فِي شُرُوقِهِمْ وَغُرُوبِهِمْ {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قياما وقعودا وعلى جنوبهم} . لَوْ أَصْغَيْتَ فِي الدُّجَى وَاسْتَمَعْتَ، وَأَحْضَرْتَ قَلْبَكَ عِنْدَهُمْ وَجَمَّمْتَ، وَهَيْهَاتَ لَيْتَكَ اطَّلَعْتَ عَلَى بَعْضِ كُرُوبِهِمْ {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} . كَانَتْ رَقْدَةٌ ثُمَّ بَقِيَتِ النِّيَاحَةُ، فَانْتَقَلُوا مِنْ حَضْرَةِ الْحَظَرِ إِلَى الإِبَاحَةِ، وَاسْتَبْدَلُوا بِالرِّيَاضَةِ الرَّاحَةَ، فَلَمْ يَبْقَ أَثَرٌ لِجُدُوبِهِمْ {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وقعودا وعلى جنوبهم} .......

المجلس الثامن في ذكر العزلة

المجلس الثامن في ذِكْرُ الْعُزْلَةِ الْحَمْدُ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَدِيمِ الْجَبَّارِ، الْقَادِرِ الْعَظِيمِ الْقَهَّارِ، وَالْمُتَعَالِي عَنْ دَرَكِ الْخَوَاطِرِ وَالأَفْكَارِ، الْمُنْفَرِدِ بِالْعِزِّ وَالْقَهْرِ وَالاقْتِدَارِ، الَّذِي وَسَمَ كُلَّ مَخْلُوقٍ بِسِمَةِ الافْتِقَارِ، فَأَظْهَرَ آثَارَ قُدْرَتِهِ بِتَصَرُّفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، سَمِيعٌ يَسْمَعُ لا كَالأَسْمَاعِ، بَصِيرٌ يُبْصِرُ لا كَالأَبْصَارِ، قَادِرٌ مُرِيدٌ حَكِيمٌ عَلِيمٌ بِالأَسْرَارِ، يُبْصِرُ دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ عَلَى الْقَارِ، وَيَسْمَعُ أَنِينَ الْمُدْنِفِ يَشْكُو مَا بِهِ مِنْ أَضْرَارٍ، كَلَّمَ مُوسَى كِفَاحًا لَمَّا قَضَى الأَجَلَ وَسَارَ، وَرَآهُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالأَخْبَارُ، وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ إِذَا نَزَلُوا دَارَ القرار، صفاته كذاته والمشبهة كفار، نقر وغر وَأَرْبَابُ الْبَحْثِ فِي خَسَارٍ، هَذَا سَيْفُ السُّنَّةِ فَتَنَاوَلْهُ بِالْيَمِينِ لا بِالْيَسَارِ، وَاضْرِبْ بِهِ كَفَّ " كَيْفَ " وَرَأْسَ " لَمْ " وَعُنُقَ " ثُمَّ " وَخُذْ لِلتَّنْزِيهِ من التشبيه بالثار {أمن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جرف هار} . أَحْمَدُهُ فِي الإِعْلانِ وَالإِسْرَارِ، وَأَشْهَدُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ بِأَصَحِّ إِقْرَارٍ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الأَنْبِيَاءِ الأَطْهَارِ، وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ رَفِيقِهِ فِي الدَّارِ وَالْغَارِ، وَعَلَى عُمَرَ قَامِعِ الْكُفَّارِ، وَعَلَى عُثْمَانَ شَهِيدِ الدَّارِ، وَعَلَى عَلِيٍّ قَسِيمِ النَّارِ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ آخِذِ الْبَيْعَةِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ عَلَى الأَنْصَارِ....... أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: رَجُلٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ من

الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَزَّارُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا رِزْقُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنْ خَيْرِ مَعَايِشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ قَرْعَةً طَارَ عَلَى مَتْنِ فَرَسِهِ يَلْتَمِسُ الْمَوْتَ وَالْقَتْلَ مَكَانَهُ، وَرَجُلٌ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنَ الشِّعَافِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلا فِي سَبِيلِ خَيْرٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْهَيْعَةُ: الصَّوْتُ. قَالَ الطِّرِمَّاحُ: (أَنَا ابْنُ حُمَاةِ الْمَجْدِ مِنْ آلِ مَالِكٍ ... إِذَا جَعَلَتْ خُورُ الرِّجَالِ تَهِيعُ) وَالْخُورُ جَمْعُ خَوَّارٍ وَهُوَ الضَّعِيفُ. والشعفة واحدة الشعاف وهي رؤوس الْجِبَالِ، وَهِيَ الشَّمَارِيخُ وَالشَّنَاخِيبُ وَاحِدُهَا شُنْخُوبَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: " امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ "....... قَالَ الشَّيْخُ: وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْعُزْلَةِ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُؤْثِرُونَهَا وَيَمْدَحُونَهَا فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: خُذُوا بِحَظِّكُمْ مِنَ الْعُزْلَةِ وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ بَابًا مِنْ حَدِيدٍ لا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ وَلا أُكَلِّمُهُ حَتَّى أَلْحَقَ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لأَصْحَابِهِ: كُونُوا يَنَابِيعَ الْعِلْمِ مَصَابِيحَ اللَّيْلِ أَحْلاسَ الْبُيُوتِ، جُدُدَ الْقُلُوبِ خُلْقَانَ الثِّيَابِ، تُعْرَفُونَ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَتَخْفُونَ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ.

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: نِعْمَ صَوْمَعَةُ الرَّجُلِ بَيْتُهُ يَكُفُّ فِيهَا بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَالسُّوقَ فَإِنَّهَا تُلْهِي وَتُلْغِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْلا مَخَافَةُ الْوَسْوَاسِ لَرَحَلْتُ إِلَى بِلادٍ لا أَنِيسَ بِهَا، وَهَلْ يُفْسِدُ النَّاسَ إِلا النَّاسُ! كَانَ أَبُو جَهْمٍ الأَنْصَارِيُّ بَدْرِيًّا وَكَانَ لا يُجَالِسُ النَّاسَ وَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي بَيْتِهِ، فَقَالُوا لَهُ: لَوْ جَالَسْتَ النَّاسَ وَجَالَسُوكَ؟ فَقَالَ: وَجَدْتُ مُقَارَبَةَ النَّاسِ شَرًّا. وَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي إِنْسَانًا يَكُونُ فِي مَالِي ثُمَّ أُغْلِقُ عَلَيَّ بَابًا فَلا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَحَدٌ حَتَّى أَلْحَقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: صَوَامِعُ الْمُؤْمِنِينَ بُيُوتُهُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ: الْعُزْلَةُ عِبَادَةٌ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يُطِيلُ الصَّمْتَ وَيَهْرُبُ مِنَ النَّاسِ فَاقْرُبُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلَقَّى الْحِكْمَةَ....... وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي دَهْرَشٍ إِذَا رَأَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بَثُّهُ وَقَالَ: الآنَ أَصِيرُ مَعَ النَّاسِ فَلا أَدْرِي مَا أَجْنِي عَلَى نَفْسِي! وَقَالَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ: فِرَّ مِنَ النَّاسِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ. وَأَوْصَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لا تُخَالِطَ فِي زَمَانِكَ هَذَا أَحَدًا فَافْعَلْ، وَلْيَكُنْ هَمُّكَ مَرَمَّةَ جَهَازِكَ. وَكَانَ يَقُولُ: هَذَا زَمَانُ السُّكُوتِ وَلُزُومِ الْبُيُوتِ. وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْفُضَيْلِ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكَ إِلَيَّ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُكَ وَحْدَكَ. فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تَقُومَ عَنِّي وَإِمَّا أَنْ أَقُومَ عَنْكَ. فَقَالَ: أَنَا أَقُومُ أَوْصِنِي. فَقَالَ: أَخِفَّ مَكَانَكَ وَاحْفَظْ لِسَانَكَ.

وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ فَقَالَ: جِئْتُ أُونِسُكَ. فَقَالَ: أَنَا أُعَالِجُ الْوَحْدَةَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً! وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَ النَّاسُ الَّذِينَ مَضَوْا يُحِبُّونَ الْعُزْلَةَ وَالانْفِرَادَ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي: مَنْ عَامَلَ اللَّهَ بِالصِّدْقِ اسْتَوْحَشَ مِنَ النَّاسِ. وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُحِبُّ الْعُزْلَةَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ وَسُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ وَحُذَيْفَةُ الْمَرْعَشِيُّ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُزْلَةَ لا يَنْبَغِي أَنْ تَقْطَعَ عَنِ الْعِلْمِ وَالْجَمَاعَاتِ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالاحْتِرَافِ لِلْعَائِلَةِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَزِلَ الإِنْسَانُ مَا يُؤْذِي، وَقَدْ يُخَافُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ الْمُبَاحَةِ أَذًى فَيَجْتَهِدُ الإِنْسَانُ فِي تَرْكِ مَا يَخَافُ عَوَاقِبَهُ....... وَيُبْعِدُ حُضُورَ الْقَلْبِ مَعَ الْمُخَالَطَةِ لِلنَّاسِ، إِلا أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى. وَقَدْ قَالَ شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ: النَّاسُ ثَلاثَةٌ: رَجُلٌ تُعَلِّمُهُ فَيَقْبَلُ مِنْكَ، وَرَجُلٌ تَتَعَلَّمُ مِنْهُ، وَاهْرُبْ مِنَ الثَّالِثِ. وَقَدْ كَانَ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: أَقِلَّ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: لا تَتَعَرَّفْ إِلَى مَنْ لا تَعْرِفُ وَأَنْكِرْ مَنْ تَعْرِفُ! (إِنِّي نَظَرْتُ إِلَى الزَّمَانِ ... وَأَهْلَهُ نَظَرًا كَفَانِي) (فَعَرَفْتُهُ وَعَرَفْتُهُمْ ... وَعَرَفْتُ عِزِّي مِنْ هَوَانِي) (فَحَمَلْتُ نَفْسِي بِالْقَنَاعَةِ ... عَنْهُمُ وَعَنِ الزَّمَانِ) (وَتَرَكْتُهَا بِعَفَافِهَا ... وَالزُّهْدُ فِي أَعْلَى مَكَانٍ) (فَلِذَاكَ أَجْتَنِبُ الصَّدِيقَ ... فَلا أَرَاهُ وَلا يَرَانِي) (فَتَعَجَّبُوا لِمُغَالِتٍ ... وُهِبَ الأَقَاصِيَ وَالأَدَانِي) (وَانْسَلَّ مِنْ بَيْنِ الزِّحَامِ ... فَمَا لَهُ فِي الخلق ثاني)

وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا: أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: عَالِمٌ وَعَابِدٌ. فَالْعَالِمُ لا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ نَفْعِ النَّاسِ فَإِنَّهُ خَلَفُ الأَنْبِيَاءِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ هِدَايَةَ الْخَلْقِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ عِبَادَةٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال لعلي عليه السلام: " وَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ". فَمَتَى مَا جَاءَ الشَّيْطَانُ فَحَسَنٌ لِلْعَالِمِ الانْقِطَاعُ عَنِ الْخَلْقِ فِي الْجُمْلَةِ فَذَاكَ خَدِيعَةٌ مِنْهُ، وَلَقَدْ حَسُنَ لِكَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ...... دَفْنُ كُتُبِهِمْ وَمَحْوُ عِلْمِهِمْ وَهَذَا مِنَ الْخَطَإِ الْعَجِيبِ، بَلْ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَعْتَزِلَ عَنْ شَرِّ مَنْ يُؤْذِي وَيُبْرِزُ لِمَنْ يَسْتَفِيدُ، فَظُهُورُهُ أَفْضَلُ مِنْ إِخْفَائِهِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَابِدًا فَالْعَابِدُ لا يُنَافَسُ فِي هَذَا، فَإِنَّ مِنَ الْقَوْمِ مَنْ شَغَلَتْهُ الْعِبَادَةُ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ رَأَى رَجُلا مُتَعَبِّدًا فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا يَمْنَعُكَ مِنْ مُجَالَسَةِ النَّاسِ؟ قَالَ: مَا أَشْغَلَنِي عَنِ النَّاسِ. قَالَ: فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَ الْحَسَنَ؟ فَقَالَ: مَا أَشْغَلَنِي عَنِ الْحَسَنِ. قَالَ: فَمَا الَّذِي شَغَلَكَ عَنِ الْحَسَنِ؟ قَالَ: إِنِّي أُمْسِي وَأُصْبِحُ بَيْنَ ذَنْبٍ وَنِعْمَةٍ، فَرَأَيْتُ أَنْ أَشْغِلَ نَفْسِي بِالاسْتِغْفَارِ لِلذَّنْبِ وَالشُّكْرِ للَّهِ تَعَالَى عَلَى النِّعْمَةِ. فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ عِنْدِي أَفْقَهُ مِنَ الْحَسَنِ! وَقَالَ رَجُلٌ لِعَامِرِ بْنِ قَيْسٍ: قِفْ فَكَلِّمْنِي. فَقَالَ: أُمْسِكُ الشَّمْسَ! وَمِنَ الْقَوْمِ مَنِ اسْتَغَرَقَتْهُ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالأُنْسُ بِهِ فَاسْتَوْحَشَ مِنَ الْخَلْقِ. قِيلَ لِغَزْوَانَ الزَّاهِدِ: لَوْ جَالَسْتَ إِخْوَانَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أُصِيبُ رَاحَةَ قَلْبِي فِي مُجَالَسَةِ مَنْ عِنْدَهُ حَاجَتِي. (تَعَبِي رَاحَتِي وَأُنْسِي انْفِرَادِي ... وَشِفَائِي الضَّنَا وَنَوْمِي سُهَادِي) (لَسْتُ أَشْكُو بِعَادَ مَنْ صَدَّ عَنِّي ... أَيُّ بُعْدٍ وَقَدْ ثَوَى فِي فُؤَادِي) (هُوَ يَخْتَالُ بَيْنَ قَلْبِي وَعَيْنِي ... هُوَ ذَاكَ الَّذِي يَرَى فِي السَّوَادِ) فَهَؤُلاءِ عُزْلَتُهُمْ أَصْلَحُ لَهُمْ، بَلْ لا يَنْبَغِي أَنْ تَشْغَلُهُمُ الْعُزْلَةُ عَنِ الْجَمَاعَاتِ وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ فَعَلُوا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَإِنَّمَا نَأْمُرُ الْعَوَامَّ بِاعْتِزَالِ الشَّرِّ، فَحَسْبُ فَإِنَّهُ الْجِهَادُ في حقهم.

الكلام على البسملة

وَاعْلَمْ أَنَّ السَّمْعَ يُوصِلُ إِلَى الْقَلْبِ خَبَرَ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْبَصَرَ خَبَرَ الْمَنْظُورَاتِ، وَرُبَّ نَظْرَةٍ نَقَشَتْ فِي الْقَلْبِ صُورَةً فَبَعُدَ مَحْوُهَا، فَإِنَّ الإِنْسَانَ لَيَمْشِيَ فِي الأَسْوَاقِ فَيَتَغَيَّرُ قَلْبَهُ، وَالْعُزْلَةُ تُوجِبُ السَّلامَةَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ فِي الصَّالِحِينَ مَنْ إِذَا خَرَجَ لِلسُّوقِ فَكَسَبَ مَا يَكْفِيهِ قَامَ إِلَى الْمَسْجِدِ. فَالْبِدَارَ الْبِدَارَ إِلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ بِالْعُزْلَةِ عَنْ كُلِّ مَا يُؤْذِي....... الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ (مَا عُذْرُ مَنْ جُرَّ عَاصِيًا رَسَنُهْ ... مَا عُذْرُهُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَهْ) (أَكُلَّمَا طَالَتِ الْحَيَاةُ بِهِ ... أَطَالَ عَنْ أَخْذِ حَذَرِهِ وَسَنَهْ) (قُلْ لِي إِذَا مِتَّ كَيْفَ تَنْقُصُ مِنْ ... سَيِّئَةٍ أَوْ تَزِيدُ فِي حَسَنَهْ) يَا مَرِيضًا مَا يَعْرِفُ أَوْجَاعَهُ، يَا مُضَيِّعَ الْعُمْرِ بِالسَّاعَةِ وَالسَّاعَةِ، يَا كَثِيرَ الْغَفْلَةِ وَقَدْ دَنَتِ السَّاعَةُ، يَا نَاسِيًا ذِكْرَ النَّارِ إِنَّهَا لَنَزَّاعَةٌ، كَأَنَّهُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ قَدْ أَزْعَجَهُ وَأَرَاعَهُ، وَصَاحَ بِالنَّفْسِ صَيْحَةً فَقَالَتْ: سَمْعًا وَطَاعَةً، وَنَهَضَتْ تَعْرِضُ كَاسِدَ التَّوْبَةِ، وَهَيْهَاتَ غَلَقَ الْبَاعَةُ يَا سَيِّئَ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فِي وَجْهِ شَمْسِ فَهْمِكَ غَيْمٌ، بَيْنَ دَائِكَ وَدَوَائِكَ حِجَابٌ، لَوْ أَهَمَّتْكَ نَفْسُكَ سَعَيْتَ لَهَا فِي الْخَلاصِ، لَوْ رَضِيتَ بِالْبُلْغَةِ مَا اسْتَرْهَنَ قَلْبَكَ كَسْبُ الْحُطَامِ، لَوْ قَنَعَتْ كِلابُ الصَّيْدِ بِالْمَنْبُوذِ مَا كَانَتِ السَّوَاجِيرُ فِي حُلُوقِهَا. (طَلَبْتُكِ يَا دُنْيَا فَأَعْدَدْتُ فِي الطَّلَبْ ... فَمَا نِلْتُ إِلا الْهَمَّ وَالْغَمَّ وَالنَّصَبْ) (فَلَمَّا بَدَا لِي أَنَّنِي لَسْتُ وَاصِلا ... إِلَى لَذَّةٍ إِلا بِأَضْعَافِهَا تَعَبْ) (وَأَسْرَعْتُ فِي ذَنْبِي وَلَمْ أَقْضِ شَهْوَتِي ... هَرَبْتُ بِدِينِي مِنْكِ إِنْ نَفَعَ الْهَرَبْ) (تَسَرْبَلْتُ أَخْلاقِي قُنُوعًا وَعِفَّةً ... فَعِنْدِي بِأَخْلاقِي كُنُوزٌ مِنَ الذَّهَبْ) (وَلَمْ أَرَ حَظًّا كَالْقُنُوعِ لأَهْلِهِ ... وَأَنْ يُجْمِلَ الإِنْسَانُ مَا عَاشَ فِي الطَّلَبْ) يَا مَنْ قَدْ مَالَ بِالآمَالِ إِلَى جَمْعِ الْمَالِ، كَأَنَّكَ بِهِ إِلَى غَيْرِكَ قَدْ مَالَ وَاعَجَبًا بِالْحِرْصِ تَجْمَعُونَهُ، وَبِالأَمَلِ تَحْفَظُونَهُ، وَبِالْغَفْلَةِ تَأْكُلُونَهُ، وَفِي الْهَوَى تَصْرِفُونَهُ،

الْمَالُ نِعْمَةٌ فَمَنْ أَنْفَقَ بَعْضَهُ فِي الْخَيْرِ أَقَامَ لِلْبَاقِي حَارِسًا، إِذَا سَمِعَتِ النِّعْمَةُ نَغَمَةَ الشُّكْرِ أَلَبَتْ وَلَبَّتْ...... بِالْمَزِيدِ، وَإِذَا لَمْ تَشْكُرْ وَقَدْ وَفَّرْتَ نَفَرَتْ وَمَا كُلُّ شَارِدٍ بِمَرْدُودٍ، وَاعَجَبَاهْ مِمَّنْ فَرِحَ بِلَذَّةٍ يَعْلَمُ سُرْعَةَ زَاوَلِهَا، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْحِسَابَ عَلَيْهَا. (أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ زَوَالا) أَيْنَ مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ وَالْقَزَّ، وَحَرَّكَ الْجَوَادَ تَحْتَهُ وَهَزَّ، وَتَعَاظَمَ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَعَزَّ، وَقَهَرَ وَغَلَبَ وَسَلَبَ وَبَزَّ، ذَبَحَهُ سَيْفُ الْمَنُونِ وَمَا قَطَعَ وَلا حَزَّ، فَتَسَلَّبَ الْحَبِيبُ بَعْدَ فِرَاقِهِ وَجَزَّ، وَأَكَلَهُ الدُّودُ وَقَدْ كَانَ يَسْتَزْرِي الإِوَزَّ، بَيْنَا هُوَ قَدْ رَكَضَ فِي أَغْرَاضِهِ وَكَرَّ خَرَّ فَقِيلَ: كَيْفَ بَاتَ؟ قِيلَ: مَرَّ. فَأَلْبَسَهُ الْغَاسِلُ ثَوْبًا لا كَفَّهُ وَلا زَرَّ، فَرَحَلَ عَنْ دَارِهِ الَّتِي بِهَا اغْتَرَّ، وَاسْتَعْمَلَ الْحَفَّارُ لِتَمْهِيدِ لَحْدِهِ الْمَرَّ، وَاسْتَلَبَهُ جَذْبًا عَنِيفًا وَجَرَّ، وَرَجَعَ أَهْلُهُ لا يَقْدِرُونَ لَهُ عَلَى نَفْعٍ وَلا ضُرٍّ، وَنَدِمَ حِينَ سَكَنَ الْبَرَّ إِذْ مَا اتَّقَى وَلا بَرَّ، وَطُولِبَ بِمَا أَعْلَنَ مِنْ عَمَلٍ وَأَسَرَّ، وَوَجَدَ اللَّهَ وَقَدْ أَحْصَى عَلَيْهِ الذَّرَّ، وَبَقِيَ مَكَانَهُ أَسِيرًا لا يَرَى إِلا الشَّرَّ. (هَذِي مَنَازِلُهُمْ وَقَدْ رَحَلُوا ... وَعَلَى الْكَرَاهَةِ غَيْرَهَا نَزَلُوا) (رَحَلُوا وَأَبْقَوْهَا لِغَيْرِهِمُ ... إِنَّ الْمَنَازِلَ وَالْغِنَى دُوَلُ) (شَادُوا مَبَانِيهَا وَمَا سَكَنُوا ... إِلا نُزُولَ الضَّيْفِ وَانْتَقَلُوا) (وَتَفَرَّقَتْ عَنْهُمْ أَقَارِبُهُمْ ... وَجُنُودُهُمْ وَخَلَوْا بِمَا عَمِلُوا) (يَا آمِلَ الدُّنْيَا وَقَدْ عَصَفَتْ ... بِالنَّاسِ قَبْلَكَ خَانَكَ الأَمَلُ) (أَتَرُومُ جَهْلا أَنْ تُقِيمَ بِهَا ... وَوَرَاءَكَ الأَيَّامُ وَالأَجَلُ) ...... يَا هَذَا إِذَا أَسْلَمَكَ الأَتْرَابُ، تَسَلَّمَكَ التُّرَابُ، كَيْفَ يَفْرَحُ بِحَيَاتِهِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا مَطِيَّةُ مَمَاتِهِ، يَا مَنْ هَجَمَ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَادِيَةِ الْمُخَالَفَةِ، فَسَبَاهُ فَبَاعَهُ فَاشْتَرَاهُ الْهَوَى بِثَمَنٍ بَخْسٍ، تَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ فِي حِصْنِ التُّقَى مَا قَدَرَ عَلَيْكَ، إِلَى كَمْ يَسْتَخْدِمُكَ الْهَوَى وَأَنْتَ حُرٌّ طَالَ تَشَبُّهُكَ فِي التَّثَبُّطِ بِزُحَلَ فَانْهَضْ بِحَرَكَةِ عُطَارِدَ فِي الْهَرَبِ مما يؤذي.

الكلام على قوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}

تَعَرَّضْ لِجِيَادِ الْمُجَاهِدِينَ لَعَلَّ بَعْضَهُمْ يَسْتَصْحِبُكَ. أَمَا بَلَغَكَ لُطْفُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ أَمَا سَمِعْتَ عَفْوَ: هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟. ( ... وَتُذْنِبُونَ فَنَأْتِيكُمْ فَنَعْتَذِرُ) لا تيأس فَبَابُ الرَّجَاءِ مَفْتُوحٌ، لا تُلْقِ بِيَدِكَ فَعِلْمُ الْقَبُولِ يَلُوحُ: (عَسَى وَعَسَى مِنْ بَعْدِ طُولِ التَّفَرُّقِ ... عَلَى كُلِّ مَا نَرْجُو مِنَ الْعَيْشِ نَلْتَقِي) (وَلَوْ ظَفِرَتْ عَيْنِي بِرُؤْيَاكَ سَاعَةً ... لَكُنْتَ عَلَى عَيْنِي مِنَ الْعَيْنِ أَتَّقِي) إِخْوَانِي: لَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ: أَنَا تَائِبٌ كَانَ تَائِبًا، إِنَّمَا التَّائِبُ مَنْ صَبَرَ عَلَى فَقْدِ الأَغْرَاضِ صَبْرَ السَّحَرَةِ عَلَى الصَّلْبِ، وَاعْتَذَرَ مِنْ جِنَايَاتِهِ اعْتِذَارَ النَّابِغَةِ إِلَى النُّعْمَانِ، وَخَضَعَ خُضُوعَ الْجَرِبِ لِلطَّالِي، وَتَضَرَّعَ تَضَرُّعَ الصَّبِيِّ إِلَى الْمُؤَدِّبِ. لا تَنْأَ وَإِنْ طُرِدْتَ، وَلا تَبْرَحْ وَإِنْ زُجِرْتَ: (إِذَا هَجَرُوا عِزًّا وَصَلْنَا تَذَلُلا ... وَإِنْ بَعُدُوا يَأْسًا قَرُبْنَا تَعَلُلا) (وَإِنْ أَغْلَقُوا بِالْهَجْرِ أَبْوَابَ وَصْلِهِمْ ... وَقَالُوا ابْعُدوا عَنَّا طَلَبْنَا التَّوَصُّلا) ...... (وَإِنْ مَنَعُونَا أَنْ نَجُوزَ بِأَرْضِهِمْ ... وَلَمْ يَسْمَعُوا الشَّكْوَى وَرَدُّوا التَّوَسُّلا) (أَشَرْنَا بِتَسْلِيمٍ وَإِنْ بَعُدَ الْمَدَى ... إِلَيْهِمْ وَكَلَّفْنَا الرِّيَاحَ لِتَحْمِلا) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} تَتَجَافَى أَيْ تَرْتَفِعُ، وَالآيَةُ فِي قَوَّامِ اللَّيْلِ. أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} قَالَ: قِيَامُ الْعَبْدِ مِنَ اللَّيْلِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلاثَةَ يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، وَالْقَوْمُ قَدْ صَفُّوا لِلصَّلاةِ، وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا لِلْقِتَالِ ". قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا رَوْحٌ وَعَفَّانُ، قَالَ: أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَطَاءُ ابن السَّائِبِ، عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلاتِهِ فَيَقُولُ رَبُّنَا: يَا مَلائِكَتِي انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي ثَارَ مِنْ فِرَاشِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلاتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي. وَرَجُلٌ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَانْهَزَمَ فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ في الفرار وماله الرُّجُوعِ فَرَجَعَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَرَهْبَةً مِمَّا عِنْدِي حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ ". وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال " عليكم بقيام الليل فإن دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ وَمَغْفِرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ "....... وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمْ أَجِدْ مِنَ الْعِبَادَةِ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الصَّلاةِ فِي جَوْفِ هَذَا اللَّيْلِ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِينَا نَزَلَتْ مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ فَلا نَرْجِعُ إِلَى رِحَالِنَا حَتَّى نُصَلِّيَ الْعِشَاءَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا فِي قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى سَبْعِ طَبَقَاتٍ. الطَّبَقَةُ الأُولَى: كَانُوا يُحْيُونَ كُلَّ اللَّيْلِ، وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحْيِي اللَّيْلَ. وَمِنَ الْقَوْمِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وصفوان

بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَنِيَّانِ، وَفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، وَوُهَيْبُ ابن الورد المكيان، وطاووس ووهب ابن منبه اليمنيان، والربيع بن خثيم والحكم الكوفياتن، وأبو سليمان الداراني وعلي ابن بَكَّارٍ الشَّامِيَّانِ، وَأَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْخَوَّاصُ وَأَبُو عاصم البغداديان، ومنصور ابن زاذان وهشيم الواسطيان، وحبيب أوب محمد وأبو جابر السلماني الفارسيان، ومالك ابن دِينَارٍ وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَيَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَيَحْيَى الْبَكَّاءُ الْبَصْرِيُّونَ. الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ: كَانُوا يَقُومُونَ شَطْرَ اللَّيْلِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: صَحِبْتُهُ وَكَانَ يَقُومُ شَطْرَ اللَّيْلِ يُكْثِرُ فِي ذَلِكَ وَاللَّهِ التَّسْبِيحَ. الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ: كَانُوا يَقُومُونَ ثُلُثَ اللَّيْلِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَلاةَ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ "....... وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ. وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: يَا رَبِّ أَيُّ سَاعَةٍ أَقُومُ لَكَ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: لا تَقُمْ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَلا آخِرَهُ، وَلَكِنْ قُمْ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ حَتَّى تَخْلُوَ بِي وَأَخْلُوَ بِكَ وَارْفَعْ إِلَيَّ حَوَائِجَكَ. وَسَأَلَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَيُّ اللَّيْلِ أَفْضَلُ فَقَالَ: مَا أَدْرِي، إِلا أَنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ فِي السَّحَرِ. الطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ: كَانُوا يَقُومُونَ سُدُسَ اللَّيْلِ أَوْ خُمُسَهُ. الطَّبَقَةُ الْخَامِسَةُ: كَانُوا لا يُرَاعُونَ التَّقْدِيرَ، وَإِنَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُومُ إِلَى أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ فَيَنَامُ، فَإِذَا انْتَبَهَ قَامَ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنَّمَا هِيَ أَوَّلُ نَوْمَةٍ فَإِذَا انْتَبَهْتُ فَلا أَقِيلُهَا.

الطَّبَقَةُ السَّادِسَةُ: قَوْمٌ كَانُوا يُصَلُّونَ مِنَ اللَّيْلِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ. وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " صَلُّوا مِنَ اللَّيْلِ وَلَوْ أَرْبَعًا صَلُّوا وَلَوْ رَكْعَتَيْنِ ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا جَمِيعًا رَكْعَتَيْنِ كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ". الطَّبَقَةُ السَّابِعَةُ: قَوْمٌ يُحْيُونَ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وَيُصَلُّونَ فِي السَّحَرِ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ....... وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلا آتَاهُ إِيَّاهُ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ ". وَمَنْ أَرَادَ قِيَامَ اللَّيْلِ فَلا يُكْثِرْ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلا يُتْعِبْ أَعْضَاءَهُ فِي النَّهَارِ بِالْكَدِّ وَلا يَعْمَلْ مَعْصِيَةً، وَلْيَسْتَعِنْ بِالْقَيْلُولَةِ. وَأَمَّا آدَابُ الْبَاطِنِ: فَأَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ سَلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلا بُدَّ لَهُ مِنْ خَوْفٍ مُقْلِقٍ أَوْ شَوْقٍ مُزْعِجٍ. كَانَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كَأَنَّهُ حَبَّةٌ عَلَى مِقْلَى ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ جَهَنَّمَ لا تَدَعُنِي أَنَامُ فَيَقُومُ إِلَى مُصَلاهُ. وَكَانَ طاووس يَفْرِشُ فِرَاشَهُ ثُمَّ يَضْطَجِعُ فَيَتَقَلَّى كَمَا تَتَقَلَّى الْحَبَّةُ عَلَى الْمِقْلَى ثُمَّ يَثِبُ فَيَتَطَهَّرُ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ حَتَّى الصَّبَاحِ وَيَقُولُ: طَيَّرَ ذِكْرُ جَهَنَّمَ نَوْمَ الْعَابِدِينَ! وَقَالَتْ بِنْتُ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ له: يا أبت مالي أَرَى النَّاسَ يَنَامُونَ وَلا أَرَاكَ تَنَامُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ إِنَّ أَبَاكِ يَخَافُ الْبَيَاتَ. وَقَالَتْ أُمُّ عُمَرَ بْنِ الْمُنْكَدِرِ: يَا بُنَيَّ أَشْتَهِي أَنْ أَرَاكَ نَائِمًا. فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ وَاللَّهِ إِنَّ اللَّيْلَ لَيَرِدُ عَلَيَّ فَيَهُولُنِي فَيَنْقَضِي عَنِّي وَمَا قَضَيْتُ مِنْهُ إِرْبِي.

وَكَانَ زَمْعَةُ الْعَابِدُ يَقُومُ فَيُصَلِّي لَيْلا طَوِيلا فَإِذَا كَانَ السَّحَرُ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَيُّهَا الرَّكْبُ الْمُعَرِّسُونَ أَكُلَّ هَذَا اللَّيْلِ تَرْقُدُونَ ألا تقومون فترحلون. فيسمع من ها هنا باك ومن هاهنا داع ومن ههنا متوضىء؟ فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَقُولُ: عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمَ السُّرَى....... أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ يَبْكِي فَقُلْتُ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ وَلِمَ لا أَبْكِي وَإِذَا جَنَّ اللَّيْلُ وَنَامَتِ الْعُيُونُ وَخَلا كُلُّ حَبِيبٍ بِحَبِيبِهِ، وَافْتَرَشَ أَهْلُ الْمَحَبَّةِ أَقْدَامَهُمْ وَجَرَتْ دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ وَقَطَرَتْ فِي مَحَارِيبِهِمْ، أَشْرَفَ الْجَلِيلُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَنَادَى جِبْرِيلَ: بِعَيْنِي مَنْ تَلَذَّذَ بِكَلامِي فَلِمَ لا تُنَادِي فِيهِمْ: مَا هَذَا الْبُكَاءُ؟ هَلْ رَأَيْتُمْ حَبِيبًا يُعَذِّبُ أَحْبَابَهُ؟! أَمْ كَيْفَ يَجْمُلُ بِي أَنْ أُعَذِّبَ قَوْمًا إِذَا جَنَّهَمُ اللَّيْلُ تَمَلَّقُونِي؟ فَبِي حَلَفْتُ إِذَا وَرَدُوا عَلَيَّ فِي الْقِيَامَةِ لأَكْشِفَنَّ لَهُمْ عَنْ وَجْهِيَ الْكَرِيمِ حَتَّى يَنْظُرُوا إِلَيَّ وَأَنْظُرَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ أَيْضًا: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: بَيْنَا أَنَا سَاجِدٌ ذَهَبَ بِيَ النَّوْمُ فَإِذَا أَنَا بِحَوْرَاءَ قَدْ رَكَضَتْنِي بِرِجْلِهَا وَقَالَتْ: حَبِيبِي أَتَرْقُدُ وَالْمَلِكُ يَقْظَانُ يَنْظُرُ فِي الْمُتَهَجِّدِينَ فِي تَهَجُّدِهِمْ! بُؤْسًا لِعَيْنٍ آثَرَتْ لَذَّةَ نَوْمَةٍ عَلَى لَذَّةِ مُنَاجَاةِ الْعَزِيزِ، قُمْ فَقَدْ دَنَا الْفَرَاغُ وَلَقِيَ الْمُحِبُّونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فَمَا هَذَا الرُّقَادُ حَبِيبِي وَقُرَّةَ عَيْنِي؟ أَتَرْقُدُ عَيْنَاكَ وَأَنَا أُرَبَّى لَكَ فِي الْخُدُورِ؟ فَوَثَبْتُ فَزَعًا وَقَدْ عَرِقْتُ اسْتِحْيَاءً مِنْ تَوْبِيخِهَا إِيَّايَ وَإِنَّ حَلاوَةَ مَنْطِقِهَا لَفِي سَمْعِي وَقَلْبِي. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِقِصَرِ أَمَلِهِ يُوتِرُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَعُمَرُ لِتَأْمِيلِ الْخِدْمَةِ يُؤَخِّرُهُ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ. وَعُثْمَانُ يَتَهَجَّدُ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ. وَعَلِيٌّ يَسْتَغْفِرُ فِي أَوَاخِرِ اللَّيْلِ. قَامَ الْقَوْمُ على أقدام {قم الليل} فَبَانَ فِي الْقَوْمِ سِرُّ {وَتَقَلُّبَكَ فِي

الساجدين} لَوْلا قِيَامُ تِلْكَ الأَقْدَامِ مَا كَانَ يُؤَدَّى حَقُّ " هَلْ مِنْ سَائِلٍ " يَا غَافِلِينَ عَمَّا نَالُوا، لَقَدْ مِلْتُمْ عَنِ التُّقَى وَمَا مَالُوا، قَامُوا فِي غَفَلاتِ الرَّاقِدِينَ فَقُوبِلُوا بِجَزَاءٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْغَيْرُ غَيْرَةً لَهُمْ....... مَا أَطْيَبَ أَمَلَهُمْ فِي الْمُنَاجَاةِ، مَا أَقْرَبَهُمْ مِنْ طَرِيقِ النَّجَاةِ، مَا أَقَلَّ مَا تَعِبُوا وَمَا أَيْسَرَ مَا نَصَبُوا، وَمَا كَانَ إِلا الْقَلِيلُ ثُمَّ نَالُوا مَا طَلَبُوا، لَوْ ذَاقَ الْغَافِلُ شَرَابَ أُنْسِهِمْ فِي الظَّلامِ أَوْ سَمِعَ الْجَاهِلُ صَوْتَ حَنِينِهِمْ فِي الْقِيَامِ، وَقَدْ نَصَبُوا لَمَّا انْتَصَبُوا لَهُ الأَقْدَامَ، وَتَرَنَّمُوا بِأَشْرَفِ الذِّكْرِ وَأَحْلَى الْكَلامِ، وضربوا على شواطىء أَنْهَارِ الصِّدْقِ الْخِيَامَ، وَرَكَزُوا عَلَى بَابِ الْيَقِينِ بِالْحَقِّ الأَعْلامَ، وَزَمُّوا مَطَايَا الشَّوْقِ إِلَى دَارِ السَّلامِ، وَسَارَتْ جُنُودُ حُبِّهِمْ وَالنَّاسُ فِي الْغَفْلَةِ نِيَامٌ، وَشَكَوْا فِي الأَسْحَارِ ما يَلْقَوْنَ مِنْ وَقْعِ الْغَرَامِ، وَوَجَدُوا مِنْ لَذَّةِ اللَّيْلِ مَا لا يَخْطُرُ عَلَى الأَوْهَامِ، وَإِذَا أَسْفَرَ النَّهَارُ تَلَقَّوْهُ بِالصِّيَامِ وَصَابَرُوا الْهَوَاجِرَ بِهَجْرِ الشَّرَابِ وَتَرْكِ الطَّعَامِ، وَتَدَرَّعُوا دُرُوعَ التُّقَى خَوْفًا مِنَ الزَّلَلِ وَالآثَامِ، فَنُورُهُمْ يُخْجِلُ شَمْسَ الضُّحَى وَيُزْرِي بَدْرَ التَّمَامِ، فَلأَجْلِهِمْ تَنْبُتُ الأَرْضُ وَمِنْ جَرَاهِمْ يَجْرِي الغمام، وبهم يسامح الخطاؤون وَيُصْفَحُ عَنْ أَهْلِ الإِجْرَامِ، فَإِذَا نَازَلَهُمُ الْمَوْتُ طَابَ لَهُمْ كَأْسُ الْحِمَامِ، وَإِذَا دُفِنُوا فِي الأَرْضِ فَخَرَّتْ بِحِفْظِهَا تِلْكَ الْعِظَامُ، فَعَلَى الدُّنْيَا إِذَا مَاتُوا مِنْ بَعْدِهِمُ السَّلامُ. (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ ... عَنْ لَذِيدِ الْمَضَاجِعِ) (كُلُّهُمْ بَيْنَ خَائِفٍ ... مُسْتَجِيرٍ وَطَامِعِ) (تَرَكُوا لَذَّةَ الْكَرَى ... لِلْعُيُونِ الْهَوَاجِعِ) (وَرَعَوْا أَنْجُمَ الدُّجَى ... طَالِعًا بَعْدَ طَالِعِ) (وَاسْتَهَلَّتْ دُمُوعُهُمْ ... بِانْصِبَابِ الْمَدَامِعِ) (فَأُجِيبُوا إِجَابَةً ... لَمْ تَقَعْ فِي المسامع) (ليس ما تصنعونه ... أو ليأتي بضائع)

(تَاجِرُونِي بِطَاعَتِي ... تَرْبَحُوا فِي الْبَضَائِعِ) ...... (وَابْذُلُوا لِي نُفُوسَكُمْ ... إِنَّهَا فِي وَدَائِعِي) لَوْ رَأَيْتَ رِيَاحَ الأَسْحَارِ تُحَرِّكُ أَشْجَارَ الْقُلُوبِ فَتَقَعُ ثِمَارُ الْمَحَبَّةِ! يَا لَذَّةَ خَلَوْتِهِمْ بِالْحَبِيبِ، يَا وُفُورَ نَصِيبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ النَّصِيبِ. (هَبَّتْ رِيَاحُ وِصَالِهِمْ سَحَرًا ... لِحَدَائِقِ الأَشْوَاقِ فِي قَلْبِي) (وَاهْتَزَّ عُودُ الْوَصْلِ مِنْ طَرَبٍ ... وَتَسَاقَطَتْ ثَمَرٌ مِنَ الْحَبِّ) (وَمَضَتْ خُيُولُ الْهَجْرِ سَادِرَةً ... مَطْرُودَةً بِعَسَاكِرِ الْقُرْبِ) (وَبَدَتْ شُمُوسُ الْوَصْلِ خَارِقَةً ... بِشُعَاعِهَا لِسُرَادِقِ الْحُجُبِ) (وَصَفَا لَنَا وَقْتٌ أَضَاءَ بِهِ ... وَجْهُ الرِّضَا عَنْ ظُلْمَةِ الْعَتَبِ) (وَبَقِيتُ مَا شَيْءٌ أُشَاهِدُهُ ... إِلا ظننت بأنه حبي) السجع عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} لَوْ رَأَيْتَهُمْ بَيْنَ سَاجِدٍ وَرَاكِعٍ، وَذَلِيلٍ مَخْمُولٍ مُتَوَاضِعٍ، وَمُنْكَسِرِ الطَّرْفِ مِنَ الْخَوْفِ خَاشِعٍ، فَإِذَا جَنَّ اللَّيْلُ حَنَّ الْجَازِعُ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} . نُفُوسُهُمْ بِالْمَحَبَّةِ عَلِقَتْ، وَقُلُوبُهُمْ بِالأَشْوَاقِ فُلِقَتْ، وَأَبْدَانُهُمْ لِلْخِدْمَةِ خُلِقَتْ، يَقُومُونَ إِذَا انْطَبَقَتْ أَجْفَانُ الْهَاجِعِ: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} . يُبَادِرُونَ بِالْعَمَلِ الأَجَلَ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي سَدِّ الْخَلَلِ، وَيَعْتَذِرُونَ مِنْ مَاضِي الزَّلَلِ، وَالدَّمْعُ لَهُمْ شَافِعٌ {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} . سَبَقَ وَاللَّهِ الْقَوْمُ، بِكَثْرَةِ الصَّلاةِ وَالصَّوْمِ، فَإِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ حَارَبُوا النَّوْمَ وَالْعَزْمَ فِي الطَّوَالِعِ {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} ...................

يُنَادِي مُنَادِي تَائِبِهِمْ: لا أَعُودُ، وَالْمُنْعِمُ يُنْعِمُ بِالْقَبُولِ وَيَجُودُ، هُمْ وَاللَّهِ مِنَ الْكَوْنِ الْمَقْصُودِ، فَمَا حِيلَةُ الْمَطْرُودِ وَالْمُعْطِي مَانِعٌ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عن المضاجع} . كُنْ يَا هَذَا رَفِيقَهُمْ، وَلِجْ وَإِنْ شَقَّ مَضِيقُهُمْ، وَاسْلُكْ وَلَوْ يَوْمًا طَرِيقَهُمْ فَالطَّرِيقُ وَاسِعٌ {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} . اهْجُرْ بِالنَّهَارِ طِيبَ الطَّعَامِ، وَدَعْ فِي الدُّجَى لَذِيذَ الْمَنَامِ، وَقُلْ لأَغْرَاضِ النَّفْسِ: سَلامٌ، وَاللَّهُ يدعو إلى دار السلام، فَمَا يَقْعُدُ السَّامِعُ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . يَا مَنْ يَرْجُو مَقَامَ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ مُقِيمٌ مَعَ الْغَافِلِينَ، وَيَأْمُلُ مَنَازِلَ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ يَنْزِلُ مع المذنين، دَعْ هَذَا الْوَاقِعَ. الصِّدْقَ الصِّدْقَ فِيهِ تَسْلَمُ، الْجِدَّ الْجِدَّ فِيهِ تَغْنَمُ، الْبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ أَنْ تَنْدَمَ، هَذَا هُوَ الدَّوَاءُ النَّافِعُ {تَتَجَافَى جنوبهم عن المضاجع} والله أعلم...................

المجلس التاسع في ذكر الأمر بالمعروف

المجلس التاسع في ذِكْرُ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الْحَمْدُ للَّهِ مُدَبِّرِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ، وَمُصَرِّفِ الشُّهُورِ وَالأَعْوَامِ، الْمُنْفَرِدِ بِالْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ السَّلامِ، تَنَزَّهَ جَلالُهُ عَنْ دَرَكِ الأَفْهَامِ، وَتَعَالَى كَمَالُهُ عَنْ إِحَاطَةِ الأَوْهَامِ، لَيْسَ بِجِسْمٍ فَيُشْبِهُ الأَجْسَامَ، وَلا بِمُتَجَوِّفٍ فَيَحْتَاجُ لِلشَّرَابِ وَالطَّعَامِ، ارْتَدَى بِرِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ وَالإِعْظَامِ، وَأَبْصَرَ مَا فِي بَوَاطِنِ الْعُرُوقِ وَدَوَاخِلِ الْعِظَامِ، وَسَمِعَ أَخْفَى الْقَوْلِ وَأَلْطَفَ الْكَلامِ، لا يَعْزُبُ عَنْ سَمْعِهِ صَرِيفُ الأَقْلامِ، وَلا يَخْفَى عَلَى بَصَرِهِ دَبِيبُ النَّمْلِ تَحْتَ سِجْفِ الظَّلامِ، إِلَهٌ رَحِيمٌ عَظِيمُ الإِنْعَامِ، وَرَبٌّ قَدِيرٌ شَدِيدُ الانْتِقَامِ، قَدَّرَ الأُمُورَ فَأَحْسَنَ إِحْكَامَ الأَحْكَامِ، وَصَرَّفَ الْحُكْمَ فِي فُنُونِ النَّقْضِ وَالإِبْرَامِ، بِقُدْرَتِهِ هُبُوبُ الرِّيحِ وَتَسْيِيرُ الْغَمَامِ، {ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام} . أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ، وَأُقِرُّ بِوَحْدَانِيَّتِهِ كَافِرًا بِالأَصْنَامِ. وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ شَفِيعِ الأَنَامِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ أَوَّلِ سَابِقٍ إِلَى الإِسْلامِ، وَعَلَى عُمَرَ الَّذِي كَانَ إِذَا رَآهُ الشَّيْطَانُ هَامَ، وَعَلَى عُثْمَانَ الَّذِي أَنْهَضَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ بِنَفَقَتِهِ وَأَقَامَ، وَعَلَى عَلِيٍّ الْبَحْرِ الْغَطَامِطِ وَالأَسَدِ الضِّرْغَامِ، وَعَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ أَبِي الْخُلَفَاءِ الأَعْلامِ. اعْلَمُوا أَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَصْلُ الدِّينِ، فَإِنَّهُ شُغُلُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ خَلَفَهُمْ فِيهِ خُلَفَاؤُهُمْ، وَلَوْلاهُ شَاعَ الْجَهْلُ وبطل العلم.

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهُوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ شِرَارَكُمْ عَلَى خياركم فيدعوا خِيَارُكُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ} ...... أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِسَنَدِهِ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ قَوْمٍ فِيهِمْ رَجُلٌ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي وَهُمْ أَعَزُّ مِنْهُ وَأَمْنَعُ لا يَغِيرُونَ إِلا أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ ". وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ اضْمَحَلَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى صَارَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَهَذَا زَمَنُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: " بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ ". وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلا لِلْمُنْكِرِ وَالسَّاكِتِ عَنِ الإِنْكَارِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ بِسَنَدِهِ إِلَى عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ - وَأَوْمَأَ بِإِصْبَعِهِ إِلَى أُذُنَيْهِ -: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ مَثَلَ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا وَالْمُدَاهِنِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا وَأَوْعَرَهَا وَشَرَّهَا، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوُا الْمَاءَ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَآذَوْهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَاسْتَقَيْنَا مِنْهُ وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَأَمْرَهُمْ هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا جَمِيعًا ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى الْخَلْقِ. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيَفْعَلْ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ بِيَدِهِ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ "....... وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا أَفْضَلُ الْجِهَادِ؟ فَقَالَ: كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ".

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَشَدُّ الأَعْمَالِ ثَلاثَةٌ: الْجُودُ مِنْ قِلَّةٍ، وَالْوَرَعُ فِي خَلْوَةٍ وَكَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ مَنْ يُرْجَى وَيُخَافُ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ أَنْتَ ظَالِمٌ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا إِذَا عَمِلَ الْعَامِلُ مِنْهُمْ بِالْخَطِيئَةِ نَهَاهُ النَّاهِي تَعْذِيرًا، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ جَالَسَهُ وَوَاكَلَهُ وَشَارَبَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ عَلَى خَطِيئَتِهِ بِالأَمْسِ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَعَنَهُمْ عَلَى لسان داود وعيسى بن مَرْيَمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهُوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ فَلَتَأْطِرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ يَلْعَنُكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعِقَابِهِ ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهُوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ شِرَارَكُمْ عَلَى خِيَارِكُمْ فَيَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ "....... قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ: مَنْ كَانَ لَهُ جَارٌ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي فَلَمْ يَنْهَهُ فَهُوَ شَرِيكُهُ. وَقَالَ مِسْعَرٌ: أُمِرَ مَلَكٌ أَنْ يَخْسِفَ بِقَرْيَةٍ فَقَالَ: يَا رَبِّ فِيهَا فُلانٌ الْعَابِدُ. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَنْ بِهِ فَابْدَأْ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ فِي سَاعَةٍ قَطُّ. وَيَنْبَغِي لِلآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يُلْطِفَ فَقَدْ قَالَ الله تعالى: {فقولا له قولا لينا} .

وَمَرَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِرَجُلٍ قَدْ أَصَابَ ذَنْبًا وكانوا يسبونه فقال لهم: أرأرتم لَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي قَلِيبٍ أَلَمْ تَكُونُوا مُسْتَخْرِجِيهِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَلا تَسُبُّوا أَخَاكُمْ وَاحْمَدُوا اللَّهَ الَّذِي عَافَاكُمْ. قَالُوا: أَفلا تُبْغِضُهُ؟ قَالَ: إِنَّمَا أُبْغِضُ عَمَلَهُ فَإِذَا تَرَكَهُ فَهُوَ أَخِي. وَرَأَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ رَجُلا يُكَلِّمُ امْرَأَةً فِي مَوْضِعٍ خَرِبٍ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَاكُمَا سَتَرَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ. أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كَانَ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ يَخْرُجُ إِلَى الْجَبَّانِ فَيَتَعَبَّدُ فِيهَا وَكَانَ يَمُرُّ عَلَى شَبَابٍ يَلْهُونَ وَيَلْعَبُونَ فَيَقُولُ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي عَنْ قَوْمٍ أَرَادُوا سَفَرًا فَحَادُوا بِالنَّهَارِ عَنِ الطَّرِيقِ وَنَامُوا بِاللَّيْلِ مَتَى يَقْطَعُونَ سَفَرَهُمْ؟ فَكَانَ كَذَلِكَ يَمُرُّ بِهِمْ فَيَعِظُهُمْ، فَمَرَّ بِهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ شَابٌّ مِنْهُمْ: يَا قَوْمُ إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا يَعْنِي بِهَذَا غَيْرَنَا، نَحْنُ بِالنَّهَارِ نَلْهُو وَبِاللَّيْلِ نَنَامُ، ثُمَّ اتَّبَعَ صِلَةَ فَلَمْ يَزَلْ يَخْتَلِفُ مَعَهُ إِلَى الْجَبَّانِ وَيَتَعَبَّدُ مَعَهُ حَتَّى مَاتَ. وَمَرَّ بِصِلَةَ بْنِ أَشْيَمَ فَتًى يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَهَمَّ أَصْحَابُ صِلَةَ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ أَخْذًا شَدِيدًا فَقَالَ صِلَةُ: دَعُونِي أكفكم أمره. ثم قال له: يا بن أَخِي إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً....... قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعَ إِزَارَكَ. قَالَ: نَعَمْ وَنُعْمَى عَيْنٍ! فَرَفَعَ إِزَارَهُ فَقَالَ صِلَةُ لأَصْحَابِهِ: هَذَا أَمْثَلُ مِمَّا أَرَدْتُمْ لَوْ شَتَمْتُمُوهُ وَآذَيْتُمُوهُ لَشَتَمَكُمْ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: مَا أَغْضَبْتَ أَحَدًا فَقَبِلَ مِنْكَ. وَقَالَ فَتْحُ بْنُ شخرفٍ: تَعَلَّقَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَمَعَهُ سِكِّينٌ لا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلا عَقَرَهُ وَكَانَ شَدِيدَ الْبَدَنِ، فَبَيْنَا النَّاسُ كَذَلِكَ وَالْمَرْأَةُ تَصِيحُ مَرَّ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَدَنَا مِنْهُ وَحَكَّ كَتِفَهُ بِكَتِفِ الرَّجُلِ، فَوَقَعَ الرَّجُلُ إِلَى الأَرْضِ وَمَرَّتِ الْمَرْأَةُ وَمَرَّ بِشْرٌ، فَدَنَوْا مِنَ الرَّجُلِ وَهُو يَرْشَحُ عَرَقًا فَسَأَلُوهُ: مَا حَالُكَ؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي وَلَكِنْ حَاكَّنِي شَيْخٌ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَاظِرٌ إِلَيْكَ وَإِلَى مَا تَعْمَلُ. فَضَعُفْتُ

الكلام على البسملة)

لِقَوْلِهِ وَهِبْتُهُ هَيْبَةً شَدِيدَةً لا أَدْرِي مَنْ ذَلِكَ الرَّجُلُ. فَقَالُوا لَهُ: ذَاكَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ. فَقَالَ: وَاسَوْأَتَاهْ كَيْفَ يَنْظُرُ إِلَيَّ بَعْدَ الْيَوْمِ! وَحُمَّ مِنْ يَوْمِهِ ذَاكَ. وَمَاتَ يَوْمَ السَّابِعِ. وَيَنْبَغِي لِلآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ فِعْلِ مَا نَهَى عَنْهُ وَتَرْكِ مَا أَمَرَ بِهِ. فَقَدْ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بِسَنَدِهِ عَنْ أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلانُ مَا شَأْنُكَ، أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ....... وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا هَذَّبَ الآمِرُ نَفْسَهُ أَثَّرَ قَوْلُهُ إِمَّا فِي زَوَالِ الْمُنْكَرِ أَوْ فِي انْكِسَارِ الْمُذْنِبِ أَوْ إِلْقَاءِ الْهَيْبَةِ لَهُ فِي الْقُلُوبِ. خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ لإِنْكَارِ مُنْكَرٍ فَنَبَحَ عَلَيْهِ كَلْبٌ فَمَا قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَكَانِ الْمُنْكَرِ، فَرَجَعَ إِلَى مَسْجِدِهِ وَتَفَكَّرَ سَاعَةً ثُمَّ قَامَ فَجَعَلَ الْكَلْبُ يَتَبَصْبَصُ حَوْلَهُ وَلا يُؤْذِيهِ حَتَّى أَزَالَ الْمُنْكَرَ، فَسُئِلَ عَمَّا جَرَى لَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا نَبَحَ عَلَيَّ لِفَسَادٍ دَخَلَ عَلَيَّ فِي عَقْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمَّا رَجَعْتُ ذَكَرْتُهُ فَاسْتَغْفَرْتُ. ( الْكَلامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ) (يُسَرُّ بِصَفْوِ عِيشَتِهِ الْجَهُولُ ... وَتُعْجِبُهُ الإِقَامَةُ وَالْحُلُولُ) (وَدُونَ مُقَامِهِ حَادٍ حَثِيثٌ ... عَنِيفُ السَّوْقِ وَالْمَوْتُ السَّبِيلُ) (سَبِيلٌ مَا تَوَجَّهَ فِيهِ سَفْرٌ ... فَكَانَ لَهُمْ إِلَى الدُّنْيَا قُفُولُ) (طَرِيقِي يَسْتَوِي لِلْخَلْقِ فِيهِ ... مَسَالِكُهُمْ وَيَخْتَلِفُ الْمَقِيلُ) (تَغُرُّهُمْ زَخَارِفُ دَارِ دُنْيَا ... غَوَائِلُهَا بِمَعْمَعِهِمْ تَعُولُ)

(تطوف عليهم بكؤوس لهو ... ومزج كؤوسها الدَّاءُ الدَّخِيلُ) (وَتُصْقِلُ وَجْهَهَا لَهُمْ خِدَاعًا ... وَتَحْتَ صِقَالِهَا السَّيْفُ الصَّقِيلُ) يَا هَذَا قَدْ صَانَكَ بِالْحَلالِ فَلا تَبْتَذِلْ، وَبِالْقَنَاعَةِ فَلا تَذِلَّ، وَطَهَّرَكَ مِنَ الأَدْنَاسِ فَلا تَتَوَسَّخْ، وَدَعَاكَ إِلَى الأَرْبَاحِ فَلا تَتَوَقَّفْ، وَيْحَكَ إِذَا خَدَمْتَ الدُّنْيَا رَأَتْ نَفْسَهَا فَتَدَلَّلَتْ، وَإِذَا أَعْرَضْتَ عَنْهَا عَرَفَتْ قَدْرَهَا فَتَذَلَّلَتْ، " اخْدِمِي مَنْ خَدَمَنِي وَاسْتَخْدِمِي مَنْ خَدَمَكِ ". يَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِهِ جَمْعًا يَعُوقُهُ عَنْ سيره. (ماذا تؤمل لا أبالك فِي ... مَالٍ تَمُوتُ وَأَنْتَ تُمْسِكُهُ) ...... (أَنْفِقْ فَإِنَّ اللَّهَ يَخْلُفُهُ ... لا تَمْضِ مَذْمُومًا وَتَتْرُكُهُ) (مَا لم يكن لك فيه قط مَنْفَعَةٌ ... مِمَّا جَمَعْتَ فَلَسْتَ تَمْلِكُهُ) يَا هَذَا: إِنَّمَا فُضِّلَ الْعَاقِلُ لِنَظَرِهِ فِي الْعَوَاقِبِ، فَأَمَّا مَنْ لا يَرَى إِلا الْحَاضِرَ فَطِفْلٌ: (تَصْفُو الْحَيَاةُ لِجَاهِلٍ أَوْ غَافِلٍ ... عَمَّا مَضَى مِنْهَا وَمَا يَتَوَقَّعُ) (وَلِمَنْ يُغَالِطُ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْسَهُ ... وَيَسُومُهَا طَمَعَ الْمُحَالِ فَتَتْبَعُ) قَدْ أَعَدَّ لَكَ كأسا لا يشبه الكؤوس، مَوْتٌ يَسْلُبُ الأَرْوَاحَ وَيَخْتَلِسُ النُّفُوسَ، وَرِحْلَةً لا تَدْرِي بِالسُّعُودِ أَوْ بِالنُّحُوسِ، إِلَى لَحْدٍ ضَيِّقٍ وعر ما مهدته الفؤوس، تُحَطُّ فِيهِ ذَلِيلا وَأَنْتَ مَحْسُوبٌ مَنْكُوسٌ، لا يُشْبِهُ الْمَطَامِيرَ وَلا يُجَانِسُ الْحُبُوسَ، الْمَدَرُ فِيهِ فِرَاشٌ وَالتُّرَابُ فِيهِ لُبُوسٌ، أَتُرَى يَكُونُ لَكَ رَوْضَةٌ أَوْ يُشْبِهُ النَّامُوسَ، كَمْ مِحْنَةٍ يَلْقَى ذَلِكَ الْمُلْقَى الْمَرْمُوسُ، رِفْقًا إِذَا وَطِئَتِ الأَحْدَاثُ فَالأَجْدَاثَ تَدُوسُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَطِيرُ إِلَى الأَكُفِّ الطُّرُوسُ، وَتُجْنَى ثِمَارُ الْجَزَاءِ يَوْمَئِذٍ مِنْ قَدِيمِ الْغُرُوسِ، وَتَشْتَدُّ الشَّدَائِدُ فِي قَمْطَرِيرٍ عَبُوسٍ، وَتَذِلُّ الْعُتَاةُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَغَطْرِسُونَ الشُّوسُ، وَيَتَسَاوَى في الخضوع الأتباع والرؤوس، وَتُقَسَّمُ بَيْنَ الْخَلائِقِ خِلَعُ السُّعُودِ وَمَلابِسُ النُّحوُسِ. وَاعَجَبًا لِجُمُودِ ذِهْنِكَ وَأَنْتَ فِي الإِعْرَاضِ تَنُوسُ، كَمْ بَهْرَجٍ وَرَمْلٍ وَكَمْ تَجَلَّى عَلَيْكَ عَرُوسٌ، أَهَذَا الَّذِي تَسْمَعُهُ كَلامُ الْخَالِقِ أَوْ صَوْتُ النَّاقُوسِ، يَا مُؤْثِرًا شَهْوَةَ لَحْظَةٍ تَجْنِي لَهُ حرب

البسوس، يا من قد غلب الأطباء دواؤه أَمَرِيضٌ أَنْتَ أَمْ مَمْسُوسٌ، تَعَنَّى بِعِلاجِكَ " بُقْرَاطُ " وَتَحَيَّرَ " جَالِينُوسُ " سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ قَلْبَكَ...... مِنْ حِجَارَةٍ، تَعَالَى الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ، وَاعَجَبًا لِعَقْلِكَ! الْعَرْضُ مَبْذُولٌ وَالْعِرْضُ مَحْرُوسٌ، جُلُّ هَمِّكَ مَعَ الدُّنْيَا وَحَظُّ الأُخْرَى مِنْكَ مَبْخُوسٌ، ثَوْبُكَ جَدِيدٌ صَحِيحٌ وَلَكِنَّ الْقَلْبَ مَنْكُوسٌ، وَبُلُوغُ الْخَمْسِينَ مُنْذِرٌ وَفِي الستين تضرب الكوؤس، هذا قدر النصائح أفآخذك بالدنوس. (أَنْتَ فِي دُنْيَاكَ ضَيْفٌ ... وَالتَّوَانِي مِنْكَ حَيْفُ) (مَرَّ بِالْقُرِّ شِتَاءٌ ... وَأَتَى بِالْحَرِّ صَيْفُ) (خَاسِرٌ مَنْ نَقْدُهُ حِينَ ... تَقُومُ السُّوقُ زَيْفُ) (فَاغْتَنِمْ أَجْرًا وَذِكْرًا ... حَسَنًا فَالْوَقْتُ سَيْفُ) صِحْ عَلَى فَرَسِ الْجِدِّ وَقَدْ فَرَسَ الْغَايَةُ، مَجَالِسُ الذِّكْرِ فُصُولٌ وَتَعْبِئَةُ الْمَوَاعِظِ شَرَبَاتٌ، فَاصْبِرْ عَلَى مَرَارَةِ الْمَرْكَبِ لَعَلَّ الأَخْلاقَ تَحْسُنُ. وَاعَجَبًا تُفِيقُ فِي الْمَجْلِسِ فَتَنْطِقُ بِلَفْظِ تَوْبَةٍ كَمَا يَفِيقُ الْمَجْنُونُ فَيَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةِ حِكْمَةٍ، فَإِذَا عَادَتِ السَّوْدَاءُ خَلَطَ! (أَيُفِيقُ مِنْ مَرَضٍ كَئِيبٍ ... إِذَا جَنَّ الظَّلامُ عَلَيْهِ أَنَّا) مَتَى كَانَ مَرَضُ الْجَسَدِ عَنْ أَخْلاطٍ مُجْتَمِعَةٍ سَهُلَتْ مُدَاوَاتُهُ، وَمَتَى كَانَ مَرَضُ الْجَسَدِ التَّغَيُّرَ عَنْ فَسَادٍ فِي الْقَلْبِ فَيَا قُرْبَ التَّلَفِ، مُدَاوَاةُ الْعَنِيِّ مُمْكِنٌ، وَأَمَّا مُدَاوَاةُ الْجُنُونِ فَيُتَعَذَّرُ. (جَعَلْتُ لِعَرَّافِ الْيَمَامَةِ حُكْمَهُ ... وَعَرَّافِ نَجْدٍ إِنْ هُمَا شَفَيَانِي) (فَقَالا: شَفَاكَ اللَّهُ وَاللَّهِ مَا لَنَا ... بِمَا ضَمِنَتْ مِنْكَ الضُّلُوعُ يَدَانِ) حَظُّ قَلْبِكَ مِنْ هَذَا الْكَلامِ حَظُّ الصَّدَى مِنْ سَمْعِكَ، عِلَّتُكَ عِلَّةٌ طَرِيفَةٌ يَتَحَيَّرُ فِي...... مِثْلِهَا الْمُدَاوِي، تُسْرِعُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا إِسْرَاعَ جَوَادٍ وَأَنْتَ فِي طَلَبِ الآخِرَةِ جَبَانٌ. إِنْ لاحَ لَكَ ذَنْبٌ وَثَبْتَ وَثْبَ فَهْدٍ وَإِنْ حُرِّضْتَ عَلَى طَاعَةٍ

الكلام على قوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} في هذه النفخة قولان: أحدهما: أنها الأولى والثاني: أنها الثانية. والقولان عن ابن عباس. وأما الصور فروى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأل النبي صلى

أَخَذَكَ فَالِجُ ابْنِ أَبِي دُؤَادَ. (خُذِ الْوَقْتَ أَخْذَ اللِّصِّ وَاسْرِقْهُ وَاخْتَلِسْ ... فَوَائِدَهُ قَبْلَ الْمَنَايَا الدَّوَائِبِ) (وَلا تَتَعَلَّلْ بِالأَمَانِي فَإِنَّهَا ... عَطَايَا أَحَادِيثِ النُّفُوسِ الْكَوَاذِبِ) (وَدُونَكَ وِرْدُ الْعُمْرِ مَا دَامَ صَافِيًا ... فَخُذْ وَتَزَوَّدْ مِنْهُ قَبْلَ الشَّوَائِبِ) الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} فِي هَذِهِ النَّفْخَةِ قَوْلانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الأُولَى وَالثَّانِي: أَنَّهَا الثَّانِيَةُ. وَالْقَوْلانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَمَّا الصُّورُ فَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصُّورِ فَقَالَ: " هُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصُّورُ كَهَيْئَةِ الْبُوقِ. وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ الصُّورَ الْقَرْنُ فِي لُغَةِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَأَنْشَدُوا: (نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْجَمْعَيْنِ ... ) (بِالصَّائِحَاتِ فِي غُبَارِ النَّقْعَيْنِ ... ) (نَطْحًا شَدِيدًا لا كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ ... ) أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ خَيْرُونٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ خَلَقَ الصُّورَ فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ...... شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى الأَرْضِ يَنْظُرُ مَتَى يُؤْمَرُ. قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الصُّورُ؟ قَالَ: الْقَرْنُ. قَالَ: قُلْتُ: فَكَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: عَظِيمٌ وَالَّذِي بَعَثَنِي

بِالْحَقِّ إِنَّ أَعْظَمَ دَارَةٍ فِيهِ كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَيَنْفُخُ ثَلاثَ نَفَخَاتٍ: النَّفْخَةُ الأُولَى نَفْخَةُ الْفَزَعِ. وَالثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ. وَالثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الأُولَى فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَأْمُرُهُ فَيَمُدُّهَا وَيُطِيلُهَا فَلا يَفْتُرُ وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً واحدة مالها من فواق} فَيُسَيِّرُ اللَّهُ تَعَالَى الْجِبَالَ فَتَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ فَتَكُونُ سَرَابًا فَتَرْتَجُّ الأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجًّا فَتَكُونُ كَالسَّفِينَةِ الْمُوقَرَةِ فِي الْبَحْرِ تَضْرِبُهَا الأَمْوَاجُ تُكْفَأُ بِأَهْلِهَا، أَوْ كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَرْشِ تَرُجُّهُ الأَرْيَاحُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} . فَتَمِيدُ الأَرْضُ بِالنَّاسِ عَلَى ظَهْرِهَا فَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ وَيَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً مِنَ الْفَزَعِ حَتَّى تَأْتِيَ الأَقْطَارَ فَتَلْقَاهَا الْمَلائِكَةُ فتضرب وجوهها فترجع، ويولي الناس مدبرين مالهم مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ التناد} فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ تَصَدَّعَتِ الأَرْضُ فَانْصَدَعَتْ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ وَأَخَذَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَرْبُ وَالْهَوْلُ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هِيَ كَالْمُهْلِ ثُمَّ انْشَقَّتْ فَانْتَثَرَتْ نُجُومُهَا وَانْخَسَفَتْ شَمْسُهَا وَقَمَرُها. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالأَمْوَاتُ يَوْمَئِذٍ لا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى حِينَ قَالَ: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ...... وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ "؟ قَالَ: أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ وَقَاهُمُ اللَّهُ فَزَعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَمَّنَهُمْ مِنْهُ، وَهُوَ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هم

بسكارى ولكن عذاب الله شديد " فَيَمْكُثُونَ فِي ذَلِكَ الْبَلاءِ مَا شَاءَ اللَّهُ إِلا أَنَّهُ يَطُولُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِسْرَافِيلَ فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فَيُصْعَقُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ فَيَقُولُ: قَدْ مَاتَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا مَنْ شِئْتَ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُو أَعْلَمُ: مَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لا تَمُوتُ، وَبَقِيَتْ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. فَيَقُولُ: إِنِّي كَتَبْتُ الْمَوْتَ عَلَى مَنْ تَحْتَ عَرْشِي، فَيَمُوتَانِ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: قَدْ مَاتَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَيَقُولُ وَهُوَ أَعْلَمُ: مَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لا تَمُوتُ وَبَقِيَتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَبَقِيتُ أَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلْيَمُتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ فَيَمُوتُونَ وَيَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى الْعَرْشَ فَيَقْبِضُ الْقَرْنَ مِنْ إِسْرَافِيلَ ثُمَّ يَقُولُ: لِيَمُتْ إِسْرَافِيلُ فَيَمُوتُ. ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ مَاتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ: فَمَنْ بَقِيَ؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لا تَمُوتُ وَبَقِيتُ أَنَا. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنْتَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِي خَلَقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ فَمُتْ. فَيَمُوتُ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا: مُتْ ثُمَّ لا تَحْيَا. فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ طَوَى السَّمَاءَ وَالأَرْضَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ ثُمَّ دَحَاهَا ثُمَّ قال: أنا الجبار، لمن الملك اليوم - ثَلاثَ مَرَّاتٍ - فَلا يُجِيبُهُ أَحَدٌ فَيُجِيبُ نَفْسَهُ فيقول: لنفسه: لله الواحد القهار....... ثُمَّ يَبْسُطُ الأَرْضَ بَسْطًا يَمُدُّهَا مَدَّ الأَدِيمِ لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا، ثُمَّ يَزْجُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ زَجْرَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ عَلَى ظَهْرِهَا، ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى مَاءً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ كَمَنِيِّ الرِّجَالِ ثُمَّ يَأْمُرُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ فَوْقَهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الأَجْسَادَ أَنْ تنبت كنبات الطرائيث أَوْ كَنَبَاتِ الْبَقْلِ، حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتْ أَجْسَادُهُمْ فكانت كما

كانت قال الله عز وجل: ليحيى حَمَلَةُ الْعَرْشِ فَيَحْيُونَ فَيَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ فَيَأْخُذُ الصُّورَ فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: ليحي جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فَيَحْييَانِ ثُمَّ يَدْعُو اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الأَرْوَاحَ فَيُؤْتَى بِهَا تَتَوَهَّجُ أَرْوَاحُ الْمُسْلِمِينَ نُورًا وَالأُخْرَى ظُلْمَةً، فَيَقْبِضُهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُلْقِيهَا فِي الصُّورِ، ثُمَّ يَأْمُرُ إِسْرَافِيلَ أَنْ يَنْفُخَ نَفْخَةَ الْبَعْثِ، فَتَخْرُجُ الأَرْوَاحُ كَأَنَّهَا النَّحْلُ قَدْ مَلأَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا. فَتَدْخُلُ الأَرْوَاحُ فِي الْخَيَاشِيمِ ثُمَّ تَمْشِي فِي الأَجْسَادِ مَشْيَ السُّمِّ فِي اللَّدِيغِ ثُمَّ تَنْشَقُّ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا. فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا سِرَاعًا مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا، ثُمَّ يَقِفُونَ مِقْدَارَ سَبْعِينَ عَامًا لا يُنْظَرُ إِلَيْكُمْ وَلا يُقْضَى بَيْنَكُمْ، فَتَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ، ثُمَّ تَدْمَعُونَ دَمًا، وَتَعْرَقُونَ حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ مِنْكُمْ أَنْ يُلْجِمَكُمْ أَوْ يَبْلُغَ الأَذْقَانَ، فَتَصِيحُونَ وَتَقُولُونَ: مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ فَيَقْضِي بَيْنَنَا فَتَقُولُونَ: مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَكَلَّمَهُ قَبْلا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَطْلُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَيَأْتِي وَيَقُولُ. مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ فَيَسْتَقْرُونَ الأَنْبِيَاءَ نَبِيًّا نَبِيًّا كُلَّمَا جَاءُوا نَبِيًّا أَبَى عَلَيْهِمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَتَّى يَأْتُونِي فَأَنْطَلِقَ مَعَهُمْ حَتَّى آتِيَ قُدَّامَ الْعَرْشِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَكًا فَيَأْخُذَ بِعَضُدِي فَيَرْفَعَنِي وَيَقُولَ لِي: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: مَا شَأْنُكَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ وَعَدْتَنِي...... الشَّفَاعَةَ. فَشَفِّعْنِي فِي خَلْقِكَ وَاقْضِ بَيْنَهُمْ. فَيَقُولُ: قَدْ شَفَّعْتُكَ. فَأَرْجِعُ فَأَقِفُ مَعَ النَّاسِ، فَبَيْنَا نَحْنُ وُقُوفٌ إِذْ سَمِعْنَا حِسًّا مِنَ السَّمَاءِ شَدِيدًا فَهَالَنَا، فَيَنْزِلُ أَهْلُ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَأْخُذُونَ مَصَافَّهُمْ، ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَمِثْلَيْ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ حَتَّى يَأْخُذُوا مَصَافَّهُمْ، حَتَّى يَنْزِلَ الْجَبَّارُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية وَهُمُ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ، أَقْدَامُهُمْ فِي تُخُومِ الأَرْضِ السُّفْلَى وَالأَرْضُ إِلَى حِجْرِهِمْ

وَالْعَرْشُ عَلَى مَنَاكِبِهِمْ لَهُمْ زَجَلٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمْ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ سُبْحَانَ الَّذِي يُمِيتُ الْخَلْقَ وَلا يَمُوتُ، سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، سُبْحَانَ رَبِّنَا الأَعْلَى رَبِّ الْمَلائِكَةِ وَالرُّوحِ فَيَضَعُ اللَّهُ كُرْسِيَّهُ حَيْثُ شَاءَ مِنْ أَرْضِهِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِّي قَدْ أَنْصَتُّ لَكُمْ مُنْذُ خَلَقْتُكُمْ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا أَسْمَعُ قَوْلَكُمْ وَأَنْظُرُ أَعْمَالَكُمْ، فَأَنْصِتُوا، فَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ وَصُحُفُكُمْ تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ. ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ جَهَنَّمَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ مُظْلِمٌ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ. ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} إِلَى قَوْلِهِ: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فَيُمَيِّزُ اللَّهُ النَّاسَ وَتَجْثُو الأُمَمَ، فَيَقْضِي بَيْنَ خَلْقِهِ إِلا الثَّقَلَيْنِ الْجِنَّ وَالإِنْسَ فَيَقْضِي اللَّهُ بَيْنَ الْوَحْشِ وَالْبَهَائِمِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُقِيدُ الْجَمَّاءَ مِنْ ذَاتِ الْقَرْنِ، فَإِذَا لَمْ تَبْقَ تَبِعَةٌ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لأُخْرَى يُقَالُ لَهَا: كُونِي تُرَابًا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ ترابا} . فَيَقْضِي اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَا يَقْضِي فِيهِ الدِّمَاءَ فَيَأْمُرُ اللَّهُ كُلَّ مَنْ قُتِلَ فَيَحْمِلُ رَأْسَهُ تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ فَلا تَبْقَى نَفْسٌ قَتَلَهَا قَاتِلٌ إِلا قُتِلَ بِهَا وَلا مَظْلَمَةٌ ظُلِمَ بِهَا إِلا أُخِذَ بِهَا، وَكَانَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ...... إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ رَحِمَهُ، ثُمَّ يَقْضِي بَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْ خَلْقِهِ حَتَّى لا تَبْقَى مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ عِنْدَ أَحَدٍ إِلا أَخَذَهَا الْمَظْلُومُ مِنَ الظَّالِمِ حَتَّى إِنَّهُ لَيُكَلِّفُ شَائِبَ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَبِيعُهُ أَنْ يُخَلِّصَ اللَّبَنَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ نَادَى مُنَادٍ يُسْمِعُ الْخَلائِقَ كُلَّهُمْ فَيَقُولُ: أَلا لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِآلِهَتِهِمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلا يَبْقَى أَحَدٌ عَبَدَ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا مُثِّلَتْ لَهُ الآلِهَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَئِذٍ مَلَكًا مِنَ الْمَلائِكَةِ عَلَى

صُورَةِ عُزَيْرٍ، وَيَجْعَلُ مَلَكًا مِنَ الْمَلائِكَةِ عَلَى صورة عيسى بن مَرْيَمَ فَيَتْبَعُ هَذَا الْيَهُودُ وَيَتْبَعُ هَذَا النَّصَارَى، ثُمَّ قَادَتْهُمْ آلِهَتُهُمْ إِلَى النَّارِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلا الْمُؤْمِنُونَ وَفِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ بَدَأَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: يَا أُيُّهَا النَّاسُ ذَهَبَ النَّاسُ فَالْحَقُوا بِآلِهَتِكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ: مَا لَنَا إِلَهٌ إِلا اللَّهُ وَمَا كُنَّا نَعْبُدُ غَيْرَهُ، فَيَكْشِفُ لَهُمْ عَنْ سَاقٍ وَيَتَجَلَّى لَهُمْ مِنْ عَظَمَتِهِ مَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ رَبُّهُمْ تَعَالَى فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَيَخِرُّ كُلُّ مُنَافِقٍ عَلَى قَفَاهُ فَيَجْعَلُ اللَّهُ أَصْلابَهُمْ كَصَيَاصِي الْبَقَرِ، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الصِّرَاطَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ كَحَدِّ السَّيْفِ عَلَيْهِ كَلالِيبُ وَخَطَاطِيفُ وَحَسَكٌ كَحَسَكِ السَّعْدَانِ، فَيَمُرُّونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ أَوْ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ كَمَرِّ الرِّيحِ أَوْ كَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ أَوْ كَجِيَادِ الرِّجَالِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوشٌ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَهَنَّمَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَآتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيُفْتَحُ لِي فَإِذَا دَخَلْتُ فَنَظَرْتُ إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ خَرَرْتُ سَاجِدًا. تَمَّ الْكِتَابُ بحمد الله تعالى.......

§1/1