التبشير والاستعمار في البلاد العربية عرض لجهود المبشرين التي ترمي إلى اخضاع الشرق للاستعمار الغربي

مصطفى الخالدي

مقدمة الطبعة الثالثة

مُقَدِّمَةُ الطَّبْعَةِ الثَّالِثَةِ: إذا قلنا إن هذا الكتاب قد أدى رسالة لم نكن مُغَالِينَ وَلاَ مُتَبَجِّحِين (¬1). يَسُرُّنَا أنْ يكون هذا الكتاب " التبشير والاستعمار في البلاد العربية " قد شهد خروج الاستعمار من جميع البلاد العربية، وإنْ كان الاستعمار الذي خرج هو الاستعمار الرسمي في أكثر الأحيان. ولقد كان من المنتظر أنْ يتوقف هذا الكتاب عن الصدور في طبعات جديدة لأن الغاية الأولى التي رمينا إليها، وهي فتح عيون المسؤولين سياسيًا وثقافيًا على أخطار التبشير، قَدْ تَحَقَّقَتْ في جانبها الرسمي أو السياسي، غير أن البلاد العربية لا تزال، مع الأسف، ترزح في رواسب الاستعمار وتعاني آلام التبشير. من أجل ذلك لاَ بُدَّ من صدور هذه الطبعة الثالثة حتى يظل المسلمون الذين خرجت بلادهم من الاستعمار الرسمي فاتحين أعينهم على الاستعمار الفعلي الذِي يَتَبَدَّى في التعليم والتطبيب والإذاعات والصحف وَالمَجَلاَّتِ وفي جانب من الأدب الذي يُسَمُّونَهُ ظلمًا أدب الشباب، وهو في الحقيقة أَدَبٌ مُتَحَلِّلٌ من القيم الروحية وَالخُلُقِيَّةِ والاجتماعية، وهو يرمي إلى أنْ يفكك عُرَى الأُمَّةِ العَرَبِيَّةَ حَتَّى يُمَكِّنَ أَغْلاَلَ الاستعمار من أيديها وأرجلها وأعناقها. إن المعركة في هذا الكتاب لم تكن، منذ صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى 1953، معركة خارجية فقط؛ لقد كانت في بعض جوانبها معركة داخلية أيضًا. فَمُبرِّرَاتُ هذه الطبعة إذن لا تزال كثيرة: رواسب الاستعمار، أشكال الاستعمار الجديدة بعد انقراض الاستعمار الرسمي في البلاد العربية، تبدل وسائل التبشير تَوَصُّلاً إلى تثبيت نتائج الاستعمار القديم ثم تنبيه الغافلين من شُبَّانِ العَرَبِ إلى المزالق التي تُلْقَى في طريقهم. في أثناء وجود الطبعة الثانية في الأسواق العربية نقل هذا الكتاب إلى اللغة الروسية وظهرت منه طبعتان في تلك اللغة، فاستطاع هذا الكتاب أنْ يُؤَدِّي رسالة جديدة وراء النطاق الذي كنا قد رسمناه له من قبل. إن جميع ما خبرناه في العشر السنوات التي شهدت تنقل هذا الكتاب بين الأيدي يدل بكل جلاء على أنَّ التَّبْشِيرَ وَسِيلَةٌ إِلَى الاِسْتِعْمَارِ، وَأَنَّ المُبَشِّرِينَ ليسوا - سواءً أعلموا أم ¬

_ (¬1) راجع الطبعة الثانية، ص 9 (رسالة هذا الكتاب).

لم يعلموا، - قصدوا أم لم يقصدوا - سوى طلائع لمطامع الاستعمار. إن الاستعمار قد قتل (باتريس لومومبا)، في عام 1961، مع أن لومومبا صابئ من الوثنية إلى النصرانية بفعل التبشير، لأنه أراد أن يكون في الكونغو استقلال صحيح. وأبرز من ذلك للعيان أن الولايات المتحدة التي ترسل الإرساليات إلى العالم للعمل على نشر النصرانية قد وقفت، في عام 1963، مع البوذيين في فيتنام ضد الحكومة المسيحية في ذلك البلد، إن الدول التِي تُمَوِّلُ الأعمال التبشيرية بملايين الدولارات لا يهمها الذي يصبأون إلى النصرانية إذا كان هواهم السياسي لا يوافق هواها الاستعماري. ولقد رأينا أَنْ نُرْدِفَ هذه الطبعة ببضع صفحات تتعلق بالتبشير والاستعمار في أفريقيا، في بلاد عربية وفي بلاد غير عربية، فالاستعمار شَرٌّ مُعْدٍ ينتقل بين البلاد ولا يفرق بين الجنسيات. إننا نرجو أنْ تُؤَدِّي هذه الطبعة قسطها من الرسالة التي بدأتها الطبعة الأولى وأكدتها الطبعة الثانية. وعسى أن ينقرض الاستعمار كله من جميع البلاد وأن يبطل التبشير احترامًا للحرية الانسانية واحترامًا للدين نفسه إجلالاً له عن أن يكون وسيلة مادية لمغانم دنيوية. وإذا نحن تطرقنا في موقفنا إلى الجانب الأقصى رأينا أن نَفَرًا من المبشرين قد احترفوا نقل المعلومات بين الدول في ثياب التبشير: وزعت وكالة " تاس " السوفياتية في بيروت (¬1) مقالاً نشرته جريدة " برافدا " في موسكو لمراسلها في بكين عاصمة الصين، وقد جاء في هذا المقال: «لَقَدْ أَدْخَلَ الاِسْتِعْمَارِيُّونَ الأَمَرِيكِيُّونَ إِلَى الصِّينِ مُبَشِّرِينَ مِنْ مُخْتَلَفِ المَذَاهِبِ اِسْتَخْدَمُوهُمْ مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ فِي أَعْمَالِ الجَاسُوسِيَّةِ». في هذا المقال اِتِّهَامَاتٌ مُوَجَّهَةٌ ووقائع مسرودة قد تكون، من حيث التفاصيل، موضع جدل، وقد يكون فيها مبالغة كما قد يكون فيها ظلم لنفر من المبشرين المخلصين لمذاهبهم وعملهم فيما يتعلق بهم أنفسهم، ولكن الذي لا ريب فيه أن الدول المستعمِرة، جميع الدول المستعمِرة، قد لجأت إلى الثوب الديني لتثبيت نفوذها ونشر مبادئها وخدمة مصالحها في كل مكان استطاعت فيه إلى ذلك سبيلاً. يرى القارئ في ثنايا هذا الكتاب أن نَفَرًا من المبشرين كانوا مخلصين لعملهم الروحي ¬

_ (¬1) في النشرة الصادرة في الثالث عشر من حزيران من عام 1951 (واحد وخمسين) في العدد 113 (مائة وثلاثة عشر).

أو الديني، أخطأوا في ذلك أم لم يخطئوا، وليس من غايتنا في هذا الكتاب أن نتعرض للتبشير كحركة دينية يقع فيها التنازع، ولكننا نريد أَنْ نُبرِزَ الصلة الموجودة في معظم الأحيان بين التبشير في صوره المخلتفة وبين التمهيد للنفوذ الأجنبي ثم بين التبشير وبين تثبيت هذا النفوذ في العالم العربي، والواقع أن هذه الصلة موجودة وبارزة جِدًّا. ومما يلاحظ أن بريطانيا وفرنسا حرصتا، قبل أن تخرجا مضطرتين من عدد من مستعمراتهما الأفريقية، على أَنْ تُمَهِّدَ في كل دولة أعطيت استقلالها السياسي، لمجيء رجل صابئ إلى رئاسة الدولة في المستعمرة المستقلة حديثًا. إنهما تعتقدان أن الصابئ يكون أميل إلى السياسة الغربية من غير الصابئ، ذلك لأن المسيحية في رأيهما تجمع بين ذلك الصابئ وبينهما أكثر مما تجمع بين الصابئ وبين قومه الأولين من المسلمين أو الوثنيين، ومع أننا عرفنا نفرًا من هؤلاء قد خَيَّبُوا ظَنَّ بريطانيا وفرنسا في ذلك، فإن نفرًا آخرين كانوا كما شاءت بريطانيا وفرنسا. ولعل القطعة التالية المأخوذة من مجلة " روز اليوسف " (¬1)، مع شيء من التلخيص والتصرف، تمثل الحال الثانية تمثيلاً صحيحًا: توقّع البعثات التبشيرية في السنيغال مع عدد من الأسر السنيغالية الفقيرة عقودًا تقدم بموجبها تلك البعثات التبشيرية إلى الأسر السنيغالية مساعدات عينية (ضئيلة) من أرز مثلاً في كل شهر على أن يكون لها حق باختيار طفل من أطفال الأسرة تربية على حسابها. ويكون في العقد مادة تَنُصُّ على أن الأسرة مجبرة على رَدِّ ثَمَنِ المساعدات وعلى دفع نفقات ابنها ونفقات تعليمه إذا هي خالفت شروط العقد (بطلب استرداد ابنها مثلاً). وتختار البعثة التبشيرية من أطفال تلك الأسرة صبيًا دون الخامسة من العمر ثم ترسله إلى مدرسة (تبشيرية طبعًا). وينقطع الصبي عن أهله وَيُنْشَأُ تَنْشِئَةً مَسِيحِيَّةً ثُمَّ يُرْسَلُ إلى فرنسا لاتمام علمه العالي. بعدئذٍ يُعَادُ إلى السنيغال ليستخدم في الأغراض التي توافق هوى فرنسا. وحينما يعود الصبي السنيغالي الذي أصبح رجلاً مسيحيًا فرنسيًا إلى السنيغال يمنح حق المواطن الفرنسي في المستعمرات من حيث المستوى الاجتماعي والوظائف. ويضرب كاتب المقال في مجلة " روز اليوسف " (في العمود الرابع، الأسطر 41 - 44) على ذلك مثلاً فيقول: «أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ كَلِمَةَ " سَانْجُورْ " (اسْمُ رَئِيسِ جُمْهُورِيَّةِ السِّنِيغَالْ الحَالِي) مَعْنَاهَا ¬

_ (¬1) القاهرة، السنة 39، العدد 1847، بتاريخ الاثنين في 4 - 11 - 1963، الصفحة 26.

سَانْ جُورْجْ (القِدِّيسْ جُورْجْ) ... وَأَنَّ رَئِيسَ الجُمْهُورِيَّةَ مَسِيحِيٌّ .. لَكِنَّ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ مُسْلِمُونَ». وفي الصفحة المشار إليها من مجلة " روز اليوسف " مقطع متمم للمأساة الناتجة من التبشير والاستعمار: اتفق أن كان أول رؤساء الوزارة في السنيغال رجل مسلم اسمه محمد ضيا (*). وكان محمد ضيا يرى أن من مصلحة بلاده أن تستقل عن المجموعة الفرنسية وتنهج طريق الحياد والاشتركية. وسافر محمد ضيا إلى دول الكتلة الاشتراكية .. ثم عاد ليجد نفسه متهمًا بتدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم. وَسُجِنَ محمد ضيا وأصبحت جميع السلطات في يد «سانجور» رئيس جمهورية السنيغال بعد أن أصبح نظام الحكم رئاسيًا. ومما يدل على أن الروح الديني الصحيح شيءٌ وأن التبشير شيء آخر بَرْقِيَّةٍ نشرتها جريدة " الطيار والتلغراف " (¬1). هذه البرقية هي التالية: «بِرْمِنْغْهَامْ - وِلاَيَةُ أَلاَبَامَا (الوِلاَيَاتُ المُتَّحِدَةُ الأَمِيرِيكِيَّةُ - رُويْتَرْ: دَمَّرَ انْفِجَارٌ عَنِيفٌ كَنِيسًا (¬2) لِلْزُّنُوجِ أَثْنَاءَ قُدَّاسِ هُنَا اليَوْمَ وَأَصَابَ الأَبْنِيَةَ المُجَاوِرَةَ بِأَضْرَارٍ. وَذَكَرَ البُولِيسْ أَنَّ أَرْبَعَةً مِنَ الزُّنُوجِ قُتِلُوا فِي الحَادِثِ وَأُصِيبَ عَدَدٌ آخَرَ بِجِرَاحٍ». إن هؤلاء الزنوج لَمَّا حُمِلُوا على النصرانية في الولايات المتحدة، بدوافع مختلفة، لم يصبحوا جُزْءًا من المجتمع المسيحي فهم هنالك منبوذون مقهورون بالتمييز العنصري. والأمريكيون البيض يريدون من هؤلاء أن يسايروا السياسة الأمريكية في الداخل والخارج من غير أنْ يَتَمَتَّعُوا بشيء من امتيازات البيض أو من حقوق البيض على الأقل. ¬

_ (*) جاء محمد ضيا إلى بيروت وتزوج فتاة بيروتية مسلمة. ومن الطريف أن عددًا من الجرائد كانت تكتب اسمه هكذا: «مامادو ديا». (¬1) بيروت، 16/ 9 / 1963، الصفحة 12 أسفل العمود الرابع. (¬2) كذا في الأصل، والمقصود كنيسة.

الكلمة الأولى: منهاج هذا الكتاب

الكَلِمَةُ الأُولَى: مِنْهَاجُ هَذَا الكِتَابِ: لعل كتابنا هذا يصلح أن يكون دليلاً في يد الجيل الناشئ يتتبع فيه جهود المبشرين وسعيهم إلى زعزعة عقيدة الناشئة الشرقية عامة والإسلامية خاصة، ثم تهيئة هذه الناشئة بأساليبهم المختلفة لقبول النفوذ الغربي والاستكانة إلى الاستعمار. لقد كنا دائمًا نعتقد أن المدارس الأجنبية والمؤسسات الأجنبية - حتى الجمعيات الخيرية والعلمية التي ينشئها الأجانب في بلادنا على اختلاف الأسماء والنزعات، والأديان والدول - إنما هي في الحقيقة سُبُلٌ تَتَشَعَّبُ عند الانطلاق ولكنها تلتقي عند غاية قصوى واحدة: السيطرة على الشرق، السيطرة الثقافية والدينية والسياسية. وَلَقَدْ تَبَيَّنَ لأصحاب هذه المؤسسات أن المسلمين خاصة أصلب الناس عُودًا فِي تَقَبُّلِ هذا النفوذ الأجنبي فراحوا يُوَجِّهُونَ جهودهم إلى المسلمين خاصة، مع الاهتمام بغير المسلمين من الشرقيين، على ما يبدو جَلِيًّا في ثنايا هذا الكتاب. ولقد اتَّفَقَ الكثير من الناس أن اعتقدوا مثلنا أن المدراس والمستشفيات ومؤسسات الإحسان إنما هي مؤسسات منظمة للتبشير في الدرجة الأولى. ولكن القليلين فقط يدركون أن هذه المؤسسات نفسها، وأن كثيرًا من البيوت التجارية الأجنبية والهيئات الرسمية الأجنبية، كانت ولا تزال وسائل للتبشير المُمَهِّدِ لبسط النفوذ الأجنبي. ومَنْ مِنَّا كان يعتقد أن الفتن الطائفية كان ينفخ فيها رجال أتَوْا إلى هذه البلاد على أجسامهم ثياب التقوى وينتحلون مظاهر العلم؟ ومَنْ مِنَّا كَانَ لاَ يُصَدِّقُ أن رجالاً جاءوا إلى بلادنا ليرأسو

مؤسسات علمية مشهورة بالعلم كانوا مُبَشِّرِينَ في الدرجة الأولى؟ لقد حرصنا نحن على أنْ نثبت هذه التهم الكبرى بشواهد من كتب المُبَشِّرِينَ أنفسهم. تلميحًا أو تصريحًا، ولقد فضلنا في الاستشهاد التصريح على التلميح. أما الكتب التي رجعنا إليها ودرسناها فإنها تعيا على الحصر، إنها تُعَدُّ بالمئات، ولكننا نحن لم نثبت الشواهد إلا من نوعين من هذه الكتب الكثيرة: كُتُبُ المُبَشِّرِينَ المَعْرُوفِينَ، والكتب التي تُصَرِّحُ بغاياتها تصريحًا لا التواء فيه ولا غموض (¬1). وكذلك لم نثبت نحن كل شيء ورد في هذه الكتب، فإن كثيرًا مما ورد فيها مُكَرَّرٌ فيها جميعها، ثم إن بعض الآراء والحقائق تتفرع من أصول معروفة، ولقد اكتفينا بأصول الحقائق والآراء واعتقدنا أن القارئ الكريم يتسطيع أن يدرك الفروع التفصيلية بأهون نظر. على أننا في هذا الكتاب سنتناول الكلام على الأُمَّةِ الإِسْلاَمِيَّةِ، وَسَنَخُصُّ بالكلام بلاد الشرق العربية من مراكش غربًا إلى العراق شرقًا، ومن أعالي الشام شمالاً إلى اليمن جنوبًا. لم يحاول أحد بَعْدُ وضع مثل هذا الكتاب في اللغة العربية. ولقد رأينا أن واجبنا الديني والقومي والوطني يدعونا إلى أداء هذا الواجب وحمل هذه الرسالة على بعدها عن مباحث اختصاصنا وعلى طول الوقت الذِي تَتَطَلَّبُهُ. إلاَّ أننا أدركنا أن السكوت عن هذا الخطر أَشَدَّ ضَرَرًا على قومنا من إهمال موضوعات اختصاصنا. ونحن نعتقد أن القارئ بعد أن يبدأ قراءة هذا الكتاب سيرى صواب ما نقوله. إن التبشير أشد ضررًا على بلادنا من الاستعمار، لأن الاستعمار لم يَنْفُذْ إلى بلادنا إلا تحت ستار التبشير! فَحَبَّذَا أن يصل كتابنا هذا إلى الأيدي التي تستطيع أنْ تستفيد مما فيه من درس ومن حقائقه المجموعة، ثم تضع هي مناهجها الخاصة لمتابعة الرسالة: مقاومة التبشير من الناحية العملية في البيئات المختلفة بكل سبيل ممكنة. ¬

_ (¬1) راجع الكلمة الثانية.

إنَّ الإسلام صلب الشرق. فإذا وهن الإسلام وهن الشرق كله. فعسى أن نكون فعلاً قَدْ أَدَّيْنَا خدمة للفئة المختارة من قومنا وَمِنْ أُمَّتِنَا من أولئك الذين يتطلعون إلى إصلاح قريب لإنهاض العرب وإيقاظ المسلمين. المُؤَلِّفَانِ 23 جمادى الأولى 1372 هـ - 8 شباط 1953 م.

الكلمة الثانية: رسالة هذا الكتاب

الكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ: رِسَالَةُ هَذَا الكِتَابِ: إذا قلنا إن هذا الكتاب قد أدى رسالة لم نكن مُغَالِينَ وَلاَ مُتَبَجِّحِينَ. لقد فتح هذا الكتاب عُيُونًا كثيرة على أخطار كانت خافية على نفر كبير من المُخْلِصِينَ مِمَّنْ لا يعرفون اللغات الأجنبية ليقرأوا ما يكتب فيها، وَمِمَّنْ يعرفون اللغات الأجنبية ولكن لم يرزقوا الجَلَدَ عَلَى تَتَبُّعِ الموضوعات الجافة كموضوع التبشير، ثم مِمَّنْ يضيق وقتهم بأعمالهم السياسية أو الإدارية أو المهنية عن القراءات الواسعة في الكُتُبِ وَالمَجَلاَّتِ. ثم إنه ليس من الحق، ولا من الممكن أنْ نطلب مِنْ كُلِّ مُخْلِصٍ أن يفعل ما فعلناه نحن: أن يسلخ عشر سنوات في تتبع الموضوع واقتصاص آثار المُبَشِّرِينَ في أنحاء الوطن العربي. من أجل ذلك قمنا نحن بهذا العمل وقدمنا خلاصة له في صفحات قليلة. وليثق القارئ بأن الأثر المفيد الذي أحدثه هذا الكتاب قد أَنْسَانَا السَّهَرَ فِي تَقَصِّي مَوَادِّهِ مِنْ كُلِّ مَصْدَرٍ وَمِنْ كُلِّ مَرْجَعٍ. ولقد ملأ نفوسنا غبطة أنَّ نفرًا كريمًا من الحاكمين ومن المشرفين على الحركات الإصلاحية قد عُنُوا بهذا الكتاب ورأوا فيه ما قصدنا نحن منه: هنالك أخطار كنا نشعر أنها أخطار، وكنا نعتقد بوجودها من قرائن كثيرة، ولكن الأدلة المقنعة كانت تعزونا. فلما جاء هذا الكتاب واستخرج الأدلة مِنْ كُتُبِ المُبَشِّرِينَ وَالمُسْتَعْمِرِينَ أَنْفُسُهُمْ لم يبق مجال للشك في صحة ما كنا نشعر به وصواب ما كنا نعتقد. صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب منذ ثلاث سنوات، فلما أردنا إصدار هذه الطبعة

الثانية كَانَ تَجَمَّعَ لَدَيْنَا مصادر ومراجع كثيرة جِدًّا. وكان بعض هذه قد صدر بعد خروج الطبعة الأولى، كما كان بعضها قديمًا ولكن لم نستطع في ذلك الحين أن نصل إليه. على أن قسمًا كبيرًا من هذه الكتب لا ينطوي على مادة جديدة، ولم يكن من خطتنا أن نجمع الأشياء المتشابهة - وإن كان جمعها يفيد أحيانًا - لِئَلاَّ يزيد حجم الكتاب كثيرًا فيخرج من متناول القارئ العام ويفقد جانبًا من رسالته. وكذلك حرصنا على أن نقصر اعتمادنا في هذه الطبعة أيضًا، كما فعلنا في الطبعة السالفة، على المصادر الأجنبية مِمَّا بَيَّنَّا الغَايَةَ مِنْهُ فِي «الكلمة الأولى». ولكننا شذذنا عن هذه القاعدة فيما يتعلق بثلاثة كتب: أ - " الغارة على العالم الإسلامي " (¬1) (*): كانت مجلة " العالم الإسلامي " الفرنسية (¬2) قد نشرت موجزًا لمقررات عدد من المؤتمرات التي عقدها المبشرون البروتستانت بقلم أ. لو. شاتليه. وقد رأى مساعد اليافي ومحب الدين الخطيب أَنْ يُلَخِّصَا ما نشره لو. شاتليه وينشراه تباعًا في جريدة " المؤيد " التِي كَانَا يُحَرِّرَانِ فِيهَا، وذلك في سَنَةِ 1330 للهجرة (1912 م). ثم إنهما أعادا نشر هذه المقالات نفسها في جريدة " الفتح " المصرية سَنَةَ 1349 للهجرة (1930 م). بعدئذٍ جمعاها في كتاب مستقل صدر عن المطبعة السلفية ومكتبتها في العام التالي. ولا ريب في أَن وضع مثل هذا الكتاب في يد القارئ المسلم كان عظيم النفع. ولكن الكتاب في حقيقته خلاصة لجهود المبشرين كما يراها المبشرون، فهو وَإِنْ كَانَ يُنَبِّهُ عَلَى أَضْرَارِ التَّبْشِيرِ فإنه لا يربط جهود المبشرين بالنتائج الدينية والسياسية التي أدت فعلاً إلى الأضرار بالعالم الإسلامي. ثم إن هذا الكتاب خلاصة عربية لخلاصة فرنسية لمادة إنجليزية محدودة. ومع أن جميع المُلَخَّصَاتِ في كتاب " الغارة على العالم الإسلامي " كانت في شكلها المطول وفي كتبها الأصلية من مصادر كتابنا " التبشير والاستعمار "، فإننا نعتقد أن كتاب " الغارة " هذا قد أَدَّى خِدْمَةً فِي زَمَنِهِ، وأن مساعد اليافي ومحب الدين الخطيب قد حاولا فتح عين المسلمين على شيء من أخطار التبشير منذ نحو جيلين من الدهر. ¬

_ (¬1) مجموع مقالات «لخَّصها ونقلها إلى اللغة العربية مساعد اليافي ومحب الدين الخطيب» من: La Conquète du Monde Musulman par A . Le Chatelier نشرت في جريدة " المؤيد " (مصر) سنة 1330 (للهجرة) وفي صحيفة " الفتح " (مصر) سنة 1409 هـ، ثم جمعت في كتاب نشرته المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة 1350 هـ (1931 م) (¬2) Le Monde Musulman. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) بفضل الله وَمَنِّهِ الكَرِيمِ، قُمْتُ بإنجاز هذا الكتاب وتحويله إلى نسق المكتبة الشاملة حتى يستفيد منه أكثر عدد ممكن من الباحثين المسلمين خُصُوصًا وغير المسلمين عُمُومًا.

ب - " لبنان الطائفي ": (¬1) أريد من هذا الكتاب أنْ يكون «رَدًّا» على كتاب " التبشير والاستعمار "، ولكنه جاء سَنَدًا له وشهادة مُزكَّاةً فيه. ثم إن صاحبه قد ذكر فيه أشياء لو ذكرناها نحن أو لو ذكرنا مثلها لأثرنا عاصفة هوجاء تضيع في ريحها الغاية التِي تَوَخَّيْنَاهَا. أَلَّفَ هَذَا الكِتَابَ أنيس صايغ، وهو مثلنا خِرِّيجُ الجامعة الأمريكية في بيروت. ونشر الكتاب «دار الصراع الفكري»، وهي مؤسسة يشرف عليها الحزب القومي السوري. فإذا كان أنيس صايغ قد أَلَّفَ هَذَا الكِتَابَ بدافع من نفسه هو فقد وجب علينا شكره لأنه عرض للموضوع بإخلاص. ومع أنه قد نسب إلى الإسلام وإلى نفر من المسلمين تُهَمًا مُتَعَدِّدَةً، فإننا نغتفر له هفواته فيها لقلة عنايته بالتاريخ وتعليله وَلِحَدَاثَةِ سِنِّهِ وَضَآلَةِ اِخْتِبَارِهِ. ثم إنه قد عرض للطائفية وإثارة الفتن توصلاً إلى الاستعمار، وخصوصًا في سورية ولبنان، بصراحة وإصرار نَزْعًا عن الدسائس الاستعمارية في بلادنا ستارًا كان كثيفًا. ومع أن أنيس صايغ قد حاول أنْ «يُوَزِّعَ» التُّهَمَ بين الذين اتَّهَمَهُمْ بالسوية، فإنه جعل مركز الثقل في مكان دون مكان، لأن ضميره كان مستيقظًا وهو يؤلف كتابه، سوى غفوات يسيرة كان يذكر فيها «المسيحيين» وهو يقصد «البِيزَنْطِيِّينَ». ولكنه كان أحيانًا يعود فيستيقظ وشيكًا ليذكر البيزنطيين من غير أن يحاول الإيحاء للقارئ، من طريق تسميتهم باسم آخر، بأنهم من أهل البلاد الوطنيين. والواقع أن المراجع التي أخذ عنها قد خدعته كثيرًا في هذا الشأن. وأما إذا كان أنيس صايغ قد استجاب في تأليف كتابه لنفر أفلتت الإشارة إليهم منه في مواضع ظاهرة في ثنايا كتابه، فإن علينا أيضًا أن نشكره. لقد أرادوا منه أن يحملهم على ضميره فحملهم على علمه، وأرادوا منه أن يعينهم على خصومهم فأعان الحق عليهم. إننا نحن لا نزال نعتقد أن التبشير كله شر. لأن الأمريكيين والإنجليز والفرنسيين والهولنديين ومن لَفَّ لَفَّهُمْ يقولون خيرًا بأفواههم بينما آثار أيديهم ظاهرة لنا في فلسطين والمغرب والهند الصينية وقبرص وكشمير وجنوبي أفريقيا وفي الولايات المتحدة نفسها. إن على هؤلاء كلهم أن يغسلوا أيديهم من دماء ضحاياهم على الأقل قبل أن يمثلوا على ¬

_ (¬1) تأليف أنيس صايغ، دار الصراع الفكري، بيروت 1955.

مسرح الإنسانية دور المحسن الكريم. إن أساتذة الجامعات في الولايات المتحدة هم الذين يشنقون الزنوج الأمريكيين على جذوع الأشجار، وهم الذين ينشرون الظلم الأمريكي في العالم. إن هؤلاء الأساتذة يملكون توجيه الناشئة في أيديهم، والناشئ الأمريكي لا يولد وهو يحمل العداوة للشعوب الملونة، ولكنه يحملها بعد أن يولد، يُحَمِّلُهُ إِيَّاهَا أَبَوَاهُ أَوْ مُعَلِّمُوهُ أَوْ قَادَتُهُ. فكيف يصح في العقل أن الأساتذة الأمريكيين الذين يعلمون أهل الأرض يعجزون عن تعليم أبنائهم؟ أما نحن العرب فإننا خَيِّرُونَ، على اختلاف أصولنا ومذاهبنا. وما تناحرنا الحاضر إلا لأن المصالح الأجنبية تتعهدنا بالشر. يجب على الحكومات العربية كلها أن ترقب نشاط هذه المؤسسات الأجنبية كلها - والمؤسسات العلمية في الدرجة الأولى حتى يرتفع الشر كله من البلاد العربية. لقد كان هذا المنتظر أَنْ يُحْدِثَ كِتَابُ " لبنان الطائفي " ضَجَّةً لأنه تكلم عن نفر من ذوي المراكز المرموقة وعن بعض المؤسسات بما يوجب اتهام بعضها عند بعض في قوميتها ووطنيتها، حسب ما ينظر كل فريق من الفريقين إلى القومية وإلى الوطنية. ثم إنه سمى أشياء بأسمائها ونسبها إلى أشخاص بأسمائهم. ولكن ضياع أثر الكتاب بعد خفوت صوته دليل على أنه لم يلق «تَرْوِيجًا»، إِذْ يَبْدُو أَنَّ الذِينَ كَانَ يَهُمُّهُمْ أَنْ يَظْهَرَ هَذَا الكِتَابُ عَلَى مَا تَخَيَّلُوا لِيُرَوِّجُوا لَهُ رَأَوْهُ، بَعْدَ أَنْ طُبِعَ، عَلَى خِلاَفِ مَا أَمَّلُوا فَسَكَتُوا. أما رأينا في هذا الكتاب فهو أنه يجب على المواطنين المحبين لوطنهم أن يقرأوه حتى يعرفوا الزوايا التي يهب علينا منها ريح الاستعمار، وَالحُفَرِ التي تثب منها القلاقل والفتن. ج - " الاستعمار عدو الشعوب ": هذا الكتاب بقلم عبد العزيز فهمي (¬1)، ويمتاز بأنه يحاول أن يرى الاستعمار في صوره المختلفة، غير أنه يؤكد جوانبه المادية وحدها ويُعَرِّجُ عَلَى التَّبْشِيرِ تَعْرِيجًا. هذا الكتاب يضرب أمثلة مفيدة تساعد على فهم الاستعمار الغربي النازل بالشرق مع المشاريع الاقتصادية الغربية. • • • وهنالك كتاب آخر لا بُدَّ من ذكره هنا وإن كنا لن نأخذ منه شيئًا ولن نعطيه شيئًا ولن ¬

_ (¬1) مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1953.

نستشهد به، لأن غايتنا مخالفة لغايته، وطريقنا إلى القارئ غير طريقه. هذا الكتاب اسمه " لبنان وطن قومي للنصارى في الشرق الأوسط ". هذا الكتاب الذي ظهر في اللغتين العربية والإنجليزية، وفي الفرنسية والإسبانية وغيرهما في الأغلب، ثم وزع في المهاجر المختلفة في الأكثر لا يحمل اسم مؤلف ولا اسمًا لمكان الطبع ولا تعيينًا لزمان الطبع. والذي يقرأ هذا الكتاب لا يخفى عليه ما أريد منه من الدَسِّ على أبناء الوطن وعلى التاريخ والحقيقة. ومع أن هذا الكتاب لا يخفى عليه ما أريد منه من الدَسِّ على أبناء الوطن وعلى التاريخ والحقيقة. ومع أن هذا الكتاب الصغير (فهو واحد وخمسون صفحة باللغة العربية، وخمسة وثلاثون بالإنجليزية) قد يثير حفيظة الجاهل إذا قرأه فإنه يثير شفقة العاقل على الذين كتبوه ونشروه، فهو فضلاً عما فيه من افتراء على التاريخ، بَعِيدٌ جِدًّا عن كل فكرة سياسية صحيحة. ونحن لا نريد تفنيد ما في الكتاب بعد أَنْ قَرَّرْنَا أَلاَّ نستشهد به في كتابنا. • • • إننا نرجو أن يستمر كتابنا هذا في أداء رسالته بَيْنَ عَامَّةِ القُرَّاء فيفتح عيونهم على أخطار التبشير ثُمَّ يُنَبِّهُهُمْ إلى الطرق التي يتلافون بها تلك الأخطار. وكذلك نرجو أنْ يظل دليلاً صالحًا في أيدي القائمين على الحركات الإصلاحية. إِنَّ هَذَا الكِتَابِ إِذَا حَقَّقَ ذَلِكَ، أَوْ حَقَّقَ بَعْضَهُ فَقَطْ، يَكُونُ قَدْ أَدَّى رِسَالَتَهُ كُلَّهَا، أَوْ أَدَّى بَعْضَ رِسَالَتِهِ عَلَى وَجْهِهَا. الأحد 3 شوال 1375 هـ - 13 أيار 1956 م. المُؤَلِّفَانِ

مصادر هذا الكتاب

مَصَادِرُ هَذَا الكِتَابِ: مصادر هذا الكتاب كثيرة جدًا، ولكننا نجتزئ هنا بذكر نحو مائة مصدر ومرجع، ثم بعدد آخر يجده القارئ في ثنايا الحواشي. ويلاحظ القارئ أننا أهملنا في هذا الفهرس أنواعًا من الكتب: أولها الكتب العربية بأنواعها، لأن المهم أن نرى ما يقول الأجانب لأنفسهم عنا، لا أن نرى ما نقول عن أنفسنا. ثم إننا أهملنا الكتب التي تبحث في الإسلام بحثًا موضوعيًا، إذ لا صلة لها بموضوعنا البتة. وكذلك أهملنا كتب الردود والمهاترات والكتب التي ألفها أصحابها للتحامل على الإسلام فقط، ذلك لأنها كتب لا قيمة لها في شيء. ونحن نحب أن يلاحظ القارئ أنواع هذه الكتب واتجاهها وما تدل عليه عناوينها. فإنها وحدها دراسة تامة. ثم إن القارئ يستفيد من هذه الكتب إذا أراد أن يتابع الموضوع بنفسه. Addison-The Christian Approach to the Moslem, By James Thayer Addison,N. Y.1942 All-Persia intermission Conference. Teheran 1926, Mission problems in New Persia, London 1926 Becker- Islamstudien, von C. H. Becker, zwei Baende, Leipzig 1924 und 1932 Bianquis - Les nouveaux devoirs du protestantisme francais en Syrie, Paris 1926 Bliss - Reminiscences of Daniel Bliss, London 1920 Bliss (E) - Ecumenical Missionary Conference, By Edwin M. Bliss, N. y. 1900 Bliss(En) - The encyclopedia of Missions, by Edwin M. Bliss (Editor) 2 vols. N. y. 1891 Bliss(R) - The Religions of Modern Syria and Palestine, by Frederick Jones Bliss, N. y. 1912 Browne - The prospects of Islam, Lawrence E. Browne, London 1944 ِ Bunson- Islam or true Christianity, by Ernest de Bunsen, London 1889 Bury- Pan Islam, by G. Wyman Bury, London 1919 Cash - The Moslem World in Revolution, by W. Wiilson Cash, London 1926 Cash (E) - The Expansion of Islam, by W. Wilson Cash, London 1928 Cauly - Recherche de la vraie religion, par Mgr. E. Cauly, Paris 1928 Christian Workers - Conference of Christian Workers among Moslems, N. Y. 92 Christians and Mohammdams, by George Herrick, N. Y. ca. 1912 Christian Literature in the Moslem Lands, by a Joint Committee, N. Y. 1923

Christian (The) Mission in Moslem World, by William Schermerhorn, N. Y. 1933 Christian Missions and Oriental Civilization by Maurice Thomas Price, Shanghai 1924 Christian Missions and Social Progress, James Dennis, 3 vols., N. Y. 1898 Continental Survey of Foreign Missions. by Rev. James Dennis, N. Y. 1902 Cooperation and the World Mission, by James Raleigh Mott, N. Y. 1938 Danby - Why "Christian" Schools ? or what can Christian Schools contrlibute ? with particular Reference to Palestine, by H. Danby, Jerusalem 1936 The Decisive Hour of Christian Missions, by John Raleigh Mott, N. Y. 1910 The Democratie Movement of Asia, Tyler Dennett, N. Y. 1918 Echos from Edinburg, by William Henry Gairdner, N. Y Enc. Am. - Eneyclopedia Americana Enc. Br. - Encyclopaedia Britannica Enc. Miss. - Encyclopedia of Missions Faris - Reapers of His Harvest, by John T. F'aris. London 1911 The Evangelisation of the World in this Generation. by John Raleigh Mott, N. Y. 1900 Five Decades and a Forward View, by John Raleigh Mott. 1939 Foreign Missions after a century, by James S. Dennis, 3 ed, edition. N. Y. 1893 Garrison - The March of Faith, by Winfred Ernest N. Y. 1933 Harrison- Doctor in Arabia. by Paul W. Harrison, London 1943 Hartmann - Islam, Mission, Politik, von Martin Leipzig 1912 History of Protestant Missions, by Gustav Warneck, Edinburg 1901 The History the Protestant Missions in India. London 1884 International Missionary Council, Jerusalem 1928, 8 vols. , London 1928 Islam and Missions, by E. M. Vherry, S. M. Zwemer and C. G. Mylrea, N. Y. 1911 L'Islam et l'Occident (les cahiers du Sud, 1947 The King's Highway, West Melford (ca. 1915 The Layman's Foreign Mission Inquiry, Report, 7 vols., N. Y. 1933 Jessup - Fifty-Three years in Syria, by Henry Harris Jessup, N. Y. 1910 Les Jésuites en Syrie 1831 - 1931, 12 parties en deux vols., Paris 1931 Jung - Les arabes et l'Islam en face de nouvelles croissades et Palestine et sionisme, Paris 1931 Kilgour - The Bible throughout the world, by R. Kilgour, London 1939 Lawrence - Modern Mission in the Near East, by Edward A. Lawrence New York 1895 Levonian - Islam and Christianity, by Lootfy Levonian, London 1940 Levonian (M) - Moslem Mentality, by Lootfy Levonian, London 1928 Lucknow Conference, Lucknow (India) 1911 Macdonald - Najla, the Sheikh's Daughter, by Jan Macdonald, London 1944 Margoliouth - Mohammedanism, by David Samuel Margoliouth, London 1921 Medical Missions, by John Lowe. N. Y 1896 Methods of Mission work among the Moslems, Being those papers read at the First Misslonary Conference on behalf of the Mohammedan World held at Cairo, Apr. 4th. to 8th.; 1906 (Crossed : For private Circulattion only) , N. Y. 1906 Mllligan - Facts and Falks in Our Fields Abroad, by Anna A. Milligan, Philadelphia 1921 Missionary Herald, Letters of the Missionaries in Syria and the Near East 1830 - 1842, Boston 1830 - 1842

Missionary Heroines, by E. R. Pitman, N. Y. 18 The Missionary Outlook in the Light of war and the Religious Outlook, N.Y. 1920 Mission Fields - Religions of Mission Fields as Viewed by Protestant Mission -aries, ..... 1905 Missions from the Modern View, by Robert A. Hume, N. Y. ca. 1905 The Modern Mission Century, by Arthur T. Plerson, N. Y. ca. 1901 MW - The Moslem World, A Christian Quarterly Review of Current Events, Literature and Thought among the Mohammedans, N. Y Nashville Convention, 1906, Students and the Modern Missionary Crusades The New Horoscope of Missions, by James Dennis, N. Y. ca. 1908 Oxford - What is the Oxford Group ? by Layman, with a Notebook, London 1933 The Pastor and Modern Missions, N. Y. 1904 Penrose - That They May Have Life, by Stephen B. L. Penrose, N. Y. 1941 The Picket Line of Missions, by W. F. McDowell, N. Y. 1897 The Present - Day Summons to the World Mission of Christianity, Nashville 1931 Report on the Lebanon Schools, Edinburg 1858 - 8 Re - Thinking Missions, by the Committee of Appraisal (Ernest Hocking. Chairman) N. Y. & London 1332 Richter - A History of the Protestant Missions in the Near East, by Julius Richter .(English Translation adapted by the Author) N. Y. 1910 Rochester Convention 1910, Students and the present Missionary Crisis, N. Y. 1910 Scherer - Mediterranean Missions 1808 - 1870, by George Scherer, Beirut Scott - In the High Yemn, by Hugh Scott, London 1942 The Story of the American Board, Boston ca. 1910 Student Volunteer Movement for foreign Missions; Christian Students and the World Problems, N. Y. 1924 TIRM - The International Review of Mission, London & N. Y Two Thousand years of Missions ............ , by Lemuel Call Barnes, 6th. ed, Chicago 1906 Van Ess -- Meet the Arab, by John Van Ess, N. Y. 1943 Véou - Chrétiens en Péril au Moussadagh (Enquète au Sandjak d'AIexandrette), par Paul de Véou, Paris 1939. Ways of Sharing with other Faiths, by Daniel Johson Fleming, N. Y. 1928. Wismar - A Study of Tolerance as practised by Muhammad and His immediate Successors, by Adolph L. Wismar, N. Y. 1927. World Missionary Conference, 1910 N. Y. 1910 Carrying the Gospel,. 452 pages -- -- The Church in the Mission Field, 380 pages -- -- Cooperation, 241 pages -- -- Education, 471 pages -- -- History and Records of the Conference, 367 pages -- -- The home Base, 565 pages -- -- The Missionary Message, 333 pages -- -- Missions and Governments, 189 pages -- -- The Training of Teachers -- -- The world Mission of the Church : Findings and Recommandations of the International Missionary Council Tambaram, Madras, India, Dec. 12 - 29, 1938 (N. Y. 1938

World Student Christian :Federation, Report of the Conference at Robert College Constantinople, 1911 Zwemer -- Islam, a Challange to Faith, by Samuel S. Zwemer, N. Y. 1907 • • • وفي ما يلي مصادر نشرت بعد صدور كتابنا أو لم يتح لنا يومذاك أن أنطلع عليها. ثم يحسن أن تعلم أن هذه القائمة الجديدة كالقائمة القديمة، لا تضم كل ما صدر في موضوع التبشير والاستعمار: BATAL, James, Assignment Near East, New York 1950 BETHMANN, Erich W., Bridge to Islam, London 1953 BINGLE, E. J., World Christian Handbook, London 1949 BUHRER, J. et P. J, André, Ce que devient L'Islam devant 1e Monde Moderne , Paris 1952 BULLARD, Sir Reader, Britain and the Middle East, New York etc, 1951 BURROWS, Millar, Palestine is our Business, Philadelphia 1950 ? LE CHATELIER. A., La Conquète du Monde Musulman COMMENTARY (Monthly), published by the American Jewish Committee, New York CONGREGATION de la Mission de St. Vincent de Paul, Mémoires de la Congrégation ........ (en Afrique du Nord), 2 vols, Pars 1864 DOMINIQUE, Pierre, la Politique des Jésuites, Paris 1955 DORMAN, Harry Gaylord, Jr., Toward Understanding Islam, New York 1948 FORDER, Archibald; With the Arabs in Tent and Town, London 1902 GAIRDNER, W. H. T., The Reproach of Islam, London 1909 GOYAU, Georges, Un Précurseur : François Piquet, Consul du Louis XIV en Alep et évêque de Babylone, Paris 1942 GRUBB, Kennith G. (ed.), World Christian Handbook, London 1947 HOLDANE, James, Trekking among Moroccan Tribes, London 1948 HOSKINS, Halford L., The Middle East, New York 1954 JEANSON, Colette et Francis, L'Algérie hors de loi, 2ème. édition, Paris 1955 MASSIGNON, Louis, Annuaire du Monde Musulman, 4e édition, Paris 1955 MILLIEZ, U., La Croisade du Levant, Paris 1943 MORRISON, S.A., Middle East Survey. London 1954 MOTT, John R., Cooperation and the World Missions, New York, 1935 MOTT, John (editor), The Moslem World of To-Day, London 1925 OLIVER, Roland, The Missionary Factor in East Africa, London 1952 PADWICK, Constance E., Temple Gairdner of Cairo, London 1929 PARFIT, Joseph Thomas, Among the Druzes of Lebanon and Bashan, London 1917 PATTON, Cornilius H., The Business of Missions, New York, 1924 POTTIER, René, Le Cardinal Lavigerie, Paris 1947

SAMUEL, Jacob, Jaurnal of a missionary tour through the Desert of Arabia to Bagdad, Edinburg 1844 SCHUTZ, Paul, Zwischen Nil und Kaukasus, Kassel 1953 STORM, W. Harold, Whiter Arabia ? London, New York 1938 TRIMINGHAM, John Spencer, The Christian Approach to Islam in the Sudan, London 1948 Islam in Ethiopia, London 1948 - - -- TUCHMAN, Barbara W, Bible and Sword, New York 1956 WILSON, J. Christy, The Christian Message to Islam, New York 1950

توطئة: وجه الحاجة إلى هذا الكتاب

تَوْطِئَةٌ: وَجْهُ الحَاجَةِ إِلَى هَذَا الكِتَابِ: لا سبيل إلى إحصاء ما كتبه المبشرون وأنصار المبشرين عن الشرق ولا عن العرب والإسلام، فإن «شترايت» و «دِنْدِنغر» (¬1) قد أصدرا بين عام 1916 وعام 1931 سبعة مجلدات ذَكَرَا فيها أسماء المصادر والمراجع التي تدور حول المبشرين وجهودهم وتسهيل أعمالهم. ثم إن أكثر هذه الكتب مفصلة تفصيلاً كبيرًا، فإن الرسائل التي كتبها المبشرون من سورية والشرق الأدنى فقط إلى زملائهم بين عام 1830 وعام 1842 طبعت في ثلاثة عشر مجلدًا من أصل ثمانية وثلاثين مجلدًا (¬2). ولما اجتمع مؤتمر التبشير العالمي في أدنبره (في اسكوتلنده) عام 1910 أصدر تقريرًا، عن النواحي المختلفة التي يجب أن يهتم لها المبشرون، تم طبعه في عشرة مجلدات (¬3). أما مؤتمر التبشير الدولي الذي اجتمع في القدس عام 1928 مدة أسبوعين فقط (من 23 آذار إلى 8 نيسان) فقد وضع تقريرًا في ثمانية مجلدات (¬4). وهناك عشرات من أمثال هذه الكتب والتقارير قد ظهرت كلها في مجلدات عديدة ضخمة. وفي عام 1869 كانت أعمال مدارس التبشير الفرنسية في الشرق تقتضي أربعة مجلدات تقع في نحو ألف وخمسمائة وخمسين صفحة (¬5)، كما أن مدارس التبشير الإنجليزية في جبل لبنان كانت قد أصدرت تقريرًا عن أعمالها بين 1856 و 1868 - يعني في عهد فتنة سنة الستين فقط - يقع في مجلد كامل (¬6). ¬

_ (¬1) Streit & j.Dindinger, Bibliotheca missionum,vol. 1 - 7 , Mùnster &. Achen 1916 - 31. (¬2) .Missionary Herald,Letters of Missionaries in Syria & the near East 1830 - 42,Vols. 26 - 38, Boston. (¬3) World Missionary Conference of 1910, Edinburgh and New York 1910. (¬4) The International Missionary Council of Jerusalem, 8 vols." London 1928. (¬5) Oeuvres des Ecoles d'Orient, (1862 - 9), 4 vols. st, Cloud; Belin; 1862 - 9. (¬6) Reports on the Lebanese Schools, Edinburgh 1856·68.88

أما المجلات التبشيرية التي صدرت في بلدان مختلفة وبلغات مختلفة فهي أكثر من أن يحصيها العد. أضف إلى ذلك أن ثمة في العالم كله جرائد ومجلات سياسية أو أدبية أو علمية لا تظهر عليها صبغة التبشير، ولكنها في الحقيقة وسائل قوية من وسائل المبشرين. ومع هذا كله فليس في اللغة العربية إلى اليوم كتاب واحد يكشف النقاب عن غايات المبشرين الحقيقية وينبه على الأخطار التي يود المبشرون أن يعرضوا لها الشرف والعرب والإسلام، مع أن لهؤلاء المبشرين ألوف الكتب والكراريس يحاولون أن ينشروها بكل سبيل في طول البلاد العربية وعرضها. ثم إنهم قد ألقوا عن وجوههم القناع وأسفروا عن حقيقة غاياتهم في الكتابة عن الإسلام ورجاله وعن العرب وحياتهم، وكانوا النواة الأولى لطلائع الاستعمار السياسي والاقتصادي، يساعدهم في عملهم هذا مع الأسف نفر من أهل البلاد العربية. ليست كتب المبشرين هي التي تقتضي وضع هذا الكتاب لكشف النقاب عن آثار تلك الأصابع الحاذقة التي تمتد إلى كل صوب في العالم الإسلامي، بل هناك المؤسسات التبشيرية، تلك المؤسسات التي تبدو في مظاهر مختلفة، بعضها واضح المعالم وبعضها الآخر بعيد عن التهمة كل البعد، كالمدارس والجامعات والمستشفيات والمياتم والأندية والجمعيات ومؤسسات البر والإحسان. وقد أراد القائمون على التبشير أن يكون «للإحسان والتعليم» مقام كبير في الخطط التي توضع لأعمال التبشير، ولكن على أن تكون وسائل فقط لا غاية في نفسها (¬1). إن المبشرين يريديون إفساد الخصائص القومية في الشعوب الشرقية الإسلامية والعربية، كما يريدون إفساد خصائص البوذيين وغيرهم ممن يأبون أن يخضعوا سلطة الغربيين السياسية والاقتصادية. ولقد ساير التبشير الظاهر بالمسيحية حركة أشد خطرًا على الأمة الإسلامية وعلى الشعب العربي، فقد نشأ في أوروبا وأمريكا نفر سَخَّرُوا أَقْلاَمَهُمْ لِلْمُبَشِّرِينَ وجعلوا يطعنون العرب والإسلام ويشوهون صورتهما. إن السكوت عن هذه الافتراءات تخاذل وتقصير معيب، فيجدر بنا إذن أن نرد هذه الافتراءات وأن يفندها دفاعًا عن كياننا القومي والديني، وحفظًا لخصائصنا التي هي أهم دعائم الحياة فينا. ويجب أن نذكر دائمًا أن المبشرين هم أصابع أممهم وعيون بلادهم، يحاولون دائمًا أن ¬

_ (¬1) Enc. of Missions (2 ed. ed. 1904) p. 9c.

يثيروا الفتن والقلاقل في البلاد العربية والإسلامية حتى تتمكن أممهم من السيطرة علينا سياسيًا واقتصاديًا - أما من الناحية الاجتماعية والثقافية فقلما تهمهم إلا بمقدار ما تسهل لهم مهمتهم السياسية والاقتصادية. وهذا اعتقاد لنا لسنا فيه وحدنا، بل يشركنا فيه أولئك الذي أرسلوا المبشرين إلى بلادنا. لقد عمل هؤلاء المبشرون عمدًا أو عفوًا، على إثارة سوء التفاهم والشغب. وبما أننا سنرى كثيرًا من آثار ذلك في فصل السياسة من هذا الكتاب، فسنكتفي هنا بإيراد رأي رجل أمريكي هو أستاذ التاريخ في جامعة من جامعات الولايات المتحدة نفسها، وإليك ترجمته: نشرت مجلة " العالم الإسلامي " (¬1) خلاصة مقال كتبه الأستاذ (إدوارد ميد أيرل) (¬2)، أحد أساتذة التاريخ في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، لمجلة " الشؤون الخارجية " عنوانه (¬3): (الإرساليات الأمريكية في الشرق الأدني)، جاء فيه: «ماذا يمكن أن يقال الآن عن أعمال التبشير الأمريكي في الشرق الأدنى بعد قرن كامل من الدهر؟ يمكننا أن نحشد احصاءات هائلة تتعلق بملايين الدولارات وبألوف النفوس التي ضحيت في هذا السبيل. ولكن هذه أيضًا ليست هبة كافية توازي النتائج التي حققت على أيدي الإرساليات الأمريكية والمبشرين الأمريكيين في هذا المركز المهم من الشرق. إن نفرًا من هؤلاء الرجال والنساء أمثال (سيرس هملن) و (دانيال بلس) (أول رئيس للجامعة الأمريكية في بيروت) و (ماري ميلر باتريك) (¬4) كانوا علماء وضباط ارتباط بين الشرق والغرب. وكذلك كان نفر آخرون منهم معلمين كبارًا وأطباء محبوبين يشترط فيهم طول الأناة والصبر. إن جميع هؤلاء قد حملوا معهم من أمريكا جرأة نادرة .. لولاها لما أمكن كتابة الجزء الأول الأوفر من تاريخ الجهود الأمريكية في الشرق الأدنى. ولكن الجرأة وحدها ليست كافية، كما أن الوقت لم يحن بعد للحكم على قيمة ما حققه المبشرون عمومًا. هناك وجه واحد من هذا الموضع يجب ألا يهمل بحال من الأحوال هو أن الرأي العام الأمريكي فيما يتعلق بالشرق، قد خلقه المبشرون منذ قرن كامل. فإذا كان الرأي العام الأمريكي قد طويت عنه بعض المعلومات أو غذي بمعلومات خاطئة أو دفع إلى موقف عدائي، فإن المبشرين هو الملومون في أكثر ذلك، لأن النظر إلى التاريخ على أساس انتشار النصرانية ¬

_ (¬1) Moslem World ; jan. 1940. 71 - 72. (¬2) Edward Meadle Earle; Associate Proessor of History at Colombia University. (¬3) إن مجلة الشؤون الخارجية Foreign Affairs من المجلات الرصينة في الولايات المتحدة، وهي تبحث في الشؤون الاجتماعية الدولية من ناحيتيها العلمية والقانونية. (¬4) Cyrus Hamlin; Daniel Bliss. Mary Mills Patrick.

وقد حمل هؤلاء المبشرين على أن يقدموا لنا في الولايات المتحدة صورة ناقصة مشوهة أو ساخرة في بعض الأحيان للمسلمين وللإسلام. وبينما كان المبشرون يرمون في تبشيرهم إلى التسامح كانوا أحيانًا ومن غير أن يشعروا يزرعون بذور سوء التفاهم. وكذلك حينما جاء المبشرون إلى تصوير أحوال الإمبراطورية العثمانية، يوم كانت الإمبراطورية العثمانية، عجزوا عن أن يشيروا إلى أن الآلام التي تَحْتَمِلُهَا الأقليات المسيحية قد تَحَمَّلَهَا أَيْضًا المواطنون الأتراك كلهم (¬1). فإذا كان الفلاح الأرمني قد تعرض لغارة كردية، فكذلك كان شأن الفلاح التركي. وإذا أرهق الفلاح البلغاري بالضرائب، فكذلك كانت حال الفلاح التركي. وعدا ذلك فإن التركي وحده (يقصد: المسلم)، ظل إلى عام 1909 مجبرًا على الخدمة العسكرية بينما كان المسيحي مُعْفَى منها لقاء ضريبة ضئيلة يدفعها. ولكن بما أن المبشر قد حذف كثيرًا من الخصائص والحقائق من الصورة التي رسمها للإمبراطورية العثمانية يومذاك، فإن الشعب الأمريكي لا يستطيع أن يميز، من النظر إلى هذه الصورة التي وصلت إليه، وبين الظالم والمظلوم. إن الشعب الأمريكي لم يكن عالمًا أن المسلمين والنصارى قد تألموا - على السواء - في الحياة تحت حكم إمبراطوري فاسد». «ولقد لجأ المبشرون - كما يستطيعون أن يجمعوا الأموال - إلى استغلال حقائق ناقصة، وكذلك أخذت تفعل بعض جمعيات الإغاثة منذ زمن قريب. فنتج من ذلك أن العقل الأمريكي قد حيل بينه وبين الحقيقة الواضحة، وهي أن سكان الشرق الأدنى قد كانو ضحايا كوارث واحدة بقطع النظر عن جنسياتهم وأديانهم ...». ولا حاجة إلى التعليق على رأي صريح هذه الصراحة، واضح هذا الوضوح (¬2). ومن المبشرين نفرٌ يشتغلون بالآداب العربية والعلوم الإسلامية أو يستخدمون غيرهم في سبيل ذلك، ثم يرمون كلهم، مما يكتبون، إلى أن يوازنوا بين الآداب العربية والآداب الأجنبية، أو بين العلوم الإسلامية والعلوم الغربية (التي يعدونها نصرانية، لأن أمم الغرب تدين بالنصرانية) ليخرجوا دائمًا بتفضيل الآداب الغربية على الآداب العربية الإسلامية، وبالتالي إلى إبراز نواحي النشاط الثقافي في الغرب وتفضيلها على أمثالها في تاريخ العرب والإسلام. وما غايتهم من ذلك إلا خلق تخاذل روحي وشعور بالنقص في نفوس الشرقيين ¬

_ (¬1) يستعمل الكاتب كلمة «أتراك» ويعني بها «المسلمين». (¬2) لما نقدت مجلة " العالم الإسلامي " هذا الكتاب حاولت أن تتأول ما فيه، ولكن لم يستقم لها التأويل The Muslim World, Oct. 1953. p. 304.

وحملهم من هذه الطريق على الرضا بالخضوع للمدنية المادية الغربية (¬1). وإذا كان ثمة نفر قليلون جاءوا إلى الشرق للتبشير فحسب، وهم مقتنعون شخصيًا بالناحية الدينية، فإنهم في الدرجة الأولى مخطئون لأنهم لم يأتوا إلينا بقيمة روحية واجتماعية أسمى مما عندنا - ولا مثلها. ثم إنهم قد وضعوا أنفسهم في أيدي رجال الاستعمار السياسي والاقتصادي يستخدمونهم كيف شاءوا، وعلى غير علم منهم في بعض الأحيان. • • • ولقد صبر الشباب العربي المسلم على هؤلاء المبشرين وعلى أنصارهم المحليين، مع كل ما تعرض به هؤلاء المبشرون للكرامة الشرقية والعربية والإسلامية في جميع نواحي حياتنا الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والأدبية - وخصوصًا في الحقبة المتأخرة. لقد كان علينا أن نسكت عن هؤلاء لأننا في نزاع سياسي مع الغرب، ولأن هؤلاء عيون الغرب وآذانه وأصابعه أيضًا. إننا نسعى إلى هدف سام كبير لا نستطيع الحصول عليه إذا أغضبنا الغرب مباشرة. ومن أجل ذلك كان من المحتوم علينا أن نُغْضِيَ عن أولئك الأنصار الذين باعوا أنفسهم للمستعمر فجعلهم مطية إلى استعباد بلادهم وإلى إذلال إخوانهم في الدار وفي النسب أحيانًا. أما الحجة الكبرى التي حملنا بها أنفسنا على السكوت وعلى الظهور بهذا الحلم الذي لا مثيل له في طباع غيرنا من البشر، فهو أن عددًا عديدًا من إخواننا في الدار قد نذروا أنفسهم أيضًا لما نذرنا نحن أنفسنا له، وكانوا على الأجنبي واستعماره أشد منا نحن أحيانًا، لأن المستعمر قد أتي في ذلك من حيث لا يحتسب. على أن حلمنا كان يجب أن ينتهي لسببين اثنين، أولهما أن هذا النفر الكريم قد بدأ يحمل اضطهادًا أكثر من الذي نحتمله نحن. وثاني السببين أن النفر الذين باعوا أنفسهم للمستعمر، وأنصارهم معهم، ما زالوا يظهرون بمظهر المتحدي في حقل الاجتماع والوطن، وفي كل حقل آخر. ولقد كان هؤلاء لا يهمهم دينهم لأنهم قليلو الاحتفال بمبادئه، بل كان يهمهم إرضاء النفوذ الأجنبي، لأنهم كانوا يرتزقون منه رزقًا حسنًا (¬2). ¬

_ (¬1) راجع الفصل العاشر. (¬2) راجع مجلة " الأنباء "، لسان حال الحزب التقدمي الاشتراكي (بيروت)، لصاحبها كمال جنبلاط، وخصوصًا العدد 69، السنة الثانية (7 تشرين الثاني 1952).

وفيما يلي موجز الاتهام والحكم

وما إحالة الحكومة اللبنانية لصحافيين بارزين من أصحاب الصحف الصادرة باللغة الأجنبية في لبنان إلى المحكمة، وهما (جُورْجْ نَقَّاشْ) و (كِسْرَوَانْ اللَّبْكِي) من أسرة جريدة " الأوريان " (¬1) في بيروت إلا لأن الجريدة المذكورة قد نشرت سلسلة من المقالات بإمضاء (جورج نقاش)، كان من شأنها - لو لقيت آذانًا مصغية - أن تثير نزاعًا طائفيًا في لبنان فوق ما فيها من التعرض لأساس الكيان اللبناني. وفيما يلي موجز الاتهام والحكم (¬2): «حُوكِمَ (جُورْجْ نَقَّاشْ) وَ (كِسْرَوَانْ اللَّبْكِي) لإِقْدَامِهِمَا عَلَى نَشْرِ مَقَالٍ افْتِتَاحِيٍّ في جَرِيدَتَيْهِمَا " الأُورْيَانْ " بِالعَدَدِ الصَّادِرِ بِتَارِيخِ 10 آذار 1949 رَقْمَ 6691، فِيهِ إِثَارَةُ النَّعَرَاتِ الطَّائِفِيَّةِ وَحَضِّ عَنَاصِرِ الأُمَّةِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ .. وَتَنَاوَلَتْ المَحْكَمَةُ المَقَالَ المَذْكُورَ .. وَبَعْدَ أَنْ رَجَعَتْ إِلَى مَجْمُوعِهِ وَرُوحِهِ تَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ السَّيِّدْ (جُورْجْ نَقَّاشْ) قَدْ تَنَاوَلَ القَضِّيَّةَ اللُّبْنَانِيَّةَ فِي الصَّمِيمِ وَمَسَّ كَرَامَةَ الحُكْمِ اللُّبْنَانِيِّ الاِسْتِقْلاَلِيِّ وَجَعَلَ مِنَ الحُكْمِ الوَطَنِيِّ الاِسْتِقْلاَلِيِّ كَابُوسًا تَرْزَحُ تَحْتَ عِبْئِهِ البِلاَدُ وَتَئِنُّ مِنْهُ العِبَادُ. وَبِمَا أَنَّ الكَاتِبَ السَّيِّدَ (جُورْجْ نَقَّاشْ) بَعْدَ أَنْ طَعَنَ وَطَنَهُ لُبْنَانَ وَحُكْمَهُ الوَطَنِيِّ ... وَخَرَجَ عَنْ حُرَّيَّةِ الرَّأْيِ وَحَقَّرَ الدَّوْلَةَ وَنَعَى عَلَى الاِسْتِقْلاَلِ وَبُنَاتِهِ وَأَثَارَ النُّعَرَاتِ مِنْ وراء كِتَابَتِهِ .. وَقَصَدَ الطَّعْنِ بِالوَضْعِ الحالِيِّ وَبِالْقَضَاءِ الوَطَنِيِّ مَعَ إِثَارَةِ النُّعَرَاتِ .. وَبِمَا أَنَّهُ أَسَنَدَ إِلَى مَجْمُوعَةِ الأُمَّةِ اللُّبْنَانِيَّةِ بِأَنَ اِتِّفَاقَ طَوَائِفِهَا عَلَى وَضْعِ ذَلِكَ المِيثَاقِ الوَطَنِيِّ الشَّهِيرِ (¬3) لَمْ يَكُنْ إلاَّ خَيَالِيًّا، وَنَعَى عَلَى الوَضْعِ الاِسْتِقْلاَلِيِّ مُنْذُ نَشْأَتِهِ، وَأَحْكَمَ مِعْوَلَ الهَدْمِ فِيهِ دُونَ أَنْ تَبْدُرَ مِنْهُ عِبَارَةٌ وَاحِدَةٌ يَسْتَشِمُّ مِنْهَا اِنْدِفَاعَهُ وَرَغْبَتَهُ فِي إِيجَادِ الأُلْفَةِ وَالمَحَبَّةِ ... لِذَلِكَ ... تَقَرُّرَ الحُكْمِ بِحَبْسِ (جُورْجْ فِيلِيبْ نَقَّاشَ) مُدَّةَ ... ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ وَتَغْرِيمِهِ مِائَةَ لِيرَةٍ .. وَحَبْسِ (كِسْرَوَانْ نُعَوِّمُ اللَّبَكِيِ) شَهْرًا وَاحِدًا وَتَغْرِيمِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينِ لِيرَةً .. وَتَوْقِيفِ جَرِيدَةِ " الأُورْيَانْ " عَنْ الصُّدُورِ مُدَّةَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ». هذه القضية أثارت مشادة، في خارج المحكمة، أو مشادتين على الأصح: واحدة ¬

_ (¬1) L'orient (¬2) جريدة " الديار " (بيروت)، السنة الثامنة، العدد 1816، الأحد في 20 آذار 1949 م، و 20 جمادى الأولى سنة 1368 هـ، الصفحتان الثانية والرابعة. ثم راجع الصحف البيروتية الأخرى الصادرة في هذا التاريخ. (¬3) يقصد الاتفاق في خريف عام 1943 بين جميع طوائف الشعب اللبناني على طلب الاستقلال والتخلص من الحكم الأجنبي.

بين المحامين وأخرى بين الصحف. أما مشادة المحامين فتدور حول اعتذار المحامي (أدمون رباط) عن الدفاع عن المتهمين، بعد أن كان قد قبل مبدئيًا الدفاع عنهما. ولقد كان من المفروض أن ينتصر أصحاب الصحف اللبنانية لزميلهم الصحافي، يحكم عليه هذا الحكم. ولكن الانتصار له قد اقتصر على اتخاذ شكل رمزي، هو أن الحكم نفسه كان قاسيًا! أما الكاتب فقد ليم أشد اللوم على أنه كتب هذه الكتابة وتناول الموضوع من هذه الزاوية وبهذه الروح (¬1). وبعد، فمن ذا الذي يستفيد من المقالات التي نشرها (جورج نقاش) وأدت إلى الحكم عليه؟ لا شك في أن هذه المقالات تسيء إلى الوطن وإلى نهضته وتسر الأجانب من أصحاب المصلحة!. • • • أما نَحْنُ المُؤَلِّفَيْنِ فسنسمع غدًا إخوانًا لنا نحترمهم يقولون بعد صدور هذا الكتاب: عيب على رجلين مثقفين أن يكتبا مثل هذا الكتاب في هذه الحقبة من الكفاح القومي. في هذه الحقبة يجب ألا نذكر شيئًا من هذا، بل يجب ألا نذكر «كلمة» إسلام أو نصرانية ولا «كلمة» مسلم و «كلمة» مسيحي. إن إخواننا هؤلاء، من الذين نحترمهم، سيقولون ذلك إذا قرأوا عنوان كتابنا ثم قَلَّبُوا صَفَحَاتِهِ بَيْنَ أَنَامِلِهِمْ تَقْلِيبًا آلِيًا فَقَطْ. أما إذا فعلوا ما هم به خليقون فإنهم سيبدلون رأيهم بلا ريب. أجل سيقوم غدًا من يقول لنا: من العيب أن ندافع عن قومنا ووطننا وأن ندل على جذر للاستعمار ما زال، على رغم اختفائه عن الأعين، من أعمق الجذور في سجل مصائبنا القومية. ولكن لم يقم من هؤلاء رجل قال لسيادة (المطران مبارك) شيئًا حينما كان عام 1948 في باريس فصرح بما يلي: «إِنَّ لُبْنَانَ بَلَدٌ كَاثُولِيكِيٌّ، وَيُحَاوِلُ المُسْلِمُونَ أَنْ يَسْتَبْعِدُوهُ كَمَا يُحَاوِلُونَ اِسْتِبْعَادَ جَمِيعِ المُوَاطِنِينَ الذِينَ يَسْكُنُونَ مَعَهُمْ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ كَاليَهُودِ فِي فِلَسْطِينَ». «يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْيَهُودِ وَطَنٌ قَوْمِيٌّ كَيْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ العَيْشِ الهَادِئِ، وَإِلاَّ فَإِنَّ أَيَّةَ ¬

_ (¬1) راجع الصحف البيروتية التي صدرت بعد آذار 1949.

وِلاَيَةٍ غَيْرِ إِسْلاَمِيَّةٍ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعِيشَ بِحُرِّيَّةٍ وَتُمَارِسَ مُعْتَقَدَاتِهَا الدِّينِيَّةَ تَحْتَ سَيْطَرَةٍ "إِسْلاَمِيَّةٍ بَحْتَةٍ "» (¬1). وفي اليوم نفسه، نعم في اليوم نفسه، في 21 حزيران عام 1948، صدرت النشرة المزدوجة من محاضرات دار الندوة (¬2) فيها محاضرة للسيد (فؤاد أفرام البستاني) الموظف في وزارة التربية الوطنية بالجمهورية اللبنانية، عن مار مارون يقول فيها: «حَتَّى إذَا أَطَلَّتْ طَلاَئِعُ الصَّلِيبِيِّينَ (عَلَى لُبْنَانَ) أَمْكَنَ المَوَارِنَةُ أَنْ يَمُدُّوهُمْ بِثُلاَثِينَ أَلْفَ نَبَّالٍ، أَجْمَعَ الفَرَنْجَةُ عَلَى الإِعْجَابِ بِشَجَاعَتِهِمْ وَمَهَارَتِهِمْ .. فَالمَارُونِيَّةُ بِنْتُ لُبْنَانَ، وَلُبْنَانُ فِي الكَثِيرِ مِنْ مَزَايَاهُ وَخَصَائِصِهِ صُنْعُ المَارُونِيَّةِ .. فَلاَ وَطَنَ لَهَا سِوَاهُ وَلاَ كِيَانَ لَهُ بِدُونِهَا .. (¬3) فَهُمَا ثَابِتَانِ عَلَى كُرُورِ الأَيَّامِ، لاَ اِنْتِقاصًا مِنْ حَقِّ قَرِيبٍ وَلاَ عِدَاءَ لِجَارٍ، مُنْدَفِعَانِ وَلاَ تَهَوُّرَ، صَابِرَانِ وَلاَ يَأْسَ، رَاجِيَانِ وَلاَ غُرُورَ!» (¬4). فمن قام، ممن يحب هذا الوطن، وقال لهذين: نحن في سبيل كفاح قومي فمن العيب أن تكتبا ما كتبتما؟ ولكن لما أحببنا نحن المُؤَلِّفَيْنِ أن ندافع عن قومنا وبلادنا وأن نقول للمصلحين: هذا ممكن الخطر! قيل لنا هذا عيب. هنا نود أن نثبت كلمة - في هذا المعنى - ظهرت في مجلة " كل شيء " (¬5)، عصرها كاتبها من قبله ومن قلب كل مخلص في هذا الوطن. هذه الكلمة، التي تصور حالنا وحال إخواننا غدًا، هي: كل أسبوع الحق أننا نعيش في زمن تنقلب فيه الأوضاع أيما انقلاب، وتنعكس مفاهيم ¬

_ (¬1) مجلة " بيروت المساء "، بيروت، في 21 حزيران عام 1948، الصفحة 5، نقلاً عن مجلة Paris Soir الباريسية. (¬2) السنة الثانية، النشرتان 5 - 6 (بيروت) 21 حزيران 1948، ص 167، 169. (¬3) هذه النقط من أصل المحاضرة. (¬4) كذا بالأصل. القريب: المسلم في لبنان. الجار: السوري. صابران (لبنان والمارونية): أي على الوضع الراهن. راجيان: أي لتبدل الحال ... «وهذه الجمل تحتمل من المعنى أكثر من ذلك مما لا يخفى على المتبصر في العواقب!». (¬5) مجلة " كل شيء " (بيروت)، العدد 119، السنة الثالثة؛ الجمعة 8 تموز 1949، الصفحة الأولى. وقد ظهرت هذه الكلمة بلا توقيع.

الأشياء أيما انعكاس. وقد أصبح علينا، في هذه الغمرة من اختلال المقاييس وتشويه القيم، أن نصطلح على معنى واحد واضح لكلمة «العَيْبِ» في لبنان. فلا يكاد أحدنا يأتي عملاً أو يقول قولاً (¬1) حتى تنقبض بعض الوجوه وتنطلق بعض الألسن: «عَيْبٌ، عَيْبٌ» .. عيب أن نعتب على «المطران» (¬2)، وليس بعيب على سيادته أن ينشئ في لبنان سفارة لإسرائيل! عيب أن نعتب على وزير مسؤول لإرساله «برقية حكومية رسمية» بالتعزية في سمسار لليهود، وليس بعيب أن يبعث بهذه البرقية للوزير المسؤول! عيب أن نطالب الحكومة بما يحدد موقفها من الاتهامات الكبرى التي توجه عَلَنًا في دمشق إلى «شخصيات لبنانية»، وليس بعيب أن تلزم الحكومة في هذا الأمر جانب الصمت العميق .. عيب أن يرتفع صوت المرء بالعقيدة التي يؤمن بها، والفكرة التي يعتنقها، ويعمل صادقًا من أجل العقيدة والفكر، وليس بعيب أن يصبح المرء دونما عقيدة ولا فكر بعد أن كان من أبطال العقائد والأفكار .. وعيب بعد ذلك أن نقول للأعور أعور، وليس بعيب أن يزيد الأعور عمى في البصر والبصيرة .. هكذا تصبح المقاييس عندنا في آخر الزمان .. .. عيب، صحيح عيب! • • • على أن الواقع يقضي بأن نقول: إن الشيخ (بطرس الجميل) (¬3) قد قال لأحدنا الدكتور (عمر فروخ)، إنه والكثيرين من ذوي الرأي لا يقرون (المطران مبارك) على أقواله وأعماله، وإنهم عاتبوا (المطران مبارك) عتابًا مُرًّا. إلا أن هذا العتاب ناقص ¬

_ (¬1) المقصود: عَمَلاً في دفاع عن كرامة وَقَوْلاً فيه مطالبة بحق. (¬2) (المطران مبارك)، وكان قد كتب كتاب توصية بإفراد إلى بعض الهيئات الإسرائيلية. (¬3) رئيس حزب منظمة الكتائب اللبنانية.

في نظر المخلصين في هذا الوطن، أو أنه لم ينه هؤلاء عن الاستمرار في ضلالتهم. ثم إن هذا العتاب لم يؤد غايته الشكلية على الأقل، لأنه لم ينشر فيعرف! هذه كلمة عتاب نسوقها إلى إخوان سيقولون لنا ما سيقولون، أو على الأصح قد قالوا لنا ما قالوه، ولكننا لا نشك في أنهم - إذا قرأوا هذا الكتاب - سيعودون إلى الإنصاف وسيدركون أن سوانا كان أحرى بوضع هذا الكتاب للرد على المفترين. ولكن لما لم يسد هذه الثغرة أحد ممن يجب عليهم أن يسدوها لم يبق ثمت مندوحة عن أن نتطوع نحن للقيام بهذا العمل. من أجل ذلك كله أحببنا أن نجلو وجه الحقيقة فوضعنا هذا الكتاب: إنه من الخيانة أن نترك كياننا في مهب الخطر بسكوتنا عن مكمن هذ الخطر. إننا نعرف أن أسلاك هذا الخطر تمتد في خارج الوطن العربي من الأمثال أن العالم العربي والعالم الإسلامي قد أجمعا على إنقاذ فلسطين من براثن الصهيونية، ذلك الخطر المشرف على الشرق كله (¬1)، أما موضع العجب فهو أن المبشرين والذين يشايعون المبشرين عندنا ما زالوا يعملون على الانتصار لليهود كُرْهًا بِالعَرَبِ، مع أن خطر الصهيونية ليس خطرًا على العرب بل على غير العرب أيضًا، ولا هو خطر على الإسلام فحسب بل على النصرانية كذلك، ولا هو خطر على الشرق وحده بل على الغرب والشرق معًا. وأخيرًا، إذا كان المبشرون وأتباع المبشرين قد وضعوا عشرات الألوف من الكتب وملأوها بالطعن على العرب وبالنيل من الإسلام، يستعملون التجني والمكابرة في ذلك، فإن من حق عَرَبِيَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَنْ يَضَعَا كِتَابًا وَاحِدًا، وفي حدود العلم والأدب أيضًا، يدافعان به عن قومهما ودينهما في وجه المبشرين وصنائع المبشرين. وهؤلاء اليوم هم أنشط منهم في كل وقت آخر، بَلْ هُمْ قَدْ اِنْتَهَزَوا مِحْنَةَ فِلَسْطِينَ لِيَتَّخِذُوهَا سُلَّمًا إِلَى قَهْرِ العَرَبِ النَّصَارَى وَالمُسْلِمِينَ الذِينَ يَعْتَزُّونَ بِقَوْمِيَّتِهِمْ العَرَبِيَّةِ وَتَضَامُنِهِمْ الوَطَنِيِّ. ونحب أن نقدم مثلين اثنين عن تأثر المؤسسات الغربية، التي تسمى إنسانية، بالعداوة التي تحملها للشرق. إن العرب كلهم يخوضون اليوم حربًا ضد الصهيونيين، والحرب ضد الصهيونية ¬

_ (¬1) هذا القسم كتب قبل حرب فلسطين، إذ كنا قد بدأنا تأليف هذا الكتاب في آب 1944.

في حقيقتها معركة من معارك استعمار الشرق. ولقد أرغم العرب في أثناء هذه الحرب على هدنة أربعة أسابيع (¬1)، أخذت فيها المؤسسات الغربية كلها تساعد اليهود، حتى مؤسسة الصليب الأحمر الدولي. والمفروض في مؤسسة الصليب الأحمر أن تواسي الجرحى أَيًّا كَانَ دِينُهُمْ وَأَيًّا كَانَ جِنْسُهُمْ. ولكن هذه مهمة الصليب الأحمر خارج الشرق. أما في الشرق، وفي الحرب بين العرب واليهود، فمهمته الإجهاز - عمليًا ومن سبيل الإهمال - على العرب ثم مساعدة اليهود. نشرت جريدة " الديار " (بيروت، السنة الرابعة، العدد 1628، الصادر في 7 تموز 1948، الصفحة الثانية) احتجاجًا للدكتور (جورج حنا) رئيس لجنة إغاثة فلسطين في بيروت وعضو جمعية الصليب الأحمر اللبناني وأحد الكتاب الأحرار الإنسانيين نثبته كاملاً في ما يلي: " متى الصليب الأحمر الدولي يتحيز لليهود " كتاب الدكتور (جورج حنا) رئيس لجنة إغاثة فلسطين. «حضرة (المركيزة دو فريج) رئيسة جمعية الصليب الأحمر اللبناني المحترمة. تحية واحترامًا. وبعد، أرى من واجبي أن أطلع حضرتك على المعلومات التي وصلتني مؤخرًا عن مستشفى الصليب الأحمر اللبناني الموجود في عكا. وإنه ليؤسفني جِدًّا بهذه المناسبة أن أتقدم بالشكوى المرة من الإهمال الذي يبديه الصليب الأحمر الدولي تجاه المستشفى المذكور بالرغم من أني فهمت أن مؤسستكم كانت كلفته برعايته بعد احتلال عكا من قبل القوات الصهيونية. فعدا عن أن الصليب الأحمر الدولي لم يهتم بإعادة الأطباء والممرضات والمساعدين اللبنانيين إلى لبنان كما تفرض عليه رسالته الإنسانية، فإنه ما زال يبرهن عن تغاضيه عن مساعدة هؤلاء اللبنانيين الذين دفعتهم إنسانيتهم لتحمل المشاق لمساعدة الجرحى والمنكوبين. وفيما نرى الصليب الأحمر الدولي يعنى بتموين ورعاية الجرحى واللاجئين والمحاصرين من اليهود فهو يتظاهر بالعجز عن مساعدة مستشفى الصليب الأحمر اللبناني. إن جميع المعلومات التي وصلتنا من مصادر لا يشك بثقتها تدل على أن الأشخاص ¬

_ (¬1) راجع الحاشية 1 من الصفحة 30.

العاملين في مستشفى الصليب الأحمر اللبناني في عكا والمحجوزين فيها يقاسون العذاب والحرمان، وأن أولئك الأبطال الإنسانيين مهملون من قبل الصليب الأحمر الدولي المفروض فيه أن يكون عونًا لهم. فالصليب الأحمر الدولي على ما أعلم مؤسسة إنسانية عالمية لا تفرق بين الجهات المختلفة ولو كانت متحاربة. وهذ ما لا نراه مع الأسف في الحالة القائمة في فلسطين. لذلك: 1 - أرفع احتجاجي على تصرفات الصليب الأحمر الدولي في فلسطين وعلى تغاضيه عن الاهتمام ببعثة الصليب الأحمر اللبناني في عكا وتحيزه للجانب اليهودي. 2 - أسأل الصليب الأحمر اللبناني فيما إذا كان يرضى عن هذه المعاملة المغرضة وهو عضو في الصليب الأحمر الدولي. 3 - بوصفي عضوًا في الصليب الأحمر اللبناني أطلب بإلحاح رفع احتجاج صارخ إلى المقر العام للصليب الأحمر الدولي وإلى الوسيط الكونت (برنادوت). 4 - بذل جميع المساعي لإعادة الأطباء والممرضات والمساعدين اللبنانيين فورًا. 5 - في حال سكوت الصليب الأحمر الدولي عن إجابة هذا الطلب أقترح أن تخابر مؤسسات الهلال الأحمر العربية وإيقافها على حقيقة الأمر لاتخاذ اللازم مع مؤسسة الصليب الأحمر الدولي». • • • على أن احتجاج سيادة المطران (جاورجيوس حكيم) (¬1)، مطران حيفا وعكا والناصرة وسائر منطقة الجليل لطائفة الروم الكاثوليك، كان أشد وأدل على فقدان العنصر الإنساني في تلك المؤسسات الإنسانية، إذا اصطدمت مصالح دولها في الشرق. قال المطران (حكيم) يذكر حال العرب في فلسطين بعد الحرب الصهيونية ويشير إلى مدينة عكا خاصة: «إِنَّ حالَتَهَا تُدْمِي الفُؤَادَ إِذْ أَنَّ العَرَبَ فِيهَا، وَعَدَدُهُمْ ثَلاثَةً آلافِ عَرَبِيَّ تَقْريبًا مَحْصُورُونَ بَيْنَ أَسْوَارِ البَلْدَةِ القَدِيمَةِ وَحالَتُهُمْ الصِّحِّيَّةُ وَالغِذَائِيَّةُ سَيِّئَةٌ لِلْغَايَةِ. وَقَضَاءُ عَكَّا فِي حالَةٍ يُرْثَى لَهَا، فَالعَرَبُ البَاقُونَ فِيهِ يُعَامَلُونَ كَالحَيَوَانَاتِ لاَ يَهْتَمُّ بِهِمْ أَحَدٌ وَلاَ يَجِدُ مُعَظَمُهُمْ مَسْكَنًا أَوْ مَأْوَى، كَمَا لاَ يَجِدُ مَرَضَاهُمْ أَيَّ نَوْعٍ مِنَ العِنَايَةِ». وعاد المطران (حكيم) يوجه اللوم إلى مؤسسة الصليب الأحمر التي تعمل في خدمة ¬

_ (¬1) جريدة " الديار "، العدد 1626، الأحد 4 تموز 1948.

اليهود ثم هي تهمل العرب عمدًا، فقال مُتَأَلِّمًا: «آسَفُ أَنْ يَعْمَلَ الصَّلِيبُ الأَحْمَرُ الدَّوْلِيُّ تَحْتَ رَايَةِ الصَّلِيبِ» (¬1). • • • وسيرى القارئ في فصول هذا الكتاب أيضًا أن المبشرين يتسترون بنشر العلم وبالتطبيب المجاني والأعمال الاجتماعية وما إلى ذلك في سبيل غاية واحدة: إنهم يريدون أن ينقذوا من خلال هذه المظاهر إلى تحطيم الجدار الإسلامي لينفذوا من خلاله إلى الحقل القومي. وبما أن هذا الجدار قد انثغر الآن ثغرات متعددة، فقد وجب العمل على سد هذه الثغرات قبل أن ينهار الجدار كله. من أجل ذلك نرى أن لوضع هذا الكتاب مبررًا عظيمًا، بل إن وضعه قد أصبح واجبًا علينا لنفتح أعين قومنا على الخطر الحقيقي للمبشرين بين العرب خاصة وفي الشرق عامة. وكذلك يجب أن نعلم أن الصهيونية أيضًا ليست شيئًا سوى وسيلة من الوسائل التي يحاول الغرب بها أن يستمر في استعباد الشرق العربي بعد تصديع جداره وتجزئة رقعة أرضه. إن هذا الكتاب إذن ليس كتابًا «هَدَّامًا»، ولكنه محاولة مخلصة لكشف ستار عن «الهَدَّامِينَ». إنه واجب نقوم به في سبيل أمتنا وقومنا ووطننا. 13 رمضان 1368 هـ 9 تموز 1949 م. المؤلفان ¬

_ (¬1) مجلة " كل شيء " (بيروت)، السنة الثانية، العدد 68؛ 9 تموز 1948، الصفحة الأولى، تحت صورة الكونت (برنادوت).

الفصل الأول: بواعث التبشير الحقيقية

الفَصْلُ الأَوَّلُ: بَوَاعِثُ التَّبْشِيرِ الحَقِيقِيَّةِ: يظن بعض الناس أن المبشرين يأتون إلى الشرق لنشر الدين على أنه هدفهم الأسمى. والحق أن نشر الدين أمر ثانوي جِدًّا في جميع الحركات التبشيرية. قد نجد أشخاصًا قليلين يمولون حملات تبشيرية على الشرق، ثم أفرادًا قليلين أيضًا يأتون في هذه الحملات لينشروا الدين حُبًّا بنشر الدين واعتقادًا منهم بأنهم يقومون بعمل سام. على أن الكثرة المطلقة من الذين يمولون تلك الحملات، ومن الذين يأتون فيها، لا صلة بين أهدافهم الحقيقية وبين الدين الذي يزعمون أنهم جاءوا لنشره. إننا إذا تأملنا العالم الغربي وجدناه عالمًا ملحدًا لا يؤمن بدين، وعالمًا ماديًا لا يعرف للروح معنى: إن أمريكا التي تعبد الحديد والذهب والبترول - كما يقول (أمين الريحاني) - قد غطت نصف الأرض بمبشرين يزعمون أنهم يدعون إلى حياة روحية وسلام ديني. وبينما نرى فرنسا دولة علمانية في بلادها نجدها الدولة التي تحمي رجال الدين في الخارج. إن اليسوعيين المطرودين من فرنسا هم خصوم فرنسا في الداخل وأصدقاؤها الحميمون في مستعمراتها. وكذلك إيطاليا، التي ناصبت الكنيسة العداء وحجرت البابا في الفاتيكان، كانت تبني جميع سياستها الاستعمارية على جهود الرهبان والمبشرين. حتى روسيا السوفياتية التي تدعو في بلادها إلى محاربة الأديان - كما يقال - رأيناها، بعد الحرب العالمية الثانية، حينما أرادت أن تحقق لنفوذها توسعًا إقليميًا وسياسيًا، قد تظاهرت بالعطف على رجال الدين ودعت إلى مجمع مسكوني في موسكو وحملت إليه المؤتمرين في طائراتها. ثم شرف ستالين نفسه أولئك المؤتمرين بمقابلته. وكثيرًا ما كان الرجال العسكريون من الإنجليز خاصة يخصون حكوماتهم على بث المبشرين في العالم، كما

نصح الجنرال (هايغ) الحكومة البريطانية أن ترسل مبشريها إلى شبه جزيرة العرب (¬1). حتى الأفراد الذين ينتشرون في الأرض للتبشير بزعمهم لم يأتوا في واقع الأمر للتبشير. إن منهم من يحب المغامرات والأسفار، ومنهم من يطمح إلى السيطرة الشخصية على من حوله، ومنهم من يحب فرض رأيه على الآخرين (¬2). فإذا لم يستطع أحدهم أن يفعل ذلك في بلاده، ولم يملك أن يفعله باسمه هو في خارج بلاده، خرج إلى العالم تحت ستار التبشير ليشبع أطماعه الشخصية. وكثيرًا ما كشفت الجمعيات التبشيرية عن أطماع المبشرين الشخصية واكتشفت بينهم المكرة، أو الذين أحبوا أن يستغلوا الجمعيات التبشيرية ليسافروا في العالم على حسابها، وهم في الحقيقة تجار أو رجال دعوة (اجتماعية أو اقتصادية) لا صلة لها بالتبشير (¬3). بل إن ثمت شيئًا أكبر من ذلك: إن هؤلاء لا يتحلون بالأخلاق الحميدة. كتب الشاعر القروي المجيد (رشيد سليم الخوري) في مجلة " العصبة الأندلسية " (¬4) يتكلم باسم النصارى الذي يتألمون - كالمسلمين أيضًا - من أضرار المبشرين كلهم والبروتستانت خصوصًا فيقول: «أَمَّا مِنَ النَّاحِيَةِ الدِّينِيَّةِ فَإِنَّ إِقَامَتِي الدَّلِيلَ عَلَى عَدَمِ نَزَاهَتِهِمْ لاَ تَقْتَضِي أَنْ أَكُونَ بَارِعًا فِي الجَدَلِ أَوْ عَالِمًا شَهِيرًا بِالتَّارِيخِ .. ! إِنَّ طَوَائِفَنَا العَدِيدَةَ .. قَدْ زِيدَتْ بِفَضْلِ تَعَرُّفِنَا عَلَى الرِّسَالَةِ الأَمَرِيكِيَّةِ طَائِفَةً جَدِيدَةً اسْمُهَا الطَّائِفَةُ الإِنْجِيلِيَّةُ .. وَكَمْ أَنَفَقَ الأَمَرِيكِيُّونَ .. لِكَيْ يُعَرِّفُونَا بِمُوَاطِنِنَا السَّيِّدَ المَسِيحِ وَبِدِينِهِ .. وَكَأَنَّنَا أَشَدَّ اِفْتِقَارًا إِلَى الفَضَائِلِ المَسِيحِيَّةِ مِنَ الأَمَرِيكِيِّينَ أَنَفْسُهُمْ!». والمؤلفون عادة لا ينكرون أن التبشير قد اتخذه الكثيرون آلة للتجارة والسياسة، وأن المبشرالأمريكي خاصة لم يستطع أن يتحرر من نفوذ حكومته وغاياتها. وكثيرًا ما غادر المبشر جمعية إلى جمعية حسب أهوائه، فإن (وليم بلغرايف) (¬5) الإنجليزي قد دعته أطماعه الخاصة إلى أن ينقلب راهبًا يسوعيًا ويجادل البروتستانت قومه. ولما استغنى عن اليسوعيين عاد بروتستانتيًا، حتى إنه سمي «الحَرْبَاءَ» (¬6). وليس هذا فقط، بل إن من المبشرين نفرًا يسعون وراء أطماع ومغامرات شخصية شوهت اسم النصرانية في الشرق (¬7). فلقد ذكر (جسب) في كتابه الذي طبع 1910 ¬

_ (¬1) Jessup 530. (¬2) Re -Thinking Missions p. 9. (¬3) ibid . 10 (¬4) عام 1947، العدد الرابع. (¬5) William Gifford Palgrave. (¬6) Jessup 295. (¬7) Re -Thinking Missions p. 13

أثر الحروب الصليبية

إنه قد ثبت على اليسوعيين مؤخرًا أنهم فضحوا فتاتين من طائفة الروم الأرثوذكس وأخفوهما حينًا، ولكنهم أرغموا على ردهما بعدئذٍ لأهلهما (¬1). ويهاجم (جسب) نظام الأديرة كله ويذكر أنه كان لعنة على سورية، ثم يقول إن بعض الأديرة كان مستقرًا للفاحشة (¬2). على أن جميع المبشرين، سواء أكانوا انتهازيين دنيويين أم كانوا مخلصين في مهمتهم، تتميز كل فرقة منهم بعداوة شديدة نحو العرب المسلمين، وبعداوة ظاهرة نحو أهل الفرق النصرانية المباينة لفرقتهم أيضًا. أَثَرُ الحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ: ولا ريب في أن مرد هذه العداوة الشديدة إنما هو إلى الحروب الصليبية على ذلك أجمع مؤرخو التبشير كلهم، وهم في ذلك على صواب. ثم إن هذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن العداوة دنيوية سياسية لا صلة لها بالدين. إن المبشر (جسب) مثلاً يود أن يمحي الإسلام من العالم (¬3). خَطَرُ الوَحْدَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ عَلَى الغَرْبِ: يرى بعضهم أن السبب الأساسي في هذا الكره إنما هو بلا ريب راجع إلى العداوة التي أثارها الصليبيون (¬4)، وإلى أن المسلمين لا يزالون متأثرين بموقف الدول النصرانية من الإسلام في أثناء الحروب الصليبية (¬5). إلا أن المستشرق الألماني (كارل بكر) يرى السبب أبعد قليلاً من ذلك، إنه يرى أن الإسلام لما انبسط في العصور الوسطى أقام سَدًّا في وجه انتشار النصرانية ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها (¬6). وقريب من هذا ما رآه (غاردنر) (¬7). إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوروبا. ويحاول المبشرون أن يروا العداوة بين الإسلام وبين الغرب دينية، ولكن الحقيقة لا تلبث أن تظهر في فلتات ألسنتهم فإذا هي سياسية. إن (يوليوس رشتر) يؤنب ¬

_ (¬1) Jessup 433 (¬2) Jessup 669 - 680 (¬3) Cf. Jessup 493, 581 - 2 (¬4) Levonian 126. (¬5) Cf. Levonian 109 : Schermerhorn 43; Gairdner 532 (¬6) Becker I 3 (¬7) Gairdner 303 f, ; cf MW , Apr, 37, pp. 167 - 178

النصارى على قصر نظرهم في أثناء الأعصر المتطاولة التي تلت ظهور الإسلام، فإنهم كانوا فيها وادعين غافلين بينما كانت الإمبراطورية البيزنطية (الرومانية الشرقية) تغيب شيئًا فشيئًا في الإمبراطورية الإسلامية حتى سقطت القسطنطينية نفسها عام 1453 بيد الأتراك العثمانيين (¬1). ولا ريب في أن (رشتر) يتألم للناحية السياسية، لأنه هو نفسه يذكر أن سكان الإمبراطورية الشرقية كانوا نصارى بالاسم (¬2)، أضف إلى ذلك أنه كان مبشرًا بروتستانتيًا بينما سكان الإمبراطورية الشرقية كانوا على المذهب الأرثوذكسي. ولكن كل ما ذكرناه يعود إلى قبل ألف عام من الدهر، فهل ثمت مبرر لاستمرار هذه العداوة إلى أيامنا هذه؟ إذا اعتبرنا أن أساس العداوة سياسي دنيوي لا روحي ديني أَيْقَنَّا أن هذه العداوة من المبشرين نحو الإسلام لا يزال لها مبرارتها. لقد أبرز (لورنس براون) هذا الموقف في صورة واضحة حينما قال: «إِذَا اتَّحَدَ المُسْلِمُونَ فِي إِمْبرَاطُورِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ، أَمْكَنَ أَنْ يُصْبِحُوا لَعْنَةً عَلَى العَالَمِ وَخَطَرًا، وَأَمْكَنَ أَنْ يُصْبِحُوا أَيْضًا نِعْمَةً لَهُ، أَمَّا إِذَا بَقُوا مُتَفَرِّقِينَ فَإِنَّهُمْ يَظَلُّونَ حِينَئِذٍ بِلاَ قُوَّةٍ وَلاَ تَأْثِيرٍ» (¬3). أما القس سيمون (¬4) فكان أوضح في التعبير لما قال: «إِنَّ الوَحْدَةَ الإِسْلاَمِيَّةَ تَجْمَعُ آمَالَ الشُّعُوبِ السُّمْرِ (كَذَا)، وَتُسَاعِدُهُمْ عَلَى التَمَلُّصِ مِنَ السَّيْطَرَةِ الأُورُوبِيَّةِ. وَلِذَلِكَ كَانَ التَبْشِيرُ عَامِلاً مُهِمًّا فِي كَسْرِ شَوْكَةِ هَذِهِ الحَرَكَةِ، ذَلِكَ لأَنَّ التَبْشِيرَ يَعْمَلُ عَلَى إِظْهَارِ الأُورُوبِيِّينَ فِي نُورٍ جَدِيدٍ جَذَّابٍ، وَعَلَى سَلْبِ الحَرَكَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ مِنْ عُنْصُرَيْ القُوَّةِ وَالتَمَرْكُزِ اللَّذَيْنِ هُمَا فِيهَا: إِذَا كَانَتْ الوَحْدَةُ الإِسْلاَمِيَّةُ تَكَتُّلاً ضِدَّ الاِسْتِعْمَارِ الأُورُوبِيِّ، ثُمَّ اسْتَطَاعَ المُبَشِّرُونَ أَنْ يُظْهِرُوا الأُورُوبِيِّينَ فِي غَيْرِ مَظْهَرِ المُسْتَعْمِرِ، فَإِنَّ الوَحْدَةَ الإِسْلاَمِيَّةَ حِينَئِذٍ تَفْقِدُ حُجَّةً مِنْ حُجَجِهَا وَسَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ وُجُودِهَا. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ نُحَوِّلَ بِالتَّبْشِيرِ مَجَارِي التَّفْكِيرِ فِي الوَحْدَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ حَتَّى تَسْتَطِيعَ النَّصْرَانِيَّةُ أَنْ تَتَغَلْغَلَ فِي المُسْلِمِينَ» (¬5). وكذلك كان الفرنسيون يخافون من المساعي لتحقيق الوحدة الإسلامية (¬6). وعلى هذا الأساس أصبح الأتراك خطرًا على أوروبا منذ دخلوا في الإسلام، لا ¬

_ (¬1) Richter 13. 14, 271 - 2; cf. Addison 3 (¬2) Richter 14 (¬3) Cf. Brown, 37; cf, Islam and Missions 44 - 48 (¬4) Rev. G. Simon (¬5) Islam and Missions 93, 68. 69 (¬6) Pottier 993

لأنهم مسلمون بل لأنهم قد أصبحوا قوة تستطيع أن تقف في وجه الأطماع الأوروبية (¬1). حتى السنوسية، وهي فرقة من المرابطين - المجاهدين - نشأت في طرابلس الغرب، قد أصبحت على قلة أشياعها وقلة انتشارها قوة ترهب الاستعمار (¬2)، لا لشيء إلا لأن الاتحاد قوة تفسد على المستعمرين أعمالهم. ولقد بالغ (صموئيل زويمر) (¬3) حينما هاله أن يرى نفرًا من النصارى يدعون إلى مصادقة المسلمين في الصين. إن هذه «الصداقة» في رأي (زويمر) تخلق في نفس النصارى جُبْنًا عَنْ التَّبْشِيرِ (¬4). على أن اليسوعيين لا يريدون أن يتنازلوا عن روحهم الصليبية، إنهم لا يزالون يذكرون المبشر بلغة فخمة ملونة مملوؤة بالحقد والضغينة والاستفزاز، إنهم يقولون (¬5): «وَيَأْتِي المُبَشِّرُ تَحْتَ عَلَمِ الصَّلِيبِ ... يَحْلُمُ بِالمَاضِي وَيَنْظُرُ إِلَى المُسْتَقْبِلِ وَهُوَ يُصْغِي إِلَى الرِّيحِ التِي تُصَفِّرُ مِنْ بَعيدٍ، مِنْ شَواطِئَ رُومِيَّةَ وَمِنْ شَواطِئِ فِرَنْسَا. وَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ تِلْكَ الرِّيحَ مِنْ أَنْ تُعِيدَ عَلَى آذَانِنَا قوْلَهَا بِالأَمْسِ وَصَرْخَةَ أَسْلاَفِنَا (الصَّلِيبِيِّينَ) مِنْ قَبْلُ: " إِنَّ اللهَ يُرِيدُهَا "» (¬6). هذا قول قاله الأب (شانتور) الذي رأس الكلية اليسوعية في بيروت زمنًا طويلاً في أيام الانتداب وظل في منصبه سنين طوالاً بعد ذلك. لقد كان (الأب شانتور) ذَا نُفُوذٍ ضَخَّمَهُ لَهُ المُسْتَعْمِرُونَ فاستخذى أمامه الحكام. وقلما صعد أحد منهم كرسيًا إلا إذا كان الأب (شانتور) يراه أهلاً لتنفيذ سياسة الانتداب. ويمكننا أن نعرف سياسة اليسوعيين من كلمة واحدة قالوها. إنهم قالوا: يجب أن تكون الإدارة الفرنسية في العلويين (وفي غير بلاد العلويين أيضًا) تتمة للاحتلال الصليبي (¬7). لقد رأى القارئ بلا ريب أن المبشرين يمزجون الدين بالسياسة. ولكنه رأى أيضًا وراء كل ريب أن الدين كان الوسيلة، أما السياسة فكانت الهدف الحقيقي. والسياسة هنا معناها استعباد الغرب للشرق. ¬

_ (¬1) Addison 59 (¬2) Islam and Missions 48. (¬3) Samuel M. Zwemer. (¬4) MW Apr 28, pp-109 ff (¬5) Les Jésuites en Syrie 10 : 8. (¬6) حينما جاء الصليبيون إلى الشرق كانوا يرددون صرخة واحدة: «إِنَّ اللهَ يُرِيدُهَا»، أي إن الله هو الذي أراد الحرب الصليبية. (¬7) Les Jésuites en Syrie 10 : 13.

افتراءات المبشرين

افْتِرَاءَاتُ المُبَشِّرِينَ: لا نريد أن نجعل هذا الكتاب تاريخًا للتبشير، ولكننا نريد أن نبين ما جره التبشير من المضار القومية والاجتماعية على العرب خاصة والمسلمين عامة. وكذلك لن نأخذ أنفسنا بالرد على سخافات الذين ألفوا الكتب في الطعن على العرب والإسلام، لأننا سنضطر حينئذٍ إلى أن نكتب مجلدات كثارًا. ولكننا نحب هنا أن نقول أن بوسع كل إنسان أن يأخذ كل شخصية في العالم وكل فكرة في التاريخ ثم يتهكم عليها حَقًّا أَوْ بَاطِلاً، أو ينسب إليها المطاعن والافتراءات بلا دليل. والذي لاحظناه في مئات مما كتبه المبشرون من الكتب أنهم لا يُحْجِمُونَ عن الاستهزاء والتهكم على كل مظهر من مظاهر الإسلام، ثم هم ينكشفون عن جهل فاضح، سندل على بعضه في الصفحات التالية. ونحن بعد لن نقيس إيمانهم بمقدار علمهم. مِنْ جَهْلِ المُبَشِّرِينَ وَبُعْدِهِمْ عن العلم أنهم إذا بحثوا في الدين لم يَرَ أحدهم لغير مذهبه هو فضلاً ولا حَقًّا في الوجود، ثم هم يحبون أن نلقي أقوالهم بالإذعان والتسليم. ومما نذكره هنا ما اتفق لأحدنا لما كان في أوروبا، قال: لقيت نفرًا مثقفين كانوا يحبون شيئًا من المناقشة في الدين. ولقد اتفق مرارًا أن تناول البحث صاحب الرسالة الإسلامية، فكنت أقول: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ». وربما أحب أحدهم أن يتهكم فيقول لي: وأنت الرجل المثقف تريد أن تبحث بَحْثًا عِلْمِيًّا ثُمَّ تَدَّعِي أَنَّ مُحَمَّدًا «رَسُولُ اللهِ» بلا دليل عقلي علمي! وعلمت أن المنطق لا ينفع مع صاحبي، فكنت أقول له: (وقد اتفق لي ذلك مرارًا): ولكن يا أخي، أتنكر عَلَيَّ - في باب البحث العلمي - أن أقول: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ»، بينما أنت تقول: «أَنَّ المَسِيحَ هُوَ اللهُ» " فَيُبْهَتُ صاحبي، ثم نستمر في نقاشنا. من أجل ذلك ترى أحدهم إذا تكلم عن المسلمين قال عنهم إنهم: «أَعْدَاءُ الصَّلِيبِ وَأَعْدَاءُ الدِّيَانَةِ الكَاثُولِيكِيَّةِ (¬1) ظَانًّا أَنَّهُ أَلْحَقَ بِهِمْ سَبَّةً. ثُمَّ لاَ يَفُوتُهُ أَنْ يَذْكُرَ جَرِيدَةَ " البَشِيرِ " فَيَقُولُ عَنْهَا (¬2) إِنَّهَا زَعِيمَةُ الصَّحَافَةِ الكَاثُولِيكِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، لِنَشْرِ الأُمُورِ الكَاثُولِيكِيَّةِ فِي الدَّرَجَةِ الأُولَى، ثُمَّ الأُمُورِ المَسِيحِيَّةِ الأُخْرَى، ثُمَّ الرُّدُودِ» (على الإسلام طبعًا). وجريدة " البشير " جريدة صفراء كانت تصدر في بيروت حتى أواخر عهد ¬

_ (¬1) Les Jésuites en Syrie 296 : 30. (¬2) ibid 6 : 31.

الانتداب ثم توقفت على الصدور اختيارًا لأنه لم يبق مجال لصدورها في هذا الشكل الاستعماري الكاره لكل تقدم قومي والداعي إلى التفرقة بين أبناء الوطن الواحد. ولقد كان توقفها عن الصدور حسنة من حسنات الاستقلال الذي ينعم به لبنان الآن. ومن أشد أعداء العرب والمسلمين رجل أرمني اسمه (لطفي ليفونيان) ألف بضعة كتب للنيل من الإسلام. ومع أن العلم قليل في كتبه، فإنه خص هذه الكتب باستعراض أركان الإسلام والتهكم عليها. ويبلغ (لطفي ليفونيان) الجهل إلى أن يقول: «إِنَّ المُسْلِمِينَ جَهَلَةٌ لأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ التَّنْزِيهَ فِي اللهِ تَعَالَى» (¬1). والتنزيه في علم العقائد الدينية هو أن ننفي عن الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - صفات هي للبشر كالجسم والأنف واللحية. ومن الأمور التي تستحق التفكه بها قول مبشر اسمه (نِلْسُونْ) (¬2) يزعم فيه «أَنَّ الإِسْلاَمَ مُقَلِّدٌ، وَأَنَّ أَحْسَنَ مَا فِيهِ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَسَائِرُ مَا فِيهِ أُخِذَ مِنَ الوَثَنِيَّةِ كَمَا هُوَ أَوْ مَعَ شَيْءٍ مِنَ التَّبْدِيلِ» (¬3). ويبلغ التدجيل ذروته بمبشر اسمه المحترم (جون تاكلي) (¬4)؛ إنه يقول عن المسلمين: «يَجِبُ أَنْ يُسْتَخْدَمَ كِتَابُهُمْ (أَيْ القُرْآنُ الكَرِيمُ)، وَهُوَ أَمْضَى سِلاَحٍ فِي الإِسْلاَمِ، ضِدَّ الإِسْلاَمِ نَفْسِهِ لِنَقْضِي عَلَيْهِ تَمَامًا. يَجِبُ أَنْ نُرِي هَؤُلاَءِ النَّاسِ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي القُرْآنِ لَيْسَ جَدِيدًا، وَأَنَّ الجَدِيدَ فِيهِ لَيْسَ صَحِيحًا» (¬5). أما المبشر الأمريكي (جسب) فيقول: «إِنَّ الإِسْلاَمَ مَبْنِيٌّ عَلَى الأَحَادِيثِ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى القُرْآنِ. وَلَكِنَّنَا إِذَا حَذَفْنَا الأَحَادِيثَ الكَاذِبَةَ لَمْ يَبِقْ مِنَ الإِسْلاَمِ شَيْءٌ، وَصَارَ أَشْبَهَ بِصَبِيرَةِ طُومْسُونْ» (¬6). و (طومسون) هذا رجل أمريكي جاء إلى لبنان فقدمت له مَرَّةً صَبِيرَةٌ فحاول أن ينقيها من البذر. فلما نقى منها كل بذرها لم يبق في يده منها شيء. ويتعرض المبشرون عادة بعقليتهم هذه لتفسير " القرآن الكريم " ويكثرون من الانتقاد والتهكم. زعم (فريدريك بلس) (¬7): «أَنَّ القُرْآنَ الكَرِيمَ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَرْيَمَ وَالِدَةَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وَبَيْنَ مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ، أُخْتُ مُوسَى وَهَارُونَ» (¬8). ويقول (بلس): ¬

_ (¬1) Levonian 68. (¬2) W. S. Nelson. (¬3) Islam and Missions 43. (¬4) Rev. John Takle. (¬5) Islam and Missions 217 f. (¬6) Jessup 297 f. (¬7) Frederick Jones Bliss (¬8) Bliss (R) 17

الإسلام والسيف

«خَاطَبَ القُرْآنُ مَرْيَمَ عَلَى لِسَانِ قَوْمِهَا بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْ عِيسَى، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، بِقَوْلِهِ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (¬1)» ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: «كَيْفَ تَكُونُ مَرْيَمُ أُخْتَ مُوسَى التِي عَاشَتْ قَبْلَ المَسِيحِ بِأَلْفٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ هِي أُمُّ المَسِيحِ؟». ولكن (بلس) لم يعرف أن هذا من باب الكناية في علم البلاغة، ومؤداه: مريم التي تشبه (في العفة) ابنة عمران أخت هارون، كما نقول نحن مثلاً: «يَا أَخَا العَرَبِ» مَدْحًا لِرَجُلٍ لاَ صِلَةَ لَهُ بِالعَرَبِ أَحْيَانًا. وكذلك أساء (أدولف فيزمار) (¬2)، وهو دكتور في الفلسفة، فَهْمَ قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (¬3). ولم يفهم المعنى الصحيح البسيط وأن الجملة استفهام إنكاري لا استفهام عادي، كأن نقول لإنسان: أَلاَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مِنَ النَّاجِحِينَ! الإِسْلاَمُ وَالسَّيْفُ: وبعد الأخطاء الدالة على جهل المبشرين تأتي سلسلة طويلة من التحامل والافتراء. وأشهر هذه التهم أن الإسلام قام بالسيف (¬4). قال (نِلْسُونْ) (¬5): «وَأَخْضَعَ سَيْفُ الإِسْلاَمِ شُعُوبَ أَفْرِيقِيَا وَآسْيَا شَعْبًا بَعْدَ شَعْبٍ» (¬6). ويزعم (لطفي ليفونيان): «أَنَّ تَارِيخَ الإِسْلاَمِ كَانَ سِلْسِلَةً مُخِيفَةً مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَالحُرُوبِ وَالمَذَابِحِ» (¬7). ولا أريد أن أستشهد بكل ما قيل في ذلك، ولكني أحب أن أجلو النقطة التالية فقط. قسم الإسلام الناس عربًا وغير عرب. أما العرب فلم يكن يقبل منهم إلا الإسلام، فمن أبى منهم قتل. وذلك واضح في تسع وعشرين آية من سورة براءة أو التوبة (¬8). هذه الآيات تتعلق بمشركي العرب، ذلك لأن الدين الذي نشأ في بلاد العرب وجب أن يعتنقه جميع العرب. أما من ليسوا عَرَبًا من اليهود والنصارى فإن الإسلام يعرض عليهم، ¬

_ (¬1) " القرآن الكريم ". [سورة مريم، الآية: 28]. (¬2) Adolf H. Wismar, Ph. D. (¬3) " القرآن الكريم " [سورة يونس، الآية: 99]. (¬4) Richter 2, and others. (¬5) Rev. W. S. Nelson. (¬6) Islam and Missions 43. (¬7) Levonian 9. (¬8) " القرآن الكريم " 9: 1 - 29.

فإن قبلوه فذاك وإلا فهم أحرار يعيشون مواطنين للمسلمين. فالإسلام إذن لم يعرض على البشر كلهم بالسيف، وإنما عرض عليهم فقط. أما العرب خاصة فلم يقبل منهم إلا الإسلام ذلك كله معروف في مواضعه من " القرآن الكريم ". وأما الذين يتعرضون لشخص الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالافتراء فمبشرون كثيرون جدًا، بل كل المبشرين. فقد قال (ف. ج. هاربر) (¬1): «إِنَّ مُحَمَّدًا كَانَ فِي الحَقِيقَةِ عَابِدَ أَصْنَامٍ، ذَلِكَ لأَنَّ إِدْرَاكَهُ للهِ فِي الوَاقِعِ " كَارِيكَاتُورْ "» (¬2). وسماه بعضهم «كَذَّابُ مَكَّةَ» (¬3). ومنهم من زعم «أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَسْتَطِعْ فَهْمَ النَّصْرَانِيَّةَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي خَيَالِهِ مِنْهَا إِلاَّ صُورَةً مُشَوَّهَةً بَنَى عَلَيْهَا دِينَهُ الذِي جَاءَ بِهِ إِلَى العَرَبِ» (¬4). أما المسلمون فيقول عنهم هؤلاء المبشرون: «" لاَ يَفْهَمُونَ الأَدْيَانَ وَلاَ يُقَدِّرُونَهَا قَدْرَهَا ... " (¬5). ثُمَّ " لَيْسَ الإِسْلاَمُ فِيمَا زَعَمُوا إِلاَّ مَزِيجٌ مُشَوَّهٌ مِنَ الآرَاءِ وَالمُدْرَكَاتِ الخَاطِئَةِ " (¬6) وَكَذَلِكَ قَالَ آخَرُونَ عَنْهُمْ:" إِنَّهُمْ لُصُوصٌ، وَقَتَلَةَ (¬7)، وَمُتَأَخِّرُونَ، وَإِنَّ التَّبْشِيرَ سَيَعْمَلُ عَلَىَ تَمْدِينِهِمْ "» (¬8). وهناك مزعم ثالث، هو أن الإسلام تنقصه الناحية الروحية، وأنه دين مادي. حتى اليهودية ليست عند هؤلاء دينًا ماديًا (¬9) كالإسلام. وكذلك يزعم هؤلاء أن الإسلام نظام شرعي (¬10) أكثر منه نظامًا أخلاقيًا روحيًا. إن الواجبات الدينية والخلقية على ما يزعم هؤلاء فرضت على المسلمين فرضًا، وكل ما يستطيع المسلمون أن يفعلوه هو أن يؤدوا هذه الفروض كما فرضت عليهم (¬11). ويبدو جهل المبشرين في مزعم آخر، وهو أن المسلم يتزوج أربع نساء كما يشاء ثم يطلقهن كما يهوى لسبب أو لغير سبب (¬12). ويتوسع بعضهم في هذه المزاعم فيقول (جسب) مثلاً: «إِنَّ المُسْلِمِينَ قَدْ حَكَمُوا عَلَى المَرْأَةِ بِأَنْ تَبْقَى جَاهِلَةً، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَضْرِبُونَهَا عَلَى هَذَا الجَهْلِ: إِنَّهُمْ أَفْسَدُوهَا ¬

_ (¬1) F. J. Harper (¬2) Methods of Missions Work among Moslems 25 (¬3) .Addison 178 (¬4) .Addison 18 (¬5) Re-thinking Missions 16 (¬6) Garrison 66 f (¬7) Jessup 501 f (¬8) Milligan 171 - 173 (¬9) Beowne 111,113,116 (¬10) يقصد فقهي (شكلي). (¬11) Levonian 71. 73 (¬12) Cash 98

ثُمَّ أَخَذُوا يَضْرِبُونَهَا لأَنَّهَا فَاسِدَةٌ». وكذلك يزعم (جسب) نفسه أن القرآن يدعو إلى ضرب المرأة. حتى المرأة الفاضلة تخشى مثل هذا العقاب (¬1)، ذلك لأن الإسلام نظام ناقص والمرأة فيه مستعبدة (¬2). ويتميز المبشر الأمريكي هنري (جسب) بمزيج من الافتراءات والخرافات، فقد زعم أن (الشيخ يوسف الأسير) علم أولاده أغاني مسيحية باللغة العربية (¬3). و (الشيخ يوسف الأسير) علم معروف في بيروت وأولاده معاصرون لنا، وأحفاده لا يزالون يحيون بيننا، ولم نعرف ذلك عن أحد منهم. وادعى كثيرون من المبشرين أنهم نَصَّرُوا جماعات من الناس، كل هذا احتيالاً على أموال الجمعيات والأفراد الذين ينفقون على مثل هذه المشروعات. من هؤلاء مبشر إنكليزي اسمه (بلدوين) ادعى أنه نَصَّرَ فريقًا من المسلمين، فأرسلت الهيئة التي يعمل (بلدوين) هذا تحت إشرافها رجالاً ليتحققوا من دعواه فلم يجدوا مسلمًا واحدًا صبأ على يديه (¬4). ويزعم (رشتر) أن أكثر الدروز قد أصبحوا بروتستانتيين قلبيًا. ولولا أن الدولة العثمانية منعتهم بالقوة من إعلان بروتستانتيتهم لأصبحوا كلهم بروتستانتًا ظاهرًا وباطنًا (¬5). ثم ينسى (رشتر) هذا الزعم فيذكر بعد بعض عشرة صفحة عن الدروز أنفسهم لا يفكرون في أن يصبحوا نصارى (¬6). و (رشتر) نفسه يزعم هذا الزعم على النصيرية أيضًا (¬7). وقد كان (جسب) يؤمن بالخرافات ويمزج إيمانه هذا بملاحظات بعيدة عن الشعور الإنساني. ففي كانون الثاني عام 1862 (رجب سنة 1278 هـ) فاضت الأودية في مكة من مياه المطر وأحدثت خسائر في الأبنية والنفوس. فربط (جسب) هذه الكارثة بفتنة سنة 1860 في لبنان، ثم علق على ذلك بقوله، بعد أن زعم أن لشريف مكة صلة بالفتنة: «إِنَّ طُوفَانَ الكَعْبَةِ قَدْ جَاءَ دَلِيلاً عَلَى أَنَّ مَكَائِدَ مُثِيرِي الفِتَنِ تَقَعُ أَحْيَانًا عَلَى رُؤُوسِهِمْ» (¬8). ¬

_ (¬1) Jessup 28 (¬2) Milligan 20 - 21 (¬3) .Jessup 145 f (¬4) .Jessup 547 (¬5) Richter 192 f (¬6) ibid 204. (¬7) ibid 184. 195f (¬8) Jessup 241 - 2

ويظهر أن (رينيه بوتيه) (¬1) أخذ هذه الفرية من (جسب) لما قال: «وَهَكَذَا نَجِدُ مُنْذُ بَدْءِ عَامِ 1860 عَلاَمَاتٍ وَاضِحَةٍ لِلْعَدَاوَاتِ تَظْهَرُ فِي سُورِيَةَ ضِدَّ نَصَارَى لُبْنَانَ، كَمَا أَخْبَرَنَا الأَبُ (لاَفِيجِيرِي) أَنَّ مُؤَامَرَةً كَانَ قَدْ حَاكَهَا الحِزْبُ الإِسْلاَمِيُّ المُتَعَصِّبُ، أَمَّا مَرْكَزُهَا فَكَانَ فِي مَكَّةَ». ونحن نعلم - وقد لا يهمنا أن نعلم - إذا كان الكردينال (شارل مارتيال لافيجيري) خبط وجهل عريض بتاريخ هذه البلاد، أو كذب صراح يراد منه الدس والكيد وتسويد صفحات للأمم وللشعوب توصلاً باسم التبشير بالدين إلى أغراض دنيوية سياسية. لقد بدأ (لافيجيري) حياته مبشرًا في شمال أفريقيا والسودان، كلفه بذلك البابا (بيوس التاسع) (1846 - 1878) نفسه (¬2). و (بيوس التاسع) قاوم الوحدة الإيطالية. وجاءت مرة بوارج أمريكية وإنجليزية إلى مياه بيروت فكتب (جسب) يقول: «إِنَّ غَوْغَاءَ المُسْلِمِينَ الفُشَارِينَ المُتَعَصِّبِينَ قَدْ خَبَّأُوا رُؤُوسَهُمْ حِينًا مِنَ الزَّمَنِ» (¬3). وبينما كان (يوليوس رشتر) (¬4) يكتب عن ثورة المهدي على الإنجليز في السودان بلغت به الحماسة إلى أن قال: «... هَذَا التَّعَصُّبُ الإِسْلاَمِيُّ الضَّيِّقَ الأُفُقِ بِكُلِّ مَا فِيهِ مِنْ بُغْضٍ لِلْثَّقَافَةِ» (¬5). على أن أغرب ما في تلك المزاعم الجاهلة مزعم المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون). لقد انصرف (ماسينيون) في عهده الأخير عن العلم إلى التبشير لأن التبشير وسيلة إلى استعباد الذين يبدلون دينهم على يد المبشرين. زعم (ماسينيون) أن المسلمين يعتقدون في شأن عيسى ابن مريم على ما جاء في القرآن. من أجل ذلك يرجو أن توجه الجهود إلى جعلهم يعتقدون بعيسى ابن مريم نفسه، ولكن باسمه المسيحي (¬6). ولقد غاب عن (ماسينوين) - وذلك مستغرب - أن نظر المسلمين ونظر المسيحيين إلى عيسى ابن مريم مختلفان، ولا شأن لنا بذلك الآن. على أننا نود أن نقول للمستشرق (ماسينيون): إن «العُلَمَاءَ» لا يؤخذون بالأسماء وتشابه الألفاظ، ولا هم أيضًا يسترون مكائدهم الاستعمارية بالعلم. ¬

_ (¬1) René Pottier, Le Cardinal Lavigerie, 38 - 39 (¬2) Ibid 110 - 111 (¬3) .Jessup 748 (¬4) .Julius Richter (¬5) Richter 366 (¬6) L'Islam et L'occident 164

طريق الاستعمار

وأن الذين يعرفون (لويس ماسينيون) ويعرفون كتبه وبحوثه لا يمكن أن يعتقدوا أن أمورًا يسيرة في العلم والتاريخ مثل هذه تخفى عليه! هذه هي الآراء التي ينشره المبشرون على أقوامهم في أوروبا وأمريكا، وهكذا كانوا يصورون الإسلام حتى يبرروا دوام التبشير بين المسلمين لتدوم لهم دراهم تدر عليهم من جماعات غافلة عن الحقائق أو أنها لا تزال تعتقد أن للإعلان والافتراءات قيمة في القرن العشرين. طَرِيقُ الاِسْتِعْمَارِ: ولا ريب في أن الباعث الحقيقي والأول في رأي القائمين على التبشير إنما هو «القَضَاءُ عَلَى الأَدْيَانِ غَيْرِ النَّصْرَانِيَّةِ» (¬1) توصلاً إلى استعباد أتباعها. إن المعركة بين المبشرين وبين الأديان غير النصرانية ليست معركة دين، بل هي معركة في سبيل السيطرة السياسية والاقتصادية. حتى أن البروتستانت مثلاً لا يكتفون بأن يظل المسيحي أرثوذكسيًا بل يجب أن يصبح مسيحيًا بروتستانتيًا. إن هوى الكاثوليك مع فرنسا وهوى الأرثوذكس مع روسيا، فإذا انتقل هذان إلى البروتستانتية أصبح هواهما مع أمريكا في الدرجة الأولى ومع أنجلترا في الدرجة الثانية. وفرنسا أيضًا كانت تخشى قوة الإسلام، لأن الإسلام القوي خطر يهدد استعمارها. قال الكاردينال (لافيجيري) (¬2): «وَبَيْنَمَا كَانَ الإِسْلاَمُ عَلَى وَشَكِ أَنْ يَنْهَارَ فِي أُورُوبَا مَعَ عَرْشِ السَّلاَطِينِ (مِنْ آلِ عُثْمَانَ) كَانَ لاَ يَزَالُ نَاشِطًا فِي تَقَدُّمِهِ وَفُتُوحِهِ عَلَى أَبْوَابِ مَمْلَكَتِنَا الأَفْرِيقِيَّةِ» (¬3). ويبدو بوضوح أن أشد الأديان مِرَاسًا فِي إِبَاءِ الاستعباد إنما هو الإسلام، ولذلك يتمنى المبشرون أن ينصروا المسلمين كلهم (¬4). ومع أن التبشير يتناول البوذيين والبرهميين أيضًا، فإن المقصود الأول بالجهود التبشيرية هم المسلمون (¬5). ولقد استوى في هذه الرغبة جميع المبشرين، على الرغم من اختلاف طوائفهم وتباين الأقنعة التي يرفعونها على وجوههم. حتى المستر (بنروز) (¬6) رئيس الجامعة الأمريكية الجديد (¬7) يقول: «إِنَّ ¬

_ (¬1) Missionary Outlook 35 b (¬2) انظر ص 44. (¬3) Pottier 113 (¬4) Christian Workers, cf. 17 (¬5) Christian Workers, 7 f, 13, cf. Jung 67 (¬6) Stephan B. l. Penrose, Jr. (توفي المستر بنروز في 9 كانون الأول عام 1954). (*) (¬7) Penrose 5 (*)

المُبَشِّرَينَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ خَابُوا فِي هَدَفِهِمْ المُبَاشِرِ، وَهُوَ تَنْصِيرُ المُسْلِمِينَ جَمَاعَاتٍ جماعَاتٍ، إلاَّ أَنَّهُمْ قَدْ أَحْدَثُوا بَيْنَهُمْ آثَارَ نَهْضَةٍ ...». ثم يتابع المستر (بنروز) قوله فيقول (¬1): «وَلَقَدْ بَرْهَنَ التَّعْلِيمُ عَلَى أَنَّهُ أَثُمْنُ الوَسَائِلِ التِي اِسْتَطَاعَ المُبَشِّرُونَ أَنْ يَلْجَأُوا إِلَيْهَا فِي سَعْيِهِمْ لِتَنْصِيرِ سُورِيَّةَ وَلُبْنَانَ». ولقد كان خليقًا برجل يأتي ليتولى أعظم مؤسسة علمية في الشرق الأدنى أن يفطن إلى أمرين، أحدهما أن النهضة المزعومة التي بعثها المبشرون ترجع في الحقيقة إلى عوامل عامة اتفق أن يسايرها المبشرون. إن النهضة التركية ونهضة اليابان ونهضة روسيا مثلاً لم تقم على أيدي المبشرين البروتستانت، ولكن العالم كله مندفع منذ أمد نحو تقدم مستمر، ولا يمكن لأحد أن يقف في وجه هذا التقدم الطبيعي، ولا أن تتقدم أقطار ثم تظل أقطار أخرى لا تحس بهذا التقدم (¬2). أما ثاني الأمرين فهو أن الأضرار المقصودة التي أحدثها التبشير في البلاد العربية تفوق كل نفع عارض يمكن أن يكون التبشير قد أتى به. لقد كنا نود أن يأتي المستر (بنروز) إلى رئاسة الجامعة الأمريكية بعقلية العالم، بعقلية أرحب أفقًا من تلك التي ينكشف عنها كتابه. على أن المستر (بنروز) قد أدرك في أثناء رئاسته للجامعة الأمريكية (1948 - 1954) كثيرًا من أوجه الرقي والقومية عند العرب. ويعترف المبشرون بأن التبشير الرسمي واكتساب المسلمين إلى صفوف النصرانية قد خاب (¬3). من أجل ذلك قنع هؤلاء المبشرون أن يكون عملهم «الإنساني» قاصرًا على زعزعة عقيدة المسلمين على الأقل (¬4). من أمثال هذه الجملة ينفذ القارئ إلى حقيقة بواعث التبشير: إنه ليس الإصلاح والحياة الروحية. بل هو الإفساد والتوسل إلى السيطرة. هذه المرارة من الخيبة في التبشير، وهذه النقمة على العالم الإسلامي. وهذا الافتراء على المسلمين تلمحه في كلام المبشرين أنفسهم. يتكلم المبشر (رايد) (¬5) عن طرابلس ¬

_ (¬1) Ibid 7. (¬2) راجع الكلام على ذلك في فصل: الأعمال الاجتماعية. (¬3) Re-thinking Missions 194 and others . (¬4) Islam and Missions 43 (¬5) W. Reid.33

إعداد المبشرين

الغرب كلامًا يمكن أن نعده معبرًا عن طوية كل مبشر في بلاد الإسلام، قال (¬1): «إِنَّ عَمَلَ (المُبَشِّرَ) المَسِيحِيَّ بَيْنَ هَذَا الشُّعْبِ صَعْبٌ جدًّا. فَبَعْدَ عَمَلٍ اِمْتَدَّ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا صَحَّ عِنْدِي أَنَّ الطَّرِيقَةَ الوَحِيدَةَ لاِكْتِسَابِ هَذَا الشُّعْبِ إِنَّمَا هِي فِي النُّفُوذِ الشَّخْصِيِّ إِلَيْهِ - نُفُوذُ الرُّجَالِ وَالنِّساءِ الذِينَ امْتَلأُوا بِرُوحِ القُدُسِ (فَجَعَلَتْ لَهُمْ) قُوَّةً فِي حَيَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَخُلُقِهِمْ الشَّخْصِيِّ. وَحَتَّى يَسْتَطِيعَ المُبَشِّرُ أَنْ يَسْتَغِلَّ هَذِهِ القُوَّةَ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَوَلاً أَنْ يُقَارِبَ المُسْلِمِينَ مُقَارَبَةً شَدِيدَةً. وَهُنَا تَبْرُزُ الصُّعُوبَةُ ... إِنَّ المُشْكِلَةَ فِي العَمَلِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، إِذَنْ، وَفِي شَمَالَ أَفْرِيقْيَا خَاصَّةَ، إِنَّمَا هِيَ فِي إِيجَادِ الطَّرِيقَةِ التِي تُسَاعِدُ فِعْلاً عَلَى الاِقْتِرابِ مِنْهُمْ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الحَاجِزَ العَظِيمَ الذِي يُدْعَى عَادَةً بِالتَّعَصُّبِ، وَهُوَ ذَلِكَ الجِدَارُ الشَّاهِقُ مِنَ الشَّكِّ وَالاِعْتِزَازِ بِالذَّاتِ وَمِنَ الكُرْهِ، قَدْ بَنَاهُ الإِسْلاَمُ حَوْلَ أَتْبَاعِهِ لِيَحْمِيَهُمْ فِي دَاخِلِهِ وَلِيَتْرُكَ المُبَشِّرَ خَارِجَهُ. إِنَّهُ جِدَارٌ طَالَمَا أَثْبَتَ، مَعَ الأَسَفِ، أَنَّ تَسَلُّقَهُ أَوْ اِخْتِرَاقَهُ مُسْتَحِيلٌ. إِنَّ رِجَالاً مِنْ (المُبَشِّرَينِ) قَدْ عَمِلُوا سِنِينَ مُتَوَالِيَةً، وَفِي مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ، ثَمَّ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَكْتَسِبُوا صَدِيقًا أَوْ صِدِيقَيْنِ. مِنَ الصَّعْبِ أَنْ تُحِبَّ مُسْلِمًا لأَنْ الْمُسَلَّمَ لَيْسَ مُحَبَّبًا إِلَى النَّفْسِ، وَلأَنَّه هُوَ عَادَةً يَشْمَئِزُّ مِنْ الذِينَ يُحَاوِلُونَ الاِقْتِرَابَ مِنْه إذَا نَالُوا ثِقَتَهُ». إِعْدَادُ المُبَشِّرِينَ: يدرس الذين يريدون أن يعملوا في التبشير مناهج خاصة مبنية على تفهيمهم روح الشرق. هنالك سياسة تهيمن على ذلك المنهاج، هي تصوير الشرق بصورة من التأخر والسوء تحمل طالب التبشير على أن يندفع في مهمته اندفاعًا أعمى. ولقد أوجدت مدارس لهذه المهمة منذ زمن بعيد في رومية وباريس وفي طليطلة بإسبانيا أضافت إلى مناهجها تدريبًا عسكريًا للتبشير بالقوة (¬2). ولم يكن من المستغرب أن تقوم الرهبنات الأجنبية على اختلاف نزعاتها بالتبشير. إن فرقًا مختلفة من الرهبان قامت منذ أوائل القرن الثالث عشر بالتبشير، ثم استمرت في عملها هذا بعد ذلك. ومنذ القرن الرابع عشر إلى القرن الثامن عشر كان الرهبان الدومينكان والفرنسيسكان يعملون جاهدين في مراكش والجزائر وتونس ومصر والشام. ¬

_ (¬1) Gairdner 263 - 160. (¬2) Addison 57 f

وكليكية. ثم برزت في أواخر القرن السابع عشر فرق أخرى، منها اللعازريون والكبوشيون والإغسطينيون. ومع أن هؤلاء قد عملوا في الأكثر بين العبيد والأسرى النصارى، فإنهم كانوا من حين إلى حين يتعرضون للمسلمين. على أن هناك أفرادًا ليسوا رهبانًا ولكنهم تعلموا في المعاهد الرهبانية وفي معاهد اليسوعيين خاصة. إن هؤلاء يقومون بأعمال تبشيرية مختلفة (¬1). هذا النوع من الرجال يعرفون باسم اليسوعيين ذوي الثياب القصيرة (¬2). حتى الراهبات اللواتي يُظَنُّ أنهن نذرن أنفسهن لخدمة المرضى وتعليم الجاهلين ومواساة المساكين لَسْنَ سِوَى مُبَشِّرَاتٍ. يقول اليسوعيون في كتابهم الذي أصدروه في بيروت عام 1931: «إِنَّ الأَخَوَاتِ لَسْنَ رَاهِبَاتٍ مُعَلِّمَاتٍ فَقَطْ، وَلَكِنَّهُنَّ أَيْضًا رَاهِبَاتٍ مُبَشِّرَاتٍ. إِنَّهُنَّ فِي كُلَّ مَكَانٍ يُوجَدْنَ فِيهِ يَعْمِلْنَ إِلَى جَانِبِ عَمَلِهِنَّ التَّعْلِيمِيِّ أَعْمَالاً تَبْشِيرِيَّةً» (¬3). وهن لا يكتمن ذلك بل يعلن أنهن يعملن لضم الخراف الضالة أو المهملة إلى حظيرة المسيح الملك (¬4). ولقد استخدم المبشرون جميع الطرق في سبيل التبشير واستغلوا جميع المناسبات، فصناعة التطبيب والتعليم والوعظ ونقل الكتب من لغة إلى لغة، كلها يجب أن توجه توجيهًا يفيد التبشير (¬5). إن الطبيب (كارنيليوس فان ديك) أرسل إلى سورية على أنه طبيب مبشر (¬6). والمبشرون مجمعون على أن جميع الوسائل - مهما كانت - يجب أن تستغل في سبيل التبشير (¬7). حتى أعمال البر يجب أن تستغل استغلالاً بحتًا، من ذلك قولهم: «كَانَ التَّطْبِيبُ وَالتَّعْلِيمُ مِنْ وَسَائِلِ التَّبْشِيرِ، وَيَجِبُ أَنْ يَبْقَيَا كَذَلِكَ. أَمَّا أَعْمَالَ الإِحْسَانِ فَيَجِبُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ بِحِكْمَةٍ كَيْلاَ تَذْهَبَ فِي غَيْرِ سَبِيلِهَا. يَجِبُ أَنْ تُعْطَى الأَمْوَالُ أَوَلاً لِلْبُعَدَاءِ عَنْ الكَنِيسَةِ ثَمَّ تَقِلُّ تَدْرِيجِيًّا كُلَّمَا اِقْتَرَبَ أُولَئِكَ مِنَ الدُّخُولِ فِي الكَنِيسَةِ (اِعْتِناقُ مَذْهَبِهَا)، فَإذَا دَخَلُوهَا مُنِعَ عَنْهُمْ الإِحْسَانُ مَرَّةً وَاحِدَةً» (¬8). ¬

_ (¬1) Les Jésuites en Syrie 12 : 7 ss (¬2) Voir Larousse : Jésuites à robes courtes (¬3) Les Jésuites en Syrie 12 : 18, cf. 2:28 (¬4) Les Jésuites en Syrie 11 : 28 s (¬5) Richter 80.Jessup 68 (¬6) Richter 179 (¬7) Cf. Jessup 29, 37 ; Bliss (B) 313 (¬8) Re-thinking Missions 67 f., cf. 70 f

ومن وسائلهم أنهم إذا دخل في خدمتهم رجل لا ينتمي إلى مذهبهم حملوه على الدخول فيه. عمل شاب درزي في المطبعة الأمريكانية فصبأ إلى المذهب البروتستانتي. ثم عمل بعد ذلك في المطبعة الكاثوليكية فانتقل إلى المذهب الكاثوليكي (¬1). ولعل هذا الشاب ظل درزيًا ولكنه كان لحاجته إلى العمل يتظاهر أمامهم بما يريدونه منه. وكان المبشرون يتخذون من زيارة المسجونين ومن العمل في المستشفيات وسيلة إلى التبشير (¬2). في الحرب العالمية الأولى أخذت الدولة العثمانية عددًا من الراهبات للعمل في المستشفيات والمياتم، فقال الكتاب المئوي اليسوعي عن هؤلاء: «وَفِي مَنْصِبِهِنَّ الجَدِيدِ بَقِيَتْ الأَخَوَاتُ المُبَشِّرَاتُ يُلَقِّنَّ التَّعْلِيمَ المَسِيحِيَّ وَيُعْدِدْنَ لَلْمُنَاوَلَةِ الأُولَى، وَيُعَلِّمْنَ الصَّلَوَاتِ عَلَى الرَّغْمِ مِنَ التَّحْذِيرِ وَالتَّهْدِيدِ اللَّذَيْنِ كَانَ المُفَتِّشُونَ الأَتْرَاكَ يُوَجِّهُونَهُمَا إِلَيْهِنَّ» (¬3). وهكذا كان المبشرون والمبشرات يتقدمون إلى الإنسانية بوجه من فعل الخير والسهر على المتألمين بينما هم ينفذون من خلال هذه الآلام المبرحة إلى طرق جديدة للتبشير. ومع أنهم لم ينجحوا إلا قليلاً، فإنهم أدخلوا إلى نفوس الكثيرين آلامًا جديدة كثيرة ووصموا الضمير الإنساني بالنفاق. وكانت قلة الذوق بالمبشرين تبلغ إلى حد أن أحدهم لم يكن يتأخر عن عرض بضاعته في التبشير بين أهل الميت، والميت لا يزال بين أهله. ذهب المبشران (كلهون) (¬4) و (جسب) يعزيان بوفاة شاب درزي. فما أن استقر بـ (كلهون) المقام حتى قال (¬5): «مَا رَأَيْتُ جَسَدًا مَيِّتًا لأَخٍ لِي فِي الإِنْسَانِيَّةِ إِلاَّ مُلِئْتُ اِشْمِئْزَازًا، بَلْ مُلِئْتُ بُغْضًا. أَجَلْ مُلِئْتُ بِبُغْضِ الخَطِيئَةِ التِي أَتَتْ بِالمَوْتِ إِلَى هَذَا العَالَمِ وَكَانَتْ سَبَبَ أَحْزَانِنَا وَاضْطِرَابِنَا وَآلاَمِنَا. فَلِمَ لاَ نَمْقُتُ الخَطِيئَةَ إِذَنْ ثُمَّ نُحِبُّ ذَلِكَ الذِي لَمْ يَعْرِفْ الخَطِيئَةَ، وَلَكِنَّهُ ذَاقَ المَوْتَ فِي سَبِيلِ كُلِّ إِنْسَانٍ آخَرَ؟». يقصد (كلهون) أنه يكره الميت، إذا كان غير مسيحي، إذ أنه يموت وهو مملوء بالخطيئة، أما الميت المسيحي فإن المسيح يكون قد حمل عنه خطاياه لَمَّا مَاتَ فِدَاءً عَنْ البَشَرِ، كما يقول النصارى. ونحن لا نعلم مكانًا ينبو فيه الذوق عن مثل هذ العمل كالمآتم. لقد جهل هؤلاء كلهم أن للموت حرمة ورهبة. ثم إنهم طعنوا النفس الإنسانية حينما ظنوا أنها تصل إلى الله ¬

_ (¬1) Les Jésuites en Syrie 12 :27 (¬2) ibid 7 : 28, 11 : 24 (¬3) ibid 11 : 24 (¬4) Rev. H. S. Calhoun (¬5) Jessup 101

بكلمات تلقن أو بإشارات تمثل. وبعد ذلك كله نسوا أن بين قلب كل إنسان وبين الله طريقًا يسلكه الإنسان نفسه بلا قائد ولا وسيط. ولما خابت هذه الأساليب كلها عمد المبشرون إلى الرشوة يفسدون بها ضمائر الذين يستميلونهم. حينما ظهر اليسوعيون للمرة الأولى في شرق الأردن رَشَوْا نَفَرًا من النصارى الأرثوذكس للانضمام إلى الكنيسة الرومانية (¬1). على أن البروتستانت كانوا أشد إيغالاً في إفساد الضمائر، فقد اتخذوا سماسرة يجلبون لهم الذين كانوا يرضون أن يبدلوا دينهم، وكانوا يدفعون عن كل رأس عشرة قروش ذهبًا (¬2). على أن إعداد المبشرين يختلف بين زمن وآخر. وكذلك طرق التبشير اختلفت من جيل إلى جيل، ومن قُطْرٍ إلَى قُطْرٍ. فبينما كان التبشير في القرن التاسع عشر خَاصًّا بأشخاص اتخذوا التبشير عملاً لهم ثم حاولوا نشر النصرانية بجدال المسلمين ومحاولة تبيان فضل النصرانية على الإسلام وبإصرار على الجانب الغيبي من حياة المسيح، وجدنا زعماء التبشير في العالم البروتستانتي خاصة يرون أن هذا المظهر الديني الصارخ يعرقل أعمال المبشر (¬3). من أجل ذلك يرى المبشر الأمريكي المشهور (جون رالاي موط) في كتابه " خمسة عقود ونظرة إلى المستقبل "، الذي أصدره في عام 1935، صواب الحركة التي بدأت في مطلع القرن العشرين، وفي الولايات المتحدة خاصة، تلك الحركة التي استغلت الطلاب والأساتذة وعوام الناس في التبشير (¬4). إن المبشر (جون موط) يعتقد أن المظهر البريء في الطالب والأستاذ والعامي من الناس لا يصرف المسلم مثلاً عن سماع أقوال هؤلاء، بينما الثوب الذي يظهر فيه المبشر يعمل على تنفير القلوب. وكذلك جعل المبشرون، في السنين الأخيرة، يتركون الطرق الإيجابية المباشرة في نشر آرائهم إلى طرق أكثر التواءً وخفاءً. ويبدو أن هذه الطريق الملتوية الخفية لم تنجح أيضًا. يقول (السير ريدر بولارد)، الذي كان وزيرًا مفوضًا ثم سفيرًا لبريطانيا في إيران من عام 1939 إلى عام 1946 أن مسلمين كثارًا يقدرون أعمال الجمعيات التبشيرية في التعليم والتطبيب، ولكنهم يصمون آذانهم عن دعوتها الدينية (¬5). ¬

_ (¬1) Richter 247 (¬2) Jessup 35 (¬3) Middle East Survey, cf 175 - 7 (¬4) Mott, Five Decades, cf 1 - 4 (¬5) Bullard 163

الغاية تبرر الواسطة عندهم

وتلبس المبشرون بجميع المظاهر، حتى في ثوب المستكشفين الذين ظهروا أمام العالم علماء أعلامًا. فقد كان (دَافِيدْ لِيفِنْغِسْتُونْ) (1813 - 1873) رحالة بريطانيا اخترق أواسط أفريقيا من مرفأ سن بول دي لاوندا في أنغولا البرتغالية شرقًا إلى كيليمان عند مصب نهر زامبيسي في مضيف الموزمبيك تجاه مدغشقر شمال خط العرض العشرين غربًا. على أن (لِيفِنْغِسْتُونْ) كان مبشرًا قبل أن يكون رحالة، ولم تكن رحلته المشهورة في تاريخ الاستكشافات الجغرافية إلا تمهيدًا للبعثات التبشيرية. قال (رُولاَنْدْ أَولِيفَرْ) في كتابه " العامل التبشيري في شرق أفريقيا " (¬1): «لَقَدْ أَعَدَّ (لِيفِنْغِسْتُونْ) نَفْسَهُ مُنْذُ سَنَوَاتِهِ الأُولَى، حِينَمَا كَانَ يَعْمَلُ فِي " جَمْعِيَّةِ التَّبْشِيرِ اللُّنْدُنِيَّةِ "، لِلاِضْطِلاَعِ بِمَشَاكِلِ التَّبْشِيرِ الخَاصَّةِ بِأَفْرِيقْيَا الإِسْتِوَائِيَّةِ وَبِالعَمَلِ بَيْنَ شُعُوبِ فِطْرِيَّةٍ فِي بِلاَدٍ لَمْ تَكُنْ قَدْ سَكَنَهَا الأُورُوبِّيُّونَ .. وَفِي عَامِ 1856 كَانَ (لِيفِنْغِسْتُونْ) لاَ يَزَالُ يُفَكِّرُ، بِطَبِيعَةِ الحَالِ، فِي التِّجَارَةِ أَكْثَرَ مِنَ الاِسْتِعْمَارِ. وَبِمَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلاً، وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، مُبَشِّرًا مَسِيحِيًّا، فَلَقَدْ اخْتَارَ، كَعُضْوٍ فِي هَذِهِ الحَرَكَةِ (التَّبْشِيرِيَّةِ)، أَنْ يَبْحَثَ عَنْ نَهْرٍ تَسْتَطِيعُ السُّفُنُ أَنْ تَمْخُرَ فِيهِ إِلَى دَاخِلِ البِلاَدِ ...». لقد أراد (لِيفِنْغِسْتُونْ) أن يستكشف طرقًا في أفريقيا للمبشرين لا للمدنية. الغَايَةُ تُبَرِّرُ الوَاسِطَةَ عِنْدَهُمْ: كل هذه الوسائل لَمْ تُجْدِ نَفْعًا كبيرًا ظاهرًا، فظهر في عام 1932 كتاب اسمه " التفكير الجديد في أمر الإرساليات " (¬2)، أصدرته لجنة المبشرين. لقد رأى هؤلاء أن التبشير يجب أن يستمر، ولكن وسائله يجب أن تتبدل (ص 4 - 5 - 18). ذلك أنهم رأوا أن العالم يتبدل فأحبوا أن تتبدل خططهم حتى توافق الأحوال الجديدة (¬3)؛ والمبشرون يفرضون على أنفسهم أن يكونوا مستعدين لأن يقبلوا بأمور تخالف العقيدة المسيحية (¬4). من ذلك مثلاً أن المسيحية تعتقد أن الله واحد، ولكنها تستطيع أن تتسامح مع أصحاب العقائد التي تُعَدِّدُ اللهَ فتقول تقربًا إليهم بأن الله يتشكل في مظاهر مختلفة (راجع ص 53). وهذا الكتاب يجيز للمبشرين - كي لا ينفروا منهم أبناء الديانات المخالفة للنصرانية - أن يتأولوا التعبير المسيحي «المَسِيحُ ابْنُ اللهِ». ¬

_ (¬1) Missionary Factor in East Africa, 1, 9, 11 (¬2) Re-thinking Missions (¬3) Re-thinking Missions, p xi ; Les Jésuites en Syrie 10 : 41 ss (¬4) Levonian, cf. 13, pp. 129 - 136

تأويلاً روحيًا (ص 56). وكذلك يرى هذا الكتاب أن جميع المبشرين من بلاد رأسمالية، ولكن هذا يجب ألا يمنعهم من تفهم المذاهب الاقتصادية الأخرى كالاشتراكية والشيوعية. وعليهم أن يطعنوا الرأسمالية إذا كان ذلك يفتح لهم قلوب الخاضعين قهرًا لها، حتى إنه ليس ثمت مانع يمنع مصادقة الشيوعيين أيضًا (ص 252 - 254)، وإن كانت الشيوعية عدوة للنصرانية. من هنا نرى بوضوح أن المبشرين ينصحون لأنفسهم بالتلون في سبيل الوصول إلى قبول بعض الناس. هنالك كتاب اسمه " طرق العمل التبشيري بين المسلمين " (¬1)، يقول: «لِنَجْعَلَ هَؤُلاَءِ القَوْمِ المُسْلِمِينَ يَقْتَنِعُونَ فِي الدَّرَجَةِ الأُولَى بِأَنَّنَا نُحِبُّهُمْ فَنَكُونَ قَدْ تَعَلَّمْنَا أَنْ نَصِلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ ... يَجِبُ عَلَى المُبَشِّرِ أَنْ يَحْتَرِمَ فِي الظَّاهِرِ جَمِيعَ العَادَاتِ الشَّرْقِيَّةِ وَالإِسْلاَمِيَّةِ حَتَّى يَسْتَطِيعَ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى بَثِّ آرَائِهِ بَيْنَ مَنْ يُصْغِي إِلَيْهَا، وَعَلَيْهِ مَثَلاً أَنْ يَتَحَاشَى أَنْ يَقُولَ عَنْ المَسِيحِ إِنَّهُ ابْنُ اللهِ (¬2) حَتَّى لاَ يَنْفَرَ مِنْهُ أُولَئِكَ الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ هَذَا الإِيمَانَ فَيَسْتَطِيعُ أَنْ يُقَارِبَهُمْ حِينَئِذٍ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ». وأما المحترم (تشارلس واطسون) (¬3) فيقول (¬4): «يَجِبُ أَنْ يَظَلُّوا (أَيْ المُبَشِّرُونَ) بُرَءَاءَ كَالحَمَامِ، وَلَكِنَّ هَذَا لاَ يَمْنَعُهُمْ أَيْضًا مِنْ أَنْ يَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالحَيَّاتِ». • • • ومما يدل على قلة احتفال المبشرين بالمثل العليا الحقيقية وبالأحداث التي تساعد على تقدم المدنية نحو مدى أوسع وأجمل موقفهم من إعلان الحرية العثمانية في تموز عام 1908. لقد كان إعلان الحرية العثمانية وإعادة الدستور في الإمبراطورية العثمانية كلها حدثًا عظيمًا في تاريخ تركيا نفسها وفي تاريخ العرب، وكذلك كان له تأثير كبير أيضًا في السياسة الدولية. أما المبشرون فلم يروا في تلك المناسبة الفذة في تاريخ إمبراطورية كالإمبراطورية العثمانية إلا فرصة جديدة لنجاح حركة التبشير. وبعد أن يشير (جسب) إلى هذه المناسبة العظيمة في الإمبراطورية العثمانية، يقول: «إِنَّ القَضِيَّةَ التِي تُوَاجِهُنَا بِطَبِيعَةِ الحَالِ ¬

_ (¬1) Methods of Missions Work among Moslems, cf. p 31 (¬2) Methods of Missions Work among, pp 45 ff. , 51 f., 53 (¬3) Rev. Charles R. Watson (¬4) Islam and Missions 192

جنينة رسلان

هِيَ مَاذَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ هَذَا الاِنْقِلاَبِ العَظِيمِ عَلَى دِينِ الإِمْبْرَاطُورِيَّةِ (العُثْمَانِيَّةِ)؟» ويجيب (جسب) نفسه على هذا التساؤل فيقول: «إِنَّ هَذَا سَيُسَاعِدُ عَلَى طَبْعِ الكُتُبِ البْرُوتِسْتَانْتِيَّةِ، وَسَيُصْبِحُ المَرْءُ (العُثْمَانِيُّ) حُرًّا فِي أَنْ يُغَيِّرَ دِينَهُ» (¬1). وبينما كان المبشرون المؤتمرون في القاهرة في نيسان عام 1906 يعترفون ضمنًا بصعوبة التبشير، وإن التبشير كان إلى ذلك الحين فرديًا يتناول الفرد بعد الفرد، وإنهم يأملون أن يصبح التبشير إجماعيًا يتناول جماعات بقضها وقضيضها (¬2) إذا بهم يقررون في مؤتمر بيروت غير الرسمي، قبيل عام 1911، أن يبدأوا تنصيرًا بين المسلمين مباشرًا يسير في سورية وفلسطين خاصة بهدوء وبوسائل مختلفة. ولا يجد المبشرون حرجًا في أن يعلنوا أن نشر الدستور العثماني قد جعل التنصير المباشر أكثر إمكانًا وسهولة. من أجل ذلك قرروا أن يجددوا جهودهم وأن يسيروا بأعمالهم إلى الأمام (¬3). واستغل المبشرون مناسبة ثانية لتوسيع أعمالهم. لقد استغلوا الانتداب الذي فُرِضَ على البلاد العربية بالقوة، ثم احتموا بالدول المنتدبة وراحوا يخلقون المشاكل الدينية والقومية بين أبناء الوطن الواحد بإتيانهم أعمالاً تستفز الشعور وتزيد البغضاء في القلوب: تلك البغضاء التي لا تنفجر أحيانًا دينيًا وإن كانت تنفجر دائمًا، بلا ريب، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وأدبيًا. جَنِينَةُ رَسْلاَنْ: ونظر اليسوعيون في منطقة الانتداب الفرنسي فاختاروا أن يوسعوا جهودهم التبشيرية في بلاد العلويين بين النُّصَيْرِيَّةِ ليفرضوا عليهم المذهب الكاثوليكي. فزعموا أن نفرًا من هؤلاء قد جاءوا إلى الراهبات اليسوعيات في صافيتا وطلبوا منهن أن يقبلنهم في المذهب اللاتيني. ويقولون: إن الراهبات المذكورات اتصلن ببيروت فأسرع رهبان يسوعيون من بيروت إلى بلاد العلويين واستكتبوا رجلاً اسمه (محمد تامر) - أو زعموا ذلك اسمًا لرجل نُصَيْرِيٍّ - كتابًا، ثم أرسلوا كتابه إلى البابا، وفيه يقول بزعمهم: إن النُّصَيْرِيَّةَ من أحفاد الصليبيين، وإن التعليم الديني عند الرهبان جعلهم يرون أن النصرانية خير الأديان. ¬

_ (¬1) Jessup 790 f (¬2) Addison 148 (¬3) Islam and Missions 39 f

تنافس المبشرين

وهكذا تمكن اليسوعيون بمساعدة الفرنسيين، أو الجيش الفرنسي على الأصح، أن ينقلوا اثنتين وعشرين أسرة (أو نحو ثمانين شخصًا) إلى المذهب اللاتيني المسيحي بعد أن جمعوهم في جنينة رسلان في الخامس عشر من آب (أغسطس) عام 1930. ويعلق اليسوعيون على ذلك بقولهم وبلغتهم: Le premier pas était fait , il était décisif - «لَقَدْ خَطَوْنَا الخُطْوَةَ الأُولَى، وَلَقَدْ كَانَتْ خُطْوَةً حَاسِمَةً!» (¬1). بمثل هذه الروح يعمل اليسوعيون في بلادنا. ولا غرو فلقد كانوا مسلحين دائمًا بالرضى الفرنسي لأن معاهدة فرساي قد نصت في مادتها الثامنة والثلاثين بعد الأربعمائة على جواز التبشير في سورية. وبعد شهرين من هذا الحادث، في السادس من تشرين الأول عام 1930، أسفر اليسوعيون عن وجههم تمامًا وذهب الأب (شانتور)، رئيس الجامعة اليسوعية يومذاك، مع خمسة من المبشرين ليؤسسوا مركزين للتبشير في بلاد العلويين وفي قرق خان (¬2). تَنَافُسُ المُبَشِّرِينَ: لو كان التبشير دعوة خير لما تنازعت فيه طوائف المبشرين ولما تنافست فرقهم ومذاهبهم. والدليل القائم على ذلك أن أهل كل مذهب ديني ينشرون مع مذهبهم، وهم يبشرون به، هوى سياسيًا معينًا. ولقد كانت الدول تهتم بمبشريها لاعتقادها أن مبشريها طلائع نفوذها ومقدمات لتبسطها في الأرض. لما اتسع نفوذ المبشرين الأمريكيين في الإمبراطورية العثمانية، بين عام 1840 - 1850، وكثر تدخلهم في شؤون البلاد تنفيذًا لسياسة استعمارية، عزمت تركيا على إخراجهم من الإمبراطورية كلها. ولكن وزير الخارجية الأمريكية رفض أن يتخذ مثل هذه الخطوة. ثم استطاعت الولايات المتحدة أن تحول انتباه الباب العالي إلى أمور أخرى (¬3)، أي أن الولايات المتحدة أثارت لتركيا مشاكل كبيرة صرفتها عن أمر المبشرين. وهكذا ظل المبشرون الأمريكيون يتمتعون في الإمبراطورية العثمانية بحقوق الرعايا الأمريكيين كما تنص معاهدة «الامتيازات الأجنبية» التي تمنح الأجانب ¬

_ (¬1) Les Jésuites en Syrie 10 : 23 - 9 (¬2) ibid 10 : 7 (¬3) Islam and Missions 159

المرغوب في وجودهم في الإمبراطورية العثمانية حقوقًا واسعة. ولكن المبشرين كانوا يتسلحون بهذه المعاهدة ويأتون بأعمالهم التبشيرية والسياسية، حتى أنقذت تركيا نفسها من هذه المعاهدة الجائرة عام 1914، إذ ألغتها بعد نشوب الحرب العالمية الأولى. وأدرك المبشرون أن اختلافهم يضعف قواهم من ناحيتين: أن المنافسة بين الجمعيات التبشيرية يضطرها إلى بذل جهود كبيرة ثم يجعل بعضها ينافس بعضًا، وهكذا تضعف حركة التبشير نفسها. كذلك يحط اختلاف المبشرين فيما بينهم من مقامهم في عيون الشعوب فيقل تأثيرهم بقلة احترام الناس لهم. لذلك فرح المبشر (جون موط) لما اجتمع في مؤتمر إدنبره (اسكوتلندة) عام 1910 مندوبون عن مائة وتسع وخمسين جمعية تبشيرية من جميع أقطار العالم ثم أَلَّفُو لِجَانًا مُشْتَرَكَةٍ لمتابعة أعمال التبشير المختلفة. ولكن هذه اللجان المشتركة لم يكتب لها نجاح كبير، فقد حالت الحرب العالمية الأولى دون قيامها بالعمل الموحد. ثم انتهت الحرب العالمية الأولى، ولكن القيادات الدينية في العالم المسيحي لم تشأ أن تتنازل عن زعاماتها الخاصة، مما جعل (جُونْ مُوطْ) نفسه يقر بأن الجمعيات المسيحية غير موحدة توحيدًا ظاهرًا ولا فعليًا، لا في البلاد غير المسيحية ولا في أمريكا نفسها (¬1). إن توحيد جهود المبشرين لم يتحقق لأن لكل دولة من وراء التبشير غايات سياسية تخالف غايات سائر الدول. ولما حاول (جُونْ مُوطْ) أن يرسم صورة للشخصية التي يجب أن تتحد تحت قيادتها جهود الأمم النصرانية في ميدان التبشير أصر على نقطتين أساسيتين: أما أولاهما فهي أن تكون القيادة جامعة، لأن العصر الذي نعيش فيه جعل العبقريات تتخطى الحدود القومية. ثم أكد، في المقام الثاني، العنصر الاقتصادي في القيام بأعباء التبشير (¬2). فإذا نحن علمنا أن (جُونْ مُوطْ) كان قد عرض في كتابه للناحية الاقتصادية في فصل كامل سماه «إطلاق قوة المال» (¬3)، وذكر فيه - بالاستناد إلى " دائرة المعارف البريطانية " - أن الولايات المتحدة هي أغنى الدول، بل أغنى من عدد كبير من الدول الغنية مجتمعة، لم نعد الصواب إذا قلنا إنه كان يريد هذه الزعامة لأمته الأمريكية البروتستانتية. وهذا أمر لا تقره بطبيعة الحال فرنسا الكاثوليكية ولا إنجلترا البروتستانتية نفسها. أضف إلى ذلك كله الأنانية والنظرة الإقليمية الضيقة والكره المتأصل بين المذاهب مما يحول دون ¬

_ (¬1) Five Decades 48 - 49, 60 - 61 (¬2) Ibid 119 - 133 (¬3) Ibid 62 - 82

المبشرون يحتالون على النظام الجمركي

تحقيق التعاون على وجه ناجح (¬1). وهذا من حسن حظ المسلمين وحظ سائر البشر. المُبَشِّرُونَ يَحْتَالُونَ عَلَى النِّظَامِ الجُمْرُكِيِّ: ولم يكتف المبشرون منذ أول أمرهم بأن يقيموا حيث شاءوا في الإمبراطورية العثمانية، بل اتخذوا من ضعف الدولة العثمانية سببًا إلى التخلص من دفع الضرائب لأنهم أجانب! ويبدو لنا بكل وضوح أن الامتيازات التي أصبح الأجانب يتمتعون بها في الإمبراطورية العثمانية كانت تزيد كلما زاد ضعف تلك الإمبراطورية. فالأمريكيون مثلاً لم يكونوا قبل عام 1865 مُعْفَيْنَ مِنَ الضَّرَائِبِ (¬2). ويبدو أن الرهبان اليسوعيين خاصة كانوا يتمتعون بالإعفاء من الضرائب قبل المبشرين الأمريكيين (¬3). وأخيرًا أصبحت الإمبراطورية العثمانية من الضعف بحيث سمحت لجميع الأجانب بأن يتمتعوا في إمبراطوريتها بامتيازات واسعة فلا يدفعون ضرائب على ما يستوردون من الخارج إذا كان لحاجاتهم الخاصة. ولكن تركيا عاودتها في آخر الأمر جرأتها وألغت الإعفاء الجمركي لأنها عرفت أن رجال الدين الأجانب الذين جاءوا لأعمال البر والإحسان بين ظهرانينا قد جعلوا يستوردون البضائع المختلفة ثم يبيعونها للتجار الوطنيين، أو يبيعونها لحسابه الخاص ولكن بواسطة التجار الوطنيين (¬4). ولقد كانت الدول الأجنبية تبسط الحماية على مبشريها في بلاد المشرق لأنها تعدهم حملة لتجارتها وآرائها ولثقافتها إلى تلك البلاد، بل لقد كان ثمت ما هو أعظم من هذا عندها: لقد كان المبشرون يعملون - بطرق مختلفة كالتعليم مثلاً - على تهيئة شخصيات شرقية لا تقاوم التبسط الأجنبي (¬5). في الرابع من نيسان عام 1924 عقد اتفاق بين الولايات المتحدة وفرنسا في باريس، ولكن لم يعلن إلا في الثالث عشر من آب، جاء في المادة العاشرة منه: «إِنَّ أَشْرَافَ الدَّوْلَةِ المُنْتَدَبَةِ عَلَى الإِرْسَالِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ فِي سُورِيَّةَ وَلُبْنَانَ يَجِبُ أَنْ ¬

_ (¬1) Cooperation and the World Mission 45 (¬2) Jessup 293, 572, 470. (¬3) Jessup 534 etc. (¬4) Jessup 293. (¬5) Re -Thinking Missions p. 11, 14, 15

يَقْتَصِرَ عَلَى حِفْظِ الأَمْنِ وَتَسْيِيرِ الحُكْمِ (¬1). ثُمَّ إِنَّ نَشَاطَ هَذِهِ الإِرْسَالِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ يَجِبُ أَلاَّ يَعْتَرِضَ سَبِيلَهُ، كَمَا أَنَّ رِجَالَ هَذِهِ الإِرْسَالِيَّاتِ يَجِبُ أَلاَّ يَخْضَعُوا لِتَدْبِيرٍ يُقَيِّدُهُمْ بِسَبَبِ جِنْسِيَّتِهِمْ (¬2)، مَا دَامَ نَشَاطُهُمْ قَاصِرًا عَلَى الحَقْلِ الدِّينِيِّ ...». هذه المادة تدل ضمنًا على القيام بالتبشير، لأن التبشير هو المقصود بالتركيب «نَشَاطُ هَذِهِ الإِرْسَالِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ»، مما يلاحظ من أماكن مختلفة، ستراها في الفصول التالية. وليس المقصود منها «مُمَارَسَةَ العِبَادَاتِ»: إن رعايا الدول الأجنبية كلها تمارس عبادتها في لبنان وفي غير لبنان من غير أن تكون قد عقدت معاهدة مع الدولة الفرنسية المنتدبة. على أن فرنسا المنتدبة على سورية ولبنان قد استغلت كل فرصة لتنقل امتيازات الإرساليات المختلفة إلى الإرساليات الفرنسية وحدها. ففي تشرين الثاني من عام 1925 نقلت الحكومة الفرنسية حق الإشراف على المؤسسات التبشيرية، التي كانت للألمان قبل الحرب العالمية الأولى في بيروت خاصة، إلى المؤسسات التبشيرية والتعليمية الفرنسية ثم جعلتها تتمتع بإشراف الحكومة الفرنسية نفسها وإشراف المفوض السامي في سورية (¬3). هذه لمحة عامة في بواعث التبشير وملابساته وغاياته الظاهرة والباطنة نمر بها مسرعين. وسيرى القارئ الكريم أوجه التبشير مفصلة في الأبواب التالية. ونحن نحب من القارئ أن يتبين أن حب الخير والتعليم والتطبيب وما إليها هي وسائل للتبشير. ثم إن التبشير الديني نفسه ستار للتبشير التجاري والسياسي وأساسًا متينًا للاستعمار. ولنذكر دائمًا أن أكثر الفتن الداخلية في الشرق، من دينية وسياسية واجتماعية، إنما قام بها المبشرون والذين استأجرهم المبشرون، على ما نراه في الصفحات التالية كلها. ¬

_ (¬1) في الأصل Good Government (¬2) المقصود: يجب ألا يحرم الأمريكيون عن امتيازات تتمتع بها الإرساليات الدينية الفرنسية. (¬3) Bianquis 3 - 5

الفصل الثاني: التطبيب حيلة للتبشير

الفَصْلُ الثَّانِي: التَّطْبِيبُ حِيلَةٌ لِلْتَّبْشِيرِ: حينما يتخرج الطبيب في كليته يُقْسِمُ، بعد أن يتسلم الشهادة، يمينًا تمسى يمين أبقراط، وتعرف في الكتب العربية باسم وصية أبقراط. وصورة هذا العهد هكذا (¬1): «إِنِّي أُقْسِمُ بِاللهِ رَبِّ الحَيَاةِ وَوَاهِبِ الصِّحَّةِ وَخَالِقِ الشِّفَاءِ وَكُلِّ عِلاَجٍ، وَأُقْسِمُ بِأَسْقِلِبْيُوسْ (¬2)، وَأُقْسِمُ بِأَوْلِيَاءِ اللهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا وَأُشْهِدُهُمْ جَمِيعًا عَلَى أَنَّنِي أَفِي بِهَذِهِ اليَمِينِ وَهَذَا الشَّرْطِ ... وَأَقْصِدُ فِي جَمِيعِ التَّدَابِيرِ، بِقَدْرِ طَاقَتِي، مَنْفَعَةَ المَرْضَى. وَأَمَّا الأَشْيَاءُ التِي تَضُرُّ بِهِمْ وَتُدْنِي مِنْهُمْ بِالجَوْرِ عَلَيْهِمْ فَأَمْنَعُ مِنْهَا بِحَسَبِ رَأْيِي. وَلاَ أُعْطِي - إِذَا طُلِبَ مِنِّي - دَوَاءً قَتَّالاً وَلاَ أُشِيرُ أَيْضًا بِمِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لاَ أَرَى أَنْ أُدْنَي مِنَ النِّسَاءِ فَرْزَجَةً (¬3) تُسْقِطُ الجَنِينَ. وَأَحْفَظَ نَفْسِي فِي تَدْبِيرِي وَصِنَاعَتِي عَلَى الزَّكَاةِ وَالطَّهَارَةِ ... وَكُلِّ المَنَازِلِ التِي أَدْخُلُهَا إِنَّمَا أَدْخُلُ إِلَيْهَا لِمَنْفَعَةِ المَرْضَى، وَأَنَا بِحَالٍ خَارِجَةٍ عَنْ كُلِّ جَوْرٍ وَظُلْمٍ وَفَسَادٍ إِرَادِيٍّ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ فِي سَائِرِ الأَشْيَاءِ ... وَأَمَّا الأَشْيَاءُ التِي أُعَايِنُهَا فِي أَوْقَاتِ عِلاَجِ المَرْضَى أَوْ أَسْمَعُهَا، أَوْ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ عِلاَجِهِمْ، فِي تَصَرُّفِ النَّاسِ مِنَ الأَشْيَاءِ التِي لاَ يُنْطَقُ بِهَا خَارِجًا فَأَمْسِكُ عَنْهَا وَأَرَى أَنَّ أَمْثَالَهَا لاَ يَنْطِقُ بِهِ ...». هذه اليمين تنكشف عن نفس نبيلة إنسانية، ذلك لأن المريض المتألم يضحي أشياء كثيرة في ملكه حتى يتخلص من آلامه. وإذا رأى أحد قريبًا له أو ابنًا على الأصح مريضًا زاد رضاه بالتضحية وَقَلَّتْ قِيمَةُ كُلِّ شَيْءٍ في عينيه في سبيل شفاء ابنه أو أمه أو أبيه أو زوجه ¬

_ (¬1) " طبقات الأطباء ": 1/ 25. (¬2) أَسْقِلِبْيُوسْ: أول من تكلم في الطب من اليونانيين كما ذكر مؤرخو الطب (" طبقات الأطباء ": 1/ 14). (¬3) كذا بالأصل.

استغلال آلام البشر

اِسْتِغْلاَلُ آلاَمِ البَشَرِ: ولقد أدرك المبشرون هذا الميل في البشر فخرجوا عن كل نبل في الطبيعة الإنسانية وسخروا الطب في سبيل غايات، حسبك دليلاً على نوعها قولهم هم: «حَيْثُ تَجِدُ بَشَرًا تَجِدُ آلاَمًا، وَحَيْثُ تَكُونُ الآلاَمُ تَكُونُ الحَاجَةُ إِلَى الطَّبِيبِ (¬1)، وَحَيْثُ تَكُونُ الحَاجَةُ إِلَى الطَّبِيبِ فَهُنَالِكَ فُرْصَةٌ مُنَاسِبَةٌ لِلْتَّبْشِيرِ»، وهكذا اتخذ المبشرون الطب ستارًا يقتربون تحته من المرضى. وقد كان أول من غَيَّرَ سُنَّةَ أَبُقْرَاطْ الجَمِيلَةَ الأمريكيون حينما بدأوا ينشئون عياة طبية في سيواس (بتركيا) عام 1859 م (¬2). وهكذا نظر الأمريكيون منذ ذلك الحين إلى الطب على أنه معين على التنصير. ومنذ ذلك الحين اعتبر الأمريكيون الطب «مَشْرُوعًا مَسِيحِيًّا» (¬3). وعلى هذا قال الطبيب (بول هاريسون) (¬4) في كتابه " الطبيب في بلاد العرب " (ص 277): «إِنَّ المُبَشِّرَ لاَ يَرْضَى عَنْ إِنْشَاءِ مُسْتَشْفَى وَلَوْ بَلَغَتْ مَنَافِعُ ذَلِكَ المُسْتَشْفَى مِنْطَقَةَ (عُمَانْ) بِأَسْرِهَا. لَقَدْ وُجِدْنَا فِي بِلاَدِ العَرَبِ لِنَجْعَلَ رِجَالَهَا وَنِسَاءَهَا نَصَارَى!». ولا ريب في أن الطبيب يستطيع أن يصل إلى جميع طبقات الناس حتى أولئك الذين لا يخالطون غيرهم. ولذلك قال المبشرون: «إِنَّ بِإِمْكَانِ الطَّبِيبِ المُبَشِّرِ أَنْ يَصِلَ بِتَبْشِيرِهِ إِلَى جَمِيعِ طَبَقَاتِ المُسْلِمِينَ بِوَاسِطَةِ المَرْضَى الذِينَ يُعَالِجُهُمْ» (¬5). ثم إنهم فرضوا أن يكون الطبيب المبشر «نُسْخَةً حَيَّةً مِنَ الإِنْجِيلِ». أن بإمكانه أن يغير الذين حوله ويجعل منهم نصارى حقيقيين أو أن يترك في نفوسهم أثرًا عميقًا (¬6) على الأقل. والمبشرون يصرحون بذلك. كتب (س. أ. موريسون) (¬7) في مجلة " العالم الإسلامي " (¬8) التبشيرية يقول: «نَحْنُ مُتَّفِقُونَ بِلاَ رَيْبٍ عَلَى أَنَّ الغَايَةَ الأًسَاسِيَّةَ مِنْ أَعْمَالِ التَّنْصِيرِ بَيْنَ المَرْضَى ¬

_ (¬1) Milligan 133 (¬2) Addison 92 (¬3) Re -Thinking Missions 991 (¬4) Paul W. Harrison, ND, Doctor in Arabia (¬5) cf. 253 f (¬6) Harrison 276 (¬7) S. A. Morrison (¬8) I W, April 1920 pp 129 ff

أهمية المستوصفات والمستشفيات

الخَارِجِينَ (¬1) فِي المُسْتَشْفَيَاتِ أَنْ نَأْتِي بِهِمْ إِلَى المَعْرِفَةِ المُنْقِذَةِ، مَعْرِفَةِ رَبِّنَا يَسُوعْ المَسِيحُ، وَأَنْ نُدْخِلَهُمْ أَعْضَاءَ عَامِلِينَ فِي الكَنِيسَةِ المَسِيحِيَّةِ الحَيَّةِ». ويرى الكاتب أن للتبشير بين هؤلاء المرضى طريقين. وهو يفضل أن يزور الطَّبِيبُ المُبَشِّرُ المَرِيضَ (المُسْلِمَ) حتى يكون هذا المريض واسطة لجمع عدد غفير من المسلمين عنده في انتظار زيارة الطبيب. وحينئذٍ تكون الفرصة سانحة حتى يبشر هذا الطبيب بين أكبر عدد ممكن من المسلمين في القرى الكثيرة في طول مصر وعرضها. وفي عام 1924 أقام المبشرون مؤتمرًا عَامًّا وعقدوا جلساته في القدس وإستانبول وحلوان (مصر) وبرمانا (لبنان) وبغداد. وقد اهتم المؤتمرون، وخصوصًا في جلسة القدس، بالتطبيب على أنه وسيلة إلى التبشير (¬2) وفصلوا طرق ذلك. أما مؤتمر برمانا (لبنان) فلم يتعرض مفصلاً للتطبيب ولكنه أكد أهميته (¬3). وأحب أن أذكر هنا أسماء عدد من الذين حضروا جلسات برمانا حتى نعرف أولئك الأشخاص الذين يعيشون عيشتين: عيشة حيادية [بريئة] يدعون فيها للوطنية وتأليف القلوب ثم عيشة تبشيرية. من هؤلاء القس (مفيد عبد الكريم) (بيروت)، القس (خليل عواد) (اللاذقية)، القس (بشارة بارودي) (سوق الغرب)، القس (ج ستيوارت كورفورد) (الجامعة الأمريكية في بيروت)، (بيارد ضودج) (الجامعة الأمريكية في بيروت)، (امرأة جبر ضومط) (بيروت)، (جليل ايراني) (القدس)، (داوود كاتبة) (يبرود)، (إلياس مرموره) (نابلس)، الدكتور (نجيب سعد) (بيروت)، (نجيب شمعون) (برمانا)، المستشرق (مارجليوث) (لندن) (¬4). أَهَمِّيَّةُ المُسْتَوْصَفَاتِ وَالمُسْتَشْفَيَاتِ: أما إذا كان للأطباء المبشرين مستوصف أو مستشفى، فإن مهمتهم الثانية، أو الأولى على الأصح، تكون أسهل. حينئذٍ يستطيع الطبيب أن يجد في غرفة الاستشارة أو في العراء فرصًا مناسبة لينثر بذور التبشير في قلوب المرضى (¬5). في هذه الحال ¬

_ (¬1) المرضى الذين يأتون إلى المستشفى للمداواة من غير أن يناموا فيه. (¬2) Christian Workers 32 - 4 (¬3) Ibid. 121 (¬4) Ibid. 123. f (¬5) Richter 552

كبار أطبائهم مبشرون

يكون كل من دخل المستشفى أو أتى إلى المستوصف للمعالجة قد تلقى من طبيبه المبشر تلك الكرازة (¬1) التي توجهه نحو المسيح (¬2). من أجل ذلك عُنِيَ المبشرون، أول ما عُنُوا، بالتطبيب على أنه واسطة إلى غاية. إن اليسوعيين مثلاً قد أسسوا أكثر أعمالهم التبشيرية في سورية (¬3) إلى جانب مراكز التطبيب. بل إن مراكز التبشير قد بدأت عندهم مراكز للتطبيب في أول الأمر. وفي هذه المراكز وجهوا عنايتهم الأولى إلى كبار الموظفين وإلى الأعيان. وكانوا يستغلونهم من هذه الطريق لمصالح تبشيرية بحت. ومع الأيام أخذت عناية اليسوعيين بالتطبيب تقل وقيامهم بالتبشير يزيد حتى حل التبشير المحض محل التطبيب (¬4) الذي كان رِءَاءَ النَّاسِ. كِبَارُ أَطِبَّائِهِمْ مُبَشِّرُونَ: ومنذ عام 1875 م وجهت الجمعيات التبشيرية اهتمامها إلى سورية وأنشأت مراكز طبية في غزة ونابلس وغيرهما من المدن، وفي سورية وفلسطين. وكذلك كان لهم أطباء دَوَّارُونَ يزورون القرى ليلاحقوا الناقهين الراجعين إلى قراهم فيكرزوا فيهم، ولكنهم لم ينجحوا (4). وكذلك يجب ألا نعجب إذا علمنا أن أكثر الأطباء البروتستانت الذي نعرف أسماءهم ما جاءوا إلى بلاد العرب إلا حُبًّا بالتبشير لا بالتطبيب. ثم إن جلهم، إن لم نقل كلهم، قد أوقعوا في البلاد أضرارًا تفوق الخدمات الطبية التي أسدوها أضعافًا مضاعفة. إن (آسا دودج) و (فورست) و (كارنيليوس فان ديك) و (جورج بوست) و (تشارلس كلهون) و (ماري أدي) والدكتور (طومسون) (¬5) كلهم كانوا أطباء في الظاهر. أما في الباطن فكان ضررهم على البلاد يزيد أو ينقص بحسب الاستعداد الشخصي لكل واحد منهم وبحسب الفرص التي سنحت لهم. اِعْتِرَافُهُمْ بِخِدَاعِ المَرْضَى: وإذا أنت أردت أن تعرف مبلغ اهتمام هؤلاء الأطباء بالتبشير لا بالتطبيب فاعلم ¬

_ (¬1) الكرازة: تعبير مسيحي معناه إلقاء النصائح على الآتين إلى الكنيسة، كرز أو خرز (بالسريانية): وعظ. (¬2) Harrison 141 (¬3) Les Jésuites en Syrie 12 : 12 f أما الآن فإن اليسوعيين قد عادوا فأنشأوا مركزًا كبيرًا للتطبيب في البقاع. (¬4) Bliss (R) 316 f. Jessup 802, 804 (¬5) cf. jessup 37, 108, 804

إن نفرًا منهم أنشأوا مستوصفًا في بلدة الناصر في السودان، وكانوا لا يعالجون المريض أبدًا إلا بعد أن يحملوه على الاعتراف بأن الذي يشفيه هو المسيح (¬1)، وإن كان الكاتب قد وضع هذا المعنى في تركيب بلاغي يختلف عن هذا الذي قلناه نحن في اللفظ فقط. ومثل هذا كان فعلهم في أماكن مختلفة، ففي بلدة الناصر هذه مثلاً كان التنصير والتطبيب يسيران جنبًا إلى جنب كما يقول المؤلف نفسه (¬2). وفي الحبشة كانت المعالجة لا تبدأ قبل أن يركع المرضى ويسألوا المسيح أن يشفيهم (¬3). ومن الحيل التي استعملها المبشرون في وادي النيل أنهم استخدموا ثلاثة مراكب وجعلوها مستوصفات نقالة على النيل. وكانوا يعلنون عن مجيء الطبيب قبل أن يصل بوقت طويل، فيأتي الناس من كل صوب يحملون مرضاهم، وينتظر الجميع قدوم الطبيب. في هذه الأثناء يقوم فيهم من يبشر (¬4) فرحًا بالجموع، من غير أن يتحرك ضميره لهذه الآلام التي يتحملها المرضى في وضح الشمس ومضض الانتظار عمدًا وخداعًا. ومثل هذا كانوا يفعلون في بلدة الشيخ عثمان في اليمن. كان الناس يأتون من مكان بعيد يحملون مرضاهم، وكان أولئك الأطباء، الذين لم يضع اللهُ في قلوبهم شيئًا من معاني الإنسانية، لا يبدأون بعلاج المرضى إلا بعد أن يكرزوا عليهم (¬5). وحملت أم مرة طلفها المريض وجاءت به إلى مستوصف الناصر بالسودان، ولكن الطفل مات في أثناء الطريق الطويلة، فَلَمْ يُعَزِّ الطَّبِيبُ هَذِهِ الأُمَّ الثَّكْلَى بل جلس يكرز عليها (¬6). وكان المبشرون يعلنون ذلك ولا يكتمونه، فقد قال (رشتر): «فِي هَذِهِ المُنَاسَبَاتِ مِنَ التَّطْبِيبِ فِي مُسْتَوْصَفٍ أَوْ مُسْتَشْفَى يُمْكِنُ لِلْطَّبِيبِ أَنْ يُخَاطِبَ المُسْلِمِينَ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ لَوْ سَمِعُوا بَعْضَهُ فِي مَكَانٍ غَيْرَ المُسْتَشْفَى وَمِنْ شَخْصٍ غَيَرَ الطَّبِيبِ لامْتَلأُوا غَيْظًا وَغَضَبًا» (¬7). أما حيث تمتزج الصفاقة بالتدجيل ويمتزج الجهل بموت الضمير فكلام (إيرا هاريس). قالت (إيرا هاريس) تنصح الطبيب الذاهب بمهمة تبشيرية: «يَجِبُ أَنْ تَنْتَهِزَ الفُرَصَ لِتَصِلَ إِلَى آذَانِ المُسْلِمِينَ وَقُلُوبِهِمْ فَتَكْرُزَ لَهُمْ بِالإِنْجِيلِ. إِيَّاكَ أَنْ تُضِيعَ التَّطْبِيبَ فِي المُسْتَوْصَفَاتِ وَالمُسْتَشْفَيَاتِ فَإِنَّهُ أَثْمَنُ مِنْ تِلْكَ الفُرَصِ عَلَى الإِطْلاَقِ. ¬

_ (¬1) Milligan 158 (¬2) Milligan 101 (¬3) Milligan 132 (¬4) Milligan 142 (¬5) Gairdner 278 f (¬6) Milligan cf. 158 (¬7) Richter 252, cf. Methods of Missions 54

جهلهم وكرههم للعلم

وَلَعَلَّ الشَّيْطَانَ يُرِيدُ أَنْ يَفْتِنَكَ فَيَقُولُ لَكَ: إِنَّ وَاجِبَكَ التَّطْبِيبُ فَقَطْ لاَ التَّبْشِيرُ. فَلاَ تَسْمَعْ مِنْهُ» (¬1). ولقد تنبه (دانيال بلس)، الرئيس الأول للجامعة الأمريكية في بيروت، إلى كل هذا وإلى غيره أيضًا فأشار إلى الأطباء الدجالين الذين يتعرضون لمداواة الناس فإذا جاءهم المريض انصرف من عندهم بنسخة حسنة الطبع من الإنجيل وبوصفة خاطئة. ويعلق (دانيال بلس) نفسه على هذا الحديث بقوله: «وَبَعْدَ أَيَّامٍ يَكْتَشِفُ المَرِيضُ أَنَّ إِنْجِيلَ الطَّبِيبِ كَدَوَائِهِ» (¬2). وهنالك حوادث وأقوال مشابهة لهذه التي عددناها، أو هي تخالفها قليلاً، لا نميل إلى تعدادها لأنها تحمل على الملل. ولكن لا بأس من أن ننبه عليها تنبيهًا (¬3). جَهْلُهُمْ وَكُرْهُهُمْ لِلْعِلْمِ: ولكن لم تكن جميع أخطاء الأطباء المبشرين في الطب جهلاً، بل كان بعضها عنادًا وتعصبًا. ذكر الشيخ (مصطفى الغلاييني) في خطاب ألقاه في ذكرى مولد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في 12 ربيع الأول 1328 هـ (24 آذار 1910 م) شيئًا من هذا قال (وإن لم يقصد هو به ما نريد به نحن): «وَأَقْرَبُ مِثَالٍ عَلَى هَذَا أَمْرٌ جَرَى فِي بَيْرُوتَ، وَذَلِكَ أَنَّ الدُّكْتُورَ (وَرْتْبَاتْ) الأَمِرِيكَانِي الفَيْلَسُوفُ العَالِمُ الطَّبِيبُ كَانَ يُنْكِرُ عَدْوَى الجُذَامِ، مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأسَدِ ". ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةَ الحَدِيثِ وَتَحَقُّقِ عَدْوَى هَذَا المَرَضِ فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ مُعْدٍ ...» (¬4). بقي هنالك أشياء قليلة يجب أن تقال مفصلة. يقول بعضهم: إن مكان التنصير إنما هو في مستشفيات الإرساليات التبشيرية. ثم يذكر أن المستشفيات قد استغلت لهذه الغاية بصراحة. وهنالك اليوم عزم للاعتماد على الأعمال الطبية للوصول إلى الآذان ¬

_ (¬1) Methods of Missions 105 (¬2) Re -Thinking Missions 203 (¬3) Gairdner 278, 292 ; Richter 164, 191 f, 201 - 209 : Milligan 32; Islam and Missions 167; Methods of Missions 103; Cash 138 f. ; Addison 159, 168 (¬4) مجلة " النبراس " (بيروت) المجلد الثاني، الجزء الثالث، ص 127، 128.

العنصر النسائي في التبشير

والحصول على متنصرين (¬1). ويرى هذا القائل نفسه: أن المستشفيات يجب أن تسخر للتبشير على أن يصل المبشرون إلى الأشخاص المحترمين من ذوي الفائدة (¬2) الذين يمكن أن يؤثروا في غيرهم من أبناء ملتهم. والتبشير من طريق التطبيب كان عندهم عاملاً مُهِمًّا منذ زمن طويل، حتى إن هناك كُتُبًا في هذا الموضوع منها مثلاً كتاب " إرساليات (التبشير) الطبية " من تأليف (جون لو)، وقد صدر عام 1896 (¬3). العُنْصُرُ النِّسَائِيُّ فِي التَّبْشِيرِ: ولم ينس المبشرون مقام المرأة في الأسرة فوجهوا اهتمامهم إلى التأثير عليها وجعلوا يبشرون في مستشفيات النساء وفي المستوصفات. وكذلك أرسلوا الطبيبات المبشرات إلى البيوت والقرى للاتصال مباشرة بالنساء واستخدام نفوذ المرأة في الوصول إلى أهدافهم التي يزعمون أنها نبيلة، ولكنها لا تنكشف دائمًا إلا عن سعي لبسط نفوذ سياسي استعماري. ولقد استغل المبشرون كل شيء في سبيل التنصير (أو محاولة التنصير) حتى الممرضات. يرى المبشرون (¬4) أن الممرضة لا تعمل على تخفيف الألم عن المرضى فقط بل تحمل إليهم أيضًا رسالة المسيح، ولذلك حرص المبشرون على إنشاء مدارس للتمريض في إيران خاصة. يلاحظ القارئ أن فضل التبشير والتطبيب هذا قصير، وسبب ذلك هو أننا لم نحب أن نذكر الآراء والحوادث المشابهة. فحسب القارئ إذن أن يرى هذه النماذج ثم يعلم أن ثمت أمثلة كثيرة من جنسها. ¬

_ (¬1) Re -Thinking Missions 200 (¬2) ibid 199 - 201 (¬3) John Lowe, Medical Missions, New York 1896 (¬4) cf. MW, Oct. 1936, p 283

الفصل الثالث: التعليم ميدان فسيح للتبشير

الفَصْلُ الثَّالِثُ: التَّعْلِيمُ مَيْدَانٌ فَسِيحٌ لِلْتَّبْشِيرِ: [1] التعليم عمومًا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ • ... • ... • وَلَوْ عَظَّمُوه فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ، وَدَنَّسُوا • ... • ... • مُحَيَّاهُ بِالأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا كانت العصور الوسطى في التاريخ الإنساني تدعى العصور المظلمة لأنها كانت عصورًا خَبَا فيها نور العلم. فلما طلع العلم بنوره على أوروبا من الشرق بدأت غياهب تلك الظلمات تنجاب عن أوروبا شيئًا فشيئًا حتى ازدهرت المدينة فيها وعمتها الحضارة. فأوروبا المتحضرة بِنْتُ العلم وحده وليست بنت الدين. لقد كانت الروح الدينية في العصور الوسطى على أشدها في أوروبا وكانت أوروبا لا حضارة لها. فلما فضلت أوروبا العلم أصبحت قبلة الحضارة في العصور الحديثة. «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ» (¬1)، ولكنه يولد وفيه استعداد طبيعي يتوجه به نحو الخير أو الشر، ونحو صناعة دون أخرى. ولا ريب في أننا إذا استثنينا بعض عوامل الوراثة الطبيعية وجدنا أن الموجه الحقيقي لكل فرد إنما هو البيئة الأولى التي احتضنته صغيرًا. على أن عوامل البيئة تظل تعمل في الأفراد والجماعات، ولكن تأثيرها يقل كلما تقدم الإنسان في السن. ولقد أدرك المبشرون هذه الخاصة في البشر، هذه الخاصة التي يجب أن تستغل في سبيل الإنسانية وفي سبيل جلاء شخصية الفرد وبناء شخصية المجموع. ولكن المبشرين ضربوا بهذا كله عرض الحائط واستخدموا العلم في سبيل غايات ¬

_ (¬1) حديث شريف.

ليس للتعليم عندهم غاية سوى التبشير

صغيرة وشغلوا أنفسهم بتبديل عقائد الأفراد الدينية باذلين جهودًا كبارًا في سبيل منافسة غير نبيلة: عداوة على تجاذب الأشخاص بين اليسوعيين والبروتستانت، ومكائد بين فرق البروتستانت أنفسهم، ثم رياء لا حد له في تزيين الآراء وتسويد صفحات التاريخ. ونحن هنا دائرون بك حول نقطتين: حول استغلال المبشرين للعلم بطرق لا تنكشف إلا عن ضيق في الأفق، إلا أن هذا قليل الأهمية لأن الإنسان لا يلبث أن يرى هذا الأفق الضيق فيجازي به أصحابه. وأما النقطة الثانية فهي حرص المبشرين على إفساد النبل الإنساني وجعل العلم - العلم الذي هو نعمة في سبيل تحرر الإنسانية ورقيها - وسيلة إلى استعباد الأفراد والأمم ثم سوقهم بسيف الاستعمار إلى الاستكانة أمام سلطان السياسة المادي. لقد سَخَّرَ المبشرون اسم اللهِ في سبيل ترويج بضائع أممهم ونشر الفساد الاجتماعي في العالم، ولا ريب في أن بعضهم قام بما قام به غير عارف بما سيترتب على عمله من العواقب. ولكن العاقبة على كل حال لم تكن حميدة. لَيْسَ لِلْتَّعْلِيمِ عِنْدَهُمْ غَايَةُ سِوَى التَّبْشِيرُ: قال نفر من المبشرين: «إِنَّ أَهْدَافَ المَدَارِسِ وَالكُلِّيَّاتِ التِي تُشْرِفُ عَلَيْهَا الإِرْسَالِيَاتُ فِي جَمِيعِ البِلاَدِ كَانَتْ دَائِمًا مُتَشَابِهَةً. إِنَّ المَدَارِسِ وَالكُلِّيَّاتِ كَانَتْ تُعْتَبَرُ فِي الدَّرَجَةِ الأُولَى وَاسِطَةً لِتَمْرِينِ قِسَسٍ لِلْكَنِيسَةِ ... حَتَّى أَنَّ المَوْضُوعَاتِ العِلْمَانِيَّةِ التِي تُعَلَّمُ، مِنْ كُتُبٍ غَرْبِيَّةٍ وَعَلَى يَدِ مُدَرِّسِينَ غَرْبِيِّينَ، تَحْمِلُ مَعَهَا الآرَاءَ النَّصْرَانِيَّةَ» (¬1). وعلى هذا (الأساس) كتب المبشر (هنري هريس جسب) إلى المحترم (و. ستوارت دودج) في الخامس من كانون الأول عام 1870: «لِنَبْتَهِلْ إِلَى اللهِ فِي سَبِيلِ تَعْمِيدِ نُفُوسِ أُولَئِكَ الشُّبَّانِ الذِينَ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى الكُلِّيَّاتِ» (¬2). ويرى (هنري جسب) نفسه: «أَنَّ التَّعْلِيمَ فِي (مَدَارِسِ) الإِرْسَالِيَاتِ المَسِيحِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ وَاسِطَةٌ إِلَى غَايَةٍ فَقَطْ. هَذِهِ الغَايَةُ هِيَ قِيَادَةُ النَّاسِ إِلَى المَسِيحِ وَتَعْلِيمِهِمْ حَتَّى يُصْبِحُوا أَفْرَادًا مَسِيحِيِّينَ وَشُعُوبًا مَسِيحِيَّةً. وَلَكِنْ حِينَمَا يَخْطُو التَّعْلِيمُ وَرَاءَ هَذِهِ الحُدُودِ لِيُصْبِحَ غَايَةً فِي نَفْسِهِ وَلِيُخَرِّجَ لَنَا خِيرَةَ عُلَمَاءِ الفَلَكِ وَطَبَقَاتِ الأَرْضِ وَعُلَمَاءِ النَّبَاتِ وَخَيْرِ الجَرَّاحِينَ وَالأَطِبَّاءِ فِي سَبِيلِ الزَّهْوِ العِلْمِيِّ ... فَإِنَّنَا لاَ نَتَرَدَّدُ حِينَئِذٍ فِي أَنْ نَقُولَ: إِنَّ رِسَالَةً مِثْلَ هَذِهِ قَدْ خَرَجَتْ عَنْ المَدَى التَّبْشِيرِي المَسِيحِيِّ إِلَى مَدَى عِلْمَانِيِّ مَحْضٍ، ¬

_ (¬1) Re -Thinking Missions 118 (¬2) Jessup 378

إِلَى مَدَى عِلْمِيٍّ دُنْيَوِيٍّ. مِثْلَ هَذَا العَمَلِ يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ بِهِ جَامِعَاتُ هَايْدَنْبَرْغْ وَكَمْبْرِدْجْ وَهَارْفَرْدْ وَشِيفِيلْدَ، لاَ الجَمْعِيَّاتُ التَّبْشِيرِيَّةُ التِي تَسْعَى إِلَى أَهْدَافٍ رُوحِيَّةٍ فَحَسْبَ» (¬1). وكان (جسب) قد قال قبل ذلك: «إِنَّ المَدَارِسَ شَرْطٌ أَسَاسِيٌّ لِنَجَاحِ التَّبْشِيرِ، وَهِيَ بَعْدَ هَذَا وَاسِطَةٌ لاَ غَايَةٌ فِي نَفْسِهَا. لَقَدْ كَانَتْ المَدَارِسُ تُسَمَّى بِالإِضَافَةِ إِلَى التَّبْشِيرِ (دَقُّ الأَسْفِينْ) وَكَانَتْ عَلَى الحَقِيقَةِ كَذَلِكَ فِي إِدْخَالِ الإِنْجِيلِ إِلَى مَنَاطِقَ كَثِيرَةٍ، لَمْ يَكُنْ بِالإِمْكَانِ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا الإِنْجِيلُ أَوْ المُبَشِّرُونَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ» (¬2). ويرى بعضهم: «أَنَّ المَدَارِسَ قُوَّةٌ لِجَعْلِ النَّاشِئِينَ تَحْتَ تَأْثِيرِ التَّعْلِيمِ المَسِيحِيِّ أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ قُوَّةٍ أُخْرَى (¬3). ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّأْثِيرَ يَسْتَمِرُّ حَتَّى يَشْمَلَ أُولَئِكَ الذِينَ سَيُصْبِحُونَ يَوْمًا مَا قَادَةً فِي أَوْطَانِهِمْ (¬4). ورأي المبشرين في ذلك لم يتغير قط، حتى المستر (بنروز) الذي جاء في عام 1948 ليتسلم زمام الرئاسة في جامعة بيروت الأمريكية كان أيضًا خاضعًا لهذه الفكرة، إنه يقول (¬5): «لَقَدْ أَدَّى البُرْهَانُ إِلَى أَنَّ التَّعْلِيمَ أَثْمَنَ وَسِيلَةٍ اسْتَغَلَّهَا المُبَشِّرُونَ الأَمَرِيكِيُّونَ فِي سَعْيِهِمْ لِتَنْصِيرِ سُورِيَّةَ وَلُبْنَانَ ... وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَقَرَّرَ أَنْ يُخْتَارَ رَئِيسُ الكُلِّيَّةِ البْرُوتِسْتَانْتِيَّةِ الإِنْجِيلِيَّةِ (الجَامِعَةُ الأَمِرِيكِيَّةُ اليَوْمَ) مِنْ مُبَشِّرِي الإِرْسَالِيَّةِ السُّورِيَّةِ». وفي الوقت الذي كان الدكتور (بنروز) يعد مواد كتابه التبشيري، انعقد في القدس (في نيسان 1935) مؤتمر تحت إشراف فرع فلسطين من لجنة التعليم للمجلس التبشيري المتحد. ولم يضع المؤتمر تقريرًا على عادة المؤتمرات الأخرى، بل عهد إلى أحد أعضائه (هـ. دانبي) ليضع كتابًا توجيهيًا يتضمن ما وصل إليه المؤتمرون من الملاحظات والآراء (¬6). يقول (دانبي) في كتابه (ص 1): «كَانَ التَعْلِيمُ ... وَسِيلَةً قَيِّمَةً إِلَى طَبْعِ مَعْرِفَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالعَقِيدَةِ المَسِيحِيَّةِ وَالعِبَادَةِ المَسِيحِيَّةِ (فِي نُفُوسِ الطُّلاَّبِ)». والمؤلف يفرق بين المدارس المسيحية التبشيرية. «إِنَّ المَدَارِسَ التَّبْشِيرِيَّةَ تُحَاوِلُ أَنْ تَنْقُلَ الطُّلاَّبَ مِنْ مَذَاهِبَ مُخْتَلِفَةٍ إِلَى مَذْهَبِهَا هِيَ. أَمَّا المَدَارِسُ " المَسِيحِيَّةُ " فَإِنَّهَا تُحَاوِلُ أَنْ تُهَيِّئَ لِلْطَّالِبِ، مِنْ أَيِّ مَذْهَبٍ كَانَ، جَوًّا مَسِيحِيًّا وَتُحَمِّلُهُ فِيهِ عَلَى مُمَارَسَةِ ¬

_ (¬1) Jessup 592, 567 (¬2) Jessup 562, p 592 (¬3) Anna A. Milligan, 108 (¬4) Milligan, 124 - 5 (¬5) Penrose 7, 10 (*) (¬6) جميع أرقام الصفحات المحصورة بين الأهلة في متن المقاطع التالية تعود إلى: H. Danby, Why Christian Schools ? or what can Christian Schools contribute ? with particular reference to Palestine, Jerusalem 1936

كيف تختار هذه المدارس أساتذتها؟

التَّقْوَى المَسِيحِيَّةِ وَسُلُوكِ المَسِيحِيِّ (88 وما بعدها، 99)، وَخُصُوصًا مَا دَامَ طِفْلاً. وَهَكَذَا يَنْشَأُ الطَّالِبُ وَتَنْشَأُ مَعَهُ فَلْسَفَةٌ مَسِيحِيَّةٌ لِلْحَيَاةِ» (ص 30). وقبل (دانبي) و (بنروز) ذكر المبشر المشهور (جون موط) نفسه كلامًا أكثر وضوحًا، وفي ما يتعلق بالتعليم بين الصغار خاصة، قال (¬1): «يَجِبُ أَنْ نُؤَكِّدَ فِي جَمِيعِ مَيَادِينِ (التَّبْشِيرِ) جَانِبَ العَمَلِ بَيْنَ الصِّغَارِ وَلِلْصِّغَارِ. وَبَيْنَمَا يَبْدُو مِثْلَ هَذَا العَمَلِ وَكَأَنَّهُ غَيْرِيَّةٌ، تَرَانَا مُقْتَنِعِينَ لأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ بِأَنْ نَجْعَلَهُ عُمْدَةَ عَمَلِنَا فِي البِلاَدِ الإِسْلاَمِيَّةِ. إِنَّ الأَثَرَ المُفْسِدَ فِي الإِسْلاَمِ يَبْدَأُ بَاكِرًا جِدًّا. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الأَطْفَالُ الصِّغَارُ إِلَى المَسِيحِ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ الرُّشْدَ وَقَبْلَ أَنْ تَأْخُذَ طَبَائِعُهُمْ أَشْكَالَهَا الإِسْلاَمِيَّةً. إِنَّ اخْتِبَارَ الإِرْسَالِيَاتِ فِي الجَزَائِرِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الأَمْرِ، وَكَمَا ظَهَرَ مِنْ بُحُوثِ مُؤْتَمَرِ شَمَالِ أَفْرِيقْيَا، اخْتِبَارٌ جَدِيدٌ وَمُقْنِعٌ ... وَهَكَذَا نَجِدُ أَنَّ وُجُودَ التَّعْلِيمِ فِي يَدِ المَسِيحِيِّينَ لاَ يَزَالُ وَسِيلَةً مِنْ أَحْسَنِ الوَسَائِلِ لِلْوُصُولِ إِلَى المُسْلِمِينَ». كَيْفَ تَخْتَارُ هَذِهِ المَدَارِسُ أَسَاتِذَتَهَا؟: والمؤلف لا يطلب من المعلم أن يكون مسيحيًا فحسب، «بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسِيحِيًّا مِنْ كُلِّ قَلْبِهِ وَأَنْ يُطَبِّقَ الحَيَاةَ المَسِيحِيَّةَ عَلَى المَبَادِئِ الاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالدَّوْلِيَّةِ» (ص 30، 31). ولهذا كان المعلم الأجنبي أفضل من المعلم الوطني، وخصوصًا إذا كان المعلم الوطني مسلمًا. ثم يقول (دانبي): «ثُمَّ يَتَّسِعُ الشَّكُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ حِينَمَا نَأْتِي إِلَى اِسْتِخْدَامِ مُعَلِّمٍ غَيْرَ مَسِيحِيٍّ لِيُعَلِّمَ مَوْضُوعَاتٍ لاَ نَجِدُ لِتَعْلِيمِهَا مُعَلِّمًا مَسِيحِيًّا. أَجَلْ، إِنَّ البَرَاعَةَ فِي التَّعْلِيمِ لاَ صِلَةَ لَهَا بِدِينِ المُعَلِّمِ. وَمِمَّا لاَ رَيْبَ فِيهِ أَنَّ مُعَلِّمًا مُسْلِمًا ذَا خِبْرَةٍ بِمِهْنَتِهِ وَذَا كِفَايَةٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الجَانِبَ الشَّخْصِيَّ وَقُوَّةَ الخُلُقِ وَالشُّعُورِ بِالوَاجِبِ مَا يَجْعَلُ مِنْهُ مُعَلِّمًا يَبْعَثُ الحَيَاةَ فِي طُلاَّبِهِ أَوْ مُرَبِّيًا صَالِحًا. ثُمَّ هُوَ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي طُلاَّبِهِ أَكْثَرَ مِنَ المُعَلِّمِ المَسِيحِيِّ المُجَرَّدِ مِنَ الصِّفَاتِ التِي يَتَّصِفُ بِهَا ذَلِكَ المُعَلِّمُ المُسْلِمُ. وَلَكْنَ إِذَا كَانَتْ الغَايَةُ مِنَ التَّعْلِيمِ فِي المَدَارِسِ المَسِيحِيَّةِ (كَمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ) إِنَّمَا هِيَ تَزْوِيدُ الطُّلاَّبِ بِاسْتِشْرَافٍ مَسِيحِيٍّ لِلْحَيَاةِ، وَتَمْرِينٍ لَهُمْ عَلَى مُمَارَسَةِ المَبَادِئِ المَسِيحِيَّةِ وَتَقْرِيبِهِمْ مِنْ اخْتِبَارٍ شَخْصِيٍّ ¬

_ (¬1) Mott, The Moslem World of To - Day 371 - 372

لِلإِيمَانِ المَسِيحِيِّ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ لِلْمُسْلِمِ الأَمِينِ أَنْ يُعَاوِنَنَا عَلَى بُلُوغِ هَذِهِ الغَايَةِ؟ ثُمَّ إِذَا كَانَ هُوَ يَعْتَقِدُ بِهَذِهِ الغَايَةِ (لأَنَّهُ ضَعِيفُ الشَّخْصِيَّةِ خَنُوعٌ) وَلَكِنَّهُ لاَ يَخْطُو خُطْوَةً يُصَبِحُ بِهَا مَسِيحِيًّا، أَفَلاَ يَكُونُ لَهُ حِينَئِذٍ عَلَى تَلاَمِيذِهِ تَأْثِيرٌ سَلْبِيٌ فَيَسْتَنْتِجُونَ مِنْ سُلُوكِهِ أَنَّ الدِّينَ لَيْسَ مَوْضُوعًا ذَا أَهَمِّيَّةٍ حَاسِمَةٍ؟» (ص 62، 67، 68). «فَلِلْمَدَارِسِ المَسِيحِيَّةِ إِذَنْ رِسَالَةٌ تُؤَدِّيهَا. وَلِرِسَالَتِهَا هَذِهِ غَايَةٌ قُصْوَى، هِيَ أَنْ تَجْعَلَ الشُّعُوبَ كُلَّهَا فِي المُسْتَقْبَلِ تَابِعَةً لِلْكَنِيسَةِ». (ص 101، رجع ص 14 وما بعدها إلى 18) من أجل ذلك كله ترفض هذه المدارس - وفي فلسطين خاصة - أن تتقيد بالمنهاج الرسمي للبلاد (¬1): «إِنَّ تَقَيُّدَ هَذِهِ المَدَارِسَ بِالمَنَاهِجِ الرَّسْمِيَّةِ يُفْقِدُهَا صِفَتَهَا التَّبْشِيرِيَّةَ المَسِيحِيَّةَ وَيَجْعَلَهَا مَدْرَسَةً فِي عِدَادِ المَدَارِسِ الوَطَنِيَّةِ فَتَبْطُلُ الغَايَةُ مِنْ وُجُودِهَا». (راجع ص 6، 10) وهكذا نرى أن عقلية الأجانب، الذين يأتون إلى بلادنا باسم العلم ونشر العلم، لم تتغير قط في القرن الذي انقضى على بدء مجيئهم إلى هذه البلاد، منذ أيام (دانيال بلس) إلى أيام (ستيفن بنروز): كلهم مبشرون في الدرجة الأولى، وناشرون للعلم بِالعَرَضِ فقط. وما يقال عن الجامعة الأمريكية يقال عن الجامعة اليسوعية وعن كل إرسالية أجنبية. وبما أن التبشير رأسًا لم يجعل أحدًا من المسلمين يصبأ إلى النصرانية، فقد اتفق المبشرون على أن يقتربوا من المسلمين بطريقة غير مباشرة. والكل متفقون على أن التعليم أفضل هذه الطرق غير المباشرة (¬2). من أجل ذلك يجب ألا نستغرب إذا كانت أكثر مدارس البنين والبنات - والمدارس الأمريكية خاصة - لا تزال مرتبطة بالإرساليات (¬3). ومع أن الإرساليات التبشيرية تحاول النفوذ إلى الطوائف المسيحية المتعددة في الشرق، كأن يكتسب البروتستانت مثلاً نفرًا من الأرثوذكس، فإن المقصود الأول بالتبشير من طريق التعليم هم المسلمون، وخصوصًا بعد أن تبدلت الأحوال والعقليات بعد الحرب العالمية الأولى. وهكذا كان «تَارِيخُ الأَعْمَالِ التَّبْشِيرِيَّةِ فِي البِلاَدِ الإِسْلاَمِيَّةِ، إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ، تَارِيخًا لِلْتَّعْلِيمِ الأَجْنَبِيِّ» (¬4). ¬

_ (¬1) إن مدارس الإرساليات في لبنان تحاول كلها ألا تتقيد بالمنهاج الرسمي في التعليم وتطالب بجعل التعليم حُرًّا. (¬2) M W, July, 36, pp 224 ff (¬3) M W, Oct. 1931. p 389 (¬4) cf Milligan 20; Christian Workers 21. III ; Gairdner 277 f

وسائل التبشير في أثناء التعليم

لهذه الأسباب يعمل المبشرون على استغلال الجهل بين الشعوب والأمم لينفذوا إلى غاياتهم. كتب (بنيامين ماراي) مقالاً في مجلة " العالم الإسلامي " موضوعه: " شَمَالِيُّ نَيْجِيرْيَا مَيْدَانٌ لِلْتَّبْشِيرِ " (¬1)، استعرض فيه حالة تلك البلاد وما هي عليه من التأخر العلمي على الأخص، «إِذْ أَنَّ [الذِينَ] يُحْسِنُونَ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الكِتَابَةِ فَقَطْ، لاَ يَتَجَاوَزُ اثْنَيْنِ وَنِصْفٍ بِالمِائَةِ»، ثم قال (ص 181): «وَهَذَا يُتِيحُ فُرْصَةً عَظِيمَةً لِلْتَّعْلِيمِ التَّبْشِيرِيِّ المَسِيحِيِّ». وَسَائِلُ التَّبْشِيرِ فِي أَثْنَاءِ التَّعْلِيمِ: لما بدأ المبشرون عام 1834 يفتحون المدارس في بلادنا كان معظمهم يقصر التعليم على التوراة والإنجيل فقط لا يريد أن يتعداهما، إذ أن غاية المبشرين الحقيقية كانت إعداد شبان للتعليم في مدارسهم أو للعمل في مكاتبهم (¬2) توسيعًا لحركة التبشير. على أن بعضهم كان يود أَنْ يُعَلِّمَ الطُّلاَّبَ شيئًا آخر سوى التوارة والإنجيل (¬3). ولكن المبشرين كلهم أجمعوا على أن التعليم الديني شيء أساسي في سبيل غايتهم، واقترحوا فوق ذلك أن يوحد المبشرون مشروعهم المسيحي في التعليم (¬4). في ذلك الحين كان العلم قليل الانتشار في بلادنا. يقول (هنري جسب): «إِنَّنَا إِذَا اسْتَثْنَيْنَا القُرْآنَ وَكُتُبَ الدِّينِ (كَالتَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ وَالفِقْهِ) بَيْنَ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ كُتُبَ اللاَّهُوتِ (الفِقْهُ المَسِيحِيُّ) بَيْنَ النَّصَارَى، لَمْ يَكُنْ ثَمَّتَ فِي البِلاَدِ العَرَبِيَّةِ كُتُبٌ» (¬5). على أن في هذا مبالغة. لقد كان ثمت كتب لغة وكتب أدب ودواوين شعر كثيرة. ولكن هذه الكتب كلها كانت على كل حال قليلة الانتشار بين عامة الشعب. ويشهد (جسب) أنه كان في ذلك العصر كثيرون من المسلمين يقرأون (ويكتبون أيضًا)، أما بين النصارى فكان الذين يستطيعون القراءة والكتابة نفرًا قليلين. من أجل ذلك كله فكر المبشرون كلهم بأن يتخذوا من التعليم وسيلة وستارًا إلى التبشير. ولقد رتبوا ذلك على المنهاج التالي: ¬

_ (¬1) Nothern Nigeria as a Mission Field, Benjamin J. Marais, " The Moslem World ", April 1935 pp, 173 ff (¬2) Richter 161 (¬3) cf. Re-Thinking Missions 162: Richter 191 (¬4) Re-Thinking Missions 164 , 263; Bliss R 334 : Jessup 593 ff. etc (¬5) Jessup 27

إن المبشر الأول هو المدرسة!

إِنَّ المُبَشِّرَ الأَوَّلَ هُوَ المَدْرَسَةُ!: 1 - يجب أن يكون ثَمَّتَ مدارس حتى يستطيع المبشر أن يتصل بالناس ويدعوهم إلى مذهبه الديني. ولذلك قال اليسوعيون: «إِنَّ المُبَشِّرَ الأَوَّلَ هُوَ المَدْرَسَةُ» (¬1). 2 - ولما أراد المبشرون أن يجعلوا التعليم قاصرًا على التبشير فقط، من غير أن يطلعوا على سر ذلك أحدًا، اشترطوا أن يكون المعلم في هذه المدارس أجنبيًا غير وطني. أما إذا دعت الحاجة إلى معلم وطني فليكن مسيحيًا في الدرجة الأولى (¬2)، ولكن يجب أن يكون متمرنًا على التبشير (¬3). ونحن إذا راجعنا أسماء الأساتذة الذين يعملون في مؤسسة كالجامعة الأمريكية مثلاً رأينا أن جميع الذين تعهدوا هذه المؤسسة من قبل، أو عملوا فيها، كانوا مبشرين. ولا يزال إلى اليوم فيها نفر مبشرون في الدرجة الأولى. وبالأمس القريب في عام 1945 أو 1946 وجه أستاذ من الأساتذة الذين لا يمكن أن تظن أنهم مبشرون، كل عنايته إلى طالب وأدخله المسيحية. ثم إن الجامعة أرسلت هذا الطالب إلى أحد الأديرة في بلجيكا. وإن أحدنا ليعجب ان تكون الجامعة الأمريكية إلى اليوم أيضًا مسرحًا للتبشير (¬4). ولا تزال جميع المدارس الأجنبية تسير على سياسة الاستغناء عن المعلم المسلم ما أمكن، حتى الكلية العلمانية. أما مدارس اليسوعية والفرير (*) فلا يمكن أن يعلم فيها مسلم أبدًا، وأما الكلية العلمانية في بيروت ففيها مدرس [واحد] مسلم على ما نذكر. وأما الجامعة الأمريكية في بيروت فكانت قد مالت منذ عام 1925 إلى أن يكون فيها عدد من المدرسين المسلمين اختارتهم من أبناء الأسر المعروفة في بيروت والقدس ونابلس وحلب وحماه ودمشق، وكانت ترسلهم قبيل بدء كل عام مدرسي إلى المدن الداخلية ليشجعوا أبناءها على الدخول في الجامعة، ثم إنها أضربت عن ذلك أيضًا. ولا حاجة بنا إلى القول بأن هؤلاء المدرسين لم يكونوا يعاملون، من حيث الراتب والرتبة، كالمدرسين الأمريكيين ولا كالمدرسين الوطنيين من غير المسلمين أيضًا، مع العلم بأن حال بعض المدرسين الوطنيين من غير المسلمين لم تكن حالاً تدعو إلى الغبطة. ولقد لقي بعض هؤلاء المدرسين المسلمين من الجامعة الأمريكية عنتًا شديدًا. ¬

_ (¬1) Les Jésuites en Syrie 10 : 97 (¬2) Jessup 304, 518, 519 (¬3) Jessup 59; Bliss R 334 (¬4) وقد عاد هذا الطالب في أواسط 1949 بعد أن درس هناك ما قيل له أَنْ يُدَرِّسَهُ. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) الفرير: كلمة فرنسية Frères وتعني الإخوة (أي الإخوة المسيحيين).

الكتب المدرسية خاصة والطعن على الإسلام

3 - وكذلك طبقت مدارس المبشرين سياستها الضيقة على كتب التدريس، واعتمدت في أول أمرها كتابًا واحدًا هو التوراة (¬1). ولما أدركت أن هذا الكتاب وحده لا يكفي ورضيت أن تدرس التاريخ والجغرافية كانت تدرسهما من ناحية صلتهما بالتوراة فقط. ثم أضافت إلى ذلك كله موضوعات مشابهة (¬2): الكُتُبُ المَدْرَسِيَّةُ خَاصَّةً وَالطَّعْنُ عَلَى الإِسْلاَمِ: وأخيرًا جاءت العلوم الحديثة، ولم يبق بالإمكان أن تتجاهل المدارس الأجنبية علومًا عظيمة نافعة كالرياضيات والكيمياء والحقوق والاجتماع والاقتصاد والرسم وما شابهها، فلجأت تلك المدارس حينئذٍ إلى سياسة جديدة، إلى سياسة الدس على الإسلام والتاريخ الإسلامي. أليست هذه المدارس مدارس تبشيرية؟ أو ليس هدفها الأول مقاومة العرب والإسلام؟ فلماذا لا تضيف إذن إلى خطتها العمل على تشويه سمعة خصمها؟ وهكذا انحدر التبشير والمبشرون إلى درك في التاريخ والعلم لا يحمدون على الانحدار إليه. فلنستعرض بعض آراء هؤلاء في الكتب التي يقررونها في مدارسهم. لنأخذ أولاً الكتاب التالي ففيه أسوأ ما يمكن أن يقال، ثم لنفرع منه الآراء المنبثة في غيره من الكتب. اسم الكتاب الذي أعنيه: " البحث عن الدين الحقيقي " (¬3)، وهو محاضرات في التعليم الديني، تأليف (المنسنيور كولي). وقد صدر عن اتحاد مؤسسات التعليم المسيحي في باريس (طبعة 1928). هذا الكتاب قد نال رضا (البابا ليون الثالث عشر) في عام 1887 ثم عاش في المدارس المسيحية في الشرق والغرب إلى اليوم يطوي الصدور على الأحقاد نحو العرب والمسلمين، ويستفز شعور المسلمين استفزازًا شديدًا. جاء على الصفحة 220 من هذا الكتاب ما يلي: «الإِسْلاَمُ - فِي القَرْنِ السَّابِعِ (لِلْمِيلاَدِ) - بَرَزَ فِي الشَّرْقِ عَدُوٌّ جَدِيدٌ، ذَلِكَ هُوَ الإِسْلاَمُ الذِي أُسِّسَ عَلَى القُوَّةِ وَقَامَ عَلَى أَشَدِّ أَنْوَاعِ التَّعَصُّبِ. لَقَدْ وَضَعَ مُحَمَّدٌ السَّيْفَ فِي أَيْدِي الذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَتَسَاهَلَ فِي أَقْدَسِ قَوَانِينِ الأَخْلاَقِ، ثُمَّ سَمَحَ لأَتْبَاعِهِ بِالفُجُورِ ¬

_ (¬1) " العهد القديم " و" العهد الجديد ": أو " التوراة " و" الإنجيل " Bible . (¬2) Jessup 593; Bliss R 334 : Re-Thinking Missions 264 (¬3) Rechèrche de la vraie religion ; cf Bibliograhie

وَالسَّلْبِ. وَوَعَدَ الذِينَ يَهْلَكُونَ فِي القِتَالِ بِالاسْتِمْتَاعِ الدَّائِمِ بِالمَلَذَّاتِ. وَبَعْدَ قَلِيلٍ أَصْبَحَتْ آسِيَا الصُّغْرَى وَأَفْرِيقْيَا وَإِسْبَانْيَا فَرِيسَةً لَهُ، حَتَّىَ إِيطَالِيَا هَدَّدَهَا بِالخَطَرِ، وَتَنَاوَلَ الاجْتِيَاحُ نِصْفَ فِرَنْسَا. لَقَدْ أُصِيبَتْ المَدِنِيَّةُ. وَلَكِنَّ هَيَاجَ هَؤُلاَءِ الأَشْيَاعِ (المُسْلِمِينَ) تَنَاوَلَ فِي الأَكْثَرِ كِلاَبِ النَّصَارَى ... وَلَكِنْ انْظُرْ، هَا هِيَ النَّصْرَانِيَّةُ تَضَعُ بِسَيْفِ شَارْلْ مَارْتَلْ سَدًّا فِي وَجْهِ سِيْرِ الإِسْلاَمِ المُنْتَصِرِ عِنْدَ بْوَاتْيِهْ (752 م). ثُمَّ تَعْمَلُ الحُرُوبُ الصَّلِيبِيَّةُ فِي مَدَى قَرْنَيْنِ تَقْرِيبًا (1099 - 1254 م) فِي سَبِيِلِ الدِّينِ، فَتُدَجِّجَ أُورُوبَا بِالسِّلاَحِ، وَتُنْجِي النَّصْرَانِيَّةَ. وَهَكَذَا تَقَهْقَرَتْ قُوَّةُ الهِلاَلَ أَمَامَ رَايَةِ الصَّلِيبِ، وَانْتَصَرَ الإِنْجِيلُ عَلَى القُرْآنِ، وَعَلَى مَا فِيهِ مِنْ قَوَانِيِنِ الأَخْلاَقِ السَّهْلَةِ ...» (¬1). هذا نوع من الكتب التي تؤلف في الغرب عن الشرق، بل إن هذا النوع هو الغالب على أهل الغرب حينما يكتبون عن الشرق العربي أو الشرق المسلم: تعصب ذميم وتشويه للحقائق وإيقاد للأحقاد. ثم هم يأتون بهذه الكتب وَيُدَرِّسُونَهَا في الشرق العربي والشرق المسلم. ويظهر أن هذا الكتاب الذين نحن بصدده يُدَرَّسُ، أو كان يُدَرَّسُ على الأقل، في مدارس الإخوة المسيحية (الفرير) (*) في بيروت وفي جميع المدارس التابعة لهذه الرهبنة في غير بيروت. هذا النوع من التأليف هو الذي أقلق السلام بين الشرق والغرب منذ أقدم الأزمنة، وهو الذي يهدد السلام كل يوم وخصوصًا في الشرق. وليس بعجيب أن تكون حكومة الانتداب الماضية قد حمت هذا النوع من التأليف وفرضته على البلاد بالقوة. إن قارئ أمثال هذا الكتاب هو أحد ثلاثة نفر: - إما أن يكون من الذين يُسَرُّونَ بمثل هذه الشتائم ليشفي صدرًا حقودًا، وهو خطر على الوطن لأنه يجر عليه أسوأ العواقب. - وإما أنه رجل من سواد العامة يثار بمثل هذه الأمور فيقابلها حينئذٍ بمثلها، فيرد عليه آخرون قوله ثم تنتهي الحال بفتنة عمياء تأتي على كل شيء، وذلك أيضًا خطر على الوطن. - وإما أنه رجل عاقل يرى في ثنايا ما يقرأ نفسًا صغيرة وغاية حقيرة فيحتقر صاحبها ثم يوسع حكمه إلى احتقار الذين يرضون عن صاحبها، فإذا هوممتلئ شكوكًا وحذرًا واشمئزازًا من الذين يعيشون معه، وفي ذلك أيضًا خطر على الوحدة الوطنية. ¬

_ (¬1) لا تزال أمثال هذا الكتاب تُدَرَّسُ في مدارس الإرساليات الأجنبية في لبنان. وفي كل حين تضطر وزارة المعارف اللبنانية إلى منع كتاب أو أكثر. [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) الفرير: كلمة فرنسية Frères وتعني الإخوة (أي الإخوة المسيحيين).

واجب الحكومات الوطنية

أضف إلى ذلك كله أن هذا تشويه للحقائق وكذب على التاريخ، وأن الأمم التي تريد أن تحيا نبيلة عظيمة صحيحة يجب أن تكون أرفع من تنحدر إلى ذلك. وقد تكون المصيبة هينة لو أن صاحب هذا القول رجل من عُرض الناس، ولكنه رجل كاهن قانوني مثقف يمثل أحسن طبقات قومه. ثم إن البابا نفسه قد استحسن كتابه: قد استحسن اتجاهه واستحسن تفاصيل ما فيه من حوادث وأحكام واستحسن أسلوبه. وَاجِبُ الحُكُومَاتِ الوَطَنِيَّةِ: وبعد، فإن من أولويات الحكومات الوطنية أن تزيل أسباب التنافر والشقاق بإزالة هذا النوع من الكتب من بين أيدي طلاب اليوم ورجال الغد كي توجد في كل قطر وفي كل زمن وطنًا موحدًا سليمًا من الأحقاد والمخاطر؟ وهذا كتاب آخر يُدَرَّسُ مثلاً في الصف الرابع من المدرسة البطريركية في بيروت، وَيُدَرَّسُ بلا ريب في مدارس أخرى كثيرة في لبنان، وفي غير لبنان (وهو مطبوع في لبنان) والاسم الكامل لهذا الكتاب هو هذا: " تاريخ محاضرات (ج. إيزاك). حررها (أ. ألبا) للشرق الأدنى "، لطلبة الصف الخامس (العصور الوسطى)، طبعته مطابع الآداب الفرنسية في بيروت (¬1). جاء في هذا الكتاب: ص 31 - «وَاتَّفَقَ لِمُحَمَّدٍ فِي أَثْنَاءِ رِحْلَتِهِ أَنْ يَعْرِفَ شَيْئًا قَلِيلاً مِنْ عَقَائِدِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الأَرْبَعِينَ أَخَذَتْ تَتَرَاءَى لَهُ رُؤَى أَقْنَعَتْهُ بِأَنَّ اللهَ اخْتَارَهُ رَسُولاً». ص 32 - «وَالقُرْآنُ مَجْمُوعُ مَلاَحَظَاتٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ يُدَوِّنُونَهَا بَيْنَمَا كَانَ هُوَ يَتَكَلَّمُ، وَقَدْ أَمَرَ مُحَمَّدٌ أَتْبَاعَهُ أَنْ يَحْمِلُوا العَالَمَ كُلَّهُ عَلَى الإِسْلاَمِ بِالسَّيْفِ إِذَا اقْتَضَتْ الضَّرُورَةُ». ص 36 - «وَبَيْنَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِظُ كَانَ المُؤْمِنُونَ بِهِ يُدَوِّنُونَ كَلِمَاتِهِ عَلَى عَجَلٍ». ص 126 - «وَدَخَلَتْ فَلَسْطِينُ فِي سُلْطَانِ الكَفَرَةِ مُنْذُ القَرْنِ السَّابِعِ لِلْمِيلاَدِ». ¬

_ (¬1) Histoire, cours J. Isaac, rédigée par A. Alba pour le Proche - Orient. Classe de 5 ème. Moyen Age . Les Lettres Francaises, Beyrouth

وهنالك أيضًا كتاب آخر يستحق اهتمامنا. اسمه " تاريخ فرنسا " (¬1)، تأليف هـ. غيومان وف. لو ستير (لصفوف الشهادة الابتدائية). هذا الكتاب يُدَرَّسُ في مدرسة القديس يوسف للبنات في بيروت وفي مدارس هذه الإرسالية في غير بيروت بلا ريب (¬2) وقد جاء فيه مما نحن بصدده: ص 80 - 81: «إِنَّ مُحَمَّدًا، مُؤَسِسُ دِينِ المُسْلِمِينَ، قَدْ أَمَرَ أَتْبَاعَهُ أَنْ يُخْضِعُوا العَالَمَ وَأَنْ يُبَدِّلُوا جَمِيعَ الأَدْيَانِ بِدِينِهِ هُوَ. مَا أَعْظَمَ الفَرْقَ بَيْنَ هَؤُلاَءِ الوَثَنِيِّينَ وَبَيْنَ النَّصَارَى. إِنَّ هَؤُلاَءِ العَرَبِ قَدْ فَرَضُوا دِينَهُمْ بِالقُوَّةِ وَقَالُوا لِلْنَّاسِ: " أَسْلِمُوا أَوْ تَمُوتُوا "، بَيْنَمَا أَتْبَاعُ المَسِيحِ رَبِحُوا النُّفُوسَ بِبِرِّهِمْ وَإِحْسَانِهِمْ. مَاذَا كَانَتْ حَالُ العَالَمِ لَوْ أَنَّ العَرَبَ انْتَصَرُوا عَلَيْنَا؟ إِذَنْ لَكِنَّا نَحْنُ اليَوْمَ مُسْلِمِينَ كَالجَزَائِرِيِّينَ وَالمَرَّاكِشِيِّينَ». بمثل هذا الحقد يكتب المبشرون الكتب، ويضعونها في المدارس لأبنائنا ثم يزعمون أنهم جاءوا للتعليم والتهذيب. لقد صدق العرب: إن فاقد الشيء لا يعطيه. أفبمثل هذا يسعى سعاة الأمم بأن يقروا السلام في العالم والاطمئنان بين الشعوب والأمم؟ إن الاطمئنان والسلام لن يسودا ما دام هؤلاء المبشرون يزرعون أرض العالم أحقادًا وبغضاء. 4 - ويلحق بكتب التدريس التي عني بها المبشرون والتي تتضمن تهجمًا على العرب والإسلام كتب الخلافات، وهي كتب تتضمن ردودًا على الإسلام واعتراضات على عقائده وتاريخه (¬3). هذه الكتب لا تختلف كثيرًا عن النموذج الذي رأيناه قبل بضعة أسطر، ولكن يقصد بها طبقات القراء من الناس لا الذين لا يزالون على مقاعد الدراسة فقط. 5 - ومن سياسة المبشرين إقامة الاجتماعات التي تلقى فيها الخطب وتقام فيها المناظرات والمجادلات (¬4). ¬

_ (¬1) Histoire de France , du Cour moyen au certificat d'ètudes, par Guillemain et F. Le Ster, Paris . Les éditions des écoles , 11, rue de Sèvres (¬2) قد تكون إدارة مدرسة القديس يوسف قد بدلت الآن هذا الكتاب بكتاب آخر أحسن منه اتجاهًا أو أسوأ. ولكن حينما كنا نضع كتابنا هذا؛ كان الكتاب المذكور يدرس هناك. (¬3) cf. Gairdner 285, 288 (¬4) Gairdner 285, 288; cf. Re-Thinking Missions 163 - 264; cf. Methods of Missions 65 f

نشاط المبشرين من طريق التعليم

6 - ومن سياستهم أيضًا بناء كنيسة إلى جانب كل مدرسة (¬1). ولا ضرر مخصوص من ذلك. 7 - ويرى المبشرون أن يتظاهروا بدرس مشاكل الشباب المختلفة وبذلك ينفذون إلى نفوس الشباب من أهون الطرق لاجتذابهم إلى أديانهم ومذاهبهم. وإذا لم يستطع المبشرون ذلك فما عليهم إلا أن يوجهوا الشباب توجيهًا مسيحيًا (¬2). فالمبشرون إِذًا، إذا عملوا في التعليم، فإنهم لا يقصدون بذلك وجه العلم. إنهم يحاولون أن يستغلوا العلم في سبيل شيء آخر. نَشَاطُ المُبَشِّرِينَ مِنْ طَرِيقِ التَّعْلِيمِ: لقد أساء المبشرون إلى أشرف مبادئ الإنسانية، إلى العلم، لما اتخذوا منه وسيلة إلى التبشير. إن الأب الذي يأتمن على ابنه مدرسة ما من المدارس يقدم أثمن ما لديه وهو يعتقد أنه وضع ابنه - وهو لا يزال ساذجًا بريئًا - بين يدي أنبل الناس، بين يدي المعلمين. ولكن المعلم المبشر مخلوق قد نفرت من قلبه أجمل معاني الإنسانية، فقد نفرت من قلبه الأمانة والاستقامة والصدق. نحن نفهم أن يتعرض المبشر لرجل ناضج ويحاول أن يستميله بضروب الاستمالات، كما يتعرض الشيوعي أو الجمهوري أو الملكي أو الاشتراكي إلى الناس ليقنعهم بصواب مذهبه. أما أن يتخذ رجل أشرف ثوب أسبغه اللهُ على الإنسانية ليخادع به الأطفال ومن فوقهم قليلاً، فهذا عندنا وعند الناس كلهم منتهى الكفران للأمانة التي علقت في رقاب البشر. ألم يقل شاعرنا شوقي: قُمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبْجِيلاَ ... كَادَ المُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولاَ أَعَلِمْتَ أَشْرَفَ وَأَجَلَّ مِنَ الذِي ... يَبْنِي وَيُنْشِئُ أَنْفُسًا وَعُقُولاَ؟ هذا الذي ظنه شوقي، وظنه الناس كلهم، أشرف الناس قد جاء إلى بلادنا يلبس ثوب التقى ويتظاهر بعنون الإنسانية بينما تنطوي نفسه على أعظم قسط من الرياء يستغله في أشرف مكان على هذه الأرض، في المدرسة. وإذا نحن علمنا أن الإسلام قد قال على لسان رسول الله محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عِلْمُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةٍ» (*)، أدركنا مقدار ما في نفوس المبشرين، الذين يتخذون العلم وسيلة إلى غاية ضيقة ومستورة، ¬

_ (¬1) Jessup 591 (¬2) Re -Thinking Missions 163 f. 264 [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) لم يرد حديث مُسْنَدٌ بهذا اللفظ وإنما هو حديث موقوف على عبد الله بن عباس: «طَلَبُ العِلْمِ سَاعَةً خَيْرٌ مِنَ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَطَلَبُ الْعِلْمِ يَوْماً خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ». انظر " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة "، لابن عراق، حديث رقم 90. عَنْ نَهْشَلُ بْنُ سَعِيدٍ الْخُرَاسَانِيّ وَهُوَ كَذَّابٌ. قال الإمام الشوكاني معلقًا على هذا الحديث: «فِي إِسْنَادِهِ كَذَّابٌ»، انظر: " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة "، للشوكاني، تحقيق الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني، إشراف الشيخ زهير الشاويش، ص 255، حديث رقم: (887 - 36)، الطبعة الثالثة، 1407 هـ - 1987م، المكتب الإسلامي - بيروت.

من النفاق والرياء والجناية على الإنسان والروح الإنسانية. على أن المبشرين استغلوا العلم النبيل ستارًا لغايات هي بدورها ستار لغايات أخرى، لقد تظاهروا بالعلم وتظاهروا بالإحسان إلى الناس وتظاهروا بالدين، ولكنهم في الحقيقة يريدون - هم ومن استخدمهم - أن يصلوا من طريق هذا النشاط البريء في ظاهره إلى استعباد الشرق واستغلاله سياسيًا واقتصاديًا. في عام 1294 للميلاد ظفر (رامون لل) (¬1) بمقابلة من (البابا سلستين الخامس) وقدم له كتابين فيهما خطة للتبشير بين المسلمين في الأكثر. وكانت خطة (رامون لل) ذات شقين، أولهما أن تتخذ الكنيسة العلم والمدارس وسيلة للتبشير، وثانيهما أن ينصر المسلمين بالقوة إذا لم تنجح فيهم الجهود السلمية (¬2). ومع أن (البابا سلستين) هذا لم يصغ تمام الإصغاء إلى (رامون لل) (¬3). فإن التبشير مشروع بابوي متميز حتى من النصرانية نفسها (¬4). إن (غريغوريوس السادس عشر) الذي أصبح بَابَا عام 1831 قد شجع اليسوعيين على المجيء إلى سورية وأمر بالعمل فيها (¬5). وكذلك أعطى (البابا ليون الثالث عشر) اليسوعيين في سورية عام 1881 حق منح الشهادات بأنواعها. وهكذا أصبحت جامعة القديس يوسف جامعة باباوية (¬6). أما (بيوس الحادي عشر) الذي جاء إلى عرش رومية عام 1922 فقد كان يسمى بابا التبشير (¬7). وهكذا نرى أن التبشير من طريق التعليم مشروع باباوي في أساسه وتطوره. وللتعليم عند المبشرين غاية واحدة، هي تنصير التلاميذ الذين يحضرون إلى المدارس. في الكية الإنجليزية في القدس طلاب مسلمون ونصارى ويهود. وكانت سياسة المدرسة أن تبشر فيهم كلهم (¬8). إلا أن المقصود بالتبشير هو المجموع الإسلامي. ذلك لأن تاريخ الأعمال التبشيرية في بلاد الإسلام كان إلى حد كبير تاريخًا للتعليم التبشيري (¬9). ولقد استغل المبشرون التعليم لأن التعليم أثرًا فعالاً، بل هو أقوى وسائل التبشير. وعلى هذا الأساس بدأ المبشرون بإنشاء مدارسهم. حتى أنهم أنشأوا أول مدرسة ¬

_ (¬1) Ramon Lull (¬2) Addison 45 (¬3) Addison 46 (¬4) cf. Jung 10 (¬5) Les Jésuites en Syrie 1 : 8, 9 (¬6) ibid. 1:10, 11 (¬7) Page de Mission, cf. Les Jésuites en Syrie 1 : 7 (¬8) Cash 149 (¬9) Christian Workers 20

للبنات في الإمبراطورية العثمانية عام 1830 في بيروت (¬1). والمبشرون يرون أيضًا أن الوسيلة التي تأتي بأحسن الثمار في تنصير المسلمين إنما هي تعليم أولادهم الصغار (¬2). من أجل ذلك لم نستغرب أن يدعو المبشرون إلى إنشاء مدارس كثيرة في البلاد الإسلامية، فإنهم بهذه الطريقة يخرجون التلاميذ المسلمين من عناية المدارس المسلمة. ففي مصر مثلاً ترى المبشرين يكثرون من مدارسهم لينتزعوا المسلمين والأقباط على السواء من مدارس الحكومة فيخروجون التلاميذ من نطاق التعليم الإسلامي إلى مدى التعليم المسيحي (¬3). وهكذا رأينا البروتستانت خاصة ينشرون مدارسهم في جميع أنحاء الشرق الأدنى (¬4). ويفتخر (جسب) بأن مجموع عدد التلاميذ في المدارس الأمريكية البروتستانتية كان في عام 1891 يبلغ 7117، فإذا أضيف إليهم عدد الطلاب في سائر المدارس البروتستانتية كان ثمت خمسة عشر ألف طفل في قبضة التعليم الإنجيلي (¬5). وبعد ثماني عشرة سنة، أي عام 1909، كان للأمريكان وحدهم مائة وأربع وسبعون مدرسة في سورية وحدها منثورة في المدن والقرى (¬6). والمبشرون يحرصون على أن تكون المدارس هذه أجنبية لأنها هي التي تجعل المسلمين أقرب إلى التوراة (¬7). ولكي يكون التبشير كاملاً يرى المبشرون أن يتولوا هو التعليم في جميع أنواعه ودرجاته (¬8). فرياض الأطفال مثلاً مهمة جدًا لأن التعليم الديني في هذه المدارس يجعلها بَابًا مفتوحًا للتبشير وللتأثير في عقول الأطفال الغضة. ثم إن الذين يشرفون على رياض الأطفال يكونون أكثر اتصالاً بأهل الطلاب من الذين يشرفون على المدارس العالية (¬9). وكذلك التعليم الابتدائي وسيلة ثمينة للتبشير لأنه يمكن المبشرين من أن يثبتوا أقدامهم في القرى (¬10) تحت ستار التعليم الابتدائي الذي تحتاج إليه القرى في الدرجة الأولى. وللمدارس الابتدائية فضل على الكليات لأنها تمكن المبشر من أن يصل إلى العقول وهي لا تزال تتأثر بما يلقى إليها. ثم إن المدارس الابتدائية كرياض ¬

_ (¬1) Bliss R 327 (¬2) Christian Workers 5 (¬3) Methods of Missions 64 (¬4) Richter 221 (¬5) Jessup 593 (¬6) Jessup 805 - 808 (¬7) Islam and Missions 385 (¬8) Christian Workers 5 (¬9) Re -Thinking Missions 274 f. (¬10) Addison 123

التبشير وفادة البلاد في المستقبل

الأطفال تساعد على أن يتصل المبشرون بأهل الطلاب (¬1). وأكثر ما وصل إليه المبشرون البروتستانت إنما كان عن طريق المدارس الابتدائية (¬2). أما اليسوعيين خاصة فيجعلون الصفوف الدنيا في عهدة الراهبات، لأن الطلاب «الصغار» (¬3) هم فسائل (شتل) تغرس فيما بعد في الكليات، فيجب أن تكون هذه الفسائل مطبوعة طبعًا خاصًا (¬4). التَّبْشِيرُ وِفَادَةُ البِلاَدِ فِي المُسْتَقْبَلِ: والتعليم العالي عند المبشرين لا يقل أهمية عن سائر درجات التعليم، ذلك أنه يساعدهم على الوصول إلى الطبقات المثقفة، بل لعله أهم منها كلها. ولقد أدرك المبشرون منذ زمن أن التبشير قد خاب لأن الأفراد الذين لفتهم المبشرون عن الإسلام إلى النصرانية كانوا قليلين، ولم يكن لهم الأثر المنتظر. فلما اعتقدوا أن لا قدرة لهم على جعل المسلم نصرانيًا أحبوا أن يجعلوا الآراء المسيحية تتسرب إلى المسلمين وإلى المثقفين منهم خاصة. ثم إنهم اعتقدوا أن هذه الآراء تتسرب بعدئذٍ من تلقاء نفسها إلى المجتمع الإسلامي. هذه هي الفكرة التي أقنعت المبشرين بضرورة إنشاء المعاهد العالية في البلاد الإسلامية (¬5). وكذلك كان للمبشرين غاية أخرى من التعليم العالي، هي أن يؤثروا في قادة الرأي في البلاد، وفي الجيل الناشئ في الشرق الأدنى خاصة، ذلك التأثير الذي لا يمكن أن يتحقق إذا لم يكن ثمة تعليم عال (¬6). وعلى هذا الأساس أوجد المبشرون البروتستانت كلية في بيروت عام 1862 وجعلوا على رأسها المحترم (دانيال بلس) (¬7). هذه الكلية أصبحت فيما بعد: الكلية السورية الإنجيلية، ثم هي اليوم الجامعة الأمريكية في بيروت. ومن رأي المبشرين أن تؤسس الكليات في المراكز الإسلامية، ولذلك لم يكتفوا ببيروت بل أرادوا أن يكون ثمة كلية في القاهرة نفسها إلى جانب الجامع الأزهر (¬8). ¬

_ (¬1) Re -Thinking Missions 118 (¬2) Bliss R 517 (¬3) في الأصل Minimes أي الصغار. (¬4) Les Jésuites en Syrie 5 : 14 (¬5) Re -Thinking Missions 164 (¬6) Milligan 124 - 5 (¬7) Rev. Danial Bliss. cf Jossup 241 (¬8) Milligan 124 f

نشاط المبشرين في إنشاء المدارس

وهكذا أصبح للمبشرين الأمريكيين الكلية الأمريكية في القاهرة، بعد كلية روبرت في استانبول أيضًا. ولم يكن رأي المبشرين الفرنسيين مخالفًا لذلك فأنشأوا كلية لهم في مدينة لاهور (¬1)، وهي مدينة من المدن الإسلامية الكبرى في الهند (وعاصمة مقاطعة [البنجاب] في باكستان اليوم). نَشَاطُ المُبَشِّرِينَ فِي إِنْشَاءِ المَدَارِسِ: لما نزل المبشرون الأمريكيون من البروتستانت في سورية حوالي 1820 كانت الفكرة التي تراودهم منذ ذلك الحين أن يبشروا من طريق التعليم، ولذلك لا نستغرب إذا رأيناهم ينتشرون في كفرشيما (قرب بيروت) وفي بحمدون بجبل لبنان ثم في طرابلس وحمص وغيرها. إلا أن بؤرة نشاطهم التعليمي التبشيري كانت في بلدة " عبيه " الدرزية في جبل لبنان، حيث أنشأوا مدرسة لتخريج المعلمين والواعظين (المبشرين) عام 1843 وجعلوها برئاسة الدكتور (كارنيليوس فان ديك) (¬2). وفي كانون الثاني من عام 1859 أسس البروتستانت الأمريكيون في " عبيه " أيضًا مدرسة للبنات (¬3). ومثل البروتستانت فعل اليسوعيون: لقد أنشأ اليسوعيون مدرستهم الأولى في " غزير " (في كسروان - جبل لبنان) ولكنهم فيما بعد نقلوا نشاطهم إلى بيروت (¬4) كما فعل الأمريكيون من قبل. وسنرى تفصيل ذلك كله (¬5). ومع كثرة المنافسة بين فرق المبشرين المختلفة في التعليم وفي غير التعليم فإن هذه الفرق اتفقت كلها على المسلمين. ففي عام 1912 كان في سورية كلها ثمان وثلاثون مؤسسة تبشيرية ما بين إنكليزية وإسكوتلندية وإيرلندية وألمانية وسويدية ودنماركية وأمريكية طبعًا، لها مدارس كثيرة. وقد كانت هذه المؤسسات، مع تضارب سياساتها ومع كل ما بينها من التنافس، متفقة على وضع التوراة في العربية بين أيدي الطلاب على أنه كتاب تدريس أساسي (¬6). ولقد اتفقت المؤتمرات المحلية التي عقدت عام 1924 في القدس وبرمانا (لبنان) و [قسنطينة] (الجزائر) وحلوان (مصر) وفي بغداد ¬

_ (¬1) Gairdner 245 (¬2) Cornilius Van Dyck, cf. Bliss 105 ff (¬3) ibid 123 (¬4) Les Jésuites en Syrie 5 : 8 (¬5) راجع الفصل التالي. (¬6) Bliss R 328. cf. 329

إجبار المسلمين على دخول الكنيسة في مدارس التبشير

على التعاون بين المبشرين كلهم للوصول إلى أهدافهم في العالم الإسلامي (¬1). والتبشير من طريق التعليم مقصود به المسلمون خاصة (¬2). ولقد استطاع المبشرون أن يبعثوا كثيرًا من العداوة بين الطلاب حينما اتبعوا سياسة تقضي باستخدام الطلاب النصارى في مدارسهم وسطاء إلى التبشير بين الطلاب المسلمين كما حدث في مصر (¬3). إِجْبَارُ المُسْلِمِينَ عَلَى دُخُولِ الكَنِيسَةِ فِي مَدَارِسِ التَّبْشِيرِ: إن المدارس الأجنبية كانت تجبر جميع طلابها على دخول كنيسة المدرسة مرة كل يوم. ولا تزال مدارس الإرساليات الفرنسية تفعل ذلك إلى يومنا هذا أو أنها ظلت تفعل ذلك إلى زمن قريب على الأقل. وكذلك كانت الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية اليوم) تفعل ذلك فتجبر جميع طلابها على دخول الكنيسة وعلى حضور درس التوراة. فلما أعلنت الحرية عام 1908 أقسم عدد من الطلاب ألا يحضروا دروس الدين المسيحي وألا يدخلوا الكنيسة. وعجزت الكلية عن أن تطردهم لأن عددهم كان مائة وستين تليمذًا. فاضطرت إلى أن تعفيهم من حضور دروس التوراة ومن دخول الكنيسة مَعًا. في ذلك الحين كان (هوارد بلس)، مدير الكلية، غائبًا. فلما عاد عمد إلى تسوية مبنية على أن الطلاب غير النصارى معفون من دخول الكنيسة، ولكنهم غير معفين من دروس التوراة. وهذا هو الذي أبقى في رأي المبشرين على الشخصية الدينية للكلية (¬4). وفي سنة 1912 كان على جميع الطلاب أن يحضروا قداس الوعظ يوم الأحد. وكان ثمت اجتماعات دينية يتوجب حضورها على بعض طبقات الطلاب (¬5). وحتى عام 1922 كانت الجامعة الأمريكية لا تزال تصر على تعليم التوراة في صفوفها إذا استطاعت. في العام المدرسي 1921 - 1922 انتقلت (¬6) من مدرسة رأس بيروت التابعة لجامعة بيروت الأمريكية إلى الجامعة نفسها ودخلت إلى الصف الثالث الاستعدادي. ¬

_ (¬1) Christian Workers 27 - 8; 40 - 42; 77 - 9;105 f: 135 f (¬2) راجع ما قبل. (¬3) Methods of Missions 64 (¬4) Jessup 788 (¬5) Bliss R 311 (¬6) الكلام هذا للدكتور عمر فروخ.

التبشير بين الأميين

كانت الجامعة لا تزال يومذاك في عهدها المخضرم تخير طلابها بين أن يحضروا صفوف التوراة وبين أن يتلقوا دروسًا في الأخلاق. ولم يكن مستغربًا أن تختار الفرقة التي كنت أنا فيها دروس الأخلاق. على أننا فوجئنا بكتاب وضعته الجامعة بين أيدينا لا يختلف عن التوراة في شيء إلا في اسمه فقط، أما موضوعاته فقصص مأخوذة من التوراة ومن أخبار القديسين. فرفضنا نحن شراء الكتاب أو قبول تعيين درس منه. ولقد أحسنت إدراة الدائرة الاستعدادية يومذاك الاختيار فاستدعتني أنا وألقت علي تهمة تحريض الصف - مع أن هذا الشرف لم يكن لي وحدي - وخاطبني الرئيس (وليم هول) بكلام قاس، ثم قال لي: «بِمَا أَنَّ اعْتِرَاضَكَ كَانَ حَقًّا فَقَدْ أَلْغَيْنَا الكِتَابَ، وَلَكِنْ بِمَا أن رَدَّكَ على (المِسْتِرْ كْلاَتِسْ) فِي أَثْنَاءِ الصَّفِّ كَانَ خَارِجًا عَنْ اللِّيَاقَةِ المَدْرَسِيَّةِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ " الجَجْزُ " بَعْدَ ظُهْرِ الأَرْبِعَاءِ. وَلَقَدْ كَانَ مُرَاقِبُ الحَجْزِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ الأُسْتَاذُ (فريد مدور)». وكان من الحكمة أن أتقيد بأمر الرئيس (وليم هول) طائعًا مختارًا، لأن حجزي ألقي علي قضية الاختيار بين دروس التوراة ودروس الأخلاق نورًا فاضحًا. بعد أسبوع دعا الأستاذ (كلاتس) تلاميذ الفرقة التي أنا فيها وأقام لنا في غرفته حفلة بسيطة دلت على أن الهيئات التبشيرية قد تستطيع أحيانًا أن تسدل دون الضمير الإنساني ستارًا، ولكنها لا تستطيع أن تميته. إن هذ الحجز القصير قد ربح قضية لم تكن تافهة على الإطلاق: لقد ألغي منذ ذلك اليوم درس التوراة نهائيًا في الجامعة الأمريكية واستعيض عنه بدرس للأخلاق والتربية المدنية علمنا إياه في العام التالي المستر (بيارد ضودج) (الرئيس ضودج فيما بعد). التَّبْشِيرُ بَيْنَ الأُمِّيِّينَ: يستطيع المبشرون من طريق المدارس أن يصلوا إلى المتعلمين. أما الأميون فلا سبيل إلى الوصول إليهم من هذه الطريق. ولقد عد المبشرون ذلك صعوبة بالغة (¬1)، ثم تفتقت قريحتهم عن أن يعمد المبشر إلى الاتصال الشخصي بالأميين وأن يبدأ الكلام معهم على مقام عيسى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في " القرآن الكريم "، فيتكلم مثلاً عن المسيح بأنه روح الله كما جاء في القرآن، أو يقول عنه: «حضرة عيسى» كما يقال في الهند. وعلى المبشر ¬

_ (¬1) Christian Workers 86

التعليم الرسمي والتبشير

أن يقول أمام الأميين " القرآن الكريم "، وأن يذكر الشفاعة والجنة وما إلى ذلك من الألفاظ الإسلامية استمالة للسامعين الأميين. فإذا وثق من آذانهم صب فيها تبشيره (¬1). ولقد وسع (لويس ماسينيون) أستاذ جامعة فرنسا في باريس والداعية المبشر في قسم الشؤون الشرقية في وزارة المستعمرات الفرنسية على هذه الطريقة فمضى يقول بها في خطبه ومقالاته وأحاديثه. إلا أن لغته في هذا الباب لغة مثقلة بالاستعارات والرمز لا تعذب أحيانًا في السمع. ومع أن هذه الخطب والمقالات والأحاديث تدل على اطلاع واسع، فإنها لا تدل على صفا في التفكير أو على صفاء في الضمير على الأصلح. يتمنى (ماسينيون) في إحدى مقالاته أن يعود الاعتقاد الإسلامي في رجوع عيسى ابن مريم فيتفق مع الحادث الثاني للمسيح النصراني الذي يعمل المهدي العربي على انتصاره (¬2). ويقصد (ماسينيون) بكلمة ثانية أوضح أن يعود المسلمون عن قولهم: عيسى ابن مريم إلى القول: «عيسى ابن الله»، تعالى اللهُ عن ذلك علوًا كبيرًا. وفحوى مقال (ماسينيون) كله أنه ما دام لدى المسلمين أخبار برجوع المسيح عيسى ابن مريم، فلماذا لا يكون هذا المسيح الراجع هو المسيح الذي يعتقد به النصارى اليوم؟. ولقد ردد (ماسينيون) هذه الفكرة المأخوذة عن غيره والمدخولة في نفسها وجعلها عمدة عبقريته في الدعوة إِلَى أَنْ يُحْمَلَ المسلمون على ترك دينهم حتى يسهل استعمارهم على أهل الغرب. أقول (¬3) هذا وأنا أتألم إذ قوله عن رجل عرفته أستاذًا لي أستمع منه (¬4). ولكن الحق أكبر من (ماسينيون)، وَمَنْ عَلَّمَنِي حَرْفًا كُنْتُ لَهُ عَبْدًا فِي الحَقِّ لاَ فِي البَاطِلِ. التَّعْلِيمُ الرَّسْمِيُّ وَالتَّبْشِيرُ: رأى المبشرون أن المدارس الرسمية في البلاد التي تكثر فيها المذاهب الدينية لا تتشدد في تعليم الدين، بل تتساهل حتى لا تنفر أحدًا من مواطنيها، وحتى لا يحمل بعض المواطنين كرهًا لبعض. ولقد رأى المبشرون في ذلك ثغرة أحبوا أن ينفذوا منها إلى عقائد الطلاب في مثل هذه المدارس. قال (وليم هول) (¬5)، مدير الدائرة الاستعدادية في الجامعة الأمريكية في ¬

_ (¬1) Methods of Missions 36 f (¬2) L'Islam et L'occident 164 . Les cahiers du sud 1947 p. 164 (¬3) الكلام هنا للدكتور عمر فروخ. (¬4) في كلية فرنسا في باريس 1936. (¬5) Mott, The Moslem World of To - Day 180

بيروت (1896 - 1927) في شأن هذه المدارس: «وَالتَّعْلِيمُ فِي نَفْسِهِ قُوَّةٌ تَبْشِيرِيَّةٌ أَسَاسِيَّةٌ». إن مؤتمر شمالي أفريقيا قد ذكر أن مدارس الحكومة (المدارس الرسمية) تمهد الطريق أمامنا بنفي التحزب ثم بفتح آفاق جديدة. تلك هي نتائج جميع التعليم الحديثة. إن مدارس الإرساليات المسيحية الغربية يجب أن تتقدم (على كل ما سواها) في الاحتفاظ بهذه الزعامة: ويجب على المبشرين أن يحتفظوا في كل زمن بوجهة نظر المسيح فيما يتعلق بالحياة الفياضة. لما فُرِضَ الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان عام 1919 فرض معه منهاج التعليم الرسمي. وكان هذا التعليم الرسمي في مناطق الانتداب يساعد المبشرين في أعمالهم. لقد كان المبشرون في أول أمرهم (قبل الانتداب) ينشئون المدارس في جبل الدروز (على الأخص) بطلب من بعض زعماء الجبل. ولكنهم كانوا يغلقون تل المدارس إذا قصرت مواردهم عن إدارتها (أو إذا لم يستطيعوا التبشير فيها بنجاح على الأصح). أما بعد الانتداب فقد أصبح التعليم، وعلى الأخص في جبل الدروز، موضع تعاون وثيق بين المبشرين وبين السلطات العامة (¬1). وبما أن الحكومة الفرنسية كانت تساعد الإرساليات الكاثوليكية في عملها، فإن مدارس تلك الإرساليات كانت تحبب فرنسا إلى التلاميذ النصارى (¬2). ولم يكتف الفرنسيون طوال مدة انتدابهم، بأن يساعدوا اليسوعيين في أعمالهم المستقلة، بل فسحوا المجال ليكون لليسوعيين نفوذ كبير في توجيه المستشارين الإفرنسيين المشرفين على التعليم في منطقة الانتداب، وخصوصًا فيما يتعلق بالمناهج ومنح الشهادات الرسمية. وهذا ما جعل المناهج الرسمية كأنها خاضعة لليسوعيين مباشرة، ما لا صلة له ببحثنا. ولكننا نود أن نقول كلمة واحدة في سياسة الإفرنسيين في التعليم الرسمي في منطقة انتدابهم وسنستعير ما نقوله من " تقارير عن أحوال المعارف في سورية خلال سنة 1945" وضعها ساطع الحصري (¬3). لما درس العالم الاجتماعي ساطع الحصري مناهج التعليم في الجمهورية السورية لفت نظره أشياء كثار تدعو إلى الغرابة فقال (¬4): «هَذَا، وَيَجْدِرُ بِنَا أَنْ نَتَسَاءَلَ فِي هَذَا المَقَامِ: كَيْفَ تَأَسَّسَتْ هَذِهِ النُّظُمُ الغَرْبِيَّةُ فِي ¬

_ (¬1) Les Jésuites en Syrie 10 : 65 (¬2) ibid, 2 : 8 (¬3) دمشق، مطبعة الجمهورية السورية: 1946. (¬4) ص 24، 25.

سُورِيَّةَ؟ وَكَيْفَ دَخَلَتْ فِي عِدَادِ تَقَالِيدِ دَوَائِرِهَا الحُكُومِيَّةِ؟. إِنَّنِي كُنْتُ عَثَرْتُ عَلَى جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ خِلاَلِ التَّصْرِيحَاتِ التِي كَانَ أَدْلَى بِهَا إِلَيَّ أَحَدُ المُطَّلِعِينَ عَلَى هَذِهِ النُّظُمِ وَدَخَائِلَهَا. إِنَّ هَذِهِ النُّظُمَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِغَايَاتٍ تَحَكُّمِيَّةٍ، خِدْمَةً لِمَصَالِحِ الدَّوْلَةِ المُنْتَدَبَةَ وَحْدَهَا. فَإِنَّ رِجَالَ الاِنْتِدَابِ عِنْدَمَا شَعَرُوا بِضَرُورَةِ إِعْطَاءِ بَعْضِ السُّلُطَاتِ إِلَى الحُكُومَاتِ المَحَلِّيَّةِ وَالمُوَظَّفِينَ الوَطَنِيِّينَ، أَرَادُوا أَنْ يُوجِدُوا نِظَامًا إِدَارِيًّا خَاصًّا يَضْمَنُ لَهُمْ تَحْقِيقَ الغَايَتَيْنِ التَّالِيَتَيْنِ: آ - إِلْهَاءُ المُوَظَّفِينَ بِمُعَامَلاَتٍ قِرْطَاسِيَّةٍ مُطَوَّلَةٍ وَمُعَقَّدَةٍ لاَ تَتْرُكُ لَهُمْ مَجَالاً لِلاِلْتِفَاتِ إِلَى الأُمُورِ الجَوْهَرِيَّةِ مِنْ جِهَةٍ، ثُمَّ تُخْفِي عَنْ الأَنْظَارِ زِمَامَ السُّلْطَةِ الحَقِيقِيَّةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. ب - تَنْظِيمُ مَجَارِي المُعَامَلاَتِ الإِدَارِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ " مَرْكَزِيَّةٍ مُفْرِطَةٍ " لاَ تَتْرُكُ مَجَالاً لإِفْلاَتِ مُعَامَلَةٍ مِنَ المُعَامَلاَتِ عَنْ نِطَاقِ اطِّلاَعِ رِجَالِ الاِنْتِدَابِ، وَشَبَكَةِ سَيْطَرَتِهِمْ السَّافِرَةَ أَوْ المُقَنَّعَةَ. هَذَا هُوَ السِّرُّ الحَقِيقِيُّ فِي نَشْأَةِ البِيرُوقْرَاطِيَّةِ المُضْحِكَةَ وَالمَرْكَزِيَّةَ الغَرْبِيَّةَ التِي تُشَاهَدُ فِي جَمِيعِ نُظُمِ الإِدَارَةِ السَّائِدَةِ فِي سُورِيَّةَ. إِنَّ هَذِهِ النُّظُمُ التِي تُخَالِفُ أَبْسَطَ قَوَاعِدِ الإِدَارَةِ السَّلِيمَةِ وَأَوْضَحِ مَبَادِئِ العَقْلِ وَالمَنْطِقِ - إِنَّمَا وُضِعَتْ لِهَذَا السَّبَبِ وَلِهَذِهِ الغَايَةِ. إِنَّ انْسِحَابَ الأَيْدِي الأَجْنَبِيَّةِ التِي كَانَتْ تُحَرِّكُ أَهَمَّ عَتَلاَتِ هَذِهِ المَاكِينَةِ، وَانْتِقَالِ هَذِهِ المُعَامَلاَتِ إِلَى الأَيْدِي الوَطَنِيَّةِ لاَ يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ حَقِيقَةِ الحَالِ. إِنَّ هَذِهِ المَاكِينَةَ - لاَ تَزَالُ كَمَا كَانَتْ - مَاكِينَةً مُرَتَّبَةً لِخِدْمَةِ المَصَالِحِ الأَجْنَبِيَّةِ - بَعِيدَةً عَنْ خِدْمَةِ مَصَالِحِ البِلاَدِ الحَقِيقِيَّةِ. أَعْتَقِدُ أَنَّ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذِهِ المَاكِينَةِ - البَاقِيَةِ مِنْ عَهْدِ الاِنْتِدَابِ - وَالاِسْتِعَاضَةِ عَنْهَا بِمَاكِينَةٍ إِدَارِيَّةٍ جَدِيدَةٍ مُرَتَّبَةً تَرْتِيبًا تَخْدِمُ مَصَالِحَ البِلاَدِ الحَقِيقِيَّةِ - وِفْقًا لِلْقَوَاعِدِ المَأْلُوفَةِ فِي البِلاَدِ المُسْتَقِلَّةِ - يَجِبُ أَنْ يُعْتَبِرَ مِنْ أَوْجَبِ الوَاجِبَاتِ التِي تَتَرَتَّبَ عَلَى رِجَالِ سُورِيَّةَ فِي عَهْدِهَا الاِسْتِقْلاَلِيِّ هَذَا». هذه كلمة عامة قالها ساطع الحصري في تنظيم الإدارة لخدمة مصلحة الانتداب يوم كان الانتداب السافر موجودًا. ثم هو يعتقد أن زوال الانتداب لَمْ يُزَلْ آثَارُهُ. وأما فيما يتعلق بالثقافة خاصة فقد بسط ساطع الحصري رأيه في نحو ثلاثين صفحة من " تقاريره ". ولقد بين في أثناء ذلك أن الانتداب لم يسخر التعليم الرسمي لأغراض فرنسا المنتدبة فقط،

التعليم النسائي خاصة

بل سَخَّرَهُ أيضًا لأغراض المعاهد التعليمية الفرنسية ثم تحيز لها تحيزًا مفرطًا جعلها في الحقيقة صاحبة «امتياز»، أو صاحبة «احتكار» على الأصح. قال (¬1): «إِنَّ النُّظُمَ العَدِيدَةَ التِي وَضِعَتْ فِي سُورِيَّةَ فِي عَهْدِ الاِنْتِدابِ الفِرَنْسِيِّ إِنَّمَا كَانَتْ وُضِعَتْ تَنْفِيذًا لِسِيَاسَةٍ مَرْسُومَةٍ بِوُضُوحٍ وَإِتْقَانٍ. وَنَسْتَطِيعُ أَنْ نَقُولَ إِنَّ غَايَةَ هَذِهِ السِّياسَةِ كَانَتْ تَأْمِينُ سَيْطَرَةِ الثَّقَافَةِ الفِرَنْسِيَّةِ وَالنُّظُمِ الفِرَنْسِيَّةِ عَلَى مَعَارِفِ البِلادِ سَيْطَرَةَ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرَ الْتِفَاتٍ إِلَى مَا تَتَطَلَّبُهُ أَصُولُ التَّرْبِيَةَ السَّلِيمَةِ وَالعِلْمِ الصَّحِيحِ. إِنَّهَا كَانَتْ تُعْطِي لِلُّغَةِ الفِرَنْسِيَّةِ وَلِلْشَّهَادَاتِ الفِرَنْسِيَّةِ اِمْتِيازَاتٍ هَامَّةٍ، وَتَتَحَيَّزُ لِلْمَعَاهِدِ التَّعْلِيمِيَّةِ الفِرَنْسِيَّةِ تَحَيُّزًا مُفْرِطًا، يَجْعَلُهَا أَحْيَانًا لَيْسَتْ صَاحِبَةَ اِمْتِيازٍ فَحَسْبَ بَلْ صَاحِبَةُ اِنْحِصَارٍ وَاِحْتِكَارٍ أَيْضًا». بعدئذٍ يمضي ساطع الحصري مؤيدًا حكمه هذا بوقائع من نظم المعارف السورية في أيام الانتداب (ص 69 إلى 90). وهكذا ترى بجلاء أن الانتداب الفرنسي قد سخر التعليم كله لأغراض المدارس التبشيرية: والمدارس الفرنسية منها خاصة. التَّعْلِيمُ النِّسَائِيُّ خَاصَّةً: إن للتعليم النسائي أهمية خاصة في بناء المجتمع. هذه الأهمية لم تغب طبعًا عن أعين المبشرين فأولوها عناية عظيمة. ولن يتعرض هنا لموضوع المرأة من التبشير، فذلك له فصل خاص، ولكن سيقتصر هذا الفصل على تعليم البنات فقط. وكذلك نرى من إضاعة الوقت أن نعيد الكلام عن التعليم النسائي ما ذكرناه في باب تعليم الصبيان. من أجل ذلك سنقتصر في هذا الفصل أيضًا على ما هو خاص بتعليم البنات مما لم يرد في تعليم الصبيان. لما جاء المبشرون إلى العالم العربي كان العلم بين الرجال قليل الانتشار، أما بين النساء فكان أقل انتشارًا. وأدرك المبشرون أن هذه حال لا يمكن أن تدوم، وإن المرأة ذات أثر في التربية أكثر من الرجل فأولوها اهتمامًا عظيمًا، حتى قال (جسب): «إِنَّ مَدْرَسَةَ ¬

_ (¬1) " تقارير عن أحوال المعارف في سورية ": ص 69 وما بعدها.

التبشير بين الدارسين في الخارج

البَنَاتِ فِي بَيْرُوتَ هِي بُؤْبُؤُ عَيْنِي. لَقَدْ شَعُرْتُ دَائِمًا أَنَّ مُسْتَقْبِلَ سُورِيَّةَ إِنَّمَا هُوَ بِتَعْلِيمِ بَنَاتِهَا وَنِسَائِهَا. لَقَدْ بَدَأَتْ مَدْرَسَتُنَا (لِلْبِنَاتِ)، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهَا بَعْدُ بِنَاءٌ خَاصٌّ بِهَا. وَهَا هِيَ قَدْ أَثَارَتْ اِهْتِمَامًا شَدِيدًا فِي أَوْسَاطِ الجَمْعِيَّاتِ التَّبْشِيرِيَّةِ» (¬1). إن المبشرين لم يتأخروا في فتح مدارس البنات. إن أول مدرسة للبنات في الإمبراطورية العثمانية فتحها المبشرون في بيروت عام 1830 (¬2). ولقد فتح المبشرون مدارس كثيرة للبنات في مصر والسودان وسورية كلها وفي الهند والأفغان (¬3). وكان اهتمام المبشرين بالمدارس الداخلية للبنات أشد. قالوا: إن التبشير يكون أتم حبكًا في مدارس البنات الداخلية لما يكون فيها من الأحوال المواتية والفرص السانحة. إن المدرسة الداخلية تفضل المدرسة الخارجية لأنها تجعل الصلة الشخصية بالطالبات أوثق، ولأنها تنتزعهن من نفوذ حياة بيتية غير مسيحية (¬4). ويفرح المبشرون إذا اجتمع في مدارسهم الداخلية بنات من أسر معروفة، لأن نفوذ هؤلاء يكون حينئذٍ في بيتهن أعظم. وتتكلم المبشرة (أَنَّا مِيلِيغَانْ) فتقول: «فِي صُفُوفِ كُلِّيَّةِ البَنَاتِ فِي القَاهِرَةِ بَنَاتٌ آبَاؤُهُنَّ بَاشَوَاتْ وَبَكَوَاتْ. وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَكَانٌ آخَرَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ مِثْلُ هَذَا العَدَدِ مِنَ البَنَاتِ المُسْلِمَاتِ تَحْتَ النُّفُوذِ المَسِيحِيِّ، وَلَيْسَ ثَمَّةَ طَرِيقٌ إِلَى حِصْنِ الإِسْلاَمِ أَقْصَرَ مَسَافَةً مِنْ هَذِهِ الدِّرَاسَةِ» (¬5). من أجل ذلك طلب المبشرون الأمريكيون منذ عام 1870 مبلغ ثلاثين ألف دولار لمدرسة دينية للبنات في بيروت وعللوا طلبهم هذا بقيمة المرأة في الحياة البيتية وأن تلك المدرسة ستساعد على تنصير سورية في المستقبل (¬6). التَّبْشِيرُ بَيْنَ الدَّارِسِينَ فِي الخَارِجِ: على الرغم من كل ما ادعى المبشرون من أنهم جعلوا طلابًا مسلمين يصبأون إلى النصرانية، فإنهم يبالغون كثيرًا في نجاحهم. نحن لا نشك في أن أفرادًا مسلمين قد انقلبوا بعد إيمانهم. ولكن هؤلاء أفراد قليلون جِدًّ، ثم إنهم يعيشون في عزلة أو شبه ¬

_ (¬1) Jessup 280 (¬2) Bliss R 327 (¬3) Milligan 121 ff, Richter 249; Gairdner 203 - 5 (¬4) Milligan 102 (¬5) Milligan 121 (¬6) Jessup 223

عزلة لا يستطيعون أن يتحدوا [مع] المجتمع الذي يعيشون فيه. ولقد أدرك المبشرون ذلك كله. وبما أن غاية المبشرين ليست دينية في الدرجة الأولى بل هي «إفسادية»: يحاولون بها أن يفككوا وحدة الأمة الإسلامية ليحكموا شعوبها، فإنهم قنعوا أن يفسدوا هذه الشعوب، لأن إفساد الشعوب يصل بالمبشرين إلى غايتهم القصوى وهي تمكين الدول الغربية من حكم البلاد الإسلامية. أما النصرانية فإن الذين يمولون المبشرين لا يهتمون بها البتة. إن هؤلاء المبشرين الذِينَ يُرْسَلُونَ إلى الشرق لاكتساب نفوس جديدة إلى صفوف النصرانية - في الظاهر - يصرخون في كل مكان: «أَعِيدُوا أَوَّلاً إِلَى الكَنِيسَةِ طُلاَّبَنَا نَحْنُ، وَفِي أَمِرِيكَا نَفْسَهَا» (¬1). إذن يجب على المبشرين أن يفسدوا الطلاب المسلمين، يقول المبشر (تكلي) (¬2): «يَجِبُ أَنْ نُشَجِّعَ إِنْشَاءَ المَدَارِسِ، وَأَنْ نُشَجِّعَ عَلَى الأَخَصِّ التَّعْلِيمَ الغَرْبِيَّ. إِنَّ كَثِيرِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ قَدْ زُعْزِعَ اِعْتِقَادُهُمْ حِينَمَا تَعَلَّمُوا اللُّغَةَ الإِنْجْلِيزِيَّةَ. إِنَّ الكُتُبَ الغَرْبِيَّةَ تَجْعَلُ الاِعْتِقَادَ بِكِتَابٍ شَرْقِيٍّ مُقَدَّسٍ أَمْرًا صَعْبًا جِدًّا». ويبدو بوضوح أن المبشرين لم يستطيعوا إفساد المسلمين بالقدر الذي تمنوه فقنعوا بأن «يُلَوِّنُوا» الطلاب المسلمين بالنصرانية تلوينًا يبعدهم بعض البعد عن عقيدتهم الأولى ثم يدنيهم بعض الدنو من النصرانية. • • • مما لا ريب فيه أن ذهاب الطلاب الشرقيين إلى أوروبا وأمريكا يكسبهم شيئًا من أساليب الحياة الغربية ومن الاتجاه الغربي في التفكير والعلم والسلوك وما إلى ذلك. ولا ريب أيضًا في أن لذلك حسناته وسيئاته. ولكن المبشرين يريدون أن يفيدوا من دراسة الطلاب الشرقيين في الخارج أمرًا آخر. إنهم يريدون أن يجعلوا من هؤلاء الطلاب «نَصَارَى» بالفعل أو مماثلين للنصرانية (¬3). ويدخل في هذا الباب زواج المسلمين بالغربيات، الأوروبيات والأمريكيات، وسيأتي الكلام عليه مبسوطًا في مكانه. وتطيب هذه الفكرة للمستشرق المبشر وللمستشار الشرقي في وزارة المستعمرات ¬

_ (¬1) Missionary Outlook 275 (¬2) Takle, cf. 217 : cf. Islam and Missions :cf. alsoMissionary outlook 275 - 6 (¬3) Missionary Outlook 276 ff

الفرنسية، (لويس ماسينيون)، فيدبج المقالات الطوال ويقول لقومه: «إِنَّ الطُّلاَّبَ الشَّرْقِيِّينَ الذِينَ يَأْتُونَ إِلَى فِرَنْسَا يَجِبُ أَنْ يُلَوَّنُوا بِالمَدَنِيَّةِ المَسِيحِيَّةِ» (¬1). • • • وهكذا يجب أن نخرج من هذا الفصل بهذه الفكرة: أن المبشرين والذين هم وراء المبشرين، يبذلون كل جهد لاستخدم العلم والتعليم في سبيل التبشير. غير أن لتبشيرهم ظاهرًا وباطنًا. أما ظاهره فدعوة إلى سلوك هم لا يسلكونه. وتلك دعوة على كل حال لم تم: إن الذين يريدون أن يبشروا بالنصرانية بين غير النصارى، هم أنفسهم قليلو الاحتفال بالدين لكه. وإن من عاش مدة يسيرة في أوروبا والولايات المتحدة يدرك ذلك تمام الإدراك. وأما باطن التبشير فهو تفكيك أواصر القربى الروحية في الأمة الإسلامية خاصة ختى يستطيع الغرب أن يحكم الشعوب الإسلامية ويستغل بلادها اقتصاديًا وحربيًا. ¬

_ (¬1) Revue Dieu Vivant. No. 4, pp. 7 ss

الفصل الرابع: التعليم ميدان فسيح للتبشير

الفَصْلُ الرَّابِعُ: التَّعْلِيمُ مَيْدَانٌ فَسِيحٌ لِلْتَّبْشِيرِ: [2] المؤسسات التبشيرية: الكليات والجامعات خاصة. نشأ في الجمهورية اللبنانية أحزاب ومنظمات كثيرة لا يحصيها العد من هذه الأحزاب والمنظمات حزب (محلول اليوم) اسمه الحزب القومي السوري أنشأه عام 1932 شاب اسمه أنطوان سعادة وبنى عقيدته على أن سورية بحدودها الطبيعية وحده جغرافية. هذه الوحدة الجغرافية يجب أن تؤلف يومًا ما دولة قومية. لأن السوريين أمة. «وَعَلَى هَذَا تُؤَلِّفُ المَسْأَلَةُ اللُّبْنَانِيَّةُ جُزْءًا مُتَمِّمًا لِلْقَضِيَّةِ السُّورِيَّةِ. وَجَمِيعُ المًسَائِلِ السُّورِيَّةِ، بِمَا فِيهَا المَسْأَلَةُ اللُّبْنَانِيَّةُ يَجِبُ أَنْ تُوَحَّدَ فِي بَرْنَامَجٍ وَاحِدٍ وَقَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ» (¬1). وبعد أربعة أعوام، أي في عام 1936، نشأ على الضفة الثانية لهذا الكفاح السياسي منظمة اسمها «الكَتَائِبُ» اللبنانية (وهي أيضًا محلولة اليوم كمنظمة وموجودة كحزب). هذه المنظمة تقول: «إِنَّ لُبْنَانَ وَحْدَةٌ سِيَاسِيَّةٌ وَتَارِيخِيَّةٌ وَجُغْرَافِيَّةٌ (¬2)، وَإِنَّ اللُّبْنَانِيَّينَ أُمَّةٌ» (¬3). ولذلك قالت منظمة الكتائب أيضًا (¬4): «نَأْبَى التَّسْلِيمَ (بِنَظَرِيَّةِ سُورِيَّةَ الجُغْرَافِيَّةَ) لأَنَّهَا لاَ تُقِرُّ بِحَقِيقَةِ لُبْنَانَ الطَّبِيعِيَّةَ، فَضْلاً عَنْ أَنَّ هَذِهِ " النَّظَرِيَّةَ " - وَهِيَ مِنْ صُنْعِ المُسْتَشْرِقِينَ المُسَخِّرِينَ لِسِيَاسَاتِ الاِسْتِعْمَارِ - لاَ تَرْتَكِزُ إِلَى أَسَاسٍ تَارِيخِيٍّ ...». ومع أن الحزب القومي السوري ولمنظمة الكتائب اللبنانية شروحًا لمبادئهما كثارًا، ¬

_ (¬1) راجع: " بلاغ من زعيم السوريين القوميين إلى الرأي العام "، 5 يونيو (حزيران) 1936، ص 10، 11. (¬2) " أهدافنا " (الكتائب اللبنانية، مصلحة الدعاية والنشر)، 1936 - 1944، ص 7. (¬3) مثله 8. (¬4) مثله 12.

فإن الذي يهمنا هنا شيء آخر. إن الذي يهمنا هنا أن الاحتكاك والتراشق بينهما لم يفتر قط، بل كان يقوى كلما تقدم بهما الزمن وزاد أنصارهما. ومنذ أواخر عام 1943، أي بعد أن خرجت الجمهورية اللبنانية من قيود الانتداب الفرنسي إلى بحبوحة الاستقلال برزت العداوة بين الحزب القومي وبين الكتائب اللبنانية بروزًا ظاهرًا تراءى في الانتخابات النيابية وفي الأعياد المحلية وفي حفلات الخطابة. وفي أواخر حزيران وقع الاحتكاك العلني الأول بين أفراد الحزب القومي وبين أفراد منظمة الكتائب في بيروت، فقبضت الحكومة اللبنانية على نفر من هؤلاء ونفر من هؤلاء. إلا أن المقبوض عليهم من أفراد الحزب القومي السوري كانوا أكثر عددًا. ثم اتسعت حركة الاعتقال بين القوميين بتهمة تدبير انقلاب سياسي بقوة السلاح. ولم يكد ينتهي حزيران حتى أخذ أفراد الحزب القومي السوري يهاجمون المخافر اللبنانية في ضواحي بيروت وفي أماكن متفرقة في جبل لبنان والبقاع. ثم إنهم وسعوا حركتهم الثورية حتى اضطرت الحكومة اللبنانية إلى أن تجرد عليهم قطعة من الجيش، فاستطاعت في أيام قلائل أن تحبط حركتهم، ثم قبضت على عدد غفير منهم. وأخيرًا تمكنت من القبض على زعيم الحزب أنطوان سعادة وحاكمته محاكمة عسكرية ثم أعدمته رميًا بالرصاص (فجر الجمعة 8 تموز 1949). وفي صباح اليوم التالي صدرت جريدة " العمل " (¬1)، لسان منظمة الكتائب اللبنانية، وفي صدر صفحتها الأولى مقال افتتاحي عنوانه «كُونُوا مُتَيَقِّظِينَ». كان في هذا المقال الافتتاحي مقطع هو: «وَلَكَمْ أَشَرْنَا إلى أن الكلية الأمريكية في بيروت بؤرة ملأى بالدس على لبنان وعلى كيانه. إن أكثر الضالين من اللبنانيين ضلوا بين أحضانها، وكل المهوشين علينا من جيراننا تلقنوا بُغْضَ لُبْنَانَ وأساليب السعي ضده تحت أكنافها. وهل كانت حركة أنطوان سعادة تمكنت لو لم يجد لها أرضًا خصبة في تلاميذ الجامعة الأمريكية، لبنانيين وغير لبنانيين. فإلى متى هذا الإغضاء؟ إن المحنة التي اجتازتها البلاد ينبغي ألا تتجدد ولو اقتضى الأمر إلى اعتقال كل اللاجئين الأشرار (¬2) وإلى إقفال الجامعة الأمريكية». ¬

_ (¬1) جريدة " العمل " بيروت، السبت 9 تموز 1949، السنة العاشرة، العدد 1015. (¬2) إشارة إلى أن كثيرين من الذين قاموا بالحركة التي أدت إلى التصادم بين الحزب القومي وبين الحكومة كانوا سوريين أو فلسطينيين أو يسكنون في لبنان (المقال نفسه).

وفي اليوم التالي (10 تموز 1949) صدرت جريدة " الديار " (¬1) بمقال افتتاحي عنوانه: " فَضْلُ الجَامِعَةِ الأَمِرِيكِيَّةِ عَلَيْنَا " ردت فيه على جريدة " العمل " فقالت، بعد أن قدمت لمقالها بالمقطع السابق الذي اقتطعناه نحن من مقال " العمل ". قالت جريدة " النهار ": «فإذا كان المقصود من الضلال أرباب العقيدة العربية السليمة فإن طلبة الجامعة ليفتخرون بمعهد أيقظ فيهم روح العزة العربية، وجمع أبناء البلاد العربية في حظيرة هذه القومية. وإنهم يشفقون على معتنقي قوميات شعوبية سواء كانت قوميات لبنانية أو فينيقية أو سورية. وإذا كانت " العمل " متأثرة من الحزب القومي السوري فعليها أن تدرس بدقة فيتبين لها أن مقاومة مبدأ (هذا) الحزب في دنيا العرب تقوم على أكتاف طلاب الجامعة الأمريكية. إن مليون حجة تبنى على قومية محلية لا تقنع سوريًا أو عراقيًا بفساد نظرية القومية السورية، بل الإقناع يأتي من التطلع إلى قومية واسعة ناسخة، هي القومية العربية. إن هذه المهمة يتبرع بها طلاب الجامعة الأمريكية، وهو رسل القومية العربية في أنحاء الشرق العربي وحملة أعلام التحرر والاستقلال، يوم كان طلاب المعاهد الأخرى يغوصون في عبادة الاستعمار إلى ما فوق الرقاب». وفي اليوم نفسه (10 تموز 1949) عقدت جريدة " بيروت " مقالاً افتتاحيًا (¬2) في الرد على جريدة " العمل " عنوانه " إِلَى الكَتَائِبِ! " قالت فيه تنعت مقال " العمل " الاقتتاحي المذكور: «أقول جارفة لم يتعود أبناء الجامعة أن يطلقوها جزافًا، فأين الأسلوب (العلمي في التفكير ... وأين البحث والنظر ... وأين أعينكم وعقولكم يا رجال الكتائب؟). ولكن المعرفة سهلة والعمل عسير. والناس لا يتفاوتون كثيرًا في معرفة القانون، ولكنهم يتفاوتون جد التفاوت في تطبيق القانون. فما بال رجال الكتائب، وجلهم من رجال المعرفة، يهرفون بما لا يعرفون، وأين برهانهم وهم يكتبون ما يكتبون؟ إنهم يكتبون ما تمليه عليهم الظنون والأوهام، وتسطره الأذهان غير العملية، وما تفرضه السياسة ذات الاتجاه الواحد .. أنحن، شباب الجامعة , الضالون وأنتم المهتدون، لأن رجلاً كالزعيم أنطوان سعادة تبنى عقيدة ما؟ لقد استنكرنا هذه العقيدة قبل ¬

_ (¬1) جريدة " الديار "، بيروت: الأحد في 10 تموز 1949، السنة الثامنة، العدد 1911. (¬2) جريدة " بيروت "، بيروت، الأحد في 10 تموز 1949، السنة 13، العدد 3392، الصفحة الأولى.

الكتائبيين، وحاربناهم قبلهم. غير أن واحدًا لا يستطيع أن ينكر أن هذه العقيدة، مهما تكن أسسها واهية، ألفت بين المسيحي والمسلم وأذابت الطائفية التي نشكو منها جميعًا، والكتائب التي لم توفق عمليًا إلى هذا، أو إلى شيء من هذا فظلت على الرغم من جهاد استمر اثنتي عشرة سنة ذات لون واحد وصبغة واحدة. فهل تبنى الأوطان على عنصر (واحد) من المواطنين يحيا مع عناصر كثيرة؟. لسنا هنا في مقام الموازنة بين عقيدة الحزب القومي وبين عقيدة الكتائب، ولا نحن في مقام المقارنة بين شكل المقالات الثلاث التي استشهدنا بها. غير أننا نريد أن نوجه البحث إلى صلب الموضوع: «الجامعة الأمريكية» من حيث هي جامعة أجنبية، ثم «الجامعة اليسوعية» من حيث هي جامعة أجنبية أيضًا. إن مقال جريدة " بيروت " ومقال جريدة " الديار " قد مَسَّا هَذَا المَوْضُوعَ مَسًّا، ولكن مقال جريدة " بيروت " كان أكثر رفقًا - كما هو معروف من سياسة هذه الجريدة - أما مقال " الديار " فكان أوضح قليلاً. جريدة " العمل " تقول: «إن الجامعة الأمريكية يجب أن تزول لأن الكثيرين من الذين ينتمون إلى الحزب القومي السوري - عدو الكتائب - كانوا من الجامعة الأمريكية». فتقبل جريدة " الديار " هذا التحديث شكلاً وتقول: «إن نظرة طلاب الجامعة الأمريكية أوسع من ذلك. إنهم " أرباب عقيدة عربية "» .. ثم إنها تغمز الكتائب في ميلهم إلى القومية الفينيقية، وتغمز طلاب المعاهد الأجنبية الأخرى غمزة شديدة فتقول: «يوم كان طلاب المعاهد الأخرى يغوصون في عبادة الاستعمار إلى ما فوق الرقاب». هذا هو مجال المقارنة: ما مقام المدارس الأجنبية في حياتنا القومية؟ قد تتفاضل المعاهد الأجنبية في ذلك كثيرًا أو قليلاً، ولكن المعاهد الأجنبية معاهد أجنبية قبل كل شيء. ولقد اتفق للجامعة الأمريكية أن اعتنقت فكرة قومية أوسع، لأن أفقها كان أوسع، ولأن طلابها كانوا من بلاد أوسع انتشارًا في الأرض، ولأن الولايات المتحدة بلد مساحته ثمانية ملايين كيلومتر مربع، بينما الجامعة اليسوعية وجدت لتحبب فرنسا إلى أهل لبنان، أو إلى قسم من أهل لبنان على الأصح. ومع ذلك فإن هذا لا دخل له في موضوعنا الأساسي، فلنلتفت إلى ما كان لهذه المؤسسات الأجنبية كلها من مضار على حياتنا القومية والدينية والثقافية والاجتماعية، وإلى ما كان لها من نفع. أما نحن فنرى أن الجامعات أداة توجيه في البلاد، من أجل ذلك لا يجوز أن تكون

1 - مدرسة عبيه (لبنان)

أداة لتوجيه هذه في أيد أجنبية. مهما كانت هذه الأيدي الأجنبية رفيقة نظيفة خَيِّرَةً! ولكن الإنسان قد يُدْفَعُ أحيانًا إلى اختيار أهون الشَّرَيْنِ عَمَلِيًّا، وإن كان لا تفاضل في الشر من الناحية النظرية على الأقل. • • • يعترف القائمون على المؤسسات الأجنبية بأن هذه المؤسسات كانت في أول أمرها تبشيرية، ولكنها اليوم لاَ تُعْنَى بالتبشير. على أن هذا مخالف للواقع، وإنما هو قول يتسترون به لأن العصر الذي نعيش فيه أصبح يأبى هذا التعبير: «في سبيل التبشير». وحتى نستطيع أن ندل على أن هذه المؤسسات لا تزال إلى اليوم تبشيرية فإننا سنقص طرفًا من تاريخ عدد منها، وسنتوسع في تاريخ الجامعة الأمريكية ونتخذه نموذجًا للمؤسسات الأجنبية كلها. رأى المبشرون أن التبشير يجب ألا يقف عند انتهاء مرحلة التعليم الابتدائي أو الثانوي، بل يجب أن يستمر إلى مرحلة التعليم العالي لأنه هو الذي يهيئ قادة الشعوب. فإذا استمال المبشرون، إذن، بعض هؤلاء الذين ينتظر أن يكونوا قادة في بلادهم، فقد كفلوا التأثير على الشعب كله. من أجل ذلك تبلورت سياسة الإرساليات الأمريكية حول إقامة كليات مجهزة تجهيزًا جيدًا في إستنبول وإزمير والقاهرة وغيرها من مراكز البلاد الشرقية (¬1). ومع الأيام أصبح الأمريكيون يعتقدون أن المؤسسات التبشيرية، سواءً أكانت معاهد علمية أم مؤسسات أخرى، إنما هي «مصالح أمريكية» تجب المحافظة عليها. وهم لا ينكرون أن هذه «المصالح» كلها قد نشأت من التبشير وعلى أيدي المبشرين (¬2). 1 - " مَدْرَسَةُ عَبِيهْ " (لُبْنَانُ): اهتم المبشرون الأمريكيون ببلدة " عبيه " منذ نزولهم بسورية لأنها بعيدة عن مراقبة الحكومة المركزية في بيروت ولأنها في وسط ظنوه يسهل عليهم عملهم التبشيري: بُعْدٌ عَنْ العِمْرَانِ السِّيَاسِيِّ ووجود طوائف مختلفة في " عبيه " وما جاورها. من أجل ذلك نزل فيها (دانيال بلس) وزوجته ومكثا فيها في أول الأمر عامين ونصف عام (¬3). ¬

_ (¬1) cf Enc. of Missins 600 (¬2) cf, MW. Apr. 1939. pp. 121 ff (¬3) Bliss p. III, cf. Jessup 59, 60, 76, 107

2 - كلية روبرت في استانبول

وفي عام 1843 انتقل الدكتور (طومسون) والدكتور (كرنيليوس فان ديك) إلى " عبيه " وَأَدَارَا مدرسة دينية للصبيان. ثُمَّ ظَلاَّ يعلمان ويعظان حتى نُقِلاَ إلى صيدا عام 1851 (¬1). على أن مدرسة " عبيه " نفسها تأسست في الرابع من تشرين الثاني عام 1846 على يد الدكتور (كرنيليوس فان ديك) (¬2). وفي عام 1849 انتقلت إدارة هذه المدرسة إلى عهدة المبشر (سيمون كالهون). وهكذا استطاعت مدرسة " عبيه " أن تساعد كثيرًا على الغاية التي جاءت الإرساليات من أجلها (¬3). لقد ظلت مدرسة " عبيه " تمثل دورها حتى تأسست الكلية السورية عام 1865 في بيروت (¬4). لقد كانت مدرسة " عبيه " سلفاً الإنجيلية (¬5). وكذلك أنشأ المبشرون الأمريكيون مدرسة للبنات في " عبيه " أيضًا عام 1847 بإدراة السيد (دي فورست) وزوجته (¬6). 2 - " كُلَّيَّةُ رُوبَرْتْ " فِي اسْتَانْبُولْ: وهي كلية مسيحية غير متسترة لا في تعليمها ولا في الجو الذي تهيئه لطلابها (¬7). ويقول (دانيال بلس): «إِنَّ كُلِّيَّةَ بَيْرُوتْ وَكُلِّيَّةَ اسْتَانْبُولْ لَيْسَتَا أُخْتَيْنِ فَقَطْ بَلْ تَوْأَمَانِ» (¬8). إن هذه الكلية قد أنشأها مبشر ولا تزال إلى اليوم لا يتولى رئاستها إلا مبشر (¬9). 3 - " الجَامِعَةُ الأَمِرِيكِيَّةُ " فِي بَيْرُوتْ: ومع أن المبشرين الأمريكيين قد أنشأوا في " عبيه " مدرسة للصبيان وأخرى للبنات، فإنهم لم يعفوا بيروت من نشاطهم، فقد أسس (سيمون كالهون) منذ عام 1835 مدرسة في بيروت ليساعد حملة التبشير (¬10) التي شنها البروتستانت على سورية. ولكن لما تأسست الكلية السوية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية اليوم) في بيروت (عام 1865) لم يبق من ¬

_ (¬1) Jessup 60 (¬2) Jessup 96; Bliss 111 (¬3) Jessup 163 (¬4) Jessup 96 (¬5) Bliss 111 (¬6) Jessup 96 (¬7) Jessup 513 (¬8) Addison 91, cf. 99, 298 (¬9) MW, Apr, 1933, p.130 (¬10) Bliss 163, 212

حاجة إلى مدرسة " عبيه " ولا إلى مدرسة (كالهون)، فإن الكلية السورية الإنجيلية أخذت مكانهما. وجاء في تقرير لـ (دانيال بلس)، الرئيس الأول للكلية السورية الإنجيلية في بيروت هذه الحقائق نثبتها موجزة فيما يلي (¬1): في عام 1861 و 1862 كان (دانيال بلس) والدكتور (وليم طومسون) يبحثان في ضرورة إيجاد معهد عال لسورية ولسائر العالم العربي في الشرق الأدنى، فإن ذلك أفضل من أن يتعلم الطلاب علومهم العالية في الخارج: في أمريكا وانكلترا مثلاً. ذلك لأن ثمت أفرادًا تعلموا قليلاً أو كثيرًا في انكلترا وأمريكا ثم إنهم استقروا نهائيًا حيث تلقوا علومهم، أو أنهم رجعوا إلى بلادهم في الشرق الأدنى من غير أن يؤثروا في قومهم قط (أي لم يساعدوا المبشرين على التبشير بين أهل البلاد)، بينما الذين تعلموا في مدرسة " عبيه " قد اتخذ منهم المبشرون مُدَرِّسِينَ لمدارس التبشير وواعظين ومساعدين في أعمال مختلفة ... واعتمدت الكلية السورية الإنجيلية في تأسيسها على الرجال الذين يمولون التبشير، وخصوصًا من الإنجليز والأمريكيين. في 23 كانون الثاني من عام 1862 اقترح الدكتور (طومسون) أن يكون (دانيال بلس) رئيسًا للكلية. وفي 27 كانون الثاني اقترح (طومسون) و (بلس) مَعًا أن يكون الاعتماد الأول على الإرسالية الأمريكية للتبشير (¬2). وقد وافقت الإرسالية على ذلك وعلى أن يكون (دانيال بلس) رئيسًا للكلية أيضًا ... على ألا يتعارض ذلك مع عمل الإرسالية في سورية ... وعلى هذا الأساس سافر (دانيال بلس) في 14 آب 1862 إلى نيويورك فوصل إليها في 17 أيلول. وفي أيار من عام 1863 خطب (دانيال بلس) في الكنيسة المشيخية (¬3) في نيويورك فأكد الحاجة في الشرق الأدنى إلى أطباء وإلى تعليم ديني تكون التوراة فيه كتاب تدريس دائم. أما عمل الكلية فيجب أن يكون وضع كتب مسيحية تساعد على الاتصال بملايين الناس في آسيا وفي أفريقيا وعلى إسباغ النعمة (المسيحية) عليهم. وبعد أن عاد (دانيال بلس) من الولايات المتحدة ببضعة أشهر انعقد اجتماع في بيت الدكتور (فان ديك) في الثلاثين من كانون الأول 1863 حضره (فان ديك) نفسه و (فورد) و (جسب) و (هرتر) من الإرسالية الأمريكية. ثم حضر (جونسون) قنصل الولايات المتحدة في بيروت. ¬

_ (¬1) Bliss 162 ff : cf. Penrose 8 (¬2) cf. Jessup 241 (¬3) Presbyterian من فرق المذهب البروتستانتي.

وقد قرر المجتمعون يومذاك، بعد أن تذاكروا في إنشاء الكلية السورية الإنجيلية، اتجاه تلك الكلية فقالوا: «نَحْنُ نُصِرُّ عَلَى الطَّابِعِ التَّبْشِيرِيِّ لِلْكُلِّيَّةِ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ كُلُّ أُسْتَاذٍ فِيهَا مُبَشِّرًا مَسِيحِيًّا». وكذلك تبنى المجتمعون شرعة الاتحاد التبشيري على أن تكون تلك الشرعة هي الخطة التي يجب أن يعمل كل أستاذ عليها. وفي عام 1902 - أي في العام الذي اعتزل فيه (دانيال بلس) رئاسة الكلية - زال الإصرار على الفقرة فقط (¬1). وهكذا نرى أن الكلية السورية الإنجيلية قد ولد في رؤوس المبشرين ثم تعهدها المبشرون بعد ذلك أيضًا. ولقد اشترط المبشرون على القائمين بأمر الكلية ألا تفسد هذه الكلية عليهم عملهم (أي ألا [تعمل] ما يناقض مبدأهم التبشيري] وأن تكون مؤسسة بروتستانتية (¬2). وهكذا نرى بكل وضوح أن الكلية السورية الإنجيلية كانت نتاج التعليم البروتستانتي ووليد الإرسالية الأمريكية للتبشير (¬3). ومع أن الكلية كانت تعتمد في أول أمرها فقط على مساعدة الإرسالية المادية، فإنها كانت دائمًا تتفق معها في الغاية: في السياسة التبشيرية وفي العمل معها في هذه السبيل (¬4). وفي أول الأمر مالت الكلية إلى كتمان جهودها التبشيرية - وإن ظلت تبذلها - تجنبًا لسخط الحكومة العثمانية، ولذلك قال (دانيال بلس) نفسه: «إِنَّ السَّنَوَاتِ الأُولَى التِي شَهِدَتْ تَطَوُّرَ الكُلِّيَّةِ فِي مَجْرَاهَا بِهُدُوءٍ قَدْرَ الإِمْكَانِ، فَلاَ تُلْفِتُ إِلَيْهَا نَظَرَ رِجَالِ الحُكْمِ قَبْلَ أَنْ تُثَبِّتَ جُذُورَهَا فِي الأَرْضِ» (¬5). فلما ثبتت جذورها تركت التستر وأصبح لها اجتماعات دينية ظاهرة فأجبرت جميع الطلاب على حضور الصلوات في الكنيسة كل يوم، وأجبرت الطلاب الداخليين خاصة على أن يحضروا صلاة يوم الأحد أيضًا. ولما زار المبشر (جون موط) الكلية السورية الإنجيلية عام 1895 أسست الكلية فرعًا لجمعية الشبان المسيحيين (¬6). إلا أن الاسم كان محرجًا أمام غير النصارى، فغيرته الكلية ¬

_ (¬1) Jessup 274 (¬2) Bliss 163 - 9 (¬3) cf. Jessup 298, Bliss R 329 (¬4) Bliss R 392 : Jessup 298. 817 (¬5) Bliss 217 (¬6) وهي اليوم " الجمعية المسيحية للشبان " أو " جمعية الشبان المسيحية ".

وجعلته «الأَخَوِيَّةَ» (¬1).وهذه الأخوية لا تزال قائمة إلى اليوم ولكنها كانت تدعى بأسماء مختلفة في الأدوار المختلفة. ومع أن الدخول في هذه الجمعية، «جَمْعِيَّةُ الأَخَوِيَّةِ»، كان اختياريًا لجميع الطلاب، فإن أساتذة الكلية السورية الإنجيلية (¬2) كانوا كثيرًا ما ينحدرون إلى مستوى يعطفون فيه على التلاميذ المتأخرين في التحصيل إذا كانوا أعضاء في هذه الأخوية. وتخرج أحدنا عام 1928 وكان كل طالب لا يزال يشعر هذا الشعور. ولقد اصطدمتُ (¬3) أنا بعقبات كثيرة ذللتها بجهد شخصي، ولو أنني كنت أحضر الصلوات في الكنيسة أو أنني كنت عضوًا في الأخوية لوفرت على نفسي كثيرًا من الإزعاج: لقد كان اجتماع الصباح إجباريًا إما في الكنيسة وإما في منتدى " وست هول ". وكان بديهيًا أن أختار الحضور في " وست هول " حيث تكون الاجتماعات بعيدة عن الدين قليلاً أو كثيرًا. وفي يوم من الأيام دعاني عميد الدائرة العلمية الأستاذ (إدوارد نيقولي) وسألني: «لِمَاذَا كُنْتَ غَائِبًا عَنْ الكَنِيسَةِ؟». فقلتُ له: «أَنَا لاَ أَحْضُرُ الكَنِسَةَ وَلَكِنْ أَحْضُرُ اجْتِمَاعَاتِ " وَسْتُ هُولْ "»، فصرفني. ولكن في اليوم التالي دعاني ثم ذكر أنه يستغرب كثرة غيابي عن الكنيسة، فأعدت عليه القول بأنني منذ أول العام قد اخترت الحضور في " وست هول ". وأخيرًا أدرك الأستاذ (نيقولي) أن الإيحاء إِلَيَّ بحضور الكنيسة غير ممكن، فتركني وشأني. ولا يزال الإصرار على الطابع الديني التبشيري للكلية السورية الإنجيلية قائمًا إلى اليوم. نشر الكاتب (لدفيك برنهارد) في الكتاب السنوي الروسي لعام 1905 مقالاً عنوانه " أمريكة في الشرق " صور فيه الكلية السورية الإنجيلية على أنها محاولة مدروسة لتمهيد الطريق أمام المصالح الأمريكية، والتجارية منها خاصة. فرد عليه (رشتر) (¬4) بقوله: «إِنَّ مِثْلَ هَذَا الرَّأْيِ فِي هَذِهِ المُؤَسَّسَةِ يَصْدُقُ عَلَى نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَيُضَلِّلُ عَنْ هَدَفِهَا الحَقِيقِيِّ. إِنَّ الكُلِّيَّةَ مُؤَسَّسَةٌ تَبْشِيرِيَّةٌ». وليس هذا فقط، بل هي كما يقول (جسب) (¬5): «أَوْضَحُ سِيَاسَةً دِينِيَّةً وَتَبْشِيرِيَّةً مِنْ سَائِرِ المَدَارِسِ الأَمِرِيكِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، كَكُلِّيَّةِ رُوبَرْتْ فِي اسْتَانْبُولْ مَثَلاً». أما (رشتر) فقال عنها (¬6): «إِنَّهَا أَرْقَى مَدْرَسَةٍ فِي الإِمْبْرَاطُورِيَّةِ العُثْمَانِيَّةِ. إِنَّ عَمَلَ الكُلِّيَّةِ التَبْشِيرِيَّ يَتَنَاوَلُ المُسْلِمِينَ فِي الدَّرَجَةِ الأُولَى، وَهَذَا مَا يَجْعَلُهَا بَارِزَةً فِي ذَلِكَ بَيْنَ جَمِيعِ ¬

_ (¬1) Bliss 217 - 8, Brotherhood (¬2) الجامعة الأمريكية في بيروت. (¬3) الكلام هنا للدكتور عمر فروخ. (¬4) Richter 220 (¬5) Jessup 737 (¬6) Richter 74

هوارد بلس

المَدَارِسِ الأَمِرِيكِيَّةِ فِي الإِمْبْرَاطُورِيَّةِ العُثْمَانِيَّةِ وَإِيرَانْ (¬1) إِذْ هِيَ التِي تُهَيِّئُ المُدَرِّسِينَ المُبَشِّرِينَ لِلْمَدَارِسِ الأَمِرِيكِيَّةِ المَنْثُورَةِ فِي الشَّرْقِ الأَدْنَى كُلَّهُ» (¬2). فالجامعة الأمريكية في بيروت كانت عند إنشائها مؤسسة تبشيرية، ولم تؤسس للتعليم العلماني، ذلك لأنها كانت نتاج حركة التبشير الأمريكية (¬3). هذا ما أجمع عليه الذين كتبوا عن هذه الجامعة (¬4). على أن الغريب أن الجامعة الأمريكية لا تزال إلى الآن تبشيرية. يقول (ستيفن بنروز) (¬5): «وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ (الجَامِعَةَ الأَمِرِيكِيَّةَ) كَانَتْ وَلاَ تَزَالُ مُؤَسَّسَةً تَبْشِيرِيَّةً». ثم إنه يصر على أنها «تَبْشِيرِيَّةٌ، بَلْ إِنَّ التَّبْشِيرَ كَانَ المُبَرِّرَ الوَحِيدَ لِتَأْسِيسِهَا» (¬6). وذلك بعد أن صرح فقال: «إِنَّ الغَايَةَ القُصْوَى لِلْكُلِّيَّةِ (السُّورِيَّةِ الإِنْجِيلِيَّةَ) أَنْ تَحْتَضِنَ التَّبْشِيرَ المَسِيحِيَّ وَتَبْذُرَ بُذُورَ الحَقِيقَةَ الإِنْجِيلِيَّةَ». وعلى هذا الأساس ذهب (دنيال بلس) إلى أمريكا ليثير رغبة الجمهور المسيحي لمحاولة تأسيس معهد أدبي يعمل على نشر الإرساليات البروتستانتية والمدنية المسيحية في سورية والأقطار المجاورة (¬7). ولما اعتزل (دنيال بلس) إدارة الكلية عام 1902، وقد بلغ يومذاك ثمانين عامًا (¬8)، خلفه ابنه (هوارد بلس). هَوَارْدْ بْلَسْ: ولد (هوارد بلس) عام 1860 في سوق الغرب بجبل لبنان (¬9)،ولكنه نشأ في الولايات المتحدة، وكان قسيسًا راعيًا (¬10). ظل (هوارد بلس) بعد أن تولى الكلية السورية الإنجيلية قسيسًا مبشرًا ومعلمًا مبشرًا (¬11). ولقد حضر، وهو رئيس للكلية، مؤتمرًا لاتحاد الطلاب المسيحيين في العالم عقد في كلية روبرت في استانبول عام 1911، وحضر معه ¬

_ (¬1) Gairdner 27 - 8 (¬2) Richter 22 (¬3) Penrose 39, 309, cf. 5, 13, 139, f (¬4) cf. Bliss 214 f, Gairdner 277 - 8; Jessup 274, 298, 737, 818; Richter 74, 220, Bliss R 329, Addison 91 (¬5) Penrose 46 (¬6) ibid. 180. 181 (¬7) ibid. 81 f (¬8) cf. Bliss II, 214 - 5 (¬9) Bliss 130 (¬10) Bliss 214 - 5 (يسميه نصارى لبنان: خوري رومية). (¬11) Bliss 228

بيارد ضودج

من الأشخاص (¬1) الآنسة (مريم بارودي)، الدكتور (فيليب حتي) وأخوه (حبيب حتي)، الآنسة (ماري كساب) (مؤسسة المدرسة الأهلية للبنات في بيروت)، والأستاذ (بولص الخولي)، (طانيوس سعد) (¬2) و (إدوارد نيقولي) عميد الدائرة العلمية (ت 1937) .. أما غاية هذا المؤتمر فهي مثبتة على الصفحة الأولى من المتن (¬3): إنها توحيد حركات الطلاب المسيحيين ومنظماتهم في العالم ... وجمع المعلومات المتعلقة بالأحوال الدينية للطلاب في كل العالم ... وقيادة الطلاب حتى يصبحوا تباعًا ليسوع المسيح على أنه مخلصهم الوحيد وربهم ... ثم ضم جهود الطلاب للتعاون على مد مملكة المسيح في جميع العالم ... وعلى الأخص في البلدان غير المسيحية. ولقد تكلم في هذا المؤتمر (هوارد بلس) نفسه (ص 131 - 138) والدكتور (فيليب حتي) (ص 229 - 230). بْيَارْدْ ضُودْجْ: ولما توفي (هوارد بلس) عام 1920 بقيت الجامعة الأمريكية في بيروت بلا رئيس أصيل حتى عام 1923 حين عُيِّنَ لَهَا (بيارد ضودج). كان (بيارد ضودج) في الأصل تلميذ لاهوت ثم نال شهادة دكتور في اللاهوت (¬4)، ولقد بقي سبع سنوات رئيسًا مساعدًا لـ «جَمْعِيَّةِ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ» (1913 - 1920)، ومع ذلك فإنه لم يتسامح في أن يصبح أحدنا: الدكتور مصطفى خالدي رئيسًا لـ «جَمْعِيَّةِ الشُّبَّانِ المُسْلِمِينَ» في بيروت وأن يظل في الوقت نفسه أستاذًا في الجامعة. ولقد صارحه (ضودج) بأن جهوده في سبيل فلسطين وفي سبيل الشبان المسلمين لا يمكن أن ترضى عنها الجامعة. ولم يكن من المعقول أن يتخلى الدكتور مصطفى خالدي عن خدمة اجتماعية، في رئاسة «[جَمْعِيَّةِ] الشُّبَّانِ المُسْلِمِينَ وَالشَّابَّاتِ المُسْلِمَاتِ»، تشبه الخدمة الاجتماعية (¬5) التي يقوم بها (بيارد ضودج) نفسه في رئاسة «جَمْعِيَّةِ الشُّبَّانِ المَسِيحِيَّةِ» (¬6)! وكذلك لم يكن من المعقول أن يتخلى الدكتور مصطفى خالدي عن الاهتمام بقضية فلسطين وهي القضية التي كان يهتم لها الرئيس (ضودج) نفسه. ¬

_ (¬1) World Student Christian Federation 5 cf, 236 f (¬2) كذا في الأصل: ولعله (القس) (طانيوس سعد) مؤسس مدرسة الشويفات الوطنية (ت 1953). (¬3) World Student Christian Federation 5 cf, 6 f (¬4) cf. Penrose 304 ff (¬5) تخلى الدكتور مصطفى خالدي عن الرئاسة في «جَمْعِيَّةِ الشُّبَّانِ المُسْلِمِينَ وَالشَّابَّاتِ المُسْلِمَاتِ» فيما بعد للانصراف إلى رئاسة مدرسة التمريض الوطنية التي أنشأها هو، وللسهر على المستشف الذي أسسه. (¬6) Penrose 204

ستيفن بنروز

وهكذا فضل الدكتور مصطفى خالدي أن يعتزل التدريس بالجامعة. ولا ريب في أن شعور الطلاب بالتبشير المكشوف كان قليلاً جِدًّا في رئاسة الدكتور (بيارد ضودج)، وذلك لسببين اثنين: - أولهما بلا ريب أن شخصية الرئيس (بيارد ضودج) لم تكن شخصية مهاجمة قهارة، كالذي يروى عن (دنيال بلس) مثلاً. وكان في الرئيس (ضودج) تسامح كبير، إلا أننا نعلم أن في الجامعة وللجامعة أناسًا كان الرئيس (ضودج) مضطرًا إلى تنفيذ رغباتهم: ثم إن الجامعة لم تتخل بعد عن سياسة التبشير قط. ويكفينا دليل واحد على ذلك: أن الجامعة قد استغنت عن العدد الأكبر من المدرسين المسلمين في رئاسة الرئيس (ضودج)، وأن النشاط اليهودي كان في أيامه كبيرًا. وإذا نحن رجعنا إلى المساعدات المالية التي تعطيها الجامعة رأينا قسمًا منها بلا ريب خاصًا بأفراد مسلمين أو بمؤسسات تساعد أفرادًا مسلمين، ولكننا إذا نظرنا إلى (المساعدات المنظمة) نراها شيئًا آخر. - وثاني السببين أن اليقظة العربية تطورت تطورًا كبيرًا في مدة رئاسة الدكتور (ضودج) (1923 - 1947)، فمن الثورة السورية إلى قضايا فلسطين إلى استقلال البلاد العربية إلى ولادة جامعة الدول العربية، كل ذلك غمر العالم العربي حتى أصبحت كل سياسة تبشيرية مكشوفة بجانبه تدعو إلى كثير من الاستغراب. على أن هذا كله ينسينا الأعمال العظيمة التي عملتها جامعة بيروت الأمريكية، ولا الرجال الذين نثرتهم في العالم نجومًا للسارين وَشُهُبًا للظالمين المستبدين وعلماء وأدباء، ولكننا كنا نحب أن لو كانت هذه الأعمال خالصة من غاية لم يبق لها اليوم قيمة في عالم العقل والقومية. سْتِيفَنْ بَنْرُوزْ: والدكتور (بيارد ضودج) لم يكن قليل الذكاء، ولكن القصة التي يرويها عنه (ستيفن بنروز) (¬1) الرئيس السابق للجامعة الأمريكية في بيروت، بعيدة عن المعقول. قال (بنروز): «كَانَ الدُّكْتورُ (ضُودْجْ) كَثِيرًا مَا يُرْوَى أَنَّه رَأَّى مَرَّةً فِي القِطَارِ الكَهْرَبَائِيِّ فِي بَيْرُوتَ رَجَلاً مُسْلِمًا مُسِنًّا يُحَاوِلُ أَنْ يُصَلِّيَ. كَانَ هَذَا الرَّجُلُ المُسِنُّ لاَ يَكَادُ يُوجِّهُ نَفْسَهُ فِي وُقُوفِهِ نَحْوَ مَكَّةَ (الْقِبْلَةَ) حَتَّى يَكُونَ القِطَارُ قَدْ دَارَ حَوْلَ مُنْعَطَفٍ فِي الشَّارِعِ فَيَضْطَرُّ المِسْكِينُ إِلَى أَنْ يُصَحِّحَ اِتِّجَاهَهُ. وَقَبْلَ أَنْ يَمْضِي وَقْتٌ طَوِيلٌ كَانَ هَذَا المِسْكِينُ قَدْ اِضْطَرَبَ تَمَامًا ¬

_ (¬1) Penrose 301

وَأَخَذَ يَنْظُرُ إِلَى الرَّاكِبِينَ بِذُلَّةٍ وَاِنْكِسارٍ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُمْ مَعُونَةً لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُسْدُوهَا إِلَيْهِ. إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ - وَالْكِلاَمَ لِلْدُكْتورِ (ضُودْجْ) كَمَا يَزْعَمُ (بَنْرُوزْ) - كَانَ يُمْثِّلُ الصُّعُوبَةَ التِي تُوَاجِهُهَا التَّقَالِيدُ الإِسْلاَمِيَّةُ فِي عَصْرٍ يَتَبَدَّلُ بِسُرِعَةٍ لاَ تُصَدَّقُ». واستغربتُ أنا (¬1) هذه القصة يرويها الدكتور (ضُودْجْ) لأنني أعرفه معرفة تامة، فلقد كان يعلمنا " دروس الأخلاق " في الدائرة الاستعدادية، قبل أن يصبح رئيسًا للجامعة. من أجل ذلك كتبتُ إلى (بنروز) أسأله إذا كان قد نقل هذه الحكاية من كتاب مطبوع أو أنه سمعها سمعًا فقط. فتلقيت من (بنروز) الرسالة التالية (أنقلها أولاً إلى اللغة العربية ثم أثبتها بنصها الإنجليزي مصورًا بالزنكوغراف). الجامعة الأمريكية في بيروت والكلية الثانوية دائرة الرئيس 13 أيار 1952 الدكتور عمر فروخ ص. ب: 941 - بيروت، لبنان عزيزي الدكتور عمر فروخ: تلقيت رسالتك المؤرخة في 12 أيار تسألني عن قول استشهدت به في كتابي " كيما تكون لهم الحياة ". إن هذا القول قد أخذته من طريق السماع. والذي أذكره أنني سمعت الرئيس (ضُودْجْ) يقوله في خطاب له، ولكني لا أتذكر متى كان ذلك ولا أين كان. المخلص لك كثيرًا الإمضاء: ستيفن ب. ل. بنروز. الرئيس ¬

_ (¬1) الكلام هنا للدكتور عمر فروخ.

[صورة من رسالة (بنروز) إلى الدكتور عمر فروخ]. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن مثل هذه القصة، قصة المسلم العجوز الذي يصلي في حافلة القطار الكهربائي لا يمكن أن تجد إلا راويًا أمريكيًا. والذين يعرفون بيروت والقطار الكهربائي في بيروت ويرون المسلمين في الشوارع يستطيعون أن يدركوا إلى أي حد بلغ الخيال بواضع هذه القصة. أما نحن فنستغرب أن يشترك رئيسان لأعظم جامعة في الشرق الأدنى في رواية مثل هذه القصة التي لا يمكن أن تكون إلا سخيفة. نقول هذا بقطع النظر عن أنها بعيدة عن الحقيقة، وخصوصًا إذا قبلنا أن تكون منسوبة إلى الدكتور (بيارد ضودج) الذي قضى في الشرق خمسة وثلاثين عامًا، ودرس اللغة العربية والدين الإسلامي على العلامة الشيخ أحمد عمر المحمصاني، تلميذ المصلح الكبير الشيخ محمد عبده - رَحِمَهُمَا اللهُ -. على أننا نحب أن نقول رأينا في هذه الحادثة. إن أغلب الظن أن الدكتور (بنروز) قد اختلق هذه القصة رأسًا من أساسها، بعد أن دله مبشر جاهل على المسألة الفقهية المتعلقة بها، أو أنه هو قد قرأ هذه المسألة الفهقية

ولكن لم يفهمها: «في الفقه الإسلامي، إن المسلم إذا كان سائرًا (على جمل أو في واسطة أخرى للنقل وأراد الصلاة ثم اتجه إلى القبلة، فإنه يلزم اتجاهه هذا مَهْمَا تبدل اتجاه الواسطة التي يستعملها». إن الذين يأتون إلى الشرق ليعلمونا يجب أن يكونوا هم أنفسهم أكثر علمًا منا، أو يجب ألا يتعرضوا لما لا يعرفون على الأقل! وبعد، فأي وزن لحادثة يذكرها المؤرخ أو العالم الاجتماعي إذا كان لا يعرف أين وجدها ولا متى سمعها. ولكن المستر (بنروز) اختلق القصة ثم جعل يزعم، بالاستناد إليها، أن المسلمين متأخرون جهلة أغبياء! على أن المستر (بنروز) لَيْسَ مُلِمًّا لأنه صرح في كتابه بأن الغاية الأولى من تأسيس الجامعة لم يكن تعليم العلم وبث الأخلاق الحميدة، بل نشر المذهب البروتستانتي. ولكن نسي أن الجامعة قد أعلنت منذ مدة طويلة أنها غيرت سياستها هذه! وهنا نحب أن نشير إلى أن القائمين على أمر الجامعة الأمريكية في بيروت لم يكتفوا، من أول أمرهم، بأن يكون رئيس هذه المؤسسة مبشرًا، بل أصروا على أن يكون جميع المدرسين فيها مبشرين. إن الدكتور (جورج بوست) جاء إلى الشرق الأدنى مبشرًا كزملائه ثم ذهب إلى طرابلس عام 1863 كطبيب مبشر (¬1). وكذلك كان (كورنيليوس فان ديك)، وابنه (هنري فان ديك)، و (يوحنا) و (رتبات) كلهم أطباء مبشرين (¬2). وكان على هؤلاء المدرسين أن يوقعوا يمينًا يقسمون فيها بأن يوجهوا جميع أعمالهم نحو هدف واحد، هو التبشير، ولم يقبل منهم أن يكونوا نصارى بروتستانتيين فقط، بل وجب أن يكونوا مبشرين أيضًا (¬3). ومع الأيام ألغت الجامعة توقيع هذه اليمين، ولكنها لم تلغ مؤداها. وكانت الجامعة تحرص على أن يظهر جميع أساتذتها بمظهر المبشرين ثم تحملهم على أن يحضروا المؤتمرات التبشيرية. ولعل المرحوم الأستاذ (بولص الخولي) لَمْ يُعْنَ بالتبشير - مما نعرفه نحن - ولكنه حُمِلَ بِلاَ رَيْبٍ هو والدكتور (فيليب حتي) على أن يحضرا مؤتمر استانبول مع الدكتور (هوارد بلس) عام 1911، تكثيرًا للأسماء الوطنية. ومع أن الجامعة الأمريكية لم تعلن سياسيتها التبشيرية في مطلع حياتها خوفًا من أن يغلقها العثمانيون، فإنها لم تأل جهدًا في التبشير في كل درس. حتى في الدروس التي لا ¬

_ (¬1) Penrose 39 (¬2) ibid. 8, 36, 37 etc (¬3) ibid. 83 f

صلة خاصة بينها وبين الدين، كانت المبادئ المسيحية موضع تأكيد وتزيين كلما سنحت لذلك فرصة. فمن أمثال ذلك مثلاً أن درس اللغة الإنجليزية كان يستغل في نقل نصوص التوراة الإنجليزية إلى اللغة العربية. وفي هذه الأثناء كان الأستاذ ينتقل إلى مناقشة المشاكل الدينية، من الزاوية التبشيرية طبعًا (¬1). وهذا أمر غير مستغرب في المدارس التبشيرية. لقد قرر مؤتمر القدس المنعقد عام 1935 أن يستغل كل درس في سبيل تأويل مسيحي لفروع العلوم كالتاريخ وعلم النبات ... الخ (¬2). ومع أن الجامعة الأمريكية، كما يقول (بنروز)، لم تفكر بأن تفرض المذهب البروتستانتي على طلابها فرضًا، فإنها كانت تستغل كل فرصة سانحة ليعرف أولئك الطلاب الحقيقة كما تريدها النصرانية البروتستانتية. وكان الدخول إلى الكنيسة فرضًا على كل تلميذ (¬3). واتفق في عام 1909 أن احتج الطلبة المسلمون على إجبارهم على الدخول إلى الكنيسة فاجتمعت عمدة الجامعة الموقرة وأصدرت منشورًا طويلاً جدًا، جاء في مادته الرابعة ما يلي (¬4): «إِنَّ هَذِهِ كُلِّيَّةٌ مَسِيحِيَّةٌ، أُسِّسَتْ بِأَمْوَالِ شَعْبٍ مَسِيحِيٍّ: هُمْ اِشْتَرَوْا الأَرْضَ وَهُمْ أَقَامُوا الأَبْنِيَةَ، وَهُمْ أَنْشَأُوا المُسْتَشْفَى وَجَهَّزُوهُ، وَلاَ يُمْكِنُ لِلْمُؤَسَّسَةِ أَنْ تَسْتَمِرَّ إِذَا لَمْ يُسْنِدْهَا هَؤُلاَءِ. وَكُلُّ هَذَا قَدْ فَعَلَهُ هَؤُلاَءِ لِيُوجِدُوا تَعْلِيمًا يَكُونُ الإِنْجِيلُ مِنْ مَوَادِّهِ، فَتُعْرَضُ مَنَافِعُ الدِّينِ المَسِيحِيِّ عَلَى كُلِّ تِلْميذٍ ... وَهَكَذَا نَجِدُ أَنْفُسَنَا مُلْزَمِينَ بِأَنْ نَعْرِضَ الحَقِيقَةَ المَسِيحِيَّةَ عَلَى كُلِّ تِلْميذٍ ... وَإِنَّ كُلَّ طَالِبٍ يَدْخُلُ إِلَى مُؤَسَّسَتِنَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ مُسْبَقًا مَاذَا يُطْلَبُ مِنْهُ». وكان هذا التهديد المجرد من الذوق والروح العلمية كافيًا لأن يعلن الطلاب الإضراب. إلا أن العمدة تصلبت في ظاهر أمرها، فترك ثمانية طلاب العلم في المؤسسة المتعصبة (¬5). ولم تتأخر الكلية عن أن تعلن بلسان مجلس الأمناء أن الكلية لم تؤسس للتعليم العلماني ولا لبث الأخلاق الحميدة (كذا)، ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوراة، وأن تكون مركزًا للنور المسيحي وللتأثير المسيحي، وأن تخرج بذلك ¬

_ (¬1) Penrose 46 (¬2) Danby 31 etc (¬3) Penrose 135 f (¬4) Penrose 137 f ; cf. Bliss R 331 ; Jessup 788 (¬5) cf. Penrose 137 f. Bliss R 331 ; 788

على االناس وتوصيهم به (¬1). إلا أن الروح الحرة لم تلبث أن انتصرت فَثَابَتْ الجامعة الأمريكية إلى نفسها ورأت، ولو بعد حين، وجه الصواب فتنازلت حينئذٍ عن رأيها الذي لم يكن من العلم في شيء، ولا من الحرية في شيء، ولا من الإنسانية في شيء. لقد شاهدت الجامعة الأمريكية يقظة العرب على هذا التراب الطاهر في الشرق الأدنى، وشاهدت جميع الشرقيين والعرب يتجهون أفواجًا نحو هيكل العلم النبيل، في أفق يسع المشرق والمغرب ويسع الأديان كلها والألوان جميعها. فأي فضل للجامعة بعد ذلك إذا اعترضت هذا الموكب الفخم المهيب لتسوق جزءًا منه نحو الكنيسة البروتستانتية! أما حجتها فكانت أوهى من عملها. إنها احتجت بأن نفرًا من المتمولين الأمريكيين لا يعينون الجامعة بأموالهم التي جمعوها إلا إذا علموا بأنها تزيد عدد البروتستانت في الشرق. وهكذا حكمت الجامعة الأمريكية على نفسها بأنها مسوقة في تيار قوم آخرين، وأنها مستأجرة لتنفيذ رغبات لا تشرف صاحبها فضلاً عن منفذها. • • • على أن استغرابنا قد زاد عام 1948 ولم ينقص. إن الجامعة الأمريكية تعترف بأنها بدأت تبشيرية ثم تخلت عن التبشير في عصر القومية الواسعة والتسامح العظيم والتعاون الشامل. إلا أن الدكتور (ستيفن بنروز) - رئيس الجامعة الأمريكية السابق - قد أتى، مما هو ظاهر واضح في كتابه، بعقلية (دانيال بلس) لا بعقلية (بيارد ضودج) على الأقل: لَقَدْ جَاءَ مُبَشِّرًا لاَ مُعَلِّمًا. وَلَوْ أَنَّهُ جَاءَ مُعَلِّمًا لاَ مُبَشِّرًا لأرخ الجامعة الأمريكية في بيروت تأريخًا مختلفًا - من حيث الاتجاه والتوجيه على الأقل، لا من حيث المادة. ولكننا نعود فنقول: إننا نحن نعرف الجامعة الأمريكية ونعرف الرجال العظام الذين نثرتهم في العالم العربي خاصة، فلا نحكم عليها بما فعل (دانيال بلس) ولا بما يقول (ستيفن بنروز). ولكننا كنا نود أن لو كان الذين تولوا أمر الجامعة أصدق في التعبير عن حقيقة أنفسهم وأبصر بمقام الجامعة الحقيقي. لما صدر هذا الكتاب أثار ضجة شديدة في الجامعة الأمريكية خاصة. ولقد توجه ¬

_ (¬1) Penrose 139

إلينا عتبان أساسيان، لا سيما ونحن مؤلفي هذا الكتاب، من خريجي الجامعة الأمريكية. أما العتبان فهما: 1 - أننا حملنا من اللوم على الجامعة الأمريكية أكثر مما حملنا على الجامعة اليسوعية مثلاً. 2 - أن الجامعة الأمريكية نشأت نشأة تبشيرية، ولكنها اليوم ليست مؤسسة تبشيرية. أما العتب الأول، أو الاعتراض الأول على الأصح، فالرد عليه يسير جدًا. إن الكتب التي كتبها المبشرون الأمريكان أكثر من تلك التي كتبها المبشرون الفرنسيون. ومن هنا فقط جاء عدد الصفحات التي خصصنا بها الجامعة الأمريكية. هذا من ناحية. أما من الناحية الثانية فإن المادة التبشيرية التي جمعناها عن اليسوعيين لا تقل من حيث الأهمية ولا من حيث الأذى السياسي الذي نزل ببلادنا عن تلك التي جمعناها عن الأمريكان، بقطع النظر عن عدد الصفحات. وأما العتب الثاني فالكلام عنه أشد تعقيدًا. لا شك في أن سياسة الجامعة الأمريكية اليوم تختلف عما كانت عليه في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. إن النظر إلى التبشير قد تبدل عند المبشرين أنفسهم. فليسمح لنا أصدقاؤنا في الجامعة الأمريكية في بيروت أن نضع أمامهم الحقائق التالية: 1 - هناك شاب من صيدا كان طالبًا في الجامعة الأمريكية في بيروت وتخرج فيها برتبة بكالوريوس علوم عام 1943، وقد صبأ هذا الطالب إلى النصرانية في أثناء وجوده تلميذًا في الدائرة العلمية. هنالك شاب آخر من جنوبي لبنان [كان] طالبًا في الجامعة الأمريكية تخرج فيها برتبة بكالوريوس علوم 1944 وبرتبة أستاذ علوم عام 1947. وكان قد علم في الجامعة الأمريكية في بيروت من عام 1944 إلى العام 1947. ثم إنه نال شهادة الدكتوراه عام 1949 من جامعة أدنبرة. ولقد صبأ أيضًا إلى النصرانية وهو اليوم أستاذ في الجامعة. هذان تلميذان في الجامعة الأمريكية في بيروت صَبَأَ صَبَأً! إلى النصرانية بالأمس القريب وبين جدران الجامعة، فقول القائلين بأن الجامعة تركت سياسة التبشير القديمة بين طلابها قول تقوم الشواهد على خلافه. 2 - إن مفهوم التبشير قد تبدل الآن. في العاشر من تشرين الثاني عام 1954، وكنت قد بدأت أنا والدكتور خالدي بجمع مَوَادَّ جَدِيدَةٍ للطبعة الثانية، كتبت إلى الدكتور (بنروز) رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت أسأله عما إذا كانت الجامعة الأمريكية مؤسسة علمية بحت أو أن لها طابعًا علميًا وتبشيريًا مَعًا. وقد أجابني الدكتور (بنروز) في الثاني من الشهر المذكور جوابًا مطولاً قال فيه: إن الجامعة الأمريكية في بيروت لم تكن

على الحصر مؤسسة «تبشيرية»، مع أن الإرسالية الأمريكية البروتستانتية هي التي أنشأت تلك الجامعة. ثم قال الدكتور (بنروز): إن جميع رؤساء الجامعة قبله كان قِسَسًا، أما هو شخصيًا فلم يكن قسيسًا، وأن أطروحته لنيل الدكتوه كانت في الفلسفة ولم تكن في الفقه أو اللاهوت. أما فيما يتعلق بسؤالي عن الطابع التبشيري للجامعة فقد قال الدكتور (بنروز) في رسالته المذكورة إِلَيَّ: «إِنَّ الجَامِعَةَ ... لاَ تَقُومُ بِجُهْدٍ لِتَجْعَلَ الطُّلاَّبَ يَصْبَأُونَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ ... إِنَّنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ نَهْتَمُّ بِأَنْ نُثِيرَ فِي طُلاَّبِنَا الاِهْتِمَامَ بِالأُمُورِ التِي تَتَّصِلُ بِالدِّينِ عُمُومًا (لاَ بِدِينٍ خَاصٍّ) ... فَإِذَا كُنْتَ تُعِدُّ هَذَا نَشَاطًا تَبْشِيرِيًّا، وَجَبَ عَلَيَّ أَنْ أَقُولَ إِنَّنَا تَبْشِيرِيُّونَ وَلَكِنْ بِهَذَا المَعْنَى فَقَطْ ...». ثم يقول الدكتور (بنروز): «إِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُعَقَّدَةٌ، وَأُحِبَّ أَنْ لَوْ نَجْتَمِعَ لِنَبْحَثَ فِيهَا بِتَفْصِيلٍ أَوْفَى» .. ولكني أنا لم أجد ضرورة للإسراع بضرب موعد لكثرة العمل المدرسي في مطلع السنة الدراسية - تشرين الثاني. وَجَاءَ أَمْرُ اللهِ وتوفي الدكتور (بنروز) في التاسع من كانون الأول من العام 1954 نفسه. وحاولت بعد ذلك أن أثير الموضوع مع بعض خلفه فلم أجد عنده قبولاً للخوض فيه. ثم باحثت الأستاذ (فؤاد صروف)، نائب رئيس الجامعة الأمريكية المولج بالصلات الاجتماعية، فأكد اهتمام الجامعة بإذكاء الحياة الروحية بين الطلاب. ومما يتصل بموضوعنا هنا أن الجامعة الأمريكية في بيروت تحتضن حركتين متصلتين اليوم بالاستعمار اتصالاً وثيقًا: حلف بغداد (أو سياسة المعسكر الغربي) ثم الدعوة إلى اللغة العامية مكتوبة بالحروف اللاتينية. أما الدعوة العامية فالبحث فيها سيأتي في فصل يتلو. وأما سياسة المعسكر الغربي فمكان البحث فيها هنا. تُجْمِعُ البلاد العربية، باستثناء حكومة العراق قبل تأميم قناة السويس، على أن سياسة الأحلاف الأجنبية أمر يجلب الأذى على العرب. ولكن الجامعة وأساتذة الجامعة - والمعنى واحد - تقف إلى جانب حلف بغداد لأنه أمريكي وتسفه رأي خصومه. وقد نشر (جورج كيرك)، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية في الجامعة، مقالاً في " مجلة الكلية " يسفه فيه رأي العرب - أو مصر خاصة والعرب عامة - لأن العرب لما أيسوا من التسلح من دول الغرب التي سلحت اليهود وتسلح دولتهم اليوم بكل كرم وتعينها في اعتداءاتها المتكررة على تخوم البلاد العربية، بدأوا يعقدون صفقات لشراء أسلحة تشيكوسلوفاكية على أسس تجارية بحت. ولكن (جورج كيرك)، الأستاذ في الجامعة الأمريكية، نصب

4 - سائر المدراس الأمريكية

نفسه هازئًا بالعرب وبقصر نظرهم في السياسة، ثم أخذ يهول على العرب بالنتائج الوخيمة التي ستنال العرب من جرأة صفقة الأسلحة هذه. نحن لا نطلب من (جورج كيرك) أن يتبنى نظر العرب ولا أن يستيقظ ضميره من هول الجريمة البريطانية الأمريكية في فلسطين، ولكننا كنا ننتظر من أستاذ الجامعة الأمريكية أن يترك هذا الموضوع للجرائد وألا ينغمس هو فيه ويغمس معه الجامعة الأمريكية. على أن الجامعة الأمريكية ستقول إن (جورج كيرك) يمثل نفسه، وهو حر في أن يكتب ما يشاء ولا صلة للجامعة بما كتب. ولكن هذا القول مردود رأسًا. إن الجامعة الأمريكية لن تسمح لـ (جورج كيرك)، ولا لغيره (جورج كيرك)، من أساتذتها، بأن يشجبوا حلف بغداد وأعمال النقطة الرابعة أو أعمال لجنة الإغاثة أو أن يدللوا على جريمة الولايات المتحدة في خلق إسرائيل ومدها بأسباب الحياة، أو أن يكتبوا عن همجية الشعب الأمريكي في معاملته للأمريكيين الزنوج والحمر. إن الجامعة الأمريكية، وإن كل مؤسسة كالجامعة الأمريكية، مسؤولة عن رأي أساتذتها في الأمور العامة، وإلا فأي ضرورة تبقى لوجودها بعد ذلك؟. حينما كنا طلابًا كنا نتخذ القرار بالإضراب السياسي في قلب الجامعة الأمريكية، وكانت المظاهرات تتحرك من الجامعة الأمريكية - معقل الوطنية - ثم كان الطلاب يعودون من المظاهرات ويدخلون إلى صفوفهم في اليوم التالي كَأَنَّهُمْ آتُونَ مِنْ عُطْلَةٍ أو راجعون من رحلة أو عائدون من مباراة في كرة القدم. وأذكر مرة أن طالبًا من ضعاف الإيمان لم يشأ أن يضرب في يوم إضراب فدخل إلى الصف. ولكن المعلم الأمريكي قال له: «اخْرُجْ إِلَى رِفَاقِكَ، إِنَّهُ عَارٌ عَلَيْكَ أَنْ تَدْخُلَ إِلَى الصَّفِّ وَهُمْ مُضْرِبُونَ». أما اليوم فإن الطلاب الذِينَ يُضْرِبُونَ يُعَاقَبُونَ وَيُطْرَدُونَ، لأن الإضراب اليوم في أكثر الأمور معناه الاستياء من السياسة الأمريكية في الشرق العربي • • • 4 - سَائِرُ المَدَرِاسِ الأَمِرِيكِيَّةِ: إن الكلمة المفصلة التي سبقت في الكلام على الجامعة الأمريكية (والكلية السورية الإنجيلية سابقًا) تغنينا عن التفصيل في الكلام على المؤسسات التعليمية التي نثرها الأمريكيون في بلدان الشرق. وسنقتصر في هذا الكتاب على ذكر " كلية جيرارد " في صيدا في الجمهورية اللبنانية.

5 - كلية غوردن في الخرطوم (الإنكليزية)

نشأت " كلية جيرارد "، أو كلية الأمريكان في صيدا (¬1) من حاجة تبشيرية خاصة. إن المبشرين الأمريكيين كانوا قد أدركوا، بعد خمس عشرة سنة من التجارب، أن المتخرجين من الكلية السورية الإنجيلية في بيروت لا يصلحون لأعمال التبشير في القرى، ذلك لأنهم يأتون عادة من بيئة بعيدة عن القرى ثُمَّ يَقْضُونَ سِنَّيْ تَعْلِيمِهِمْ وتدريبهم في بيئة حضرية. من أجل ذلك قرر المبشرون الأمريكيون إنشاء مدرسة عالية في مكان قريب من البيئة القروية لإعداد معلمين ومساعدين على التبشير في القرى نفسها (¬2). ومثل هذا يقال في الكليات الأمريكية المختلفة في خربوط وعينتاب ومرعش وطرسوس (¬3)، وفي طرابلس والقاهرة وحلب وسواها. 5 - " كُلِّيَّةُ غُورْدُنْ " فِي الخُرْطُومِ (الإِنْجْلِيزِيَّةِ): ومن أطرف ما يمكن أن يستشهد به هنا موقف المبشر (هنري جسب) ورأيه في " كلية غوردن " في الخرطوم بالسودان المصري. أسس الإنجليز عام 1903 كلية في الخرطوم سموها " كلية غوردن " باسم ضابط إنكليزي هو (تشارلس غوردن)، ويعرف أيضًا باسم (غودرن باشا). وكان (غوردن) قد قُتِلَ فِي السودان لما استولى المهدي على الخرطوم عام 1885. عرض المبشر (جسب) لسياسة الحكومة الإنجليزية في هذه المؤسسة فسماها «فضيحة " كلية غوردن "» ثم قال: «إِنَّ الحُكُومَةَ الإِنْجْلِيزِيَّةَ لَمَّا قَرَّرَتْ فَتْحَ هَذِهِ الكُلِّيَّةَ جَمَعَتْ لَهَا مِائَةَ أَلْفَ جُنَيْهٍ مِنَ إِنْكْلِتْرَا، وَلَكِنَّهَا أَغْلَقَتْهَا فِي وَجْهِ التَّبْشِيرِ المَسِيحِيِّ». ثم يستغرب (جسب) كيف أن هذه الكلية تعلم القرآن ولا تعلم التوراة والإنجيل، ثم تفتح أبوابها يوم الأحد وتعطل دروسها يوم الجمعة. بعدئذٍ يتابع (جسب) حملته الشعواء فيقول: «وَمَا دَامَ (غُورْدُنْ) مَسِيحِيًّا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الكُلِّيَّةُ التِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهِ تَبْشِيرِيَّةً مَسِيحِيَّةً، لاَ أَنْ تَكُونَ حِجَابًا بَيْنَ السُّودَانِيِّينَ وَبَيْنَ التَّوْرَاةِ» (¬4). إن (جسب) يريد أن تكون المدرسة المسلمة بتلاميذها والمسلمة بالإدارة في بلادها، لأن ¬

_ (¬1) cf. Jessup 313 ; Richter 222 (¬2) cf. Bliss 170 (¬3) Richter 74 (¬4) Jessup 665 - 5

6 - المؤسسات الفرنسية

الحكم في السودان كان إنكليزيًا مصريًا (¬1) مؤسسة تبشيرية مسيحية، لأن الرجل الذي تحمل تلك الكلية اسمه كان مسيحيًا. 6 - المُؤَسَّسَاتُ الفِرَنْسِيَّةِ: تختلف المؤسسات الفرنسية عن المؤسسات الأمريكية في أنها تحمل اسمها على ثيابها، سواءً أكانت بروتستانتية أم كاثوليكية. وقد يجوز لنا أن نستثني المؤسسات العلمانية التي تهتم ببسط السياسة والثقافة الفرنسيتين أكثر من بسط المذهب الكاثوليكي أو البروتستانتي. وإذا نحن اقتصرنا في الكلام على مؤسسة واحدة من هذه، على المؤسسة اليسوعية فإننا لا نعدو الصواب لأن هذه المؤسسات كلها توجه من مكان واحد، من رومية، ومن فرنسا أحيانًا: توجه توجيهًا دينيًا من رومية وتوجيهًا دينيًا سياسيًا من فرنسا. كانت سورية على الأخص ميدانًا للسباق بين البروتستانت الأمريكيين وبين اليسوعيين ذوي اللون الفرنسي. ويظهر أن اليسوعيين بدأوا يتسربون إلى سورية منذ القرن الثامن عشر حينما أنشأوا مدرسة عينطورة في مقاطعة كسروان في جبل لبنان في عام 1734 ثم تخلوا عنها للرهبان اللعازريين. وبعد مائة عام، بعد حملة إبراهيم باشا على سورية، عاد اليسوعيون إلى سورية بنشاط جديد، وأخذوا ينافسون البروتستانت منافسة شديدة (¬2). ولقد اهتم اليسوعيون في أول أمرهم بالتعليم الديني لاعتقادهم أنهم إذا سيطروا على رجال الدين المسيحي، بأعدادهم في مدارسهم هم، استطاعوا أن يسيطروا على القرى النصرانية كلها (¬3). وكان الاستعمار في التعليم اليسوعي ظاهرًا غير مستتر، كما كان عند منافسيهم. ولذلك بنوا برنامج مدارسهم منذ 1864 على البرنامج الفرنسي رأسًا مع إضافة دروس اللغة العربية (¬4). ولقد بسط هؤلاء غايتهم من ذلك فقالوا: إن اليسوعيين مبشرين يريدون أن يقدموا إلى تلاميذهم النصارى العلم مع التعليم، وفي الوقت نفسه يريدون أن يجعلوهم يعرفون فرنسا ويحبونها (¬5). ¬

_ (¬1) إن التقارب الأخير (1952) بين مصر والسودان يدل دلالة واضحة على أن المبشرين كانوا، حتى في عام 1903، يخطئون فهم الصلات بين مصر والسودان، وبين السودان والتبشير أيضًا. وفي 1956 ألغيت المدارس التبشيرية في مصر والسودان وطلب إليها، إذا كانت تريد أن تستمر في هذين البلدين، أن تتقيد بأنظمة الحكومتين وبمنهاجهما. (¬2) Bliss R 328 - 329 and footnote 3 (¬3) Les Jésuites en Syrie 1 : 7 - 12 (¬4) ibid 1 : 9 (¬5) ibid 2 : 8

ولقد كان اليسوعيون قد اختاروا بلدة " غزير " للتعليم، لما كان منافسوهم قد اختاروا بلده " عبيه " للغاية عينها. فلما انتقل الأمريكيون إلى بيروت لم تبق " غزير " في رأي اليسوعيين المركز الذي يمكن الكاثوليك من الدفاع عن عقائدهم في ميدان العلم والتعليم، ولذلك عزموا على نقل كليتهم من " غزير " إلى بيروت أيضًا (¬1). وَنَعَمَ اليسوعيون في القرن الأخير بامتيازات لم تتوفر للأمريكيين. أجل، إن الانتداب قد رفع الرقابة عن أعمال الأمريكيين وترك لهم الحرية في نشاطهم الديني، ولكن الانتداب نفسه قد سخر جيوشه ورجاله لخدمة اليسوعيين. قال اليسوعيون: «كَانَ المُبَشِّرُونَ اليَسُوعِيُّونَ فِي أَوَّلَ أَمْرِهِمْ (قَبْلَ الاِنْتِدابِ الفِرَنْسِيِّ عَلَى سُورِيَّةَ) يُنْشِئُونَ المَدَارِسَ فِي جَبَلِ الدُّروزِ ثَمَّ يُغْلِقُونَهَا إذَا قَصَّرَتْ مَوَارِدُهُمْ الاِقْتِصَادِيَّةُ عَنْ إِدَرَاتِهَا. وَلَكِنَّ التَّعْلِيمَ (التَّبْشِيرِيَّ) اليَوْمَ - أَيْ بَعْدَ الاِنْتِدابِ - وَخُصُوصًا فِي جَبَلِ الدُّروزِ يَقُومُ عَلَى تَعَاوُنٍ وَثِيقٍ بَيْنَ المُبَشِّرِينَ وَبَيْنَ السُّلُطَاتِ العَامَّةِ» (¬2). ولا نحب هنا أن نسهب في الكلام على المؤسسات اليسوعية ولا المؤسسات الشبيهة بها، فالغايات اليسوعية معروفة. ولكن الغريب أن اليسوعيين لا يزالون في لبنان وحده قوة تتحدى كل إصلاح في التعليم الرسمي. إلا أن هذا الكتاب ليس موضعًا لبحث ذلك. علينا أن نقتدي بأمم الغرب التي لم تستطع بلادها أن تسير في معارج الاستقلال والرقي إلا بعد أن وضعت اليسوعيين خارج حدودها: يجب أن نتعلم من غيرنا ما ننفع به أنفسنا. لقد تعثر الشرق في حياته السياسية والقومية لأن المدارس الأجنبية المختلفة قد فرقت أبناء الوطن الواحد طرائق مختلفة فشتتت أهدافهم وباعدت بين الطرق إلى تلك الأهداف. إن التعليم قوة توجيهية عظيمة، فلا يجوز أن تكون في أيد أجنبية تلعب بها وتستغلها لمآرب وأغراض أجنبية. إن التعيم الوطني الموحد، ولو كان ناقصًا بعض النقص، أفضل من التعليم الأجنبي المتنافر، ولو كان كاملاً كل الكمال. ¬

_ (¬1) ibid 5 : 8 (¬2) ibid 10 : 65

الفصل الخامس: السياسة طريق التبشير

الفَصْلُ الخَامِسُ: السِّيَاسَةُ طَرِيقُ التَّبْشِيرِ: 1 - تَعَاوُنُ التَّبْشِيرِ وَالسِّيَاسَةِ: لقد خابت الجمعيات التبشيرية في جهودها الفردية بين المسلمين: لقد تبين لهذه الجمعيات، لأسباب كثيرة، أن انتقال المسلم من الإسلام إلى النصرانية قد يتم في العام بعد العام. وهذا يعني أن الجهود التي يبذلونها لا تتناسب مع النتائج التي يجنونها، فيجب البحث إذن عن طريق أشد تأثيرًا وأكثر عائدة. أما الأسباب الحقيقية التي تصرف المسلم عن هذا الانتقال - كما ذكرها المبشرون أنفسهم - فلن نتعرض لها، ذلك لأنها تثير مشكلة عظيمة بين مواطنين في الشرق يعيشون على الأخوة والوداد، وهذا أبعد شيء عن غايتنا في هذا الكتاب. إن لكتابنا هدفًا واحدًا: نحن نريد أن نبرهن على أن رجال الدين الأجانب هم المسؤولون عن نكبات الشرق السياسية والخلقية، وعن الفتن التي كانت تثور بين أهل الأديان والمذاهب، وأن أهل الوطن الواحد على اختلاف أديانهم ومذاهبهم كانوا دائمًا ضحايا بريئة. ولما رأى المبشرون أن الجهود الفردية في نشر المذاهب المسيحية الغربية في الشرق وبين المسلمين خاصة، قليل الجدوى تلفتوا، منذ زمن قديم جِدًّا، إلى سبل أحسن تمهيدًا وأشد تأثيرًا فلجأوا إلى حكوماتهم. وبعد أن رضي المبشرون أَنْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَالدِّينَ آلَةً طَيِّعَةً فِي يَدِ دُوَلِهِمْ، انتهزت تلك الدول هذه الفرصة وجعلت تساعد المبشرين. إلا أنها في الحقيقة كانت تسعى إلى أهدافها السياسية والاقتصادية الخاصة باستغلال المبشرين والدين. وللمدارس الفرنسية، مدارس الإخوان النصارى (الفْرِيرْ) والمدارس اليسوعية وما يتصل بها كلها من مدارس الراهبات وسواها، مشاكل خاصة ليست لمدارس

الحروب الصليبية

الأمريكيين والإنجليز في الشرق. إن المدارس الفرنسية تتبع سياسة واحدة دائمة وقيادة واحدة في الأكثر. هذه المدارس الفرنسية لا تسعى إلى استغلال النشاط القومي في تعليم أهل البلاد ولا هي تسعى إلى إبراز الخصائص الوطنية حيث تفتح أبوابها لأبناء البلاد التي تكون فيها، ولكنها تجهد في أن تجعل من أبناء البلاد الذين تعلمهم، سواء أكانت تلك البلاد مراكش أو مصر أو إيران أو الهند - الصينية، أشباهًا لأبناء فرنسا نفسها في المظهر واللغة وأسلوب التفكير والتعلق بِفِرَنْسَا المُسْتَعَمِرَةِ. وللمدارس الفرنسية المذكورة منهاج خاص موحد تسير عليه مصنوع في غير البلاد التي تقوم فيها. إنه منهاج افرنسي استعماري في كل شيء. من المشهور أن طلاب المدارس الفرنسية يعرفون جغرافية فرنسا وتاريخها بتفصيل أوفى من التفصيل الذي يعرفون به بلادهم. إنهم يعرفون هضاب فرنسا وروافد أنهارها ويعرفون مفردات الصادرات منها والواردات إليها معرفة دقيقة، ثم هم يقرأون من تاريخ فرنسا ما لا يقرأون من تاريخ بلادهم. وإذا نحن استعرضنا الكتب التي تدرس في تلك المدارس ألفيناها الكتب التي تدرس في فرنسا نفسها. تلك كانت الحال أيضًا في لبنان قبل زوال الانتداب الافرنسي. ومع ذلك فإن هنالك جهودًا كثيرة مبذولة اليوم للحيلولة دون تبديل تلك السياسة. إن في لبنان اليوم معركة حامية الوطيس حول تبديل المناهج وتعديلها وحول رقابة الحكومة اللبنانية على ميزانيات تلك المدارس وعلى دخول المفتشين اللبنانيين إليها. ولولا أن في تلك المدارس نفرًا من المدرسين الوطنيين الذين امتلأت صدورهم بالعزة الوطنية (لأن عددًا كبيرًا من المدرسين في تلك المدراس من الرهبان الأجانب أو من الأجانب غير الرهبان) لما أمكن أن ينشأ في لبنان تعاون بين أساتذة المدارس المختلفة في سبيل المعلم اللبناني وفي سبيل خير التعليم في لبنان. الحُرُوبُ الصَّلِيبِيَّةُ: من الأمور التي أصبحت معروفة في أسباب الحروب الصليبية أن تلك الأسباب كانت في ظاهرها دينية، غايتها تخليص بيت المقدس من يد المسلمين، بينما كانت في حقيقتها سبيلاً للسيطرة على الشرق الإسلامي بما فيه من خيرات اقتصادية ومراكز حربية. وأوجز (رشتر) فقال (¬1): «جَهَدَ الصَّلِيبِيُّونَ طِوَالَ قَرْنَيْنِ لاِسْتِعَادَةِ الأَرْضِ ¬

_ (¬1) Richter 14

المُقَدَّسَةِ مِنْ أَيَدِي المُسْلِمِينَ المُتَعَصِّبِينَ، فَكَانَ عَهْدُ الحُروبِ الصَّلِيبِيَّةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْوَعَ العُهُودِ فِي العُصُورِ الوُسْطَى كُلَّهَا ... وَلَكِنَّ ذَلِكَ الجَهْدَ قَدْ خَابَ، وَتَرَاجَعَتْ الحَمْلَةُ الصَّلِيبِيَّةُ أَمَامَ سُدُودٍ عَنِيدَةٍ مِنَ التَّعَصُّبِ الإِسْلاَمِيِّ». ولكن (غاردنر) و (لطفي ليفونيان) قد كشفا عن حقيقة القضية ستارًا آخر، فقد قال (غاردنر) (¬1): «لَقَدْ خَابَ الصَّلِيبِيُّونَ فِي انْتِزَاعِ القُدْسِ مِنْ أَيْدِي المُسْلِمِينَ لِيُقِيمُوا دَوْلَةً مَسِيحِيَّةً فِي قَلْبِ العَالَمِ الإِسْلاَمِيِّ .. وَالحُروبُ الصَّلِيبِيَّةُ لَمْ تَكُنْ لإِنْقَاذِ هَذِهِ المَدِينَةِ بِقَدْرِ مَا كَانَتْ لِتَدْمِيرِ الإِسْلاَمِ». أما (ليفونيان) فيرى (¬2)، وهو على حق، «أَنَّ الحُرُوبَ الصَّلِيبِيَّةَ كَانَتْ أَعْظَمَ مَأْسَاةٍ نَزَلَتْ بِالصِّلاَتِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى فِي الشَّرْقِ الأَدْنَى. لَقَدْ أَحَبَّ الصَّلِيبِيُّونَ أَنْ يَنْتَزِعُوا القُدْسَ مِنْ أَيْدِي المُسْلِمِينَ بِالسَّيْفِ لِيُقِيمُوا لِلْمَسِيحِ مَمْلَكَةً فِي هَذَا العَالَمِ. إِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُقِيمُوا تِلْكَ المَمْلَكَةِ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا بَعْدَهُمْ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ». خابت دول أوروبا في الحروب الصليبية الأولى من طريق السيف فأرادت أن تثير على المسلمين حربًا صليبية جديدة من طريق التبشير، فاستخدمت لذلك الكنائس والمدارس والمستشفيات، وفرقت المبشرين في العالم (¬3). وهكذا تبنت الدول حركة التبشير لمآربها السياسية ومطامعها الاقتصادية. ولقد استطاع (رامون لل) في عام 1299 وعام 1300 للميلاد أن يحصل على إذن (الملك يعقوب) صاحب " أرغونة " ليبشر في مساجد برشلونة مُحْتَمِيًا بالسلطة المسيحية في إسبانيا (¬4). وجهدت الكنيسة زمنًا طويلاً لتنصير المغول. فلما اعتنق المغول الإسلام من تلقاء أنفسهم زال أمل كبير من آمال الدول الغربية للسيطرة على الشرق من طريق الدين (¬5). من أجل ذلك كانت جميع الحروب الأوروبية التي شنت فيما بعد على الدولة العثمانية حروبًا دينية صليبية في أساسها (¬6). ثم إن هذه العقلية الدينية استمرت إلى العصور الحديثية على الرغم من جميع أوجه التقدم الإنساني والتطور العقلي في البشر. لم يخجل اليسوعيون من معالجة هذه النقطة بأسلوب زَاهٍ لَمَّاعٍ. إنهم قالوا (¬7): «أَلَمْ نَكُنْ نَحْنُ وَرَثَةُ الصَّلِيبِيِّينَ، أَوَ لَمْ نَرْجِعْ تَحْتَ رَايَةِ الصَّلِيبِ لِنَسْتَأْنِفَ التَّسَرُّبَ التَّبْشِيرِيَّ وَالتَّمْدِينَ المَسِيحِيَّ وَلِنُعِيدَ، فِي ظِلِّ ¬

_ (¬1) Gairdner 9, 221 (¬2) Levonian 124 (¬3) Richter 14 (¬4) Addison 46 (¬5) Addison 59 (¬6) Richter 21 (¬7) Les Jésuites en Syrie 10 : 8

التبشير والنفوذ الأجنبي

العَلَمِ الفِرَنْسِيِّ وَبِاسْمِ الكَنِيسَةِ، مَمْلَكَةَ المَسِيحِ؟». لم يكن لنا بد من ذكر هذه الفقرات تمهيدًا للبحث المقبل، ولقد اجتزأنا بهذه فقط تجنبًا لكل إثارة مما تحفل به كتب المبشرين وكتب نفر من المستشرقين والمؤرخين من الغربيين. التَّبْشِيرُ وَالنُّفُوذُ الأَجْنَبِيُّ: لقد كانت تركيا على حق حينما بدأت، منذ أمد، ترتاب في حركات التبشير في امبراطوريتها، ولا غرو فالمبشر يسبق الجيش إلى كل مكان. ولذلك أخذت تركيا تراقب المبشرين مراقبة دقيقة حتى تضيق عليهم (¬1). وكان الأتراك يرتابون خاصة بالمبشرين البروتستانت، لأن هؤلاء كانوا يتوارون وراء العلم البريطاني في الأكثر (¬2)، وبالمبشرين اليسوعيين لأنهم يعملون للسياسة الفرنسية أيضًا. وكذلك لما تشعبت مطامع الدول في شبه جزيرة العرب جعلت تركيا تحول بين المبشرين وبين بلاد العرب (¬3)، كما أنها كانت تقاوم المبشرين في البلاد التركية نفسها (¬4). ثم وقفت من المبشرين كلهم موقفًا حازمًا فألقت في سبيلهم العراقيل وعزمت على ألا يصيبوا نجاحًا. وهكذا أصبح التبشير بين المسلمين في الإمبراطورية العثمانية مستحيلاً، للرقابة الشديدة التي فرضتها الحكومة على المبشرين. وبعد أن فتحت الجمعية التبشيرية بضع مدارس (في لبنان) لأطفال الدروز نحو عام 1875 اضطرت إلى التخلي عنها أمام حزم الحكومة العثمانية وسهرها (¬5). على أن الحكومة العثمانية لم تستطع أن تتخذ سياسة علنية تجاه المبشرين، ذلك لأن هؤلاء كانوا يأتون في الظاهر كرعايا إنجليز أو أمريكيين أو دانماركيين أو فرنسيين. فإذا استقروا في البلاد أخذوا يقومون بالتبشير سِرًّا ما أمكنهم. ولذلك كان هؤلاء كلما وجدوا مراقبة وسهرًا من الدولة العثمانية لجأوا إلى قناصلهم، وكان القناصل يدافعون عنهم كرعايا أجانب في الظاهر أيضًا. ففي آب من عام 1841 حينما أرادت الدول الأجنبية أن تخرج إبراهيم باشا من سورية بالقوة وعزمت على ضرب بيروت من البحر، أرسلت الولايات المتحدة سفينة حربية صغيرة اسمها " سيان " (¬6) حملت على ظهرها المبشرين إلى " لاَرْنَقَا " في ¬

_ (¬1) Jessup 625 et Passim (¬2) cf. Bliss R 319 (¬3) Jessup 612 (¬4) Addison 107 ff (¬5) Richter 239, 249 (¬6) Cyane

السلك السياسي الأجنبي يحمي المبشرين

جزيرة قبرص، وبعد أن انتهى ضرب بيروت وخرج إبراهيم باشا من سورية أعادت الولايات المتحدة مبشريها إلى أماكنهم السابقة في تشرين الأول من السنة نفسها (¬1). ولما أدركت الدول الأوروبية أن المبشرين آلة فعالة لتأييد النفوذ الأجنبي في الإمبراطورية العثمانية أخذت تلك الدول تتبارى في استخدام المبشرين، وكان الدور الأول في ذلك للسياسة الإنجليزية (¬2). ويظهر أن إنجلترا لم تكن ترهب نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الإسلامي، كما كانت ترهب النفوذين الفرنسي والإيطالي فيه (¬3). ولما فقدت تركيا إمبراطوريتها لم تفقد سياستها الحكيمة تجاه المبشرين، فقد ظلت تمنع الأطفال من دخول مدارس المبشرين قبل أن ينهوا التعليم الابتدائي في المدارس الرسمية. ثم هي كانت توجب أن يكون التعليم الديني في تلك المدارس قاصرًا على المسيحيين وحدهم. أما الآن فمدارس التبشير قد زالت من تركيا ومن سورية أيضًا ومن مصر والسودان. (¬4) ولما بدأت الإمبراطورية العثمانية تضعف مع الأيام أخذت الدول الأجنبية تزيد في تظاهرها بدعم المبشرين. ولقد كان المبشرون يطلبون من دولهم أن تؤيدهم، ولو كان هذا التأييد مخالفًا للعرف الدولي. إن للولايات المتحدة شرعة تسمى (شرعة مونرو) تنص على أن دول نصف الكرة الشرقي (آسيا وأوروبا وأفريقيا) لا يجوز لها أن تتدخل في شؤون نصف الكرة الغربي (أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية). وكذلك لا يجوز للولايات المتحدة أن تتدخل في شؤون الدول الواقعة في النصف الشرقي من الكرة الأرضية ما لم تتعرض المصالح الأمريكية للضياع (¬5). ولكن المبشرين الأمريكيين كانوا يودون من الولايات المتحدة أن تخالف (شرعة مونرو) في سبيل التبشير (¬6). السِّلْكُ السِّيَاسِيُّ الأَجْنَبِيُّ يَحْمِي المُبَشِّرِينَ: وليس من المستغرب أن تستجيب الدول الغربية لرغبة مبشريها، أليس في ذلك تأييد للنفوذ السياسي؟ من أجل ذلك كانت هذه الدول تضغط على الدولة العثمانية بين الحين ¬

_ (¬1) Jessup 59, 60 (¬2) Re-thinking Missions 165 (¬3) Re-thinking Missions 164 - 5 : Jessup 22 (¬4) Addison 108 f (¬5) Carlton J. H. Hayes. A Political History of Modern Europe, vol II, n. y. 1934 pp. 225 - 6 etc (¬6) Bury 184, 186

والحين من أجل مبشريها، فتلين الدولة العثمانية أمام هؤلاء المبشرين (¬1). أراد الأتراك مرة إغلاق بعض مدارس التبشير ولكنهم تراجعوا أمام ضغط سياسي لا علاقة له بالتبشير (¬2). ولا حاجة إلى القول بأن وجود حاكم قوي أو ضعيف يؤثر كثيرًا في موقف حكومته من التبشير والمبشرين ... لما تولى الخديوي سعيد باشا أريكة مصر، وكان حاكمًا مستضعفًا أحبه المبشرون لأنه لم يسمح لأحد أن يمسهم بسوء. ثم إنه وهب المبشرين البروتستانت عام 1862 قطعة أرض ثمينة في القاهرة إسوة بالإرسالية الكاثوليكية التي كان قد وهبها مثل هذه الأرض من قبل. ولقد تقدمت أعمال التبشير في أثناء حكم سعيد باشا. ولكن لما جاء إسماعيل باشا عام 1863 تبدلت الحال لأن إسماعيل باشا كان قويًا فضيق على المبشرين كثيرًا. من أجل ذلك وصف المبشرون إسماعيل باشا بأنه متكبر مستبد، كل ذلك لأنه أراد أن يضع حَدًّا للنفوذ الأوروبي في مصر (¬3) لما اهتدى إلى الأصابع الحقيقية التي كانت «تُهَرِّبُ» ذلك النفوذ إلى مصر فقطعها. وحرصت بريطانيا على أن تحمي الإرساليات البروتستانتية خاصة، سواءً كانت هذه الإرساليات إنجليزية أم أمريكية، أم ألمانية، وكان نفوذ إنجلترا في ذلك الحين قد أصبح فعالاً في الإمبراطورية العثمانية (¬4). فمن ذلك أن الحكومة العثمانية أرادت أن تمنع باعة الأناجيل الدوارين من التجول في المدن والقرى، فما زال القناصل يتدخلون حتى حملوا الحكومة العثمانية على العودة إلى السماح لهم بذلك (¬5). ومن الحوادث التي تدل على مبلغ اهتمام الدول الأجنبية بالمبشرين - أو بتثبيت نفوذها من طريق المبشرين ما يلي (¬6): أراد الأتراك أن يحموا المسلمين من المبشرين فكان المبشرون يحتجون. ولقد اتفقت حادثة في هذا الباب نقل المبشر (هنري جسب) تفاصيلها إلى (دانيال بلس) رئيس الكلية السورية الإنجيلية، هو يومذاك في لندن، ثم علق عليها بقوله: «هَلْ يُتَاحُ لَنَا أَنْ نَرَى الزَّمَنَ الذِي يُصْبِحُ فِيهِ لِصَلَوَاتِ إِنْجْلِتْرَا المَسِيحِيَّةَ احْتِرَامٌ فِي الشَّرْقِ مَرَّةً ثَانِيَةً؟». فما كان من (دانيال بلس) إلا أن نقل هذا الكتاب إلى المحترم (جونس)، أمين سر جمعية مساعدة التبشير في تركيا، و (جونس) هذا نقله بدوره إلى الأرل (رسل) وزير الخارجية البريطانية. ثم إن (رسل) أرسل ¬

_ (¬1) Richter 351 (¬2) cf. Richter 314 (¬3) Richter 345 - 6 (¬4) cf. Jessup 660 f (¬5) Jessup 590 : cf. Richter 187 (¬6) Jessup 249 f

نسخة منه إلى السير (هنري بلور) وزير بريطانيا المفوض في القسطنطينية. ولكن (بلور) وجد في هذا العمل المتسلسل على هذه الطريقة قلة لياقة فشكا (جسب) إلى قنصل أمريكا طالبًا نفي (جسب). ويتألم (جسب) لأن بريطانيا لا تُعْنَى بأن تمثل إمبراطوريتها تمثيلاً مسيحيًا لدى الباب العالي. ومع أن طلب (جسب) لم ينفذ فإنه يدل على مبلغ اهتمام الدول الغربية بأمر قد يكون في مظهره تافهًا ولكنه عظيم الأهمية في مدلوله. لقد كانت الدول الغربية تناجز الإمبراطورية العثمانية من وراء الستار، من وراء مبشريها المنتشرين في جميع البلاد. على أن المبشرين كانوا أحيانًا ينجحون في مسعاهم، فإن الخديوي إسماعيل باشا أراد أن يغلق مدارس المبشرين البروتستانت لأن هؤلاء كانوا يتدخلون في السياسة ويثيرون الاضطراب في البلاد ويزيدون مشاكل الحكومة. ولكن القنصليتين الأمريكية والإنجليزية أيدتا المبشرين وحملتا الحكومة المصرية على أن تتقيد بالخط الهمايوني (بالدستور العثماني) الذي ينص على احترام الحرية الدينية (¬1). هذا صحيح ولكن الدستور ينص على أن كل صاحب دين أو مذهب حر في أن يتمشى على قواعد دينه أو مذهبه كما يشاء، ولا ينص على أن لبعض الناس أن يحملوا الآخرين على تغيير دينهم بالقوة. ولقد كان القناصل أنفسهم يعملون أحيانًا للتبشير. حاول المستر (سكين) (¬2) قنصل إنجلترا في حلب، أن يسعى (عام 1860) إلى تحضير البدو في بادية الشام ليتوصل من هذه السبيل إلى اجتذاب أبنائهم إلى النصرانية. وفي العام التالي تأسست في لندن جمعية للتبشير بين المسلمين ثم اتصلت بالمستر (سكين) في هذا الشأن، ولكن لم يكتب لها النجاح (¬3). وفي عام 1888 أغلقت الدولة العثمانية مدارس المبشرين الأمريكيين، لأن هذه المدارس فتحت أبوابها بلا رخصة من الحكومة. ولكن المستر (بسنغر) (¬4) قنصل أمريكا في بيروت والمستر (أسكار ستراوس) (¬5) تدخلا في الأمر حتى سمح الوالي على رضا باشا بأن تعود تلك المدارس إلى فتح أبوابها، على ألا تقبل إلا التلاميذ المسيحيين. ولكن الوزير والقنصل ما زالا يسعيان حتى حملا الوالي على إلغاء هذا الشرط (¬6). وهكذا كانت الدول الأجنبية ¬

_ (¬1) Richter 347 (¬2) Skene (¬3) Richter 20 and note (¬4) Bissinger (¬5) Oscar Straus 533 (¬6) Jessup 533

الجنسية الأجنبية

تستغل ضعف تركيا السياسي لتحمي المبشرين في أعمال التبشير، مع أن الولايات المتحدة مثلاً لا يمكن أن تسمح لمدرسة أن تستقبل الطلاب الأمريكيين بلا رخصة ثم تلقنهم فوق ذلك ما يخالف المبادئ الأمريكية. ولما صعب على المبشرين البروتستانت الوصول إلى المسلمين التفتوا إلى الأرثوذكس والأرمن. حينئذٍ لجأ بطريرك الأرمن إلى الباب العالي، فحرص الباب العالي على أن يحمي الأرمن من المبشرين البروتستانت. فتدخل السفير البريطاني (السير سترافورج كاننج) (¬1) ثم ما زال يسعى حتى استطاع عام 1850 أن يحصل على فَرَمَانْ يعترف بوجود طائفة بروتستانتية وطنية منحت من الحقوق ما يتمتع به الأرثوذكس والأرمن في الإمبراطورية العثمانية (¬2). ومعنى هذا أن المبشرين البروتستانت أصبحوا يعملون من وراء ستار الطائفة البروتستانتية الوطنية فلا تستطيع الدولة حينئذٍ أَنْ تَعُدَّ البروتستانت أجانب فتحاول أن تكسر نشاطهم، أو أن تمنعهم من العمل جهارًا أيضًا. (¬3) ومن الأدلة القاطعة على أن حماية المبشرين كانت تحمل طابعًا سياسيًا لا دينيًا أن (المستر أوسكار ستراوس)، وزير الولايات المتحدة المفوض في تركيا، كان يهوديًا. ومع ذلك فإنه كان يساعد المبشرين النصارى ويقول: «أَنَا أَمَرِيكِيٌّ فِي الدَّرَجَةِ الأُولَى ثُمَّ أَنَا يَهُودِيٌّ». ولما سحبته الولايات المتحدة من استانبول أسف المبشرون لذلك (¬4). الجِنْسِيَّةُ الأَجْنَبِيَّةُ: أما إذا اتفق أن اعتنق رجل النصرانية أو انتقل إلى المذهب البروتستانتي فكان القناصل والرجال السياسيون الأجانب يأخذونه تحت جناحهم عَلَنًا ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة من أجله حتى في الأمور الداخلية البحت (¬5). ولقد اشتهر ذلك عنهم: لما انهزم يوسف كرم جاء فلاح من رجاله إلى المبشر الأمريكي (هنري جسب) وأفضى إليه بأنه يريد أن «يُقْلَبَ إِنْجْلِيزِيًّا»، أي أن يصبح بروتستانتيًا. ولما سأله (جسب) عن الدافع الحقيقي لرغبته هذه، قال له: «إِنِّي مِنْ رِجَالِ يُوسُفْ كَرَمْ وَقَدْ فَرَرْتُ بَعْدَ الهَزِيمَةِ، فَإِذَا قَبَضَ الأَتْرَاكُ عَلَيَّ الآنَ أَعْدَمُونِي. فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصْبِحَ بْرُوتِسْتَانْتِيًّا حَتَّى أَنَالَ حِمَايَةَ ¬

_ (¬1) Sir Straford Canning (¬2) Islam and Missions 160 (¬3) Bliss R 314, 315 : cf. Islam and Missions 161 (¬4) Jessup 534 (¬5) Jessup 267

اليسوعيون أيضا

إِنْجْلِتْرَا» (¬1). وهكذا كان كثيرون يتظاهرون باعتناق البروتستانتية مثلاً لينالوا حماية أو ينالوا مالاً (¬2). على أن ميدان التدخل السياسي من طريق التبشير لم يبق ميدانًا للأمريكيين والإنجليز وحدهم، فإن روسيا القيصرية أيضًا أرادت أن تدلي دلوها. لقد تنبهت روسيا إلى أن في الإمبراطورية العثمانية طائفة أرثوذكسية فأرادت أن تسيطر أولاً على البطاركة والأساقفة الأرثوذكس وتتخذهم وسيلة إلى تحقيق أطماعها السياسية في الإمبراطورية العثمانية. وهكذا أخذ الروس يشترون الأراضي في فلسطين خاصة ويقيمون عليها الأبنية ويتدخلون، ساعة يستطيعون، في الأمور الدينية والسياسية. على أن نزول روسيا إلى الميدان لم يكن نقمة كبيرة على البلاد، بل كان ينطوي على نغمة، هي أن المساعي الروسية في حقل التبشير وقفت في وجه المساعي الأمريكية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية أيضًا. ولما أرادت الدولة العثمانية أن تخرج المبشرين الأمريكيين من البلاد اعتقد بعضهم أن ذلك كان نتيجة لمسعى روسي (¬3). اليَسُوعِيُّونَ أَيْضًا: وكذلك كان لليسوعيين صولة في الإمبراطورية العثمانية لأن الدول الغربية عمومًا وفرنسا وإيطاليا والبابوية خصوصًا كانت تحميهم وتؤيدهم (¬4)، ولأن المؤسسات الكاثوليكية في الشرق كانت كثيرة. ويستغرب (جسب) كيف أن فرنسا قد طردت اليسوعيين من بلادها (¬5) ثم هي تنفق عليهم في الخارج ملايين الفرنكات ذهبًا. ولا غرو فإن فرنسا كانت ترسل اليسوعيين إلى الخارج عمالاً سياسيين لها ودعامة اجتماعية لآرائها وخالقي مشاكل في سبيل مصالحها. ومع أن فرنسا كانت عدوة لليسوعيين في بلادها فإنها كانت لليسوعيين في الخارج الصنم الذي يعبدونه، وكان اليسوعيون يعدون كل من تعرض لفرنسا تعرضًا للبابا نفسه (¬6). ¬

_ (¬1) Jessup 291 (¬2) Jessup 355 (¬3) Jessup 619 f (¬4) Les Jésuites en Syrie 1 : 11 (¬5) cf. also Enc. Br. 15 : 347 (¬6) Jessup 659

اليسوعيون والمفوض السامي الفرنسي

وظل اليسوعيون يعملون بصمت في ثيابهم السود حتى جاء الانتداب الفرنسي فكشفوا القناع عن وجوههم (¬1)، وأخذوا يتشدقون بملء أفواههم، قالوا في كتابهم " المثنوي " (¬2): «أَجَلْ، لَقَدْ كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى مُسَاعَدَةِ فِرَنْسَا الظَّافِرَةَ، وَالآنَ هَا هِيَ فِرَنْسَا هُنَا». إن فرنسا المنتدبة كانت تأتي إلى بلادنا بالموظفين الفرنسيين الذين يماشون اليسوعيين في سياستهم، وتخلق من موظفي بلادنا من يفعل مثل ذلك. اليَسُوعِيُّونَ وَالمُفَوِّضْ السَّامِي الفِرَنْسِيُّ: كان اليسوعيون لا يقيمون وزنًا للتنصير الفردي، بل كانوا يسعون إلى التنصير الإجماعي، ولذلك وجهوا اهتمامهم إلى بلاد العلويين للجهل الذي كان يخيم على تلك الربوع في ذلك الحين. ففي أول أيلول عام 1925 (ذكرى إعلان لبنان الكبير) دعا المفوض السامي الفرنسي عددًا من الراهبات ليذهبن إلى " صافيتا " في بلاد العلويين. ويخون اليسوعيون كتمانهم فيقولون: إن هذه المؤسسة (مدرسة الراهبات في " صافيتا ") ستدعى يومًا إلى أن تلعب دورًا عظيمًا في التبشير الذي بدأ قبل أمد بين العلويين أو النُّصَيْرِيِّينَ (¬3).ولم يكن اليسوعيون مازحين، فقد مثلوا هم، لا الراهبات، وبحراب الفرنسيين لا بالدعوة الصالحة، ما بَيَّتُوهُ: لقد جمعوا عام 1930 نفرًا من العلويين في " جنينة رسلان " وحملوهم على أن يقروا بالمذهب الكاثوليكي (¬4). ويبدو أن تبشيرًا كثيرًا في العالم قام على الحديد والنار، لاَ حُبًّا بالنصرانية التي تكره الحديد والنار، بل بالسياسة التي لا تعرف المثل العليا إلا وسيلة إلى منافعها المادية. ويهمنا أن نعود الآن إلى المفوض السامي الفرنسي الذي بدأ هذه الحركة عام 1925. إنه كان الجنرال (ساراي). والمشهور أن (ساراي) كان علمانيًا لا دينيًا، ومع ذلك فقد كان يحمي اليسوعيين. إن الجنرال (ساراي) كان في الحقيقة ينفذ خطة سياسية ولم يكن يعطف على حركة دينية إلا بمقدار ما تساعده هذه الحركة على إحكام خطته. ¬

_ (¬1) cf. Dictionnaire Larousse, sous Jesuite : Personne Hypocrite (¬2) Les Jésuites en Syrie 1 : 25, 29 (¬3) Les Jésuites en Syrie 11 : 27 (¬4) cf. ibid. 10 : 23 ss

[صورة] «وانشغل ضباطه وخلفاؤه، أول الأمر، باكتشاف جزيرة هايتي (اسبانيولا) واحتلالها، وكانت ما تزال في داخلها أراض شاسعة مجهولة وقد تولى هذه المهمة كل من دييغو فيلاسكيز وبانفيلو دو نارفيز، فأبدينا من ضروب الوحشية ما لم يسبق له مثيل، مفتنين في تعذيب سكان الجزيرة بقطع أناملهم وَفَقْءِ عُيُونِهِمْ، وصب الزيت المقلي، والرصاص المذاب في جراحهم، أو بإحراقهم أحياء على مرأى من الأسرى ... ليعترفوا بمخابئ الذهب، أو ليهتدوا إلى الدين! وقد حاول أحد الرهبان إقناع الزعيم (هاتيهاي) باعتناق الدين، وكان مربوطًا إلى المحرقة، فقال له: إنه إذا تعمد يذهب إلى الجنة ... فسألة الزعيم الهندي: " وهل في الجنة إسبانيون؟ " فأجابه الراهب: " طبعًا، ما داموا يعبدون الإله الحق! " فما كان من الهندي إلا أن قال: " إذن، أنا لا أريد أن أذهب إلى مكان أصادف فيه أبناء هذه الأمة المتوحشة! "». غدًا اكتشاف الأوقيانوس الهادئ [جريدة " الحياة " (بيروت)، السنة 9، العدد 2494، الأربعاء 23 حزيران 1954، 23 شوال 1373 هـ.]

سياسة الجزويت

وهكذا نرى إلى أي حد كان التبشير والسياسة يتعاونان، كانت السياسة تعمل مقنعة من وراء المبشرين [الذين] كانوا بدورهم يعملون مقنعين بقناع التعليم والتطبيب وبذل الإحسان. ثم إن رجال السياسة كانوا إذا دافعوا عن المبشرين لم يدافعوا عنهم كمبشرين بل كأمريكيين أو إنجليز أو فرنسيين أو، على الأقل، كأجانب ليس لهم من دولهم ممثل يحميهم ويسهر على مصالحهم. حتى رجال السياسة العلمانيون كالجنرال (ساراي)، المفوض السامي الفرنسي في سورية ولبنان يوم نشبت الثورة السورية عام 1925، واليهود كـ (أوسكار ستراوس)، كانوا يتفانون في خدمة رجال الدين الأجانب ثقة منهم بأن مساعي البروتستانت والكاثوليك على السواء إنما تعني، في النهاية، تصدير البضائع إلى شعوب الشرق أو الحصول على مراكز حربية في البلاد الشرقية. سِيَاسَةُ الجِزْوِيتْ: واليسوعيون يتدخلون في السياسة الداخلية ويحاولون أن يؤثروا على مجاري الساسة الخارجية. ثم هم يرتكبون في سبيل ذلك الفظائع والمجازر ويسلبون وينهبون ويقتلون. وهم يحاولون في كل بلد نزلوا فيه وبلغوا شيئًا من القوة أن يستولوا على الحكم أو أن يملأوا مناصب البلاد بطلابهم ثم يحاولوا القضاء على خصومهم وعلى الجماعات التي لا تخضع لهم.

ثم هم يقاومون كل الحركات التي تنبه الشعوب أو تجعل لها سبيلاً إلى الحياة المستقلة. يجب أن يظل الناس عبيدًا لهم أو كالعبيد، ولذلك نجد كل شعب «وعى نفسه» وأراد أن يحيا حُرًّا في أرضه سيدًا في أعماله بدأ بطرد اليسوعيين من بلاده. وإنك واجد مصداق ذلك كله في كتاب غايته تبيان ذلك، هو كتاب " سياسة اليسوعيين " تأليف (بيير دومينك) (¬1). ولقد أتاح الانتداب الفرنسي حرية واسعة المدى للتبشير في سورية ولبنان. وكانت الكنيسة الكاثوليكية تضع لنفسها حدود هذه الحرية بالتعاون من الموظفين الفرنسيين الذين كانوا كاثوليكًا. أما الدولة المنتدبة فلم تكن تناصر حرية التبشير علنًا، ولا هي ذهبت في ذلك إلى حد يقر الكنيسة الكاثوليكية على تنصير المسلمين إلا إذا حدث ذلك التنصير من غير أن يثير ضجة عامة. ومع ذلك فإن المدارس والمستشفيات والهيئات الاجتماعية وأعمال التنصير المباشر التي كانت الكنائس والإرساليات تقوم بها، كانت كلها تمضي في عملها (التبشيري) من غير أن تلقى من الحكومة عرقلة تذكر. أما المدارس فقد ازدهرت أكثر من جميع المؤسسات الأخرى بما تدفق إليها من الموظفين الأجانب والمساعدات المالية الأجنبية (¬2). ولما استحال على المبشرين الفرنسيين أن ينصروا أحدًا من أهل الجزائر بالقوة أو بالدعوة أرادوا أن يصلوا إلى نفوسهم بسلوك الحيلة: أرادوا إنشاء مركز للتبشير يشبه في مظهره مظاهر الحياة الإسلامية. لقد اقترح (لافيجري) أن يجعل من مدينة بسكرة في الجزائر - في منتصف الطريق بين جبال الأوراس و (بحيرات) شط الغرسة المتصلة بشط الجريد في تونس - زاوية مسيحية. والزوايا الإسلامية، في الحقيقة، كانت ولا يزال أكثرها إلى اليوم مراكز لرجال الطرق الصوفية المختلفة. ورجال الطرق هؤلاء كانوا، ولا يزال بعضهم حتى اليوم، مرابطين: عبادًا في النهار فرسانًا في الليل. ورئيس الزاوية يدعى المرابط، ويكون مع المرابط مقدم واحد أو عدد من المقدمين يساعدونه في قيادة الإخوان، أي الأتباع الذين يعيشون معه في الزاوية. واقترح (لافيجري) أن تسمى الزاوية المسيحية بيت الله. ثم اقترح أيضًا أن يكون لباس «رواد الصحراء» المسلحين، أو الإخوة المسيحيين الذين يعيشون في الزاوية المسيحية مشابهًا للباس «الإخوان» المسلمين ما عدا لباس الرأس، فإن المسلمين يعتمون فوق الشاشية (الكوفية، غطاء الرأس) بينما ¬

_ (¬1) Pierre Dominique, La Politique des Jésuites (¬2) Grubb 171

أراد (لافيجري) أن يلبس الإخوة المسيحيين القبعه فوق الشاشية. ولقد اعتقد (لافيجري) أن أتباعه من المبشرين أو رواد الصحراء المسلحين كما كان يسميهم أيضًا، يستطيعون أن يتخللوا بين المسلمين تخللاً سلميًا. لقد أراد (لافيجري) أن يكتسب البدو في صحراء الجزائر ثم يقدمهم عطية إلى فرنسا ... ويأسف (لافيجري) كثيرًا لأن أمانيه لم تتحقق ... ثم كان (لافيجري) يعلن خجله من الأمة الفرنسية لأنه بقي (في منصب الأسقفية في الجزائر) نحو أربعين عامًا في العهود المختلفة، وبين ظهراني شعب مسلم، كان يخضع له، من غير أن يحاول تنصيره. ليس هذا فحسب، بل إنه منع كل محاولة كان بإمكان القسس الكاثوليك أن يقوموا بها في هذا السبيل تصلبًا منه وعنادًا (¬1). وكان الفرنسيون - رجال الدولة الفرنسية - يعدون التبشير بالمذهب الكاثوليكي، أو الدين الكاثوليكي (¬2)، عملاً وطنيًا. يقول (رينه بوتيه) في كتابه " الكاردينال لافيجري" (¬3): «إِنَّ العَمَلَ الذِي قَامَ بِهِ (لاَفِيجِرِي) بَدَأَ مَعَ عَمَلِهِ التَّبْشِيرِيِّ، بَدَأَ بِنَشْرِهِ عَلَى السُّورِيِّينَ تِلْكَ العَطَايَا التِي تَمْنَحُهَا الكَنِيسَةُ الكَاثُولِيكِيَّةُ، إِنَّهُ جَعَلَ فِرَنْسَا مَحْبُوبَةً (لَدَى السُّورِيِّينَ) وَأَضَافَ إِلَى الحُقُوقِ القَدِيمَةِ التِي كُنَّا نَمْلِكُهَا (نَحْنُ الفِرَنْسِيِّينَ) عَلَى تِلْكَ المِنْطَقَةِ حُقُوقًا جَدِيدَةً .. وَلَكِنْ فِي الجَزَائِرِ اِسْتَطَاعَ أَنْ يَهَبَ كُلَّ مَا فِي اِسْتِطاعَتِهِ لإِظْهَارِ حُبِّهِ لِفِرَنْسَا. وَهَذَا لاَ يَبْدُو فِي المَنَاصِبِ السَّامِيَةِ التِي اِحْتَلَّهَا فَقَطْ، بَلْ فِي تَرْكِهِ وَطَنَهُ (لِلْسُكْنَى فِي الجَزَائِرِ) إِذْ لَيْسَ ثَمَّتَ وَسِيلَةُ أَحَسَنَ مِنَ الحِرْمَانِ مِنْ نِعْمَةِ الوَطَنِ حَتَّى يَسْتَطِيعَ الإِنْسَانُ أَنْ يُدْرِكَ مَا لِهَذِهِ الكَلِمَةِ " فِرَنْسَا " فِي نَفْسِهَا مِنَ الجَمَالِ وَالنُّبْلِ وَالعَظَمَةِ. وَعَلَى أَرْضِ الجَزَائِرِ، مَدِينَةَ الجَزَائِرِ، كَانَتْ القُلُوبُ تَخْفَقُ لِرُؤْيَةِ العَلَمَ المُثَلَّثِ الأَلْوَانِ خَفَقَانًا شَدِيدًا كَانَ يُثِيرُهُ ذَلِكَ العَلَمَ المُتَمَوِّجُ فَوْقَ أَحَدِ الأَبْرَاجِ وَالمُشْرِفِ عَلَى أَرَضٍ أَجَنَبِيَّةٍ. تِلْكَ هِيَ فِرَنْسَا، التِي لَمْ يُحِبَّ (لاَفِيجِرِي) أَنْ يَرَاهَا عَظِيمَةً وَجَمِيلَةً فَقَطْ، بَلْ كَانَ يَوَدُّ أَنْ يَرَاهَا أَيْضًا أَشَدَّ قُوَّةً وَأَكْثَرَ سُكَّانًا ... أَرَادَ (لاَفِيجِرِي) " أَنْ يُحَبِّبَ فِرَنْسَا إِلَى النَّاسِ بِاسْمِ المَسِيحِ ". هَذِهِ الجُمْلَةُ يُمْكِنُ أَنْ تَوجِزَ جَمِيعَ سِياسَةَ (لاَفِيجِرِي) الذِي كَانَ رَئِيسَ أَسَاقِفَةٍ، ثَمَّ أَصْبَحَ كَارْدِينَالاً ثَمَّ صَاحِبَ الوِلاَيَةِ عَلَى جَمِيعِ أَسَاقِفَةِ أَفْرِيقْيَا. وَفِي الوَاقِعِ إِنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَجْعَلَ مِنَ الوَطَنِيِّينَ مِنْ أَهْلِ أَفْرِيقْيَا رَعَايَا لَهُ وَلاَ مُوَاطِنِينَ. لَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مِنْهُمْ أَوْلاَدًا لَهُ. فَبِحُبِّهِ لِلْمَسِيحِ وَبِالحُبِّ الذِي يُكِنُّهُ لِفِرَنْسَا أَرَادَ أَنْ يَتَبَنَّاهُمْ». ¬

_ (¬1) Pottier. Card. Lavigerie 194 - 198 (¬2) cf. Larousse, Sous catholicisme (¬3) Pottier. 177 - 178

هذا التبشير الممزوج بالسياسة، بل هذه السياسة المغلقة بالتبشير، هو الاستعمار. على أن هذا الاستعمار لم يكن خاصًا بالفرنسيين، ولكنه ظهر عند الفرنسيين في أبشع صوره. ولقد أجمع الأب اليسوعي (ملييز) (¬1) سياسة فرنسا الدينية في الشرق من جميع جوانبها قال: «إِنَّ الحَرْبَ الصَّلِيبِيَّةَ الهَادِئَةَ التِي بَدَأَهَا مُبَشِّرُونَا فِي القَرْنِ السَّابعِ عَشَرَ لاَ تَزَالُ مُسْتَمِرَّةً إِلَى أَيَامِنَا. إِنَّ الرُّهْبَانَ الفِرَنْسِيِّينَ وَالرَّاهِبَاتِ الفَرَنْسِيَّاتِ لاَ يَزَالُونَ كَثِيرِينِ فِي الشَّرْقِ» (ص 23). «لَقَدْ اِحْتَفَظَتْ فِرَنْسَا طَوِيلاً بِرُوحِ الحُروبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَبِالحَنِينِ إِلَى تِلْكَ الحُروبِ حَيَّةً فِي نَفْسِهَا، وَكَثِيرًا مَا فَكَّرَ مُلُوكُهَا بِحَمْلَةٍ صَلِيبِيَّةٍ جَدِيدَةٍ (عَلَى الشُّرْقِ)، وَلَكِنَّ أُورُوبَا المُنْشَقَّةُ (عَلَى نَفْسِهَا) كَانَتْ دَائِمًا تَجْعَلُ مِنَ المُسْتَحِيلِ (عَلَى فِرَنْسَا) أَنْ تَقُومَ بِحَمْلَةٍ بَعيدَةَ المَدًى ...» (ص 14، 15). «وَكَانَ مِنْ غَايَاتِ الاِمْتِيازَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ دَائِمًا أَنْ تَحْتَفِظَ (فِرَنْسَا) بِالدُّورِ الذِي يَلْعَبُهُ رُهْبَانُهَا، وَإِنْ تَوَسَّعَ ذَلِكَ الدَّوْرُ. وَقَدْ اِعْتُرِفَ لِقَنَاصِلِنَا وَسُفَرَائِنَا بِالِحِماِيَةِ لِلْنَّصَارَى، تِلْكَ المُهِمَّةُ الصَّعْبَةُ التِي لَمْ تُخْلَعْ عَلَيْهِمْ إلاَّ شَرَفَ حُضُورِ القَدَادِيسِ فِي الكَنَائِسِ. وَلَقَدْ كَانُوا يَبْذُلُونَ جُهْدًا كَبِيرًا لِيُهَدِّئُوا مِنْ اِرْتِجَافِ المُسْلِمِينَ المُتَعَصِّبِينَ وَلِيَحْمُوا أَعْمَالَ المُبَشِّرِينَ فِي الإِمْبْرَاطُورِيَّةِ العُثْمَانِيَّةِ» (ص 15، 16). «وَكَانَ مُمَثِّلُو فِرَنْسَا يُسَانِدُونَ أَعْمَالَ مُبَشِّرِينَا» (ص 22). «وَكَانَ لِفرنسا فِي أَكْثَرِ الأَحْيَانِ قُصَّادٌ رَسُولِيُّونَ فِي أَشْخَاصِ قَنَاصِلِهَا، وَخُصُوصًا فِي القَرْنِ السَّابِعِ عَشَرَ» (ص 50). وكثيرًا ما اختارت فرنسا قناصلها وسفراءها من رجال الدين. ¬

_ (¬1) Milliez, La Croisade du Levant

الفصل السادس: السياسة طريق التبشير

الفَصْلُ السَّادِسُ: السِّيَاسَةُ طَرِيقُ التَّبْشِيرِ: 2 - الفِتَنُ وَالحُرُوبُ فِي الشَّرْقِ: كان التعاون السلمي بين رجال السياسة وبين المبشرين قليل النتائج. وكانت هذه النتائج على قلتها بطيئة الظهور أيضًا. ولقد اعتد رجال السياسة هذا التعاون دَيْنًا لَهُمْ المبشرين، فلما قوي المبشرون بعض القوة فعلاً رجعت عليهم دولهم تقتضيهم هذا الدين. وهكذا بعد أن عملت الدول الأجنبية زمنًا طويلاً على تأييد إرساليتاتها التبشيرية في الشرق قويت تلك الإرساليات فعادت هي بدورها تعمل على تأييد دولها. ولكن المبشرين لم يستطيعوا ذلك إلا من طريق إثارة الاضطرابات في بلادنا، ولذلك عمدوا إلى إثارة اضطرابات مختلفة وحرصوا على «إِذْكَاءِ العَدَاوَةِ بَيْنَ الذِينَ كَانُوا يُبَشِّرُونَ بَيْنَهُمْ» (¬1). وعلى أن يفسحوا المجال أمام دولهم للتدخل في بلادنا. إِثَارَةُ الحُرُوبِ: كان أول ما خطر للمبشرين أن يخلقوا في الإمبراطورية العثمانية أسبابًا تقود إلى الحرب لأن الحرب تضعف الدولة العثمانية فيضعف سلطانها على رعاياها، فيجد المبشرون حينئذٍ من ضعف العثمانيين منفذًا إلى التبشير بين المسلمين. ولقد كانت أكثر الحروب التي شنتها أوروبا من قبل على الدول الإسلامية دينية في أساسها كالحروب الصليبية والحروب في الأندلس. وكذلك في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت حروب الدول الغربية المشنونة على الإمبراطورية العثمانية متميزة بعامل ديني. قال (لورنس براون) (¬2): ¬

_ (¬1) Jessup 160 ff (¬2) Browne 8

«وَكَذَلِكَ شَنَّتْ الدُّوَلُ الأُورُوبِيَّةُ فِي القَرْنِ التَّاسِعِ عَشَرَ وَالقَرْنِ العِشْرِينْ حُروبًا عُدْوَانِيَّةً عَلَى الحُكُومَاتِ المُسْلِمَةِ، ثَمَّ اِنْتَزَعَتْ مِنْهَا أَرَاضِي ضَمَّتْهَا إِلَى سُلْطَانِهَا هِي. وَلَقَدْ كَانَتْ النَّتَائِجُ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ غَيْرَ سَارَّةٍ لِبَعْضِ الشُّعُوبِ التِي اِسْتُعْبِدَتْ، وَخُصُوصًا مِنَ المُسْلِمِينَ وَلَكِنَّ هَذِهِ الشُّعُوبُ لَمْ تَصِلْ بَعْدُ إِلَى دَرَجَةٍ تَشْعُرُ فِيهَا أَنَّهَا أَصْبَحَتْ أَقَلِيَّاتًا مُضْطَهِدَةً، أَوْ أَنَّهَا تَعِيشُ فِي حَابُورَاتٍ» (¬1). أما غاية الدول الأجنبية من محاربة الدولة العثمانية فكانت، كما يراها المبشرون أيضًا، «لَعَلَّ اللهُ الرَّحِيمُ يَضْرِبُ الأَتْرَاكَ بِسَيْفِ قُدْرَتِهِ الجَبَّارَةَ». في عام 1920 أصدرت لجنة التبشير الأمريكي، التي تهتم بالاستفادة من مناسبات الحروب للتبشير، كتابًا ذكرت في مطلع مقدمته ما يلي: «مِنْ أَبْرَزِ الأُمُورِ المُتَعَلِّقَةِ بِدُخُولِ الوِلاَيَاتِ المُتَّحِدَةِ فِي الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ (الأُولَى) أَنَّ الآرَاءَ وَالمَبَادِئَ التِي كَانَتْ تَهْدِفُ إِلَيْهَا الإِرْسَالِيَاتُ التَّبْشِيرِيَّةُ قَدْ تَبَنَّتْهَا الآنَ الأُمَّةُ (الأَمِرِيكِيَّةُ)، ثَمَّ أَعْلَنَتْ أَنَّهَا هِيَ أَهْدَافَهَا الأَخْلاَقِيَّةَ وَغَايَتَهَا مِنْ خَوْضِ تِلْكَ الحَرْبِ ... إِنَّ هَذِهِ المَبَادِئَ التَّبْشِيرِيَّةَ قَدْ سُمِّيَتْ الآنَ أَسْمَاءَ سِياسِيَّةٍ فَقَطْ» (¬2). ولما ثار الأمير عبد الكريم في ريف مراكش على إسبانيا أقلقت ثورته جميع الدول الغربية، فتراكضت هذه الدول إلى مساعدة إسبانيا على التغلب على عبد الكريم زعيم القوة العربية الثائرة، كما وصفوا حركته يومذاك. ولقد علق المبشر (وليم كاش) في كتابه " العالم الإسلامي في ثورة " على هذه الحرب بالكلمات التالية: «لَقَدْ اِلْتَقَى الإِسْبَانُ بِالحَمَاسَةِ العَرَبِيَّةِ القَدِيمَةِ وَاِضْطُرُّوا إِلَى أَنْ يُخْلُوا، مِنْ مَنَاطِقِ نُفُوذِهِمْ، مَوْقِعًا بَعْدَ مَوَقِعِ، حَتَّى أَصَبَحُوا يُحَارِبُونَ وَظُهُورُهُمْ إِلَى البَحْرِ مُبَاشَرَةً وَعَلَى وَشَكِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ شَمَالِي أَفْرِيقْيَا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَهَكَذَا نَجِدُ لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مُنْذُ الحَرْبِ العُظْمَى (1914 - 1918) أَنْ دَوْلَةً أُورُوبِيَّةً يَتَغَلَّبُ عَلَيْهَا جَيْشٌ مُسْلِمٌ، فَلَقَدْ اِتَّفَقَ أَيْضًا لِثَلاَثِ سَنَوَاتٍ خَلَتْ أَنَّ مُصْطَفَى كَمَالْ طَرَدَ اليُونَانْ مِنْ آسْيَا الصُّغْرَى وَتَحَدَّى بِذَلِكَ سُلْطَانَ أُورُوبَّا القَوِيَّ» (¬3). بعدئذٍ ينصح (وليم كاش) جماعته فيقول (¬4): «قَبْلَ هَذِهِ التَّطَوُّرَاتِ، التِي طَرَأَتْ عَلَى العَالَمِ الإِسْلاَمِيِّ بَعْدَ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ الأُولَى، كَانَ المُبَشِّرُونَ قَدْ اِتَّخَذُوا مَرَاكِزَ اِسْتْرَاتِيجِيَّةَ فِي العَالَمِ الإِسْلاَمِيِّ، وَاِسْتَطَاعُوا فِي أَثَناءِ الثَّوْرَاتِ وَالحُروبِ وَالاِضْطِرابَاتِ أَنْ يُتَابِعُوا عَمَلَهُمْ ¬

_ (¬1) الحابورة كلمة عامية معناها حي اليهود، ويقابلها في اللغات الأجنبية كلمة Ghetto ولعل أصل الكلمة في العبرية حبرة: الجماعة، المجتمع. (¬2) Missionary Outlook. p. xv. ff (¬3) Cash 5 (¬4) Cash 6

الحصار العسكري على المسلمين وإبعادهم عن الشواطئ

بِهُدُوءٍ وثبَاتٍ. وَلَقَدْ كَتَبَ هَذَا الكِتَابَ الصَّغِيرِ لِيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ التَّطَوُّرَاتِ التِي حَدَثَتْ وَلِيُبَيِّنَ لِلْكَنَائِسِ تِلْكَ الحَاجَةِ المُلِحَّةِ لِلْتَّقَدُّمِ بِمَشْرُوعِهَا فِي يَوْمِ الفُرْصَةِ السَّانِحَةِ». إننا نعلم علم اليقين أن حربًا كالحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) لا يمكن أن تثور في سبيل التبشير وحده، بل يجب أن يرجع نشوبها إلى عوامل اقتصادية وسياسية بحت. ولكن ثمت شيئين يثيران اهتمامنا نحن في كتابنا هذا، أولهما أن الدول المتحاربة لا تتورع في سبيل ظفرها عن أن تستفيد من كل حزب وجماعة، ولذلك استغل المبشرون أحوال الحرب فاستفادوا من الحرب بطريقة غير مباشرة. وثاني ذينك الشيئين أن الدول التي تبغي الاستعمار إنما تبغيه في الشرق، لما في الشرق من الثروات الاقتصادية والمراكز الحربية. ولقد اتفق أن يكون العنصر الإسلامي من أقوى العناصر التي تدافع في الشرق كل مستعمر بكل سبيل. ولذلك اتفقت غايات الحروب الاستعمارية وغايات التبشير وتوحدت في حروب تثار ظاهرًا باسم الاقتصاد والسياسة وباطنًا للاستعمار وللقضاء على العناصر التي تجعل استغلال الشرق مستحيلاً. ولا تزال أوروبا إلى اليوم تنظر إلى جميع حروبها نظرة دينية. إن إنجلترا المسيحية لا تحارب اليونان المسيحية لأن اليونان ألقت بقيادها إلى إنجلترا، ولا يمكن لملك اليونان الإنجليزي النسب أن يعارض السياسة الإنجليزية في البلقان كله وفي اليونان خاصة (¬1). وإذا اتفق أن حاربت إنجلترا المسيحية إيطاليا أو ألمانيا فلأن ميدان النزاع يكون حينئذٍ اقتصاديًا استعماريًا. من أجل ذلك لم يكن «إثارة الحرب» بين الدول الكبرى دائمًا وسيلة عملية للمبشرين لأنها قد تقود إلى إضعاف دولة مسيحية. وهكذا انصرف المبشرون إلى البحث عن أمر آخر يكون أقرب تحقيقًا لأهدافهم فوقعوا على «إثارة الفتن والاضطرابات». وإذا نحن أدركنا أن الصلة كانت بين السياسيين وبين المبشرين وثيقة دائمًا لم نستغرب أن تنتهز الدول المستعمرة مثل هذه الفرصة للتدخل في الشرق. الحِصَارُ العَسْكَرِيُّ عَلَى المُسْلِمِينَ وَإِبْعَادُهُمْ عَنْ الشَّوَاطِئِ: ورأى الأوروبيون أن الحرب مع العالم الإسلامي - مفرقًا أو مجتمعًا، تؤدي إلى خسائر ¬

_ (¬1) بدأ تأليف هذا الكتاب في أواسط عام 1944 وكانت الحالة في البلقان على ما أراد هذا المثل، ولا تزال حال اليونان خاصة قريبة من ذلك.

كثيرة جسيمة في بعض الأحيان. من أجل ذلك اقترح المبشرون على دولهم أن يشلوا حياة المسلمين بإبعادهم عن الشواطئ ذات الأمطار الوافية وطرق المواصلات الكافية والمراكز الحربية المهمة ثم حصرهم في الداخل وفي الصحاري على الأكثر. إن اقتراحات مثل هذه قد أبديت فيما يتعلق بإسكان اللاجئين بعد كارثة فلسطين عام 1948. إلا أن الفكرة نفسها قديمة، ويدعى رجل مبشر، أو متصل بالتبشير، إنه هو الذي اقترحها: كتب كاتب اسمه (أشعيا بومان) (¬1) في مجلة " العالم الإسلامي " مقالاً عنوانه " الجغرافية السياسية للعالم الإسلامي " (¬2)، ذكر فيه «أَنَّ شَيْئًا مِنَ الخَوْفِ يَجِبُ أَنْ يُسَيْطِرَ عَلَى العَالَمِ الغَرْبِيِّ. لِهَذَا الخَوْفِ أَسْبَابٌ مِنْهَا أَنَّ الإِسْلاَمَ مُنْذُ ظَهَرَ فِي مَكَّةَ لَمْ يَضْعَفْ عَدَدِيًّا، بَلْ هُوَ دَائِمًا فِي اِزْدِيَادٍ وَاِتِّساعٍ، ثَمَّ إِنَّ الإِسْلاَمَ لَيْسَ دِينًا فَحَسْبَ، بَلْ إِنَّ مِنْ أَرْكَانِهِ الجِهَادُ. وَلَمْ يَتَّفِقْ قَطُّ أَنَّ شَعْبًا دَخَلَ فِي الإِسْلاَمِ ثُمَّ عَادَ نَصْرَانِيًّا». وكذلك يرى هذ الكاتب «أَنَّ الصَّحْرَاءَ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ حِصْنًا مَنِيعًا، ذَلِكَ لأَنْ " البَدْوَ " نِسْبَةٌ مِئَوِيَّةٌ كَبِيرَةٌ فِي المُسْلِمِينَ، وَإِنَّه مَا مِنْ دَوْلَةٍ حَاوَلَتْ التَّغَلُّبَ عَلَى المُسْلِمِينَ وَاِتَّفَقَ أَنْ ظَفَرَتْ إلاَّ خَسِرَتْ أَضْعَافَ مَا خَسِرَهُ المُسْلِمُونَ فِي ذَلِكَ الكِفَاحِ ...». من أجل ذلك يقترح هذا الكاتب «أَنْ تَتَّفِقَ بَرِيطَانْيَا وَفِرَنْسَا، مَا دَامَتَا أَكْثَرُ الدُّوَلِ سَيْطَرَةً عَلَى العَالَمِ الإِسْلاَمِيِّ (¬3)، عَلَى سِياسَةِ " السَّيْطَرَةِ عَلَى الشَّواطِئِ " حَيْثُ يُمْكِنُ وَصُولِ الدَّوَارِعِ وَآلاَتِ القِتَالِ الحَدِيثَةِ بِسُهُولَةٍ». فإذا نحن قرأنا هذا الكلام ثم ذكرنا ما فعلته إيطاليا في طرابلس الغرب من إعطاء الشواطئ إلى الإيطاليين وطرد العرب إلى الداخل، أدركنا أن التبشير والاستعمار متفقان على إبعاد المسلمين عن الشواطئ. وكذلك لما أعطت هيأة الأمم فلسطين لليهود نفذت جُزْءًا من هذه المؤامرة الخطيرة، فأخلت الشواطئ من العرب المسلمين ثم قذفت بهم إلى داخل البلاد وإلى ما وراء نهر الأردن. ولقد هال هيأة الأمم أن ترى عددًا كبيرًا من اللاجئين الفلسطينيين قد أموا لبنان - على الشاطئ - فهي لا تزال تحاول إقناعهم بالذهاب إلى سورية أو العراق أو شرق الأردن لتبعدهم عن الشواطئ. وكذلك تحاول فرنسا أن تفعل في المغرب، وخصوصًا في الجزائر، مثل هذا الفعل. ¬

_ (¬1) Isahiah Bowman, New York (¬2) Moslem World : the Political Geograpy of the Mohammedan World, Jan. 1930. pp. 1 - 4 (¬3) نشر هذا المقال عام 1930

الامتيازات الأجنبية

الاِمْتِيَازَاتُ الأَجْنَبِيَّةُ: على أن الدول الأجنبية لم تكن ميالة إلى أن تعلن بين كل حين وآخر حربًا نظامية على الإمبراطورية العثمانية حتى تستفيد من الشرق امتيازًا اقتصاديًا أو مركزًا حربيًا، إن ذلك كان يكلفها خسائر جسمية في الأموال والأرواح. ثم إنه يخرج بالدول الأوروبية إلى ما لم يكن في حسبانها من اختلاف فيما بينها هي أحيانًا. من أجل ذلك تسلحت الدول الأوروبية بـ «الامتيازات الأجنبية»، كما يدل الاسم، كانت تقوم على منح رعايا الدول الأجنبية النازلين في الإمبراطورية العثمانية أو السائحين فيها أو المارين بها مرورًا «امتيازات» لَمْ تَكُنْ تُمْنَحُ للعثمانيين أنفسهم. من أشهر هذه الامتيازات إعفاء هؤلاء الأجانب من الضرائب المباشرة ومن جزء كبير من رسوم الجمارك. ثم إن السلطات العثمانية لم تكن تستطيع ولوج بيت رجل أجنبي مهما كان السبب. حتى لو أن جريمة ارتكبت في ذلك البيت لما كان للسلطة العثمانية أن تدخل للتحقيق، بل كان الذي يقوم بالتحقيق والمحاكمة والفصل قنصل الرجل الذي يسكن ذلك البيت. إن البيت الذي كان يسكنه رجل إنجليزي أو فرنسي أو يوناني أو أسوجي أو برازيلي، كان يعتبر جُزْءًا من إنجلترا أو فرنسا أو اليونان أو أسوج أو البرازيل. وكذلك كان لكل أجنبي أن يتجول في البلاد العثمانية كما يشاء. فإذا اتفق أن ناله سوء - وَلَوْ قَضَاءً وَقَدَرًا - فإن حكومته تطالب بديته أضعافًا مضاعفة، وقد تشدد أحيانًا حتى تنال امتيازات سياسية وتجارية جديدة لم تكن لها من قبل. وكانت القوانين العثمانية لا تطبق على الأجانب النازلين في الإمبراطورية العثمانية. أما أصل هذه الامتيازات فغامض جِدًّا. زعموا أن هارون الرشيد قد منح للفرنجة من أتباع (شارلمان) تسهيلات تجارية (¬1)، وليس ذلك بصحيح. وكذلك يزعمون أن هذه الامتيازات قد نقلت، بعد سقوط إمبراطورية (شارلمان)، إلى بعض المدن الإيطالية. ولكن يظهر أن أمير أنطاكية الصليبي قد منح مدينة جنوة الإيطالية، امتيازات تجارية في إمارته، وذلك عام 1098 م، أي في العام الذي سقطت فيه أنطاكية في أيدي الصليبيين. ثم إن ملك القدس قد منح مثل هذه الامتيازات للبندقية في إيطاليا عام 1123، ¬

_ (¬1) cf. Enc. Br, under Capitulations

ولمرسيلية في فرنسا عام 1136 م. وبما أن الإمبراطورية (الرومية أو الرومانية الشرقية) كانت يومذاك مستضعفة فقد اضطرت إلى أن تمنح مثل هذه الامتيازات لدول أوروبا القوية. ثم لما استولت الدولة العثمانية على الإمبراطورية البيزنطية طمعت الدول الغربية في أن تظل لها امتيازاتها في البلاد التي انتقلت من أيدي الروم إلى أيدي العثمانيين. ولم تصل الدول الغربية إلى تحقيق بغيتها إلا في القرن السادس عشر حينما قبل السلطان [سليمان] القانوني عام 1536 م أن يمنح (فْرُنْسْوَا الأَوَّلْ) ملك فرنسا شيئًا من الامتيازات التجارية ومن الاعتراف لرعاياه، إذا سكنوا في الإمبراطورية العثمانية أو مروا فيها، ببعض الامتيازات القانونية والتجارية أيضًا. والذي يلفت نظرنا هنا مما يتعلق ببحثنا ثلاثة أمور: 1 - أن الرجل الذي عهد إليه بالحصول على هذه الامتيازات لفرنسا من الباب العالي كان يدعى (ده لا فورست) (¬1)، وهو راهب من فرسان (القديس يوحنا) الصليبيين. 2 - إن هذه الامتيازات كانت للنصارى من الأجانب، جاء في " دائرة المعارف البريطانية " نفسها ما يلي: «وَكَيْ لاَ يُظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الاِمْتِيازَاتِ هِبَةً [اِنْتَزَعَهَا] مَلِكٌ مَسِيحِيٌّ مُنْتَصِرٌ مِنْ تُرْكِيٍّ مُسْتَضْعَفٍ، يَجِبُ أَنْ نُذَكِّرَ أَنَّ الدَّوْلَةَ العُثْمَانِيَّةَ كَانَتْ يَوْمَذَاكَ فِي ذُرْوَةِ قُوَّتِهَا، بَيْنَمَا كَانَ (فْرُنْسْوَا الأَوَّلْ) لاَ يَزَالُ يَشْكُو مِنْ آثَارِ " مَعْرَكَةِ بَافِيَهْ " (¬2) بِإِيطَالْيَا التِي اِنْهَزَمَ فِيهَا أَمَامَ (شَارْلُكَانْ)» قبل عشر سنوات. 3 - من أجل ذلك عين الراهب الصليبي (ده لا فورست) سفيرًا في الآستانة، فكان أول سفير لفرنسا في الإمبراطورية العثمانية. ومع الأيام أخذت الإمبراطورية العثمانية تضعف، فكان ضعفها المتوالي المتزايد سببًا في ازدياد شَرَهِ الدُّوَلِ الأَجْنَبِيَّةِ، لما في الشرق من خيرات وكنوز، فبعد أن كانت الامتيازات الأجنبية قاصرة - فيما يتعلق بما فعله سليمان القانوني - على الفرنسيين، امتدت نعمتها إلى الإنجليز ثم إلى الهولنديين والإيطاليين والإسبان، ثم إلى الأمريكان ورعايا النمسا وروسيا واليونان. ولقد كان رعايا كل دولة يتوسعون في هذه الامتيازات ليتمتعوا بحقوق وإعفاء لم تكن من قبل لهم. وأخيرًا أصبحت الشعوب والجماعات غير المسلمة تتمتع في الإمبراطورية العثمانية باستقلال طائفي فيما يتعلق بالأحوال الشخصية (من زواج وإرث وغيرهما)، ¬

_ (¬1) De la Forest (¬2) Pavia

بإعفاء من الخدمة العسكرية ومن كثير من الضرائب والملاحقات القانونية. حتى إن المجرم كان يرتكب جريمته فإذا لجأ إلى قنصله أو اختبأ في بيت رجل أجنبي لم يجسر القضاء العثماني على أن يصل إليه. ولكن هذه الامتيازات ألغيت عام 1914 بعد أن نشبت الحرب العالمية الأولى. زادت هذه الامتيازات في نفوذ الدول الأجنبية فأخذت إنجلترا وفرنسا تتنازعان على «حماية» الأجانب في الإمبراطورية العثمانية من الذين ليس لدولهم تمثيل في استانبول (¬1). فالأرمن والبلغار وأهل الجبل الأسود وبعض أهالي أمريكا الجنوبية كأهل الأرجنتين والتشيلي والمكسيك لم يكن لدولهم وزراء مفوضون أو قناصل في الإمبراطورية العثمانية، فلم يكونوا يتمتعون بالامتيازات الأجنبية. وكان هؤلاء إذا استطاعوا أن ينالوا حماية فرنسا أو إنجلترا - وكان من السهل جدًا أن ينالوها - استطاعوا أن يتمتعوا بجميع الامتيازات التي كان يتمتع بها الفرنسي أو الإنجليزي في الإمبراطورية العثمانية سواءً بسواءٍ. وأساء بعض الوزراء والقناصل الإنجليز والفرنسيين هذه السلطة في منح الحماية لرعايا الدول الذين لا تمثيل سياسيًا لهم في الآستانة، وجمعوا من وراء ذلك أموالاً طائلة (¬2). ثم زاد ضعف الدولة العثمانية فزادت جرأة الإنجليز والفرنسيين على منح مثل هذه الحماية، فمنحوها لعدد من «الرعايا العثمانيين» أنفسهم ممن استطاع أن يشتري هذه الحماية بمبلغ كبير ليستغلها في وجوه مختلفة، أو ممن كان يستطيع أن ينفع إنجلترا أو فرنسا في سبيل من السبل. وكان أحد هؤلاء الأجانب أو المحميين يتخطى القوانين ويخالف مبادئ الإنسانية، فإذا تعرض له متعرض شمخ بأنفه وقال: «أَنَا أَجْنَبِيٌّ»، أو «أَنَا فِي حِمَايَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ». روى عبد الله المشنوق شيئًا من هذا، قال (¬3): «مِنْ ذَلِكَ حَادِثَةٌ شَهِدْتُهَا بِأُمِّ عَيْنِي - دَهَسَتْ سَيَّارَةٌ يَقُودُهَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ طِفْلاً فِي بَيْرُوتْ. فَأَمَرَ الشُّرْطِيُّ السَّائِقَ بِالوُقُوفِ فَرَفْضَ قَائِلاً بِلُغَتِهِ الأَجْنَبِيَّةِ: القُنْصُلِيَّةُ. لاَ شأْنَ لِي مَعَكِ. وَتَابَعَ (السَّائِقُ) طَرِيقَهُ تَارِكًا الطِّفْلَ المِسْكِينَ يُعَانِي سَكَرَاتِ المَوْتِ». وأدرك المبشرون ما يمكن أن يستفيدوا من الاحتماء بالامتيازات الأجنبية فاستغلوها إلى أبعد الحدود: لقد كانوا - بقطع النظر عن أشكال أثوابهم - يدورون في البلاد كأجانب ويعملون فيها كمبشرين. ¬

_ (¬1) cf. Enc. Br, under Capitulations (¬2) cf. Enc. Americana 5 : 567 (¬3) " الامتيازات الأجنبية " (بيروت) 1922: ص 25.

إثارة الاضطرابات ثم استغلالها

إِثَارَةُ الاِضْطِرَابَاتِ ثُمَّ اِسْتِغْلاَلُهَا: على أن الدول الأجنبية لم يكن باستطاعتها أن تتدخل في شؤون الإمبراطورية العثمانية إذا كانت تلك الشؤون تسير في سبيلها طبيعيًا هادئًا. فلم يكن بد إذن من أن تثير تلك الدول الفتن والاضطرابات فتنال المطلب تلو المطلب. ولو أننا أحببنا أن نؤرخ المذابح التي أثيرت في الإمبراطورية العثمانية بين 1840 و 1860، أي مدى عشرين عَامًا فقط، لاحتجنا إلى كتاب كامل. كانت إنجلترا وفرنسا تهتمان بسورية اهتمامًا شديدًا وتتنافسان عَلَنًا في سبيل تثبيت نفوذهما فيها. ونحب أن نستبق الحوادث فنقول: لما تدخلت الدول في شؤون جبل لبنان بعد فتنة عام 1860 - على ما سيأتي - أراد (نابليون الثالث) أن يمد أجل بقاء الجيش الفرنسي في سورية، ولكن إنجلترا رفضت ذلك. ولما أصر (نابليون الثالث) على رأيه أعدت إنجلترا عشرة آلاف جندي في قبرص ومالطة وجبل طارق. ولو لم تسحب فرنسا جميع جنودها من سورية في الخامس من حزيران 1861 لأخرجتها إنجلترا بقوة السلاح (¬1). من هنا يتبين لنا مقدار المنافسة في سبيل بلادنا ومدى استغلال الدول الأجنبية للحوادث. ونحن سنضرب صفحًا من ذكر المذابح التي أحدثتها الأصابع الأجنبية في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية: في بلغاريا واليونان، وفي آسيا الصغرى بين الأرمن، تلك المذابح التي كانت تثيرها الدول الأجنبية بواسطة المبشرين (¬2). وسنكتفي بحادثتين فقط نذكرهما في محلهما من هذا الفصل. لقد كانت تركيا على حق في خوفها من المبشرين الذين لم يكونوا فقط يثيرون الفتن في إمبراطوريتها، بل كانوا يتجسسون لدولهم سياسيًا وعسكريًا (¬3) وكذلك كانوا يفرقون السكان معسكرات، فقد كان الدروز مثلاً يعتمدون على حماية إنجلترا ويفضلون المدارس الأمريكية (¬4). أما الموارنة فكانوا يَرَوْنَ حَلِيفَهُمْ الطَّبِيعِيَّ في فرنسا ويفضلون المدارس الفرنسية. وكانوا يتلقون السلاح من فرنسا أيضًا، فقد رسا عام 1858 مركب حربي قرب طرابلس وأنزل أسلحة اشترى منها أهل طرابلس أنفسهم خمسمائة بندقية. ولما وصل الخبر إلى بيروت أرسلت الحكومة عشرة مدافع لحماية المدينة من هجوم قد يقوم ¬

_ (¬1) Jessup 209 f (¬2) cf. Jessup 221 (¬3) cf. Jessup 536 f (¬4) Jessup 157

به أهل زغرتا (¬1). وكان الدروز أيضًا يتلقون السلاح من إنجلترا. وسنرى فيما بعد أن فتنة عام 1860 المشؤومة كانت منسوجة بأصابع الدول الأجنبية. وقل إن استطاع المبشرون التأثير في البيئة الإسلامية، ولذلك وجهوا اهتمامهم إلى البيئة المسيحية يثيرون الخلاف في طبقاتها وبين أهل مذاهبها. فما أن جاء المبشرون البروتستانت إلى سورية حتى وقف رجال المذهب الماروني والمذهب الأرثوذكسي موقف الدفاع الشديد، فإن البطريرك الماروني هدد كل ماروني يقترب من البروتستانت أو يعاملهم أو يؤجرهم مسكنًا أو يلبي طلبًا أو يساعدهم على البقاء في البلاد بالحرمان (¬2). وكذلك كان الإكليروس الأرثوذكسي يضطهد كل من يميل من الأثوذكس إلى المبشرين البروتستانت (¬3). ولم يكتف الإكليروس الماروني بِحَثِّ أَتْبَاعِهِ عن الابتعاد عن البروتستانت بل زعم (جسب) أنه كان يحمل أتباعه على اضطهاد أهل المذاهب النصرانية الأخرى (¬4)، وخصوصًا بعد أن طمع البطريرك الماروني ببسط سلطة زمنيةعلى جبل لبنان (¬5). وهكذا نجد أن المنافسة بين المبشرين البروتستانت وبين المبشرين اليسوعيين ألقت في البلاد فتنًا وإحنًا ومنازعات مذهبية واجتماعية (¬6). على أننا لن نفصل هذه كلها، فهي كثيرة (¬7). ولقد تبارى المبشرون البروتستانت واليسوعيون في خلق هذا الاضطراب. فقد اتفق مثلاً أن حدث خلاف في الكنيسة الأرثوذكسية في دمشق فصبأ ثلاثمائة من الأثوذكس إلى البروتستانتية (نكاية بأبناء دينهم). ثم زال الخلاف فعاد هؤلاء كلهم إلى مذهبهم القديم (¬8). ولما مرض (موسى عطا) مرض الموت، وكان قد صبأ من مذهب الروم الكاثوليك إلى المذهب البروتستانتي، جاء القسس الروم الكاثوليك ودخلوا عليه ثم أغلقوا باب بيته ولم يدعوا أحدًا يدخل. ثم ادعوا أنه عاد إلى الكثلكة. ولكن البروتستانت لم يشاءوا أن ينهزموا فحدثت فتنة في زحلة لم تهدأ ثائرتها إلا بعد أن تدخل رجال الشرطة ومات (موسى عطا) بعد بضعة أيام من مرضه (8 نيسان 1872)، ولكن زحلة بقيت في المناقشات الدينية ¬

_ (¬1) Jessup 151 (¬2) Richter 187 f (¬3) Richter 194 et Passim (¬4) Jessup 158 (¬5) cf. Jessup 159 (¬6) Jessup 196 f. et Passim (¬7) cf. Jessup 243f. et Passim (¬8) Jessup 587

فتنة عام 1860

والاضطرابات والفوضى ثلاث سنوات متوالية بعد ذلك (¬1). ولما مد البروتستانت أصابعهم إلى حمص اتفق أن جاء شَابٌ أرثوذكسي إلى أسقف يسأله يتعلق بالفرق بين المذاهب، فخبطه الأسقف بعصاه فأفقده وعيه وثارت الثائرة في حمص. وكذلك جاءت ذات يوم فتاة أرثوذكسية تزور زوجة المبشر (د. م. ويلسن)، فلما علم بها أهلها جاءوا فقبضوا شعرها وجروها في الشوارع (¬2). أما اليسوعيون فكانت لهم السيادة التامة على زحلة حتى جاء البروتستانت فانتزعوا تلك السيادة منهم، ولكن ظل بإمكان اليسوعيين أن يثيروا دائمًا شَغَبًا دِينِيًّا في عروس البردوني كما فعلوا مرارًا (¬3). فِتْنَةُ عَامِ 1860: في عام 1860 نشبت بين الموارنة والدروز في جبل لبنان فتنة غسلت البلاد بالدماء وتركت في نفوس الناس أسوأ الأثر إلى اليوم. إلا أن هذه الفتنة لم تنشب فجأة ولا اتفاقًا، ولكنها كانت تهيأ خطوة خطوة. ولقد كان مهندسوها بارعين إلى حد أن الذين ذهبوا وَقُودَهَا لم يعلموا يومذاك أن الدول الأجنبية قد هيأتها على أيدي المبشرين. غزا إبراهيم باشا سورية 1831 - 1832 وظفر ظفرًا عظيمًا كاد يدخله إلى استانبول عاصمة الإمبراطورية العثمانية نفسها. عندئذٍ خافت الدول الأجنبية عواقب ذلك فأجبرت إبراهيم باشا على التراجع والانسحاب من بلاد الشام كلها. ولكن قبل أن ينسحب إبراهيم باشا 1840 كان الأمير بشير الثاني قد استبد بحكم جبل لبنان وجعل يظلم الناس بطلب الأموال والجنود. ولقد اتفق النصارى والمسلمون من سكان الجبل على مقاومة التجنيد خاصة. حينئذٍ لجأ الأمير بشير إلى بذر بذور الشقاق بين النصارى والمسلمين بنزع السلاح من بعضهم وبنفي بعضهم الآخر، فعظمت النقمة على الأمير. وكانت حملة إبراهيم باشا واستبداد الأمير بشير قد تركا البلاد في فوضى شديدة. ثم انسحب إبراهيم باشا من سورية وَنُفِيَ الأَمِيرُ بَشِيرُ من لبنان في عام واحد، ولكن الفوضى ظلت سائدة. ¬

_ (¬1) Jessup 415 - 420 (¬2) Jessup 149 (¬3) Jessup 416 ; cf. Les Jésuites en Syrie 6 : 25

تقسيم جبل لبنان في القرن الماضي وتقسيم فلسطين اليوم

وجاء الأمير بشير الثالث، أو بشير بن ملحم، إلا أنه كان حاكمًا ضعيفًا فزاد الاضطراب وعمت الفوضى في الجبل. ثم إن الدول الأجنبية لم تعجز عن قسمة أهل لبنان قسمين: تعلق الموارنة منهم بفرنسا، واستعمال الإنجليز الدروز (¬1). ومن قبل فتنة عام 1860 كان الفرنسيون فعلاً يساعدون الموارنة، أما الإنجليز فكانوا يساعدون الدروز (¬2). ونشبت اضطرابات بدائية بين الدروز والنصارى، ولكنها كانت اضطرابا إقطاعية (¬3) في سبيل حكم جبل لبنان، إذ جعلت فروع آل شهاب تتنازع الحكم عليه. وعز على آل نكد أن يخسروا امتيازاتهم فاشتركوا في هذا النزاع. وحاولت حكومة استانبول أن تقرب وجهات النظر بين الإقطاعيين المتنازعين فلم تستطع، فعزلت الأمير بشير الثالث لسوء سياسته وعينت مكانه عمر باشا النمساوي فاحتج أصحاب الإقطاعات - لأن الأمر خرج من يدهم بالكلية ومن يد خصومهم أيضًا - واحتجت الدول الأوروبية كذلك وطلبت إعادة الإمارة إلى آل شهاب، لاَ حُبًّا بآل شِهَابٍ ولكن انتهازًا للتدخل في شؤون البلاد العربية. ومع أن الدولة العثمانية لم تقبل بإعادة آل شهاب إلى الحكم فإنها نزلت عند رغبة الدول الأوروبية وضغطها فسحبت عمر باشا من جبل لبنان. تَقْسِيمُ جَبَلِ لُبْنَانْ فِي القَرْنِ المَاضِي وَتَقْسِيمُ فِلِسْطِينَ اليَوْمَ: وبلغ اهتمام أوروبا بجبل لبنان أن الأمير (مترنخ) مستشار النمسا وأعظم شخصية سياسية في القرن التاسع عشر، أبدى اهتمامًا كبيرًا بشكل الحكم الذي يجب أن يطبق على جبل لبنان. غير أن تدخل (مترنخ) كان لمصلحة الدول الأجنبية ولم يكن لمصلحة الدولة العثمانية ولا لمصلحة جبل لبنان نفسه. لقد اقترح (مترنخ) أن يقسم جبل لبنان قائمقاميتين إحداهما إسلامية والثانية مسيحية. فاضطرت الدولة العثمانية إلى قبول هذا الاقتراح، وقسمت لبنان قسمين جنوبيًا وشماليًا تفصل بينهما الطريق الممتدة من بيروت إلى دمشق. ¬

_ (¬1) cf. Lammens, La Syrie. II 164s, 17 Iss (¬2) Penrose 3 (¬3) إذا أراد القارئ أن يتفهم كثيرًا من أسباب النزاع في هذا العهد فإنه يحسن به الرجوع إلى كتاب " الحركات في لبنان إلى عهد المتصرفية " رواية حسين غضبان أبي شقرا وتأليف خطار أبي شقرا، نشر عارف أبو شقرا (بيروت 1952).

ولقد جُعِلَتْ القَائِمْقَامِيَّةُ الجَنُوبِيَّةُ الإِسْلاَمِيَّةُ تحت حكم الأمير أحمد أرسلان ومركزه بيت الدين. أما القائمقامية الشمالية المسيحية فوضعت تحت حكم الأمير حيدر إسماعيل أبي اللمع وجعل مركزه في بكفيا. وأما دير القمر، مصدر القلاقل الصحيح، فوضعت تحت إدراة متسلم تركي. ولا ريب في أن قسمة جبل لبنان على هذا الشكل لم يكن يراد بها خير لبنان ولا تسهيل إدارته، بل كان الاستعمار يريد منها غاية ذكرها أنيس صايغ في كتابه " لبنان الطائفي "، قال (¬1): «وَقُسِّمَ لُبْنَانُ (بَعْدَ إِعْلاَنِ المُتَصَرِّفِيَّةِ) إِلَى مُدِيرِيَّاتٍ وَقَائِمْقَامِيَّاتٍ، تَجْتَمِعُ كُلُّهَا فِي لُبْنَانٍ مُوَحَّدٍ .. إِلاَّ أَنَّ حُدُودَ لُبْنَانَ تَقَلَّصَتْ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلاً. فَقَدْ سُلِخَ عَنْهُ إِقْلِيمُ وَادِي التَّيْمِ وَبَيْرُوتَ وَصَيْدَا وَطَرَابُلْسَ وَالبِقَاعَ وَعَكَّارَ وَمُعْظَمُهَا مَنَاطِقُ إِسْلاَمِيَّةٌ. وَاِنْحَصَرَ لُبْنَانُ الجَديدُ فِي ثَلاَثَةِ أَخْمَاسِ لُبْنَانَ القَدِيمِ. وَقَدْ أَرَادَتْ الدُّوَلُ مِنْ ذَلِكَ المَشْرُوعِ جَعْلَ لُبْنَانَ بَلَدًا مَسِيحِيًّا، غَيْرَ مُهْتَمَّةٍ لِلْخَسَائِرِ الاِقْتِصَادِيَّةِ التِي تَنْجُمُ عَنْ سَلْخِ هَذِهِ المَنَاطِقِ». والغريب أن الاستعمار عاد بعد نحو قرن كامل من الزمن إلى هذه النغمة الشاذة واستأجر عمالاً وأذنابًا يكتبون في هذه الدعوة تلميحًا ويبثون فيها الكلام سِرًّا ولكن صريحًا. ومع العلم بأن مثل هذه الدعوة لا يمكن أن تنجح اليوم عمليًا ولا نظريًا، فإن الذين يستخدمهم المستعمرون في الترويج لها ليسوا قليلين. ومن المؤسف أن يكون بعض اللبنانيين قد طالب بتأسيس دولة صهيونية في فلسطين ودولة مسيحية في لبنان منذ عام 1935، ثم في عام 1945 على الأخص (¬2)، قبل أن تولد دولة إسرائيل مما يدل على أن هذه الدعوة جاءت من الخارج. ولم يكتف الاستعمار بهذه الدعوة في لبنان نفسه، بل أراد أن يكسوها لباسًا دوليًا فاستكتب فردًا من أولئك [الذين] لا يحترمون رأيًا إلا إذا جاء من أجنبي وجاء معه مبلغ من المال - وهؤلاء قليلون جدًا والحمد لله - كتابًا اسمه " لبنان وطن قومي للنصارى في الشرق الأدنى " (¬3). قيل إن هذا الكتاب طبع بلغات متعددة ووزع على رجال السلك السياسي في لبنان وفي خارج لبنان، كما وزع أيضًا في البلاد التي يكثر فيها المهاجرون من ¬

_ (¬1) ص 125. (¬2) راجع " لبنان الطائفي ": ص 161. (¬3) S. O. S, The Lebanon, the Christian National Home of the Near East, 39 pages. No place of printing and no date

من لبنان -. وكان التوزيع لهذا الكتاب سِرًّا وَمَجَّانًا بِالطَّبْعِ. غير أنني لم أر من هذا الكتاب إلا نسخة عربية ونسخة إنجليزية (¬1). ويقال إنه طبع باللغات الفرنسية والإسبانية والبرتغالية أيضًا. هذه النغمة، نغمة التقسيم، لم تمت، ولا يزال المستعمر يحاولها مرة بعد مرة. ما تقسيم فلسطين إلا ذيلاً من ذيول تلك السياسة. لقد قدرت أوروبا بعد قرن واحد أن تعود إلى السياسة نفسها في شأن فلسطين: لقد قسمتها - ظلمًا وعدوانًا - فأعطت الشرق والشمال للعرب، وأعطت الغرب والجنوب لليهود وأرادت تدويل القدس بوضعها تحت حكم حاكم أجنبي (¬2). وقضية القدس لم تنته بعد بل هي ثائرة إلى اليوم. ولا ريب عندنا أبدًا في أن مشكلة فلسطين لم تولد حُبًّا باليهود، ولا بالعرب طبعًا، وإنما هي مصالح الدول الكبرى تفعل فعلها دائمًا في فلسطين وفي الصين، وفي كل مكان تكون القوة فيه حَكَمًا بين المتناظرين. • • • لقد عرفنا كيف أوقظ جبل لبنان في القرن التاسع عشر إلى النعرة الطائفية: إن السياسة الاستعمارية هي التي لعبت دورها يومذاك ووضعت في لبنان خَطًّا فَاصِلاً ظَاهِرًا وَرَسْمِيًّا بَيْنَ النَّصَارَى وَالمُسْلِمِينَ، ثم حملت البلاد مشاكل كانت البلاد في غنى عنها. ولقد انتقد جميع الحكام والمؤرخين، فيما بعد، قسمة جبل لبنان قسمين: مسيحيًا ومسلمًا، ولم يكن الأمير (مترنخ) منظم مؤتمر فْيِينَّا والقاضي على خطط نابليون وعلى نتائج الثورة الفرنسية وحافظ الملوك على عروشهم في أوروبا بالغافل عن وجه الصواب والخطأ، ولكن السياسة الاستعمارية هي التي أوحت إليه بما اقترح. وبعد أن كانت الاضطرابات إقطاعية أصبحت دينية وأصبح حلها غير ممكن. إن حل هذه المشاكل لم يبق معتمدًا على تراضي سكان جبل لبنان وحدهم، بل كان خاضعًا إلى حد كبير لرضى الدول الأوروبية. أما رضى الدول الأجنبية فقد كان عسيرًا، لأنها لم تكن تريد حل المشكلة بل كانت تريد دوام الاضطراب في الإمبراطورية العثمانية ليتسنى لها التدخل كلما شاءت. ولقد صدق ظن المخلصين، فإن الأحقاد قد غذيت بهذا التقسيم وبعثت به في جبل لبنان الأضغان. ثم ما زالت الفوضى تعم والدسائس تنمو حتى انفجرت الصدور في عام 1845 «فِي كِسْرَوَانَ حَيْثُ تَأَلَّبَ الأَهْلُونَ وَاجْتَمَعَتْ الغَوْغَاءُ حَامِلِينَ السِّلاَحَ بِرِئَاسَةِ ¬

_ (¬1) الحاشية 3 على الصفحة السابقة. (¬2) التقسيم الذي اقترحته هيأة الأمم.

زَعِيمِهِمْ (طَانْيُوسْ شَاهِينْ) وَتَهَدَّدُوا المَشَايِخَ (¬1) بِسُوءِ العَاقِبَةِ. وَكَانَ بَدْءُ الإِسَاءَاتِ فِي " ذَوْقِ مَكَايِلْ " (قُرْبَ " جُونِيَّةَ ") لِكَوْنِهَا مَرْكَزَ الاِئْتِمَارِ وَالشَّغَبِ فِي الشَّعْبِ فَحَدَثَ مَا سَاءَ وَلَمْ يَخْلُ عَنْ إِرَاقَةِ الدِّمَاءَ. ثَمَّ اِنْدَفَعَتْ العَامَّةُ المُتَجَمْهِرَةُ عَلَى أَمْوَالِ المَشَايِخِ وَأَمْلاَكِهِمْ نَهْبًا وَغَصْبًا، فَفَرَّ الخَازِنِيُّونَ (¬2) لاَجِئِينِ إِلَى مَدِينَةِ بَيْرُوتَ .. ثُمَّ اِمْتَدَّتْ الثَّوْرَةُ مِنْ " كِسْرَوَانَ " إِلَى " المَتْنِ " (شَمَالِيَّ طَرِيقِ بَيْرُوتَ - دِمَشْقَ مُبَاشَرَةً) وَالمَحَلاَّتِ المُخْتَلِفَةِ. وَلَرُبَّمَا كَانَ لِلإِكْلِيرُوسْ فِي أَوَّلِ الأَمْرِ ضِلْعٌ مَعَ الأَهَالِي» (¬3). على أن الفتن التي أخذت تطل برأسها أو تنفجر منذ عام 1840 لم تكن كافية لتبرر التدخل الأجنبي، لقد كانت فتنًا قطاعية في الأغلب، ودينية بالعرض. ثم إنها كانت قاصرة على أقسام خاصة من الجبل يثور فيها المسيحي على المسيحي أو الدرزي على الدرزي. وأخيرًا أفلح الظالمون فأثاروا فتنة عام 1860 وقسموا السكان قسمين واضحين: مسلمين ونصارى، فبردت بذلك بعض الصدور وأسرعت الدول الغربية ترسل جيوشها وأساطيلها إلى شواطئ بلادنا لحماية ... النصارى. ولو فرضنا أن فرنسا وحدها أرادت حماية النصارى لكان ذلك معقولاً، إذ يقال إن السلاح استقر في أيدي الموارنة من أيد فرنسية. ولكن إنجلترا التي قدمت فيما قيل أيضًا السلاح إلى الدروز وقد ادعت الآن حماية النصارى. وبعد أن وقعت الواقعة وهدرت الدماء البريئة من الطرفين ولطخ تاريخ وطننا بالسوء ووصمنا كلنا بالتعصب وقف المبشرون يعبرون عن رأيهم في النار التي أججوها وألقونا فيها وقودًا. يزين (جان بيانكي) الفرنسي، وهو قسيس بروتستانتي ورئيس شرف لجمعية المبشرين البروتستانت في باريس وأستاذ اللغة الفرنسية في الجامعة الأمريكية في بيروت، القول فيعرف هذه الفتنة بأنها «مَذْبَحَةٌ» قام بها الدروز لقتل النصارى الأرثوذكس والموارنة (¬4). ولقد غاب عن بال (جان بيانكي) الفرنسي أن «مذبحة حقيقية» قد هيئت من قبل في وطنه فرنسا، وإنها كانت أيضًا في ظاهرها دينية وفي باطنها سياسية إلى أبعد مرامي ¬

_ (¬1) المشايخ هنا رؤساء الإقطاع، وقد كان من المشايخ دروز ونصارى على السواء. (¬2) آل الخازن نصارى. (¬3) راجع " لبنان "، تأليف لجنة من الأدباء، بيروت، المطبعة الأدبية سنة 1334 هـ. الصفحات 298 - 301. ثم " ثورة وفتنة في لبنان "، تأليف أنطوان العقيقي، نشره يوسف يزبك (بيروت 1936)، ثم " الحركات في لبنان " لعارف أبي شقرا. (¬4) Bianquis 6, 27

السياسة. تلك هي مذبحة القديس (بارثليميو) التي نفذت ليلة عيد هذا القديس (في 23 آب 1572) وذهب في نارها ألفان من الهوغونت (¬1) البروتستانت في باريس وحدها ونحو عشرة آلاف آخرون في فرنسا خارج باريس (¬2). ويرى المبشر الأمريكي (هنري هاريس جسب) هذه الفتنة إعلانًا ناجحًا، فلقد «اِضْطَرَبَتْ لَهَا أُورُوبَا وَأَمَرِيكَا، وَأَصْبَحَ لُبْنَانُ بِهَا مَعْرُوفًا فِي العَالَمِ الغَرْبِيِّ فَأَمْكَنَ أَنْ تُجْمَعَ الإِعَانَاتُ بِاسْمِهِ وَالتَّبْشِيرِ فِيهِ» (¬3). أما (يوليوس رشتر) الألماني فقد أجرى في أول الأمر الدموع على خديه وقال: «إِنَّ هَذِهِ المَذْبَحَةَ الجَدِيدَةَ قَدْ أَثَارَتْ رَحْمَةً قَوِيَّةً فِي العَالَمِ المَسِيحِيِّ». ولكنه يعود فيمسح هذه الدموع من وجهه وعينيه ليتبدل بها ابتسامة اطمئنان ويقول: «وَعَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ بَدَأَ فِي عَامِ 1860 فَصْلٌ جَدِيدٌ فِي تَارِيخِ الجُهُودِ البْرُوتِسْتَانْتِيَّةِ فِي الشَّرْقِ الأَدْنَى» (¬4). ولم يحدث قبل مذابح الأرمن عام 1895 و 1896 حادث حفز الإرساليات البروتستانتية المختلفة إلى التكاتف في سبيل تنصير هذا القسم من العالم كحادث سنة 1860. لقد كان هذا الحادث فريدًا إلى درجة أن المبشرين والرهبان لم يكتفوا بأن أثاروه ثم وقفوا يتفرجون به، بل إن منهم من اشترك فيه، فإن الراهب اليسوعي (فرديناندو بوناشيتا) قتل عام 1860 في اضطرابات مدينة زحلة بعد أن قتل سبعة من الدروز (¬5). ويختلف المبشرون في نسبة التبعة إلى المقاتلين. إن (رشتر) مثلاً يرى أن الذنب كان على الموارنة: «لَقَدْ كَانَ المَوَارِنَةُ مَرَّةً ثَانِيَةً مُخْطِئِينَ فَعَلَى الرَّغْمِ مِنَ الهَزَائِمِ التِي مُنُوا بِهَا فِي عَامِ 1842 و 1845، فَإِنَّهُمْ ظَلُّوا تَوَّاقِينَ إِلَى إِذْلاَلِ جِيرَانِهِمْ. وَمِنْ غَيْرِ سَبَبٍ سَقَطَ المَوَارِنَةُ عَامَ 1860 عَلَى بِضْعِ قُرَى دُرْزِيَّةٍ. وَلَكِنَّ الدُّرُوزَ نَهَضُوا إِلَيْهِمْ نَهْضَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ» (¬6). أما (دانيال بلس) فيرى أن التبعة تقع على أكتاف المسلمين، قال (¬7): «وَلَقَدْ بَقِينَا حِينًا (بَعْدَ الفِتْنَةِ) نَخْشَى هُجُومًا عَلَى مَدِينَةِ بَيْرُوتْ، إِذْ قِيلَ إِنَّ اتِّفَاقًا عُقِدَ بَيْنَ دُرُوزِ الجَبَلِ وَبَيْنَ قِسْمٍ مِنَ النَّوْعِ السَّافِلِ فِي المُسْلِمِينَ لمُهَاجَمَةِ المَدِينَةِ فِي لَيْلَةٍ مَا ... ثُمَّ إِنَّ جَمِيعَ السُّكَّانِ ¬

_ (¬1) Huguenots (¬2) A General Hist. of Europe, by Robinson, breasted and Smith, Boston Etc. 1921. p. 336 (¬3) Jessup 215 (¬4) Richter 201 ff (¬5) Les Jésuites en Syrie 12 : 17, 18 (¬6) Richter 198 (¬7) Bliss 153, 154

المُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ السَّافِلِ كَانُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ يُلَوِّحُونَ بِعِصِيِّهِمْ وَنَبَابِيتِهِمْ ...» (¬1). «أَمَّا اليَسُوعِيُّونَ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُرِيدُونَ هَذِهِ المَذْبَحَةَ لأَنَّهَا هَدَّدَتْ أَعْمَالَ التَّبْشِيرِ» (¬2). مع العلم بأن بعضهم خاضها وأبلى فيها البلاء الحسن كالراهب (بوناشيتا) مثلاً. هذه نماذج من آراء المبشرين في فتنة سنة الستين ومن نياتهم المبيتة وأعمالهم أيضًا. أما الإحسان الذي أسدوه إلى المنكوبين فهو في فصل الإحسان من هذا الكتاب. ولكن ماذا يهمنا الآن من حمل التبعة على الموارنة أو على الدروز؟ إن هذه «الفِتْنَةَ الدِّينِيَّةَ» كانت نقمة على لبنان، ولكنها حققت للدول الأجنبية هدفًا عظيمًا. أجل، قد لا يكون لهذه الفتنة صلة بالدين، ولكن كان لها بلا ريب صلة بالسياسة: لقد «اِنْعَقَدَ فِي بَيْرُوتْ مُؤْتَمَرٌ دَوْلِيٌّ حَضَرَهُ المُفَوِّضُ السُّلْطَانِيُّ مَعَ خَمْسَةٍ مِنْ وُكَلاَءِ الدُّوَلِ وَمُفَوِّضِيهِمْ، أَعْنِي دَوْلَةَ إِنْجْلِتْرَا وَفِرَنْسَا وَرُوسْيَا وَالنِّمْسَا وَبْرُوسِيَةَ ... وَقَرًّرُوا أَنْ تَكُونَ إِدَارَةُ الجَبَلِ بِوَاسِطَةِ مُتَصَرِّفٍ مَسِيحِيٍّ مِنْ طَرَفِ الدَّوْلَةِ العَلِيَّةِ بِرِضَا الدُّوَلِ» (¬3). هذا المتصرف (الحاكم) يجب أن يكون نصرانيًا أوروبيًا ومن أتباع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، لا وطنيًا سوريًا مسلمًا أو مسيحيًا (¬4). ¬

_ (¬1) Bliss 152, 154 (¬2) Les Jésuites en Syrie 11 : 13 (¬3) " لبنان "، تأليف لجنة من الأدباء: ص 291 - 302. (¬4) Jessup 210

الفصل السابع: السياسة طريق التبشير

الفَصْلُ السَّابِعُ: السِّيَاسَةُ طَرِيقُ التَّبْشِيرِ: 3 - الإِدَرَاةُ الأَجْنَبِيَّةُ فِي خِدْمَةِ التَّبْشِيرِ: لقد أثمر التعاون بين السياسة والتبشير ثمرته الأولى وأخذت الأقطار الشرقية - التي لم تكن قد استعمرت من قبل - تسقط تحت النير الأجنبي وتخضع لإدارة أجنبية مباشرة. إن هذه الإدارة الأجنبية لَمْ تُقْصِ الآنَ المُبَشِّرِينَ لأنها نالت حاجتها من جهودهم، بل زادت في تقريبهم (¬1). إن الحاجة إلى المبشرين لم تنته ولكنها أصبحت الآن أعظم ضرورة من ذي قبل: إن إدارة البلاد المغلوبة على أمرها تنفر من الخضوع بسرعة، ولذلك لم يكن بد من إخضاعها بطريقة مستترة بعيدة عن المظاهر العسكرية أو الرسمية على الأقل. ولم يكن لدى الدول الأجنبية أفضل من المبشرين الذين أصبحوا يفهمون البلاد وأهلها ويعرفون مداخل الأمور فيها وأهواء المتنفذين من رجالها. ولكن المبشرين لم يرضوا أن يفعلوا ذلك فقط، بل أرادوا أن يحققوا هم رغباتهم الظاهرة على الأقل حتى يتيحوا للدول أن تحقق جميع رغباتهم الحقيقية. كل هذا ونظر الدول الأجنبية متجه إلى نقطتين في الإمبراطورية العثمانية أضعفتهما القلاقل: مصر وجبل لبنان. فِي صَمِيمِ التَّدَخُّلِ السِّيَاسِيِّ: وقف المبشرون ورجال السياسة الآن وجهًا لوجه: أي الفريقين يجب أن يتقدم الآخر؟. إن من المعروف في التاريخ أن المبشر كان يدخل البلاد ثم يأتي الجيش على أثره. ولكن المبشرين منذ القرن التاسع عشر أحبوا أن يتقدم الجيش أولاً، لأن ذلك يسهل مهمتهم. ولذلك كان ¬

_ (¬1) بدأ تأليف هذا الكتاب قبل أن ينتهي الانتداب على بلادنا، وهذا المقطع إشارة إلى ذلك.

الحكام الوطنيون في كل بقعة على حق حينما كانوا «يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَجِيءَ المُبَشِّرِينَ يَنْتَهِي دَائِمًا بِتَدَخُّلِ الدُّوَلِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلاَدِهِمْ، وَبِخَسَارَتِهِمْ جُزْءًا مِنْ اِسْتِقْلاَلِهِمْ» (¬1). لكن هذه الطريق طويلة، ولذلك كان المبشرون يرغبون في أن تتدخل الدولة بقوتها أولاً ثم يأتون هم فيجدون الطريق ممهدة للتنصير: إن المبشر (وطسون) «اِقْتَرَحَ أَنْ تَتَعَاوَنَ الحُكُومَاتُ الغَرْبِيَّةُ فِي سَبِيلِ مَنْعِ اِنْتِشَارِ الإِسْلاَمِ بَيْنَ القَبَائِلِ الوَثَنِيَّةِ فِي أَفْرِيقِيَا» (¬2) حتى تكون مهمة المبشر أهون لفقدان المنافسة. إن المبشرين يخشون تلك المنافسة خشية شديدة. يقول (غاردنر): «إِنَّ نُزُولَ الإِرْسَالِيَّاتِ المَسِيحِيَّةِ عَلَى سَاحِلِ غَانَا، مِنْ نَهْرِ غَامْبِيَا إِلَى نَهْرِ النِّيجِرْ (عَلَى سَاحِلِ أَفْرِيقِيَا الشَّمَالِيِّ الغَرْبِيِّ)، لِلْتَّبْشِيرِ بَيْنَ الوَثَنِيِّينَ مِنْ أَهْلِ أَفْرِيقِيَا ثَمَّ اِحْتِلاَلِ الدُّوَلِ الأُورُوبِيَّةِ لِهَذِهِ المَنَاطِقَ وَلِمَا وَرَاءَهَا هُمَا اللَّذَانِ أَقَامَا الإِسْلاَمَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ وَجْهًا لِوَجْهٍ فِي تِلْكَ الأَصْقَاعِ» (¬3)، وكل دين يحاول أن يجتذب إليه أولئك الوثنيين. ولم يكن في الأمر منافسة لو لم تقف الدول الأوروبية بجانب مبشريها. وأخيرًا أخذ الضعف يدب فعلاً في الإمبراطورية العثمانية فاخترقت الدول الأجنبية ذلك السور الذي كان مضروبًا عليها، ثم تغلغلت من طريق الفتح ومن طريق التسلسل السياسي في شبه جزيرة العرب وفي مصر وسورية وقبرص وغيرها. وهكذا لم يبق من حاجة المبشرين لشق الطريق أمام الجيش الزاحف، ولكن ظلت الحاجة إليهم ماسة ليساعدوا في تثبيت الأقدام حيث نزل الجيش. ولكن المبشرين رأوا أن الجيش وحده كان يقوم بمهمة الفتح ومهمة تثبيت الأقدام فأرادوا أن يستفيدوا هم فقط من هذه السيطرة العسكرية السياسية. قال (جسب): «إِنَّ القِسْمَ الأَكْبَرَ مِنَ المُسْلِمِينَ قَدْ أَصْبَحَ فِي حُكْمِ الدُّوَلِ النَّصْرَانِيَّةِ فَيَجِبُ الاِسْتِفَادَةَ مِنْ هَذِهِ الحَالَةِ الرَّاهِنَةِ» (¬4). وصرح (رشتر) فقال: «إِنَّ مِائَةَ وَسِتِّينَ مَلْيُونًا مِنْ مَجْمُوعِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مَلْيُونًا مِنَ المُسْلِمِينَ فِي حُكْمِ الدُّوَلِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَوَاجِبُ هَذِهِ الدُّوَلِ إِذَنْ أَنْ تُمَهِّدَ السَّبِيلَ لِتَبْدِيلِ دِينِ هَؤُلاَءِ الرَّعَايَا» (¬5). ولكن رغبة المبشرين لم تكن في حقيقة الأمر منافية لغاية الدول الأوروبية الطامحة إلى الاستعمار. إن الدول الأوروبية بدأت تنزل مستعمرة في الشرق الأدنى خاصة منذ الثلث الثاني من القرن التاسع عشر. ويمن المبشر (صموئيل زويمر) على المسلمين فيقول في المؤتمر ¬

_ (¬1) Islam and Missions 172 f (¬2) ibid 192 (¬3) Gairdner 280 (¬4) Jessup 767 f (¬5) cf. Richter 77

في المؤتمر التبشيري الذي عقد عام 1911 في لكناو بالهند: «إِنَّ خَمْسَةً وَتِسْعِينَ مَلْيُونًا عَلَى أَقَلِّ تَقْدِيرٍ مِنْ أَتْبَاعِ بَنِي مَكَّةَ يَتَمَتَّعُونَ اليَوْمَ بِنِعْمَةِ الحُكْمِ البَرِيطَانِيِّ» (¬1)، وهو يقصد من ذلك أن طريق التبشير إلى هذه الملايين الكثيرة من المسلمين قد أصبحت معبدة. ويكشف المبشرون أخيرًا القناع عن غايتهم الحقيقية فيقول بعضهم: «إِنَّ اِحْتِلاَلَ الإِنْجْلِيزْ لِمِصْرَ وَقُبْرُصَ قَدْ سَاعَدَ عَلَى تَسْهِيلِ التَّعْلِيمِ بِاللُّغَةِ الإِنْجْلِيزِيَّةِ وَبِالتَّالِي عَلَى التَّبْشِيرِ» (¬2). ويقول بعضهم الآخر: «إِنَّ رُسُوخَ حُكْمْ الإِنْجْلِيزْ فِي السُّودَانِ قَدْ سَهَّلَ مُهِمَّةَ المُبَشِّرِينَ» (¬3). في ذلك الصقع المتسع. ثم يتبنى المبشر (زويمر) رَأْيًا صريحًا للمبشر (جسب) فيقول: «إِنَّ الأَبْوَابَ المَفْتُوحَةَ فِعْلاً إِلَى الإِسْلاَمِ إِنَّمَا هِيَ المُسْتَعْمَرَاتُ التِي يَعِيشُ فِيهَا المُسْلِمُونَ تَحْتَ حُكْمٍ مَسِيحِيٍّ أَوْ حُكْمٍ وَثَنِيٍّ أَيْضًا (فِي أَفْرِيقْيَا وَالهِنْدِ مَثَلاً)» (¬4). إلا أن المبشر (واطسن) يلاحظ «أَنَّ اِسْتِبْدَالَ الحُكُومَاتِ الوَثَنِيَّةِ (فِي أَفْرِيقْيَا) بِحُكُومَةٍ غَرْبِيَّةٍ (مَسِيحِيَّةٍ) كَانَ عَلَى العُمُومِ فِي مَصْلَحَةِ المَشَارِيعِ التَّبْشِيرِيَّةِ. وَلَكِنَّ إِزَالَةَ دَوْلَةٍ وَثَنِيَّةٍ كَانَ يُزِيلُ عُنْصُرًا قَوِيًّا مِنْ عَنَاصِرِ مُقَاوَمَةِ المُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الإِسْلاَمَ يَنْتَشِرُ بَيْنَ الوَثَنِيِّينَ فِي ظِلِّ الحُكْمِ الأُورُوبِيِّ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْتَشِرُ فِي ظِلِّ حُكْمٍ وَطَنِيٍّ وَثَنِيٍّ خَالِصٍ» (¬5). • • • ويرى المبشرون بوضوح أن السيادة الغربية في قطر إسلامي ما معناها تسهيل انتقال المسلمين إلى النصرانية. أما فقدان هذه السيادة فينتج حركة عكسية تمامًا. نشر المبشر (كنيث لاتورت) (¬6) مقالاً في " المجلة الدولية للإرساليات " عنوانه: " الجَمَاعَاتُ النَّصْرَانِيَّةُ القَدِيمَةِ فِي آسْيَا وَمَقَامُهُمْ فِي خُطَطِ مَا بَعْدَ الحَرْبِ " (¬7) (العالمية الثانية). يقول الكاتب: «كَيْفَمَا اِتَّفَقَ لَنَا أَنْ نُفَكِّرَ فِي الشَّرْقِ الأَدْنَى وَفِي غَرْبِيِّ آسْيَا، فَإِنَّ الكَثْرَةَ مِنَ الصَّابِئِينَ قَبْلَ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ عَلَى يَدَيْ الإِرْسَالِيَاتِ البْرُوتِسْتَانْتِيَّةِ أَوْ الكَاثُولِيكِيَّةِ كَانَتْ مِنْ أَبِنَاءِ الكَنَائِسِ الشَّرْقِيَّةِ. وَمَعْنَى هَذَا - مَا لَمْ تَكُنْ الوِلاَدَاتُ قَدْ زَادَتْ عَلَى الوَفِيَّاتِ - إِنَّ عَدَدَ ¬

_ (¬1) Islam and Missions 14 (¬2) Jessup 595 f (¬3) Milligan 29 (¬4) Islam and Missions 22 (¬5) ibid 189 (¬6) Kenneth S. Latourette (¬7) The International Review of Missions; Pre-War Christian Groups in Asia in Post-War Planning, Apr. 44, pp 138 - 146

النَّصَارَى لَمْ يَزْدَدْ. أَمَّا الاِنْتِقالُ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَى الإِسْلاَمِ فَقَدْ كَانَ كَمَا يَظْهَرُ أَكْثَرَ مِنَ الاِنْتِقالِ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ .. عَلَى أَنَّ ثَمَّتَ تَأْثِيرًا مَسِيحِيًّا كَبِيرًا فِي حَيَاةِ المُسْلِمِينَ وَسُلُوكِهِمْ قَدْ جَاءَ عَلَى يَدَيْ هَذِهِ الإِرْسَالِيَّاتِ نَفْسِهَا ... وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ نَذْكُرَ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ اِنْتِقالٌ وَاسِعٌ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ فِي قُطْرٍ مَا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَبَدَّلَ ذَلِكَ القُطْرُ بِحُكُومَتِهِ الإِسْلاَمِيَّةِ حُكُومَةً غَرْبِيَّةً مَسِيحِيَّةً، وَذَلِكَ فَقَطْ إذَا كَانَتْ هَذِهِ الحُكُومَاتُ الغَرْبِيَّةُ المَسِيحِيَّةُ تَنْهَجُ سِياسَةً فَعَّالَةً فِي مُسَاعَدَةِ الإِرْسَالِيَّاتِ». ويأسف (كنيث لاتورت) لأن انتصار مبادئ الأمم المتحدة في العالم سيزيد في جاه دول الشرق الأوسط وسيخرج بالتالي بلدان هذه البقعة المهمة من العالم من نطاق النفوذ التبشيري. وهو يُرَوِّعُ بما حدث في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، فإنها قد ضربت حولها نطاقًا دون التبشير. ثم يقول: «وَنَحْنُ وَاثِقُونَ مِنْ أَنْ جُهُودَ المُبَشِّرِينَ سَتَنْقُلُ أَفْرَادًا مَعْدُودِينَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، وَلَكِنَّ التَّنْصِيرَ الجَمَاعِيَّ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَظِرَ ...». ولا ريب أن في انسحاب بريطانيا من الهند (¬1) سيقود - في رأي الكاتب المذكور - «إِلَى تَبَدُّلٍ أَسَاسِيٍّ فِي مَشْرُوعِ التَّبْشِيرِ فِي الهِنْدِ نَفْسِهَا. لَقَدْ كَانَ المُوَظِّفُونَ، فِي أَثَناءِ الحُكْمِ البَرِيطَانِيِّ، يُؤَخَذُونَ مِنَ النَّصَارَى بِنِسَبَةٍ لاَ تَتَّفِقُ مَعَ عَدَدِهِمْ بِالإِضَافَةِ إِلَى المُسْلِمِينَ أَوْ الهُنْدُوسْ. إِنَّ النَّصَارَى سَيَفْقِدُونَ بَعْدَ الآنَ هَذَا الاِمْتِيازَ، وَرُبَّمَا دَفَعَهُمْ فَقْرُهُمْ حِينَئِذٍ وَقِلَةُ عَدَدِهِمْ إِلَى أَنْ يَفْقِدُوا أَثَرَهُمْ فِي المُجْتَمَعِ الهِنْدِيِّ» (¬2). • • • ومنذ أيام محمد علي باشا، في مطلع القرن التاسع عشر، طمع المبشرون بمصر لأن محمد علي أراد أن يُدْخِلَ المدنية الأوروبية إلى مصر، فطمح هؤلاء إلى أن يتسللوا مع المدنية الغربية إلى عقائد المسلمين. ويبدو أن المبشرين تمتعوا ببعض الحرية حتى جاء عباس الأول عام 1848 وهو الذي نعته المبشرون بالقاسي لأنه قاوم التبشير. أما سعيد باشا (1854 - 1863) فقد نعته المبشرون بالعبقري لأنه سمح للنفوذ الأوروبي أن يعود سائدًا في وادي النيل (¬3)، مع أن عهد سعيد باشا كان عهد نقمة على مصر وعلى المصريين. وجاء بعد سعيد باشا الخديوي إسماعيل فأمدته أوروبا بالأموال حتى أغرقته في ¬

_ (¬1) خرجت الهند من الحكم البريطاني في آب، عام 1947. (¬2) Tirm, Apr. 44, pp. 183 f. i 141 (¬3) Addison 139 f

الديون. ثم إنها اقتضته تلك الديون مرة واحدة فاستطاعت من هذه الطريق أن تشتري في سنة 1875 أسهم الحكومة المصرية في قناة السويس وأن تدخل في إدارة القناة عمليًا. وأخيرًا انتهزت إنجلترا فرصة الثورة التي قادها عُرَابِي بَاشَا فضربت الإسكندرية وأنزلت جيوشها إلى البر المصري عام 1882. ومنذ ذلك الحين أصبحت مصر تحت الحماية الإنجليزية فعلاً، وإن كانت قد ظلت اسمًا تابعة للسلطنة العثمانية (¬1). وبعد إسماعيل جاء توفيق، وأخذت مصر تنطوي رويدًا رويدًا تحت رقابة دولية، أو تحت حكم أوروبي على الأصح. وتنازعت إنجلترا وفرنسا النفوذ على مصر زمنًا، ثم استطاعت إنجلترا أن تنفرد بالسيطرة وحدها. ومنذ احتلال إنجلترا لمصر أصبحت مصر تحت سلطة إنجلترا المسيحية (¬2). ولكن إنجلترا كانت تحسب حسابًا للشعور الإسلامي فلا تود أن تجرحه بالتظاهر بالتبشير حرصًا على مصالحها العسكرية والسياسية. أما المبشرون فكانوا يريدون من إنجلترا أن تعلن سياسة دينية عنيفة في مصر (¬3)، بعد أن وجهوا هم جهودهم للتبشير بين المسلمين (¬4). ولقد اتهم بعض المبشرين (اللورد كرومر)، المعتمد البريطاني في مصر، بأنه كان حليمًا يحابي المسلمين (¬5)، مع أنه كان يشجع التبشير بين المسلمين ويحمي القسس الأجانب والمبشرين. قال شوقي يخاطب (اللورد كرومر) يوم رحيله عن مصر (¬6): لَوْ كُنْتُ مِنْ حُمُرِ (¬7) الثِّيَابِ عَبَدْتُكُمْ • ... • ... • مِنْ دُونِ عِيسَى مُحْسِنًا وَمُنِيلاَ أَوْ كُنْتُ قِسِّيسًا يَهِيمُ مُبَشِّرًا • ... • ... • رَتَّلْتُ آيَةَ مَدْحِكُمْ تَرْتِيلاَ مَنْ سَبَّ دِينَ مُحَمَّدٍ فَمُحَمَّدٌ • ... • ... • مُتَمَكِّنٌ عِنْدَ الإِلَهِ رَسُولاَ! أراد المبشرون أن يكون (كرومر) صريحًا عنيفًا بطاشًا، وكان هو ذا كيد خفي يتدخل شخصيًا في التنصير. من ذلك أن طالبًا من القدس كان يدرس في الأزهر ثم صبأ من الإسلام إلى النصرانية، فطلبه أبوه ثم حضر بنفسه إلى مصر، فالتجأ الابن إلى (اللورد كرومر). فاستكتبه (اللورد كرومر) وثيقة فيها أنه لا يريد أن يرجع مع أبيه، ففعل (¬8). وهكذا ¬

_ (¬1) Hayes, op. cit 600 f (¬2) Richter 78 (¬3) cf. Richter 78, 351 (¬4) Richter 360 (¬5) Richter 78 (¬6) راجع ديوان شوقي: 1/ 212. (¬7) أي من الإنجليز. (¬8) Gairdner 269 - 274; Richter 362

كيف دخل الإنجليز إلى السودان؟

كثر التبشير في مصر بعد سقوط إسماعيل ثم استطال واسبطر في عهد (اللورد كرومر) (¬1). كَيْفَ دَخَلَ الإِنْجِلِيزُ إِلَى السُّودَانِ؟: على أن جهود السياسة في السودان كانت أكثر تضافرًا على التبشير. جاء الجنرال (غوردن) حاكمًا على السودان في أواخر أيام الخديوي إسماعيل باشا، الذي خلع عن عرش مصر عام 1879. ومنذ ذلك الحين حثت الجمعيات التبشيرية رجالها على البدء بالتبشير الفعلي في السودان المصري (¬2). ولكن بعد ثورة السودانيين على الإنجليز وانهزام الإنجليز ومقتل (غوردن) نفسه عام 1885 خمدت حركة التبشير. ثم لما خفق العلم الإنجليزي من جديد على السودان، عام 1898، عادن حمية المبشرين إلى البروز واستعدت الجمعيات التبشيرية لتجعل من التبشير عملاً منظمًا علنيًا. إلا أن (اللورد كرومر) المعتمد البريطاني في مصر ظل إلى عام 1905 يحث المبشرين على التريث في إعلان حميتهم، لأن ظهور المبشرين مسفرين عن وجوههم قد يضر بالسياسة البريطانية ضررًا بالغًا مع العلم بأن (كرومر) نفسه كان يشجع التبشير (¬3). وبلغ من تدخل المبشرين في شؤون السودان ومن دالتهم على المعتمدين البريطانيين في مصر أنهم كانوا يبدون آراءهم في تعيين الموظفين في السودان. ولكنهم لم ينجحوا دائمًا. لما نزلت إنجلترا في السودان وأرادت أن تديره أتت بموظفين مسلمين من الهند ومصر لهذه الغاية. ولكن المبشرين احتجوا على ذلك واقترحوا أن يكون هؤلاء الموظفين نصارى قد صبأوا من الإسلام على الأقل. إلا أن إنجلترا كانت تنظر بالفعل إلى مصالحها هي قبل كل شيء فَلَمْ تُصْغِ دائمًا إلى نصائح أولئك المبشرين (¬4). على أن الجمعيات التبشيرية كانت قد أعدت عدتها منذ عام 1900 وأرسلت مبشريها إلى السودان ليقوموا بالتبشير العلني فعلاً. وكانت إنجلترا تشجع المبشرين البروتستانت والكاثوليك على السواء في السودان (¬5)، وما دام المبشر يخدم الاستعمار، وما دامت الدول ¬

_ (¬1) Gairdner 256 (¬2) Richter 367 cf. 366 (¬3) cf. Richter 367 - 8; Milligan 26 (¬4) Gairdner 284 (¬5) cf. Milligan 29

المستعمرة لا تهمها الناحية الدينية كعقيدة ولكن كوسيلة إلى غايتها. ولقد كان التبشير في السودان المصري مهمة صعبة، وكانت النتائج مستحيلة. ولذلك وجه المبشرون جهودهم نحو جنوبي السودان حيث يكثر الوثنيون. حتى الوثنيون لم يكونوا يقبلون على المسيحية، فكان عمل المبشرين من أجل ذلك قاصرًا على منع انتشار الإسلام في تلك البقعة الفسيحة من أفريقيا (¬1). ولما لم تستطع الجمعيات التبشيرية أن تخطو في التبشير خطى منتجة، استعانت بالدول المستعمرة، فأعانتها تلك الدول المستعمرة في أماكن متعددة كالبحرين (¬2) واليمن. وبعد أن استولى الإنجليز على عدن اتخذ المبشرون عدن مركزًا يرسلون منه نشراتهم التبشيرية إلى قلب بلاد العرب أو يخالطون القوافل ليبشروا في أهلها (¬3). وكذلك فعل المبشرون في جزر الهند الشرقية، في جاوة وسومطرة وسواهما (¬4). أما روسيا القيصرية فكانت ذات أسلوب خاص بها مستمد من استبدادها. كانت روسيا في القرن التاسع عشر، وفي إبان استبدادها، تحمل المسلمين من رعاياها على التنصر بقوة السيف. فلما أعلنت الحرية الدينية في روسيا في السابع عشر من نيسان عام 1902 عاد خمسون ألفًا إلى الإسلام وحملوا معهم عددًا آخر ممن لم يكونوا مسلمين قط (¬5). واستطار المبشرون فرحًا لما أصبح لبنان متصرفية بعد فتنة عام 1860 وأصبح حكامه من النصارى الأوروبيين. قال (رشتر): «إِنَّ مُقَاطَعَةَ لُبْنَانَ لَتُغْتَبَطُ مُنْذُ عَامِ 1862 بِحَاكِمٍ مَسِيحِيٍّ وَبِحُرِّيَّةٍ نِسْبِيَّةٍ (لِلْمُبَشِّرِينَ)». ثم لا يكتفي (رشتر) بهذا الفرح وهذا الاغتباط، بل يود أن توالي الدول الأجنبية تدخلها بالقوة كلما لزم الأمر توسيعًا لحركة التبشير بين المسلمين خاصة (¬6). ولم تكن نظرة (رشتر) خاطئة، فإن المتصرفين (حكام لبنان بعد فتنة عام 1860) كانوا يشجعون التبشير. زار وفد من المبشرين، فيهم (دانيال بلس) " رئيس الكلية السورية الإنجيلية في بيروت " (الجامعة الأمريكية اليوم)، والدكتور (أدي)، و (دنيس)، و (جسب) وغيرهم، متصرف جبل لبنان (واصا باشا) في الثامن والعشرين من شهر شباط عام 1888، ¬

_ (¬1) cf. Milligan 29 (¬2) Richter 276 (¬3) Richter 273 f (¬4) Islam and Missions 198 (¬5) ibid. 196 (¬6) Richter 79

فرنسا خاصة

فقال لهم (واصا باشا): «طَمْئِنُوا أَصْدِقَائَكُمْ وَحُكُومَتَكُمْ (الأَمِرِيكِيَّةِ) بِأَنِّي سَأَعْمَلُ مَا فِي وُسْعِي لِحِمَايَتِكُمْ وَحِمَايَةِ عَمَلِكُمْ». وكذلك كانت سياسة رستم باشا من قبل (¬1). فِرَنْسَا خَاصَّةً: أما فرنسا خاصة فكانت تعتقد أن النفوذين الديني والسياسي في جبل لبنان احتكار لها دون سائر الدول. من أجل ذلك ساءها أن ترى المبشرين البروتستانت يتمتعون بحماية رسمية. وشاء المتصرف داود باشا - وَكَانَ أَرْمِنِيًّا - أن يرضي فرنسا فمتع القسس الموارنة بالحرية لاستئصال شأفة البروتستانتية (¬2). وعلى هذا المنوال سارت الحال في جبل لبنان حتى نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914، فرأت الدولة العثمانية في نظام المصرفية خطرًا على إمبراطوريتها فألغته. وهكذا سكنت حركة التبشير لتنبعث بعد أربعة أعوام من جديد بقوة واتساع، حينما احتل الإنجليز والفرنسيون سورية وقلصوا ظل الدولة العثمانية عن شرق البحر الأبيض المتوسط كله. على أن هذا الاحتلال الثنائي لم يطل كثيرًا، بل انسحب الإنجليز إلى جنوبي سورية (فلسطين وشرق الأردن) وظل الفرنسيون في الشمال (سورية ولبنان). وهكذا صال المبشرون اليسوعيون في منطقة الانتداب الفرنسي صولة شديدة ثم جعلوا - بعد أن كانوا يلمحون - يصرحون ويلوحون. فمن أقوالهم: لما فتحت الهدنة عام 1918 للمبشرين طريق سورية من جديد، وطد أولئك المبشرون أقدامهم في حوران، وفوضهم الأساقفة الكاثوليكيون بما كانوا قد أجبروا على تركه عام 1914 (¬3). وأشد تلويحًا قولهم: «أَيُّهَا المُبَشِّرُونَ، هَذِهِ فُرَصٌ لَمْ تُسْنَحْ لَكُمْ مِنْ قَبْلُ» (¬4). ولم تكن الدولة الفرنسية المنتدبة وحدها عونًا لليسوعيين على تنصير غير النصارى، بل إن الحكومة المحلية - التي لم تكن إلا وجهًا آخر لدولة الانتداب - كانت تساعد في ذلك. يقول اليسوعيون أنفسهم (¬5): ¬

_ (¬1) Jessup 532 (¬2) Jessup 250 (¬3) Les Jésuites en Syrie 10 : 64 (¬4) ibid 11 : 26 (¬5) ibid 10 : 66

«مِنَ الأُمُورِ المُسْتَجَدَّةِ مُنْذُ الاِنْتِدابِ اِنْتِشارُ الأَمْنِ المُطْلَقِ تَقْريبًا فِي البِلاَدِ اللُّبْنَانِيَّةِ. إِنَّ المُبَشِّرِينَ القُدَمَاءَ كَانُوا يَعْمَلُونَ دَائِمًا إِمَّا فِي وَجْهِ حَادِثَةٍ مُثِيرَةٍ أَوْ عَلَى خَوْفٍ مِنْ كَمِينٍ بَدَوِيٍّ أَوْ طَلْقٍ نَارِيٍّ مِنْ مَصْدَرٍ مَجْهُولٍ، أَوْ مُعَرَّضِينَ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ. أَمَا اليَوْمَ فَلَمْ يَبْقَ أَثَرٌ لِلْبَنَادِقِ - فَقَدْ صَادَرَهَا الفِرَنْسِيُّونَ - وَلَقَدْ دَفَعَ الذِينَ حَاوَلُوا الاِعْتِداءَ عَلَى المُبَشِّرِينَ ثَمَنًا غالِيًا». • • • كان اليسوعيون يتبجحون بهذه الأقوال عام 1930، حينما كان ظلم الفرنسيين المخيم على بلادنا فِي أَوْجِهِ، وحينما كانت فرنسا تظن أن دولتهم لن تدول. وهكذا كشفت فرنسا القناع عن وجهها في السياسة الاستعمارية: لقد أرادات الإدارة الفرنسية أن تقوم بحركة تنصير واسعة في البلاد مستعينة باليسوعيين، فاختارت بلاد العلويين حول اللاذقية. يشهد اليسوعيون (¬1) أن فرنسا أرادت، بعد عهد من الاستعباد والجهل غطى بلاد العلويين، أن توجد للعلويين دستورًا محررًا (لانتزاع العلويين من الإسلام وإدخالهم في النصرانية)، على شرط أن يساعد هذا الدستور على تحقيق ذلك بلا ضجة. لذلك أصدر (المسيو شوفلر)، جلاد بلاد العلويين، مرسومًا بتاريخ (2 أيار 1931 وتحت رقم 2908) يجعل الانتقال من المذهب الكاثوليكي يجري في المحكمة العادية من غير حاجة إلى الإجراءات المعقدة!. ويجمل أنيس صايغ في كتابه " لبنان الطائفي " تدخل فرنسا في لبنان خاصة واستغلال السياسة والتجارة والعلم والطائفية في سبيل مصالحها هي، مع الإشارة إلى المنافسة الشديدة في هذا الشأن بينها وبين إنجلترا خاصة، قال (¬2): «إِلاَّ أَنَّ التَّدَخُّلَ الأَجْنَبِيَّ فِي شُؤُونِ لُبْنَانَ، بِالمَفْهُومِ الاِسْتِعْمَارِيِّ الحَدِيثِ، لَمْ يَبْدَأْ إلاَّ فِي القَرْنِ المَاضِي. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الحَوادِثُ التِي ذَكَرْنَاهَا إلاَّ مُقَدِّمَاتٍ لِلاِسْتِعْمَارِ الحَقِيقِيِّ الذِي عَرَفَهُ لُبْنَانُ فِي القَرْنَيْنِ الأَخِيرَيْنِ، إِذْ أَصْبَحَتْ سُورِيَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ، ضِمْنَ مُمْتَلَكَاتِ الإِمْبْرَاطُورِيَّةِ العُثْمَانِيَّةِ، مَطْمَعَ دُوَلِ أُورُوبَا المُتَنَازِعَةِ فِيمَا بَيْنَهَا، وَالسَّاعِيَةِ إِلَى تَوْسِيعِ مُمْتَلَكَاتِهَا وَمَنَاطِقَ نُفُوذِهَا عَلَى حِسَابِ بَعْضِهَا بَعْضًا ...». ¬

_ (¬1) Les Jésuites en Syrie 10 : 37 (¬2) ص 93، 94، 106، [107]، 108، 109.

«وجد هؤلاء الاستعماريون أن الخطوة الأولى في سبيل السيطرة على لبنان تستوجب استثمار الطائفية فيه - في إثارة طائفة على أخرى، وفي رعاية طائفة ضد أخرى. لذلك غذى هؤلاء الطائفية ونموها وتعهدوها بأموالهم ودهائهم، بحيث أخذت الطائفية مفهومًا جديدًا، وأصبحت، لدى الكثيرين، مجرد وليدة لهذه التغذية الاستعمارية الآثمة. وأخذ رجال الحكومات الأجنبية، من وزراء وقناصل وعمال مأجورين، الدور الذي كان لرجال الإقطاع في العصور الوسطى ... دور التستر وراء قناع الطائفية، لتحقيق الأطماع الجزئية. بدأت هذه المرحلة في القرن التاسع عشر. وقد بزغ هذا القرن أثناء ولاية الأمير بشير الثاني، الملقب بـ " الكبير ". وقد اعتمد الأمير المذكور على الطائفية، كوسيلة للمحافظة على نفوذه في الشعب، أكثر من أي لبناني آخر. وحفل عصره بالمؤامرات الطائفية، العلنية والخفية، التي كان هو يحيكها، لوحده، أو بتعاونه مع الدول الأجنبية، ليلهي الشعب عن الثورة عليه، ويؤمن لسيادته الامتداد الذي يريده. وكانت فرنسا تعتبر نفسها حامية المسيحيين في الشرق، وخاصة الموارنة في لبنان، بمقدار ما كان المورانة يعتبرونها صديقتهم الكبيرة الأولى. فقد جرت التقاليد في البلدين على اعتبار الصداقة المارونية والفرنسية في غاية العراقة، تدعمها القرون الطويلة، وتجعل فرنسا لا تقبل منافسة دولة أخرى في هذه الصداقة، وتجعل الموارنة لا يقبلون منافسة طائفة أخرى في الولاء لفرنسا. ودعمت فرنسا هذه العلاقة السياسية المتسترة بثوب ديني بتعهد العلاقات التجارية والإرساليات التبشيرية بين لبنان وفرنسا. فقد ضاعفت فرنسا عنايتها بأمور التجارة، وأرسلت القناصل وأسست المكاتب والمراكز الثابتة لتسهيل أمورها. وكانت فرنسا منذ 1520 قد حاولت ضم لبنان إليها بالقوة، للحصول على ثروته وكنوزه، حينما أرسلت أسطولاً يتألف من خمس عشرة سفينة إلى سواحل لبنان، إلا أن مسلمي ودروز السواحل هاجموا الجنود الفرنسيين وطردوهم ... أما التبشير فكان الميدان الأوسع لإنماء العلاقات الطائفية ... وبدأت الإرساليات تفد إلى لبنان منذ القرن الثالث عشر ... ورعى ملك فرنسا بنفسه شؤون التبشير، في ذلك القرن، واهتم ببناء الكنائس. وبدأت فرنسا تستقبل رجال الدين اللبنانيين وتعلمهم في

تهكم واستهزاء

مدارسها الدينية على حسابها. وواصلت فرنسا رعايتها للإرساليات في الشرق بالرغم من اضطهادها لها في فرنسا نفسها. وكان اهتمام فرنسا وتدخلها يزداد كلما لمست ازديادًا في اهتمام بريطانيا بالشرق. فقد كان لبريطانيا، هي الأخرى، مطامعها ومصالحها في هذا الجزء من العالم. ولما لم يكن لبريطانيا (في ذلك الحين) طائفة تشترك مَعًا في المذهب، اضطرت بادئ الأمر، إلى الاعتماد على التجارة والتدخلات الرسمية والخفية في بلاط الخليفة العثماني ... ثم ازداد الاهتمام الإنجليزي بسورية في القرن الثامن عشر، عندما أصبحت الهند وشرقي آسيا محورين رئيسيين للثروة البريطانية الاستعمارية. وأرسلت بريطانيا عشرات الرحالة والمؤلفين والموظفين لدراسة أحوال سورية كطريق رئيسية إلى الهند ... وكانت بريطانيا قد سبقت هذه الدول في إرسال دعاتها إلى لبنان لتحريض الشعب ضد إبراهيم باشا والأمير بشير. فقدم إلى " غزير "، في كسروان، منذ 1839، كاهن إيرلندي الأصل، اسمه (وود)، وادعى أنه جاء ليتعلم العربية هناك. لكنه كان، إذ يتعلم العربية، يلقي بذور الشقاق بين الأهالي. ووعد (وود) البطريرك (حبيش) بمساعدة بريطانيا لإعلان لبنان إمارة مارونية مقابل مساعدة الموارنة لها. وفي الوقت نفسه أكد (وود) للدروز صداقة بريطانيا لهم وعطفها عليهم. ومثل (وود) سعى كل من (تشرشل) و (أونفرا) و (اللادي استنهوب) وغيرهم من البريطانيين الذين أقاموا في لبنان، تحت ستار توزيع الهدايا ومصادقة الشعب، إلى إثارة العصبية الطائفية لفتح المجال أمام بريطانيا لكي تتدخل ... و (كذلك) انتشر عمال فرنسا في البلاد وتجولوا بين القرى المارونية، طالبين إلى السكان رفع الأعلام الفرنسية لنيل حظوة الجيوش الحليفة» (التي جاءت لحرب إبراهيم باشا). تَهَكُّمٌ وَاِسْتِهْزَاءٌ: ودعاة الاستعمار الخالص كدعاة الاستعمار المتستر بالتبشير لا يرعون للناس عهدًا ولا يحفظون لهم كرامة، حتى لأولئك الذين يستميلونهم أو يدعون أنهم استمالوهم. إن دعاة الاستعمار هؤلاء إذا كتبوا عن الشرق ملأوا كتاباتهم بالتهكم والاستهزاء وبشيء كثير من الازدراء أحيانًا. صدر مؤخرًا كتاب باللغة الفرنسية اسمه " آسيا المرعبة " (¬1) يصف رحلة شبه صحفية في بلاد الشرق الآسيوي. ولقد تهكم مؤلفاه (بيار) و (رينيه غوسيه) (¬2) على البلاد ¬

_ (¬1) Térrifiante Asie (¬2) pierre et René Gosset

الشرقية ما شاء لهما التهكم. ونال لبنان مِنْ هَذَا التَّهَكُّمِ أَمَرَّهُ، مع العلم بأن مؤلفي الكتاب كليهما نَالاَ من الإكرام في لبنان - بشهادتهما نفسهما - ما أدهشهما. قال المؤلفان (¬1): «وَعَرَفْنَا مَرَّةً، عَلَى مَائِدَةِ الصَّبَاحِ، فَتَاةَ رَائِعَةً مِنَ البِيئَةِ اللُّبْنَانِيَّةِ (مِنْ تِلْكَ الأُسَرِ الغَنِيَّةِ المُثَقِّفَةِ التِي تَرَبَّتْ فِي مَدَارِسِنَا وَالتِي تَتَزَوَّدُ بَأَزْيَائِهَا مِنْ بَارِيسَ وَتَصْطَافُ فِي فِرَنْسَا) ... وَجَهِدَتْ (هَذِهِ الفَتَاةُ) لِتُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَى قُلُوبِنَا، اِبْتِغَاءَ سُرُورِنَا وَحْدَهُ، ثَمَّ خَصَّتْنَا يَوْمَيْنِ كَامِلَيْنِ بِسَيَّارَةٍ ظَلَّتْ تَحْتَ تَصَرُّفِنَا حَتَّى بَلَغْنَا الحُدودَ السُّورِيَّةَ. (وَقُلْنَا فِي مَجْمِعٍ: لَعَلَّهَا وَجَدَتْنَا) لَطِيفَيْنِ. فَأَجَابَنَا (رَيْمُونَ دَ) (¬2)، وَهُوَ صَحَافَيٌّ لُبْنَانِيٌّ: " بِكُلِّ تَأْكِيدٍ، وَلَكِنَّكُمَا أَيْضًا فِرَنْسِيَّانِ "». ولما تجولا في شوراع بيروت قالا (¬3): «إِنَّ لِجَادَّةِ الفِرَنْسِيِّينَ مَعْنَاهَا فِي بَيْرُوتْ. وَلَنْ نَخْشَى أَنْ يُصِيبَهَا مَا أَصَابَ شَوَارِعَنَا فِي سَايْغُونْ (¬4). إِنَّ فِرَنْسَا لَمْ تَكُنْ فِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ مَحْبُوبَةً فِي لُبْنَانَ كَمَا أَصْبَحَتْ بَعْدَ أَنْ غَادَرْنَاهَا نَحْنُ ... وَبِاِنْتِهَاءِ الاِنْتِدابِ تَسَلُّمَ لُبْنَانُ اِسْتِقْلاَلَهُ وَكَأَنَّهُ هَدِيَّةٌ عَجِيبَةٌ. لَقَدْ نَسِيَ الدَّقائِقَ الحَرِجَةِ كَيْلاَ يَنْسَى التُّرَاثَ الذِي خَلَّفْنَاهُ لَهُ. وَمَا كَانَ ذَلِكَ يَسِيرًا. وَاِجْتَمَعْنَا حَوْلَ مَائِدَةِ (جُورْجْ نَقَّاشْ) مُدِيرُ جَرِيدَةِ " الأُورْيَانْ " (¬5) بِأَحَدِ أَصْدِقَائِنَا اللُّبْنَانِيِّينَ القُدَمَاءَ، مِنَ الذِينَ اِلْتَقَيْنَا بِهِمْ فِي أَقْطَارِ العَالَمِ الأَرْبَعَةِ خِلاَلَ الأَعْوَامِ الأَخِيرَةِ، وَهُوَ (جُوزِيفْ حَ) مُدِيرُ الشُّؤُونِ الخَارِجِيَّةِ فِي بِلادِهِ فِي الوَقْتِ الحَاضِرِ (¬6). وَفِي هَذَا الجَوِّ الهَادِئِ لَمْ نَسْتَطِعْ إلاَّ أَنْ نَسْتَعِيدَ ذِكْرَى (ثِقَةَ) مُتَبَادَلَةً نَبَتَتْ مُنْذُ سِنِينَ خَلَتْ حِينَمَا كَانَ وَزِيرًا مُفَوَّضًا فِي بْرُوكْسَالْ. لَقَدْ حَدَّثَنَا (فِي لِقَائِنَا هَذَا) عَنْ النِّزَاعِ الوِجْدَانِيِّ الفَاجِعِ الذِي يَنْتَابُ أَهْلَ جِيلِهِ. إِنَّهُ لَمَّا حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فِرَنْسَا بِعُنْفٍ حِينَمَا كَانُوا يُكَافِحُونَ فِي سَبِيلِ اِسْتِقْلاَلِ بِلاَدِهِمْ، وَجَدُوا أَنَفْسَهُمْ (فَجْأَةً) بَلاَ ثِقَةٍ أُخْرَى، وَلاَ لُغَةٍ أُخْرَى، وَلاَ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِ التَّفْكِيرِ سِوَى تِلْكَ التِي كَانُوا تَعَلَّمُوهَا فِي كُلِّيَّاتِنَا وَمَدَارِسِنَا». ¬

_ (¬1) ص 73. (¬2) «الدَّالْ» الفرنجية يمكن أن تقابل في العربية الدال أو الضاد. (¬3) ص 74. (¬4) سايغون: مدينة في الهند الصينية التي طرد منها الفرنسيون فتبدلت شوارعها أسماء جديدة وأوجهًا جديدة. (¬5) (L'Orient (Beyrouth (¬6) يوم كان المؤلفان في سياحتهما.

استفزاز وقلة ذوق

وقطع المؤلفان السائحان الحدود بين لبنان وسورية فسجلا التعليق التالي (¬1): «ثَمَّ هَذَا شَاهِدٌ صَغِيرٌ مِنَ الطَّرَفِ الآخَرِ مِنَ السُّلَّمِ الاِجْتِمَاعِيِ (¬2). بَعْدَ بِضْعَةِ أَيَّامٍ وَفَّرَ عَلَيْنَا مَأْمُورُ الجَمَارِكَ اللُّبْنَانِيَّةِ عَلَى الحُدودِ السُّورِيَّةِ، بِإِيمَاءَةٍ مَمْلُوءَةً بِرَحَابَةِ الصَّدْرِ، جَمِيعَ الشَّكْلِيَّاتِ بَعْدَ نَظَرَةٍ يَسِيرَةً أَلَقَاهَا عَلَى جَوَازِ سَفَرِنَا. وَفِي فَرْطِ تَأْثُرِهُ قَالَ لَنَا - وَهُوَ يَبْدُو مُضْحِكًا قَلِيلاً وَمُنْتَفِخًا كَثِيرًا -:" مُرَّا، إِنَّ لُبْنَانَ هُوَ الاِبْنُ البِكْرُ لِفِرَنْسَا ". وَهَكَذَا رَجَعَتْ بِنَا الذِّكْرَى إِلَى مَرَّاكُشَ، مَرَّاكُشَ التِي نَعْرِفُهَا وَالتِي نُحِبُّهَا كَثِيرًا، وَإِلَى كُلِّ مَا نَحْنُ عَلَى وَشَكِ أَنْ نُضَيِّعَهُ فِيهَا بِسَبَبِ قَلْبِنَا الشَّائِخِ الذِي قَسَا كَثِيرًا لِقِلَّةِ سَخَائِنَا وَضَعْفِ خَيَالِنَا». ولم يشأ هذان السائحان أن يغادرا لبنان قبل أن يخصا أرزه والبطريرك الماروني بملاحظة نابية. قالا (¬3): «يَجِبُ أَلاَّ يُقَالُ: إِنَّنَا تَرْكَنَا لُبْنَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَرَى أَرُزَّهُ. إِنَّ الأَرُزَّةَ شِعَارُ البِلاَدِ، عَلَى قُبَّعَاتِ الشُّرْطَةِ وَعَلَى العَلَمَ. إِنَّهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ إِلاَّ فِي الإِحْرَاجِ. يا خَيْبَةَ الأَمَلِ، إِنَّ الأَرُزَّاتِ التِي يَفْتَخِرُونَ بِهَا كَثِيرًا تَبْلُغُ أَرَبْعِينَ وَتَتَجَمَّعُ فِي أَعَالِيِ جَبَلٍ مَرْشُوشٍ بِالثَّلْجِ. إِنَّ أَرُزَّنَا المَرَّاكُشِيَّ فِي " أَزُورْ " أَقَلُّ قَدَاسَةً وَلَكِنَّهُ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي الرَّائِينَ». في أثناء الانتداب أرادت فرنسا أن تمنع القرويين من أن يسيموا عنزهم في تينك الغيضتين الأخيرتين من شجرات الأرز الباقية على قيد الحياة. ولقد لجأت فرنسا إلى رؤساء الدين المحليين لمساعدتها على ذلك. وبعد ستة أشهر جاء موظف فرنسي إلى البطريرك الماروني يسأله عن مدى التقيد بالقوانين (التي فرضت لحماية الأرز). فأجابه البطريرك قائلاً: «إِنَّهُ تَقَيُّدٌ تَامٌّ، يَا كَابِتِينْ، سِوَى أَنَّ المُعَزَّى الأُرْثُوذُكْسْ لاَ تُرِيدُ أَنْ تَسْمَعَ وَلِذَلِكَ هِي تُصِرُّ عَلَى قَضْمِ الأَغْصَانِ» {انتهى قول (بيار) و (رينيه غوسيه)}. اِسْتِفْزَازٌ وَقِلَّةُ ذَوْقٍ: ولقد قام الفرنسيون خاصة في مناطق نفوذهم بأعمال تبشيرية استعمارية كلها استفزاز وقلة ذوق. وكان التعاون بين فرنسا وبين اليسوعيين وَالبَابَا تَعَاوُنًا وَثِيقًا جِدًّا. ¬

_ (¬1) ص 74، 75. (¬2) في البيئة الشعبية، غير الغنية وغير المثقفة تثقيفًا رفيعًا. (¬3) p. 97

من هذه الأعمال حادث جنينة رسلان وقد مرت الإشارة إليه (¬1) وكيف أن اليسوعيين اِحْتَمَوْا بحراب الفرنسيين وذهبوا إلى بلاد العلويين - وهي بقعة من الجمهورية السورية - وحملوا نفرًا من أهل البلاد على إعلان انتسابهم إلى المذهب الكاثوليكي بالقوة (¬2). على أن الضغط الفرنسي زال عن العلويين بعد زوال انتدابهم على سورية ولبنان عام 1943، وتنفسنا نحن الصعداء. ولما فقدت فرنسا نفوذها في الجمهورية السورية، بعد أن عادت بلاد العلويين إلى الوطن الأم، ثم جلت جنود الاحتلال عن البلاد كلها، لم تنس فرنسا سياسة خلق المشاكل في البلاد فأثارت سليمان المرشد. سليمان المرشد رجل إقطاعي شجعه الفرنسيون على أن يدعي الألوهية، ولذلك تسمى بـ " الرب " وأخذ يعامل قومه العلويين على هذا الأساس. ثم تطوح فجعل ينهب ويسلب ويقتل حتى ألقت الحكومة السورية القبض عليه وأدانته (بما ارتكبه من حوادث سلب وقتل) وشنقته: لقد أراد اليسوعيون أن يصنعوا إلهًا يوهن قوى الدولة السورية الناشئة ولكنهم جَنَوْا على رجل ثم قادوه إلى المشنقة. وهكذا ماتت بموت سليمان المرشد آمال اليسوعيين والفرنسيين في بلاد العلويين إلى الأبد. ولقد استغل الفرنسيون الدين في جميع أشكاله، وساعدهم اليسوعيون خاصة على ذلك. في عام 1930 أراد البابا أن يقيم عيدًا لمناسبة مرور ألف وستمائة سنة على موت (القديس أغسطينوس). ولكنه أراد أن يكون لهذا العيد طابع خاص، فاختار أن يدعو إلى مؤتمر أفخارستي (¬3) في مدينة قرطاجنة (قرب تونس)، لأن (القديس أغسطينوس) كان من البربر، ومن تلك الناحية. ومع أن إقامة هذا العيد من حق الكنيسة تقيمه متى شاءت، فإن اقترانه بانعقاد مؤتمر أفخارستي (مسيحي) في بلد كل أهله مسلمون يدل على كثير من قلة اللياقة. على أن تونس المستعبدة يومذاك قد أجبرت على قبول ذلك وعلى أن تدفع أيضًا من خزينتها الحالية مليونين من الفرنكات، يوم كان الفرنك لا يزال يساوي قرشًا من الذهب، وعلى أن تقبل بوضع الأَسِرَّةِ فِي المَسَاجِدِ ليرقد عليها الرهبان الذين جاءوا من أطراف الأرض ليعلنوا حربًا ¬

_ (¬1) راجع صفحة 53 وما بعدها. (¬2) cf. Les Jésuites en Syrie 10 : 35, 11 : 27 (¬3) المقصود بالمؤتمر الأفخارستي: اجتماع كاثوليكي عام يجتمع فيه الكهان والعوام وينصبون مذبحًا بالعراء (خارج الكنائس) للقيام بالعبادة.

صليبية جديدة في بلد مسلم. ولما أراد بعض الشباب التونسيون أن يحتجوا على هذه الأعمال المنافية لكل ذوق، فوق ما فيها مِنْ تَحَدًّ للشعور الديني والقومي والإنساني، لم تتورع فرنسا عن أن تقبض على هؤلاء وتزجهم في السجون لتتيح للمؤتمر الأفخارستي أن ينعقد بكل صخب استعماري في جو من الهدوء (¬1). هذا المقطع الناري ليس لنا نَحْنُ المُؤَلِّفِينَ المُسْلِمِينَ [العُرُوبِيِّينَ] بل هو لرجل فرنس مسيحي كما ترى في الحاشية. وما دمنا نتكلم على تونس في شمال أفريقيا فلنقل كلمة على الظهير البربري (¬2). في الوقت الذي كان المؤتمر الأفخارستي ينعقد في تونس، كانت فرنسا تقوم في مراكش بعمل مماثل من حيث النتائج الدينية الاستعمارية: في 15 أيار عام 1930 أجبرت فرنسا سلطان مراكش الشاب على أن يصدر ظهيرًا (مَرْسُومًا) ينص على أن يكون للقبائل المراكشية التي هي من أصل بربري نظام قضائي خاص، أو على الأصح نظام شرعي خاص، فلا تسري عليهم قوانين الشرع الإسلامي بل قواعد العرف العشائري البربري. وكان من الطبيعي أن يثور المراكشيون كلهم على ذلك، فمشى العرب والبربر وسكان المدن وسكان القرى والبوادي على السواء مشية الرجل الواحد احتجاجًا على هذا الافتراء وعلى هذا التفريق في الشرع بين المسلمين أنفسهم. إن المظالم التي ترتكبها فرنسا في المغرب باسم الحرية (¬3) لهي أكثر من أن تذكر. ثم هي تستوحي الفاتيكان (مَقَرُّ بَابَا رُومِيَّةَ) سياستها الدينية لتثبت بها أقدامها في مستعمراتها. وهذا يقضي عليها بأن تعاضد الرهبان والمبشرين في حملتهم على كل بلد مستقل وعلى المسلمين خصوصًا. وهكذا نرى بكل وضوح أن الإرساليات الدينية كانت دائمًا ستارًا لتغلغل الاستعمار في الشرق. يخبرنا (هنري جسب) (¬4) «أَنَّ المُبَشِّرِينَ اِسْتَغَلُّوا جُهُودَهُمْ لِخِدْمَةِ دُوَلِهِمْ وَأَذْكَوْا [نَارَ] العَدَاوَةِ فِي الذِينَ كَانُوا يُبَشِّرُونَ بَيْنَهُمْ، فَقَدْ كَانَ القَائِمْقَامْ المَارُّونِيُّ فِي لُبْنَانَ (الأَمِيرُ حَيْدَرْ أَبِي اللُّمَعِ) يَضُمُّ جُهُودَهُ إِلَى جُهُودِ البَطْرِيَرْكِ المَارُّونِيِّ وَالقُنْصُلِ الفِرَنْسِيِّ العَامَّ لِوَضْعِ لُبْنَانَ تَحْتَ نُفُوذِ الإِكْلِيرُوسْ (رِجَالُ الدِّينِ المَسِيحِيِّ) لِلْوُصُولِ إِلَى جَعْلِ جَمِيعِ الكَاثُولِيكْ فِي سُورِيَّةَ تَحْتَ نُفُوذِ فِرَنْسَا. وَكَانَ عَمَلُ (الأَمِيرِ حَيْدَرَ) يَصْدُرُ عَلَى مَا يَظْهَرُ عَنْ ¬

_ (¬1) Jung 39 ss (¬2) cf. Jung 46 ss (¬3) الكلام يتناول العهد الذي سبق استقلال تونس والمغرب والجزائر. (¬4) Jessup 160 - 164

اِقْتِنَاعٍ، حَتَّى أَنَّهُ أَعْلَنَ أَنَّ فِرَنْسَا سَتَحْتَلُّ يَوْمًا مَا لُبْنَانَ بِجَيْشِهَا» (¬1). ولقد كتب المبشر (هنرى جسب) هذه الجملة في كتابه المطبوع عام 1910 قبل أن تحتل فرنسا لبنان بثماني سنوات. والفتن التي أثارها الاستعمار باسم الدين في بلاد العرب خاصة كثيرة جِدًّا، منها فوق ما تقدم، ثورة التياريين في العراق، أو ثورة الأشوريين. الأثوريون أو الأشوريون: طائفة مسيحية تعيش شمالي العراق. ولكن المؤرخ المدقق السيد عبد الرزاق الحسني يرى أن هؤلاء على الرغم من أنهم يعرفون باسم «الأَشُورِيِّينَ». فإنهم لا صلة لهم بالأشوريين الذين سكنوا العراق قبل الميلاد، بل هم طائفة غريبة دخيلة حاك لها المستعمر هذه الأسطورة (¬2) وخلع عليها هذه التسمية. ولقد تمرد الأشوريون على الدولة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى بإثارة روسيا لهم فأدبتهم الدولة العثمانية وأخرجتهم من بلادها. ولكن ما كادت الحرب العالمية الأولى تنشب حتى تطوع عشرون ألفًا منهم في الجيش الإنجليزي. «وَلَمَّا اِنْدَلَعَ لَهِيبُ الثَّوْرَةِ العِرَاقيَّةِ الكُبْرَى فِي صَيْفِ 1920 وَقَامَ العِرَاقِيُّونَ يُنَادُونَ بِاسْتِقْلاَلِ بِلادِهِمْ، كَانَ التَّيَّارِيُّونَ (الأَشُورِيُّونَ) يُقَاتِلُونَ أَبْنَاءَ البِلاَدِ فِي صُفُوفِ الإِنْجْلِيزْ قِتَالاً مُسْتَمِيتًا وَيَنْتَقِمُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ اِنْتِقامًا صَارِمًا لاَ مُبَرِّرَ لَهُ وَلاَ سَبَبَ» (¬3)، وكانوا يتجسسون للعدو على وطنهم (¬4). والسيد عبد الرزاق الحسني على حق حينما ذكر أن الإنجليز أرادوا من إسكان التياريين (الأشوريين) في العراق وضع أقلية مسيحية يستغلونها في مقاومة تركيا المسلمة ويهددون بها استقلال القطر العراقي الناشئ (¬5). ولقد وافقه على ذلك (س. م. موريسون)، فجعل تبعة ثورة الأشوريين على عاتق عصبة الأمم أو على عاتق الحكومة البريطانية (¬6). ولقد استطاع العراق أن يقضي على كل أمل لهؤلاء التياريين بإنشاء دولة شمالي العراق أو «وطن قومي». ولم تكن إنجلترا تريد من إسكان الأشوريين في العراق إلا ما أرادت من إسكان اليهود في فلسطين. ولما لم تستطع ¬

_ (¬1) ibid (¬2) " تاريخ الوزارات العراقية ": 3/ 144. (¬3) " تاريخ الوزارات العراقية ": 3/ 145. (¬4) " تاريخ العراق السياسي الحديث ": 3/ 294. (¬5) راجع " تاريخ الوزارات العراقية ": 3/ 145 وما بعدها. (¬6) MW, Apr. 35, 128

التوظيف والطائفية

إنجلترا أن تخلق بالأشوريين قلاقل ذات أهمية في العراق أعارتهم للفرنسيين الذين نقلوهم إلى سورية ولبنان ليكونوا مصدر قلق لسورية كما كانوا للعراق (¬1). ما أشد ضرر هذه الأقليات الطائفية التي تعير نفسها للمستعمر ليستعين بها على خلق القلاقل في الوطن الأم، فأين الدعاوي العراض بالوطنية والقومية!؟. التَّوْظِيفُ وَالطَّائِفِيَّةُ: إن المستعمر إذا نزل بَلَدًا اتخذ أعوانه من الأقليات المتوطنة أو الطارئة. ولقد أشار عَلاَّمَتُنَا ابْنُ خَلْدُونْ إلى هذه الناحية فعقد لها فصلين قصيرين في " مقدمته " المشهورة، فذكر أن صاحب الدولة إذا خشي من أهل الدولة الانتقاض عليه مَالَ «إِلَى أَوْلِيَاءَ آخَرِينَ مِنْ غَيْرِ جِلَدَتِهِمْ يَسْتَظْهِرُ بِهِمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَخُصَّهُمْ بِمَزِيدِ التَّكْرُمَةِ وَالإِيثَارِ ... وَيُقَلِّدَهُمْ جَلِيلَ الأَعْمَالِ وَالوِلاَيَاتِ مِنَ الوِزَارَةِ وَالقِيَادَةِ وَالجِبَاِيَةِ» (¬2). وكذلك فعل المستعمرون عند نزولهم ببلاد المشرق الإسلامي هذا الفعل فاستخلصوا الأرمن والأشوريين والمهاجرين من اليهود والروس واليونان والإفرنج ليقاوموا بهم العرب. وما كنا نحن لنعقد هذا الفصل القصير هنا لولا أن المجلة التبشيرية " العالم الإسلامي " قد ذكرته مع قلب للحقائق فاضح. قال (س. م. موريسون) في مقال نشره في مجلة " العالم الإسلامي " عنوانه " الحُرِّيَّةُ الدِّينِيَّةُ فِي العِرَاقِ " (¬3): «فَإذَا تَجَاوَزْنَا الأَشُورِيِّينَ، وَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحَوَالِهِمْ ذَوُو صِبْغَةٍ خَاصَّةٍ فِي العِرَاقِ، لَمْ نَلْحَظْ إِشَارَةً مَا إِلَى أَنَّ الحُكُومَةَ العِرَاقِيَّةَ تَدْفَعُ الأَقَلِّيَاتِ الدِّينِيَّةِ عَنْ حُقُوقِهِمْ ... هَذَا عَلَى الأَقَلِّ هُوَ المَوْقِفُ الرَّسْمِيُّ لِلْحُكُومَةِ. أَمَّا فِي الوَاقِعِ فَإِنَّهُ إِذَا عُرِضَ لِلْحُكُومَةِ أَنْ تَخْتَارَ بَيْنَ المُتَقَدِّمِينَ إِلَى المَنَافِعِ، فَإِنَّ المُسْلِمَ يَكُونُ حِينَئِذٍ أَعْظَمَ حَظًّا مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِ. فَالْمُسْلِمُ مَثَلاً هُوَ المُفَضَّلُ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَاليَهُودِيِّ عِنْدَ إِرْسَالِ البَعْثَاتِ العِلْمِيَّةِ إِلَى الخَارِجِ أَوْ عِنْدَ التَّعْيِينِ فِي مَنَاصِبِ الدَّوْلَةِ. وَبِمَا أَنَّ العِرَاقَ دَوْلَةٌ إِسْلاَمِيَّةٌ فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الأَمْرُ الطَّبِيعِيُّ». لقد أخطأ (موريسون) من ناحية، ثم فسح لنا مجال القول من ناحية أخرى. أننا في ¬

_ (¬1) " تاريخ الوزارات العراقية ": 3/ 180. (¬2) " مقدمة " ابن خلدون، بيروت، الطبعة الثالثة: ص 183 - 185. (¬3) MW, Apr. 35, 123

الدرجة الأولى إذا استعرضنا الموظفين في العراق رأينا أن غير المسلمين يتمتعون بعدد من المناصب لا يتفق مع نسبتهم في الإحصاء. أما مجال القول فهو أن الإنجليز والفرنسيين قد ملأوا مراكز البلاد الإسلامية التي يستعمرونها - عَمَلِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا - بغير المسلمين. أما الشركات الأجنبية في البلاد الإسلامية، فَقَلَّ أن تأخذ مسلمًا، وإذا أخذته فللمناصب الثانوية فقط. حتى لبنان - ذلك القطر العربي المستقل - فإن أعظم مفاتيح مناصبه في أيدي غير المسلمين - تساهلاً من المسلمين في سبيل حفظ الوحدة الوطنية، ولأن لبنان كما يرى الكثيرون ذو وضع خاص - وجميع منافعه الاقتصادية موجهة إلى غير المسلمين. وليس هنا مجال التوسع في هذه الناحية لأن كتابنا هذا ليس خاصًا بلبنان. والمستعمر لا يختار موظفي الدولة من المسلمين. إن المسلمين لا يكونوا إلا أقلية في جهاز البلد الخاضع للاستعمار أو لما يشبه الاستعمار، كالانتداب مثلاً. ثم إن المسلمين القليلين في جهاز تلك الدولة لا تلقي إليهم مقاليد المناصب الرئيسية أبدًا. قد لا يصدق أحد إذا قلنا له إن في الدوائر العقارية في حكومة الجزائر ألفين من الموظفين منهم ثمانية فقط من المسلمين (¬1)، ولعل هؤلاء الثمانية من الحُجَّابِ. ولما استقلت مراكش وانتقلت الإدارة من الفرنسيين إلى الوطنيين كان في وزارة الشؤون الاجتماعية مائتان وخمسون موظفًا منهم أربعة من المسلمين، وكان هؤلاء الأربعة كلهم حُجَّابًا. ولقد رأينا قبل صفحات معدودة أن الموظفين النصارى كانوا في جهاز الإدارة في الهند كثيرين لا تتفق مع عددهم بالنسبة إلى الهنود والمسلمين. وليس هذا شأن الدول المستعمرة وحدها، بل إن الشركات الأجنبية تسير على هذه السياسة نفسها. ويكفي أن يستعرض أحدنا الموظفين في هذه الشركات في لبنان وسورية والعراق ومصر وتونس حتى يدرك كره المستعمرين والشركات الأجنبية للموظفين المسلمين. ومن المؤكد أن المستعمر لا يريد أن يتفق أبناء الأقليات مع الأكثرية المسلمة في الشرق. إن (لويس ماسينيون) المستشرق الفرنسي والموظف المعروف في وزارة الخارجية الفرنسية بقسم الشؤون الشرقية يقول: «وَالقِبْطُ النَّصَارَى (فِي مِصْرَ) وَقَدْ فَهِمُوا وَاجِبَهُمْ الأَوَّلَ كَنَصَارَى قَوْمِيِّينَ عَرَبٍ، وَعَزَمُوا عَلَى أَلاَّ يَلْعَبُوا لُعْبَةً مُزْدَوَجَةً وَعَلَى أَلاَّ يَتَوَسَّلُوا إِلَى حِماِيَةِ الدُّوَلِ الأَجْنَبِيَّةِ (بِمَيْلٍ دِينِيٍّ ظاهِرٍ) أَخَذُوا يُفَاوِضُونَ فِي هَذِهِ الفِتْرَةِ (الاِنْتِخَابِيَّةِ) حَتَّى الإِخْوَانَ المُسْلِمِينَ ...» (¬2). ومع أن الظاهر هذه الجملة لا ينكشف صراحة عن نية مستعمرة، فإن التهكم والتألم ملموحان فيها بوضوح. وكذلك يستغرب المسيو (ماسينيون) نفسه اتجاه بلاد الشرق الأدنى نحو التوحيد ¬

_ (¬1) Jeanson 167 (قبل الاستقلال طبعًا). (¬2) L'Islam et l'occident 16

برامج التعليم، وخصوصًا في تعليم التاريخ الإسلامي الذي يربط هذه البلاد برباط واحد (¬1). إن هذا التقارب المعقول بين الأكثرية المسلمة في الشرق وبين الأقليات غير المسلمة لم يخفه المبشرون الكاثوليك فقط، بل خاف منه البروتستانت أيضًا. إن الحواجز المذهبية العملية قد زالت بين المسلمين والأقباط في مصر فأصبحوا جميعًا إخوانًا في الوطنية وقطعوا على المستعمر سبيلاً من أوسع السبل إلى تغلغل الاستعمار. على أن المبشرين البروتستانت، لما يئسوا من استغلال الأقباط سياسيًا ودينيًا، اكتفوا بأن يحاولوا استغلال جهود هؤلاء الأقباط، بعد أن اطمأن المسلمون إلى إخلاصهم القومي، في التبشير بين إخوانهم المسلمين، ولكننا لا نعلم إلى أي حد نجحوا (¬2). وإلى زمن قريب كانت كل دولة تكتفي بجهود مبشريها هي فقط في سبيل بلوغ أغراضها السياسية. إلا أن هذه الدول جعلت أخيرًا تتعاون تعاونًا وثيقًا فيما بينها في هذا السبيل، ما دام الشكل الديني ليس إلا واسطة لبسط النفوذ السياسي. وفي الرابع من نسيان عام 1924 وقعت الولايات المتحدة وفرنسا اتفاقًا (¬3) تأخر إعلانه إلى 13 آب من العام نفسه. وقد جاء في هذا الاتفاق ما يلي (¬4): «المَادَّةُ العَاشِرَةُ - إِنَّ إِشْرَافَ الدُّوَلَةِ المُنْتَدَبَةِ (فِرَنْسَا) عَلَى الإِرْسَالِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ فِي سُورِيَّةَ وَلُبْنَانَ يَجِبُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى حِفْظِ الأَمْنِ وَالإِدَرَاةِ الحَسَنَةِ (¬5). إِنَّ أَوْجُهَ نَشَاطِ هَذِهِ الإِرْسَالِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ يَجِبُ أَلاَّ تَخْضَعَ لِتَدْبِيرٍ يُضَيِّقُ مَجَالَ عَمَلِهَا، وَلاَ أَنْ يَخْضَعَ أَعْضَاءُ هَذِهِ الإِرْسَالِيَّاتِ لِتَدْبِيرٍ يُضَيِّقُ مَجَالَ عَمَلِهِمْ بِسَبَبِ اِخْتِلاَفِ جِنْسِيَّتِهِمْ، عَلَى شَرْطِ أَنْ تَنْحَصِرَ أَوْجُهُ هَذَا النَّشَاطِ فِي حَقْلِ الدِّينِ». هذه المادة تنص بوضوح على تعاون فرنسا والولايات المتحدة - وغيرها من الدول الأوروبية - على التبشير في سورية ولبنان. فالدول الغربية كلها، إذن، ترى أن التبشير ذو فائدة لها حتى تعقد في سبيله المعاهدات. هذه المعاهدة الغربية في تاريخ الدول المتمدنة ظلت نافذة حتى 1943 في الجمهوريتين السورية واللبنانية مَعًا - لخضوع تينك الجمهوريتين يومذاك لانتداب فرنسي واحد -. ¬

_ (¬1) ibid 16 s (¬2) Milligan 63 ff (¬3) سلسة المعاهدات رقم 695. (¬4) Penrose 313 (¬5) في الأصل: good government

ولكن لما استقلت الجمهورية السورية لم تجد من الكرامة أن تبقى هذه المعاهدة ذات واقع قانوني فألغتها. ولما احتجت الدولة التي يعنيها الأمر عناية شديدة وقالت إن «الحرية والديمقراطية» يجب أن تكونا مكفولتين، وإن للإنسان ملء الحق بنشر الدين الذي يريده واعتناق المذهب الذي يرضاه، كان الجواب العاقل يومذاك ما يلي: «إِنَّ الجُمْهُورِيَّةَ السُّورِيَّةَ لاَ تُقَيِّدُ حُرِّيَّةَ أَحَدٍ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى مَذْهَبٍ دِينِيٍّ، وَلَكِنَّهَا تَرَى أَنَّ هَذِهِ الحُرِّيَّةَ يَجِبُ أَنْ تَتَسَاوَى بَيْنَ الدَّاعِي وَالمَدْعُوِّ، فَلِمُبَشِّرٍ بْرُوتِسْتَانْتِيٍّ مَثَلاً أَنْ يُنَاظِرَ فَقِيهًا مُسْلِمًا. وَلِرَجُلٍ كَاثُولِيكِيٍّ أَنْ يُخَاطِبَ رَجُلاً مُسْلِمًا. أَمَّا أَنْ يُتْرَكَ الأَطْفَالُ الأَبْرِيَاءُ فِي صُفُوفِ المَدَارِسِ الاِبْتِدَائِيَّةِ تَحْتَ رَحْمَةِ المُبَشِّرِينَ فَهَذَا يَتَنَافَى مَعَ أَبْسَطِ قَوَاعِدِ الحُرِّيَّةِ. وَهَكَذَا أَغْلَقَتْ الجُمْهُورِيَّةُ السُّورِيَّةُ عُقُولَ الذِينَ لاَ يُزَالُونَ قَاصِرِينَ دُونَ مَكَائِدِ المُبَشِّرِينَ لَمَّا وَضَعَتْ لِلْمَعَارِفِ قَوَانِينَ تَحْفَظُ كَرَامَةَ البَلَدِ المُسْتَقِلِّ. إِنَّ المَدَارِسَ الأَجْنَبِيَّةَ - وَالفِرَنْسِيَّةَ مِنْهَا خَاصَّةَ - كَانَتْ فِي أيام الاِنْتِدابِ تَتَمَشَّى عَلَى نِظَامٍ مُنَافٍ كُلَّ المُنَافَاةِ لِرُوحِ الاِسْتِقْلاَلِ. كُلُّ هَذَا كَانَ وَاضِحًا فِي الجُمْهُورِيَّةِ السُّورِيَّةِ فَسَنَّتْ الحُكُومَةُ قَوَانِينَ سَيْطَرَتْ فِيهَا عَلَى التَّعْلِيمِ الخَاصِّ أَيْضًا وَحَالَتْ بَيْنَ مَقَاعِدِ الدِّرَّاسَةِ وَبَيْنَ النُّفُوذِ السِّيَاسِيَّ» (¬1). فلما فقدت مدارس المبشرين خاصة نفوذها على الطالب الابتدائي ثارت ثائرتها وراحت تقذف الحكومة السورية بوابل من شتائمها. وبما أننا لا نحذق هذا النوع من الشتائم لا ابتداءً وتفصيلاً ولا تقليدًا وتلخيصًا، فإننا سنترك اليسوعيين أنفسهم يتكلمون بلغتهم. في بيروت مجلة تصدر عن الحاجة إلى التفرقة الدينية، هي مجلة " الشراع "، وهي، كما يقول أصحابها على الصفحة الثانية من غلافها: جريدة يومية سياسية دينية جامعة تصدر مؤقتًا أسبوعيًا. ثم هي لسان حال الكثلكة ورؤسائها في الشرق، صاحبها ومديرها العام الخوري (انطون قرطباوي)، ويشرف على سياستها الرئيس (ألفرد نقاش) أحد رؤساء الجمهورية اللبنانية السابقين، ورئيس التحرير فيها (أنطوان نعيمة). هذه المجلة يصدرها اليسوعيون، وهي تتكلم بلسانهم وتحت إشرافهم على الأقل، وقد قالت لمناسبة حيلولة الحكومة السورية بين اليسوعيين وبين الطلاب الابتدائيين، ثم بينهم وبين عامة الشعب في بلاد العلويين ما يلي (¬2): «وَالرَّجَاءُ التَّنَبُّهُ إِلَى النُّقَطِ وَالفَوَاصِلِ». ¬

_ (¬1) راجع تقارير عن أحوال المعارف في سورية خلال سنة 1945، وضعها ساطع الحصري (دمشق 1946) ص 69 وما بعدها. (¬2) " الشراع " (بيروت) السنة الأولى، العدد 36، الأحد 28 تشرين الثاني 1948، ص 21.

«أَمَّا فِي بِلاَدِ العَلَوِيِّينَ فَإِنَّنَا، حَتَّى السَّاعَةَ، لَمْ نُدْرِكْ الأَسْبَابَ التِي تُخَوِّلُ أَوْلِيَاءَ الأَمْرِ فِي سُورِيَّةَ، الشَّقِيقَةَ العَزِيزَةَ، عَلَى أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى الرِّسَالَةِ الكَاثُولِيكِيَّةَ نَظَرَهُمْ إِلَى مُؤَسَّسَةٍ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهَا، وَعَلَى أَنْ يُعَامِلُوا القَائِمِينَ وَالقَائِمَاتِ بِهَا مُعَامَلَةَ أَعْدَاءِ الوَطَنِ السُّورِيِّ. مَاذَا طَلَبَتْ الحُكُومَةُ السُّورِيَّةُ مِنْ أَرَبَابِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ فِي الحَقْلِ الوَطَنِيِّ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ المَسِيحِيُّ وَلَمْ يَتَمَوَّهْ؟ (لاَحِظْ الشَّرْطَ: يَرْتَاحُ إِلَيْهِ ... الخ) فَلِمَاذَا إِذَنْ هَذِهِ المُعَامَلَةُ الخَشِنَةُ بَلْ الهَمَجِيَّةُ (كَذَا) تَعَامُلَ بِهَا بَنَاتٌ عَذَارَى (أَيْ الرَّاهِبَاتُ) لاَ هَمَّ لَهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَعْمَلْنَ وَيُثَقِّفْنَ وَيَرْقِينَ صِغَارَ العَلَوِيِّينَ؟ مَا الذِي خَوَّلَ الجُنُودَ السُّورِيِّينَ أَنْ يَدْخُلُوا بَيْتَ الرَّاهِبَاتِ وَهُمْ شَاكُّونَ السِّلاَحَ وَيَتَهَدَّدُونَ بِكَلاَمٍ فَظٍّ وَيَجُرُّوهُنَّ إِلَى السُّجُونِ؟ أَيَّةُ جَرِيمَةٍ ضِدِّ الوَطَنِ اِرْتَكَبَتْهَا هَؤُلاَءِ العَذَارَى الحَيِيَّاتِ حَتَّى يُرَوَّعْنَ بِمِثْلِ مَا رُوِّعْنَ فِي المُدَّةِ الأَخِيرَةِ؟ أَهَكَذَا كَانَ الجُدُودُ العَرَبُ يُعَامِلُونَ النِّسَاءَ المُحْصَنَاتِ، أَلاَ نَظْرَةً إِلَى تَارِيخِكُمْ، أَيُّهَا الإِخْوَانُ السُّورِيُّونَ! أَيْنَ الشَّهَامَةُ العَرَبِيَّةُ وَأَيْنَ النِّبَالَةُ التِي تَتَغَنَّوْنَ بِهَا؟ كُنَّا ظَنَّنَا فِي بادِئِ الأَمْرِ أَنْ لَيْسَ لِهَذِهِ المُعَامَلَةِ صِفَةً رَسْمِيَّةً بَلْ هِي مِنْ عِنْدِ أَشْخَاصِ الحُكُومَةِ المَحَلِّيَّةِ مِنْ إِدَرِايَّةٍ وَعَسْكَرِيَّةٍ رَامُوا مِنْ وَرَائِهَا أَنْ يَظْهَرُوا بِمَظْهِرِ الغَيْرَةِ عَلَى وَطَنِهِمْ وَاهِمِينَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يُرْضُونَ رُؤَسَاءَهُمْ؟ فَخَابَ الآنَ ظَنُّنَا بَعْدَ أَنْ رَشَحَ إِلَينَا مِنْ مَصْدَرِ يُوثَقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ هَؤُلاَءِ يَتَلَقَّوْنَ أَوَامِرَ صَرِيحَةً مِنْ عَلِ: مِنْ وِزَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ السُّورِيَّةِ، فَهَالَنَا الأَمْرُ وَجِئْنَا نَسْأَلُ الدَّاخِلِيَّةَ السُّورِيَّةَ بِاسْمِ الدُّسْتُورِ السُّورِيِّ الذِي يَضْمَنُ حَرَّيَّةَ الفِكْرِ وَالقَوْلِ وَالعَقِيدَةِ، لِمَ المُخَالَفَةُ لِلْدُّسْتُورِ؟ لَقَدْ نَادَى رِجَالُ الحُكْمِ فِي سُورِيَّةَ بِأَنْ لَيْسَ فِي سُورِيَّةَ أَكْثَرِيَّةً وَأَقَلِّيَّةً، بَلْ إِنَّ سُورِيَّةَ هِي لِلْسُّورِيِّينَ عَلَى اِخْتِلاَفِ أَدْيَانِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ! فَلِمَ تُكَذَّبُ الأَقْوَالُ بِالأَعْمَالِ وَلِمَ يُسْتَخَفُّ بِنُصُوصِ الدُّسْتُورِ بِدُونِ حَيَاءٍ؟ أَهَذَا هُوَ الوَقْتُ المُوَافِقُ لِمِثْلِ هَذِهِ الأَفْعَالِ الجَائِرَةِ تَنْزِلُ بِقَوْمٍ عُزَّلٍ وَبِعَذَارَى وَدِيعَاتٍ؟ بِمِثْلِ هَذَا التَّصَرُّفِ تُجْمَعُ القُلُوبُ وَيُنْشَدُ الإِخَاءُ؟ إِنَّنَا عَالِمُونَ بِالنِّيَّاتِ المُبَيِّتَةِ. وَالوَقَائِعُ شَاهِدَةٌ. فَهُنَاكَ ضَغْطٌ وَتَهْدِيدٌ وَإِغْرَاءٌ لِحَمْلِ بَعْضِ العَلَوِيِّينَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا مُعْتَقَدَهُمْ ... وَسَنَعْنِي فِي أَجْزَائِنَا الآتِيَةِ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ لِتَّطَلُّعِ القُرَّاءِ عَلَى الطَّرِيقَةِ التِي يَسْتَخْدِمُهَا أَرْبَابُ الحُكْمِ السُّورِيُّونَ فِي تَطْبِيقِ دُسْتُورِهِمْ وَنُنَبِّهَ الرَّأْيَ العَامَّ إِلَى الكَذِبِ السِّيَاسِيِّ الذِي يُمَوِّهُونَ بِهِ عَلَيْهِ. لَقَدْ رُوجِعَتْ الحُكُومَةُ المَحَلِّيَّةُ فِي بِلاَدِ العَلَوِيِّينَ وَرُوجِعَتْ وِزَارَةُ الدَّاخِلِيَّةِ بِأَمْرِ هَذِهِ الاِعْتِدَاءَاتِ فَكَانَ فِي الأَجْوِبَةِ إِبْهَامٌ، وَكَانَ فِيهَا مُرَاوَغَةٌ وَكَانَ فِيهَا تَنَصُّلٌ مِنَ التَّبِعَاتِ فَجِئْنَا

اليَوْمَ نَسْتَصْرِخُ عَدَالَةَ فَخَامَة السُّورِيَّ الأَوَّلَ شُكْرِي بِكْ القُوتَلِي الذِي نُكِنُّ لَهُ كُلَّ اِحْتِرَامٍ وَتَقْدِيرٍ وَإِجْلاَلٍ. فَمِنْ فَخَامَتِهِ نَنْتَظِرُ أَنْ يَضَعَ حَدًّا لِكُلِّ هَذِهِ الأُمُورِ المُسْتَهْجَنَةِ المُنَافِيَةِ لِلْدُّسْتُورِ وَلِرُوحِ فَخَامَتِهِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ وَالمُنَاقِضَةِ لِمَا عُرِفَ بِهِ وَعَنْهُ مِنْ تَعَشُّقٍ لِلْحُرِّيَّةِ وَحُبٍّ لِرَعَايَاهُ، لِجَمِيعِ رَعَايَاهُ. فَفِي كَلِمَةِ فَخَامَتِهِ الفَصْلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الحُكُومَةِ السُّورِيَّةِ قَبْلَ أَنْ نُقْدِمَ عَلَى مَا عَزَمْنَا عَلَيْهِ مِنْ تِبْيَانٍ وَشَرْحٍ لِكُلِّ مَا لَدَيْنَا مِنْ وَقَائِعَ وَمُسْتَنَدَاتٍ تُثْبِتُ الظُّلْمَ وَالجَوْرَ اللَّذَيْنِ عُومِلَتْ بِهِمَا رِسَالَتُنَا الكَاثُولِيكِيَّةُ فِي بِلاَدِ العَلَوِيِّينَ» (¬1). • • • على أن المعاهدة التي ألغيت في الجمهورية السورية ونسخت قولاً وعملاً لا تزال مع الأسف نافذة في لبنان. وقد سألنا شخصيًا عن ذلك، فإذا وزارة الخارجية اللبنانية تقول بأن المعاهدة موجودة من زمن وأنها صحيحة. فلما أحببنا أن نعرف إذا كانت هذه المعاهدة التبشيرية قد ألغيت في لبنان كما ألغيت في الجمهورية السورية كان الجواب: «لاَ نَعْلَمُ»، مع أننا كنا، يوم سألنا هذا السؤال، على خطوات من المستندات المحفوظة. ¬

_ (¬1) إن هذا العدد من مجلة " الشراع " قد وزع، مع أعداد أخرى من هذه المجلة، على أعضاء الوفود المختلفة إلى المؤتمر الثالث لمنظمة (اليونسكو) الذي انعقد في بيروت 1948. ولقد وزعه مكتب المطبوعات المذكور مع الوثائق الرسمية والدعوات التي كانت توزع يوميًا على الأعضاء.

4 - الحياة القومية والاقتصادية

الفَصْلُ السَّابِعُ: السِّيَاسَةُ طَرِيقُ التَّبْشِيرِ: 4 - الحَيَاةُ القَوْمِيَّةُ وَالاِقْتِصَادِيَّةُ: الدَّعَوَاتُ الإِقْلِيمِيَّةُ وَالصُّهْيُونِيَّةُ: لم يكتف الأجانب بالنزول في الشرق واستغلال خيراته واحتلال مواقعه الحربية وبالتصرف في مناصبه ووظائفه كما تملي عليهم مصالحهم هم وكما يريد هواهم، بل إنهم أرادوا أن يضمنوا مستقبلهم فيه وَأَنْ يَحُولُوا دون كل تنبه ويقظة في المستقبل. ولذلك عزموا على أن يفسدو حياة الشرق القومية والاقتصادية ويفككوا عُرَى وحدته الوطنية ويخمدوا جذوته الروحية حتى يصبح الشرق بين أرجلهم أشلاء لا تستطيع حراكًا. ولقد استعانت الدول الأجنبية على ذلك في الشرق بالرهبان السود (اليسوعيون) وخلق الحركات الشعوبية كالفرعونية والأشورية، ثم باليهود والصهيونية. حَذَارِ اليَسُوعِيِّينَ: إن البلاد الشرقية يجب أن تتبصر وتحذر الآباء اليسوعيين خاصة، فإنهم لا يألون جهدًا في التدخل في السياسة المحلية وحبك المؤامرات (¬1) حتى أن البابا نفسه قد غضب عليهم مرات كثيرة من جراء ما جروه من الفساد وأحدثوه من القلاقل السياسية (¬2). ولقد فطنت الدول الغربية كلها إلى دسائس اليسوعيين ومضارهم فأخرجتهم حكومة البرتغال من بلادها ومن مستعمراتها عام 1757 أيضًا. وكان قد بقي في فرنسا نفر من اليسوعيين ¬

_ (¬1) Enc. Br. xv, 345 c, d (¬2) ibid. 445 f

الحروب والتبشير

باسم رهبان القلب الأقدس، ولكن (نابليون) أخرجهم منها عام 1804. ولما تكاثر اليسوعيون في أوروبا عادت فرنسا فطردتهم عام 1880 وعام 1901. وكذلك عادت إسبانيا أيضًا فطردتهم عام 1820. ثم أخرجتهم نهائيًا عام 1835. وكذلك عادت البرتغال إلى طردهم عام 1834. ولقد قضت روسيا سبع سنوات، من عام 1813 إلى عام 1820، حتى استطاعت إخراجهم من جميع أنحاء بلادها. وكذلك فعلت هولندا وسويسرا وألمانيا في الأعوام 1816 و 1848 و 1872 على التوالي (¬1). ولم يكتف اليسوعيون بإفساد السياسة، بل عملوا على إضعاف الحياة الاقتصادية العامة جَرًّا لمنفعتهم هم، فإن تاجرًا يسوعيًا يدعى (لافالت) (¬2) كان في المارتنيك، من جزائر الهند الغربية، فأفلس على مليونين ونصف مليون من الفرنكات الذهب. وهكذا جر الخراب على بيوت تجارية شهيرة (¬3). فعسى أن يستفيد العرب والمسلمون من هذا الاختبار المر الذي لقيه العالم المسيحي نفسه على أيدي اليسوعيين. الحُرُوبُ وَالتَّبْشِيرُ: والحروب تؤثر في كل شيء تقريبًا، وتؤثر في الأديان أيضًا. ولقد زعم نفر من المبشرين أن الحرب العالمية دلت أنه ما من ديانة تستطيع أن تنقذ العالم إلا النصرانية. إن هذا يوجب على المبشرين النصارى أن يضطلعوا بتبعات عظيمة (¬4). لقد قالوا ذلك فتًا في عضد أهل الشرق وإيحاءً لهم بعنصر النقص، وتزيينًا للمدنية الغربية التي أرادوا أن يخضعوا الشرق بها توصلاً إلى استعماره. على أن هؤلاء مخطئون، فإن الحرب العالمية الأولى قد أعلنت فيما أعلنته اندحار ألمانيا والنمسا وهما دولتان مسيحيتان، وأعلنت نصر اليابان وهي دولة غير مسيحية. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية فأعلنت انهزام ألمانيا وهي مسيحية وانتصار روسيا وهي دولة لا دينية. أضف إلى هذا كله أن الدول المسيحية التي اتفق لها أن انتصرت في الحربين لم تنتصر ¬

_ (¬1) ibid. 445 f (¬2) Lavalette (¬3) Enc. Br. xv, 345 (¬4) Missionary Outlook 51

التعاون بين التبشير والسياسة

بالمبادئ المسيحية التي بشر بها المسيح ليصح لها أن تدعي أن المسيحية عامل من عوامل النصر في الحروب. ومع أن هؤلاء المبشرون يرون أن الإسلام قد تجلى منذ مطلع القرن العشرين قويًا في مظاهر مختلفة، منها انتشاره الواسع في أفريقيا وفي حركة الوحدة الإسلامية قبل الحرب العالمية الأولى، ثم قيام المملكة الحجازية، فإنه قد تبدى لهم ضعيفًا في خيبة الجهاد الذي أعلنه ملوك المسلمين في الحرب العالمية الأولى وفي إلغاء الخلافة في تركيا (¬1). وهكذا نجد أن ثمت اتجاهًا واسعًا في الغرب لتفسير كل شيء على أساس ديني، وَعَلَى أَسَاسٍ دِينِيٍّ مُعَادٍ لِلإِسْلاَمِ، بعيد عن العلم كل البعد، حتى في وضع المبادئ العلمية، أو التي يدعون أنها علمية. التَّعَاوُنُ بَيْنَ التَّبْشِيرِ وَالسِّيَاسَةِ: كانت السياسة الاستعمارية تلجأ إلى كل وسيلة لخدمة مآربها. ولقد استغلت، فيما استغلته، رجال الدين الوطنيين في بلاد الشرق والأجانب الطارئين على الشرق. وقد يكون ثمت دولة علمانية كفرنسا تقاوم الدين والجماعات الدينية في بلادها ثم تشجع هذه الجماعات وتساعدها في الخارج. بعد انتشار الإسلام في الشرق أصبحت الكنائس النصرانية قليلة منثورة كأنها جزر صغار في بحر متسع الأكناف. وكانت هذه الكنائس على قلتها أيضًا متعادية متخاصمة (¬2) لا سبيل إلى تعاونها في حقل من الحقول. حتى إنها كانت تستعمل في صلواتها وفي تخاطبها لغات مختلفة كالعربية والسريانية واليونانية. ومع الأيام بدأ هذا السوء يزداد ثم تبعه انحطاط أخلاقي واقتصادي وعلمي في الكنائس والأديرة على السواء، حتى بعد أن تصرم الربع الأول من القرن التاسع عشر. ففي عام 1821 كان مائة وثمانون قسيسًا أرثوذكسيًا في القدس ليس فيهم سوى عشرة فقط على شيء ما من التثقيف اللاهوتي (الديني) (¬3). وكان أول ما فكر فيه المبشرون إصلاح هذه الكنائس المختلفة من الداخل ليستطيعوا ¬

_ (¬1) ibid. 445 f (¬2) Gairdner 276 (¬3) Richter 63. f

أن يستعينوا بها في آخر الأمر على التبشير بين المسلمين أنفسهم (¬1). من أجل ذلك شعر البروتستانت مثلاً بأن جهودهم يجب أن تنصرف أولاً إلى التبشير بين أتباع الكنائس الشرقية (الأرثوذكسية) (¬2). وعلى هذا نرى أن البروتستانت لما نزلوا سورية ولبنان استمالوا، أول ما استمالوا، نفرًا من الأرثوذكس وخصوصًا من أبناء ضهور الشوير وأبناء الكورة وبعض أبناء فلسطين. إلا أن تعرض البروتستانت للتبشير بين الأرثوذكس خاصة وبين الكاثوليك قليلاً لم يمر بسلام. إن العداوة سرعان ما نشبت بين المبشرين البروتستانت وبين الكنيسة الكاثوليكية التي كانت هي أيضًا تود أن ترد الخراف الضالة إلى حضيرتها (¬3). أضف إلى ذلك أن الكنيسة الأرثوذكسية وقفت من البروتستانت موقف الدفاع عن النفس حينما رأت أتباعها يتهالكون على المنافع الدنيوية التي كان البروتستانت الأمريكيون على الأخص يلوحون بها أمام العيون. وهكذا استحكم الخلاف بين البروتستانت وبين الأرثوذكس والكاثوليك أيضًا (¬4). ولكن سرعان ما تذكرت الدول الأجنبية أنها لم تأت للتبشير حتى تختلف على نتائجه. إنها جاءت للسيطرة السياسية، وما التبشير سوى وسيلة إلى هذه الغاية. فليس من الحكمة إذن أن تنسى غايتها وتتنازع على الوسيلة. وهكذا قال (جسب): «يَجِبُ أَلاَّ يَكُونَ ثَمَّتَ نُعُوتٌ مِثْلَ هَذِهِ: أَمِرِيكِيٌّ، إِنْجْلِيزِيٌّ، اسْكُوتْلَنْدِيٌّ أَوْ أَلْمَانِيٌّ، تُنْعَتُ أَعْمَالُنَا التِي نَقُومُ بِهَا فِي سَبِيلِ (المَسِيحِ). إِنَّ الخَصْمَ المُشْتَرَكَ مُتَّحِدٌ فِي مُقَاوَمَتِنَا ... فَلْيَكُنْ اسْمُنَا (نَصَارَى)» (¬5). وعلى هذا الأساس من التفاهم بدأت الدول الأجنبية تقتسم مناطق النفوذ في الشرق ثم تقذف فيها بمبشريها ليشقوا لها الطرق إلى الاستعمار. لما عقد المبشرون مؤتمر لنكاو (الهند) عام 1911، أخذوا يدرسون الأحوال السياسية في العالم الإسلامي. فلما وجدوا أن هذه الأحوال على شيء من الاضطراب قال أحدهم (زويمر): «إِنَّ الاِنْقِسَامَ السِّياسِيَّ الحَاضِرَ فِي العَالَمِ الإِسْلاَمِيِّ دَليلٌ بالِغٌ عَلَى عَمَلِ يَدِ اللهِ فِي التَّارِيخِ وَاسْتِثَارَةٍ لِلْدِّيَانَةِ المَسِيحِيَّةِ (لِكَيْ تَقُومَ بِعَمَلٍ)، إِذْ أَنَّ ذَلِكَ يُشِيرُ إِلَى كَثْرَةِ الأَبْوَابِ التِي أَصْبَحَتْ مُفَتَّحَةً فِي العَالَمِ الإِسْلاَمِيِّ عَلَى مَصَارِيعِهَا. إِنَّ ثَلاَثَةَ أَرْبَاعِ العَالَمِ الإِسْلاَمِيِّ يَجِبُ أَنْ ¬

_ (¬1) Gairdner 277 (¬2) Richter 66 (¬3) تعيد الذين تركوا الكاثوليكية إلى الكاثوليكية ثانية. (¬4) cf. Richter 67 - 80 (¬5) Jessup 229

تَعْتَبَرَ الآنَ سَهْلَةَ الاِقْتِحَامِ عَلَى الإِرْسَالِيَّاتِ التَّبْشِيرِيَّةِ. إِنَّ فِي الإِمْبْرَاطُورِيَّةِ العُثْمَانِيَّةِ اليَوْمَ وَفِي غَرْبِيِّ شِبْهِ جَزِيرَةِ العَرَبِ وَفِي إِيرَانَ وَالتُّرْكِسْتَانَ وَالأَفْغَانَ وَطَرَابُلْسَ الغَرْبَ وَمَرَّاكُشَ سُدُودًا فِي وَجْهِ التَّبْشِيرِ، وَلَكِنَّ هُنَالِكَ مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ مَلْيُونًا مِنَ المُسْلِمِينَ فِي الهِنْدِ وَجَاوَةَ وَالصِّينَ وَمِصْرَ وَتُونِسَ وَالجَزَائِرَ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيهِمْ التَّبْشِيرُ المَسِيحِيُّ بِشَيْءٍ مِنَ السُّهُولَةِ» (¬1). ولا يخفي المبشرون نياتهم الحقيقية، فقد قال (جسب) (¬2): «مِنَ العِنَايَةِ الإِلَهِيَّةِ العَظِيمَةِ أَنَّ المَطْبَعَةَ الأَمَرِيكِيَّةَ وَالمَدَارِسَ الأَمَرِيكِيَّةَ فِي سُورِيَّةَ كَانَتْ وَسِيلَةً لإِعْدَادِ رِجَالٍ وَنَسَاءَ كِثَارًا لِيَكُونُوا مَوَاطِنِينَ أَمَرِيكِيِّينَ. أَمَّا إِنْجْلِتْرَا التِي كَانَتْ دَائِمًا تُرِيدُ الاِحْتِفَاظَ بِقَنَاةِ السُّوِيسْ لأَنَّهَا طَرِيقَ الإِمْبْرَاطُورِيَّةِ البْرِيطَانِيَّةِ إِلَى الهِنْدِ وَأُسْتْرَالِيَا وَالصِّينِ (¬3) فَقَدْ تَوَسَّلَتْ إِلَى تَثْبِيتِ نُفُوذِهَا بِرِجَالِ الدِّينِ مِنْ قَوْمِهَا. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا عَهِدَتْ إِلَى القِسِّيسِ (رُوبْسُونْ)، وَهُوَ مِنَ الإِرْسَالِيَّةِ المَشْيَخِيَّةِ الإِيرْلَنْدِيَّةِ (¬4)، بِأَنْ يُثَقِّفَ اِبْنَيْ سَعِيدْ بِكْ جُنْبْلاَطْ (أَحَدُ رِجَالِ الإِقْطَاعِ الكبارِ مِنَ الدُّرُوزِ فِي لُبْنَانَ) عَلَى نَفَقَتِهَا، وَعَدَّتْ ذَلِكَ ضَمَانًا لَجَعْلِ الدُّرُوزِ فِي المُسْتَقْبَلِ أَكْثَرَ هُدُوءًا نَحْوَهَا» (¬5). وكانت إيطاليا ترمي إلى بلوغ أغراض سياسية في الشرق فزرعت البلاد بمدارس دينية مع أنها كانت قد صادرت أموال الأديرة في إيطاليا نفسها (¬6). وكذلك فعلت روسيا حتى استطاعت هي أيضًا أن تنفذ إلى الإمبراطورية العثمانية المتداعية الأركان (¬7). على أن أكثر الدول الأوروبية نشاطًا تبشيريًا سياسيًا في سورية ولبنان خاصة كانت فرنسا، فرنسا التي كانت تطرد الرهبان من أرضها ثم تحتضنهم في الخارج ليحققوا لها شهواتها الاستعمارية (¬8). واعتقدت فرنسا أن اللغة هي التي توجه الثقافة، ولذلك أنفقت على مدارسها وعلى المدارس التي تعلم اللغة الفرنسية بسخاء (¬9). ولم يضع اليسوعيون خاصة هذه الفرصة فوضعوا مدارسهم رهن الرعاية لفرنسا. لقد أخذوا على عاتقهم أن يحببوا الانتداب إلى ¬

_ (¬1) cf. Islam and Missions 22 (¬2) Jessup 756 (¬3) ibid 748 (¬4) Irish Presbyterian Mission (¬5) Jessup 267 (¬6) Richter 226 ; Jessup 680 etc (¬7) Richter 226 . f (¬8) ibid 226 (¬9) ibid 25

النفوس وأن يجمعوا السكان المتنابذين على فرنسا بواسطه الدين الكاثوليكي (¬1). واليسوعيون يفاخرون بهذا، فقد قالوا: إن قسمًا كبيرًا من نشر الآراء الممدنة المستمدة من العالم المسيحي والفرنسي يعود الفضل فيه إلى إرساليتهم. وإن فرنسا مدينة لهم بالمكانة التي تمثلها اليوم (أي عام 1931) في سورية (¬2) (ولبنان). لقد اتصل نفوذ فرنسا في سورية بأسوأ أنواع المكائد اليسوعية (¬3). حتى العلم، لقد سخره اليسوعيون في سبيل فرنسا بالباطل وبالحق الذي يراد به الباطل. ويقول اليسوعيون إن مدرسة الهندسة في بيروت الفرنسية قد استمرت في أداء ما أخذته على عاتقها، فإنها استطاعت أن تساهم في رسالة فرنسا الممدنة (¬4). وما يقال عن مدرسة الهندسة يقال عن مدرسة الطب. يقول اليسوعيون إن دارس الطب بالفرنسية يحتاج إلى إتقان اللغة الفرنسية، ثم هو يصف الأدوية الفرنسية ويقرأ الكتب والمجلات الفرنسية ثم يذهب للتخصص في فرنسا (¬5). وكلية الطب والصيدلية الفرنسية مؤسسة يسوعية، ولكنها ليست مؤسسة حرة بمعنى أنها تعتمد في ميزانيتها على دخلها الخاص، بل إن رئيسها وأساتذتها يتناولون راتبًا من حساب وزارة الخارجية الفرنسية (¬6). وبعد هذا كله يستغرب (رشتر) (¬7) «لِمَاذَا كَانَ الأَتْرَاكُ يُسِيئُونَ مُعَامَلَةَ النَّصَارَى إِذَا لَجَأُوا إِلَى الاِسْتِعَانَةِ بِدَوْلَةٍ غَرْبِيَّةٍ». إن الأتراك لم يسيئوا معاملة النصارى. ولكن عاقبوا المتصلين بالدول الأجنبية - كما تفعل كل دولة أخرى - سَوَاءً كان هؤلاء من النصارى أو من المسلمين - وليس أدل على ذلك من أن الأتراك قد شنقوا عام 1916 شبابًا من العرب النصارى والمسلمين على السواء. • • • وفي تموز من عام 1908 أعلنت الحرية العثمانية، وكان إعلان الحرية في تاريخ الإمبراطورية العثمانية يوازي الثورة الفرنسية في تاريخ فرنسا. ومع ذلك فإن المبشرين لم يهتموا بهذا الحادث العظيم إلا بمقدار ما سيخدم غاياتهم التبشيرية ويسهل عليهم النفوذ إلى ¬

_ (¬1) Les Jésuites en Syrie 10 : 36 (¬2) ibid. 6 : 70 (¬3) cf. Jessup 656 (¬4) Les Jésuites en Syrie 4 : 32 (¬5) ibid. 2 : 41 (¬6) ibid. 2 : 31 (¬7) Richter 62

الحركة القومية في الإمبراطورية العثمانية

أرجاء الإمبراطورية. لقد فرحوا على الأخص لأن سورية ولبنان سيفتحان في وجه المبشرين البروتستانت (¬1). الحَرَكَةُ القَوْمِيَّة فِي الإِمْبْرَاطُورِيَّةِ العُثْمَانِيَّةِ: وبعد إعلان الحرية عام 1908 اتسعت الحركة القومية في الإمبراطورية العثمانية. وبما أن الديانة المسيحية كديانة تبشيرية مناقضة للقومية، فإن التبشير لم يرض أن يوقظ الروح القومية ولا أن يخمدها إذا رآها يقظى، ولكنه أراد أن يحولها إلى خدمة أهدافه. كذلك لم يجبن المبشرون أمام الأممية أيضًا، بل أحبوا أن يستغلوها قائلين: «إِنَّ أُبُوَّةَ اللهِ تَشْمَلُ جَمِيعَ الشُّعُوبِ. وَإِنَّ الأُخُوَّةَ تَضُمُّ جَمِيعَ البَشَرِ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الأُمَمِيَّةُ نَصْرَانِيَّةً فَيَجِبُ أَنْ نَنْصُرَهَا. كُلُّ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَطِيعَ المُبَشِّرُونَ أن يُنَصِّرُوا جَمِيعَ الشُّعُوبِ عَلَى السَّوَاءِ» (¬2). وكذلك لما انتهت الحرب العالمية الأولى وأنشئت عصبة الأمم زعم المبشرون أن التبشير يساعد عصبة الأمم ويحقق أهدافها (¬3). ولكن عصبة الأمم ماتت ثم خابت أهدافها. كل هذا يدلنا بوضوح على أن التبشير كان يرمي إلى استعمار الشرق، حتى قال (رشتر): «إِنَّ أَسَاسَ الاِسْتِعْمَارِ مَسِيحِيٌّ». ثم إنه فتح فاه قائلاً: «لَقَدْ مَرَّ زَمَنٌ كَانَ المُلُوكُ المَغُولُ (المُسْلِمُونَ) فِي عَاصِمَتِهِمْ دِلْهِي يَحْكُمُونَ الهِنْدَ مَا بَيْنَ جِبَالِ هِمَلاَيَا إِلَى رَأَّسِ كُورْمُورِينْ .. وَلَكِنْ مُنْذُ زَمَنٍ بَعيدٍ حَتَّى آخِرِ مَهَرَاجَا (سُلْطَانٍ) عُنُقُهُ المُتَكَبِّرَةُ أَمَامَ بَرِيطَانِيَا المَسِيحِيَّةَ» (¬4). والمبشرون لم يتخذوا موقفًا صريحًا من القومية، شأنهم في كل أمر. ولكنهم كانوا يودون أن تبقى الأمور غامضة وعلى شيء من الفوضى حتى يتمكنوا من القيام بالتبشير ثم يربطوا الصابئين إلى مذهبهم إلى عجلة الأمة التي يخدمون أهدافها. فالروم الأرثوذكس مثلاً كانوا يعتقدون أن انتشار البروتستانتية بينهم يضعف وحدتهم ويفقدهم كثيرًا من الشعور القومي الذي يربطهم بأبناء الكنائس الشرقية. ولكن (رشتر) يذكر ثلاثة اعتراضات على هذا الخوف، كلها - إذا نظرنا إليها نظرة فاحصة - خاطئة، ولكنها في الحقيقة موافقة لهوى المبشرين. يقول (رشتر) (¬5): «إِنَّ القَوْمِيَّةَ خَطَرٌ عَلَى الحَيَاةِ ¬

_ (¬1) cf. Richter 78 f. 229 : Islam and Missions 127 - 162 (¬2) cf. Missionary Outlook 3, 5, 7, 39 ff. 43 ff (¬3) ibid 71 ff (¬4) Richter 22 (¬5) ibid 76 - 60

الكَنَسِيَّةِ». ثم يعود فيقول: «إِنَّ البْرُوتِسْتَانْتِيَّةِ لاَ تُعَارِضُ القَوْمِيَّةَ». ثم يذكر أيضًا أن الدولة العثمانية تخاف انتشار الروح القومي بين رعاياها. أما ما يريده (رشتر) فهو أن يَحُلَّ الرُّومَ الأرثوذكس - في هذا المقام - من تضامنهم مع أبناء الكنائس الشرقية الأخرى حتى يجتذبهم هو إلى البروتستانتية. والمبشرون عند البحث في القومية أبعد الناس عن التصريح بما يعرفون من حقائق القومية وصلتها بالدين. لا شك أبدًا في أن الدين عنصر من العناصر التي تتضافر مجتمعة حتى تخلق القومية. إن البروتستانتية جُزْءٌ لا يتجزأ من القومية الهولندية والإنكليزية، بينما الأرثوذكسية جُزْءٌ أصيل في القومية اليونانية والبلغارية. ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن الإسلام كان ولا يزال جُزْءًا أساسيًا في القومية التركية والإيرانية والأفغانية والمصرية والعراقية، بل من ذا الذي يستطيع أن ينكر أن النزاع الداخلي في عدد من بلدان الشرق، وإن كان قوميًا في ظاهره، هو في الحقيقة نزاع بين المثل الدينية العليا. هنالك في لبنان مثلاً تياران عظيمان: تيار يرى أهله أن يقيموا حول لبنان سُدًّا يحول بينهم وبين العالم العربي، على شرط أن يظل تحت السور دهليز يصل بين لبنان وبين الدول الكاثوليكية عامة وفرنسا خاصة. ثم هنالك تيار يرى أصحابه أن هذا السور حول لبنان ليس ضروريًا إذ لا حاجة بهم إليه، وإنما هم محتاجون إلى أن يتوسلوا بكل سبيل لمنع عودة الاستعمار الأجنبي بكل أنواعه إلى لبنان. إن لهذين الشعورين جذورًا كثيرة، بعضها بلا ريب مغروس في العاطفة الدينية الموروثة، بقطع عن اختلاف نظر الأديان إلى القومية وحقيقتها. من أجل ذلك نرى أن تركيا على حق في التضييق على المبشرين، ذلك لأن تعدد المذاهب الدينية المتخاصمة في البلد الواحد يضعف ذلك البلد قوميًا (¬1)، لأنه يشعب فيه المسالك السياسية والقومية. إن النفوذ الفرنسي يسير دائمًا في ركاب التبشير الكاثوليكي، وإن النفوذ الأنكلو - أمريكي يتبع خطى التبشير البروتستانتي. أما النفوذ الروسي فكان يحتمي برجال الدين الأرثوذكس. فعلى الأمم والشعوب التي ترغب في صيانة حقيقتها القومية أو الوطنية أن تحول بين أبنائها وبين المبشرين، سواءً أكان هؤلاء المبشرون رجال دين فحسب أم كانوا في الحقيقة ستارًا يتسلل خلفه الاستعمار. والمبشرون يقاومون القومية لسبب آخر. إن القومية في ظاهرها على الأقل حركة غير دينية (¬2)، فالرجل القومي قليل الاحتفال بالمؤثرات الدينية قليل الانجذاب نحو الأحوال ¬

_ (¬1) cf. Addison 107 (¬2) Milligan 64 f

التبشير والوطنية

المذهبية. فإيمان الشعوب بالحقيقة القومية إذن يصرفها عن إلقاء السمع إلى المبشرين. التَّبْشِيرُ وَالوَطَنِيَّةُ: ولقد خشي المبشرون النهضة الوطنية في مصر لأن القومية المصرية إسلامية في حقيقتها. ويغمط هؤلاء المبشرون مصر والمصريين حقوقهم ويخالفون الواقع بقولهم: إن الوطنية المصرية قد نشأت لأن الإنجليز كانوا يحابون المسلمين في معاملتهم فأشعل ذلك حب الاستقلال في صدورهم (¬1). وإن أيسر نظرة في التاريخ تدل على أن الإنجليز لم يعاملوا المسلمين في مصر معاملة تتفق مع كرامة الشعوب، حتى قال حافظ إبراهيم عن ذلك في مصر: إِذَا شِئْتَ أَنْ تَلْقَى السَّعَادَةَ بَيْنَهُمْ • ... • ... • فَلاَ تَكُ مِصْرِيًّا وَلاَ تَكُ مُسْلِمَا فاليوناني والأرمني واليهودي الغرباء كانوا يتمتعون في مصر بأعظم مما يتمتع به المصري المسلم. وأما أن الوطنية المصرية نتاج محاسنة الإنجليز للمصريين فخلاف أيضًا للواقع. ولقد أجفل المبشرون لما سمعوا النداء الوطني «مِصْرُ لِلْمِصْرِيِّينَ»، فقالوا: إن هذا يعني: «مِصْرُ لِلْمُسْلِمِينَ». ولذلك رجا المبشر (صموئيل زويمر) في ذلك الحين من بريطانيا «أَنْ تُبَدِّلَ سِيَاسَتَهَا تَبْدِيلاً أَسَاسِيًّا فِي وَقْتٍ قَرِيبٍ وَأَنْ تُعْلِنَ حِيَادًا تَامًّا يُشْعِرُ مِصْرَ بِقُوَّةِ بَرِيطَانْيَا وَبِنِعَمِهَا» (¬2). ومعنى ذلك عند (زويمر) بلا ريب «فَتْحُ مِصْرَ لِلْتَّبْشِيرِ بِالقُوَّةِ». ولما خاب المبشرون في وقف تيار القومية الصحيحة عمدوا في كل بلد إلى أقلية غير مسلمة في الأكثر وحاولوا أن يضموا إليها أحيانًا نفرًا بارزًا من المسلمين، كما اتفق لهم في مصر فقط، ليلفقوا لأهل كل قطر مسلم قومية وهمية جديدة. لقد أرادوا أن يبعثوا «الفِرْعَوْنِيَّةَ» من خلال حجارة الأهرام في مصر، و «الفِينِيقِيَّةَ» من خرائب الساحل الممتد من يافا إلى اللاذقية على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. ثم إنهم لفقوا في العراق دعوة أشورية لم يكتب لها أن تولد حية (¬3). إن كل ما أراده المبشر (جسب) هو أن تولد «فِينِيقِيَّةٌ» جديدة تكون فيها النصرانية أوسع انتشارًا. ولقد أكد (جسب) «أَنَّ المَدَارِسَ التَّبْشِيرِيَّةَ وَالصَّحَافَةَ شِبْهِ التَّبْشِيرِيَّةَ وَالكَنِيسَةَ سَتَتَضَافَرُ ¬

_ (¬1) Islam and Missions 25 (¬2) ibid 25 f (¬3) راجع ص 193 وما بعدها.

كُلُّهَا عَلَى تَحْقِيقِ هَذَا الهَدَفِ» (¬1). ولكن الفينيقية لم تستطع أن ترى النور في سورية. وإذا كانت قد غذيت في لبنان طول عهد الانتداب، فإنها ماتت على عتبة الاستقلال اللبناني. هذا مع العلم بأن جماعة من اللبنانيين ما يزالون يتغنون بها. ولا أحب أن أتوسع في تاريخ «الحَرَكَةِ الفِرْعَوْنِيَّةَ» في مصر لأنها تختلف في أساسها عن الحركة الفينيقية في لبنان في عهد الانتداب. أما «الحَرَكَةُ الأَشُورِيَّةُ» في العراق فقد كانت أقل المحاولات القومية المفرقة حَظًّا من النجاح. ولقد قضي عليها وعلى أتباعها في معركة واحدة كما مر معنا من قبل في هذا الفصل من هذا الكتاب. وأما الحركة البربرية في المغرب فلم يستجب لها أحد من أهل البلاد، بل بقيت غُصَّةً فِي حُلُوقِ المُبَشِّرِينَ وَالمُسْتَعْمِرِينَ إذ قاومها أهل تونس وأهل الجزائر وأهل مراكش بلا استثناء. ولما لم تنتصر هذه الدعوات الإقليمية الضيقة وقع الاستعمار على فكرة العروبة وألبسها ثوبًا جديدًا. لقد أريد من «العُرُوبَةِ» أن تكون رابطة قومية مناقضة لِـ «الإِسْلاَمِ»: سياسة العروبة لا صلة لها بالإسلام، والمسلمون من غير العرب لا صلة لهم بالعروبة. ومما يؤسف له أن نفرًا من الشبان العرب قد اعتنقوا فكرة العروبة المجردة من الإسلام، ثم أخذوا وهم يدعون للعروبة يقاومون الحركات الإسلامية. ¬

_ (¬1) Jessup 597

الفصل الثامن: التبشير والحركات القومية

الفَصْلُ الثَّامِنُ: التَّبْشِيرُ وَالحَرَكَاتُ القَوْمِيَّةُ: التَّبْشِيرُ وَالحَرَكَاتُ القَوْمِيَّةُ: جميع الحركات القومية التي قامت في البلاد العربية اتسمت في أول أمرها بميل بارز إلى التسامح الديني. ثم إن هذا التسامح بدأ يتطور حتى انتهى في أيامنا هذه ميلاً ظاهرًا عن الدين، ثم ظهر بوضوح أن هذه الحركات القومية ترمي إلى إضعاف الشعور الإسلامي خاصة بين البلاد الإسلامية، وإلى قصر الصلات بين بلادنا على العنصر القومي وحده. فالصلة بين سورية ولبنان ومصر والجزائر ومراكش تقوم، في رأي الأحزاب العربية القومية، على «العُرُوبَةِ» أو على اللغة العربية وعلى شيء من التاريخ العربي مُجَرَّدًا من كل صلة له بالإسلام. أما تركيا وإيران وباكستان وأندونيسيا فهي عندهم كالأرجنتين والمكسيك وهنغاريا والدنمارك وفرنسا سواءً بسواءٍ. وبعض الأحزاب القومية أو الوطنية كالحزب القومي السوري وحزب الكتائب اللبنانية تنظر إلى اليمن ومصر وتونس كما تنظر إلى أسوج والنرويج وفنلندا. أما البرازيل والولايات المتحدة وفرنسا نفسها فهي أقرب إلى هذين الحزبين من اليمن وطرابلس الغرب لكثرة المهاجرين واتساع المصالح التي تستعمرها فرنسا، بينما هذه الصلات مع اليمن وطرابلس الغرب قليلة وضعيفة جِدًّا. لقد كان نفر من أركان الأحزاب القومية، ومن أتباع تلك الأحزاب، يعلنون أنهم لا يقفون من الإسلام موقفًا غير ودي حتى كان مهرجان الجزائر في بيروت في مساء السابع من أيار عام 1956، في باحة كلية المقاصد الإسلامية في الحرج، فإذا سلوك النظارة من أتباع الأحزاب القومية لم يكن وديًا تجاه الإسلام قط. بدأ المهرجان بكلمة للدكتور (جورج طعمة)، من أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت، فكانت كلمة طيبة في جهاد «الجَزَائِرِ

العَرَبِيَّةِ» وفي فظائع الفرنسيين في الجزائر. ولقد كان من المعقول، ومن المنتظر أيضًا، أن يؤكد الدكتور (جورج طعمة) جانب العروبة من الجزائر لأن الجزائر قطر عربي ولأنه هو مستشار للنادي العربي في بيروت. ومع ذلك فإن جماعة من المنتمين إلى حزب البعث العربي الاشتراكي قد أفسدوا عليه كلامه بهتافهم المتوصل «الجَزَائِرُ عَرَبِيَّةٌ»، «جِهَادُ الجَزَائِرِ جِهَادُ العَرَبِ»، مما لفت انتباه السامعين إلى هؤلاء الهاتفين - وقد جاءوا إلى المهرجان وهم عارفون بالتيارات المختلفة في هذا البلد ومعدون للأمر عدته - يريدون أن يوجهوا الأنظار إلى الجانب العربي في قضية الجزائر وأن يلفتوا الأفكار عن الجانب الديني الإسلامي. ولقد ظن هؤلاء أن هتافهم هذا يتفق مع الخطاب الذي كان يُلْقَى. وازاداد هتافهم حتى كاد يحدث بلبلة، أو هو أحدث البلبلة فعلاً، حتى أن عددًا من القوميين العرب - وهم غير البعثيين ومن الذين يخالفون البعثيين في بعض آرائهم - قد طلبوا من هؤلاء الهاتفين أن يهدأوا، فقد كان القوميون العرب هم المشرفين على المهرجان عمليًا. وبلغت الحدة في أحد القوميين العرب مبلغًا حمله على أن يصعد إلى المنبر وأن يخاطب الهاتفين بلهجة جافية ويخيرهم بين أن يسكتوا وبين أن يغادروا المكان. وكذلك توقف الدكتور (جورج طعمة) مرات ليرجو الهاتفين، تلميحًا وتصريحًا، ويطلب إليهم أن يسكتوا قليلاً حتى يتمكن من متابعة كلامه فلم يوفق. وتكلم بعد الدكتور (جورج طعمة) الأستاذ (عمر الحكيم)، أحد أساتذة الجغرافية في كلية الآداب من الجامعة السورية بدمشق. والأستاذ (عمر الحكيم) يعرف الجزائر، وقد كان فيها في الثامن من أيار عام 1945 وشاهد بأم عينه جانبًا من المذابح البربرية التي قام بها الفرنسيون في ذلك اليوم. ومن أجل تلك المذابح في ذلك اليوم جُعِلَ «الثَّامِنُ مِنْ أَيَّارْ» من كل عام يومًا للجزائر تقام فيه الاجتماعات للكلام على فظائع الفرنسيين في تلك البقعة من وطننا وعلى تطور اليقظة فيها وعلى جهادها وبطولتها. ثم إن الأستاذ (عمر الحكيم) يدرس جغرافية المغرب (شمال أفريقيا) في الجامعة السورية. ولقد كان من المنتظر، ومن المعقول أيضًا، أن يتكلم (عمر الحكيم) عن الجزائر العربية المسلمة، فالجزائر بلاد عربية وإسلامية في وقت واحد. ثم إنه هو شاب مسلم. وتكلم (عمر الحكيم) فملك الموقف بروحه الوثابة وبعلمه الغزير وبإحاطته بالموضوع الذي يعالجه. ولكن الحمية القومية عادت إلى الهاتفين فاستأنفوا هتافهم للجزائر العربية يتتبعون به كلامه عن الجزائر العربية المسلمة. وأدرك (عمر الحكيم)، كما أدركنا نحن، ما يقصد أولئك الهاتفون، فكان، كلما هتفوا هتافهم ذلك عاد هو في كلامه فأكد الجانب الإسلامي من

جهاد الجزائر حتى انتهى مما يريد قوله. هذه الهتافات كشفت لنا في تلك الليلة عن ناحية خطيرة من الحياة الحزبية في بلادنا. إن الذين يذهبون مذهب القومية في الحياة السياسية من العرب يسقطون الدين من حسابهم كثيرًا أو قليلاً. إن بعض القوميين لا يرون في الدين مقومًا من مقومات الحياة السياسية، بينما بعضهم الآخر يخاصمون الدين مخاصمة شديدة. والمقصود بالدين هنا الإسلام. وحجة هؤلاء القوميين أن البلاد العربية تضم مذاهب وأديانًا مختلفة، ففيها مسلمون ونصارى ويهود. من أجل ذلك يقتضي للتعايش السياسي في البلاد العربية ألا يكون العنصر الديني في الحياة العامة بارزًا. على أن هذا شيء ونصب العداء للإسلام شيء آخر. وكذلك الدعوة القومية شيء، بينما الإنكار على غير القوميين أن يكون لهم رأي في الأمور العامة شيء آخر أيضًا. هذا من الناحية النظرية. أما من الناحية العملية فإن العنصر الديني في جهاد الجزائر الحالي بارز جِدًّا. ولقد أعلن (غي موليه)، رئيس الوزارة الفرنسية، بأن الحركة الإسلامية التي تتسع في أفريقيا هي التي تهدد الإمبراطورية الفرنسية في المغرب. وكذلك أعلن (جورج بيدو) - الذي سبق له أن تولى وزارة الخارجية الفرنسية: «أَنَّهُ لَنْ يَتْرُكَ الهِلاَلَ يَتَغَلَّبَ عَلَى الصَّلِيبِ» (¬1). ويقول الكاتبان (كوليت) و (فرانسيس جانسون): «إِنَّ الحَرْبَ الحَاضِرَةَ فِي الجَزَائِرِ لَيْسَتْ حَرْبًا دِينِيَّةً أَوْ جِنْسِيَّةً أَوْ حَضَارِيَّةً، وَلَكِنَّهَا حَرْبُ مَجْمُوعِ مَظْلُومِ يُرِيدُ أَنْ يَتَحَرَّرَ مِنْ رِبْقَةِ مَجْمُوعٍ ظالِمٍ. إلاَّ أَنَّ الإِسْلاَمَ عُنْصُرٌ فَعَّالٌ فِي دَفْعِ الجَزَائِرِيِّينَ إِلَى طِلَبِ هَذَا التَّحَرُّرِ ... لَقَدْ أَيْقَنَ الجَزَائِرِيُّونَ مُنْذُ الأَيَّامِ الأُولَى لِلاِحْتِلاَلِ أَنَّ هَدَفَ الفِرَنْسِيِّينَ كَانَ القَضَاءُ عَلَى الإِسْلاَمِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَدْرَكُوا جَمِيعًا أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَصِمُوا بِالإِسْلاَمِ حَتَّى يَقْدِرُوا عَلَى التَّحَرُّرِ. وَالوَاقِعُ أَنَّ الاِحْتِلاَلَ (الفِرَنْسِيَّ لِلْجَزَائِرِ) كَانَ مُنْذُ البَدْءِ يَحْمِلُ هَذَا المَعْنَى مِنَ (الحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةَ)» (¬2). لا نرى بعد هذا أن نمضي في الاستشهاد او الاستنتاج للدلالة على أن الفرنسيين يحاربون الجزائريين كمسلمين في الدرجة الأولى. ولكن هذا لا يمنع أحدًا من قبول الجهود التي يبذلها القوميون في نصرة الجزائر ومن شكرهم عليها. ¬

_ (¬1) L'Algérie hors de loi 267 - 268 (¬2) ibid, 269

التبشير يتعاون مع الصهيونية

التَّبْشِيرُ يَتَعَاوَنُ مَعَ الصُّهْيُونِيَّةِ: واستغل المبشرون الصهيونية لأنهم كانوا يتفقون معها في عدائهم للعرب والمسلمين. ولم يصر المبشرون على إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين إلا لأن إنشاؤه يضعف العرب إضعافًا شديدًا ويفتح أبواب فلسطين العربية أمام التبشير، وإلا لأن فلسطين إحدى نقاط الهجوم على العالم العربي الإسلامي. والقوة اليهودية قوة هدامة عظيمة خافتها الإمبراطوريات القديمة فأرادت القضاء عليها. وليس من ضرورة هنا لبسط موقف تلك الإمبراطوريات القديمة من اليهود. إن كل قارئ عام يعرف ما كان شأن المصريين والأشوريين والكلدانيين واليونان والرومان وشأن اليهود. أما اليوم فإن الاتحاد السوفياتي قد أخذ يحاول القضاء على الحركة اليهودية في مناطق نفوذه لارتكابهم أعمالاً هدامة ولقيامهم بالخيانات والتجسس (¬1) وإنها بؤرة للفساد (¬2). بعد أن تشرد اليهود على أيدي الرومان تفرقوا في الأرض فنزل قسم منهم في بلاد العرب، في اليمن وفي الحجاز حول يثرب. وعند يثرب أنشأوا لهم قرية زراعية اسمها خيبر. فلما جاء الإسلام كان هؤلاء مصدر إقلاق كبير للإسلام والمسلمين: كان منهم المنافقون الذين يدعون أنهم مسلمون ثم يكونون عيونًا وجواسيس للمشركين. وكان منهم المتجسسون الذين كانوا يعقدون الحلف تلو الحلف مع رسول الله ثم يحملون أخباره إلى أعدائه وينتهزون الفرص للوثوب على الإسلام والمسلمين. وكذلك كان منهم المتآمرون الذين يجمعون أعداء الإسلام ويحثونهم على مقاتلة المسلمين. وكذلك كان منهم المتآمرون الذين يجمعون أعداء الإسلام ويحثونهم على مقاتلة المسلمين ثم يمولونهم بالأموال والسلاح. وهكذا ضاق محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باليهود ذَرْعًا ونظم غزوات على الأماكن التي يسكنونها فاستطاع أن يخضعهم ويضعف مقاومتهم. ونظر كثير من المستشرقين بشهواتهم وعصيانها وجهلهم أحيانًا إلى تلك الغزوات، فكانوا يقولون بأن محمدًا عامل اليهود معاملة خشنة قاسية (¬3).على أن هذه المعاملة لم تكن ظالمة ولا كانت، مع عدالتها، شديدة كمعاملة المصريين والأشوريين والرومان مثلاً، ولا كمعاملة اليهود أنفسهم لسائر الشعوب إذا وجدوا إليها سبيلاً. وما أمر فلسطين منا ببعيد! ¬

_ (¬1) راجع ما نشر في الصحف منذ أواخر عام 1952 وما بعده. (¬2) راجع ما نشر في الصحف 25 - 641 وما بعد. (¬3) Wismar 60 cf. 51 - 61

ولا ريب في أن محمدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقاتل اليهود لأنهم يهود. إن هذا بَيِّنٌ من " القرآن الكريم "، فإن " القرآن الكريم " عَدَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أهل كتاب سماوي فلم يحملهم على اعتناق الإسلام (¬1) ولم ينقصهم حظهم من الإيمان ولا من نعم الله. قال " القرآن الكريم ": {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47 و 122]. وكذلك ذكر " القرآن الكريم " الأمم التي هي أهل كتاب سماوي بالرحمة والفوز في الآخرة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬2). وإنما قاتل محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهود لأنهم كانوا يخونونه كلما عاهدوه، وهذا أيضًا من " القرآن الكريم ": - {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 100]. - {الَّذِينَ عَاهَدْتَ (*) مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} الأنفال: 56]. - {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ (أي المنافقين واليهود) لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ (**) يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]. وتوفي الرسول (سنة 11 هـ = عام 632 م) واليهود كلهم لا يزالون في الحجاز مطمئنين إلى أموالهم وأرضهم وعقيدتهم. فلما جاء عمر بن الخطاب (سنة 13 هـ = عام 634 م) أدرك أن الدولة الإسلامية لا يمكن أن ترسخ في شبه جزيرة العرب ما دام اليهود فيها يثيرون أهلها على الدولة ويفقرونها بالربا الفاحش فأمر بإخراجهم. ولكن عمر لم ينتزع أموال اليهود بل ثمنها ثم دفع لهم نصف أثمانها، فهاجروا إلى سورية (¬3). أما في سورية فكان اليهود يَلْقَوْنَ من الدولة البيزنطية اضطهادًا بالغًا. فلما أخذ العرب بفتح الشام (سورية) جعل اليهود يرحبون بهم استبشارًا بالنجاة من نير بيزنطة (¬4). إن العرب والمسلمين لم يضطهدوا اليهود لأنهم يهود، بل لم يضطهدوهم في أول الأمر على الإطلاق. ولكن لما كثر اعتداء اليهود على العرب والمسلمين سِرًّا وعلانية لم يبق بُدٌّ من دفع هذا الاعتداء، ولقد دفعه العرب بالحسنى أيضًا وبالحق. أما الذين يعرفون تاريخ ¬

_ (¬1) [البقرة: 47 و 122]. (¬2) [البقرة: 62]. (¬3) cf. Wismar 98 (¬4) ibid 82 [تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]: (*) ورد في الكتاب المطبوع خطأ في الآية (الذين عاهدوا منهم) والصواب ما أثبته. (**) ورد في الكتاب المطبوع خطأ في الآية (نحن نعلمهم) والصواب ما أثبته.

اليهود السري في أوروبا وأمريكا، ثم شهدوا اليهود في فلسطين فإنهم يعلمون ما يكن اليهود للعالم من الحقد وما يضمرونه له من إثارة القلاقل والإفقار وإضاعة الأخلاق. • • • ومنذ قرن ونصف قرن فكر المبشرون باستغلال اليهود لنشر النصرانية بينهم ولمقاومة العرب والمسلمين بهم. ففي عام 1809 أسس الإنجليز الجمعية اللندنية لنشر النصرانية بين اليهود، ولقد كانت آمالهم عند تأسيسها عظيمة جِدًّا، كانوا يرون أن العمل يجب أن يبدأ بأن يساق اليهود المتفرقون في الأرض إلى فلسطين. وهكذا بدأوا يشجعون اليهود على الهجرة، وعزموا على أن يبدأ التبشير بينهم بعد ذلك مباشرة. وظن المبشرون أن الفرصة سانحة لتحقيق هذا الهدف حينما أرسل الخديوي المصري الثائر (¬1) محمد علي ابنه إلى الشام (سورية) واستولى على فلسطين، ذلك لأن موقف محمد علي من الإرساليات التبشيرية كان موقف صداقة وتسامح. وهكذا انتهز المبشرون هذه الفرصة السانحة ووضعوا أساس ما دعوه «كَنِيسَةَ صُهْيُونْ» أول كنيسة بروتستانتية في الإمبراطورية العثمانية. ولكن فأل المبشرين قد خاب، فإن محمد علي انسحب عام 1840 من الشام، فعاد الأتراك إلى موقفهم الشديد الأول من الإرساليات التبشيرية (¬2). على أن المبشرين حاولوا مرة ثانية أن يستغلوا القضية اليهودية في سبيل أهدافهم الدينية: فقد أسس الملك (فريدرك ولهلم) ملك بروسية (1840 - 1861) الأسقفية الإنجليز - البروسية في القدس لتكون مركزًا بروتستانتيًا لإصلاح الكنائس الشرقية عامة ولتنصير اليهود خاصة (¬3). إن المبشرين كانوا جِدُّ مُقْتَنِعِينَ بأن جمع اليهود في فلسطين يسهل لهم مهمتهم في الوصول إلى المسلمين. من أجل ذلك أرادوا أن يفتحوا أبواب فلسطين على مصاريعها لهجرة اليهود (¬4). فليس من المستغرب إذن أن نجد سبعًا وعشرين جمعية تبشيرية مختلفة الجنسيات كانت تعمل بلا ملل في فلسطين (¬5). وهكذا نجد عوامل دينية مختلفة كانت ترمي إلى استعمار فلسطين توصلاً إلى أهداف ¬

_ (¬1) التعبير لصاحب النص الذي نستشهد به. (¬2) Richter 263 (¬3) ibid 237 (¬4) Christian Mission 188 (¬5) Richter 238

خاصة: كانت البابوية والبروتستانتية والصهيونية تتنافس فيما بينها في فلسطين، وكان (روتشيلد) المتمول اليهودي يساعدهم جميعًا (¬1). ومع أن هذه الحركات كانت دينية في ظاهرها فإنها كانت سياسية في حقيقتها: كانت الدول الأجنبية تريد تحطيم الإمبراطورية العثمانية حتى تستيطيع بسط نفوذها على بلاد الشرق. ولقد لجأت الدول الأوروبية إلى استغلال الأقليات الطائفية في الإمبراطورية العثمانية كالأقلية اليهودية على الأخص. ثم دفعت الأقلية الأرمنية للثورة على العثمانيين مِرَارًا، لإضعاف الإدارة العثمانية في البلاد العربية (¬2). من هذه السبيل كان الأوروبيون يأملون أن ينفذوا بمشاريعهم الاستعمارية إلى العرب والمسلمين. ويبدو بوضوح من مراجع مختلفة أن الأوروبيين لم يكونوا يريدون إنشاء دولة يهودية على النحو الذي حدث الآن، ذلك لأنهم لم يكونوا يريدون أَنْ يُهَوِّدُوا فلسطين، بل كانت غايتهم الأولى أن يتخذوا اليهود فَزَّاعَةً (للعرب). وأما موافقة الدول الأوروبية على جمع اليهود في فلسطين فلا يجب أَنْ يُفْهَمَ إلا على أن هذه الدول الأوروبية قد أرادت التخلص من يهود أوروبا (¬3). هذا الرأي الذي مر عليه إلى الآن نحو خمسين عامًا أو يزيد (¬4). لا يزال وجيهًا عند الدول الأوروبية بوجهيه: للتخلص من اليهود في أوروبا خاصة ثم لتحطيم وحدة الشرق بوضع عدو للعرب والمسلمين في أقدس بقعة لهم على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. هذا مع العلم بأن اليهود سيثيرون للعرب وللمسلمين من مركزهم القوي الجديد قلاقل سياسية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية يتمكن بها الأوروبيون من التدخل في كل حين بين الخصمين للسيطرة عليهما جميعًا. وهكذا رأينا بأم أعيننا أن الدول الغربية كانت ترى من مصلحتها الاستعمارية أن تتساهل مع اليهود في فلسطين إلى الحد الذي وصلت إليه معهم في عام 1948. وعلى مثل هذا سار المبشرون أيضًا منذ احتلال الإنجليز لفلسطين. ذكر (ويلسن كاش) (¬5) «أَنَّ فِي القُدْسِ مَدْرَسَتَيْنِ عَالِيَتَيْنِ تُدِيرُهُمَا ثَلاَثُ إِرْسَالِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، إِدَارَةٌ مُشْتَرَكَةٌ: مَدْرَسَةُ البَنَاتِ العَالِيَةِ ثُمَّ الكُلِّيَّةُ الإِنْجْلِيزِيَّةُ. إِنَّ اليَهُودَ وَالعَرَبَ (¬6) وَالنَّصَارَى يَلْعَبُونَ فِي مَلاَعِبِ هَذِهِ المَدَارِسِ لُعْبَةَ كُرَةِ القَدَمِ وَيُبْدُونَ فِي اللَّعِبِ مِنْ ضُرُوبِ التَّعَاوُنِ مَا ¬

_ (¬1) Jessup 657 (¬2) Bury 118 - 120 (¬3) Richter 231 (¬4) طبع (رشتر) كتابه الذي استشهدنا به آنفًا عام 1910. (¬5) Cash 149 (¬6) يقصد المؤلف: المسلمين.

يُسَاعِدُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لَهُمْ نَظْرَةً جَدِيدَةً إِلَى مَشَاكِلِهِمْ القَوْمِيَّةِ الحَاضِرَةِ». إن القارئ ليجد في هذا القول قرينة ظاهرة تدل على أن مدارس التبشير كانت تعمل على أن تهيئ الطلاب العرب من المسلمين والنصارى في فلسطين ليقبلوا بنزول اليهود في الأراضي المقدسة. ولعلهم لم يفعلوا ذلك حُبًّا باليهود، بل إضعافًا لنفوذ المسلمين في هذه البقعة المقدسة من الأرض، وتوصلاً إلى زيادة نفوذهم في الشرق من هذا السبيل. ويظهر أن الألعاب الرياضية كانت تخدم قضية المبشرين وتخدم الصهيونية في فلسطين خدمة عظيمة، حتى اندفعت مدارس التبشير تُؤَلِّهُ الرُّوحَ الرِّيَاضِيَّةَ وتشجع التسامح في ميادينها إلى أبعد الحدود، تسامحًا كان يراد منه قتل الشعور القومي الثمين من طريق التسلية. قال (ولبرت سميث) (¬1): «إِنَّ الأَلْعَابَ تُبَرْهِنُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَحْسَنِ الوَسَائِلِ لِتَقْريبِ وَجْهَاتِ النَّظَرِ بَيْنَ المُخْتَلِفِينَ، بَلْ بَيْنَ المُتَعَادِينَ. لَمَّا أُعْلَنَ العَرَبُ إِضْرَابَهُمْ العَامَّ فِي القُدْسِ عَامَ 1929 (احْتِجَاجًا عَلَى مُمَالَئَةِ الإِنْجْلِيزِ لِلْيَهُودِ) قَامَتْ جَمْعِيَّةُ الشُّبَّانِ المَسِيحِيَّةِ بِحَفْلَةٍ تَخْدِمُ بِهَا التَّعَاوُنَ الوَدِّيَّ بَيْنَ العَرَبِ وَاليَهُودِ فَأَقَامَتْ مُبَارَاةً فِي لُعْبَةِ التِّنِّسِ كَانَ اللاَّعِبُونَ فِيهَا مُسْلِمِينَ وَيَهُودًا. وَكَانَ الحُضُورُ لَفِيفًا مِنْ جَمَاعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِيهِمْ الفِلَسْطِينِيُّونَ وَالإِنْجْلِيزَ وَالأَمَرِيكِيُّونَ وَالأَلْمَانَ. وَسَادَتْ الرُّوحُ الرِّياضِيَّةُ، فَكَانَ اليَهُودُ يُحَيُّونَ كُلَّ نَجَاحٍ يُصِيبُهُ اللاَّعِبُونَ العَرَبَ، وَكَانَ العَرَبُ يَرُدُّونَ التَّحِيَّةَ لِلاَّعِبِينَ اليَهُودَ إذَا أَصَابُوا نَجَاحًا. وَتَبِعَ المُبَارَاةَ حَفْلَةُ شَايٍ حَضَرَهَا نَحْوُ خَمْسِينَ مِنَ الْفِلَسْطِينِيِّينَ وَالإِنْجْلِيزَ وَالصِّهْيُونِيِّينَ نَعَمُوا سَاعَةً بِكَرَمِ مُضَيِّفِيِهِمْ النَّصَارَى». هكذا نجد دائمًا بوضوح أن المبشرين وأشياعهم ليسوا خطرًا على الاطمئنان الديني في الإسلام، بل هم خطر على الحياة القومية في الشرق العربي أيضًا. • • • ولم تكن الإرساليات التبشيرية وحدها صديقة لليهود في سبيل تحقيق أهدافها الدينية، بل إن بريطانيا، الدولة المنتدبة على فلسطين، كانت صديقة لليهود (¬2) في سبيل تحقيق أغراضها الاستعمارية. ومما يدلنا على ذلك، بعد الأدلة التي لمسناها في خمسة وأربعين عامًا منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، أن إنجلترا أعلنت الوطن القومي لليهود في فلسطين قبل استيلائها على فلسطين، وأن المندوب السامي البريطاني الأول في فلسطين، السير ¬

_ (¬1) MW. Apr. 1933, p. 153 (¬2) MW. Oc. 1935, 354, f

(هربرت صموئيل)، كان يهوديًا. وكان تأسيس الدولة اليهودية أمرًا مقررًا عند المبشرين، فقد كتب المبشر (جون فان أس) (¬1) يذكر في عام 1943 «إسرائيلية» ويعلن حدودها فيقول بأنها الدولة التي ستؤلف من معظم أراضي اليهودية (الجليل) جنوبًا إلى خليج العقبة، ثم «أردنية» ويجعلها القسم العربي من فلسطين مع شرق الأردن الحالية. هذا يدلنا دلالة واضحة على أن أخبار هذه التقسيمات السياسية كانت في متناول المبشرين، أو أن المبشرين كانوا يحضون عليها في سبيل تسهيل مشاريعهم الدينية. ويتساءل أحدنا: لماذا يفضل المبشرون أن تقوم دولة يهودية في فلسطين، ولماذا هم يخافون العرب ولا يخافون اليهود؟ يرى (لورنس براون) (¬2) - وأكثر المبشرين على رأيه - أن القضية الإسلامية تختلف من القضية اليهودية: أن المسلمين يختلفون من اليهود في دينهم [أنه] دين دعوة. إن الإسلام ينتشر بين النصارى أنفسهم وبين غير النصارى. ثم إن المسلمين كان لهم كفاح طويل في أوروبا فأخضعوها في مناسبات كثيرة. على أن الفرق الأساسي بين المسلمين واليهود، كما يراه المبشرون، هو أن المسلمين لم يكونوا يومًا ما أقلية مَوْطُوءَةً بالأقدام. ثم يقولون: إننا إذا نظرنا إلى العالم لم نر مكانًا يمكن أن يصبح المسلمون فيه أقلية مثل هذه إلا فلسطين والهند. من أجل ذلك نرى المبشرين ينصرون اليهود على المسلمين في فلسطين. ثم يعلن (لورنس براون) رأيه الخاص فيقول: «لَقَدْ كُنَّا نُخَوِّفُ بِشُعُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَكِنَّنَا بَعْدَ الاِختبَارِ لَمْ نَجِدْ مُبَرِّرًا لَمِثْلِ هَذَا الخَوْفِ. لَقَدْ كَنَّا نُخَوِّفُ مِنْ قَبْلُ بِالخَطَرِ اليَهُودِيِّ وَالخَطَرِ الأَصْفَرِ (بِاليَابَاْن وَتَزَعُّمِهَا عَلَى الصِّينِ) وَبِالْخَطَرِ البُلْشِفِيِّ. إِلاَّ أَنَّ هَذَا التَّخْوِيفَ كُلَّهُ لَمْ يتَّفِقْ (لَمْ نَجِدْهُ، لَمْ يَتَحَقَّقْ) كَمَا تَخَيَّلْنَاهُ. إِنَّنَا وَجَدْنَا اليَهُودَ أَصْدِقَاءَ لَنَا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ كُلَّ مُضْطَهِدٍ لَهُمْ عَدُوَّنَا الأَلَدَّ. ثُمَّ رَأَّيْنَا أَنَّ البَلاَشِفَةَ حُلَفَاءَ لَنَا (¬3). أَمَّا الشُّعُوبُ الصُّفْرُ فَإِنَّ هُنَالِكَ دُولاً دِيمُقْراطِيَّةً كَبِيرَةً تَتَكَفَّلُ بِمُقَاوَمَتِهَا ... وَلَكِنَّ الخَطَرَ الحَقِيقِيَّ كَامِنٌ فِي نظامِ الإِسْلاَمِ وَفِي قُدْرَتِهِ عَلَى التَّوَسُّعِ وَالإِخْضَاعِ، وَفِي حَيَوِيَّتِهِ: إِنَّهُ الجِدَارُ الوَحِيدُ فِي وَجْهِ الاِسْتِعْمَارِ الأُورُوبِيُّ» (¬4). ¬

_ (¬1) John Van Ess, 192 (¬2) Browne 7 ff (¬3) أصدر المؤلف كتابه عام 1944. (¬4) Browne 9, 10

وما دمنا هنا، فإن فلسطين تستحق صفحتين أو ثلاث صفحات أخر. نشر الدكتور (بيارد ضودج) رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت من عام 1922 إلى عام 1948 مقالاً بعنوان " أمن الضروري أن تنشب حرب في الشرق الأوسط؟ " (¬1) يبسط فيه رأيه في حل قضية فلسطين، قال: (¬2) «إِنَّ قِيَامَ حُكُومَةٍ اِتِّحَادِيَّةٍ فِي فِلَسْطِينَ تَحْتَ إِشْرَافِ هَيْئَةِ الأُمَمِ يَسْلُبُ العَرَبَ سَيْطَرَتَهُمْ المُطْلَقَةَ عَلَى فِلَسْطِينَ، كَمَا يَضَعُ حَدًّا لاِدِّعَاءِ اليَهُودِ بِهِجْرَةٍ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ، إلاَّ أَنَّ الفَرِيقَيْنِ يَرْبَحَانِ بِذَلِكَ رِبْحًا ثَابِتًا: إِنَّ اليَهُودَ يَحْتَفِظُونَ بِوَطَنٍ قَوْمِيٍّ وَاسِعٍ جِدًّا يَسْتَطِيعُونَ بِهِ، لِتَفَوُّقِهِمْ الفَنِّيِّ الحَديثِ، أَنْ يَتَوَلَّوْا بِالخُطًى الاِقْتِصَادِيَّةِ السِّلْمِيَّةِ زَعَامَةَ الشَّرْقِ الأَوْسَطِ كُلَّهُ. أَمَا العَرَبُ فَإِنَّهُمْ سَيَجْنُونَ رِبْحًا مِنْ ذَلِكَ التَّقَدُّمِ التِّجَارِيِّ وَالصِّنَاعِيِّ الذِي يَأْتِي مِنْ هَذَا السَّبِيلِ». وما دمنا في حديث فلسطين فلنتوسع قليلاً في مساعي الغربيين لإنشاء إسرائيل توسعًا يفصح عن بعض غاياتهم. منذ عهد بعيد، منذ القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا تود استعمار فلسطين وإقامة الحامية فيها لحراسة طريق الهند. ولم يكن بإمكانها أن تفعل ذلك إلا من طريق التبشير. جاء في كتاب " التوراة والسيف " (¬3) في صدد نقل فلسطين إلى المذهب الأنكليكاني (مذهب الدولة في إنجلترا) فصل كامل على (اللورد شافتسبري) (¬4) الذي كان يمثل فكرة تنصير فلسطين ورد اليهود منصرين إليها، أو تنصيرهم بعد ردهم إليها، وإعلان الحماية (البريطانية) عليها. ولقد روج (اللورد بالمرستون) (¬5)، وزير الخارجية البريطانية، لهذه الدعوة برسالة وجهها إلى جريدة " التايمز " اللندنية فنشرتها الجريدة المذكورة في السابع عشر من آب عام 1840. ومن الشخصيات الإنجليزية التي عملت بما فكر به (شافتسبري) وسعى إليه (بالمرستون)، وممن اشتهروا ودارت أسماؤهم في السياسة الشرقية والعربية، رئيس الوزارة البريطانية (غلادستون)، والقائد البريطاني (الجنرال غوردن)، والمستكشف البريطاني (لِيفِنْغِسْتُونْ)، والممرضة الشهيرة (فلورانس نايتنغايل). كل هؤلاء، على اختلاف نزعاتهم وعلى اختلاف البراقع التي وضعوها على وجهوههم، كانوا ذوي اتجاه تبشيري استعماري، وكلهم كانوا يريدون اختراع الوسائل للدفاع عن «الإمبراطورية» ولتوسيع رقعتها. ¬

_ (¬1) Must there be war in The Middle East (¬2) Reade'rs Digest, April 1948, pp. 44 - 5 (¬3) راجع ص 113 وما بعدها. (¬4) (أنطوني أشلي كوبر شافتسبري) (1801 - 1885) من الذين اهتموا بالتبشير. (¬5) (اللورد بالمرستون) (1784 - 1865).

ويرى الإنجليز أن فلسطين لم تكن مهمة لهم في ذاتها فقط، بل كانت عندهم وسيلة ضرورية للدفاع عن الإمبراطورية. «لَقَدْ كَانَتْ أَيْضًا الصِّلَّةُ الجُغْرَافِيَّةُ بَيْنَ الشُّرْقِ وَالغَرْبِ وَرَأَّسُ الجِسْرِ بَيْنَ ثَلاَثِ قَارَّاتٍ، وَعُقْدَةُ الدِّفاعِ العَسْكَرِيِّ عَنْ الإِمْبْرَاطُورِيَّةِ، وَالمِنْطَقَةِ الضَّرُورِيَّةِ لِلْدِّفاعِ عَنْ طَرِيقِ السُّوِيسْ وَعَنْ الطَّرِيقِ إِلَى الهِنْدِ وَعَنْ آبَارِ النَّفْطِ فِي المَوْصِلِ» (¬1). وتعددت العوامل في السياسة الإنجليزية في شأن فلسطين، ولكن كان بعضها ستارًا، فقد ألفت (برباره توخمان) (¬2) - وهي يهودية من الولايات المتحدة - كتابًا سمته " التوراة والسيف " أو " إنجلترا وفلسطين منذ العصر البرونزي إلى بلفور " (¬3) ذكرت في مقدمته غايتها من تأليفه فقالت (¬4): «هَذَا الكِتَابُ مُحَاوَلَةٌ لِتَتَبُّعِ الأَهْدَافِ المُزْدَوَجَةِ فِي تَطَوُّرِهَا مُنْذُ البِدَايَةِ: الهَدَفُ الثَّقَافِيُّ مَعَ الهَدَفِ الاِسْتِعْمَارِيِّ، وَالهَدَفُ الأَخْلاَقِيُّ مَعَ الهَدَفِ المَادِّيِّ. وَبِكَلِمَةٍ وَاحِدَةً: أُرِيدُ أَنْ أَتَتَبَّعَ فِيهِ خُطُوَاتِ التَّوْرَاةِ وَالسَّيْفِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِي بِفِلَسْطِينَ إِلَى الاِنْتِدابِ». ولم يكن في محاولة الاستيلاء على فلسطين تلك العوامل التي ذكرت فحسب، بل كان ثمت العامل الصليبي الديني في أجلى مظاهره، تقول (برباره توخمان) (¬5): «وَهَكَذَا دَخَلَ الجِنِرَالْ (اللَّنْبِي) إِلَى القُدْسِ عَامَ 1918، فَنَجَحَ حَيْثُ كَانَ (رِيتْشَرْدْ) = (رِيكَارْدُوسْ قَلْبُ الأَسَدِ) قَدْ أَخْفَقَ. وَلَوْلاَ ذَلِكَ الاِنْتِصارُ (اِنْتِصارُ اللَّنْبِي) لَمَّا كَانَتْ إِعَادَةُ إِسْرَائِيلَ، إِلَى الآنَ، قَدْ أَصْبَحَتْ حَقِيقَةً وَاقِعَةً. وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بإِمْكَانِ (اللَّنْبِي) أَنْ يَنْجَحَ لَوْلاَ مُحَاوَلَةَ (رِيتْشَرْدْ): أَيْ لَوْ لَمْ تَكُنْ النَّصْرَانِيَّةُ قَدْ أَقَامَتْ، فِي الأَصْلِ، الأَسَاسَ الذِي يَحْمِلُ النَّصَارَى عَلَى التَّعَلُّقِ بِالأَرْضِ المُقَدَّسَةَ. وَإِنَّ مِنْ غَرِيبِ التَّهَكُّمِ أَنْ يَكُونَ اليَهُودُ قَدْ اِسْتَعَادُوا مَوْطِنَهُمْ، وَإِلَى حَدٍّ مَا، بِفِعْلِ الدِّينِ الذِي أَعْطَوْهُ لِلأُمِّيِّينَ» (¬6). ووعد (بلفور) أيضًا لم يكن العامل الأساسي في إنشاء دولة إسرائيل. إن السياسات التي استترت وراء هذا الوعد هي التي أرادت خلق إسرائيل، سواءً أتقدم هذا الوعد في التاريخ أم تأخر وسواءً أكان أم لم يكن. قالت (برباره توخمان) (¬7): ¬

_ (¬1) Bible and Sword XIII (¬2) Barbara W. Tuchman يمكن لفظ هذا الاسم (توشمان) أو (تتشمان). (¬3) Bible and Sword, England and Palestine from the Bronze Age to Balfour (¬4) Bible and Sword XIV (¬5) idem (¬6) الأميون هم غير اليهود. قسم اليهود الناس في أيامهم قسمين: يهودًا وأميين. (¬7) Bible and Sword, 217

«إِنَّ الاِنْتِدَابَ، لاَ وَعْدَ بَلْفُورْ، هُوَ الذِي فَسَحَ فِي القَانُونِ العَامِّ مَجَالاً لإِعَادَةِ إِسْرَائِيلَ فِي فِلَسْطِينَ. إِنَّ وَعْدَ بَلْفُورْ كَانَ إِعْلاَنًا لِسِيَاسَةٍ فَقَطْ، وَكَانَ بِإِمْكَانِ كُلِّ وِزَارَةٍ (بَرِيطَانِيَّةٍ) تَالِيَةٍ أَنْ تَتَجَاهَلَهُ، أَوْ أَنْ تَدَعَ الزَّمَنَ يَمُرُّ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ تَرْفُضَهُ، وَلَكِنَّ الاِنْتِدَابَ (أَيْ إِدْخَالَ وَعْدَ بَلْفُورْ فِي صَكِّ الاِنْتِدَابِ) كَانَ التَّعَهُّدَ الدَّوْلِيَّ الذِي وَقَّعَتْهُ دُوَلُ الحُلَفَاءِ الكُبْرَى التِي كَانَتْ تَعْمَلُ بِاسْمِ عُصْبَةِ الأُمَمِ ثُمَّ أَكَّدَتْهُ فَرَفَعَتْهُ بِذَلِكَ، بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْهُ فِي صُلْبِ صَكِّ الاِنْتِدَابِ، إِلَى مُسْتَوَى المُعَاهَدَاتِ». والوطن القومي اليهودي لم يكن يعني ملجأ لليهود المضطهدين في أوروبا، كما كان يزعم الصهيونيون والسائرون في ركب الصهيونية، بل كان يعني إقامة دولة على غرار دول العصر الحديث. «فَلَمَّا اِسْتَفْهَمَ الوَزِيرُ (لاَنْسِنْغْ) (¬1) مِنْ (وَيْزْمَانْ) أَمَامَ المَجْلِسِ الأَعْلَى لِمُؤْتَمِرِ بَارِيسْ عَمَّا يَعْنِي تَمَامًا بِالوَطَنِ القَوْمِيِّ أَجَابَهُ بِجَوَابِهِ المَشْهُورِ: " أَنْ تُتَاحَ لَنَا الفُرْصَةُ لِنَبْنِي بِالتَّدْرِيجِ قَوْمِيَّةً فِي فِلَسْطِينَ هِي لِلْيَهُودِ بِمَقَامِ الأُمَّةِ الفِرَنْسِيَّةِ لِلْفِرَنْسِيِّينَ وَالأُمَّةَ الإِنْجْلِيزِيَّةَ لِلإِنْجْلِيزْ "» (¬2). ومع كل ما يمكن أن يقال في تقصير العرب، في فلسطين وفي خارج فلسطين، فإن سياسة بريطانيا في عهد الانتداب كانت العامل الأول في إضعاف القوى العربية. إن التحسس القومي من ناحية والتحسس الديني من ناحية أخرى كانا قويين بين الشبان العرب في كل مكان، وفي فلسطين أيضًا. غير أن الانتداب - الذي كان شكلاً آخر من أشكال الاستعمار أو اسمًا آخر للاستعمار على الأصح - حاول أن يخدر هذا التحسس، وفي فلسطين خصوصًا. لَقَدْ أَلْهَتْ حكومة الانتداب نفرًا من عرب فلسطين لا يزيدون في العدد على خمسة عشر بالمائة من مجموع السكان بمناصب ذات رقابة اسمية في الحكومة المحلية (¬3). ولما تطور النزاع بين العرب واليهود ولم يبق مندوحة عن الاصطدام في الحقل الداخلي وعلى الصعيد الدولي، كانت بريطانيا خاصة تلعب دورها الصهيوني من وراء ستار. تجمع المصادر الأجنبية التي تناولت نزاع العرب واليهود في فلسطين، وخصوصًا في السنتين اللتين سبقتا التقسيم، على أن العرب كانوا ضعافًا ماديًا وعسكريًا، وعلى أن العرب ¬

_ (¬1) روبرت لانسنغ (1864 - 1928) سياسي أمريكي، تولى وزارة الخارجية في الولايات المتحدة (1915) وكان عضوًا في الوفد الأمريكي إلى مؤتمر الصلح في باريس (1918 - 1919). (¬2) Bible and Sword, 219 (¬3) cf. Mott, 65, 185

لم يكونوا حازمين أمرهم على خطة معينة أو هدف معين. وكذلك كان زعماء العرب وحكامهم تتنازعهم الأهواء والمصالح الشخصية والإقليمية. على أن هذه المصادر لا تخفي، أو لا يخفي فيها، تواطؤ الدول الأجنبية كلها - خصوصًا الدول الكبرى: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي - على العرب. نشرت مجلة " كومنتري " التي تصدرها اللجة الأمريكية اليهودية في نيويورك في عددها الصادر في نيسان من عام 1947 تقريرًا سَنُوجِزُهُ فِي مَا يَلِي (¬1): إن فلسطين لم تكن تستغرق اهتمام (ترومان)، رئيس جمهورية الولايات المتحدة، مع كل ما كان فيها من الاضطراب، ذلك لأن فلسطين لم تكن بقعة دفاعية في الجبهة الإنجليزية الأمريكية، كتركيا واليونان مثلاً، ولكنها خَطًّا من خطوط المواصلات الداخلية .. غير أن مشكلة فلسطين كانت أكثر تعقدًا مما يبدو عليها. ويبدو أن بريطانيا كانت تريد أن تغمس الولايات المتحدة في مشكلة فلسطين، فلم تجد - وهي المنتدبة على فلسطين والمسؤولة وحدها عنها - خيرًا من أن تحيل تلك المشكلة إلى هيئة الأمم. ومع أن الوزارة البريطانية كانت قد اتخذت قرارًا بإحالة قضية فلسطين إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإنها لم تتخذ في ذلك خطوة إيجابية سريعة. ففي السادس والعشرين من آذار أعلن (تريغفه لي)، الأمين العام للأمم المتحدة، أنه لم يتلق من أحد بلاغًا عن هذه القضية. ولقد ذكر في ذلك الحين أن (تريغفه لي) كان يفضل تأليف لجنة لدرس الموقف. غير أن الولايات المتحدة لم تكن واثقة من أن القانون يجيز تأليف مثل هذه اللجنة. ولكن تبين في الوقت نفسه أن لجنة فرعية كانت قد تألفت في الأمم المتحدة لجمع المعلومات للجنة المزمع إنشاؤها لدرس الموقف في فلسطين. في تلك الأثناء كان (عبد الرحمن عزام)، الأمين العام لجامعة الدول العربية، قد صرح في القاهرة بأن اللجنة السياسية في الجامعة العربية قد رفضت الاقتراح القائل بتأليف لجنة لدرس الموقف. ويذكر التقرير الذي نوجزه في هذا المكان (وهو يعبر عن رأي اليهود) أن المفتاح لكل حل يمكن أن يكون مرضيًا عنه إنما هو في يد الولايات المتحدة. فالولايات المتحدة وحدها تملك الإمكانيات التي تجعل تساهل الزعماء العرب في (قضية) فلسطين مُجْدِيًا (لَهُمْ). ثم إن لها من الدالة ما يجعلها قادرة على عقد هذه الصفقة. ¬

_ (¬1) Commentary, New York, vol. 3, No. 4, April 1947, pp. 257 - 62

ولما قامت دولة إسرائيل وتعقدت الأمور في الشرق العربي من أجل ذلك بدأت الاقتراحات للتهدئة ترد من كل مكان، وكلها تستند إلى أسس من السياسة والدين، من الاستعمار والتبشير. من تلك الاقتراحات رغبة فرنسا في العودة إلى الشرق لضبط الأمور وتصريفها بين العرب واليهود. يزعم القائد الفرنسي الجنرال (بورر) [Buhrer] مزاعم غريبة، هو يقول (¬1): «لَوْ لَمْ تَكُنْ الأَحْقَادُ الجِنْسِيَّةُ وَالدِّينِيَّةُ قُوِّيَّةً جِدًّا لَكَانَ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَحُلَّ التَّفَاهُمُ بَيْنَ الأُرْدُنِّ وَإِسْرَائِيلَ تِلْكَ المُشْكِلَةِ. وَلَكِنْ يَبْدُو أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ المُمْكِنِ أَنْ يَقُومَ بَيْنَهُمَا تَفَاهُمٌ دَائِمٌ. وَسَيَأْتِي يَوْمٌ تَزُولُ فِيهِ إِحْدَى هَاتَيْنِ الدَّوْلَتَيْنِ. أَمَّا المَمْلَكَةُ الأُرْدُنِيَّةُ الهَاشِمِيَّةُ فَيُمْكِنُ أَنْ تَنْطَوِي فِي الجُمْهُورِيَّةِ السُّورِيَّةِ. وَأَمَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِسْرَائِيلَ وَلُبْنَانَ فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَقْتَرِحَا اتِّحَادًا فِي شَرْقِيِّ البَحْرِ الأَبْيَضِ المُتَوَسِّطِ». هذا الزعم ليس من السياسة ولا من التاريخ في شيء. ولكن الجنرال (بورر) [Buhrer] استعماري، وقد حلل الموقف في هذا الجزء من العالم بالرغبة الاستعمارية التي في صدره. وسنجده يقول بعد خمس وعشرين صفحة من كتبه: «أَنَّ نَظَرِيَّةَ الحُكْمِ الإِلَهِيِّ فِي البِلاَدِ الإِسْلاَمِيَّةِ، وَخُصُوصًا عِنْدَ العَرَبِ، تَتَمَسَّكُ بِالشَّكْلِ الكُلِّيِّ عَلَى الأَخَصِّ. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنَ الجُهُودِ التِي بُذِلَتْ لإِقْرَارِ المَبْدَأِ العِلْمَانِيِّ فِي الدَّوْلَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ المِلْكِيَّاتِ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَتَخَلَّى بَعْدُ عَنْ المَبَادِئِ الأَسَاسِيَّةِ مِنَ الدِّينِ الإِسْلاَمِيِّ، وَلاَ عَنْ المَبَادِئِ الأَسَاسِيَّةِ مِنَ النَّفْسِيَّةِ الإِسْلاَمِيَّةِ العَرَبِيَّةِ: لاَ خَلاَصَ بِغَيْرِ الإِسْلاَمِ (¬2) ... ثُمَّ إِنَّ إِسْرَائِيلَ نَفْسُهَا قَامَتْ عَلَى أَسَاسِ الدِّينِ اليَهُودِيِّ. وَهَكَذَا يَتَّضِحُ فِي الوَقْتِ الحَاضِرِ أَنَّ الشَّرْقَ لَمْ يَفْقِدْ بَعْدُ فِكْرَةَ الأُمَمِ الدِّينِيَّةِ التِي كَانَ يَأْخُذُ بِهَا مِنْ قَبْلُ ... لِذَلِكَ يَبْدُو مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ... أَنَّ فِرَنْسَا هِي التِي اِحْتَفَظَتْ، بِمَا لَهَا مِنَ النُّفُوذِ الثَّقَافِيِّ وَالأَدَبِيِّ، بِمُهِمَّةِ الدَّلاَّلَةِ وَالمَشُورَةِ وَالمُسَاعَدَةِ لِهَذِهِ الدُّوَلِ الفَتِيَّةِ مِنْ وَرَثَةِ الأُمَمِ القَدِيمَةِ حَتَّى تَسْتَطِيعَ هَذِهِ الدُّوَلُ أَنْ تَحْتَلَّ مَكَانًا فِي هَذَا العَالَمِ المُتَبَدِّلِ. لَقَدْ كَانَتْ فِرَنْسَا مِنْ قَبْلُ حَامِيَةً لِنَصَارَى الشُّرْقِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَمُدَّ حِمَايَتَهَا النَّيِّرَةَ البَرِيئَةَ مِنَ الأَغْرَاضِ إِلَى جَمِيعِ الذِينَ يَسْكُنُونَ هَذَا الشَّرْقَ، سَوَاءً أَكَانُوا يَهُودًا أَوْ نَصَارَى أَوْ مُسْلِمِينَ ... وَإِنَّ رِسَالَةَ فِرَنْسَا بِصِفَتِهَا حَامِيَةً لِلْنَّصَارَى قَدْ أَضْفَى عَلَيهَا دَائِمًا، فِي تِلْكَ ¬

_ (¬1) Ce que devient L'Islam p. 70, 95 - 96 (¬2) يقصد أن التفكير السياسي القديم كان يجعل من أهل كل دين أمة قائمة بنفسها.

البِلاَدِ الإِسْلاَمِيَّةِ - فِي الشَّرْقِ - بَهَاءً لاَ نَظِيرَ لَهُ». ولم يكتف التبشير بالدعوة السافرة إلى الاستعمار، بل كان يسلك سبيل التجسس أيضًا خدمة لإسرائيل وحقدًا على العرب. نشرت مجلة " الشرطة والأمن العام " (¬1) مقالاً عن داعية أمريكي لإسرائيل يَدَّعِي أنه يدير جمعية التقارب المسيحي، مع أن اسم جمعيته الحقيقي: " جمعية التقارب المسيحي اليهودي ". ولم يكن عمل هذا الداعية، واسمه (رالف باني)، سوى مساعدة اليهود والدس على العرب بتشويه سمعتهم والتجسس عليهم. ومع أن هذا الداعية كان يرتدي ثياب المبشرين فإنه كان يقوم بأعمال تنافي الدين، وبنشاط يُضِرُّ بِالعَرَبِ. وَقَدْ أُخْرِجَ مِنَ الأُرْدُنِّ بهذه التهم كلها. والمبشرون الذين يقومون بمثل نشاط (رالف باني) كثيرون ولكن إقامة البينة عليهم عسيرة أحيانًا لاتقانهم فن العمل الصامت ولدفاع حكوماتهم عنهم إذ أنهم يخدمون الغايات الاستعمارية التي ترمي إليها دولهم. ¬

_ (¬1) دمشق، السنة الأولى، العدد 12 (9 ربيع الأخر 1373 و 15 كانون الأول 1953)، الصفحات 74 - 75، 39.

الفصل التاسع: الأعمال الاجتماعية طريق التبشير

الفَصْلُ التَّاسِعُ: الأَعْمَالُ الاِجْتِمَاعِيَّةُ طَرِيقُ التَّبْشِيرِ: الأعمال الاجتماعية هي المناسبات التي تربط بعض البشر ببعضهم عَرَضًا، أو تتيح لبعض الناس أن يعرفوا بعضهم الآخر. إن البشر عادة مقسمون حسب أعمالهم، فقلما يتاح للطبيب المنصرف إِلَى عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ أن يجتمع بالتاجر أو بالصانع أو بالفنان. وكذلك يعتذر على رجل من المدينة، أو من حي معين في المدينة، أن يجتمع برجل من مدينة أخرى أو من حي آخر في مدينته هو. من أجل ذلك يلجأ الناس عادة إلى خلق جو اجتماعي يجمع بينهم في مناسبات مختلفة: في الحفلات الرياضية والخطابية، وفي الأندية الأدبية والسياسية، وفي الاتصال فيما بينهم من طريق الصحف والمجلات وأعمال البر والإحسان، وفي الاجتماعات المختلطة بين الجنسين رجالاً ونساءً. والمبشرون يعرفون هذه كلها في بلادهم فأحبوا أن ينقلوها إلى بلادنا، لاَ حُبًّا بِنَا نَحْنُ لكي تكون الصِّلاَتُ بيننا أوثق والحياة عندنا أكثر فائدة وأكثر مرحًا، بل تواصلاً إلى اختراق السور الذي ضربه العُرْفُ الشرقي حول الأسرة المسلمة كي يفتح لهم باب جديد يَلِجُونَهُ للتبشير بيننا. تلك كانت غايتهم الأولى من النشاط الاجتماعي الذي أحبوا أن يثبتوه في بيئتنا بواسطة المدارس الأمريكية خاصة، ومن طريق الخدمة الاجتماعية بين الفلاحين أيضًا. جاء في كتاب اسمه " مؤتمر العاملين المسيحيين بين المسلمين " (¬1): «نَحْنُ نَعْنِي بِالعَمَلِ الاِجْتِمَاعِيِّ المَسِيحِيِّ تَطْبِيقَ مَبَادِئَ يَسُوعْ المَسِيحَ فِي جَمِيعِ الصِّلاَتِ الإِنْسَانِيَّةِ. إِنَّ المسلمين يَدَّعُونَ أَنَّ فِي الإِسْلاَمِ مَا يُلَبِّي كُلَّ حَاجَةٍ اِجْتِمَاعِيَّةٍ فِي البَشَرِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُقَاوِمَ الإِسْلاَمَ دِينِيًّا بِالأَسْلِحَةِ الرُّوحِيَّةِ. فَالنَّشَاطُ الاِجْتِمَاعِيُّ يَجِبُ أَنْ يُرَافِقَ التَّعْلِيمَ المُبَاشِرَ لِلإِنْجِيلِ وَيُسَاعِدَهُ ¬

_ (¬1) Conference of Christian Workers Among Moslems, N. Y. 1924

وَيُتِمُّهُ ... فَلْنَبْدَأْ بِالصِّلاَتِ اليَوْمِيَّةِ، تِلْكَ التِي تَتَّصِلُ بِالطِّفْلِ وَبِالمَرْأَةِ ثَمَّ نَتَوَسَّعُ فِي تِلْكَ الصِّلاَتِ حَتَّى نَبْلُغَ إِلَى المَبَادِئِ الوَاسِعَةِ التِي أَقَرَّتْهَا عُصْبَةُ الأُمَمِ .. فَأَمَامَ الكَنِيسَةِ اليَوْمَ مُنَاسَبَاتٌ مُمْتَازَةٌ تُتِيحُ (لِلْمُبَشِّرِ المَسِيحِيِّ) أَنْ يَتَّصِلَ بِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ فِي البِيئَةِ (الإِسْلاَمِيَّةِ) الرَّاقِيَةِ لَمْ يَكُنْ بِإِمْكَانِهِ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِمْ ... مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نَحْنُ نَنْصَحُ بِالسَّيْرِ فِي الأَعْمَالِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ عَلَى الأُسُسِ التَّالِيَةِ: إِيجَادُ بُيُوتٍ لِلْرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَخُصُوصًا الطَّلَبَةُ مِنْهُمْ وَمِنْهُنَّ - إِيجَادُ أَنْدِيَةٍ - الاِعْتِنَاءُ بِالتَّعْلِيمِ الرِّيَاضِيِّ وَأَعْمَالِ التَّرْفِيهِ - حَشْدُ المُتَطَوِّعِينَ لأَمْثَالِ هَذِهِ الأَعْمَالِ. وَبِمَا أَنَّ " جَمْعِيَّةَ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ " وَ " جَمْعِيَّةَ الشَّابَّاتِ المَسِيحِيَّاتِ " قَدْ نَصَّبَتَا نَفْسَهُمَا لِلْوُصُولِ إِلَى الشَّبَابِ المُسْلِمِ فِي النَّوَاحِي الآنِفَةِ الذِّكْرِ وَفِي غَيْرِهَا أَيْضًا، فَالوَاجِبُ يَقْضِي أَنْ تُشَجَّعَا لِتَتَّسِعَ دَائِرَةُ عَمَلِهَا فَتَشْمَلَ الجَمَاعَاتِ المَسْؤُولَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ وَمِنَ الذِينَ يُرَحِّبُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الجُهُودِ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْطُنُوا، طَبْعًا، إِلَى الغَرَضِ التَّبْشِيرِيِّ). وَعَلَى المُبَشِّرِينَ أَنْ يَتَعَرَّفُوا إِلَى أَحْوَالِ المُسْلِمِينَ الاِجْتِمَاعِيَّةِ وَالاِقْتِصَادِيَّةِ حَوْلَهُمْ ثُمَّ يَسْعَوْا إِلَى الإِصْلاَحِ (فِي الظَّاهِرِ)، سَعْيًا إِلَى التَّأْثِيرِ عَلَى الرَّأْيِ العَامِّ (بِأَنَّ غَايَتَهُمْ شَرِيفَةٌ مُجَرَّدَةٌ مِنَ الغَرَضِ التَّبْشِيرِيِّ). وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ يَهْتَمَّ المُبَشِّرُونَ بِهِ (فِي الظَّاهِرِ): إِصْلاَحُ الأَحْدَاثِ - الحَيْلُولَةُ دُونَ الزَّوَاجِ البَاكِرِ - الحَيْلُولَةُ دُونَ تَشْغِيلِ الأَطْفَالِ - مُحَاوَلَةُ إِصْلاَحِ الأَحْوَالِ العَامَّةِ لِلْعُمَّالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِسَاعَاتِ العَمَلِ وَبِالأُجُورِ وَبِالأُمُورِ الصِّحِّيَّةِ فِي المَعَامِلِ - الرِّفْقُ بِالحَيَوَانِ ...» (ص 34 - 36. من أجل ذلك نرى في الدرجة الأولى أن الجدران قد امتلأت في بلادنا بالدعوة إلى «الرِّفْقِ بِالحَيَوَانِ» وبجملة «الطِّفْلُ لِلْمَدْرَسَةِ لاَ لِلْعَمَلِ»، وبالدعوة إلى «إِنْصَافِ العُمَّالِ». ولكننا لا نرى إصلاحًا خفيفًا في هذا السبيل، بل نرى مقابل ذلك «ظُلْمًا لِلإِنْسَانِ» وَ «تَشْرِيدًا لِلأَطْفَالِ» (¬1) وَ «اِسْتِغْلاَلاً لِلْعُمَّالِ». فالذين يقومون بهذه الدعوات الظاهرة لا يقصدون الإصلاح الحقيقي، بل يقصدون التسلل بالتبشير إلى الجماعات المسلمة. والمسلمون خاصة لم يتقبلوا أعمال التبشير الاجتماعية (فِي ظَاهِرِهَا) بسرور، لأسباب مختلفة، منها أن الإسلام نظام اجتماعي كامل، وكل ما يأتي به هؤلاء المبشرون، باعترافهم ¬

_ (¬1) كتشريد أطفالنا الفلسطينيين من بلادهم وظلمهم في مخيماتهم بإنفاق المال المخصص لهم على موظفين أجانب ووطنيين.

الإحسان طريق التبشير

هم، موجود في الإسلام وفي أشكال أتم وأحسن (¬1). وهذا حق، فالدين الإسلامي ليس عقيدة فقط بل هو عقيدة ونظام اجتماعي أيضًا. أما النصرانية فليست كذلك. وأن ما يأتي به المبشرون على أنه إصلاحات اجتماعية، إنما هي نتاج مشوه لمبادئ اجتماعية نشأت في القرون المتأخرة. وما كان أغنى المسلمين عن أن يتناولوا هذه المبادئ الاجتماعية ملونة بلون التبشير! إن ثمة حاجة إلى تجديد اجتماعي بين المسلمين، لا ريب في ذلك. من أجل ذلك يحسن اللجوء إلى المذاهب الاجتماعية، إذا كانت موافقة، من غير أن تمر بين أيدي المبشرين. وهنالك أمر آخر يمنع المسلمين من تصديق أقوال المبشرين، حتى في الاجتماع. يقول المبشر (و. رايد): «إِنَّ الوُصُولَ إِلَى المُسْلِمِينَ صَعْبٌ ... ذَلِكَ لأَنْ المُسْلِمِينَ يَشُكُّونَ فِي مَنْ يَتَبَرَّعُ لَهُمْ (مِنَ المُبَشِّرِينَ) وَيَعْزُونَ عَمَلَهُ إِلَى مَأْرَبٍ مَا ... إِنَّنِي أَنَا (وَالكَلاَمُ لِلْمُبَشِّرِ رَايْدْ) أُحَاوِلُ أَنْ أَنْقُلَ المُسْلِمَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَى المَسِيحِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَظُنُّ المُسْلِمُ أَنَّ لِي فِي ذَلِكَ غَايَةٌ خَاصَّةٌ، أَنَا لاَ أَحُبَّ المُسْلِمَ لِذَاتِهِ، وَلاَ لأَنَّهُ أَخٌ لِي فِي الإِنْسَانِيَّةِ. وَلَوْلاَ أَنَّنِي أُرِيدُ رِبْحَهُ إِلَى صُفُوفِ النَّصَارَى لَمَا كُنْتُ تَعَرَّضْتُ لَهُ لأُسَاعِدَهُ» (¬2). والمسلمون يعرفون هذا، ولذلك قلما يثقون بالمبشرين وبأعمالهم الاجتماعية، لاَ كُرْهًا بِالأَعْمَالِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ، بل لأن هذه الأعمال تأتي دائمًا ناقصة مشوهة لأنها في الحقيقة وسيلة تبشير ديني، هو بدوره وسيلة أخرى إلى استعمار سياسي واقتصادي. الإِحْسَانُ طَرِيقُ التَّبْشِيرِ: الإحسان في حقيقته عطف من القوي على الضعيف، عطف يتبدى في صور مختلفة أبرزها وأشهرها دفع المال. ولكن الإحسان قد يجري مجاري أخرى كالتعليم المجاني، وهبة الثيات والكتب، والمساعدة على إيجاد عمل وما يجري هذا المجرى. فلنبدأ هنا بالمال: لم يكن المبشرون محسنين بالمعنى النبيل الذي نفهمه من هذه الكلمة، ولكنهم كانوا يستغلون ما بأيديهم من وسائل الإحسان حتى يصلوا إلى أهدافهم التبشيرية فالاستعمارية. ولقد كانوا فوق ذلك مقتصدين جِدًّا لا ينفقون ولا ينفعون إلا بمقدار ما ينتظرون من فوائد ¬

_ (¬1) Christian Workers 34 f. , 68 ff (¬2) quoted in Gairdner 264

أين يذهب معظم أموال الإحسان؟

عاجلة. ألف جماعة من المبشرين كتابًا اسمه " أسس جديدة للتبشير " (¬1) قالوا فيه: «كَانَ التَّطْبِيبُ وَالتَّعْلِيمُ مِنْ وَسَائِلِ التَّبْشِيرِ، وَيَجِبُ أَنْ يَبْقَيَا كَذَلِكَ. أَمَّا أَعْمَالُ الخَيْرِ فَيَجِبُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ بِحِكْمَةٍ فَلاَ تُنْفَقُ الأَمْوَالُ إلاَّ فِي سَبِيلِهَا: يَجِبُ أَنْ تُعْطَى الأَمْوَالُ أَوَّلاً لِلْبُعَدَاءِ، ثَمَّ يَقِلُّ دُفْعُهَا تَدْرِيجًا كُلَّمَا زَادَ اِقْتِرَابُ هَؤُلاَءِ إِلَى الكَنِيسَةِ (أَيْ كُلَّمَا زَادَ الأَمَلُ بِاِنْضِمَامِهِمْ إِلَى المَذْهَبِ الجَدِيدِ)، فَإذَا دَخَلُوهَا مُنِعَتْ عَنْهُمْ أَعْمَالُ الخَيْرِ. ثَمَّ يَجِبُ أَلاَّ نُبَالِغَ فِي النَّاحِيَةِ الخَيْرِيَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» (¬2). أَيْنَ يَذْهَبُ مُعْظَمُ أَمْوَالُ الإِحْسَانِ؟: وذكر (دانيال بلس) أن أموالاً أرسلت عقب فتنة 1860 إلى خوري قرية في لبنان ليوزعها على أهل قريته فاحتفظ بالأموال لنفسه. هذا فضلاً عن أن الكثيرين من الأهلين كانوا يدعون بأن الدروز قد قتلوا أقاربهم وهدموا بيوتهم ليحصلوا على أموال لا حق لهم بها، أو ليحصلوا على أكثر مما هو حق لهم. وكان ثمة أفراد أقوياء الأجسام ظلوا يعتمدون على أموال الإحسان زمنًا طويلاً بعد فتنة 1860 ويعيشون منها (¬3). كان المبشرون يعرفون كيف تنفق هذه الأموال وإلى أين تذهب، وكانوا يغمضون أعينهم لأنهم لم يكونوا يودون الإحسان إلى البائس والمحروم، بل كانت كل طائفة منهم تتصيد بتلك الأموال خِرَافًا جديدة لحظيرتها. أما كيف يستغل المبشرون أعمال الخير في سبيل التبشير فتمثله القطعة التالية: كتب (ألمر دوغلاس) مقالاً عنوانه " كيف نضم إلينا أطفال المسلمين في الجزائر " (¬4)، ذكر فيه أن ملاجئ قد أنشئت في عدد أقطار الجزائر في شمال أفريقيا لإطعام الأطفال الفقراء وكسائهم وإيوائهم أحيانًا. ثم قال: «إِنَّ هَذِهِ السَّبِيلُ لاَ تَجْعَلُ الأَطْفَالَ نَصَارَى، لَكِنَّهَا لاَ تُبْقِيهِمْ مُسْلِمِينَ كَآبَائِهِمْ. وَمِثْلُ هَذِهِ الجُهُودِ يَبْذُلُهَا المُبَشِّرُونَ فِي شَمَالِ أَفْرِيقْيَا وَمِصْرَ» (¬5). ولقد صدر في " نشرة الأخبار للمجلس المسيحي في الشرق الأوسط " (¬6) مقال عنوانه ¬

_ (¬1) Re -Thinking Missions cf. Bibliography (¬2) ibid 67 f. , cf. 70 f (¬3) Bliss 159 ff (¬4) MW, July 1935 pp. 283 f (¬5) cf. MW . Oct. , 1935 , pp ff. ; Oct. 1936, pp. 392 ff (¬6) New Bulletin of the Near East Christian Council, Beirut, Oct. 1945. pages 12 - 16

" جمعيات المتطوعين والخدمة الاجتماعية في مصر "، جاء فيه أشياء كثيرة عن استغلال الحاجات الاجتماعية في الشعب المصري للتبسط في العمل المسيحي في القطر المصري كله. وكاتب المقال يريد أن تستأثر الجمعيات التبشيرية بكل نواحي الخدمة الاجتماعية، وهو يضن بأن تقوم على ذلك الحكومة المصرية نفسها. • • • ويظهر أن الإرساليات الكاثوليكية أكثر استخدامًا للإحسان في سبيل التبشير. ولقد اهتم باباوات رومية في الحقبة الأخيرة بنشر النصرانية بين المسلمين، حتى أن البابا (بندكتوس) (1914 - 1922) عرف باسم " بابا الإرساليات ". والإرساليات الكاثوليكية كغيرها تتبع طريقين في التبشير: التبشير المباشر بمخاطبة غير النصارى (أو غير الكاثوليك أيضًا رأسًا بأمور العقيدة وبالتعليم المسيحي. أما الطريقة غير المباشرة فتقوم على الإحسان المادي وعلى العناية بالمرضى والتعليم وما أشبه ذلك. ويندر أن تستعمل الطريقة المباشرة مع المسلمين، فإن المبشر الكاثوليكي قد اتبع في كل مكان نزل فيه بين المسلمين الطريقة غير المباشرة (¬1). كتب (صموئيل زويمر) صاحب مجلة " العالم الإسلامي " (¬2) مقالاً في مجلته (¬3) عنوانه " استخدام الصدقات لاكتساب الصابئين ". ومع أن المقال كله بحث في أن الإسلام أجاز إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم، أي أولئك الذين دخلوا في الإسلام في عهد الرسول وكانوا ذوي حاجة وذوي اتجاه مادي، فإن المقصود من المقالة استخدام الإحسان في سبيل التبشير المسيحي أيضًا. أما البروتستانت خاصة فإنهم لا يرون أن توزع الإرساليات إعانات من مالها هي، وإن كانت أحيانًا تقوم بتوزيع الإعانات الواردة إليها من أماكن مختلفة (¬4). ومما جعل المسلمين ينظرون بحذر إلى الأعمال الاجتماعية التي كان المبشرون يتظاهرون بها رِئَاءَ النَّاسِ أَمْرٌ على غاية الأهمية. كان المبشرون يحسنون أعمالهم الاجتماعية بقولهم إنها أعمال الغرب المتقدم المتحضر في الشرق المتأخر، وإنها نعمة مسيحية بين مسلمين متقهقرين. ولكن المسلمين رأوا فساد الأخلاق يمشي مع هؤلاء الغربيين خطوة فخطوة. ¬

_ (¬1) MW, July 1936 pp. 223 f (¬2) The Moslem World, editor : Samuel M. Zwemer (¬3) pp. 141 ff (¬4) MW. 1933 pp. 124 f

واتخذ الإحسان بعد الحرب العالمية الثانية شكلاً جديدًا وطريقة جديدة. لقد أصبح مساعدات فنية للأمم المتخلفة، ثم لم يبق من حاجة لبذله من طريق التبشير ما دام قد أصبح بذله ممكنًا من طريق الحكومات المستعمرة نفسها، ولا غرو فإن التبشير لم يكن سوى وسيلة إلى الاستعمار، فما الفائدة إذن من الاحتفاظ بوسيلة إذا كان الاستعمار قد وجد خيرًا منها؟ أجمل عبد العزيز فهمي أهداف المساعدت الفنية وأغراضها الحقيقية إجمالاً جَيِّدًا في كتابه " الاستعمار عدو الشعوب " (¬1) واستشهد بالحقائق التالية (¬2): «لَقَدْ أَجَابَ مِسْتَرْ (تْرُومَانْ)، الرَّئِيسُ الأَمَرِيكِيُّ السَّابِقُ، عَلَى أَسْئِلَةٍ طُرِحَتْ عَلَيْهِ فِي مُؤْتَمَرِ الحِزْبِ الدِّيمُقْراطِيِّ الذِي عُقِدَ فِي أَثَناءِ الحَمْلَةِ الاِنْتِخَابِيَّةِ لِرِئَاسَةِ الجُمْهُورِيَّةِ، فِي أَوَاخِرِ عَامِ 1952، فَقَالَ:" إِنَّ مَشْرُوعَ النُّقْطَةِ الرَّابِعَةِ يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ لِلْوِلاَيَاتِ المُتَّحِدَةِ تَوْسِيعَ نِطَاقِ التِّجَارَةِ وَزِيَادَةِ أَسْوَاقِ التَّصْرِيفِ وَتَمْوِينِ أَمَرِيكَا بِالمَوَادِّ الأَوَّلِيَّةِ ". وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَحَدُ زُعَمَاءِ الحِزْبِ فِي المُؤْتَمَرِ نَفْسَهُ: " أَنَّ مَشْرُوعَاتِ النُّقْطَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَضَعَ البِلاَدَ المُتَخَلِّفَةَ فِي خِدْمَةِ الخِطَطِ العَسْكَرِيَّةِ لِلْوِلاَيَاتِ المُتَّحِدَةِ الأَمَرِيكِيَّةِ لأَنَّهَا سَتَكُونُ مَنَابِعَ لِلْمَوَادِّ الأَوَّلِيَّةِ الإِسْتْرَاتِيجِيَّةِ ". وَقَالُ وَزِيرُ الخَارِجِيَّةِ الأَمَرِيكِيَّةِ السَّابِقُ، المِسْتِرْ (دِينْ أَتْشَنْسُونْ):" إِنَّ الدَّافِعَ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي نَجَاحِ المَشْرُوعِ لَيْسَ حُبُّ أَمَرِيكَا لِلْنَوْعِ البَشَرِيِّ، بَلْ هُوَ مَصْلَحَةُ أَمَرِيكَا العَمَلِيَّةِ ". وَيُؤَكِّدُ مِسْتِرْ (سَنْكْلَرْ)، وَزِيرُ التِّجَارَةِ الأَمَرِيكِيَّةِ فِي حُكُومَةِ الرَّئِيسِ (إِيزِنْهَاوَرْ) أَهْدَافَ مَشْرُوعِ النُّقْطَةِ الرَّابِعَةِ فَيَقُولُ:" إِنِّي أَرَجِّحُ (¬3) أَنْ أَرَى رُؤُوسَ الأَمْوَالِ الخَاصَّةِ لاَ القُرُوضِ الحُكُومِيَّةِ، هِي التِي سَتَتَدَفَّقُ عَلَى الخَارِجِ. وَإذَا مَا ذَهَبَتْ قُرُوضٌ خَاصَّةٌ إِلَى الخَارِجِ فَمِنْ رَأْيِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الحُكُومَةِ الأَمَرِيكِيَّةِ أَنْ تَسْهَرَ عَلَى تَأْمِينِ نَجَاحِهَا كَمَا يَجِبُ أَنْ تَتَمَتَّعَ (رُؤُوسُ الأَمْوَالِ هَذِهِ) بِقِسْطٍ مِنَ الحِماِيَةِ». وليس مِنَ الخَفِيِّ عَلَى أَحَدٍ أَن هذه المساعدات لا تبذل إلا مع خبراء ينفذون في الدرجة الأولى اتجاه حكوماتهم في البلاد المتخلفة لا حاجات تلك البلاد المتخلفة. وأقرب مثال على التدخل السياسي مع المساعدات الفنية مشروع بناء السد العالي على نهر النيل في مصر. عرضت الولايات المتحدة على مصر تمويل بناء سد على النيل بأموال بعضها ¬

_ (¬1) 127 - 141. (¬2) " مجلة الغرفة التجارية " (في الولايات المتحدة) - السنة العاشرة، مارس (آذار) 1953، العدد 3، ص 9، 96 (" الاستعمار عدو الشعوب ": ص 131). (¬3) أفضل؟

هِبَةً وبعضها قرض طويل الأمد، ولكنها اشترطت شروطًا كثيرة مختلفة رأى الجانب المصري أن يدرسها بإنعام النظر. وطال الأخذ والرد بين الجانبين المصري والأمريكي، واتفق أن السياسة العربية عامة والمصرية خاصة كانت قد اقتنعت في تلك الأثناء - خَطَأً أَوْ صَوَابًا - بالتقرب من المعسكر الشرقي بيع الأسلحة للعرب إلا بشروط قاسية جِدًّا منها ألا يستعمل هذا السلاح في محاربة إسرائيل. ولما رأت الولايات المتحدة أن لا أمل بإعادة مصر إلى قبضة الدول الغربية، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، أعلنت في الوقت الحاضر لا تستيطع تمويل هذا السد لأسباب مِنْهَا أَنَّ ثَمَّتَ دُوَلاً لها مصالح في مياه النيل فيجب أخذ رأيها في توزيع تلك المياه. ومنها أيضًا أن الولايات المتحدة تشك في أن مصر، في الوقت الحاضر أيضًا، تستطيع أن تقوم بقسطها المالي لإنجاز هذا السد. كأن الولايات المتحدة لم تكن تعرف ذلك قبل اليوم. وفي اليوم نفسه أصدرت بريطانيا بيانًا تذكر فيه الصعوبات التِي تَحُولُ دون مساهمتها في تمويل السد العالي لأسباب لا تختلف عن الأعذار التي انتحلتها الولايات المتحدة (¬1). وبعد فإن القسم الأوفر من المبالغ التي تدفع في البلاد المتخلفة يذهب إلى الموظفين. وغني عن البيان أن المترتبات الضخمة يتناولها الموظفون الدوليون (أي الأمريكيون في الأكثر) لا الموظفون المحليون الذين تنفذ المشاريع في بلادهم. وفيما يلي مثال واحد على العمل اليسير الذي تقوم به وكالة الإغاثة للاجئين الفلسطينيين والدعاية الضخمة التي ترافق ذلك العمل. جاء في نشرة " الأمم المتحدة " (¬2) تقرير جُعِلَ عنوانه " أعمال وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين خلال عام 1954 ". غير أننا إذا طالعنا التقرير وجدناه يتناول السنوات الخمس من 1951 إلى 1955. وهكذا يبرز في العنوان العنصر الأول للدعاية الضخمة، وهو أن المبلغ الذي ذكر في التقرير والذي يقرب من مائة وخمسة وأربعين ميلونًا من الدولارات لم ينفق على اللاجئين في عام واحد، كما يوهم العنوان بل في خمسة أعوام. فالوكالة قد أنفقت على اللاجئين إذن تسعة وعشرين مليون دولار في كل عام كانت الحكومات العربية تدفع منها مليون دولار في العام. وإذا رجعنا النظر في التقرير رأينا أن في وكالة الإغاثة نحو تسعة آلاف موظف يتناولون رواتبهم من هذا المبلغ. ولا يعقل أن تقل رواتب هؤلاء ونفقات الإدارة عن عشرة ملايين دولار ¬

_ (¬1) جريدة " الحياة " (بيروت)، السنة 11، العدد 3133، الجمعة 20 تموز (يوليو) 1956، 12 ذي الحجة 1375 هـ. (¬2) نشرت أسبوعية يصدرها مكتب الأمم المتحدة للأنباء في الشرق الأوسط، المجلد الثاني، العدد 37، القاهرة في 16 سبتمبر (أيلول) 1955.

نشر الفساد

بحال من الأحوال. ولكن لنفرض أن رواتب الموظفين ونفقات الإدارة تدفعها الأمم المتحدة، وإن المبلغ المذكور كله، وهو 29،000،000 دولار، ينفق على إغاثة اللاجئين المسجلين في سجلات وكالة الإغاثة، وعددهم 960،021 لاجئًا، فيكون ما يصيب اللاجئ في العام نحو ثلاثين دولارًا. والواقع أنه لا يصيب اللاجئ في العام إلا نحو خمسة عشر دولارًا أو دولار وربع فقط كل شهر. أما تقرير وكالة الإغاثة فقد تبجح فذكر (¬1): «أَنَّ جَمِيعَ النَّفَقَاتِ وَالمَصْرُوفَاتِ (لِكُلِّ لاَجِئٍ) تَبْلُغُ 225 دُولاَرًا (مِائَتَيْنِ وَخَمْسَةَ وَ [عِشْرِينَ] دُولاَرًا) فِي كُلِّ شَهْرٍ بِالإِضَافَةِ إِلَى المُؤَنِ الخَاصَّةِ التِي وُزِّعَتْ عَيْنًا عَلَى المَرَاضِعِ وَالأَطْفَالِ وَالمَرْضَى وَالمُصَابِينَ بِسُوءِ التَّغْذِيَةِ». إن مائتين وخمسة وعشرين دولارًا تساوي نحو ستة وتسعين جنيهًا أو ألف ريال سعودي أو نحو سبعمائة وخمسين ليرة سورية لبنانية. هذا المبلغ يوازي في الشرق الأوسط راتب موظف كبير في الدولة، ولكن وكالة الإغاثة ذكرته تَبَجُّحًا وَدِعَايَةً. وبما أن نشرة الأمم المتحدة هذه كانت تصلني، فقد لفت هذا التقرير وما فيه من المغالطات نظري. فكتبت إلى رئيس تحرير النشرة رسالة (¬2) أستوضحه فيها عما جاء في التقرير المنشور. وَلَقَدْ وَرَدَ عَلَيَّ الجَوَابُ (¬3) ينسب «ذُكِرَ الرَّقْمُ 225 دُولاَرًا» إلى خطأ آلي. ولكنني لا أذكر أن نشرة الأمم المتحدة قد صححت «هَذَا الخَطَأَ الآلِيَّ» في عدد من أعدادها التالية. ثم انقطعت هذه النشرة عن الوصول إِلَيَّ. غير أن ما هو أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ وَأَمَرُّ أن وكالة الإغاثة تسوم اللاجئين سوء العذاب بالإهمال والإذلال والتعذيب والتنكيل حتى سميت في الصحافة المحلية «وِكَالَةَ الإِبَادَةِ». وأخبار سوء معاملتها للاجئين تملأ الصحف العربية. أما ما يقال عن تحيز الوكالة لأعداء اللاجئين ولأساليبها التبشيرية والاستعمارية فكثير مشهور في الصحف المحلية، وليس هذا الكتاب موضعًا له. نَشْرُ الفَسَادِ: بعد فتنة سنة الستين (عام 1860 م) أرسلت فرنسا جيشًا لتحتل جبل لبنان دفاعًا عن الموارنة. «وِلَقَدْ كَانَ الاِحْتِلاَلُ الفِرَنْسِيُّ لَعْنَةً فِي سُورِيَّةَ، فَقَدْ فَتَحَ الفِرَنْسِيُّونَ يَوْمَذَاكَ فِي ¬

_ (¬1) " نشرة الأمم المتحدة " الآنفة الذكر، الصفحة 3، في الوسط، والصفحة 3، في الوسط. (¬2) بتاريخ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 1955. (¬3) بتاريخ 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1955.

لُبْنَانَ خَمْسِينَ حَانَةً وَعَدَدًا كَبِيرًا مِنْ بُيُوتِ الدَّعَارَةِ. وَكَذَلِكَ تَفَشِّي السُّكْرِ إِلَى حَدٍّ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ مَعْرُوفًا. ثُمَّ زَالَ الاِحْتِلاَلُ الفِرَنْسِيُّ، وَلَكِنَّ سَيِّئَاتَهُ لَمْ تُزَلْ» (¬1). ولم يكن الفرنسيون في ذلك وحدهم مَثَلَ السُّوءِ بل جاراهم الإنجليز كخيل الرهان. وصلت إلى بيروت سفينة حربية إنجليزية إلى حانة يديرها مسيو (تروية) (¬2) وطلبوا خمرًا فلم يعطهم. عندئذٍ اندفعوا إلى الحانة يحطمون ما فيها، فأخذوا وسجنوا. ويقول المبشر (جسب) بصراحة: «أَنَّ هَذَا العَمَلَ قَدْ حَطَّ مِنْ قَدْرِ الإِنْجْلِيزْ فِي عُيُونِ أَهْلِ بَيْرُوتَ، وَكَانَ مِمَّا يُقَلِّلُ الثِّقَةَ بِالمُبَشِّرِينَ» (¬3). ومما يستحق الذكر ويساعد على فهم هذه السياسة من الإفساد الجدي الذي كان يرافق الأعمال الاجتماعية التي كان الغربيون يقومون بها في بلادنا رياءً لمآربهم «أَنَّهُ كَانَ فِي بَيْرُوتَ عَامَ 1856 حَانَةً وَاحِدَةً يُدِيرُهَا رَجُلٌ يُونَانِيٌّ. غَيْرَ أَنَّ (البَاشَا) - الحَاكِمُ - أَغْلَقَهَا. وَلَكِنَّ القُنْصُلَ اليُونَانِيَّ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ فَتَحَهَا لأَنَّ صَاحِبَهَا يَتَمَتَّعُ بِحِمَايَةِ دَوْلَةٍ مَسِيحِيَّةٍ ... وَكَذَلِكَ كَانَتْ الخَمْرُ تُشْحَنُ مِنْ إِنْجْلِتْرَا إِلَى الإِمْبْرَاطُورِيَّةِ العُثْمَانِيَّةِ لِتَفْتِكَ بِالشُّعُوبِ العُثْمَانِيَّةِ كَمَا هِيَ الآنَ (¬4) تَفْتِكُ بِالقَبَائِلِ الأَفْرِيقِيَّةِ» (¬5). والإنجليز قديمو العهد في صناعة الإفساد الخلقي للولوج بالاستعمار إلى مناطق العالم المختلفة. في عام 1839 ثارت بين إنجلترا والصين حرب عرفت باسم (حرب الأفيون)، ذلك لأن الشركات البريطانية كانت قد أنشأت في البنغال - شرقي الهند - مزارع ومعامل للأفيون وأخذت ترسله إلى الصين جَهْرًا وَسِرًّا. ولما حاولت الصين أن تمنع دخول الأفيون إلى بلادها حرصًا على صحة أهلها، هبت إنجلترا لمحاربة الصين دفاعًا عن حرية التجارة. وانتهت (حرب الأفيون) بانتصار إنجلترا وعقد معاهدة نانكين (1842) واستيلاء الإنجليز على جزيرة هونغ كونغ. واستمر تهريب الأفيون إلى الصين احتكارًا تامًا للإنجليز وللشركات الإنجليزية (¬6). وهكذا فرض الإنجليز هذا المخدر بقوة السلاح على أهل الصين تنفيذًا لخطة أملتها مطامع الاستعمار (¬7). ¬

_ (¬1) Jessup 233 ff. , 730 (¬2) Mr. Troyet (¬3) Jessup 235 (¬4) في زمن المبشر (جسب): Jessup . (¬5) Jessup 120 (¬6) راجع " الاستعمار الفرنسي عدو الشعوب ": ص 19 وما بعدها. (¬7) " قصة العقاقير "، للدكتور محمود سلامة (سلسلة إقرأ، رقم 124)، ص 9.

ولا ريب في أن تهريب «حَشِيشَةَ الكِيفْ» (الحشيش) إلى مصر لم يكن سببه براعة المهربين المحليين فقط وعجز الإنجليز عن اكتشاف وسائل التهريب. وقد ظهر الآن وراء كل شك أن عمليات التهريب الكبرى تستند إلى مساعدات دولية هامة. أما لماذا يستجيز الأوروبيون إفساد الشعوب في آسيا وأفريقيا فليس ذلك فقط لأنهم يحبون الكسب والسيطرة، بل لأنهم يعتقدون أن الشعوب الملونة أقل منهم قدرًا في سلم الإنسانية. من هذا الاعتقاد نشأت فلسفة أوروبا في الاسترقاق والاستعمار. منذ أوائل القرن السادس عشر للميلاد بدأ البرتغاليون تجارة الرقيق، ثم تبعتهم في ذلك دول أوروبا. وبلغ الاتجار بالزنوج مداه في بريطانيا، حتى أن الملكة (إليزابت الأولى) شاركت الجلابين في تجارتهم هذه وأعارتهم بعض سفن أسطولها. وتطلبت إنجلترا عذرًا للاتجار بالرقيق السود فتبرع لها به رجال الدين. لقد وجدوا في " التوراة " (¬1) «أَنَّ حَامْ بْنُ نُوحٍ كَانَ قَدْ أَغْضَبَ أَبَاهُ، قِيلَ: إِنَّ نُوحًا سَكَرَ يَوْمًا فَتَعَرَّى وَنَامَ فِي خَبَائِهِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ ابْنَهُ حَامًا أَبْصَرَهُ عَلَى هَذِهِ الحَالِ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ وَعَلِمَ أَنَّ حَامًا قَدْ أَبْصَرَهُ عَارِيًا دَعَا عَلَيْهِ وَلَعَنَ نَسْلَهُ الذِينَ هُمْ كَنْعَانُ وَقَالَ بِلَفْظِ " التَّوْرَاةِ ": " ... مَلْعُونٌ كَنْعَانُ. عَبْدُ العَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ ". وَقَالَ مُبَارِكُ الرَّبِّ: " إِنَّهُ سَامٌ ". وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ (¬2). ليفتح الله ليافث فيسكن مساكن سام. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ». وبما أن الأوروبيين يعتقدون أنهم أبناء (يافث) وأن الزنوج هم أبناء (كنعان بن حام) فقد أفتوا بأن استعباد الزنوج مباح، أو هو واجب بلفظ " التوراة "، و" التوراة " أساس الدين. والغريب في ذلك أن الأوروبيين قد وصلوا إلى القرن العشرين من تاريخ المدنية ولا يزالون يعتقدون، وخصوصًا الإنجليز والأمريكيين، أن الرقيق مباح وأن الاتجار بالبشر كالاتجار بالقطن والدجاج. على أن الأوروبيين يحرمون الرقيق في المؤتمرات والصحف والمجلات، ولكنهم يسترقون الناس ويهدرون الكرامات فعلاً كل يوم. ومعاملة الإنجليز والهولنديين للزنوج والهنود معروف (¬3). أما معاملة الأمريكيين البيض للأمريكيين السود في الولايات المتحدة نفسها فقد بلغ من السوء والفظاعة والهمجية ما خرج عن طوق الخيال، وامتلأت به الصحف والمجلات والكتب، إلا الضمير الأمريكي فإنه لا يزال متسعًا هادئًا، لا هو يطفح بتلك الفظائع ولا هو يتحرك عند رؤيتها تمثل كل يوم أمام عينيه. ¬

_ (¬1) " سفر التكوين ": 9/ 18 - 27. (¬2) " سفر التكوين ": 9/ 26. (¬3) يطالع القارئ بلا ريب كثيرًا من أخبار النزاع العنصري الشعبي والرسمي في جنوب أفريقيا.

" جمعية الشبان المسيحيين " و " جمعية الشابات المسيحيات "

" جَمْعِيَّةُ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ " وَ " جَمْعِيَّةُ الشَّابَّاتِ المَسِيحِيَّاتِ ": مما لا ريب فيه أننا أصبحنا مقتنعين الآن بأن للتبشير ظاهرًا وباطنًا، وبأن المبشرين يتوسلون بظاهر الأعمال الاجتماعية الرحيمة إلى باطن التبشير الاستعماري. فمن أوجه النشاط الاجتماعي التي تستغل في التبشير: " جَمْعِيَّةُ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ " وَ " جَمْعِيَّةُ الشَّابَّاتِ المَسِيحِيَّاتِ " (¬1)، المخيمات، مؤتمرات الطلاب، الألعاب الرياضية، بيوت الطلبة، ملاجئ الأطفال ثم نشر الكتب (¬2)؛ مظاهر كلها بريئة مفيدة ولكنها تحمل في طياتها التبشير الذي يقود إلى الاستعمار. وبما أن الكلام على هذه كلها معناه إعادة الكلام على التبشير كله فإننا سنشير إلى ما لم تسبق الإشارة إليه من قبل إشارة موجزة. إن فروع " جَمْعِيَّةِ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ " وَ " جَمْعِيَّةِ الشَّابَّاتِ المَسِيحِيَّاتِ " قد نشرت في الشرق لتكون عَوْنًا على تغلغل التبشير المسيحي. يقول (أديسون) (¬3): «إِنَّ عَوَامِلَ التَّعْلِيمِ المَسِيحِيِّ فِي مِصْرَ، تَزِيدُ قُوَّةً عَلَى قُوَّتِهَا بِمُؤَسَّسَتَيْ " جَمْعِيَّةِ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ " وَ " جَمْعِيَّةِ الشَّابَّاتِ المَسِيحِيَّاتِ "، وَهُمَا مُؤَسَّسَتَانِ غَيْرِ طَائِفَتَيْنِ (¬4) ... إِنَّ لِهَاتَيْنِ الجَمْعِيَّتَيْنِ مَرَاكِزَ نَشِيطَةٍ، وَخُصُوصًا فِي القَاهِرَةِ وَالإِسْكَنْدَرِيَّةِ. هَذِهِ الفُرُوعُ تُقَدِّمُ (لِلْمُسْلِمِينَ) مُنَاسَبَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لِلأَلْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ .. وَتُهَيِّئُ فِي المُجْتَمَعِ أَلْوَانًا مِنَ النَّشَاطِ تَنْدُرُ فِي الشَّرْقِ ... وَفِي هَذَا اِقْتِرَابٌ مِنَ المُسْلِمِينَ (بِالتَّبْشِيرِ)». ويصرح الكاتب نفسه بمهمة " جَمْعِيَّةِ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ " وَ " جَمْعِيَّةِ الشَّابَّاتِ المَسِيحِيَّاتِ " في آخر كتابه، وحينما يتكلم عن فلسطين خاصة، فيقول: «مُنْذُ الاِحْتِلاَلِ البَرِيطَانِيِّ لِفَلَسْطِينَ اتَّسَعَ التَّبْشِيرُ البْرُوتِسْتَانْتِي وَأَخَذَ المُبَشِّرُونَ يَسْتَخْدِمُونَ ¬

_ (¬1) لقد تبدل اسم هاتين الجمعيتين فأصبح: " الجَمْعِيَّةُ المَسِيحِيَّةُ لِلْشُّبَّانِ " و" الجَمْعِيَّةُ المَسِيحِيَّةُ لِلْشَّابَّاتِ ". وفي هذا التبديل غرض غير خفي. إن معناها اللفظي الأول كان: " جَمْعِيَّةٌ لِلْشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ " وحدهم وللشابات المسيحيات وحدهن. أما الآن فالمعنى اللفظي قد أصبح: جمعية مسيحية (يديرها المسيحيون) للشبان (لكل الشبان) وللشابات (لكل الشابات). على أن المقصد الحقيقي كان من قبل كما هو الآن. وهو الآن كما كان من قبل. (¬2) Christian Workers 23 - 26 ; 61 ff (¬3) Addison 159, cf. 110 (¬4) ibid 328 f لما قال (أديسون) عن " جَمْعِيَّةِ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ " وَ " جَمْعِيَّةِ الشَّابَّاتِ المَسِيحِيَّاتِ ": أنهما (غَيْرِ طَائِفَتَيْنِ) عَنِيَ أنهما تقبلان أعضاء من جميع الأديان والمذاهب، ولم يعن أنهما لا تشتغلان بالأمور الدينية الطائفية.

كُلَّ شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ التَّبْشِيرِ اِسْتِخْدَامًا فَعَّالاً. مِنْ ذَلِكَ التَّبْشِيرُ الإِجْمَاعِيُّ وَالفَرْدِيُّ، وَمِنْ ذَلِكَ تَوْزِيعُ الأَنَاجِيلِ وَالكُتُبِ المَسِيحِيَّةِ الأُخْرَى، وَكَذَلِكَ التَّعْلِيمُ الاِبْتِدَائِيُّ وَالثَّانَوِيُّ (حَتَّى أَصْبَحَ فِي فِلَسْطِينَ وَاحِدَةٌ وَأَرْبَعُونَ مَدْرَسَةٍ فِيهَا أَرَبْعَةُ آلاَفٍ وَثَمَانِمِائَةِ تِلْمِيذَةٍ. ثَمَّ هُنَالِكَ الأَعْمَالُ الطِّبِّيَّةُ وَالمُسْتَشْفيَاتُ وَالمُسْتَوْصَفَاتُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الأَعْمَالُ الاِجْتِمَاعِيَّةُ التِي تُقَدِّمُهَا مُؤَسَّسَاتٌ مِثْلَ مُؤَسَّسَتَيْ " جَمْعِيَّةِ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ " وَ " جَمْعِيَّةِ الشَّابَّاتِ المَسِيحِيَّاتِ ". وَلَقَدْ كَانَ (وَلْبَرْتْ سْمِيثْ) أَشَدَّ صَرَاحَةَ فِي مَقَالٍ لَهُ عُنْوَانُهُ: " جَمْعِيَّةُ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ فِي الشَّرْقِ الأَدْنَى " (¬1)، قَالَ: " إِنَّ جَمْعِيَّةَ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ قَدْ جَاءَتْ إِلَى الشَّرْقِ الأَدْنَى لِتُعَاوِنَ المُؤَسَّسَاتِ المَسِيحِيَّةِ. أَمَّا هَدَفُهَا الرَّئِيسِيُّ فَهُوَ تَنْشِئَةُ الشُّبَّانِ عَلَى أُسُسٍ مَسِيحِيَّةٍ. وَلِفُرُوعِ هَذِهِ الجَمْعِيَّةِ مِنْهَاجٌ دَائِمٌ، وَلَهَا اِجْتِمَاعَاتٌ تُعْرَضُ فِيهَا الدَّعْوَةُ بِلاَ اِسْتِحْيَاءٍ وَلاَ تَحْوِيرٍ. وَهُنَالِكَ أَيْضًا سِلْسِلَةٌ مِنَ الاِجْتِمَاعَاتِ التَّبْشِيرِيَّةِ ". وَمَعَ كُلَّ هَذِهِ الأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى أَنَّ " جَمْعِيَّةَ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّةَ " و " جَمْعِيَّةَ الشَّابَّاتِ المَسِيحِيِّةَ " أَلاَتٌ لِلْتَّبْشِيرِ، فَإِنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْدِقَائِنَا قَدْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَأَنْكَرُوا عَلَيْنَا حَشْرَ هَاتَيْنِ الجَمْعِيَّتَيْنِ بَيْنَ المُؤَسَّسَاتِ التِي تَعْمَلُ فِي التَّبْشِيرِ، وَكَانُوا يَدْعُونَ دَائِمًا وَيُصِرُّونَ عَلَى دَعْوَاهُمْ بِأَنَّ النَّصَّ الآتِي مِنْ كِتَابِ " عَمَلُ الإِرْسَالِيَّاتِ " تَأْلِيفِ (كُورْنِيلْيُوسْ بَاتُونْ) صَرِيحٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ كُلَّ الصِّرَاحَةِ (¬2): " إِنَّ تَقْسِيمَ العَمَلِ بَيْنَ العَامِلِينَ المَسِيحِيِّينَ (فِي حَقْلِ التَّبْشِيرِ) قَدْ اِقْتَضَى، بِنَاءً عَلَى التَّرْتِيبِ الحَكِيمِ، أَنْ يَعْهَدَ إِلَى جَمْعِيَّةِ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ بِالعَمَلِ فِي المُدُنِ، وَخُصُوصًا بَيْنَ الطُّلاَّبِ وَالطَّبَقَاتِ المُثَقِّفَةِ فِي المُدُنِ. أَمَّا الصِّينُ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ المَيَادِينِ المُوَافِقَةِ فِي العَالَمِ لَمِثْلِ هَذَا النُّوْعِ مِنَ التَّقْرِيبِ مِنْ شَعْبٍ غَيْرَ مَسِيحِيِّ ... إِنَّ هَذِهِ الجَمْعِيَّةَ، تَسْتَطِيعُ، بِوَاسِطَةِ نَشَاطِهَا الجَانِبِيِّ فِي الحَيَاةِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ وَالرِّيَاضِيَّةِ، أَنْ تَجْتَذِبَ رِجَالاً لَيْسَ بِالإِمْكَانِ أَنْ يَتَقَبَّلُوا النَّصْرَانِيَّةَ بِطْريقَةً شَخْصِيَّةً ... إِنَّ جَمْعِيَّةَ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ قَدْ قَامَتْ بِخِدْمَةٍ قَيِّمَةٍ جِدًّا ... مِنْ طَرِيقِ الاِجْتِمَاعَاتِ الخِطَابِيَّةِ العَامَّةِ. فَقَدْ طَافَ بَعْضُ الخُطَبَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ وَسَائِلِ الإِيضَاحِ المُتَعَلِّقَةِ بِالتِّلِغْرَافِ اللاَّسِلْكِيِّ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الاِخْتِرَاعَاتِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُثِيرَ فُضُولَ الصِّينِيِّينَ وَاِهْتِمَامِهِمْ. وَقَدْ سَمِعَ مُحَاضِرَاتِ الأُسْتَاذِ (رُوبَرْتْسُونْ) مَا لاَ يَقِلُّ عَنْ مِائَةِ أَلْفِ شَخْصٍ وَشَاهَدُوا ¬

_ (¬1) The Y.M.C.A in the Near East, by Wilbert B. Smith, MW. Apr. 33, pp. 148 ff (¬2) باتون: 79 - 83.

المرأة فتاة وأما

تَجَارِبَهُ العِلْمِيَّةَ ... " وَكَانَ الأُسْتَاذُ (رُوبَرْتْسُونْ) يُضِيفُ إِلَى كَلاَمِهِ عَلَى العِلْمِ عَرْضًا لِلْنَّصْرَانِيَّةِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الحَيَاةِ الشَّخْصِيَّةِ وَالقَوْمِيَّةِ فِي الصِّينِ. وَلَقَدْ تَعَوُّدَ عَدَدٌ مِنَ الخُطَباءِ أَيْضًا أَنْ يَهْتَمُّوا بِالجَانِبِ الرُّوحِيِّ. وَكَانَ الذِينَ يُحْضُرُونَ هَذِهِ الاِجْتِمَاعَاتِ الدِّينِيَّةِ الخَالِصَةِ يَزِيدُونَ عَلَى عَدَدِ الذِينَ يَأْتُونَ إِلَى المُحَاضَرَاتِ العَادِيَّةِ. وَفِي أَثْنَاءِ رِحْلَةٍ (خِطَابِيَّةٍ) مِثْلَ هَذِهِ خَطَا نَحْوُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ شَخْصٍ خُطُوَاتِهِمْ الأُولَى نَحْوَ تَقَبُّلِ النَّصْرَانِيَّةِ. وَهَكَذَا يُبْرُزُ النَّشَاطُ الاِجْتِمَاعِيُّ وَالفِكْرِيُّ لِجَمْعِيَّةِ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ بَيْنَ وَسَائِلِ التَّبْشِيرِ فِي الصِّينِ .... أَمَّا " جَمْعِيَّةُ الشَّابَّاتِ المَسِيحِيَّاتِ " فَإِنَّهَا تُحَاوِلُ أَنْ تَصْنَعَ لِنِساءِ الصِّينِ مَا تُحَاوِلُ " جَمْعِيَّةُ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ " صُنْعَهُ لِلْرِّجَالِ». ولا ريب في أن عمل هاتين الجمعيتين في سائر بلاد العالم، وفي البلاد العربية بطبيعة الحال، لا يختلف عن عملها في الصين في شيء البتة. المَرْأَةُ فَتَاةً وَأُمًّا: ويهتم المبشرون خاصة بالمرأة. إن المرأة مدار الحياة الاجتماعية، والوصول بالتبشير إليها وصول إلى الأسرة كلها. من أجل ذلك كانت " جمعية الشابات المسحيات " بفروعها، ومن أجل ذلك كانت المنازل والمعاهد التي يعدها المبشرون للفتيات خاصة (¬1). ويصفق المبشرون باليدين لأن المرأة المسلمة قد تخطت عتبة دارها. لقد خرجت إلى الهواء الطلق، لقد نزعت عنها حجابها. ولكنهم لا يصفقون لأن المرأة المسلمة قد فعلت ذلك، بل لأن فعلها هذا يتيح للمبشرين أن يتغلغلوا عن طريق المرأة في الأسرة المسلمة بتعاليمهم التبشيرية. ولهذا السبب خاصة أخذ المبشرون منذ أمد يأتون بالنساء المبشرات ليتصلن بالنساء المسلمات وهم يصيحون: «لَقَدْ سَنَحَتْ لَنَا فُرْصَةٌ جَدِيدَةٌ» (¬2). وللمرأة عند المبشرين أهمية عظيمة، قال نفر منهم (¬3): «بِمَا أَنَّ الأَثَرَ الذِي تُحْدِثُهُ الأُمُّ فِي أَطْفَالِهَا - ذُكُورًا أَوْ إناثًا - حَتَّى السَّنَةِ العَاشِرَةِ مِنْ عُمُرِهِمْ، بالِغٌ فِي الأَهَمِّيَّةِ، وَبِمَا أَنَّ النِّسَاءَ هُنَّ العُنْصُرُ المُحَافِظُ فِي الدِّفَاعِ عَنْ العَقِيدَةِ، فَإِنَّنَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الهَيْئَاتِ التَّبْشِيرِيَّةِ يَجِبُ أَنْ تُؤَكِّدَ جَانِبَ العَمَلِ بَيْنَ النِّسَاءِ المُسْلِمَاتِ عَلَى أَنَّهُ وَسِيلَةٌ مُهِمَّةٌ فِي التَّعْجِيلِ بِتَنْصِيرِ البِلاَدِ الإِسْلاَمِيَّةِ». من أجل ذلك اهتم المبشرون بالتبشير بين النساء اهتمامًا خاصًا، ووضعوا له البرامج ¬

_ (¬1) cf. Supra ; cf. too MW. Oct. 37, pp. 362 ff (¬2) Milligan 64 f (¬3) Christian Workers 40

المفصلة وأكثروا من إرسال المبشرين والمبشرات لهذه الغاية، ثم استعانوا على ذلك بكثير من الجمعيات النسائية في أمريكا (¬1). وَتَبَدَّى موضوع المرأة في صورته الحقيقية من أن المرأة عنصر فعال في الحياة الدينية، فإذا بالمؤتمر التبشيري الذي عقد في القاهرة عام 1906 يتمخص، فيما تمخض عنه، عن هذا النداء الذي وضعته الأعضاء المبشرات في ذلك المؤتمر: «لاَ سَبِيلَ إلاَّ بِجَلْبِ النِّسَاءِ المُسْلِمَاتِ إِلَى المَسِيحِ. إِنَّ عَدَدَ النِّسَاءِ المُسْلِمَاتِ عَظِيمٌ جِدًّا لاَ يَقِلُّ عَنْ مِائَةِ مِلْيُونَ، فَكُلُّ نَشَاطٍ مُجِدٍّ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِنَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَوْسَعَ مِمَّا بُذِلَ إِلَى الآنَ. نَحْنُ لاَ نَقْتَرِحُ إِيجَادَ مُنَظَّمَاتٍ جَدِيدَةٍ، وَلَكِنْ نَطْلُبُ مِنْ كُلِّ هَيْئَةٍ تَبْشِيرِيَّةٍ أَنْ تَحْمِلَ فَرْعَهَا النِّسَائِيَّ عَلَى العَمَلِ وَاضِعَةً نُصُبَ عَيْنَيْهَا هَدَفًا جَدِيدًا هُوَ الوُصُولُ إِلَى نِسَاءِ العَالَمِ المُسْلِمَاتِ كُلُّهُنَّ فِي هَذَا الجِيلِ ..» (¬2). ومنذ زمن قديم والمبشرون يرون أن يهاجموا هذا المعقل الحصين في الإسلام، فزعموا أن المرأة المسلمة متأخرة، وأنها لا تتحرر إلا إذا دخلت في النصرانية (¬3). ثم إنهم يزعمون أيضًا «أَنَّ الدِّينَ الإِسْلاَمِيَّ نَفْسُهُ مَصْدَرُ أَلَمٍ لِلْمَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، إِنَّهَا تَتَأَلَّمُ بِسَبَبِهِ طَبِيعِيًّا وَرُوحِيًّا وَعَقْلِيًّا: إِنَّهَا تَخَافُ مِنْ زَوْجِهَا وَمِنَ المَوْتِ وَمِنَ الطَّلاَقِ» (¬4). على أن الذي يفتريه المبشرون على المرأة المسلمة كثير لا سبيل إلى حصره ولا إلى تعداد وجوهه، فلماذا يفعلون ذلك؟ إن لذلك عندهم غايتين (¬5): 1 - أن يثيروا عاطفة الأغنياء من النصارى في أوروبا وأمريكا للبذل في سبيل التبشير. 2 - أن يحطموا من عزيمة المسلمين ويحملوهم على الشعور بالنقص في أنفسهم. ويبالغ بعض المبشرين فيزعم أن المسلمين لا يستطيعون أن يتخيلوا أن بإمكان المرأة أن تتعلم الدين. فمن أجل ذلك يريد هذا المبشر الذكي أن يستغل المبشرون كلهم هذه الناحية فيرسلوا إلى أفغانستان خاصة نساءً مبشرات منهم. من هذا السبيل تستطيع هؤلاء المبشرات أن يدخلن إلى الحريم (¬6) فيبشرن بين نسائه من غير أن يتسرب شك إلى الأفغانيين بحقيقة مهمتهن (¬7). ¬

_ (¬1) Re-thinking Missions 271. 273, cf. 285 (¬2) Gairdner 305 (¬3) Methods of Missions 21 (¬4) ibid. 111 f (¬5) ibid. 110 (¬6) لا يزال كثيرون من الغربيين يعتقدون بأن البيت الإسلامي دائرة مضروبة على نساء يتمتع بهن الرجل على هواه. (¬7) Islam and Missons 182

وبعد أن تُدَرِّبَ هَؤُلاَءِ المُبَشِّرَاتُ الأَجنبيات نساءً وطنياتٍ يتوجب عليهن أن ينسحبن من ميدان التبشير ويتركن مكانهن لمبشرات وطنيات من أبناء البلاد. على أن المبشرات الأجنبيات يجب أن يبقين للعمل ومبشرات من وراء ستار (¬1). والمبشرة عندهم على كل حال امرأة ذات شخصية مسيحية مشعة موحية (¬2). وحينما ينظر المبشرون من خلال الأعصر والحوادث لا يستطيعون أن يَرَوْا إلا التبشير. يرى المبشرون أن الحرب العالمية الأولى قد أثرت في كل صقع وشعب، وكذلك فعلت بالمرأة المسلمة فنبهت فطرتها إلى طلب الحرية. إن لهذا التبدل الطارئ على المرأة المسلمة عندهم قيمة خاصة: إن نساء العالم الإسلامي قد أصبحن الآن - بعد هذا التبديل الجديد - أكثر تعرضًا لوصول المبشرين إليهن بالتعاليم المسيحية (¬3). أما طريق التبشير بين الفتيات والنساء، اللواتي تعضهن الحاجة خاصة، فقد لخصها مؤتمر [قسنطينة] (في الجزائر) بما يلي (¬4): «إِنَّ الحَاجَةَ المُلِحَّةِ المُسْتَعْجَلَةَ إِنَّمَا هِيَ إِنْشَاءُ بَيْتٍ أَوْ بُيُوتٍ لِلْفَتَيَاتِ المُطَلَّقَاتِ وَلِلأَرَامِلِ الصِّغَارِ. وَيَجِبُ أَلاَّ تَكُونَ هَذِهِ البُيُوتُ مُؤَسِّسَاتٍ كَبِيرَةٍ، بَلْ أَمَاكِنَ يُخَيِّمُ عَلَيْهَا الجَوُّ العَائِلِيُّ، ثَمَّ تُفَرَّقُ النِّسَاءُ فِيهَا حَسْبَ أَحْوَالِهِنَّ وَحَاجَاتِهِنَّ. وَكَذَلِكَ مُكْثُ هَؤُلاَءِ النِّسْوَةِ فِي تِلْكَ البُيُوتِ يَجِبُ أَنْ يَطُولَ أَوْ يَقْصُرَ حَسْبَ المُقْتَضَيَاتِ الشَّخْصِيَّةِ لَكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. ثَمَّ إِنَّ كُلَّ فَتَاةٍ يَجِبُ أَنْ تُعَلَّمَ مِنَ الصِّنَّاعَاتِ المَحَلِّيَّةِ مَا يُمَكِّنُهَا العَيْشَ بِهِ بَعْدَ أَنْ تُغَادِرَ تِلْكَ البُيُوتِ. وَأَخِيرًا نَرَى أَنَّ أَمْثَالَ هَؤُلاَءِ النِّسْوَةِ يَكُنَّ فِي أَثَناءِ مُكْثِهِنَّ فِي هَذِهِ البُيُوتِ تَحْتَ تَأْثِيرِ " الإِنْجِيلِ ". ثَمَّ إِنِّنَا نَخْتَارُ مِنْهُنَّ أُولَئِكَ اللَّوَاتِي يُرْجَى أَنْ يُمَرَّنَّ أَكْثَرَ مِنْ سِوَاهُنَّ لِيَكُنَّ بِدَوْرِهِنَّ مُبَشِّرَاتٍ بَيْنَ قَوْمِهِنَّ. وَلَقَدْ اِعْتَنَقَ الفِرَنْسِيُّونَ أَيْضًا هَذَا الرَّأْيَ فِي التَّبْشِيرِ بَيْنَ النِّسَاءِ». ويبدو أن تشجيع الشبان غير المسيحيين على الزواج بالفتيات الأجنبيات المسيحيات من وسائل التبشير أيضًا. هذا الموضوع شَائِكٌ يحتاج إلى شيء من البسط حتى تُفْهَمَ مقاصدنا من طرقه. إن للزواج بالأجنبيات، في جميع الشعوب، عوامل مختلفة. من هذه العوامل استظراف الجمال الغريب، وإن كان في بعض الأحيان أقل قدرًا من الجمال المألوف. إن الآسيوي الأسمر يميل إلى الأوروبية المهقاء (¬5) أو التي أوتيت بسطة في الجسم وإن كانت بنت جلدته ¬

_ (¬1) Re-thinking Missions 182 (¬2) ibid. 283 (¬3) Missionary Outlook 66 ff (¬4) Christian Workers 71 (¬5) المهقاء هي البيضاء الخالصة البياض (كَلَوْنِ الكِلْسِ) أي التي لا يخالط بياضها حمرة أو صفرة.

أحسن منها من الناحية الروحية والألفة في الحياة البيتية وتوفير السعادة. ولكن لما انتشرت الحضارة الغربية في الشرق وانتشر معها شيء يسير أو كثير من الثقافة الأجنبية والذوق الأجنبي وأساليب الحياة الاجتماعية المألوفة في الغرب، ثم ظل جانب كبير من الحياة في الشرق مُوصَدًا دُونَ هذه الأساليب التي اتفق أنها أوثق صلة بالغريزة البشرية وأكثر تساهلاً في سلوك الأفراد الشخصي والاجتماعي، مال المثقفون بالثقافة الغربية من الشرقيين إلى الانفلات من البيئة الشرقية المغلقة للانطلاق في البيئة الغربية المشرعة إلى كل جهة. ثم لما كثر أيضًا التردد بين الشرق والغرب للتجارة والأسفار وطلب العلم والبعثات المختلفة نشأت دواع من الألفة والحب والمصلحة واتفاق الأذواق بين الشرقيين والغربيات في الأكثر. ولقد أجاز الإسلام الزواج بالكتابيات من اليهوديات والنصرانيات بعد أن سكنت عواصف العداوة بين الإسلام وبين اليهود والروم النصارى. ثم جئنا نحن اليوم نقيس الفرنسيات والبريطانيات والأمريكيات على الروميات في صدر الإسلام بجامع النصرانية بينهن، فنتزوج بهن من غير حرج، مع أن الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين هم ألد أعدائنا اليوم. فإذا نحن عرفنا أن زواج المسلم بالنصرانية واليهودية كان محرمًا في بدء الدعوة الإسلامية لاشتداد أوار الحرب والعداوة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى ثم جاز الزواج بالنساء منهم لما زالت دواعي العداوة والحرب أدركنا أن الزواج بالفرنسيات والبريطانيات والأمريكيات يجب أن يكون اليوم ممنوعًا حُكْمًا، للعداوة التي يحملها الغربيون للإسلام والحروب الدائرة فعلاً بين المسلمين والغربيين في كل مكان. ولا ريب أبدًا في أن الزواج بالإسرائيليات، وباليهوديات اللواتي لا يسكن إسرائيل أيضًا، يجب أن يكون محرمًا قطعًا (¬1). ونأتي الآن إلى الصعيد الشخصي، إن الموضوع المقصود قد تختلف أجنبية من أجنبية وقد تكون مثلاً أو العلم أو السلوك الاجتماعي. ولكن حينما تضع الجماعات أسسًا لحياتها بل تقصد إلى القواعد العامة وتهتم بمصلحة العديد الأكثر. من أجل ذلك قد نرى مسلمين تزوجوا بأجنبيات وهم يعيشون عيشة هنيئة صحيحة، بل قد نرى أيضًا أولادًا ولدوا من أمهات غير مسلمات ثم هم مع ذلك ذَوُو محافظة على الشعائر وغيرة على الإيمان. ولكن القاعدة العامة هي أن الزواج بالأجنبيات غير المسلمات يسلب البيت الإسلامي جَوَّهُ ¬

_ (¬1) راجع " الأسرة في الشرع الإسلامي "، تأليف الدكتور عمر فروخ: ص 82.

الروحي الإسلامي ويبدل كثيرًا من المثل العليا فيه. والغالب أن مثل هذا البيت لا ينشأ على اللغة العربية، أو قد ينشأ على لغة أجنبية إلى جانب اللغة العربية. وإذا علمنا أن اللغة الأجنبية تكون في هذه الحال لغة الأم أدركنا تأثير تلك اللغة على الأولاد وخصوصًا حينما يكون الأب جاهلاً لتلك اللغة أو قليل المعرفة بها. ثم يجب أن ندرك وراء كل ريب أن الزواج بالأجنبيات ينشأ دائمًا من دواع عارضة: من استلطاف في أمر من الأمور، أو فورة عاطفية، أو ألفة في رحلة، أو هربًا من نفقات الزواج في الشرق، أو من جُبْنٍ اِجْتِمَاعِيٍّ في البيئة التي نشأ فيها الشاب المسلم وانفتاح البيئة الجديدة التي وجد فيها نفسه، أو ما يشبه ذلك من الأمور الوقتية الزائلة. وكذلك يجب أن نعلم أن أشخاصًا كثارًا لهم قيمة اجتماعية أو سياسية أو قيمة ذاتية على الأقل وضع في طريقهم فتيات تزوجوهن ثم وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الإنسلاخ من بيئتهم فخسرتهم بيئتهم وفقدت بفقدهم عاملاً قويًا في إنهاضها أو إصلاحها. ويتمثل الخطر في الزواج بالأجنبيات في صورة بارزة جِدًّا حينما تكثر الزوجات غير المسلمات في البيئات الإسلامية فتتخلخل حينئذٍ تلك البيئات وتضعف الحياة الإسلامية فيها. ويحسن أن نذكر أيضًا أن الزواج بالأجنبيات يترك آثارًا سيئة في الأسرة والمجتمع. إن الصدمة النفسية،التي تصيب فتاتنا إذا رأت قريبها أو مواطنها من بني أمتها قد آثر عليها أخرى أجنبية، تعظم أحيانًا حتى تحمل تلك الفتاة على نقمة مرة تنتهي بكبت أو ثورة عنيفة أو استهتار هادئ، وكل ذلك شر كبير. وكذلك يسلب الزواج بالأجنبيات مجتمعنا عددًا من الرجال فيزيد فيه عدد النساء، فيخلق ذلك لنا مشكلة اجتماعية أو يعقد المشكلة الناشئة في مجتمعنا الشرقي، وفي المجتمع العربي إلى حد أبعد، من زيادة عدد النساء على الرجال. إن زواج الشرقيين بالغربيات يحل، في هذه الناحية، من مشاكل المجتمع الغربي ليزيد في مشاكل المجتمع الشرقي. وهكذا يكون الغربيون، قصدوا هم أو لم يقصدوا وأردنا نحن أو لم نرد قد وصلوا إلى أهداف لهم سياسية ودينية. وأشد من ذلك إيلامًا أن نفرًا من قادة العرب ونفرًا من القائمين على رأس الحركات القومية العربية متزوجون بأجنبيات. فكيف يستطيع هؤلاء أن يكونوا ذوي بأس وصلابة في كفاحهم القومي وفي بيئتهم بينما أولادهم يرثون من الحمية الفرنسية من أمهم مثلاً مقدارًا كالمقدار الذي يرثونه من الحمية العربية من أبيهم. • • • ويتوسل المبشرون إلى التأثير في أذهان الشرقيين بالأبنية الفخمة العظيمة. إن كنائس

ماذا تضم هذه الأندية؟

الإرساليات ومدارسها وأنديتها يجب أن تكون في رأي هؤلاء المبشرين شاهقة غريبة المظهر حتى تؤثر في عقول الزائرين وفي عواطفهم وخيالاتهم (¬1). إن ذلك في اعتقاد المبشرين يُقَرِّبُ غير النصارى إلى النصرانية. لا ريب في أن للمظاهر العاقلة تأثيرًا في النفوس. ولكن ما علاقة البناء الجميل بصحة الدين؟ ولو فرضنا أن ثمت مثل هذه العلاقة لوجب علينا أن نعتقد أن الأهرام في مصر وقلعة بعلبك في الجمهورية اللبنانية وهياكل بورما والهند تدل على أن عبادة الثور المصري وأن الوثنية الرومانية أفضل من النصرانية. هذا من الناحية النظرية، أما من الناحية العلمية فإن المبشرين قد أقاموا في القدس بناءً فخمًا يضم " جمعية الشبان المسيحيين "، بناءً يُعَدُّ من أجمل الأبنية وأفخمها في الشرق. ومع ذلك فإن المبشرين أنفسهم قد ساعدوا على تسليم فلسطين لليهود. إن المبشرين لا يبشرون بالدين المسيحي بقدر ما يبشرون بالسيارات الأمريكية والمنسوجات البريطانية. هم يدعون أنهم يريدون أن ينشروا دين المسيح في أقاصي الأرض ثم هم يسلمون مهد المسيح نفسه إلى أعداء المسيح. مَاذَا تَضُمُّ هَذِهِ الأَنْدِيَةُ؟: تضم هذه الأندية نشاطًا اجتماعيًا مختلف الأنواع والألوان. هنالك حفلات تقام، ومحاضرات تلقى، وليالي أنس وسمر، ومطاعم، ومنامات يأوي إليها محبو الاقتصاد، وأسباب تسلية يغشاها الشباب. على أن الذي تضمه هذه الأندية ليس أمرًا مقصودًا لذاته، أي إن عمدة هذا النادي لا يهمها أن يأتي الناس ليتمتعوا بما في النادي من أسباب التثقيف والترويج، بل يهمها أن تجتذب بهذه الأسباب أناسًا يستمعون إلى صوت المبشر الإنجليزي أو الأمريكي أو الفرنسي أو الهولندي، أو ليجد حب الغرب طريقه إلى قلوب الشرقيين على الأقل. أما التقوى المسيحية أو الإنسانية الغربية فيجب أن نبحث عنهما في الولايات المتحدة وميادين أوروبا!. مَا الهَدَفُ الصَّحِيحُ لِهَذِهِ الأَبْنِيَةِ؟: هذه الأبنية الضخمة، وما تضم من أندية ومنامات ومطاعم وما إلى ذلك، إنما هي للتأثير في أولئك الذين سيصبح لهم في بلادهم أهمية ما، أو لمساعدتهم - على الأصح - لأن تصبح ¬

_ (¬1) Re-thinking Missions 13

التعليم المجاني

لهم تلك الأهمية (¬1) فيتيسر للغربيين حينئذٍ من طريق هؤلاء أن ينفذوا إلى حياة الشرقيين. ومن أبرز أنواع الأندية «بيوت الشباب». وهذه في الحقيقة نزل ينزلها من تضيق في وجوههم سبل العيش من الشبان أو ممن لا بيوت لهم أبدًا. وقد أصبحت هذه النزل جُزْءًا من البرنامج التبشيري منذ عهد قريب - بعد عهد قريب - بعد الحرب العالمية الأولى - فقد أخذ المبشرون يُؤْوُونَ إلى هذه النزل الصبيان والبنات والذين لا بيوت لهم، وقد كان هؤلاء يعلمون فيها أو يدربون على الأساليب المسيحية (¬2). ويعتمد البروتستانت الفرنسيون على مثل هذه الأندية في شمال أفريقيا، وفي جنوبي الجزائر على الأخص، للتبشير وبسط النفوذ (¬3). أما في لبنان خاصة فيعد اليسوعيون امثال هذه الأندية «حَرْبًا صَلِيبِيَّةً مَسِيحِيَّةً» (¬4) فهم يقولون: «إِنَّ الصَّلِيبِيَّةُ الأَفْخَارِسْتِيَّةِ تَزْدَهِرُ بَيْنَ الأَيْفَاعِ (¬5) وَالصِّغَارِ. مِنْ هَؤُلاَءِ تُحْشَدُ هَذِهِ الصَّلِيبِيَّةُ خَيْرَ الجُنُودِ لِلأَخَوِيَّةِ (¬6)، وَهَؤُلاَءِ هُمْ نَوَاةُ النَّادِي الكَاثُولِيكِي الذِي أُنْشِئَ فِي جَامِعَةِ يُوسُفَ اليَسُوعِيَّةَ فِي بَيْرُوتَ». هذا النادي، الذي لا يزال يعمل، هو للنصارى الكاثوليك وحدهم وعلى غرار " الجمعية الكاثوليكية للشبان الفرنسيين " (¬7)، ولكن يمكن أن يُقْبَلَ فيه نفر من النصارى الأرثوذكس على أن يكونوا أعضاء مشتركين، لا أعضاء عاملين. إن بحوث هذا النادي (¬8) بحوث مذهبية كاثوليكية. وأما منهاجه فهو في الدرجة الأولى «الحَيَاةُ الرُّوحِيَّةُ» الكاثوليكية. وأبرز ما فيه هذا المنهاج القداديس والبحوث المذهبية (¬9). التَّعْلِيمُ المَجَّانِيُّ: وأما التعليم المجاني يظهر عليه طابع الإحسان فإن المبشرين يهتمون به أيضًا. يعتقد اليسوعيون أنه يجب أن يقوم إلى جانب كل مدرسة يدفع طلابها النفقات المدرسية مدرسة ¬

_ (¬1) Milligan 108 (¬2) ibid. 108 f (¬3) cf. MW, Apr. 38, p. 207 (¬4) في الأصل: صليبية أفخارستية - Croisade Eucharistique (¬5) الأَيْفَاعُ: جَمْعُ يَفِعٍ: الغلام في العاشرة من سنه أو فوق ذلك قليلاً. (¬6) الأخوية: جمعية دينية مسيحية. (¬7) Assocation Catholique de la jeunesse Française (¬8) يعرف هذا النادي باسم: foyer de la jeunesse Catholique (¬9) Les Jésuites en Syrie 5 : 23 ff

المكتبات والتصوير والاستكشاف والنشر

صغيرة للفقراء مجانية، لا لتعليمهم في الدرجة الأولى بل لحفظ المظهر التبشيري باديًا للعيان (¬1). إن الفقراء أكثر انقيادًا لقبول هذا المظهر من أندادهم من أبناء الأغنياء. هذه النزعة في التعليم المجاني لا ينفرد بها اليسوعيون الفرنسيون وحدهم، بل يتنازعها جميع المبشرين. ولقد استطاع المبشرون المشيخيون (¬2) الأمريكيون أن يغلبوا المبشرين الآخرين في هذا الضرب من الإحسان (¬3). ومن الأمثلة التي تدل على اهتمام المبشرين بالتعليم المجاني أن المدارس الفرنسية والروسية (كانت) تُعَلِّمُ مَجَّانًا ثم تقدم الكتب والطعام واللباس أحيانًا بلا مقابل (¬4). المَكْتَبَاتُ وَالتَّصْوِيرُ وَالاِسْتِكْشَافُ وَالنَّشْرُ: واستغل المبشرون جميع أوجه النشاط الاجتماعي للتبشير، حتى تلك التي لا يسبق الوهم إلى أنها بؤرات تبشيرية. من هذه الأوجه كلها إنشاء المكتبات لبيع الكتب في الظاهر ولتكون سِتَارًا لإدارة أعمال التبشير. ولقد اتفق ذلك في أول الأمر حينما كانت الدولة العثمانية تنظر إلى المبشرين نظرتها إلى الجواسيس، كما مر معنا في فصل «السياسة». من هذه المكاتب مكتبة (شارليه بازييه) (¬5)، وكانت لا تزال إلى عهد قريب قائمة في السوق الطويلة في بيروت باسمها وبنائها. ثم هنالك المصور القديم المعروف باسم (بونفيس) (¬6)، ولقد كان محله في بيروت مشهورًا، وهو الذي خص نفسه بأخذ مشاهد سورية ولبنان على بطاقات بريدية. على أن محل (بونفيس) قد زال الآن. وهنالك نفر كثيرون جاءوا إلى هذه البلاد تجارًا وأساتذة وأطباء ولكنهم كانوا طلائع للتبشير على ما عرفنا من قبل. ويهمنا أن نعلم الآن أن أصحاب مكتبة شارليه بازييه والمصور (بونفيس) كانوا من البروتستانت الفرنسيين، وإنهم ظلوا يعيشون في بلادنا حتى عام 1926 (¬7). وهنالك نفر من المبشرين جاءوا إلى بلادنا تحت ستار البحوث العلمية كالاستكشافات الجغرافية والجيولوجية. من هؤلاء (وليم غودل) و (إِلِي سْمِيثْ Ellie Smith) و (وليم طومسون) الذي ظل ¬

_ (¬1) ibid. 7 : 7 (¬2) المشيخيون فرقة من البروتستانت Presbyterian (¬3) Richter 222 f (¬4) ibid. 227 (¬5) Charlier Béziés ولكنها بعد ذلك أصحبت تبيع إلى جانب الكتب وأدوات الكتابة أشياء أخرى. (¬6) Bonifis . (¬7) Bianquis 26

يعمل مبشرًا تحت ستار العلم خمسين عَامًا (¬1). ومما لا ريب فيه أن للكتب تأثيرًا كبيرًا في الناس. وتلك ظاهرة لم يغفلها المبشرون، إذ هم يرون أن أشد الوسائل أثرًا كان إنتاج النشرات المسيحية إلى المسلمين (¬2). وبقطع النظر عن قيمة هذا الأثر الذي يزعمونه، فإن سياستهم في إنتاج تلك النشرات تتبع التوجيه التالي: يحرص المبشرون في الدرجة الأولى على نشر الكتب الدينية كالأناجيل الأربعة، وعلى نشر أشياء من " التوراة ". ثم إنهم يطرقون في نشراتهم موضوعات مختلفة ولكن يفرغونها في قالب مسيحي ديني. والمبشرون حريصون جد الحرص على أن يتولى كتابة هذه الموضوعات أشخاص وطنيون لا مبشرون أجانب، أو أشخاص صبأوا إلى النصرانية حديثًا، لأن هؤلاء يكونون أقدر على فهم عقلية جماهيرهم وعلى عرض تلك الموضوعات على شكل يقرب من فهم تلك الجماهير (¬3). وفي بعض الأحيان يختار المبشرون موضوعات إسلامية لها مقابل في الديانة النصرانية (¬4) ثم يموهون الحقائق ويقفزون فوق الفروق. إن " القرآن الكريم " يسمي المسيح «كَلِمَةَ اللهِ»، ومعنى ذلك أن الله تعالى ألقى كلمته، أي أمره، بأن يولد المسيح على ذلك الوجه المعجز في التاريخ. ولكن المبشرين يأخذون «كَلِمَةَ اللهِ» ليفسروها التفسير النصراني. ووجه الخلاف أن كل شيء في هذا العالم كما يرى المسلمون كان بأمر الله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬5). وفي " القرآن الكريم " آيات كريمات تجعل عيسى كآدم مثلاً، وتجعل آدم يتلقى من ربه «كَلِمَاتٍ» لا كلمة واحدة: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ ¬

_ (¬1) Wm Goodell, Ellie Smith. Wm Thomson. cf. Richter 97 f (¬2) Enc. of Missons 600 (¬3) cf. Re-thinking Missions 180 ff (¬4) cf. Methods of Missions 97 ff (¬5) [سورة يس، الآية: 82].

الصحافة خاصة

مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (¬1). - {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬2). ومع أننا لسنا هنا في مجال حِجَاجٍ فِقْهِيٍّ لا فائدة منه، فإننا لا نريد أن يقول المبشرون والمستعمرون بعلمهم أو بأهوائهم ما يضر بالدين والقومية والوطن ثم نظل ساكتين لا نقول كلمة حق في وجه جاهل أو ظالم. ولقد تبنى المبشرون الفرنسيون خاصة هذه الطريقة، ثم أكثر من الكلام فيها المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون)، الذي يقف علمه واستشراقه على التبشير الديني للوصول إلى أهداف استعمارية، شأن العدد الأكبر من المبشرين المتزيين بكل زي والمتلبسين بكل لباس. ويرى المبشرون أن يتوجهوا بالكتب إلى طبقتين من المسلمين على الأخص: إلى طلبة الأزهر في مصر، على اعتبار أن الأزهر معقل الإسلام، وأن الصابئ الأزهري - إذا اتفق ذلك - يَكُونُ عَوْنًا لِلْمُبَشِّرِينَ عَلَى زِيَادَةِ التَّغَلْغُلِ فِي العَالَمِ الإِسْلاَمِيِّ. وعلى كل فالتبشير بين الأزهريين لا يزال تجربة فقط، وإن كان المبشرون ينتظرون أن يتسع وأن يقوم في الدرجة الأولى على الجدال والوعظ (¬3). وأما الطبقة الثانية التي يحب المبشرون أن يصلوا إليها بكتبهم الدينية فهي طبقة النساء. إنهم يزعمون أن المرأة المسلمة محجوبة (عن المجتمع والعلم ...) فيجب أن توضع لها كتب تتفق مع حالها وعقليتها ودرجة تفكيرها (¬4). الصَّحَافَةُ خَاصَّةٌ: منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى والمبشرون يسعون إلى استغلال الصحافة استغلالاً واسعًا في سبيل التبشير. إنهم يرون أن المسلمين يكثرون من قراءة الصحف، ولكنهم يرون أيضًا أن «المَادَّةَ المَسِيحِيَّةَ» قَلَّ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهَا القُرَّاءُ، وَقَلَّ أَنْ يَفْسَحَ لها الصحفيون مكانًا في صدر صحفهم إلا إذا عُدت في باب الاعلانات ودفع المبشرون عنها أجرًا بعدد ¬

_ (¬1) [آل عمران: 59، 60]. المُمْتَرِينَ: الشَّاكِّينَ. امْتَرَى: شَكَّ. (¬2) [البقرة: 37]. (¬3) Gairdner 274 f (¬4) Methods of Missions 85 f

سطورها (¬1). إن الصحافة لا توجه الرأي العام فقط أو تهيئه لقبول ما تنشر عليه، بل هي تخلق الرأي العام. ويعلن المبشرون أنهم استغلوا الصحافة المصرية على الأخص للتعبير عن الآراء المسيحية، أكثر مما استطاعوا في أي بلد إسلامي آخر. لقد ظهرت مقالات كثيرة في عدد من الصحف المصرية، إما مأجورة في أكثر الأحيان، أو بلا أجرة في أحوال نادرة (¬2). على أن المبشرين أنشأوا في العالم صحفًا يومية وأسبوعية خاصة بهم، فهنالك " بَشَائِرُ السَّلاَمِ " و" الشَّرْقُ وَالغَرْبُ " في مصر. ثم هنالك النشرة الأسبوعية التي أنشأها البروتستانت في بيروت وظلت تصدر حتى إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم وقفوها عن الصدور لأنه أصبح من المتعذر عليهم أداء رسالتهم التي نذروا أنفسهم لها، كما قالوا هم. • • • ونحن سنتناول هنا الكلام موجزًا على جريدة " البَشِيرِ ". وللقارئ أن يجعل هذه الجريدة نموذجًا لجميع الصحف التبشيرية: كانت المنافسة شديدة بين البروتستانت والكاثوليك، فلما انتقل مركز التبشير البروتستانتي من بلدة " عبيه " (في الشوف، بلبنان) إلى بيروت نقل اليسوعيون مركز نشاطهم عن " غزير " (في شمالي لبنان) إلى بيروت أيضًا. ولقد كانت الصحافة هي المظهر الأول للمنافسة بين الخصمين المتفقين على الإسلام. ويظهر أن ثلاث صحف من الصحف التبشيرية الأربع التي كانت تصدر في بيروت عام 1870 كانت بروتستانتية، وهنالك صحيفة واحدة فقط كانت كاثوليكية (¬3). كانت جريدة " البَشِيرِ " جريدة دينية في المقام الأول تقدم من مقام الشرف من صدرها أخبار رومية والبابوية. أما العمل الرئيسي لجريدة " البَشِيرِ " فظاهر إلى حد كبير في ردودها غير المتراخية على أعداء البابوية وأعداء توحيد الإيمان الكاثوليكي (¬4). ولقد كانت رومية دائمًا نَصْبَ عَيْنَيْ " البَشِيرِ " وهو يتابع عمله الديني والتمديني (كَذَا). أما الآن، بعد أن كثر أعداؤه، فإن نار ردوده قد بردت قليلاً ولكنها لم تنطفئ (¬5). ¬

_ (¬1) cf. Christian Litterature 257 ff, Cash 89 (¬2) cf. Cash 89 ; Christian Litterature 259 f (¬3) Les Jésuites en Syrie 5 : 8 (¬4) ibid. 6 : 28 (¬5) ibid. 6 : 30

الكشفية والمخيمات

وكان محررو " البَشِيرِ " يتمتعون بحماية فرنسا، ولذلك أخذوا أنفسهم برد هَذَا الدَّيْنِ مِنَ المَعْرُوفِ إلى الأمة الفرنسية التي تستحق أن تعد بنت الكنيسة البكر (¬1). لقد اعتمد المبشرون مدينتين لنشر كتبهم وصحفهم: القاهرة وبيروت. أما القاهرة فاتخذها البروتستانت مركزًا لتوزيع المنشورات المسيحية في القطر المصري وفي جميع العالم الإسلامي (¬2)، كما أنهم أقاموا المطبعة الأمريكية في بيروت، تلك المطبعة التي أصبحت أهم وسائل التبشير في الشرق كله (¬3). أما اليسوعيون فقد ركزوا جميع جهودهم في المطبعة الكاثوليكية في بيروت منذ عام 1871، وقاموا من طريقها بعمل تبشيري في الدرجة الأولى (¬4). الكَشْفِيَّةُ وَالمُخَيَّمَاتُ: حتى الكشفية من وسائل التبشير عندهم، جاء في مقررات مؤتمر المبشرين الذي انعقد في القدس ما يلي (¬5): «نُحِبُّ أَنْ نُؤَكِّدَ الأَهَمِّيَّةَ البَالِغَةَ لِلْعَمَلِ بَيْنَ الصِّغَارِ وَلِلْصِّغَارِ قَبْلَ أَنْ تَتَشَكَّلَ عَقْلِيَّتُهُمْ وَأَخْلاَقُهُمْ تَشْكِيلاً إِسْلاَمِيًّا. إِنَّ جَمِيعَ الوَسَائِطِ التِي اِسْتُخْدِمَتْ وَظَهَرَ نَجَاحُهَا يُمْكِنُ أَنْ تُسْتَخْدَمَ مِنْ جَدِيدٍ لِتُوقِظَ عُقُولَ الصِّغَارِ وَتَجْلُوَ أَخْلاَقَهُمْ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِالمَدْرَسَةِ أَوْ مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ نِطَاقِ المَدْرَسَةِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَثَلاً: الكَشْفِيَّةُ لِلْفِتْيَانِ وَلِلْفَتَيَاتِ - مَدَارِسُ الأَحَدِ (الدُّرُوسُ الدِّينِيَّةُ التِي تُعْطَى أَيَّامَ الآحَادِ بِصُورَةٍ مُبَاشِرَةٍ أَوْ غَيْرِ مُبَاشِرَةٍ) - " جَمْعِيَّةُ الشُّبَّانِ المَسِيحِيِّينَ " وَ " جَمْعِيَّةُ الشَّابَّاتِ المَسِيحِيَّاتِ " وَسِوَاهُمَا مِنْ مُنَظَّمَاتِ الشَّبَابِ - المُخَيَّمَاتُ وَالمُؤْتَمَرَاتُ لِلْطُّلاَّبِ وَالأَنْدِيَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ - بُيُوتُ الطَّلَبَةِ التِي زَادَتْ الحَاجَةُ إِلَيْهَا لِزِيَادَةِ عَدَدِ الطُّلاَّبِ (إِنَّ هَذِهِ البُيُوتُ يَجِبُ أَنْ تَكْثُرَ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ تَجْتَذِبَ هَؤُلاَءِ الطّلاَّبِ إِلَى مَمْلَكَةِ المَسِيحِ) - بُيُوتُ لِلأَطْفَالِ يُشْرِفُ عَلَيْهَا مُبَشِّرُونَ فَقَطْ». ومثل هذا يفعل الفرنسيون في المغرب العربي أيضًا، حتى إنهم يرسلون قسيسين يشرفون على مخيمات الكشافين ويوجهونها توجيهًا ظاهرًا لا استحياء فيه. ولقد عقد مؤتمران ¬

_ (¬1) ibid. 6 : 32 (¬2) Gairdner 275 (¬3) Addison 123 : Gairdner 275 (¬4) Les Jésuites en Syrie 6 : 21 (¬5) Christian Workers 23 f

انتعاش القرى والصناعة والزراعة

قبل عام 1938 لمنظمات الشباب المختلفة ومنها: الكشافة والمرشدات (للفتيان والفتيات). كان البرنامج فيهما يدور خاصة حول هذه الموضوعات: «" التَّوْرَاةُ "»، «كَلِمَةُ اللهِ»، «الكَنِيسَةُ»، «جَسَدُ المَسِيحِ». وفي عام 1935 نظمت مؤسسة " الحزمة المغربية " (¬1) بالتعاون مع " اللجنة التبشيرية لشبان فرنسا " مخيمًا تبشيريًا نُقِلَ بعد مدة إلى جنوبي الجزائر. وقد اشترك في هذا المؤتمر التبشيري ستون من زعماء (حزمة التبشير) في فرنسا وسويسرا (¬2). اِنْتِعَاشُ القُرَى وَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ: إن الذين يعيشون في سورية ولبنان يعرفون شيئًا عن مشروع إنعاش القرى الذي تقوم به الجامعة الأمريكية في بيروت؛ هذا المشروع الذي تجمع له الأموال عن طريق الحفلات والتبرعات، وربما جند له الشبان ذكورًا وإناثًا على الأخص من المسلمين أحيانًا. ويختلف مشروع إنعاش القرى من غيره من وجوه التبشير في أن التبشير فيه يجب أن يكون مستترًا لا ظاهرًا (¬3). من أجل ذلك خاطبنا بعض الشبان المسلمين الذين اشتركوا عن حسن نية في هذا المشروع فأدركنا أنهم هم أنفسهم لم يفطنوا إلى عنصر التبشير فيه إلا بعد أن دللناهم على مواطن ذلك. وهكذا يرى المبشرون أن تُصْرَفَ العِنَايَةُ الأُولَى للتبشير بين النساء في القرى والدساكر، بعد أن كاد التبشير أن يكون قاصرًا على سكان المدن (¬4). ويجب أن يجري التبشير في المزارع على شكل خاص، يعيش المبشرون مع الفلاحين عيشة فلاحة وزراعة من غير أن يتظاهر بأنه مبشرون، ولكنهم يجربون أن يحيوا حياة شخصية مسيحية. وهكذا يعتقد هؤلاء أن التأثير المسيحي ينتقل من هذه الطريق إلى الفلاحين غير النصارى انتقالاً هادئًا غير ملحوظ. على أن هذه الحياة يجب أن تكون عندهم جُزْءًا من حركة التبشير العامة (¬5). ¬

_ (¬1) Gerbe nord-africaine (¬2) MW. Ap. 38. p. 207 (¬3) Re-thinking Missions 277 (¬4) ibid. 177 ff (¬5) Re-thinking Missions 230, cf, 214, 236, 278

ويجب أن نعتبر أن التبشير الحقيقي يقوم في هذه المؤسسات الاجتماعية كالمدارس والكليات والمستشفيات والمستوصفات النقالة على الأخص والمحطات الزراعية ودور النشر. وكل تبشير خارج هذه المؤسسات إنما هو شذوذ عن القاعدة الصحيحة (¬1). وكذلك الصناعة تستحق من عناية المبشرين ما تستحقه الزراعة تمامًا. لذلك فرض المبشرون على المبشرين النصارى منهم وعلى النصارى ممن ليسوا مبشرين، أن يخالطوا العمال ويعايشوهم حتى يسيطروا على الأوساط الصناعية بروح نصراني. وعلى المبشرين أن يؤثروا في العمال غير النصارى بسلوكهم الشخصي فيمثلوا لهم بأقوالهم وأعمالهم أن التقدم مسيحي، وأن الاختراعات والاكتشافات مسيحية، وأن الطرق الحديثة في الصناعة مسيحية أيضًا (¬2). • • • وهكذا يبدو لنا بجلاء، قبل أن ننفض القلم من مداده، أن جميع أعمال البر والإحسان التي يقوم بها المبشرون، إنما هي وسائل للوصول بالنصرانية إلى الشعوب غير النصرانية، ثم التسرب بالاستعمار الغربي إلى الشعوب الشرقية. إن جميع ما يتظاهر به المبشرون من النبل إنما هو خداع ونفاق، حتى في تلك الأعمال التي لا يسبق إلى وهمنا أنها كذلك، كمشروع إنعاش القرى مثلاً. ¬

_ (¬1) ibid. 12 (¬2) ibid. 243, cf. 732 ff

الفصل العاشر: تشويه الثقافة العربية الإسلامية

الفَصْلُ العَاشِرُ: تَشْوِيهُ الثَّقَافَةِ العَرَبِيَّةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: - وسيلة إلى الحط من شأن العرب والمسلمين في نفوسهم. - المبشرون وأنصارهم يشجعون اللغة العامية رميًا إلى تفكيك وحدة العالم الإسلامي. • • • رأينا في الفصول التسعة السابقة أن المبشرين قد درسوا العالم الإسلامي من جميع نواحيه ثم وضعوا الخطط للقضاء على كل مقاومة أو مناعة فيه، في كل ناحية من تلك النواحي. لقد استغلوا في سبيل مآربهم كل وسيلة، من العلم والطب والسياسة والحياة الاجتماعية ومن الثقافة والأدب واللغة. لقد حرصوا على أن يسلبوا الإسلام كل مناحي الشخصية وكل أسباب الحياة. ولكن العامل الإسلامي لم يمت. لقد ظل العالم الإسلامي يستمد الحياة من ثقافته التي ما زالت حية تنير العالم منذ ألف وأربعمائة سنة. إن الشرقيين والعرب والمسلمين قد اقتنعوا أنهم أخذوا يتأخرون منذ مطلع العصور الحديثة في ميادين الاختراعات المادية والعلوم النظرية والعملية وفي عالم السياسة الدولية وفي أسباب الحرب وآلاتها، ولكن الشرقيين والعرب والمسلمين موقنون حق الإيقان أنهم في العصور الوسطى قد أدوا للعالم كله رسالة من أعظم الرسالات التي أدتها أمة من الأمم، بشهادة الفرنجة أنفسهم قبل عصر التبشير وبعد عصر التبشير أيضًا (¬1). ¬

_ (¬1) cf. George Sarton, Introduction to the History of Science (3 vols) ; The Incubation of the Western, Culture in the Middle East وقد نقل هذا الكتاب الثاني إلى العربية أحدنا (الدكتور عمر فروخ) باسم " الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط "، مكتبة المعارف، بيروت 1952، الطبعةالثانية، المكتب التجاري، بيروت 1964. Aldo Miele, La Science Arabe et son rôle dans l'évolution Scientifique mondiale ; Heinrich Suter, Die Mathematiker und Astronomen der Araber und ihre Werke ; Gustave Le Bon, La Civilisation Arabe (architecture) ; A. R. Nykl, Hispano-Arabic Poetry and its Relations with the Old Provençal Troubadours. Joseph Hell, Die Kultur der Araber : Edward J. Byng, The World of the Arabs (Boston 1944) , Ch. XIV : Our debt to Arabs Civilisation, pp. 225 - 269 ; Ch. XV : What Moslem Thoght Can Teach u. pp. 269 - 281

رأى المبشرون والمستعمرون عظمة الثقافة العربية الإسلامية وأنها مصدر عزة للشرق وللعرب والمسلمين. ثم إنهم أيقنوا أن أمة لها هذه الثقافة لا يمكن أن تخنع أو تذل أو تبيد. وهكذا انصرفت أذهان هؤلاء المبشرين والمستعمرين إلى تشويه وجه هذه الثقافة وإلى الحط من شأنها في نفوس أصحابها. وكان العمل عليهم سهلاً، أو هكذا ظنوه، فقسموا ذلك العمل قسمين: قسمًا يتناول حقيقة الرسالة التي أديناها نحن للشرقيين العرب المسلمين وما فيها من أوجه العظمة والحقائق التي كانت أساس الرقي الإنساني أو ما فيها من الآراء الصحيحة الخالدة على الدهر، ثم قسمًا من الحقائق الحديثة التي لَم تُعْرَفْ قبل العصر الحاضر. - أما القسم الأول فساروا فيه ينحلون حقائقه الصحيحة وآراءه الصائبة غير العرب وغير المسلمين، يجمع هذا كله قول (أرنست رينان) الفرنسي: «الفَلْسَفَةُ العَرَبِيَّةُ هِيَ الفَلْسَفَةُ اليُونَانِيَّةُ مَكْتُوبَةٌ بِحُرُوفٍ عَرَبِيَّةٍ». فكل مظهر عزيز في الفلسفة الإسلامية عند (رينان) وأتباع (رينان) إنما هو للفرس أو لليونان أو للنساطرة ولليعاقبة، أو إنه مشكوك فيه، وَكُتُبُ المبشرين والمستعمرين مملوءة بمثل هذا التجني على العبقرية العربية. ولا نعلم نحن ما الذي دفع وزارة المعارف اللبنانية إلى تبني هذا الرأي - غير أصابع اليسوعيين المبشرين المستعمرين - وترديده في صور مختلفة في امتحانات الباكالوريا. فقد سئل هذا السؤال في أشكاله المختلفة في دورات كثيرة (قبل الاستقلال والخروج من الانتداب الفرنسي وبعد ذلك): - تشرين الأول 1934: هل من فلسفة عربية؟ - تشرين الأول 1941: هل أضاف فلاسفة العرب شيئًا جديدًا إلى فلسفة الأقدمين حتى يمكن القول أن للعرب فلسفتهم كما لليونان فلسفتهم؟ - تشرين الأول 1944: قال (أرنست رينان): «لَيْسَتْ الفَلْسَفَةُ العَرَبِيَّةُ سِوَى الفَلْسَفَةَ اليُونَانِيَّةَ مَكْتُوبَةً بِأَحْرُفٍ عَرَبِيَّةٍ». - حزيران 1946: قيل: لم تستقم للعرب فلسفة لأنهم لم يوحدوا بين العناصر الأجنبية التي نقلوها، إنما اكتفوا بعرضها متجاورة لا متفاعلة. - تشرين الأول 1948: (أرنست رينان): «لَيْسَتْ الفَلْسَفَةُ العَرَبِيَّةُ سِوَى الفَلْسَفَةَ اليُونَانِيَّةَ مَكْتُوبَةً بِأَحْرُفٍ عَرَبِيَّةٍ». هذا عدد من الدورات التي سئل فيها مثل هذا السؤال. والويل للتلميذ الذي ينتصر للفلسفة «العَرَبِيَّةِ» انتصارًا ظاهرًا. أما كلمة «إِسْلاَمِيَّةٍ» وحدها، فقد تفسح للطالب المجال

ليجرب حظه مرة أخرى في دورة تالية، إذا ظفر بها «مُصَحِّحٌ» من ذوي الاتجاه المعلوم. • • • ونحن لا ننكر أن يكون العرب قد بنوا فلسفتهم على أساس ما قدمه اليونان للعالم، ولكن من غير الإنصاف أن نقول إن العرب لم يكونوا سوى نقلة، سوى حمالين حملوا الفلسفة كما هي من اليونان إلى العالم. إن العرب قد زادوا في الفلسفة وناقشوا ونقحوا وصححوا وشرحوا وأدوا رسالة قَلَّ أَنْ أَدَّتْ أُمَّةٌ مِثْلَهَا فِي التَّارِيخِ (¬1). وأي قول أوضح وأصوب، في العلم، من قول (جورج سارطون)، أحد ثِقَاتِ «تَأْرِيخِ العِلْمِ فِي العَالَمِ» حينما قال في هذا الشأن نفسه: «غَيْرَ أَنَّ أُولَئِكَ الذِينَ يُنْكِرُونَ مَحَاسِنَ العَرَبِ وَيَبْخَسُونَهَا قِيمَتَهَا لَيَحْتَجُّونَ مَرَّةً ثَانِيَةً بِقَوْلِهِمْ:" إِنَّ الأَخْذَ مِنْ مَصَادِرَ مُتَعَدِّدَةٍ لَيْسَ، عَلَى كُلِّ حَالٍ، خَيْرًا مِنَ الأَخْذِ مِنْ مَصْدَرٍ وَاحِدٍ ". تِلْكَ هِي طَرِيقَةٌ فِي المُجَادَلَةِ مُضَلِّلَةٌ وَخُصُوصًا إذَا كَانَ الكَلاَمُ يَتَنَاوَلُ الرِّياضِيَاتِ. ثَمَّ إِنَّ الرِّياضِيِّينَ العَرَبَ فِي تَيْنِكَ الحَالَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ آنِفًا لَمْ يَنْسَخُوا مِنَ المَصَادِرِ اليُونَانِيَّةِ السَّنْسِكْرِيتِيَّةِ نَسْخًا، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمَا جَاءُوا بِفَائِدَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ المَصْدَرَيْنَ ثُمَّ أَلْحَقُوا الآرَاءَ اليُونَانِيَّةَ بِالآرَاءِ الهِنْدِيَّةِ. وَإذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الذِي فَعَلَهُ العَرَبُ اِبْتِكَارًا فَلَيْسَ فِي العِلْمِ إِذَنْ اِبْتِكَارٌ عَلَى الإِطْلاَقِ. فَالاِبْتِكَارُ العِلْمِيُّ فِي الحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ حِيَاكَةُ الخُيُوطِ المُتَفَرِّقَةِ فِي نَسِيجٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ ثَمَّتَ اِبْتِكَارَاتٌ مَخْلُوقَةٌ مِنَ العَدَمِ» (¬2). • • • هذا ما يقوله الأجانب الغربيون عن قيمة الثقافة العربية وعن الرسالة العلمية التي أداها العرب والمسلمون إلى العالم. ولكن الاستعمار يريد أن يسدل دائمًا دون جهود الإسلام ستارًا كثيفًا. ونحن لا نستغرب أن يحاول الاستعمار تحطيم نفوس رعاياه - وقد كان المنتدبون الفرنسيون يفعلون ذلك قبل عهد الاستقلال عام 1943 - ولكن ما عذر الحكومة اللبنانية ¬

_ (¬1) راجع " عبقرية العرب في العلم والفلسفة "، الدكتور عمر فروخ، الطبعة الثانية 1952 (وقد نُقِلَ هذا الكتاب للإنجليزية، وطبع في واشنطن عام 1954) ثم " موضوعات محللة في تاريخ الفلسفة الإسلامية "، له أيضًا: ص 5 - 6، 21 - 23، 51، 55 - 56، 61. (¬2) " الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط "، تأليف الدكتور جورج سارطون، أستاذ في جامعة هارفارد (بالولايات المتحدة)، ورئيس " الاتحاد الدولي لتاريخ العلم "، نقله إلى اللغة العربية الدكتور عمر فروخ، الطبعة الأولى، منشورات مكتبة المعارف في بيروت، 1372 هـ - 1952 م، الصفحتان 55، 56.

في الاستمرار على سياسة الانتداب والإصرار على تنفيذها في هذه الناحية، في عهد الاستقلال؟ وإذا كان للعرب حق واضح في السير على رأس الموكب الفلسفي، فإن حقهم في «أدبهم العربي» أوضح. إن العرب مشهورون بالأدب، ويكفيهم فخرًا أن الأدب العربي أقدم الآداب الحية إلى اليوم. فلا الأدب الهندي ولا الأدب اليوناني أو اللاتيني قد عاش بعد أن طلع العرب بأدبهم على العالم. وحسبنا أن نعلم أن أكثر الأدب الأوروبي الحديث قد قام على أسس معروفة في الأدب العربي نفسه. إن الأدب البروفنسالي - أدب جنوب فرنسا في العصور الوسطى - قد بني فعلاً على ما عرفه الفرنسيون الأولون من ألوان الأدب العربي في الشرق في أثناء الحروب الصليبية أو في الأندلس (¬1). أما نشوء الأدب الإيطالي خاصة فالمعروف أن (دانتي الليغييري) هو صاحب المقام الأول فيه، و (دانتي) نفسه قد استمد كتابه الخالد " الكوميديا الإلهية " من مصادر إسلامية، من " الفتوحات المكية " لمحيي الدين بن عربي على القطع، ومن " رسالة الغفران " لأبي العلاء المعري في الأغلب (¬2). وهنالك مجال متسع للبحث عن قيمة الأدب العربي بالنقص والجمود وبالتخلخل وبأنه بعيد عن النزعة الإنسانية. ونحن لا نريد أن نستشهد بأسماء تحط من قيمة كتابنا ولكننا سنعرض القضية عرضًا موجزًا يستطيع القارئ أن يقيس عليه. نشرت (¬3) " مجلة لاروس " الباريسية فصلاً عن العالم العربي فيه التمويهات التالية: - العالم العربي هو مصر والشام والعراق والحجاز واليمن ونجد، مساحته ثلاثة ملايين كيلومتر مربع وسكانه أربعون مليونًا. - إن نصارى لبنان هم الذين بعثوا النهضة العربية. - البربر وحدهم أصحاب المدنية في شمال أفريقيا والأندلس. ولقد تولى الأستاذ محمد كرد علي - رئيس " المجمع العلمي العربي " -بدمشق - رَحِمَهُ اللهُ - الرد على هذا المقال وَبَيَّنَ وجه الحق في ما ذكرت " مجلة لاروس ": 1 - العالم العربي أوسع رقعة وأكثر سكانًا مما زعم الكاتب الفرنسي المستعمر (وذلك ¬

_ (¬1) cf. Nykl, Hispano-Arabic Poetry ثم طالع مقالاً للمستشرق الأستاذ (يوسف هل): " هل تأثر الشعر الغربي بالأدب العربي "، مجلة " الأمالي " بيروت، السنة الأولى، العدد الأول، 2 أيلول 1938، ص 3 - 5، ثم ثلاثة مقالات في المجلة نفسها، السنة الأولى، الأعداد: 4 - 5 - 6. (¬2) ct. Miguel Asin Palacios " الإسلام والكوميديا الإلهية ". (¬3) راجع " مجلة المجمع العلمي العربي " بدمشق، تشرين الأول 1948، ص 617، 618.

راجع إلى حقائق جغرافية وإحصاءات لا سبيل إلى دفعها: كحذف المغرب كله من العالم العربي). ثم إن مساحة شبه جزيرة العرب وحدها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع. 2 - أن النهضة العربية الحديثة بدأت في مصر لا في لبنان، وهذا أيضًا من النظر في تاريخ النهضة الحديثة. ولكن المستعمرين يريدون سلب المسلمين كل شيء حتى النهضة اللغوية التي هي عنوان لغتهم وأدبهم. 3 - أن البربر لم يقيموا وحدهم مدنية المغرب والأندلس، بل شاركهم العرب أيضًا (وعلى كل فإن البربر كالعرب مسلمون، والمدنية التي خلقوها مدنية عربية). ويختم الأستاذ محمد كرد علي مقاله بهذا الحكم الصائب: «وَلِذَلِكَ نَرَى مِنْ وَاجِبِنَا أَنْ يَشُكَّ كُلُّ عَرَبِيٍّ وَكُلُّ مُسْلِمٍ فِي أَكْثَرِ مَا يَصْدُرُ مِنَ الأَحْكَامِ مِنَ الفِرَنْسِيِّينَ عَلَى الإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ، ذَلِكَ لأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ مِنَ الفِرَنْسِيِّينَ مَنْ لاَ يَنْظُرُونَ إِلَى كُلِّ أَمْرٍ إلاَّ بِمِنْظَارِ الاِسْتِعْمَارِ». ويظهر أن الأب (يوحنا الفاخوري) البوليسي لم يرقه رد الأستاذ محمد كرد علي فنشر في مجلة " المسرة " (¬1) رَدًّا ملأه بتعابير جارفة بعيدة عن روح العلم. والأب (يوحنا الفاخوري) من الذين وقفوا أنفسهم على إنكار فضل العرب في الأدب والفلسفة أيضًا (¬2)، ومن الذين يصرون على التعابير الجارفة التي استعملها هو أيضًا في رده على الأستاذ محمد كرد علي. ولقد تناول الدكتور عدنان الخطيب (¬3) الرد على الأستاذ كرد علي مؤيدًا رده بذكر إحصاءات وتواريخ تقطع بأن النهضة الحديثة في العالم العربي قد بدأت في مصر. • • • وظل هذا الموضوع يجري في لبنان وخارج لبنان على أقلام نفر من المتأدبين الذين لا يملكون زمام أنفسهم، ومن الذين لا يمكن أن يكون لرأيهم الشخصي وزن يميل بالأمور ذات اليمين أو ذات الشمال حتى غمس فيه قلمه مؤرخ كبير وثقة في تاريخ العرب، هو أستاذنا الدكتور (فيليب حتي)، فقال (¬4): ¬

_ (¬1) مجلة " المسرة "، حريصا (لبنان) تشرين الثاني 1948. (¬2) راجع " أبو العلاء المعري فيلسوف الشعراء "، حريصا (لبنان) 1944. ص 14 الحاشية. (¬3) " مجلة المجمع العلمي العربي "، تموز 1949، ص 470 - 478. (¬4) Enc. Americana (1948 Edition) under Arabic Literature, p. 129

«وَلَمْ تَبْدَأْ أَمَارَاتُ (¬1)، الحَيَاةِ الأَدَبِيَّةِ الجَدِيدَةِ بِالظُّهُورِ إِلاَّ فِي القِسْمِ الأَخِير مِنَ القَرْنِ التَّاسِعِ عَشَرَ. وَكَانَتْ الكَثْرَةُ مِنْ قَادَةِ هَذِهِ الحَرَكَةِ الجَديدَةِ نَصَارَى مِنْ لُبْنَانَ تَعَلَّمُوا أَوْ اِسْتَوْحَوْا مِنْ جُهُودِ المُبَشِّرِينَ الأَمِرِيكِيِّينَ». وحبذا أن يعذرنا أستاذنا الدكتور (فيليب حتي) إذا قلنا إن النهضة بدأت في النصف الأول لا الأخير من القرن التاسع عشر. ثم إن حصر شرف الحركة الجديدة بنصارى لبنان فيه ظلم للتاريخ وللأدب مَعًا. وقد كنا نربأ بالدكتور (فيليب حتي) أن يساير قومًا ليسوا من نَجْرِهِ ولا من أهل موكبه. ولقد رد على الدكتور (حتي) ناقد في مجلة " الثقافة " (¬2) فجرحه. وكان الأخلق بالدكتور (حتي) أن لو ظل بعيدًا عن هذا المجرى الضحل الذي يخوض فيه بعض من لا شأن لهم بعد في عالم الأدب والتاريخ. إنه أكثر علمًا من أن يضيع النصف الثاني مكان النصف الأول من القرن التاسع عشر، حتى يهيئ مكانًا قلقًا لأشخاص جاءوا في الحقيقة في أعقاب اليقظة الأدبية لا على رأسها. إن القضية قضية تاريخ وأرقام وكتب مطبوعة لا قضية عواطف. • • • بمثل هذا يحارب المبشرون والمستعمرون العَرَبَ وَالإِسْلاَمَ. أما أشد ما نلقاه نحن فهو أن هؤلاء يستخدمون في هذا السبيل أفرادًا منا أحيانًا، أفرادًا لا يتورعون أحيانًا عن أَنْ يُسَخِّرُوا العلم والضمير ويقلبوا الحقائق والأرقام رأسًا على عقب حُبًّا بالزلفى أو الاتجار. على أن هذا أيضًا لن يفت في عضد الشرق، وستظل الثقافة العربية على الرغم من بضعة أسئلة في الامتحانات الرسمية وعلى الرغم من أفراد باعوا أنفسهم في غير سبيل الله - تمثل الرسالة التي أداها العرب في تاريخهم المجيد وفي تاريخ العالم. • • • ونحن نحب أن نأتي في هذا الفصل القصير برأي الدكتور (فيليب حتي) في الفيلسوف المسلم ابن رشد لنرى، رأي العين، أن الشخص الذي يحاول أن يغمط الثقافة العربية ويبخس ¬

_ (¬1) علامات. (¬2) مجلة " الثقافة " (القاهرة). السنة الحادية عشرة، العدد 538 (18 أبريل - نيسان 1949) ص 42، 43.

المسلمين حقهم لا يستطيع أن يفعل ذلك في كل مكان، وخصوصًا في الساعات التي يكون فيها ضميره العلمي مستيقظًا، قال الدكتور (حتي) (¬1): «كَانَ أَعْظَمُ فَلاَسِفَةِ الإِسْلاَمِ، بِالإِضَافَةِ إِلَى الأَثَرِ الذِي أَحْدَثَهُ فِي الغَرْبِ عَلَى الأَخَصِّ، الفَلَكِيُّ الأَنْدَلُسِيُّ وَالطَّبِيبُ وَشَارِحُ كُتُبِ أَرِسْطُو، أَبُو الوَلِيدِ مُحَمَّدُ بْنُ رُشْدٍ. وَإِنَّ أَعَظْمَ مَا لاِبْنِ رُشْدٍ فِي الطِّبِّ كِتَابَهُ الجَامِعُ المَعْرُوفُ بِاسْمَ " الكُلِّيَّاتِ "، وَفِيهِ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يُصَابُ بِالجُدَرِيِّ مَرَّتَيْنِ. كَمَا أَنَّ عَمَلَ شَبَكَةِ العَيْنِ فِيهِ مَشْرُوحٌ بِوُضُوحٍ. عَلَى أَنَّ نُورَ اِبْنِ رُشْدٍ الطَّبِيبَ قَدْ كُسِفَ بِنُورِ اِبْنِ رُشْدٍ الفَيْلَسُوفِ الشَّارِحِ ... أَمَّا بَيْنَ اليَهُودِ وَفِي العَالَمَ المَسِيحِيِّ فَقَدْ عُرِفَ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّهُ فِي الدَّرَجَةِ الأُولَى شَارِحٌ لِكُتُبِ أَرِسْطُو. وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ نَذْكُرَ أَنَّ المَقْصُودَ بِالشَّارِحِ فِي العُصُورِ الوُسْطَى هُوَ المُؤَلِّفُ الذِي كَانَ يَسْتَعِينُ بِبَعْضِ كُتُبِ الأَوَّلِينَ العِلْمِيَّةِ أَوْ الفَلْسَفِيَّةِ لِيَجْعَلَ مِنْهَا أَسَاسًا أَوْ إطارًا لِكُتُبِهِ هُوَ ... وَلَقَدْ أَثَارَ ابْنُ رُشْدٍ بِشُرُوحِهُ عَلَى أَرِسْطُو عُقُولَ فُقَهَاءِ النَّصْرَانِيَّةِ وَعُلَمَائِهَا فِي العُصُورِ الوُسْطَى إِلَى حَدٍّ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ مُؤَلِّفٌ غَيْرُهُ، فَمُنْذُ أَوَاخِرِ القَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ إِلَى أَوَاخِرِ القَرْنِ السَّادِسِ عَشَرَ أَرَبْعَةَ قُرُونٍ كَامِلَةٍ ظَلَّتْ فَلْسَفَةُ ابْنُ رُشْدٍ هِيَ المَذْهَبُ الفِكْرِيُّ السَّائِدُ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ رَدِّ الفِعْلِ الدِّينِيِ الذِي أَحَدَثَتَهُ هَذِهِ الفَلْسَفَةُ أَوَّلاً بَيْنَ المُسْلِمِينَ فِي الأَنْدَلُسِ، ثَمَّ بَيْنَ التَّلْمُودِيِّينَ مِنَ اليَهُودِ، وَأَخِيرًا بَيْنَ رِجَالِ الدِّينِ مِنَ النَّصَارَى. وَمَا مِنْ شَكِّ فِي أَنَّ ابْنَ رُشْدٍ كَانَ فَيْلَسُوفًا عَقْلِيًّا، وَكَانَ عَلَى حَقٍّ فِي إِخْضَاعِهِ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى الشَّرِيعَةِ المُنَزَّلَةِ لِسُلْطَانِ العَقْلِ. وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ رُشْدٍ، كَمَا يُخَيَّلُ إِلَى بَعْضِهِمْ، بَاعِثَ الإِلْحَادِ وَلاَ عَدُوًّا لِلْدِّينِ ... وَلَقَدْ مَثَّلَ ابْنُ رُشْدٍ اِقْتِرابًا مِنَ الفَلْسَفَةِ الأَرِسْطُوطَالِيسِيَّةِ الخَالِصَةِ (غَيْرَ المَمْزُوجَةِ بِالمَذْهَبِ الإِسْكَنْدَرَانِيِّ) (¬2). وَبَعْدَ حَذْفِ أَشْيَاءَ لاَ يَرْضَى عَنْهَا رِجَالُ الإِكْلِيرُوسْ فِي فَلْسَفَةِ ابْنِ رُشْدٍ، غَدَتْ فَلْسَفَةُ ابْنُ رُشْدٍ مَوْضُوعَ الدِّرَاسَةِ فِي جَامِعَةِ بَارِيسْ وَفِي سِوَاهَا مِنْ مُؤَسَّسَاتِ الدِّرَاسَةِ العُلْيَا. وَلَقَدْ بَقِيَتْ فَلْسَفَةُ ابْنُ رُشْدٍ، بِكُلِّ حَسَنَاتِهَا وَبِكُلِّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا مِنْ أَخْطَاءَ، عَامِلاً حَيًّا فِي الفِكْرِ الأُورُوبِيِّ حَتَّى وِلاَدَةِ العِلْمِ التَّجْرِيبِيِّ الحَدِيثِ». ¬

_ (¬1) Philip K. Hitti, History of the Arabs, fourth Edition, London 1949, pp. 582 - 585 إن نقل النص الإنجليزي من كتاب (فيليب حتي) هو لمؤلفي هذا الكتاب. على أن هناك ترجمة عربية للكتاب المذكور. راجع " تاريخ العرب " (مطول). بقلم الدكتور (فيليب حتي). نقله إلى العربية الدكتور (إدوار جرجي) والدكتور (جبرائيل جبور)، بيروت 1949 - 1951 (راجع 3/ 693، 694). (¬2) المذهب الإسكندراني مذهب فلسفي نشأ في الإسكندرية. وهو يعرف خطأ بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة أو الفلسفة الأفلاطونية الجديدة. ويقوم المذهب الإسكندراني على محاولة التلفيق بين الفلسفة اليونانية والآراء المسيحية بتشويه الفلسفة اليونانية في الأكثر وتفسير العقائد المسيحية تفسيرًا رمزيًا.

اللغة العامية

اللُّغَةُ العَامِّيَّةُ: ويرى أكثر المهاجمين على استعمار الشرق أن تقطيع أوصال العرب والمسلمين لا يمكن أن يتم ما دام هنالك «لُغَةٌ وَاحِدَةٌ» يتكلمها العرب ويعبرون بها العرب والمسلمون عن آرائهم وما دام هناك «حَرْفٌ عَرَبِيٌّ» يربط حاضر المسلمين إلى تراثهم الماضي. فإذا حمل المبشر والمستعمرون العرب، على الكتابة باللغة العامية أصبح كل قطر عربي لغة خاصة به أو لغات متعددة. ثم إذا هم استطاعوا أن يحملوا المسلمين على التخلي عن الحرف العربي وإحلال الحرف اللاتيني مكانه انقطعت صلة العرب تمامًا بأدبهم القديم وبالمؤلفات الدينية واللغوية والأدبية والتاريخية والفكرية. حينئذٍ يصبح العرب «وِحْدَاتٍ» لغوية فكرية غير متعارفة، ثم تتنافر هذه الوحدات مع الزمن فيسهل إخضاعها بجهد أيسر من الجهد الذي تحتاج إليه هذه الغاية الآن. وكان زعيم الحركة الرامية إلى الكتابة في العامية وبالحرف اللاتيني الاستعماريون الفرنسيون وعلى رأسهم المستشرق الفرنسي والموظف في قسم الشؤون الشرقية في وزارة الخارجية الفرنسية (لويس ماسينيون). ولقد حاول (ماسينيون) أن يبث دعوته هذه في المغرب وفي مصر وفي سورية ولبنان خاصة. وكذلك سعى لهذه الغاية مبشرون واستعماريون من أمم أخرى. أما فيما يتعلق بلبنان خاصة فهناك محاولات عملية كثيرة لم تنجح - وإن تنجح إن شاء اللهُ. من هذه: - " قواعد اللهجة اللبنانية السورية "، تأليف الأب (رافائيل نخلة) .. ويحاول الأب (رافائيل نخلة) في مؤلفه هذا وضع قواعد ثابتة لهذه اللهجة ... والكتاب موضوع بالفرنسية والنصوص العربية منسوخة بالحرف اللاتيني. والكتاب طبع في المطبعة اليسوعية ورقمه في قائمة المطبوعات اليسوعية 296 (ص 33 قائمة 1950). - " التحفة العامية في قصة فنيانوس "، تأليف شكري الخوري، نشرها الأب (لاي) اليسوعي ... مؤلفة بلغة لبنان العامية وتمثل ناحية هامة من حياة اللبنانيين، طبع المطبعة اليسوعية (قائمة المطبوعات اليسوعية رقم 482، ص 60، قائمة 1950). - " في متلو هلكتاب! "، تأليف الخوري (مارون غصن)، أحد المدرسين في مدرسة عنطورا (لبنان).

وهنالك محاولات كثيرة مثل هذه. ومع أن جميع المحاولات الأولى قد خرجت من المدارس الفرنسية فيجب أن نستثني مِنْ حَمَلَةِ هذه الحركة نفرًا من الأساتذة ليس هذا رأيهم. من هؤلاء الأستاذ (جورج الكفوري) مدير الدروس العربية في الكلية العلمانية الفرنسية في بيروت سابقًا والذي تولى وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة في لبنان في أوائل عهد الاستقلال. للأستاذ (جورج الكفوري) كِتَابٌ قَيِّمٌ اسمه " اللغة العربية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها " (¬1). ثم إن للأستاذ (جورج الكفوري) نظرات صائبة في صلة اللغة العربية الفصحى بالعامية، وهو يدعو إلى تسهيل الفصحى ويرى من هذا التسهيل فوائد كثيرة، ثم يقول: «وَمَتَى سَهُلَتْ اللُّغَةُ وَأَصْبَحَتْ فِي مُتَنَاوَلِ السَّوَادِ الأَكْبَرِ مِنَ الشَّعْبِ أَصْبَحَ مِنَ اليَسِيرِ إِحْلاَلَهَا (أَيْ إِحْلاَلُ اللَّغَةِ الفُصْحَى) مَكَانَ العَامِّيَّةِ». • • • وبعد أن نامت فكرة «الكِتَابَةِ العَامِّيَّةِ بِالحَرْفِ اللاَّتِينِي» رجعت من جديد وتحت ستار «تَسْهِيلِ اللَّغَةِ» إلى الاستيقاظ. وآخر ما ظهر في هذا الباب " تبسيط قواعد العربية وتبويبها على أساس منطقي جديد " (¬2)، تأليف الدكتور (أنيس فريحة) (أحد أساتذة التاريخ واللغات السامية في الجامعة الأمريكية في بيروت). أما الأساس الجديد الذي يقترحه (أنيس فريحة) فهو موضع جدال كبير، وأنا أعتقد أنه في بعض الأماكن يعقد ما كان إلى الآن سهلاً في الصرف والنحو. فنحن المتشددين نقتصر في أدوات الجواب على كلمتين: «نَعَمْ، بَلَى» لما بينها من الاختلاف في المعنى ولأن لهما فائدة عملية في قراءتنا وكتاباتنا. أما الدكتور (أنيس فريحة) فيدخل هاتين الأداتين في باب: «حُرُوفٍ تَشْتَرِكُ بَيْنَ الاسْمِ وَالفِعْلِ»، ثم يعدد منها سِتًّا هي: نَعَمْ، بَلَى، إِيْ، أَجَلْ، جِيرْ (مُمَاتَةٌ)، جَلَلْ (مُمَاتَةٌ) (¬3) - ويقصد بكلمة (مُمَاتَةٍ) أنها لا تستعمل اليوم -. ولكن يبدو أن الدكتور (أنيس فريحة) يريد أمرًا آخر: إنه يريد أن يجعل من اللغة العربية الفصحى والحرف العربي مشكلتين يستحيل حلهما، ولذلك هو يرى أن ينتقل العرب إلى الكتابة في العامية وبالحرف اللاتيني. إن يبسط رأيه هذا على منحى كبير وبشيء من التهكم كان يجب أن يترفع عنه من يدعو إلى «أَسَاسٍ مَنْطِقِيٍّ جَدِيدٍ». إنه يقول: ¬

_ (¬1) صفحاته 12، بيروت 1948. (¬2) جونية 1952. (¬3) " تبسيط قواعد العربية ": ص 7.

«يُطَالِبُ مَثَلاً، بَعْضُ النَّاسِ بِتَبَنِّيِ الحَرْفَ اللاَّتِينِيَّ تَسْهِيلاً لِلْقِرَاءَةِ وَتَخْفِيضًا لِنَفَقَاتِ الطِّبَاعَةِ ... وَنَحْنُ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ النَّظِرِيَّةِ، وَلاَ نَرَى حَلاًّ لِلْكِتَابَةِ إلاَّ بِتَبَنِّيِ الحَرْفَ اللاَّتِينِيَّ وَضَبْطِ الكَلِمَاتِ فِيه مَرَّةً واحدَةً ... وَأَمَا الذِينَ لاَ يَرَوْنَ مُشْكِلَةً فِي الأَمْرِ، وَهُمْ مَنْ لَمْ يُمَارِسُوا التَّعْلِيمَ، فَيَقُولُونَ: " هَؤُلاَءِ جَمَاعَةٌ خَارِجُونَ عَلَى العُرُوبَةِ وَالإِسْلاَمِ! ". وَيُطَالِبُ بَعْضُ النَّاسِ بِتَيْسيرِ قَوَاعِدِ العَرَبِيَّةِ لِتَقْرَبَ مِنَ العَامِّيَّةِ، أَوْ لِرَفْعِ العَامِّيَّةِ لِتَقْرَبَ مِنَ الفُصْحَى، فَيَتَسَاءَلُ البَعْضُ الآخَر: " وَهَلْ العَرَبِيَّةُ مُعَقَّدَةٌ لِنُبَسِّطَهَا أَوْ عَسِيرَةٌ لِنُيَسِّرَهَا؟ إِنَّمَا أَنْتُمْ جَمَاعَةٌ خَارِجُونَ عَلَى العُرُوبَةِ وَالإِسْلاَمِ! " لماذا يَثُورُ النَّاسُ كُلَّمَا طَالَبْنَا بِالتَّيْسِيرِ؟ وَلِمَاذَا لاَ يُدْرِكُونَ؟: الأَمْرُ بَسِيطٌ: الجَهْلُ، الجَهْلُ عَدُوُّ العَرَبِ الأَكْبَرِ!». وهنالك إخوان لنا في الجامعة الأمريكية يرون رأي الدكتور (فريحة)، ولكننا لن نثبت رأيهم هذا لأنهم لم يكتبوه بَعْدُ. فالدعوة إلى العامية وإلى الحرف اللاتيني قد انتقلت الآن من اليسوعيين إلى الجامعة الأمريكية. أما تعليقنا المفصل على هذه الحركة الجديدة القديمة فهو قسمان: قسم هو صلة ذلك بالتبشير، وقد مر الكلام عليه في أماكن مختلفة. ثم هنالك قسم يتعلق بالاقتراح من حيث هو اقتراح وما فيه من مآخذ فليس موضعه هنا. على أن ملاحظة واحدة ضرورية في هذا المقام: أن الدعوة إلى العامية وإلى الحرف اللاتيني معناها: 1 - خلق مشكلة لا حل مشكلة. 2 - قطع حاضر العرب ومستقبلهم بماضيهم. 3 - تنفيذٌ لمآرب تبشيرية استعمارية، لأن الأمر بدأ كذلك. ولا يمكن أن يكون سبب هذه الدعوة الآن غير سببها بالأمس. 4 - أن كثيرًا من كتاب الدكتور (فريحة) لا صلة له بتبسيط العربية على الإطلاق، كجداول ضمائر الإشارة مثلاً. الدكتور (فريحة) يقترح لأسماء الإشارة: (ص 33 - 34) عددًا أكبر من العدد الذي تثبته كتب النحو المدرسية. إن الدكتور (فريحة) يريد أن يبرز أشكالاً كثيرة لضمائر الإشارة، كما يسميها هو، لكي يجسم مشاكل اللغة العربية الفصحى ومشاكل الكتابة بالحرف العربي توصلاً إلى الدفاع عن رأيه في اتخاذ العامية لغة كتابة وإحلال الحرف اللاتيني محل الحرف العربي في الكتابة العربية. وفي خلال ثلاث سنوات، أي منذ صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، زاد نشاط الدكتور (أنيس فريحة) في حقل الدعوة إلى اللغة العامية. ولسنا الآن في سبيل استخراج صورة

لنشاطه من كتبه ومقالاته وأحاديثه. ولكن الرجل كشف الآن عن اعتقاده وأصبح يقول صراحة وَعَلَنًا باللغة العامية المكتوبة بالحرف اللاتيني. وسنكتفي هنا بكلمة في كتابيه الأخيرين في الموضوع: في كتابه " محاضرات في اللهجات وأسلوب دراستها " (¬1) وفي كتابه " نحو عربية ميسرة " (¬2)، وأحسب أنه استوفى معظم آرائه في هذين الكتابين. ومع أن خلاصة الكتاب الأول موجودة في الكتاب الثاني، أو أن الكتاب الأول كله ملخص من الكتاب الثاني (¬3)، فإن الدكتور (أنيس فريحة) ينضح في كتابه الثاني بالحقد على اللغة العربية الفصحى وبالبغض لأهلها وبالتهكم على تراثها والهزؤ برجالها. وفي ما يلي جمل مختارة من كتابه " نحو عربية ميسرة ": - «وَلَكِنْ لاَ يَصِحُّ اِعْتِمَادَ اللُّغَةِ، كَمَا تَحَدَّرَتْ إِلَيْنَا مُدَوَّنَةً، مَصْدَرًا لِدِرَاسَةِ اللُّغَةِ فِي عُهُودِهَا السَّابِقَةِ. ذَلِكَ لأَنَّ الذِينَ اِسْتَنْبَطُوا قَوَاعِدَهَا وَضَبَطُوا أَحْكَامَهَا اِعْتَمَدُوا الشِّعْرَ الجَاهِلِيَّ أَوَّلاً ثَمَّ القُرْآنَ الكَرِيمَ مَادَّةَ لُغَوِيَّةً. وَمَتَى كَانَتْ لُغَةُ الشِّعْرِ وَلُغَةُ الأَدَبِ وَالدِّينِ مِرْآةً تَعْكِسُ لُغَةَ النَّاسِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ» (ص 11). - «وَلَكِنْ تَجْدُرُ بِنَا الإِشَارَةُ أَوَّلاً إِلَى أَنَّ الجَمْعَ (جَمْعَ الكَلِمَاتِ فِي القَوَامِيسِ) تَنَاوَلَ لُغَاتٍ عَرَبِيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ الحَمَاسُ لِلْجَمْعَ بَالِغًا مَبْلَغَهُ فَأَقْحَمُوا هَذِهِ الكَثْرَةَ دُونَ رَوِيَّةٍ فِي التَّحْقِيقِ. وَلَيْسَ فِي قَوْلِنَا هَذَا مَا يُقَلِّلُ مِنْ اِحْتِرَامِنَا لأُولَئِكَ العلماءَ الأَفْذَاذِ. وَلَكِنَّ عَمَلَ المَعَاجِمِ لاَ يَتِمُّ بِالطَّرِيقَةِ الفَرْدِيَّةِ. غَيْرَ أَنَّ مَنْ يَعْرِفُ " لِسَانَ العَرَبِ " أَوْ " التَّاجَ " أَوْ " القَامُوسَ " (¬4) لاَ يَسْتَطِيعُ إلاَّ أَنْ يَرْفَعَ قُبَّعَتَهُ إِجْلاَلاً لِجَامِعِيهَا» (ص 13). - «فَإِنَّ عَلَينَا فِي مَوَاقِفِنَا الرَّسْمِيَّةِ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِلُغَةِ الأَجْيَالِ الغَابِرَةِ، عَلَيْنَا أَنْ نُعَبِّرَ عَنْ أَحَاسِيسِنَا وَدَوَاخِلِنَا بِلُغَةٍ وَقَفَتْ فِي مَجْرَاهَا عِنْدَ نُقْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الزَّمَانِ وَالمَكَانِ (يقصد الدكتور فريحة: ظُهورَ الإِسْلاَمِ) عِنْدَمَا أُحِيطَتْ بِهَالَةٍ مِنَ التَّقْدِيسِ، وَعِنْدَمَا سِيجَ حَوْلَهَا بِسِيَاجٍ مِنَ الأَحْكَامِ، فَوَقَفَتْ فِي تَطَوُّرِهَا عِنْدَ هَذِهِ النُّقْطَةِ مِنَ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ» (ص 18، 19). - «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الفُصْحَى بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَتْ لُغَةَ الدِّينِ وَاللُّغَةَ الرّسمِيَّةَ أُخْضِعَتْ لِلْقُيُودِ التِي يَفْرِضُهَا الصَّرْفِيُّونَ وَالنَّحْوِيُّونَ» (ص 22). ¬

_ (¬1) القاهرة 1955. (¬2) بيروت 1955. (¬3) " نحو عربية ميسرة ": ص 7، 8. (¬4) يعرض الدكتور (فريحة) هنا بالمعاجم وواضعيها " لسان العرب " لابن منظور، و" تاج العروس " للمرتضى الزبيدي، و" القاموس المحيط " للفيروزآبادي.

- «غَيْرَ أَنَّ مَنْزِلَةَ العَرَبِيَّةِ قَضَتْ أَنْ يُسَيَّجَ حَوْلَهَا بِسِيَاجٍ مِنَ الأَحْكَامِ وَالقَوَاعِدِ الشَّدِيدَةِ» (ص 23). - «وَلَكِنَّ نَشَاطَهُمْ (نَشَاطُ العَرَبِ) تَوَقَّفَ عِنْدَ زَمَنٍ مُعَيَّنٍ» (ص 29). «إِذَنْ لاَ يُمْكِنُ الشَّعْبُ السَّامِيُّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَسْهَمَ فِي خَلْقِ العِلْمِ وَالفَلْسَفَةِ وَالفَنِّ، لأَنَّ أَسَاسَ العِلْمِ وَالفَلْسَفَةِ وَالفَنِّ اللَّذَّةَ العَقْلِيَّةَ وَالشَّغَفَ الرُّوحِيَّ وَالرَّغْبَةَ المُلِحَّةَ فِي اِسْتِجْلاَءِ غَوَامِضِ الكَوْنِ» (ص 53). - «اللُّغَةُ ... ظَاهِرَةٌ إِنْسَانِيَّةُ لاَ عَلاَقَةَ لَهَا بِالآلِهَةِ وَلَمْ تَهْبِطْ مِنْ عَلِ، بَلْ نَشَأَتْ مِنْ أَسْفَلَ» (ص 73). - «وَتُحَاوِلُ هَذِهِ المَدْرَسَةُ فَرْضَ هَذِهِ الفُصْحَى بِشَكْلِهَا الذِي وَصَلَتْ بِهِ إِلَى النَّاطِقِينَ بِهَا مِنْ نُقْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الزَّمَانِ وَالمَكَانِ، عَلَى مُجْتَمَعٍ بَعُدَ عَنْ هَذِهِ النُّقْطَةِ، أَوْ قُلْ عَلَى مُجْتَمَعٍ يَسِيرُ مَعَ الحَيَاةِ فَهُوَ لاَ يَعْرِفُ الجُمُودَ» (ص 123). - «غَيْرَ أَنَّ القُرْآنَ الكَرِيمَ نَزَلَ بِلُغَةِ الأَدَبِ وَالشِّعْرِ وَالدِّينِ لِذَلِكَ العَصْرِ، وَمِنَ الطَّبِيعِيِّ، بَلْ مِنَ الضَّرُورِيِّ، أَنْ يَنْزِلَ بِلُغَةِ الأَدَبِ وَالشِّعْرِ وَالدِّينِ. وَنَعْتَقِدُ أَنَّ المُجْتَمَعَ الإِسْلاَمِيَّ الأَوَّلَ، نِسْبَةً لإِعْجَابِهِ بِهَذِهِ اللُّغَةِ وَنِسْبَةً لِمَقَامِ القُرْآنَ الكَرِيمَ فِي نُفُوسِهِمْ، جَهَدُوا أَنْ يَجْعَلُوا مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ التِي نَزَلَ بِهَا القُرْآنُ الكَرِيمُ لُغَةَ النَّاسِ اليَوْمِيَّةِ. يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ مَبْلَغَ الجُهْدِ الذِي أُنْفِقَ فِي سَبِيلِ ضَبْطِ أَحْكَامِ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَفِي مُحَارَبَةِ اللَّحْنِ، وَفِي إِصْرَارِ المَقَامَاتِ العُلْيَا عَلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللُّغَةُ لُغَةَ الدَّوَاوِينِ وَالكُتَّابِ وَالمُنْشِئِينَ. وَوَضْعِ سِيَاجٍ حَوْلَ اللُّغَةِ لِلْحِفَاظِ عَلَيْهَا أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ، لاَ بَلْ ضَرُورَةٌ، لِكُلِّ أُمَّةٍ نَاشِئَةٍ» (ص 125، 126). - «أَقُولُ لِنَفْسِي إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَخْضَعَ العَرَبِيَّةُ لِي وَأَنْ تَلِينَ لِفِكْرِي، لاَ أَنْ يَخْضَعَ فِكْرِي وَعِلْمِي لِقَوَالِبَ مُعَيَّنَةٍ تَرُوقُ (¬1) لأَذْوَاقِ جِيلٍ مِنَ النَّاسِ مَاتُوا مُنْذُ مِئَاتِ السِّنِينَ» (ص 141). - «إِنَّنَا نَاقِمُونَ عَلَى القَوَاعِدِ ... إِنَّ وَضْعَ الأَحْكَامِ يُقَيِّدُ اللُّغَةَ ... إِنَّهُ يَقِفُ فِي مَجْرَاهَا الطَّبِيعِيَّةِ وَيَسُدُّ عَلَيْهَا الطَّرِيقَ كَمَا حَدَثَ لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الفُصْحَى. فَإِنَّ وَضْعَ الأَحْكَامِ لَهَا أَوْقَفَ عَمَلَ النَّوَامِيسِ اللُّغَوِيَّةِ عِنْدَ نُقْطَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الزَّمَانِ وَالمَكَانِ» (ص 194). - «وَلَكِنَّ لِلْنَّاسِ أَنْ يَسْأَلُوا: مَاذَا سَيَحُلُّ بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ؟ وَمَاذَا سَيَحُلُّ بِالأَدَبِ القَدِيمِ: وَجَوَابُنَا هُوَ أَنَّ القُرْآنَ الكَرِيمَ سَيَخْلُدُ، سَيَبْقَى عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ كَمَا بَقِيَتْ كُتُبٌ دِينِيَّةٌ عَدِيدَةٌ رَغْمَ اِنْحِرَافِ لُغَةِ النَّاسِ عَنْ لُغَةِ هَذِهِ الكُتُبِ» (ص 198). إن هذه الشواهد التي استقيتها من كتاب الدكتور (أنيس فريحة) تدل على أن الدافع الحقيقي ¬

_ (¬1) يقصد: راقت، أو كانت تروق.

لدعوته أن يهجر العرب لغتهم الأدبية (الفصحى) والمكتوبة بالحروف العربية إلى لهجة من لهجاتهم العامية مكتوبة بالحرف اللاتيني ليس تيسير العربية، ولكن قطع العرب صلتهم بالقرآن الكريم، إلا أن يبقى ليقرأ في المساجد كما تقرأ اللاتينية في الكنائس الكاثوليكية. وكذلك يريد الدكتور (فريحة) أن يقطع العرب صلتهم بالأدب القديم لأنه هو لا يستطيع أن يفهم الأدب الجاهلي أو " رسالة الغفران " لأبي العلاء المعري ولا أن يجد قيمة لشعر المتنبي. كلنا نريد، في حياتنا العصرية، أن نيسر القراءة والكتابة في اللغة العربية، كما يسرنا حياتنا المنزلية بالاختراعات الأمريكية، وكما يسرنا انتقالنا بالطائرة والسيارة بدلاً من امتطاء الإبل والخيل والبغال والحمير. على أن الأمم لا تمزج عادة تراثها الروحي بالحياة الواقعية، ذلك لأن الأمم تستمد بقاءها من التراث الروحي. نحن نعلم كالدكتور (فريحة) أن الإملاء في اللغة الألمانية واللغة الإسبانية أهون من الإملاء باللغة العربية، ولكن الإملاء العربي أهون من الإملاء الإنجليزي والفرنسي. ونحن لا نذكر شيئًا عن اللغة اليابانية أو الصينية. ولكن اللغة العربية بالإضافة إلينا وإلى قومنا ليست واسطة للتفاهم فقط، بل هي رابطة قومية أيضًا وجامعة دينية وخزانة للثقافة الأدبية والروحية. فنحن العرب والمسلمين جميعًا نحتمل قواعد النحو العربي والكتابة بالحرف العربي، إن صح أن في النحو العربي والحرف العربي كل هذه الصعوبات والمشاكل التي يدعي الدكتور (فريحة) وجودها، في سبيل الحفاظ على هذه الصلة بعالمنا الذي بلغ ذروة تطوره عند نقطة في الزمان والمكان. وبعد، فنحن شاكرون لأسلافنا أنهم أقاموا سياجًا حول اللغة العربية، ذلك لأنهم أقاموا هذا السياج حولنا نحن. ثم إن مشاكل اللغة العربية، في النحو والخط، ليست أكثر من مشاكل اللغة الإنجليزية كثرة تقتضي هذه الحملة العنيفة على اللغة العربية والإسلام. يحمل الدكتور (فريحة) على الرسم العربي (¬1) لأنه لا يثبت الحروف المصوتة (الدالة على الحركات) في صلب الكلمات. غير أنه اتفق في التاريخ أن الساميين اختاروا أن تتألف الكلمات من الحروف الساكنة وأن تعين حركات تلك الحروف بعلامات تسمى «شَكْلاً». فكتابة الحرف العربي مشكولاً يسقط حجج الدكتور (فريحة) كلها، إلا إذا ظل متمسكًا بأن طبع الكتب والمجلات بالحرف العربي ليس مشروعًا اقتصاديًا، وأن الطبع بالحرف اللاتيني أكثر توفيرًا للوقت والمال. ولكن غاب عن الدكتور (فريحة) أن اللغات، كل اللغات، تصل إلينا بالرواية أكثر مما ¬

_ (¬1) " نحو عربية ميسرة ": ص 190 - 192.

تصل إلينا بالكتابة. إن الطفل الفرنسي يلفظ العدد «ألفين وسبعمائة وثمانية وتسعين» (2798) كما يتلقاه بالرواية: de mil sèt sa' katr ve' diz uit لا كما يراه مكتوبًا في كتب القراءة والنحو في القواميس: deux mille sept cent quatre-vingt dix-huit ثم ما فائدة إثبات الأحرف المصوتة في الكلمات الإنجليزية مثلاً؟ إن الحرف u يلفظ في كل كلمة من الكلمات الإنجليزية التالية لفظًا خاصًا. إن هذا الحرف u يقع ثلاثة عشر مرة في الكلمات الإحدى عشرة التالية، ويلفظ على ثلاثة عشر وجهًا: but, full, build, noun, muse, fur, furniture, furlough, funk , fruit أنا لا أستطيع أن أصدق أن الدكتور (فريحة) أستاذ اللغات السامية لا يعرف هذه الأشياء، وهل يعقل أنه كتب ما كتب «من عقله» ومن غير أن يرجع إلى القاموس. ولكن الدكتور (فريحة) يُرَوِّجُ غاية للمبشرين أرادوا بها أن يكون لكل بقعة عربية لغتها المستقلة. ونحن نرجو اللهَ أن يهدي صديقنا الدكتور (فريحة) وألا يحقق له ولا للمبشرين أملاً. ولقد فضح الدكتور (فريحة) نفسه لما ألقى السؤال الذي يقبع وراء دراساته وتعليلاته واقتراحاته، ذلك السؤال الذي يفسر نقمته على اللغة الفصحى ويعلل حقده على الحرف العربي وعلى الأدب القديم. وبعد أن دعا الدكتور (أنيس فريحة) للهجات العامية وللحرف اللاتيني ما شاءت له الدعوة وما شاءت له الدعوى قال (" نحو عربية ميسرة ": ص 198، 199): «وَلَكِنَّ لِلْنَّاسِ (يقصد المسلمين) أَنْ يَسْأَلُوا: مَاذَا سَيَحُلُّ بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ؟ ....». وجوابنا هو أن القرآن الكريم سيخلد على ما هو عليه كما بقيت كتب دينية عديدة رغم انحراف لغة الناس عن لغة هذه الكتب. فإن (لغة هذه الكتب) حافظت على روعتها وجلالها ومقامها الديني. هاك لغة " التوراة " الإنجليزية المعروفة بترجمة الملك (جايمس) (¬1). فإنها على قدمها تعتبر في الإنجليزية، إلى جانب مقامها الديني، قطعة أدبية رائعة ... ولكنها تخالف لغة الناس. وَقُلْ مِثْلَ هذا في لغة (شكسبير) فإنها حافظت على كيانها ومقامها. وفي لندن اليوم مسرح مشهور يعرف ¬

_ (¬1) أوائل القرن السابع عشر الميلادي.

بـ Old Vic يمثل فيه إلى روايات (شكسبير) بلغتها القديمة وبشعرها القديم وبتعابيرها القديمة، وإنك إذا قست هذه اللغة بلغة جرائد لندن، أو إذا قستها بلغة الشارع في أوكسفورد أو كمبريدج وجدت فروقًا شاسعة. وها هي الكنيسة الكاثوليكية فإنها تعتبر الترجمة اللاتينية للتوراة لغة الكنيسة الرسمية، ولا يكون القداس إلا باللغة اللاتينية. وقل مثل هذا في الكنيسة الأرثوذكسية التي حافظت على اللغة اليونانية التقليدية، والكنيسة المارونية التي احتفظت باللغة السريانية، والكنيسة المسيحية الحبشية التي احتفظت باللغة السامية القديمة المعروفة بـ «لغة الجعز». (على) أن الفارق بين هذه الكنائس التي احتفظت بلغاتها القديمة وبين الإسلام عظيم جدًا، ذلك لأن العامية المهذبة المحكية لا تختلف عن لغة " القرآن الكريم " اختلاف السريانية عن العربية أو الإغريقية عن العربية، أو اللاتينية عن الفرنسية (¬1). فلن تكون لغة " القرآن الكريم " غريبة عن أفهام الناس. وسيظل الناس يتعلمونه ويحفظونه غيبًا ويدرسون صرفه ونحوه وسحر بيانه كما يفعلون اليوم. وسيظلون يقرأونه ويستظهرونه تبركًا ... هذا ما يتعلق بالمستقبل القريب. ولكن ما سيحدث في المستقبل البعيد، بعد مئات السنين؟ هنا ندخل في نطاق الحدس والتخمين. ولكن يتراءى لي أن في ذلك الزمن لن تكون الحياة الروحية وقفًا على الكلمة ولفظ الكلمة وشكل كتابة الكلمة ... عندها يكون للناس الحرية أن ينظروا إلى الدين من خلال نظاراتهم لا من خلال نظاراتنا نحن ... نحن زائلون والحياة للأجيال القادمة ... لا تحرص أن تفرض على أبنائك عقائدك وعاداتك ومقاييسك وذوقك ونظرك إلى الحياة ... قد يسايرك (ابنك) بعض الطريق، ولكنه في قرارة نفسه يضحك من حرصك هذا ويسير في طريقه الخاص ...». وهكذا نجد بوضوح أن الحملة على العربية الفصحى إنما هي في حقيقتها حملة على اللغة التي تجمع بين العرب والمسلمين، وحملة على العروبة والإسلام، وأمنية في أن يصبح القرآن كتاب دين لا صلة له بالحياة: يستطيع نفر من المسلمين أن يقرأه من غير أن يفهموا منه شيئًا ومن غير أن يشعروا بما فيه إلا كما يشعر الوثني إذا نظر إلى صورة معلقة في الجدار أو إلى وثن قائم على قاعدة من الحجارة. غير أن الله الذي جعل في القرآن من عناصر الخلود ما حفظه إلى اليوم، بينما جميع اللغات التي كانت في عصره أو بعد عصره أيضًا قد بادت وانقرض المتكلمون بعدد كبير منها، سيجعله خالدًا أبدًا. ¬

_ (¬1) التركيب ضعيف ومبهم.

إننا عرفنا في الفصول السابقة عددًا كبيرًا من الوسائل التي يتوسل بها المبشرون إلى الوصول إلى الإسلام والمسلمين، كما أدركنا أن التبشير إنما هو في الحقيقة تمهيد إلى السيطرة السياسية على بلاد المشرق لاستغلالها اقتصاديًا. فالتبشير إذن خطر ديني بالغ فوق ما هو خطر سياسي واقتصادي: إنه خطر على كيان الأمم الشرقية، إن القضية بالنسبة إلينا قضية بقاء أو فناء. بيروت 9 جمادى الأولى 1372 هـ - 25 كانون الثاني 1953 م. شتورا 22 ذي الحجة 1375 هـ - 30 تموز 1956 م.

الفصل الحادي عشر: حقائق عن أفريقيا

الفَصْلُ الحَادِي عَشَرَ: حَقَائِقُ عَنْ أَفْرِيقْيَا (*): لما استقلت البلدان الأفريقية التي كانت خاضعة للاستعمار وضح لنا أن إلى أي حد كان الاستعمار يطوي عنا من أخبار تلك البلاد: في عدد السكان، وفي نسبة المسلمين إلى سائر سكان تلك البلاد، وفي الأحوال الروحية والاجتماعية السائدة في تلك البلاد. ثم وضحت لنا أيضًا حقيقة مهمة جِدًّا: هي أن المستعمرين كانوا يعتقدون أن الصابئين إلى النصرانية سيكونون أكثر ميلاً إلى الدول الغربية الأجنبية منهم إلى أقوامهم الباقين على الوثنية أو على الإسلام (1). وسنرى في الصفحات التالية القليلة من هذا الفصل دلائل من الصلة الوثيقة بين التبشير وبين الاستعمار أكثر صراحة، في بعض وجوهها، من بعض ما كنا قد رأينا من قبل. كنا من قبل نستشهد بكتب ألفها أصحابها في النصف الثاني من القرن الماضي أو في الربع الأول من القرن الحاضر، يوم كان العقل الباطن في الأوروبيين يتمنى الأماني أو يشير إلى ¬

_ (*) هذا الفصل مأخوذ في الأكثر من الكتب التالية، ومن عدد من الصحف الأجنبية مثبت بعضها في الحواشي: Dempsy, James : Mission on the Nile, London 1955 Dorman, Harry Gaylord, Jr. : Towards Understanding Islam, New York 1948 Fontaine, Pierre : Dossier secret de l'Afrique du Nord, Paris 1957 Grove, C. P. ; The Planting of Christianity in Africa, London 1958 Grunebaum, G. f. Von : Modern Islam, the Search for Cultural Identity, University of California Press, Berkeley and Los Angeles1962 Kerkes, Tibor : The Arab Middle East and Muslim Africa, New York 1961 Trimingham, J. Spencer : A History of Islam in West Africa, Oxford University press, London, Glasgow and New York 1962 Trimingham, J. Spencer : The christian Approach to Islam in the Sudan, London 1948 Trimingham, J. Spencer : Islam in Ethiopia , Oxford University press 1952 Watt, W. Montegomery ; Islam and the Integration of Society, London 1961 Westermann : Islam in West and Central Sudan (Extract from the international Review of Missions, October 1912

في المغرب

موقفه المقبل من طرف خفي وهو على مثل اليقين في نفسه أن استعماره قد أصبح جُزْءًا من البلاد التي قضى فيها أجيالاً. أما الآن فأمامنا عدد من الكتب التِي أُلِّفَتْ وَالكَارِثَةُ عَلَى وَشْكٍ أَنْ تَحِلَّ بِالمُسْتَعْمِرِينَ، أو بعد أن حلت فيهم فعلاً، فإذا في تلك الكتب غضبة شديدة ونقمة ضارية على الشعوب التي خرجت من مُلْكِ يَدِهَا وقد كانت من قبل في يدها كالأنعام. فِي المَغْرِبِ: الفرنسيون يسمون المغرب: شمال أفريقيا ثم يجعلون سكان المغرب قسمين: مسلمين وأوروبيين. أما المسلمون فهم العرب والبربر والسكان الذين هم من أصل تركي أو زنجي ممن يدين بالإسلام. وأما الأوروبيون فهم الفرنسيون والإنجليز والأمريكيون وسائر الذين هم من أصل أوروبي أو أمريكي ومن أهل المشرق من الذين يدينون بالنصرانية أو باليهودية. ولقد كان للأوروبيين في المغرب في أيام الاستعمار الفرنسي مركز ممتاز في السياسة والإدراة والمجتمع. وأما المسلمون فكانوا يعاملون معاملة المُسْتَعْبَدِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ (¬1). والواقع أن فرنسا ترى، كسائر الدول المستعمرة، أن الوعي الإسلامي خطر على النفوذ الأجنبي في البلاد الإسلامية. وهؤلاء الذين كانوا يستعمرون البلاد العربية خاصة كانوا يرون أن العروبة تَتَحَوَّلُ عَمَلِيًّا «حَرَكَةً إِسْلاَمِيَّةً» ثم تعم البلاد العربية والبلاد الإسلامية غير العربية على السواء. في عام 1957 صدر في باريس كتاب اسمه " الملف السري لشمال أفريقيا " ألفه (بيار فونتان) وملأه بالحقد والمغالطات، ولكنه كشف عن عقدة الخوف من العروبة والإسلام وعن عقدة الخوف من الدور الذي يقوم به الرئيس جمال عبد الناصر .. قال (بيار فونتان) (¬2): «إِنَّ جُنُونَ العَظَمَةِ (ولنثبت للكاتب الفرنسي التعبير الذي اختاره) فِي نَاصِرٍ (عَامِلٌ) مُسَاعِدٌ تَنْقَلِبُ بِهِ حَرَكَةُ العُرُوبَةِ حَرَكَةَ جَامِعَةً إِسْلاَمِيَّةً. وَفِي رَأْيِ المِصْرِيِّ (¬3) أَنَّهُ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ فِي اتِّحَادٍ وَاسِعٍ جَمِيعَ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ المُسْتَقِلَّةِ مَا بَيْنَ الدَّارِ البَيْضاءَ وَبَيْنَ طَهْرَانَ وَأَنْ يُصْبِحَ هُوَ لِذَلِكَ الاتِحَادِ رَئِيسًا رُوحِيًّا عَلَى الأَقَلِّ. عَلَى أَنَّ هَذَا لاَ يَعْنِي ¬

_ (¬1) راجع " وثبة المغرب " للدكتور عمر فروخ، ص 83، 92 - 98، 101 - 102، 107 - 108، 113 - 114، 233، 237 - 242. (¬2) Fontaine 126 ss (¬3) بدأ الكاتب الفرنسي كلمة «المِصْرِيَّ» بحرف كبير لأنه يشير بها إلى الرئيس جمال عبد الناصر، كما يبدو من القرينة بوضوح.

أَنَّهُ سَيَنْجَحُ، إِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ دُولاً عَرَبِيَّةً تَقْبَلُ المَعُونَةَ المِصْرِّيَّةَ ثُمَّ هِي تُكَافِحُ نُفُوذَ القَاهِرَةَ سِرًّا. أَمَا فِي الوَقْتِ الحاضِرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَلاَّ نَنْظُرَ إلاَّ فِي مُخَطِّطِ الحَرَكَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ، بِقِطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِمْكَاِن نَجَاحِهِ أَوْ خَيْبَتِهِ، لأَنَّ ذَلِكَ المُخَطَّطُ هُوَ سَبَبُ الضَّجَّةِ فِي شَمَالِيِّ أَفْرِيقْيَا ... إِنَّ فِرَنْسَا تُسَهِّلُ فِي كُلَّ عَامٍ لِلْمُسْلِمِينَ الرَّاغِبِينَ فِي الذَّهَابِ إِلَى الحَجِّ طَرِيقَ حَجِّهِمْ بِاسْتِئْجَارِهَا لَهُمْ سَفِينَةً خَاصَّةَ. وَهَاكَ مَا تَنْقَلِبُ إِلَيه هَذِهِ الرِّحْلَةُ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَد فِي بَرْنامَجِ نَاصِرٍ. إِنَّ الحَجِّ يُمْكِنُ أَنْ يُكُونَ قُوَّةً عَظِيمَةً فِي يَدِنَا لَوْ أَنَّنَا عَرَفْنَا كَيْفَ نَسْتَغِلُّهَا ... فِي مُؤْتَمِرٍ سِياسِيٍّ دَوْرِيٍّ يَجْمَعُ فِي كُلَّ عَامٍ قَادَةَ الدُّوَلِ الإِسْلاَمِيَّةِ وَرِجَالَ الرَّأْيِ وَالعُلَمَاءِ وَالكُتَّابِ وَالتُّجَّارِ وَمُلُوكَ الصِّنَاعَةِ كَمَا يَجْمَعُ الشُّبَّانَ أيضًا. إِنَّ الحَرَكَةَ الإِسْلاَمِيَّةَ قَدْ اِنْتَقَلَتْ إِلَى المَيْدَانِ العَمَلِيِّ، وَإِنَّ الشِّمَالَ الأَفْرِيقِيَّ لَيْسَ سِوَى لُقَمَةٍ (تَنْتَظِرُ) الاِبْتِلاَعَ ... لاَ تَبْتَسِمْ أَبَدًا! إِنَّ تْشَادْ (¬1) يَعْمَلُ اليَوْمَ فِيهَا رُسُلُ الشُّيُوعِيَّةِ وَالدِّعَايَةِ لِلْجَامِعَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ. وَفِي الحَقِّ، لَوْ أَنْ البِيضَ (¬2) أَرَادُوا لَوَقَفَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي لَحْظَةٍ. وَلَكِنَّهُمْ يَتَنَاهَشُونَ وَيَتَرَبَّصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجَارِهِ حَتَّى يَحِلَّ مَحَلَّهُ فِي الوَقْتِ المُنَاسِبِ، وَإِنَّهُ لَخَطَرٌ عَلَيْهِمْ كَبِيرٌ أَلاَّ يُلْقُوا أُذُنًا صَاغِيَةً إِلَى أَصْوَاتِ المُسْلِمِينَ المَحْمُومَةِ. إِنَّ حَيَاةَ الرُّومِيِّ (¬3) لاَ تَزِنُ فِي الحَقِيقَةِ قَلِيلاً مَهْمَا كَانَ أَصْلُهُ وَمَهْمَا كَانَ دِينُهُ حِينَمَا يَقُودُ اللَّهَبُ الأَخْضَرُ أَتْبَاعَهُ المُتَعَصِّبَينَ. وَالوَحْدَةُ العَرَبِيَّةُ (¬4) مَوْطِئُ قَدَمٍ أَقَامَتْهُ بَرِيطَانْيَا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ (مِنَ العَرَبِ) يُلْقِي إِلَيْهِ بَالاً فِي زَمانِهِ. وَإِنَّنَا نَجِدُ فِي أَعْلَى السُّلَّمِ مِنْ حَرَكَةِ القَوْمِيَّةِ العَرَبِيَّةِ حَرَكَةَ الجَامِعَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ التِي تَوَلَّتْهَا مِصْرُ، مِصْرُ التِي تَتَمَتَّعُ بِقِسْطٍ أَكْبَرَ مِنَ التَّطَوُّرِ وَمِنَ التَّمَدُّنِ الأُورُوبِيِّ وَالتِي تَنْعَمُ بِقِسْطٍ أَوْفَرَ مِنْ خِبْرَةِ البِيضِ الذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ مِنْ مِصْرَ تَابِعًا لَهُمْ. وَالجُنُونُ المِصْرِيُّ يُشَجِّعُهُ عَجْزُ هَيْئَةِ الأُمَمِ عَنْ حَلِّ مُشْكِلَةِ سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ لاَجِئٍ عَرَبِيٍّ مُنْذُ نِهَاِيَةِ الحَرْبَ الإِسْرَائِيلِيَّةِ الإِسْلاَمِيَّةِ (عَامَ 1948)، تِلْكَ المُشْكِلَةُ التِي مَا زَالَتْ ¬

_ (¬1) تشاد كانت مستعمرة فرنسية في غربي أفريقيا ثم استقلت. (¬2) البيض: الأوروبيون، الدول الأوروبية. (¬3) الرومي: الأجنبي، الأوروبي المسيحي. (¬4) في الأصل الفرنسي: Panarabisme

في السودان

شِعَارًا دَائِمًا لِلْتَّحْرِيضِ عَلَى الأُرُوبِيِّينَ. إِنَّ قَضِيَّةَ السَّيْطَرَةِ أَكْثَرَ ثِقَلاً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالمُسْلِمِينَ فِي القَارَّةِ السَّوْدَاءِ، أُولَئِكَ المُسْلِمِينَ الذِينَ يَقُومُونَ بِعِبَادَاتٍ مُحَبَّبَةٍ جِدًّا إِلَى (أَصْحَابِ) عَدَدٍ مِنَ المَذَاهِبِ الفِطْرِيَّةِ وَالوَثَنِيَّةِ. إِنَّ الدُّوَلَ العَرَبِيَّةَ مُجَنَّدَةٌ فِي صُفُوفِ الجَامِعَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ التِي يَقُودُهَا الرَّئِيسُ الكُولُونِيلْ نَاصِرْ الذِي أَعَدَّ مِنْهَاجَهُ لِلاِسْتِعْمَارِ إِعْدَادًا وَاضِحًا. إِنَّ الدُّوَلَ الإِسْلاَمِيَّةَ غَيْرِ العَرَبِيَّةِ تَرَى فِي مِصْرَ قَاهِرًا لِلْبِيضِ (الأُورُوبِيِّينَ)». ليس من عادتنا في هذا الكتاب أن نعلق على ما تورده من أقوال رجال التبشير والاستعمار. ولكن التعليق هنا واجب لأنه يكشف عن وجه جديد من السياسة الاستعمارية: إن الخوف الحقيقي في نفوس المستعمرين ليس من الوحدة العربية، بل من الوحدة العربية التي ستنقلب في رأيهم إلى وحدة إسلامية. إنهم يرون أن القوة الكامنة في الإسلام هي التهديد الصحيح للاستعمار. ولقد سبق لنا القول بأن في المقاطع الآنفة كثيرًا من الحقد والمغالطات والميل إلى إسرائيل، ولكن الذي يهمنا في هذا النص الذي جئنا به هنا أن الاستعمار زائل عن البلاد العربية وعن البلاد الإسلامية غير العربية، وأن التبشير الذي كان القوم يقومون به منذ مطلع القرن الماضي لم يكن لنشر النصرانية بل لبسط النفوذ الأجنبي على المناطق الواسعة في العالم العربي والعالم الإسلامي من وراء التبشير بالنصرانية. فِي السُّودَانِ: السودان: هو المنطقة التي تمتد في أواسط أفريقيا من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي والتي يغلب على جلد أهلها السواد. ويحسن في معالجة موضوع التبشير هنا أن تقسم تلك المنطقة قسمين: شرقيًا وغربيًا. أما القسم الشرقي فتتناوله هنا ملاحظتان: 1 - إن قسمًا من أهل هذه المنطقة مسلمون، بينما أهل القسم الآخر غير مسلمين، بل وثنيون عامة أو نصارى في الحبشة خاصة. 2 - إن قسمًا من أهل الشواطئ من هؤلاء كانوا قد امتزجوا منذ أقدم الأزمنة بالعرب، وخصوصًا بعرب اليمن، ثم زاد ذلك الاختلاط كثيرًا بعد الإسلام. وأما القسم الغربي من السودان فإن أهله لم يختلطوا بالعرب إلا بعد الفتح الإسلامي في

في السودان الشرقي

المغرب، وبعد قيام حركة المرابطين في القرن الخامس للهجرة والحادي عشر للميلاد خاصة وفي الجانب الشمالي منه على الأخص. فِي السُّودَانِ الشَّرْقِيِّ: حينما نقول السودان اليوم فإننا نعني بقعة من الأرض، جنوب مصر، تبلغ نحو مليونين كيلومترًا مربعًا في مساحتها، وهي التي أصبحت جمهورية مستقلة عام 1956. منذ جاء (لِيفِنْغِسْتُونْ) (¬1) إلى أفريقيا، في منتصف القرن التاسع عشر، تمتزج في نفسه عوامل التبشير بعوامل الاستكشاف، جعلت دول الاستعمار تتسابق إلى أواسط أفريقيا بالتبشير ظاهرًا وبالاستيلاء على الأراضي الغنية في القارة التي كانت يومذاك لا تزال سوداء مظلمة مجهولة في الحقيقة. وسبق الرهبان الكاثوليك من النمسا إلى السودان، في شباط (فبراير) من عام 1848. «وَمَعَ أَنَّ الهَدَفَ الرَّئِيسِيَّ لِتِلْكَ الإِرْسَالِيَّةِ كَانَ التَّبْشِيرُ بَيْنَ الوَثَنِيِّينَ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الرُّهْبَانَ قَدْ اِحْتَجُّوا عَلَى قَرَارِ الحُكُومَةِ المِصْرِيَّةِ بِتَحْرِيمِ التَّبْشِيرِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ» (1). «وَمَعَ أَنَّ مَرَاكِزَ أُخْرَى لِلْتَّبْشِيرِ قَدْ أُنْشِئَتْ فِي السُّودَانِ فِي السَّنَوَاتِ التَّالِيَةِ، فَإِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ المَرَاكِزِ قَدْ أُغْلِقَتْ فِي عَامِ 1860 لأَنَّ الرُّهْبَانَ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِلاِغْتِيَالِ» (¬2). وظل الأمر على ذلك حتى احتل الإنجليز مصر، سنة 1299 هـ (1882 م)، ثم كانت الحملة الإنجليزية المصرية على السودان لإخماد حركة المهدي، سنة 1317 هـ (1899 م). (¬3) وفي عام 1899 جمع المبشرون البريطانيون والمبشرون الأمريكيون جهودهم في السودان واتخذوا مراكز لهم في الخرطوم وأم درمان (¬4). غير أن التبشير بين المسلمين ظَلَّ ممنوعًا، فإن اللورد (كتشنر)، وكان يومذاك الحاكم العام في مصر والسودان باسم بريطانيا، رفض أن يقوم المبشرون بأعمالهم في بلاد أهلها مسلمون، بينما الحكومة البريطانية لا ¬

_ (¬1) راجع فوق، ص [51]، 185. (¬2) Trimingham, Approach 9 (¬3) ibid 9 ff (¬4) ibid 12 f

الاضطراب في السودان

ترغب في عرقلة أعمالها السياسية في المناطق التي كانت قد بسطت عليها نفوذها أو لم تستطع بعد أن تثبت هذا النفوذ. عند ذلك التفت المبشرون إلى التعليم وأعانهم على ذلك (اللورد كرومر) الذي خلف (كتشنر). فقد أسس المبشرون الإنجليز مدرسة للبنات في الخرطوم، عام 1903، وأسس المبشرون الأمريكيون في الخرطوم نفسها مدرسة للصبيان بعد عامين. ثم وسع كل فريق منهم جهوده التبشيرية من خلال التعليم. على أن هذه المدارس كانت قاصرة في أول الأمر، وفي فترة غير قصيرة بعد ذلك، على أولاد الجاليات المصرية والسورية وعلى المولدين (الذين كان آباؤهم من الأجانب)، وكان معظم هؤلاء غير مسلمين (¬1). ثم إن الحكومة الإنجليزية قسمت السودان قسمين: قسمًا شمال خط العرض 12 عَدَّتْهُ قِسْمًا إِسْلاَمِيًّا لا يجوز السماح فيه للمبشرين بالقيام بأعمالهم عَلَنًا. وكذلك أوجبت الحكومة الإنجليزية على المدارس التبشيرية ألا تعلم الدين المسيحي لتلميذ اختار ولي أمره أن يدخله فيها إلا إذا حصلت من الولي على إذن خطي بذلك. على أن هذا كله لم يمنع شيئًا من التبشير بوسائل مختلفة من طريق التعليم والتطبيب والسياسة ووظائف الحكومة مما عرفنا أشباهه في هذا الكتاب. أما جنوب خط العرض 12 فَعَدَّتْهُ الحُكُومَةُ الإِنْجْلِيزِيَّةُ قِسْمًا وَثَنِيًّا خَالِصًا ومنعت المسلمين من السفر إليه حتى تتيح للمبشرين المسيحيين أن يعملوا فيه بِحُرِّيَّةٍ، ثم كانت هي تقدم لهم جميع المساعدات في سبيل ذلك. غير أن جنوب السودان ظل ميدان صراع بين الحركة الإسلامية وبين الإرساليات التبشيرية المسيحية مما لا يدخل بحثه في نطاق هذا الكتاب. ولا ريب في أن استقلال السودان قد خفف كثيرًا من أثر المبشرين الكاثوليك والبروتستانت حتى في جنوبي السودان. الاِضْطِرَابُ فِي السُّودَانِ: كان محمد علي باشا قد فتح السودان، في سنة 1237 هـ (1821 م)، باسم العثمانيين. وكان للسودان، من قبل ومن بعد، مشاكل كثيرة منها جلب العبيد منه للبيع في مصر وفي غيرها. ¬

_ (¬1) ibid 15

وجاء إسماعيل باشا إلى عرش مصر في رجب من سنة 1280 هـ (1863 م). واحتاج إسماعيل باشا إلى أن يسد نفقات كثيرة منها ما كان في سبيل الإصلاح كبناء السكك الحديدية وإنشاء الطرق والمرافئ وشق قناة السويس، ومنها ما ذهب في الإسراف على بناء القصور أو في السرقات. ثم كانت القلاقل في السودان واحتاج إلى تمويل الحملات بمبالغ ضخمة. ففي سنة 1292 هـ (1875 م) باع إسماعيل باشا أسهمه في قناة السويس للحكومة البريطانية. وهكذا أصبحت معظم أسهم قناة السويس في يد الفرنسيين ويد الحكومة البريطانية. ثم غرق إسماعيل في الديون الأجنبية، فتأسس في مصر صندوق الديون العمومية. عندئذٍ فرضت فرنسا وإنجلترا على إسماعيل لجنة منهما للإشراف على جمع الضرائب وعلى نفقات الدولة محافظة على حقها في الديون وفي نصيبهما من دخل القناة. بذلك دخلت مصر في نطاق النفوذ البريطاني الفرنسي فعليًا. غير أن النفوذ البريطاني كان أغلب. ومع دخول النفوذ الأجنبي إلى الميدان الاقتصادي المصري دخل هذا النفوذ في الوقت نفسه إلى الميدانين السياسي والعسكري. لقد استعان إسماعيل باشا في التغلب على تجارة الرقيق بنفر من الأجانب منهم السير (صموئيل بايكر) والكولونيل (تشارلس غوردن) و (رودولف سلاتين) = (سلاطين باشا). لقد عهد إلى هؤلاء بالولاية على عدد من المناطق السودانية وفوض إليهم العمل بجميع الوسائل التي يرونها ضرورية للقضاء على نشاط الجلابين. وهكذا دخل النفوذ البريطاني إلى السودان أيضًا. ويحسن أن نذكر هنا أن الكولونيل (تشارلس غوردن) - أو (غوردن باشا) كما أصبح يُدْعَى فِيمَا بَعْدُ - كان من المتصلين بحركة التبشير ومن الذين كانوا يشجعون على القيام بالتبشير في السودان خاصة. وكانت قضية التبشير في السودان خاصة تشغله إلى درجة أنه كتب بها رسالة أو رسائل إلى أخته (¬1). وفي ذلك الحين كان (غوردن باشا) قد أصبح الحاكم العام في السودان فتقلصت تجارة الرقيق قليلاً واتسعت حركة التبشير كثيرًا. ولكن في عام 1879 اُسْتُدْعِيَ (غوردن) إلى إنجلترا فنشطت تجارة الرقيق من غير أن تركد حركة التبشير التي كان (غوردن) قد دفعها في القسم الجنوبي من السودان خاصة. يبدو أن التدخل البريطاني في حياة السودان الدينية على الأخص وفي حياته السياسية أيضًا (مضافًا إلى هذا التدخل الأجنبي شيء من الفوضى التي آل إليها الحكم المصري في السودان والتي كانت امتدادًا للفوضى في مصر نفسها يومذاك) قد كان السبب الأول في ¬

_ (¬1) Trimingham, Approach 10 - 11

الثورة الدينية التي أثارها محمد بن أحمد المعروف بـ " المهدي "، في رمضان من سنة 1298 هـ (صيف 1881 م). في ذلك الحين كان خديوي مصر إسماعيل باشا قد خُلِعَ (1296 هـ - 1879 م) وخلفه ابنه توفيق الذي كان أضعف من أبيه من الناحية الاقتصادية والناحية الإدراية مَعًا، وكان الإنجليز خاصة يسندون حكمه الضعيف لأن ضعفه كان يمكنهم من تنفيذ رغباتهم في مصر والسودان. وعمت مصر النقمة التي كانت قد عمت السودان من قبل، فقد كثر نفوذ الإنجليز وزاد عدد الأجانب في مصر زيادة كبيرة جِدًّا، فنشبت ثورة أَحْمَدْ عُرَابِي بعد ثورة " المهدي " في السودان بأسابيع. وتمادت الثورتان، ورأت بريطانيا فيهما تهديدًا لنفوذها ومصالحها في القارة الأفريقية كلها فاحتلت مصر في شهر شعبان من سنة 1299 هـ (تموز - يوليو 1882 م). وحرصت بريطانيا على قمع حركة " المهدي " في السودان من وارء الجيش المصري فأبيدت النجدات المصرية التي أرسلت إلى السودان. وفي ربيع الثاني من سنة 1301 هـ (شباط - فبراير 1884 م) أرسلت بريطانيا حملة على السودان بقيادة (غوردن)، ولكن حملة (غوردن) أيضًا خابت وقتل (غوردن) نفسه، لما سقطت الخرطوم في يد أتباع " المهدي " في ربيع الثاني من سنة 1302 هـ (كانون الثاني - يناير 1885 م). وبعد ستة أشهر من مقتل (غوردن) توفي المهدي، في 8 رمضان 1302 هـ (حزيران - يونيو 1885 م) فتولى الجهاد بعده عبد الله بن محمد الفقيه المعروف بـ " خليفة المهدي " أو بـ " الخليفة ". وفي 1314 هـ (1896 م) أعد الإنجليز حملة مشتركة (بريطانية - مصرية) بقيادة (كتشنر) استطاعت أن تقضي على حركة المهدي في معركة أم درمان، في جمادى الثانية من سنة 1316 هـ (1898 م). وقسم السودان من الناحية الاجتماعية قسيمن: قسمًا شماليًا وقسمًا جنوبيًا. أما القسم الشمالي فكان مسلمًا، وقد اقتصر إنشاء المدارس الرسمية في السودان على هذا القسم. أما القسم الجنوبي (وقد كان معظم أهله من الوثنيين البدائيين) فقد ترك للمبشرين الكاثوليك والبروتستانت يقومون فيه بالتعليم (¬1)، أو بالتبشير تحت ستار التعليم. ومنذ عام 1926 جعلت الحكومة الإنجليزية المنتدبة على السودان تعطي المبشرين إعانة من ميزانة السودان مساعدة لهم على التعليم (¬2). ¬

_ (¬1) Dempsy 45 (¬2) ibid . 48 f

التكاتف في سبيل التبشير

التَّكَاتُفُ فِي سَبِيلِ التَّبْشِيرِ: ولقد انكشف العنصر السياسي في التبشير انكشافًا ظاهرًا لما وقعت الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة (1929 - 1930) ثم في بريطانيا (عام 1931)، فقلت المبالغ التي كانت تتدفق على الإرساليات التبشيرية من تينك الدولتين وبردت حركة التبشير حينًا (¬1). على أن أغرب ما في هذه الصورة السياسية التبشيرية أن (هيلاسلاسي) إمبراطور الحبشة الأرثوذكسي كان يساعد الإرساليات الأجنبية التي هي بروتستانتية أو كاثوليكية على التبشير في السودان (¬2). ودخل على هذه الصورة الغربية عنصر أشد غرابة هو التمييز العنصري (¬3). والواقع أن السود الصابئين إلى النصرانية لم يتمتعوا بشيء من المساواة مع إخوانهم البيض الأوروبيين، لا في الدولة ولا في الكنيسة. ومع أن عددًا من الإرساليات احتجت (فقط) على سياسة التمييز العنصري، فإن نفرًا من رؤساء الإرساليات الهولندية خاصة وقفوا (نَظَرِيًّا) من هذه القضية على الحياد (¬4). ولكنهم أغلقوا أبواب الكنائس الكبرى في أفريقيا في وجه النصارى السود. وقد كان من الطبيعي أن يؤدي هذا المسلك إلى ردة فعل بين النصارى السود ضد النصارى البيض، وخصوصًا في المدن التي تنهض فيها كنائس عظيمة البنيان (¬5). ولكن بما أن هذا النزاع كان نزاعًا داخليًا في النصرانية نفسها فإننا نكتفي هنا بالإشارة إليه فقط. أما النزاع السياسي فنخصه بكلمة موجزة. ظن المبشرون أن التبشير سيجعل من الأفريقيين غربيين في كل شيء حتى في الشعور السياسي. ولكن ذلك لم يتفق دائمًا. إن الأفريقيين الذين تلقوا العلم الغربي على يد المبشرين أصبحوا هم أنفسهم كارهين للتبشير وللصلة التي يريد المبشرون أن ينشؤوها بين الدين وبين السياسة. ففي كل مكان وصل إليه الوعي الوطني ظهر الكره للتبشير حتى قال (غروف): «إِنَّنَا لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نُخْفِي عَنْ أَنْفُسِنَا وَلاَ عَنْ غَيْرِنَا أَنَّ نَفَرًا كَثِيرِينَ يُمَثِّلُونَ ¬

_ (¬1) Grove 137 راجع 64 - 65. والحواشي التالية غير المنسوبة كلها من Grove . (¬2) 143 س. (¬3) راجع فوق ص. (¬4) 105، 135. (¬5) 77.

الجَمَاعَاتِ الأَفْرِيقِيَّةِ أَظْهَرُوا اِمْتِعَاضًا شَدِيدًا مِنَ التَّبْشِيرِ وَأَخْبَرُونَا أَنَّ الصِّلَةَ بَيْنَ الكَنَائِسِ وَالتَّبْشِيرِ وَبَيْنَ التَّعْلِيمِ يَجِبُ، فِي رَأْيِهِمْ، أَنْ تَنْتَهِيَ بِسُرْعَةٍ. وَكَانَ هَؤُلاَءِ إذَا تَكَلَّمُوا فِي التَّعْلِيمِ يَقُولُونَ:" مَدَارِسُكُمْ وَمَدَارِسُنَا "، يُحَدِّدُونَ بِذَلِكَ الفَرْقَ بَيْنَ مَدَارِسِ الإِرْسَالِيَّاتِ وَبَيْنَ المَدَارِسِ التِي تُدِيرُهَا السُّلُطَاتُ الأَفْرِيقِيَّةُ المَحَلِّيَّةُ» (¬1). ومنهم من جعل يقتل المبشرين في الكونغو (¬2) وفي غير الكونغو. والواضح أن هذا الخلاف في الرأي يرجع إلى عامل وراء التبشير ووراء التعليم؛ إن هذا العامل كان «الاستعمار». يرى (غروف) أن السنوات العشر التي تلت الحرب العالمية الأولى قد خلقت نُضْجًا وَوَعْيًا بَيْنَ الشُّعُوبِ الأَفْرِيقِيَّةِ. ومع أن الإرساليات التبشيرية كانت منذ أيامها الأولى ترى أن تبلغ الشعوب الأفريقية رشدها بين شعوب العالم المتطورة وأن يصبح الجميع أبناء متساويين للهِ الواحد، فإن تلك الإرساليات كانت ترى أن يتم هذا في مدى طويل. إلا أن هذه التطورات قد جلبت معها مضايقات للإرساليات المسيحية ينبع معظمها من إلحاح الأفريقيين على العمل السياسي السريع بالإضافة إلى عمل مواز لذلك في سائر الميادين (¬3). إن التعبير في المقطع السابق غامض في شكله الراهن، مع أن المؤلف (غروف) يدور حوله في صفحتين. إن المقصود من هذا المقطع أن الأفريقيين لما تعلموا في مدارس التبشير ووصلوا إلى شيء من النضج بدأوا يطالبون باستقلال صحيح في السياسة والاقتصاد والاجتماع، بينما كان المبشرون يعتقدون أن التعليم تحت إشراف المبشرين سيجعل الأفريقيين يطمئنون إلى الحكم الأجنبي وقتًا طويلاً على الأقل. وهذا الذي كان يجري في أواسط أفريقيا وفي شرقها، في أراضي النفوذ البريطاني، كان يجري مثله في غربي أفريقيا. إن نيجيريا بلاد واسعة كثيرة السكان. غير أن السكان في نيجيريا يتفاوتون في الحياة الدينية: فالغالب على القسم الشمالي من نيجيريا الإسلام، بينما الأكثرون في الجنوب من الوثنيين. فلما ملكت بريطانيا هذا الجزء من القارة الأفريقية منعت السكان المسلمين أن يدخلوا إلى القسم الجنوبي الوثني ثم أطلقت للمبشرين حرية العمل فيه. إن الحكومة البريطانية لم تسمح بحرية مماثلة للمبشرين في القسم الشمالي لأن الإسلام فيه قوة عظيمة، ولم تكن إنجلترا راغبة في إغضاب المسلمين حرصًا على مصالحها الاقتصادية والسياسية أولاً. ولكن منذ عام 1927 أخذت الحكومة البريطانية ¬

_ (¬1) 282، 283. (¬2). (Life Magazine N. Y, Feb. 14, 1964 (Editorial (¬3) 280 .

التعليم في أفريقيا

تحض المبشرين على العمل في شمالي نيجيريا ثم تساعدهم على ذلك. ومع أن نيجيريا بقيت بعد بلوغها إلى الحكم الذاتي في عام 1959، وبعد استقلالها عام 1960، جُزْءًا من الإمبراطورية البريطانية التي سميت " جامعة الشعوب البريطانية "، فإن أثر التبشير والمبشرين يجب أن يكون قد خف كثيرًا في الجزء الشمالي من نيجيريا وفي القسم الجنوبي أيضًا. التَّعْلِيمُ فِي أَفْرِيقْيَا: كان المبشرون أول من بدأ التعليم في أفريقيا السوداء. وفي أوغندة ظل التعليم في يد المبشرين زهاء نصف قرن (1877 - 1925). ولما تأسس المجلس الاستشاري للتعليم الأفريقي تمثلت فيه دوائر الحكومة (البريطانية) والإرساليات التبشيرية والجماعات الأفريقية والأجنبية (¬1). وكان المبشرون الإنجليز يحملون أعباء أساسية في إدراة المدارس في جميع أنحاء أفريقيا البريطانية (¬2). ثم اتسع التبشير اتساعًا عظيمًا بزيادة عدد المبشرين البروتستانت والكاثوليك إذ بلغ عددهم في عام 1925 نحو 6300 في جميع أنحاء أفريقيا (¬3). أما في المستعمرات البلجيكية (الكونغو) والبرتغالية (أنغولا) فإن المعاملة الممتازة كانت للإرساليات الكاثوليكية (¬4). العَامِلُ السِّيَاسِيُّ: ويبدو العامل السياسي في التنافس في أفريقيا - كل دولة تحمي مبشريها، وكل إرسالية تبشيرية تناصر دولتها - واضحًا جِدًّا في ميدانين: في ميدان الحرب وفي ميدان التبشير نفسه. لما نشبت الحرب العالمية الأولى، عام 1914، عاملت كل دولة في مستعمراتها مبشري أعدائها معاملة المحاربين: بالأسر والاعتقال والترحيل. وكانت إنجلترا وفرنسا حريصتين على استئصال المبشرين الألمان في البلاد التي كانتا تسيطران عليها (¬5). ولما انتهت الحرب العالمية الأولى لم تسمح الحكومة الإنجليزية لمبشر غير إنجليزي أن ¬

_ (¬1) 106 - 118. (¬2) 189. (¬3) 121. (¬4) 119. (¬5) 17، 21، 88، 123.

حال السود في الإسلام والنصرانية

يدخل مناطق نفوذها إلا إذا حصل على إذن بذلك (¬1). أما البلجيكيون فقسموا الإرساليات التي تريد دخول الكونغو قسمين: إرساليات وطنية وإرساليات غير وطنية. أما الإرساليات الوطنية فكانت في عُرْفِهِمْ تلك الإرساليات التي يكون ثلثا أعضاء المجلس الإداري فيها من البلجيكيين (¬2). ولما احتلت إيطاليا الحبشة، في عام 1936، اضطرت الإرساليات البروتستانتية إلى مغادرة الحبشة كلها (¬3). وفي الحرب العالمية الأولى ترك المبشرون عملهم التبشيري وجعلوا يطوفون في المناطق ويجمعون المتطوعين لجيوش دولهم (¬4). حَالُ السُّودِ فِي الإِسْلاَمِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ: إن المبشرين بالنصرانية لا يريدون نصارى من السود يساوونهم في المنزلة، ولكنهم يريدون أشخاصًا يستتبعون في استغلال البلاد التي يبشرون فيها. وهذا أمر ظاهر من مقارنة حال الذين يسلمون بحال الذين يتنصرون. قال الأستاذ (وسترمان) (¬5): «حِينَمَا يَعْتَنِقُ الزِّنْجِيُّ الإِسْلاَمَ فَإِنَّهُ يُصْبِحُ حَالاًّ عُضْوًا فِي هَيْئَةٍ اِجْتِمَاعِيَّةٍ أَعْلَى (مِنْ تِلْكَ التِي كَانَ فِيهَا مِنْ قَبْلُ). ثُمَّ هُوَ يَبْلُغُ بِسُرْعَةٍ إِلَى الشُّعُورِ بِالثِّقَةِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الشُّعُورِ بِمَقَامِهِ، كَمَا يَشْعُرُ أَنَّهُ قَدْ أَصْبَحَ عُضْوًا فِي مُنَظَّمَةٍ مُنْتَشِرَةٍ حَوْلَ العَالَمِ كُلِّهِ. وَكَذَلِكَ تَنْشَأُ لَهُ صِلاَتٌ وَاضِحَةُ المَعَالِمِ بِالأُورُوبِّيِّينَ أَنْفُسَهُمْ. إِنَّ الزِّنْجِيَّ الذِي كَانَ يَعِيشُ فِي الأَدْغَالِ مُحْتَقَرًا يُصْبِحُ بِالإِسْلاَمِ ذَا مَقَامٍ وَيَجِدُ أَنَّ الأُورُوبِّيِّينَ أَنْفُسَهُمْ قَدْ جَعَلُوا - عَلَى الرُّغْمِ مِنْهُمْ - يُعَامِلُونَهُ بِاحْتِرَامٍ. أَمَّا إِذَا اِنْتَقَلَ الوَثَنِيُّ (وَالزِّنْجِيُّ) إِلَى الجَمَاعَةِ المَسِيحِيَّةِ (أَيْ إِذَا صَبَأَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ)، فَإِنَّ الذِي يَحْدُثُ هُوَ خِلاَفُ ذَلِكَ تَمَامًا. إِنَّنَا نَحْنُ الأُورُوبِّيِّينَ نَبْقَى دَائِمًا غُرَبَاءَ عَنْ الأَفْرِيقِيِّ، وَحِينَمَا هُوَ يَتَبَنَّى حَضَارَتَنَا فِي ظاهِرِهَا فَإِنَّهُ فِي الحَقِيقَةِ لاَ يَفْهَمُهَا. إِنَّنَا لَمْ نَتَعَلَّمْ بَعْدُ، وَلاَ المُبَشِّرُونَ مِنَّا أَيْضًا، أَنْ نَتَفَهَّمَ الزِّنْجِيِّ فِي خَصَائِصِهِ المُمَيِّزَةِ لَهُ. إِنَّنَا لَمْ نُكَلِّفْ أَنْفُسَنَا عَنَاءَ الاِهْتِمَامِ بِفَهْمِ حَضَاَرتِهِ وَبِتَرْقِيَةِ حَضَارَتِهِ بِعَوَامِلَ مِنْ حَضَارَتِنَا وَبِالنَّصْرَانِيَّةِ. وَبَدَلاً مِنْ أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ رُحْنَا نَهْدِمُ حَضَارَتَهُ ثَمَّ نُحَاوِلُ أَنْ نُبْدِلَهَا بِحَضَارَتِنَا وَهَكَذَا نَجِدَنَا مُعَرَّضِينَ إِلَى أَنْ نَجْعَلَ مِنَ الزِّنْجِيِّ صُورَةَ شَوْهَاءَ لِلأُورُوبِيِّ، بَيْنَمَا الإِسْلاَمُ يَجْعَلُ ¬

_ (¬1) 85. (¬2) 85، 101 حاشية 2. (¬3) 143. (¬4) 68، 69. (¬5) Westermann 644 f

المسلمون في الحبشة

مِنْهُ أَفْرِيقِيًّا يَحْتَرِمُ نَفْسَهُ. وَفَوْقَ ذَلِكَ لاَ نَجِدُ الزِّنْجِيِّ المُتَمَدْيِنَ بِالمَدَنِيَّةِ الأُورُوبِّيَّةِ يُبْلُغُ تِلْكَ المُسَاوَاةِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ التِي يُبْلِغُهُ إِيَّاهَا الإِسْلاَمُ بِطَبِيعَةِ الحَالِ. ثَمَّ إِنَّ هُنَالِكَ نَفَرًا مِنَ الأُورُوبِّيِّينَ قَلَّمَا كَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ عَنَاءً فِي إِخْفَاءِ حَقِيقَةٍ (عِنْدَهُمْ) هِيَ أَنَّ «الأَسْيُودَ» (¬1) المَسِيحِيَّ لاَ يَزَالُ مُحْتَقَرًا فِي أَعْيُنِهِمْ كَالزِّنْجِيِّ الذِي يَسْكُنُ الأَدْغَالَ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّادِرِ أَنْ تَرَى هَؤُلاَءِ يَنْتَهِزُونَ كُلَّ فُرْصَةٍ يَظْهَرُونَ فِيهَا تَفْضِيلَهُمْ لِلْسُّودِ المُسْلِمِينَ (عَلَى السُّودِ المُتَنَصِّرِينَ). تِلْكَ الحَقِيقَةُ وَحْدَهَا تُفَسِّرُ لَنَا بِكُلِّ وُضُوحٍ وَاقِعًا هُوَ أَنَّ الأَفْرِيقِيِّينَ الذِينَ تَلَقَّوْا فِي المُدَّةِ الأَخِيرَةِ تَعْلِيمًا مَسِيحِيًّا قَدْ انْقَلَبُوا دُعَاةً لِلإِسْلاَمِ. وَبِمَا أَنَّ الأَفْرِيقِيِّينَ لاَ يَأْمَلُونَ أَبَدًا أَنْ يَنَالُوا (بِالنَّصْرَانِيَّةِ) مَقَامًا اِجْتِمَاعِيًّا مُسَاوِيًا لِمَقَامِ إِخْوَانِهِمْ فِي العَقِيدَةِ مِنَ النَّصَارَى الأُورُوبِّيِّينَ، فَقَدْ نَشَأَ فِيهِمْ اِسْتِعْدَادٌ لأَنْ يَرَوْا فِي الإِسْلاَمِ الدِّينَ (الوَحِيدَ) لِلأَفْرِيقِيِّ الحَدِيثِ». المُسْلِمُونَ فِي الحَبَشَةِ: إن البحث في شأن المسلمين في الدول غير الإسلامية لا يدخل، من حيث المبدأ، في نطاق هذا الكتاب. غير أن شأن المسلمين في الحبشة جزء متمم في هذا النطاق. إن ملوك الحبشة النصارى أرادوا في القرن التاسع عشر أن يحملوا المسلمين الأحباش بالقوة على اعتناق النصرانية أو على مغادرة الحبشة. ثم إن (ثِيُودُورْ) ملك الحبشة أراد أن يحالف بريطانيا ضد الدول الإسلامية المجاورة له وخصوصًا مصر، ثم كتب بذلك رسالة إلى الملكة (فيكتوريا) في عام 1863. ولكن رسالته بقيت بلا رَدٍّ فَعَدَّ (ثِيُودُورْ) ذلك إهانة وسجن القنصل الإنجليزي والمبشرين البروتستانت الذين كانت الحكومة الحبشية قد سمحت لهم بالتبشير بين رعاياها المسلمين (¬2). ومنذ عامين سمحت الحكومة الحبشية للولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء محطة إذاعية تبشيرية في أديس أبابا اسمها «صوت الإنجيل». وجاء الملك (يُوحَنَّا) فأمر بتعبئة عامة ثم أعلن حربًا صليبية على المسلمين. ووصف الجنرال (غوردن) المَلِكَ (يُوحَنَّا) هذا فقال (¬3): «إِنَّهُ مِثْلِي مُتَعَصِّبٌ فِي الدِّينِ. إِنَّهُ يَشْعُرُ أَنَّهُ يَحْمِلُ رِسَالَةً وَأَنَّهُ سَوْفَ يُحَقِّقَهَا: تِلْكَ الرِّسَالَةُ هِيَ أَنْ يُنَصِّرَ جَمِيعَ المُسْلِمِينَ». ¬

_ (¬1) إن ناقل المقال من الألمانية إلى الإنجليزية يستعمل الكلمة الإنجليزية «Nigger» . هذه الكلمة تعني «أَسْيُودًا» تصغيرًا لكللمة «أَسْوَدَ»، على سبيل الاحتقار، كما تعني أيضًا نوعًا من الخنافس (والخنفسة حشرة سوداء كريهة). (¬2) Trimingham, J. Spencer : Islam in Ethiopia , 118, 119, of. 122 ; A Dictionary of Dates (Everyman's Library), under : Abyssinta (¬3) Trimingham, op. cit. 121

وقد اتفق أن الحكومة الحبشية استطاعت من طريق القهر أَنْ تُنَصِّرَ بعض المسلمين ولكن جماعات كثيرة من أولئك المقهورين على تبديل دينهم خرجوا من الكنيسة التي عمدوا فيها إلى المساجد ليعودوا إلى إيمانهم. ولم يكن لذلك نتيجة إلا ازدياد العداوة بين المسلمين والنصارى من الأحباش (¬1). والنصارى في الأصل أقلية في الحبشة، ولكن الاستعمار البريطاني خاصة هو الذي يدعم الأسرة المسيحية الحاكمة على كثرة من المسلمين يتكلم العديد منهم اللغة العربية ويعرفون جمعهم اللغة العربية لأنها لغة الإسلام. وبعد الحرب العالمية الثانية أضاف الاستعمار البريطاني الأمريكي ظلمًا جديدًا إلى الظلم القديم فأضاف " إيرتريا " إلى الحبشة وأخضعها للأسرة المسيحية الحاكمة. إن الكثرة المطلقة من أهل " إيرتريا " مسلمون. من أجل ذلك لما أجبر الاستعمار على مغادرة " إيرتريا " المسلمة فضل أن تكون تلك المقاطعة تحت حكم ملك مسالم للسياسة العربية ومستند في حكمه وسياسته إليها على أن تكون دولة مسلمة مستقلة. ونحن إذا كَرَّرْنَا النظر في المقاطعات الأفريقية التي استقلت، بعد الحرب العالمية الثانية، وجدنا أن الاستعمار قد أقام قبل مغادرته تلك البلاد حكومات أكثرها من الصابئين إلى النصرانية، مع أن الكثرة المطلقة من أهل تلك الدول الجديدة مسلمون. غير أن الاستعمار لم ينل من ذلك مآرب كثارًا. إن معظم هؤلاء أصبحوا يشعرون أنهم مسؤولون أمام قومهم قبل أن يكونوا مسؤولين أمام الدول الأجنبية التي مهدت لهم سبيل الحكم لأنهم صابئون. ولما خاب ظن الاستعمار في (باتريس لومومبا) في الكونغو، وجدنا (باتريس لومومبا) يسقط صريعًا في أحوال غامضة، إذا لم تكن من تدبير الاستعمار فإنها كانت على الأقل تتمتع بحماية الاستعمار. وبعد مقتل (لومومبا) وجدت أسرته ملجأ أمينًا ورعاية عطوفًا في الجمهورية العربية المتحدة لا في بلجيكا التي تمتعت بخيرات الكونغو اِسْتِيلاَءً وَنَهْبًا قَرْنًا كَامِلاً مِنَ الزَّمَنِ. ¬

_ (¬1) ibid . 122 - 123, cf. 127

ثلاثة ملاحق

ثَلاَثَةُ مَلاَحِقَ: في الآراء الجانبية أحيانًا دلالات فوق ما في الآراء المقصودة بالتعبير. قد نجد في كتاب يبحث في الأدب أوالموسيقى أو العلم حقائق تاريخية اجتماعية قد لا نجدها في الكتب التي ألفت في التاريخ وفي علم الاجتماع. في هذا الفصل القصير ثلاث حقائق من هذا الباب: المُلْحَقُ الأَوَّلُ: حِزْبُ البَعْثِ (¬1): المَارْكْسِيَّةُ وَالقَوْمِيَّةُ العَرَبِيَّةُ: يرى (ميشال عفلق) (¬2) في الأحزاب الشيوعية العربية أحلافًا طبيعية للمستعمرين والرجعيين وخصومًا ألداء للحركات التقدمية العربية. ومع ذلك فإن (ميشال عفلق) يقول: «إِنَّ حِزْبَ البَعْثِ مَدِينٌ فِي جَانِبٍ وَاسِعٍ مِنْ بَرْنَامَجِهِ الاِشْتِرَاكِيِّ لِلْمَارْكْسِيَّةِ». وسئل (ميشال عفلق) عن أصحاب الفلسفات من الغربيين الذين يمكن أن يكونوا قد أثروا في توجيه تفكيره، فقال: «وَلاَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. لَقَدْ قَرَأْتُ كَثِيرًا فِي شَبَابِي، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا قَرَأْتُ لِيُغَذِّي العَاطِفَةَ التِي أَرَدْتُهَا أَنْ تَكُونَ عَرَبِيَّةً بِكُلِّ مَا فِي الكَلِمَةِ مِنْ مَعْنَى. ثُمَّ إِنَّ صِلَتِي بِالتَّيَّارَاتِ الفِكْرِيَّةِ الغَرْبِيَّةِ قَدْ اِنْقَطَعَتْ مُنْذُ بِدَايَةِ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ». ليس لنا في هذا المقام إلا الإشارة إلى الجانب الماركسي (الشيوعي) الذي كان البرنامج القومي العربي في رأي (ميشال عفلق) مَدِينًا لَهُ؛ من غير جدال في الموضوع. ¬

_ (¬1) راجع فوق، ص 176 - 178. (¬2) Le Monde (Paris) , 21 - 3 - 1963, p. 8, cal. 1 . (ميشال عفلق) هو الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي.

الملحق الثاني: زيارة البابا لفلسطين

المُلْحَقُ الثَّانِي: زِيَارَةُ البَابَا لِفَلَسْطِينَ: زار (البابا بولص السادس) فلسطين زيارة بدأت في صباح اليوم الرابع من شهر كانون الثاني (يناير - جانفي) من عام 1964 ثم انتهت بعد ظهر اليوم السادس من الشهر نفسه (¬1). لقد كانت هذه الزيارة مفاجئة للعالم لأن البابا في العادة منذ الزمن الأقدم لا يغادر مقره في الفاتيكان، ولأن الزيارة نفسها إلى فلسطين بالذات تحتمل تأويلات كثيرة شتى. ونحن هنا لا نتعرض لتكهنات الصحافة العالمية ولا لتعليقات المعلقين في الدوائر الدولية، لأن الإنسان لا يمكن أن يخرج من تأويلات المتأولين وتعليقات المعلقين إلا بلغز أشد استغلاقًا من لغز الزيارة نفسها. قبل ظهر الأربعاء في الثامن من شهر كانون الثاني استقبل (البابا بولص السادس) نحو ثلاثة آلاف من الزوار إلى روما وخطب فيهم خطبة كانت الخطبة الأولى له بعد رجوعه من فلسطين. في هذه الخطبة نوه البابا بمكانة روما في الرسالة الروحية للكنيسة. وصفت جريدة " إل تمبو " (¬2) هذه الخطبة بأنها أهم الخطب التي ألقاها (البابا بولص السادس) إلى الآن. وقد أكد البابا في هذه الخطبة رسالة الكنيسة لنشر البشارة الطيبة (النصرانية) في العالم كله. ثم تتكلم الجريدة المذكورة، وهي تعلق على خطاب البابا، على عظمة رومية فتقول: «إِنَّ الطُّرُقَ التِي كَانَ بِإِمْكَانِ العِنَايَةِ الإِلَهِيَّةِ أَنْ تَخُطَّهَا لِتَنْصِيرِ العَالَمِ لاَ تُحْصَى. وَلَكِنَّ الحَقِيقَةَ الوَاقِعَةَ أَنَّ اللهَ قَدْ اِخْتَارَ رُومَا لِهَذِهِ المُهِمَّةِ، لاَ فِي المَاضِي فَحَسْبَ حِينَمَا اِنْقَرَضَتْ الإِمْبْرَاطُورِيَّةُ وَتَرَكَتْ تِلْكَ المُؤَسَّسَةَ الوَاسِعَةُ الخَطِيرَةَ إرثًا لِرُومَا بَلْ اليَوْمَ أَيْضًا ...». وفي الشواهد التي اختارتها الجريدة من خطبة البابا فقرات لا تبعد عن ذلك كثيرًا. وقد أحببت (*) أن أحصل على نص الخطاب كاملاً فكتبت إلى الملحق الصحافي في سفارة الفاتيكان في بيروت في هذا الشأن. وقد تلطف الملحق الصحافي فاتصل بي بالهاتف ثم أرسل إِلَيَّ بضعة أعداد من العدد الأسبوعي لجريدة " الرقيب الروماني " (¬3) فيها أشياء كثيرة عن رحلة البابا ومن خطبه، ولكن لم يكن في تلك الأعداد ذلك الخطاب الذي ¬

_ (¬1) Tempo (settimanale), XXVI, N. 3, Milano 18 - 1 - 64, pag. 6 - 26 (¬2) Il Tempo (Roma) , Anno XXI, N. 8, 9 - 1 - 1964, pag. 2 (*) الكلام لأحدنا: الدكتور عمر فروخ. (¬3) Osservatori Romano (édition hébdomadaire française

الملحق الثالث: من الحملات على الثقافة العربية

أحببت أن أراه كاملاً. من أجل ذلك اكتفيت مكرهًا بالإشارة إلى ما نشرته جريدة " أل تمبو ". المُلْحَقُ الثَّالِثُ: مِنَ الحَمَلاَتِ عَلَى الثَّقَافَةِ العَرَبِيَّةِ: (¬1) في مطلع عام 1962 نشرت المطبعة التابعة لجامعة كاليفورنيا (الولايات المتحدة) كتابًا عنوانه: " الإسلام الحديث " (المعاصر) يبحث عن شخصية ثقافية (¬2) للدكتور (غوستاف فون غرونيباوم). إن عنوان الكتاب يدل على المقصد من وضعه: معنى العنوان أن الإسلام في العصر الحاضر حائر يبحث عن ثقافة يرى فيها صورة نفسه. والكتاب في معظمه تشكيك في قيمة الأدب العربي وفي قيمة الإسلام. على أن وضع هذا الملحق الثالث راجع إلى أمور منها أن الدكتور (غرونيباوم) يحمل على أحدنا (¬3) حملة ظاهرها غير باطنها. هذه الحملة يمكن تفنيدها وإظهار التحامل واضحًا فيها إذا اعتبرنا الأمور التالية: أ - الدكتور (غرونيباوم) يهودي تخرج، فيما أذكر، في فْيِينَّا قبل أن أتخرج أنا في ألمانيا بعام أو عامين. ولما نشرتُ أطروحتي: " صورة الإسلام كما تبدو في الشعر العربي من الهجرة إلى وفاة عمر بن الخطاب " (¬4) أذكر أنه نشر عنها كلمة طيبة. ونحن لم نلتق إلى الآن قط، وإن كنت أنا أعرف كتبه، وهو فيما يبدو يعرف عددًا من كتبي. وليس من الغريب أن يكون اتجاهي في عدد من كتبي مخالف لاتجاهه في عدد من كتبه. ب - ينتقد الدكتور (غرونيباوم) عددًا من الأقوال التي وردت في كتابي " عبقرية العرب " انتقادًا يظهر فيه التحامل وصرف الجمل عن معانيها وتشويه تلك الجمل. ولا ريب في أن الدكتور (غرونيباوم) لا يرمي إلى انتقادي شخصيًا بقدر ما يريد أن يحط من شأن النتاج العربي الإسلامي في الثقافة، كما هو ظاهر في موقفه من الجمل التي ينتزعها من كتابي ومن الجمل التي ينتزعها من أقوال غيري. ثم إن اتجاهه في كتابه دَالٌّ على ذلك. ¬

_ (¬1) راجع الفصل العاشر. (¬2) راجع اسم الكتاب كاملاً واسم المؤلف على الصفحة 243. (¬3) الدكتور عمر فروخ. (¬4) Das Bild des Fruehislam .... Leipzig 1937

ج - يورد الدكتور (غرونيباوم) (ص 150) جملة يجمع محتواها من كتاب لمالك بنبي (بن نبي) وكتاب لطه حسين وكتاب لي، فِيمَا يَدَّعِي. الجملة غامضة جِدًّا. على أن المكان الذي يشير إليه (غرونيباوم) من كتابي " عبقرية العرب " فيه أن العرب كانوا متسامحين ومتواضعين في بذل العلم لجميع الناس على السواء؛ أما (غرونيباوم) فيذكر أن المؤلف قال ذلك بنفخة من الغرور والاستكبار، ولا أعلم أي المؤلفين الثلاثة عَنِيَ. أما أنا فإن كتابي " عبقرية العرب " قد بنيته على فكرة أثبتها في المقدمة من الطبعة العربية الثانية (ص 6 - 7)، وهي أن العرب يجب أن ينظروا من غير أن يلهيهم التحدث بمجد أسلافهم عن الانتاج المنتظر منهم. ثم إنني استشهدت في هذه المناسبة نفسها ببيت الشاعر: أَلْهَى بَنِي تَغْلِبٍ عَنْ كُلِّ مَكْرُمَةٍ • ... • ... • قَصِيدَةٌ قَالَهَا عَمْرُو بْنُ كُلْثُومِ! كأني أقرع الذين يفعلون ذلك من العرب. د - على أن الذي كان يجب على الدكتور (غرونيباوم) أن يخجل منه ولا يغرر فيه بقرائه الشاهد التالي: في كتابي " عبقرية العرب " مقطع عن الدور الذي قام به العرب بنقل الفلسفة من العالم اليوناني القديم إلى العالم الأوروبي في العصور الوسطى. في هذا الشاهد: «وَلَوْلاَ ذَلِكَ ... لَمَا أَمْكَنَ الغَرْبَ اللاَّتِينِيَّ الكَاثُولِيكِيَّ أَنْ يَتَّصِلَ بِالغَرْبِ اليُونَانِيِّ الأُرْثُوذُكْسِيِّ». تناول (غرونيباوم) هذه الجملة على الصفحة 163 ثم على الصفحة 164 وفي حاشية طويلة على الصفحة 164 نفسها وَكَذَبَ عَلَيَّ كَذِبًا وَافْتَرَى عَلَيَّ اِفْتِرَاءً أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمَا. إن حملته عَلَيَّ شخصيًا في هذا الشأن، صح أو لم يصح، لا مبرر لها. قال: «إِنَّ الإِعْجَابَ بِالنَّفْسِ لاَ يَعْرِفُ حَدًّا. إِنَّ السُّنِّيَّ اللُّبْنَانِيَّ عُمَرُ فَرُّوخْ (المَوْلُودُ عَامَ 1906) يُؤَكِّدُ لِقُرَّائِهِ الذِينَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ أَفَكَارِهِ قَدْ وَصَلَتْ إِلَيهِمْ، وَبِمِثْلِ هَذَا الشَّكْلِ المُدَوِّي، ... أَنَّ العَرَبَ بَعْدَ أَنْ رَفَعُوا عَنْ أَعَنَاقِ البَشَرِ نِيرَ المَذَاهِبِ القَدِيمَةِ ... أَخْرَجُوا النَّاسَ مِنْ ظُلَمَاتِ الجَهْلَ. وَهُوَ لاَ يَدَّعِي فَقَطْ أَنَّهُ لَوْلاَ النُّقُولِ العَرَبِيَّةِ لِكُتُبِ المُفَكِّرِينَ اليُونَانِيِّينَ لَمَا اِسْتَطَاعَ الغَرْبُ أَنْ يَعْرِفَ النِّتَاجَ الهِلِينِيَّ (الثَّقَافَةَ اليُونَانِيَّةَ)، وَلَكِنْ (يَزِيدُ أَنَّهُ) لَوْلاَ العَرَبُ لَكَانَ مِنَ المُسْتَحِيلِ تَمَامًا عَلَى الغَرْبِ اللاَّتِينِيَّ الكَاثُولِيكِيَّ أَنْ يَتَّصِلَ بِالشَّرْقِ اليُونَانِيِّ الأُرْثُوذُكْسِيِّ».

إن هذا الكلام، على الرغم من أنه صحيح ولا ادعاء فيه أو تبجح، ليس قولي أنا، وإنما أنا استشهدت به من كتاب للدكتور (جورج سارطون)، شيخ مؤرخي العلم في العصر الحديث. والإشارة إلى كتاب (سارطون) ظاهرة في حاشية كتابي مع أرقام الصفحات. وأنا أعتقد في الدرجة الأولى أن (جورج سارطون) الكاثوليكي أدرى بحقيقة الصلات بين العالم الكاثوليكي والعالم الأرثوذكسي من (غرونيباوم) اليهودي. ثم إن الدكتور (غرونيباوم) لو كان يريد العلم والحقيقة في انتقاده لما وجه كلماته النابية إِلَيَّ وإلى الثقافة العربية الإسلامية، بل لناقش الدكتور (سارطون) مناقشة علمية غايتها تبيان وجه الحق في هذه القضية. ولكن القضية ليست قضية علم أو حق، إنها تحامل واستعمار. إن الدكتور (غرونيباوم) قد سلك المسلك الذي أملاه عليه إيمانه وبيئته، وسأسلك أنا المسلك الذي يمليه عَلَيَّ إيماني وتمليه بيئتي. ثم إن في فضائل الإسلام والعرب ما يغنيني ويغني كل مسلم وكل عربي عن أن يكذب على التاريخ وعلى الحقيقة وعلى الحق. وكنت أود أن لو فعل الدكتور (غرونيباوم) مثل فعلي. بيروت، الاثنين في 27 رمضان المبارك 1383 هـ - 10/ 2 / 1964 م.

الفصل الثاني عشر: نتائج التبشير- الحوار - التبشير وإسرائيل

الفَصْلُ الثَّانِي عَشَرَ: نَتَائِجُ التَّبْشِيرِ - الحِوَارُ - التَّبْشِيرُ وَإِسْرَائِيلُ: لا ريب في أن وسائل التبشير والاستعمار قد تطورت بتطور العلم تطورًا كبيرًا وتعددت الأبواب التي يدخل منها التبشير والاستعمار إلى حياة الشعوب. وكذلك تعددت أوجه التبشير والاستعمار فأصبح من العسير أن نحيط وصفًا بما جَدَّ منها منذ الطبعة الثالثة (1964 م). من أجل ذلك سنقصر الكلام على ثلاثة موضوعات: نتائج التبشير ثم الحوار ثم التبشير وإسرائيل. 1 - نَتَائِجُ التَّبْشِيرِ: لا شك في أن المبشرين قد أخفقوا في البلاد الإسلامية في هدفهم الذي كانوا قد أعلنوه منذ مطلع العصور الحديثة: نقل الناس إلى النصرانية اعتقادًا وعملاً. لقد انتقل أفراد قليلون وجماعات قلائل إلى النصرانية في عدد من البيئات التي يسودها الجهل والفقر وتسيطر فيها الدول الأجنبية المستعمرة، وخصوصًا في الشرق الأقصى وفي أواسط أفريقيا وغربيها. غير أن هؤلاء المرتدين كانت الكثرة الغالبة منهم من غير المسلمين. هؤلاء الذين دخلوا النصرانية حُبًّا بالدنيا، لأن الدول المستعمرة لم تحمل هؤلاء على النصرانية حتى تمتعهم بما يتمتع به النصراني الأوروبي والنصراني الأمريكي الأبيضان. من أجل ذلك جعلت لهم كنائس بدائية خاصة بهم ومدارس فطرية خاصة بهم وحرمت عليهم كل نشاط يريده البيض لأنفسهم ثم انتظرت منهم أن يكونوا دائمًا في خدمتها ضد قومهم وأبناء جلدتهم. ومن حسن الحظ أن هؤلاء المرتدين قد عملوا بما أراده المستعمر منهم وكانوا عيونًا له وأيديًا في وطنهم. ومن الأمثلة على ذلك دويلة بيافرا التي أنشأها الاستعمار في الإقليم الشرقي من نيجيريا، فإنها بدأت تكيد لنيجيريا وتفتح عليها أبوابًا من الشر. وقد كان

أهل بيافرا في الأصل من قبائل الإيبو الوثنية ثم أدخل جماعات منهم في النصرانية. ولما زال الاستعمار عن نيجيريا - ظاهريًا على الأقل - أقام الاستعمار لهؤلاء المرتدين دويلة. ومع أن الحاكمين في نيجيريا الأم كانوا أكثرهم من النصارى، فإنهم لم يَرْضَوْا عن بيافرا ولا عن أعمال أهل بيافرا فبدأوا بالقضاء عليها. ولكن الاستعمار في جميع صوره الظاهرة والمتسترة ساعد أهل بيافرا بالمال والسلاح والنفوذ. وأخيرًا قُضِيَ على دويلة بيافرا فزالت. وهذه المحاولة التي قام بها الاستعمار في بيافرا من نيجيريا قام بها أيضًا في جنوب السودان، وفي أماكن أخرى. غير أن الدول المستعمرة لم تتوقف عن بذل الجهود الهدامة في نيجيريا بوساطة المبشرين. إن الحكومة النيجيرية الاتحادية قد أنكرت التهمة القائلة بأن سياسة إبادة جماعية تجري مجراها في الإقليم الذي كانت فيه دويلة بيافرا. ولكن حكومة نيجيريا الاتحادية قد أصدرت بيانًا أعلنت فيه أنه سيتم في أقرب فرصة ترحيل القساوسة والراهبات الكاثوليك الأجانب الذين أدينوا أخيرًا بتهمة دخول البلاد بطريق غير قانوني ثم اشتركوا في التآمر الاستعماري ضد وحدة نيجيريا. وقد تم بالفعل نقل عدد كبير من هؤلاء القساوسة والراهبات الأجانب إلى لاغوس تمهيدًا لترحيلهم إلى بلادهم الأصلية (¬1). ولقد كان من المنتظر أن يتراجع المد التبشيري بعد زوال الاستعمار عن الأقطار التي قام فيها المبشرون بنشاطهم، وإن كان زوال هذا الاستعمار رمزيًا فقط. وقد رأى أحد المبشرين هذه الحقيقة وكتب فيها كُتَيِّبًا يبسطها فيه. في عام 1964 أصدر المحترم (القس بيرس بيفر) كتابًا صغير الحجم اسمه " من الإرساليات (المتعددة) إلى الإرساليات (الموحدة) " (¬2) أي: وجوب قيام اتجاه واحد في التبشير بدلاً من الاتجاهات الكثيرة المختلفة المتعادية والموجودة حاليًا. في هذا الكتاب الصغير الحجم أشياء كثيرة هي التي قلنا بها نحن قبل عشرين عامًا. هذه الأشياء يشعر بها الآن الذين دخلوا في النصرانية على يد المبشرين ويشعر بها المبشرون أنفسهم. ¬

_ (¬1) راجع جريدة " الشعب " (بيروت) في 5/ 2 / 70 والجرائد الأخرى. (¬2) From Missions to Mission, by R. Pierce Bearver (Reflection Collection) , copyright 1964 by National Board of Young Men's Christian Association, New York

ثم يشعر المبشرون أيضًا أن التبشير كله في أزمة. قال مؤلف هذا الكتاب: - «فِي القَرْنِ التَّاسِعِ عَشَرَ وَأَوَائِلِ القَرْنِ العِشْرِينَ كَانَتْ الحَضَارَةُ الأُورُوبِيَّةُ وَالسَّيْطَرَةُ السِّيَاسِيَّةُ وَالقُوَّةُ العَسْكَرِيَّةُ تَجْتَاحُ العَالَمَ؛ وَكَانَتْ النَّصْرَانِيَّةُ تَتَسَنَّمُ غَارِبَ هَذَا المَدِّ مِنَ الجَاهِ الأُورُوبِيِّ الأَمِرِيكِيِّ وَتَسِيرُ عَلَى سَطْحِهِ هَوْنًا فَلاَ تَلْتَقِي فِي آسْيَا وَأَفْرِيقْيَا إِلاَّ بِنُظُمٍ اِجْتِمَاعِيَّةٍ مُتَصَدِّعَةٍ وَثَقَافَاتٍ مُتَفَسِّخَةٍ» (ص 11 - 12). - «وَأَصْبَحَتْ الطَّرِيقُ مُمَهَّدَةً أَمَامَ المُبَشِّرِينَ، فَانْتَشَرَتْ النَّصْرَانِيَّةُ مَعَ اِتِّسَاعِ السَّيْطَرَةِ الأُورُوبِيَّةِ (فِي العَالَمِ). وَلَقَدْ قَامَ الاِسْتِعْمَارُ وَالسَّيْطَرَةُ العَسْكَرِيَّةُ بِدَوْرِهِمَا فِي نَشْرِ النَّصْرَانِيَّةِ» (ص 13). - «أَمَّا الآنَ فَقَدْ تَبَدَّلَتْ الحَالُ، إِنَّ الحَرْبَيْنِ العَالَمِيَّتَيْنِ قَدْ حَطَّمَتَا الجَاهَ الأُورُوبِّيَّ فِي عُيُونِ الآسْيَوِيِّينَ وَالأَفْرِيقِيِّينَ، فَإِذَا هَؤُلاَءِ لاَ يَتَقَبَّلُونَ النَّصْرَانِيَّةَ (اليَوْمَ) عَلَى أَنَّهَا جَانِبٌ مِنْ حَضَارَةِ رَاقِيَةٍ مُتَفَوِّقَةٍ كَمَا كَانَ الشَّأْنُ بِالأَمْسِ» (ص 14). - «لَقَدْ أَصْبَحَ يُقَالُ عَنْ المُبَشِّرِينَ إِنَّهُمْ عُمَلاَءُ لِلاِسْتِعْمَارِ، وَلاَ يَزَالُونَ يُتَّهَمُونَ بِأَنَّهُمْ أَدَوَاتٌ لِتَغَلْغُلِ النُّفُوذِ الأَجْنَبِيِّ وَلِلْتَخْرِيبِ» (ص 14). - «ثَمَّ تَبَنَّتْ حُكُومَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي آسْيَا وَأَفْرِيقْيَا كَالْهِنْدِ، وَبُورْمَا وَأْنْدُونِيسْيَا وَالسُّودَانَ، هَذِهِ النَّظْرَةَ فَأَخَذَتْ تَضَعُ العَرَاقِيلَ فِي وَجْهِ التَّبْشِيرِ. وَتَبْدُو هَذِهِ العَرَاقِيلُ وَاضِحَةً جِدًّا فِي رَفْضِ تِلْكَ الحُكُومَاتِ مَنْحَ المُبَشِّرِينَ سِمَاتَ الدُّخُولِ إِلَى بِلادِهَا» (ص 15). - «وَالذِينَ كَانُوا قَدْ اِعْتَنَقُوا النَّصْرَانِيَّةَ عَلَى يَدِ المُبَشِّرِينَ لاَ يَقْبِلُونَ اليَوْمَ أَنْ يُقَالَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ إِنَّهَا دِينُ إِنْسَانِيٌّ (عَامٌّ)، وَهُمْ يَصِفُونَهُ بِأَنَّهَا دِينُ عَصَبِيٌّ خَاصٌّ بِالرَّجُلِ الأَبْيَضِ الذِي يَعْزِلُ الشُّعُوبَ المُلَوَّنَةَ عَنْهُ حَتَّى فِي (الكَنِيسَةَ). وَيُقَالُ اليَوْمُ: إِنَّ اِعْتِناقَ (الرَّجُلَ المُلَوَّنَ) لدِينِ الرَّجُلِ الأَبْيَضِ يَجْعَلُ مِنْهُ خَائِنًا لأَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَلأُمَّتِهِ» (ص 16). - «إِنَّ البِلادَ التِي نَشَأَتْ فِيهَا الكَنَائِسُ الجَديدَةُ (اِنْتَشَرَتْ فِيهَا النَّصْرَانِيَّةُ عَلَى يَدِ المُبَشِّرِينَ) ... هِي اليَوْمَ بِلاَدُ ثَوْرَةٍ. هَذِهِ البِلادُ تَسُدُّ اليَوْمَ الطَّرِيقَ عَلَى التَّبْشِيرِ سَدًّا مُحْكَمًا. وَنَصَارَى هَذِهِ البِلاَدِ عَلَى وَشَكِ أَنْ يَخْلَعُوا العَقِيدَةَ النَّصْرَانِيَّةَ لأَنَّهَا فِي نَظَرِهِمْ جُزْءٌ أَصِيلٌ فِي السَّيْطَرَةِ الغَرْبِيَّةِ وَفِي الاِسْتِعْمَارِ» (ص 40).

- «وَكَانَ أَحَدُّ خَبَرَاءِ وِزَارَةِ الخَارِجِيَّةِ (الأَمِرِيكِيَّةِ) فِي الشُّؤُونِ الأَفْرِيقِيَّةِ يَخْطُبُ فِي اِجْتِمَاعٍ لِلْمُؤَرِّخِينَ الكَاثُولِيكْ كَانُوا يَتَحَاوَرُونَ فِي النِّزَاعِ بَيْنَ النَّصْرَانِيَّةِ وَالإِسْلاَمِ فَقَالَ لَهُمْ: مِمَّا لاَ جَدْوَى فِيهِ لِلأَمِرِيكِيِّينَ وَلِلأُورُوبِّيِّينَ أَنْ يَظَلُّوا إِلَى اليَوْمِ يَتَكَلَّمُونَ وَكَأَنَّ فِي اِسْتِطاعَتِهِمْ أَنْ يُقَرِّرُوا مَصِيرَ أَفْرِيقْيَا. إِنَّ أَبِنَاءَ أَفْرِيقْيَا هُمْ الذِينَ سيقررون دَيِّنَ أَفْرِيقْيَا (¬1) المُقْبِّلَ: أَهُوَ النَّصْرَانِيَّةُ أَوْ الإِسْلاَمُ أَوْ الوَثَنِيَّةُ القَبَلِيَّةُ ". وَعَلَى كُلَّ حالَ، فَإِنَّ الدَّيِّنَ الَّذِي سَيَسُودُ فِي أَفْرِيقْيَا لَنْ يَكُونَ أُورُوبِيًّا» (ص 43). - «وَيَأْسَفُ المُؤَلِّفُ لأَنَّ الكَاثُولِيكَ وَالبْرُوتِسْتَانْتْ، فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ لاَ يَبْدُونَ كَأَنَّهُمْ أْبْنَاءُ دِينٍ وَاحِدٍ» (ص 66). هذه المختارات تمثل الكتاب الذي أخذت منه، ثم هي تنكشف عن حقيقة واقعة وَمُرَّةٍ أَيْضًا - لنا ولأصحابها - حقيقة لا سبيل إلى إنكارها ولا إلى إنكار نتائجها، وهي أن التبشير قد جاء إلى البلاد التي تنجح فيها كثيرًا أو قليلاً بالاستعمار وبالسيطرة الغربية وبالتحريش بين أبناء الوطن الواحد من غير أن يأتي بشيء من القيم الروحية. ولا شك في أن التمييز العنصري الذي تمارسه الحكومات البيضاء في أفريقيا خاصة دليل واضح جدًا على أن التبشير قد سلب طوائف الناس اسمي ما تأتي به الأديان كلها: قد سلبها المساواة والتسامح. والمبشرون لم يقوموا بهذه الجهود في البلاد ذوات الاستقلال القاصر، كدويلة بيافرا المنقرضة، بل في البلاد ذات الاستقلال الصحيح مثل الجزائر، إن عمل المبشرين في الحقيقة ليس متصلاً بالإحسان والدعوة الصالحة، بل متصل بالاستعمار والتجسس. نشرت الصحف الخبر التالي (¬2): «أُعْلِنُ فِي الجَزَائِرِ أَمْسِ أَنَّ خَمْسَ عَشَرَةَ أَجْنَبِيًّا طُرِدُوا مِنَ البِلاَدِ لِنَشْرِهِمْ دِعَايَةً ¬

_ (¬1) يقصد المؤلف أبناء المناطق الوسطى الغربية من قارة أفريقيا ممن استمالهم المبشرون إلى عدد من فرق النصرانية. (¬2) راجع جريدة " الأنوار " (بيروت) 28/ 12 / 1969، وجريدة " النهار " (بيروت) في التاريخ نفسه، ص 9.

2 - الحوار وغايته الحقيقية

صُهْيُونِيَّةً مُتَّخِذِينَ مِنْ " مَذْهَبَ شُهُودِ يَهْوَهْ " (¬1) سِتَارًا لَهُمْ. وَأَثْبَتَتْ مُسْتَنَدَاتٌ ضُبِطَتْ أَنَّ هَؤُلاَءِ الأَجَانِبُ كَانُوا يُحَاوِلُونَ إِنْشَاءَ مُنَظَّمَةٍ تَخْرِيبِيَّةٍ تَهْدِفُ إِلَى نَشْرِ نُفُوذِ الدَّوَائِرِ الصُّهْيُونِيَّةِ الأَجْنَبِيَّةِ فِي الجَزَائِرِ». وقالت جريدة " المجاهد " الجزائرية: «إِنَّ رَئِيسَ الجَمَاعَةِ كَانَ مُحَارِبًا قَدِيمًا فِي الحَمْلَةِ العَسْكَرِيَّةِ الاِسْتِعْمَارِيَّةِ عَلَى الجَزَائِرِ». و (كذلك) نشرت صورًا لستة من أعضاء الجماعة ولكنهأ أوردت اسمًا واحدًا هو مَدُمْوَزِيلْ (لينز). وقالت إن الفتاة تلقت وثيقة تطلب منها توخي ما أمكن من الحكمة مع موظفي وزارة الدفاع الوطني. وأعلنت الصحيفة أن رسائل أخرى أرسلت من أوروبا إلى فرع الشبكة في مدينة الجزائر تطلب وجوب نقل المسؤولين إلى أماكن أعدت لهم سلفًا، وعليهم أن يقابلوا الناس في سلام وهدوء. 2 - الحِوَارُ وَغَايَتُهُ الحَقِيقِيَّةُ: سيصعب على المبشرين أن يتصلوا بالناس، وخصوصًا بالمثقفين وذوي المكانة الاجتماعية، فلجأوا إلى وسيلة جديدة سموها «الحِوَارَ» تقوم على جمع نفر من المثقفين ذوي الكلمة المسموعة في قومهم على مناقشات علنية لاَ تَمِتُّ بظاهرها إلى التبشير، وإن كانت غايتها الحقيقية زعزعة العقائد بجر الناس إلى القول والرد ثم النفوذ من خلال الأخطاء والجمل المتشابهة إلى التأثير على ذوي النفوس الضعيفة. في عام 1962 دعا البابا (يوحنا الثالث والعشرون) إلى عقد المجمع المسكوني الثاني في رومية للبحث في جميع الشؤون - مما يتصل بموضوع هذا الكتاب -: إعداد المبشرين (من رجال الدين ومن غير رجال الدين) - إثارة حوار بين المسحيين وبين غير المسيحيين - إبداء رأي الكنيسة في اليهود عامة وإسرائيل خاصة. أما إعداد المبشرين من رجال الدين ومن غير رجال الدين فأمر أشرنا إليه في هذا الكتاب مِرَارًا: إن المبشرين يجيئون إلينا في ثياب مختلفة: في ثياب رجال الدين ¬

_ (¬1) " شُهُودِ يَهْوَهْ " بدعة (فرقة) نصرانية أسست في الولايات المتحدة عام 1872 م تفسر " التوراة " و" الإنجيل " تفسيرًا خاصًا بها. وميولها يهودية. وهي تقوم بالتبشير الديني والسياسي مَعًا، وتعمل على بعث السيطرة اليهودية في الاجتماع والسياسة.

وفي ثياب الأطباء وثياب المدرسين وثياب العلماء وثياب المكتشفين وفي ثياب الموظفين. والحوار بين المبشرين وبين أتباع الأديان غير المسيحيين أمر قديم، فإن عددًا كبيرًا من المؤسسات الغربية كالمدارس والنوادي وجمعيات الشبان والشابات وسائل الحوار مستتر كثيرًا أو قليلاً - وغاية هذا الحوار زعزعة العقائد على ألسنة أشخاص معروفين في قومهم. والحوار كالمعاهدات يظفر بالغنائم فيها من كان أقوى يَدًا وأرفع صوتًا. ومما يؤسف له أن نفرًا قد حملهم تيار هذا الحوار إلى حيث لا يريدون. وعلى كل فإن النتائج العملية لذلك الحوار لم تكن بعيدة الأثر في تحقيق الهدف الذي نُصِبَ لَهَا، ذلك لأن المخلصين أدركوا أن هذا الحوار هو وسيلة جديدة من وسائل التبشير الديني والسياسي مَعًا. ثم إن كثيرين من المخلصين كانوا يتتبعون الحركات العامة في العالم فعلموا بأهداف هذا الحوار. أما الذين ليس لهم تتبع لما يجري في العالم فقد ظنوا أن هذا الحوار فرصة لتبيين آرائهم، وكانوا في ذلك مخطئين. في المجموعة التي أصدرها المجمع المسكوني الثاني (¬1) تعريف وتفصيل لهذا الحوار. قالوا فيها في الحوار (2/ 126): «يَجِبُ إِعْدَادُ رِجَالِ دِينٍ عِنْدَهُمْ اِسْتِعْدَادٌ لِلْحِوَارِ ... رِجَالُ دِينٍ يَعْرِفُونَ كَيْفَ يُصْغُونَ إِلَى الآخَرِينَ وَكَيْفَ يَفْتَحُونَ قَلُوبَهُمْ لِجَمِيعِ حَاجَاتِ (النَّفْسِ الإِنْسَانِيَّةِ)؛ رِجَالُ دِينٍ فِي طَبِيعَتِهِمْ أَنْ يُوقَظُوا الاِهْتِمَامَ فِي النُّفُوسِ وَأَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِلإِيمَانِ (المَسِيحِيِّ) ... رِجَالُ دِينٍ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُتِيحُوا الفُرَصَ لِلْعَمَلِ الإِرْسَالِيِّ الرَّسُولِيِّ (التَّبْشِيرِيِّ) وَأَنْ يَبْعَثُوا فِيهِ الحَيَاةَ بَيْنَ غَيْرِ رِجَالِ الدِّينِ بِرُوحٍ كَاثُولِيكِيَّةِ فِعْلاً وَمِنْ وِجْهَاتِ النَّظَرِ العَالَمِيَّةِ». ويقولون أيضًا (2/ 178، 179): «وَفَوْقَ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُعَدُّوا (أَيْ القَائِمُونَ بِالحِوَارِ مَعَ غَيْرَ النَّصَارَى) بِطَرِيقَةٍ مُوَافِقَةٍ لِتَفْهِيمِ الوَسَائِلِ الفَنِّيَّةِ وَالتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا حَتَّى يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَتَسَلَّلُوا بِنَشَاطٍ فِي الجَمَاعَاتِ التِي تَتَأَلَّفُ مِنْهَا الجَمَاعَةُ الإِنْسَانِيَّةُ، وَأَنْ يَبْدَأُوا الحِوَارَ مَعَ الآخَرِينَ ... ثَمَّ إِنَّ الكَنِيسَةَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ بِهَذَا الحِوَارِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَهْجُرَ طَبِيعَتَهَا الخَاصَّةَ بِالوَحْيِ الذِي لَهَا ... وَهِي التِي بُعِثَتْ (مُبَشِّرَةً) إِلَى جَمِيعَ النَّاسِ». (2/ 201). ¬

_ (¬1) Concile œcuménique Vatican II , Documents conciliaires (éd. du Centurion, Paris 1966

3 - التبشير والاستعمار في فلسطين

«إِنَّ عَلَى (كُلِّ) كَاثُولِيكِيٍّ أَنْ يَكُونَ فِي مَسْلَكِهِ فِي الحَيَاةِ شَاهِدًا عَلَى إِيمَانِهِ (عَامِلاً بِهِ) وَأَنْ يُحَاوِلَ التَّعَاوُنَ وَإِثَارَةِ الحِوَارِ بِحِكْمَةٍ مَعَ أُولَئِكَ الذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَى الأَدْيَانِ الأُخْرَى» (2/ 203). أما فيما يتعلق بالمسلمين خاصة فهم يقولون (2/ 204، 205): «بَيْنَ (المُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى) رَوَابِطُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَمِنَ المَسِيحِ الذِي يَعُدُّونَهُ نَبِيًّا وَمِنْ أُمِّهِ مَرْيَمَ. فَالمَجْمَعُ المَسْكُونِيُّ يَحُضُّ الكَاثُولِيكَ عَلَى أَنْ يُحَاوِلُوا نِسْيَانَ العَدَاوَةِ التِي كَانَتْ بَيْنَ الدِّينَيْنِ وَبَيْنَ الثَّقَافَتَيْنِ وَأَنْ يَعُوا وَاجِبَهُمْ العَامَّ - فِي احْتِرَامٍ مُتَبَادَلٍ - فِي سَبِيلِ خَيْرِ الإِنْسَانِيَّةِ». وفي " موجز نصوص المجمع المسكوني " (¬1) يقولون في هذا الحوار: «وَالكَاثُولِيكُ يَأْخُذُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَتَعَاوَنُوا مَعَ جَمِيعِ النَّاسِ ... وَيُحَاوِرُوهُمْ - مُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِمْ بِذَكَاءٍ وَلُطْفٍ - فِي كَيْفِيَّةِ تَحْسِينِ حَالِ المُؤَسَّسَاتِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ وَالعَامَّةِ بِمَا يَتَّفِقُ وَرُوحَ " الإِنْجِيلِ "» (ص 323). وفيه: «أَمَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْشِيرِ لِلْتَّنْصِيرِ وَبِتَكْرِيسِ المَدَنِيِّينَ (تَعْيِينُ نَفَرٍ مِنْ غَيْرِ رِجَالِ الدِّينِ لِلْقِيَامِ بِالتَّبْشِيرِ) فَيَجِبُ إِعْدَادُ غَيْرَ رِجَالِ الدِّينِ إِعْدَادًا خَاصًّا لِلْقِيَامِ بِالحِوَارِ مَعَ الآخَرِينَ، مِنَ المُؤْمِنِينَ (الكَاثُولِيكَ) وَمِنْ غَيْرِ المُؤْمِنِينَ حَتَّى يُبَيِّنُوا لِلْجَمِيعِ رِسَالَةَ المَسِيحِ». 3 - التَّبْشِيرُ وَالاِسْتِعْمَارُ فِي فَلَسْطِينَ: سبق في هذا الكتاب حديث على التعاون بين التبشير والاستعمار وبين الصهيونية لانتزاع فلسطين من العرب ومن الإسلام. وكان هذا الحديث مبنيًا على التخمين: من قراءة في الصحف الأجنبية ومن قرائن وملابسات مختلفة. أما الآن فقد انكشف الدور الذي قام به التبشير والاستعمار في التآمر على فلسطين. هذا الفصل - كجميع الفصول السابقة - مبني على مصادر منشورة مطبوعة وموجودة في المكتبات والمكاتب. وأقوال هذه الكتب التي سنعتمد عليها في هذا الفصل ناطقة بنفسها لا تحتاج إلى تفسير ولا تحتاج إلى تعليق. من أجل ذلك سنأخذ الفقرات منها ونثبتها في أماكنها، ولن يكون لنا من الكلام إلا كلمات نصل بها بين تلك ¬

_ (¬1) Synopse des textes conciliaires, par J. Deretz et A. Nocent. éditions universitaires , Paris 1966

الفقرات للمحافظة على سلامة الإنشاء. إن المؤامرة على فلسطين استغرقت قرنًا ونصف قرن: مائة وخمسين سنة كاملة من عام 1818 إلى عام 1967 للميلاد. يبدو أن التبشير في الهند (¬1) حتى الربع الأول من القرن التاسع عشر، لم يأت بالنتيجة التي كان المبشرون - والدول الغربية: ومنها بريطانيا والولايات المتحدة خاصة - يتوخونها. من أجل ذلك عزم " المجلس المفوض بأمر جمعيات التبشير في الخارج " على تحويل الجانب الأكبر من نشاطه إلى الشرق الأوسط، وإلى فلسطين خاصة، ثم إلى القدس على الأخص. - «فَفِي خَرِيفَ عَامِ 1818 تَأَسَّسَتْ فِي الوِلاَيَاتِ المُتَّحِدَةِ جَمْعِيَّةٌ تَبْشِيرِيَّةٌ لِلْعَمَلِ فِي فِلَسْطِينِ تَسْتَنِدُ إِلَى الجُهُودِ الأَمِرِيكِيَّةِ وَالإِحْسَانِ الأَمِرِيكِيِّ» (ص 66). - «وَمِنَ العَوَامِلِ التِي شَجَّعَتْ عَلَى تَأْسِيسِ هَذِهِ الجَمْعِيَّةِ الأَمِرِيكِيَّةِ لِلْتَّبْشِيرِ فِي فِلَسْطِينَ أَنَّ الشَّرْقَ الأَدْنَى لَمْ يَكُنْ جُزْءًا مِنَ الإِمْبْرَاطَورِيَّةِ البَرِيطَانِيَّةِ وَلاَ كَانَ خَاضِعًا لِلْحُكْمِ البَرِيطَانِيَّ أَوْ لِلْنُفُوذِ البَرِيطَانِيَّ. وَلِذَلِكَ تَقَرَّرَ السَّيْرُ فِي هَذَا السَّبِيلِ سَيْرًا مُسْتَقِلاًّ عَنْ الجَمْعِيَّاتِ التَّبْشِيرِيَّةِ البَرِيطَانِيَّةِ. وَلَقَدْ كَانَ فِي المَرْكَزِ الجُغْرَافِيِّ العَسْكَرِيِّ لِلْشَرْقِ الأَدْنَى وَلِمِنْطَقَةِ البَحْرِ المُتَوَسِّطِ عُنْصُرَ إِغْرَاءٍ حَمَلَ الأَمَرِيكِيِّينَ عَلَى إِقَامَةِ جَمْعِيَّةٍ لِلْتَبْشِيرِ هُنَاكَ. إِنَّ البَحْرَ المُتَوَسِّطَ كَانَ الطَّرِيقَ المُؤَدِّيَ إِلَى أَقْسَامٍ وَاسِعَةٍ مِنَ العَالَمِ لَمْ يَكُنْ التَبْشِيرُ قَدْ بَدَأَ فِيهَا بَعْدُ، كَمَا كَانَ بَابًا إِلَى آسْيَا وَأَفْرِيقْيَا مِنْ غَرْبِهِمَا» (ص 67). - «وَكَانَ الهَدَفُ الرَّئِيِسيُّ لِلْتَّبْشِيرِ فِي فِلَسْطِينَ تَبْدِيلَ عَقَائِدِ شُعُوبِ الشَّرْقِ الأَدْنَى وَتَبْدِيلَ أَنْمَاطِ حَيَاتِهِمْ ... وَقَدْ وُضِعَتْ خُطَطٌ مُخْتَلِفَةٌ لِلْوُصُولِ إِلَى نُفُوسِ النَّصَارَى وَنُفُوسِ المُسْلِمِينَ وَنُفُوسِ اليَهُودِ فِي هَذِهِ البُقْعَةِ مِنَ الأَرْضِ ... غَيْرَ أَنَّ الصُّعُوبَةَ الكَبِيرَةَ التِي أَدْرَكَ المُبَشِّرُونَ أَنَّهُمْ سَيُلاَقُونَهَا فِي الشُّرْقِ الأَدْنَى كَانَتْ إِعْجَابَ شُعُوبِ الشُّرْقِ الأَدْنَى بِثَقَافَتِهِمْ» (ص 67). - «ثُمَّ إِنَّ القَاهِرَةَ وَالإِسْكَنْدَرِيَّةَ مَكَانَانِ مُهِمَّانِ، فَإِنَّ المُبَشِّرِينَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا فِي أَيٍّ مِنْهُمَا شَاءُوا بِأَمَانٍ فَيَصْنَعُوا تَرْجَمَةً عَرَبِيَّةً صَحِيحَةً لِلْكِتَابِ المُقَدَّسِ» (ص 71). ¬

_ (¬1) الأرقام التالية في المتن تشير إلى صفحات الكتاب التالي: Nineteenth Century American Schools in the Levant, by Rao H. Lindsay, printed by Malloy Lithoprinting , Inc. , Ann Arbor , Michigan 1965

- «وَكَانَتْ أَرْمِينِيَّةُ مُهِمَّةً كَذَلِكَ. كَانَتْ الكَنِيسَةُ الأَرْمِنِيَّةُ قَدْ أَضَاعَتْ مَجْدَهَا مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ، وَلَكِنْ بِالإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ الكَنِيسَةُ الأَرْمِنِيَّةُ وَسِيلَةً مُهِمَّةً لِتَنْصِيرِ غَرْبِيِّ آسْيَا ... بِالتَّقَدُّمِ مِنْهَا إِلَى إِيرَانَ وَالعِرَاقَ وَسُورِيَّةَ وَفِلَسْطِينَ وآسْيَا الصُّغْرَى. وَهَكَذَا تَسْتَطِيعُ الكَنِيسَةُ المَسِيحِيَّةُ، بِلاَ حَرْبٍ صَلِيبِيَّةٍ، أَنْ تَسْتَرِدَّ تِلْكَ المَنَاطِقَ التِي خَسِرَتْهَا مُنْذُ أَزْمَانٍ طِوَالٍ» (ص 72). - «وَمُنْذُ الزَّمَنَ البَعيدِ (عَامَ 1819) نَشَأَتْ فِكْرَةُ حَلِّ اليَهُودِ مِنْ ذَنْبِ التَّدْبِيرِ لِصَلْبِ المَسِيحِ، تِلْكَ الفِكْرَةُ التِي نَفَّذَتْهَا البَابَوِيَّةُ عَامَ 1965 م بَعْدَ مِائَةٍ وَسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ عَامًا فَقَدْ ذَكَرَ (لِيفَي بَارْسُونِزْ) فِي تَقْريرٍ لَهُ عَنْ الإِرْسَالِيَّةِ فِي فِلَسْطِينَ قَوْلَهُ:" إِنَّ جُمْهُورَ المَسِيحِيِّينَ يَجِبُ أَنْ يَدْعُوَ لِلْيَهُودِ دَعْوَةَ صَالِحَةٍ وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ صلْبَ المَسِيحِ (¬1) كَمَا كَانَ المَسِيحُ قَدْ غَفَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ". إِنَّ عُيُونَ (اليَهُودِ) تَشْخَصُ إِلَى الْقُدُسِ، فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ المَسِيحَ (المَهْدِيَّ) سَيَظْهَرُ فِيهَا ... وَيَقُولُ (بَارْسُونِزْ):" إِنَّنَا إذَا اِسْتَطَعْنَا أَنْ نَحْمِلَ البْرُوتِسْتَانْتْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا فِي القُدْسِ نَوَاةَ مِنَ اليَهُودِ تَتَقَبَّلُ المَسِيحَ فَإِنَّ جَمِيعَ يَهُودَ العَالَمِ سَيَقْتَفُونَ خُطَاهَا حَالاًّ. وَهَكَذَا اِهْتَمَّتْ جَمِيعُ الإِرْسَالِيَّاتِ التَّبْشِيرِيَّةِ بِالخُطْوَةِ التِي خَطَّتْهَا الإِرْسَالِيَّةُ الأَمِرِيكِيَّةُ» (ص 76، 77). - «وَلَمَّا أَرْسَلَ المَجْلِسُ المُفَوَّضُ بِأَمْرِ الإِرْسَالِيَّاتِ التَّبْشِيرِيَّةِ مُبَشِّرِيهِ الأَوَّلِينَ إِلَى الشَّرْقِ الأَدْنَى لَمْ يَكُنْ يَنْتَظِرُ أَنْ تَكُونَ نَتَائِجُ عَمَلِهِمْ بَيْنَ المُسْلِمِينَ سَرِيعَةَ الظُّهُورِ: لَقَدْ أَدْرَكَ المَجْلِسُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ حَمْلُ المُسْلِمِ عَلَى تَبْدِيلِ دِينِهِ، لأَنَّ المُسْلِمِينَ مُقْتَنِعُونَ بِأَنَّ الإِسْلاَمَ أَسْمَى الأَدْيَانِ، ثَمَّ إِنَّ السُّلْطَةَ السِّياسِيَّةَ فِي يَدِ المُسْلِمِينَ. غَيْرَ أَنَّ الأَمَرِيكِيِّينَ كَانُوا يَأْمَلُونَ أَنْ يَتَقَوَّضَ البِنَاءُ السِّيَاسِيُّ لِلْدَّوْلَةِ العُثْمَانِيَّةِ فِي أَثْناءِ ذَلِكَ فَيُقْضَى بِالتَّالِي عَلَى القُوَى الإِسْلاَمِيَّةِ. وَكَذَلِكَ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ يَظُنُّ أَنَّ حَرَكَةَ الوَهَّابِيِّينَ الإِصْلاَحِيَّةِ سَتَهْدِمُ الإِسْلاَمَ السَّلَفِيَّ» (ص 78، 79). ¬

_ (¬1) كان النصارى يحملون عداءً شديدًا لليهود اعتقادًا منهم بأن اليهود هم الذين طلبوا من الحاكم الروماني قتل المسيح، وكانوا يجعلون جميع اليهود في جميع العصور شركاء في هذا الجرم.

وفي عام 1964 ظهر كتاب اسْمُهُ " تَارِيخُ الإِرْسَالِيَّاتِ التَّبْشِيرِيَّةِ " لِمُبَشِّرٍ وَأُسْقُفٍ إِنْكْلِيكَانِيٍّ (بروتستانتي إنجليزي) اسْمُهُ (سْتِيفِنْ نَايْلْ) (¬1). جاء في مطلع الكتاب: «... وُلِدَ يَسُوعْ يَهُودِيًّا، وَلَمْ يَدَّعِ يَوْمًا أَنَّهُ كَانَ شَيْئًا آخَرَ. ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَخُطَّ وَرَاءَ حُدُودِ فِلَسْطِينَ الضَّيِّقَةَ قَطُّ. لَقَدْ كَانَتْ لُغَتُهُ الآرَامِيَّةُ، وَفِي الأَرْجَحِ القَرِيبِ مِنَ التَّأْكِيدِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ " التَّوْرَاةَ " بِاللُّغَةِ العِبْرِيَّةِ ... وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ جَانِبًا كَبِيرًا مِمَّا قَالَ يَسُوعْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْهَمَهُ الرَّجُلُ العَادِيُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا. وَلَقَدْ اِتَّخَذَ (المَسِيحُ) فِي التَّعْبِيرِ (عَنْ آرَائِهِ) اللُّغَةَ المَرْومُوزَةَ (الرَّمْزِيَّةَ) التِي كَانَتْ لِلْشَّعْبِ اليَهُودِيِّ، ذَلِكَ الشَّعْبُ المَظْلُومُ الشَّقِيُّ الذِي تُعَوِّضُ (تَسْلِيَةً) عَنْ مَصَائِبِهِ صُوَرًا بَرَّاقَةً مِنَ الأَمَلِ فِي زَمَنٍ سَيَأْتِي. إِنَّ اللهَ لَنْ يَدَعَ شَعْبَهُ إِلَى الأَبَدِ بِلاَ اطْمِئْنَانٍ». على أن حرص الدول الغربية على جمع نواة من اليهود في مدينة القدس لم يكن نابعًا من عاطفة دينية فحسب، بل من مصلحة سياسية أيضًا. فقد بدأت «الإِرْسَالِيَّةُ الإِنْكْلِيكَانِيَّةُ (الإِنْجْلِيزِيَّةُ) لِلْعَمَلِ (لِلْتَّبْشِيرِ) بَيْنَ اليَهُودِ». بالاستقرار في القدس في عام 1820، ثم جعلت تقوم، منذ عام 1824، بشيء يسير من العناية الطبية. وقد تطورت هذه العناية الطبية اليسيرة حتى نشأ منها في عام 1848 مستشفى مشهور. وفي عام 1851 شاركت " جَمْعِيَّةُ الإِرْسَالِيَّاتِ التَّبْشِيرِيَّةِ " في هذا العمل. ولقد أدى هذا العمل (تأسيس إرسالية القدس) إلى أغرب الأحداث في تاريخ الكنيسة الحديث. - «إِنَّ السُّلَطَاتِ البَرِيطَانِيَّةِ وَالبْرُوسِيَّةِ (الأَلْمَانِيَّةِ) اِتَّفَقَتْ عَلَى تَأْسِيسِ أُسْقُفِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ فِي مَدِينَةِ القُدْسِ يُشْرِفُ عَلَيهَا أُسْقُفٌ مَرْسُومٌ عَلَى " المَذْهَبِ الإِنْكْلِيكَانِيِّ " (الإِنْجْلِيزِيِّ)، وَلَكِنَّ تَعْيِينَهُ يَجْرِي بِالتَّنَاوُبِ بَيْنَ مَلِكِ إِنْجْلِتْرَا وَمَلِكِ بْرُوسِيَةَ (أَلْمَانْيَا). وَلَقَدْ كَانَ فِي هَذَا العَمَلِ عَوَامِلُ سِياسِيَّةٌ كَمَا كَانَ فِيهِ عَوَامِلُ دِينِيَّةٌ. لَقَدْ ظَنَّتْ السُّلَطَاتُ (الإِنْجْلِيزِيَّةِ وَالبْرُوسِيَّةِ) أَنَّ الحِمَايَةَ التِي تَتَمَتَّعُ بِهَا رُوسْيَا عَلَى النَّصَارَى الأُرْثُوذُكْسْ فِي الشُّرْقِ وَالحِمَايَةَ الدِّينِيَّةِ الّتِي تَتَمَتَّعُ بِهَا فِرَنْسَا عَلَى النَّصَارَى الكَاثُولِيكْ يُحْسَنُ أَنْ تُوَازَنَا بِحِمَايَةٍ إِنْجْلِيزِيَّةٍ ¬

_ (¬1) A History of Chr. Mission, by Stephen Neill (The Pelican of the Church :) - Pelican Books A 628, 1964

وجود إسرائيل

بَرِيطَانِيَّةٍ عَلَى البْرُوتِسْتَانْتْ. وَقَدْ كَانَ الأُسْقُفُ الأَوَّلُ عَلَى أُسْقُفِيَّةِ القُدْسِ هَذِهِ (مِيخَائِيلْ سَلُمُونِ إِسْكَنْدَرْ) - وُهُوَ حَاخَامٌ يَهُودِيٌّ مُتَنَصِّرٌ - ...» (ص 304). وُجُودُ إِسْرَائِيلَ: - «إِنَّ الأَمْرَ العَظِيمَ الذِي جَدَّ فِي العَالَمِ الإِسْلاَمِيِّ هُوَ وُجُودُ إِسْرَئِيلَ ... فَإِنَّ التَّوَازُنَ (السِّياسِيَّ وَالقَوْمِيَّ وَالدِّينِيَّ) قَدْ اِضْطَرَبَ بِذَلِكَ اِضْطِرابًا كَامِلاً فِي المِنْطَقَةِ كُلَّهَا ... وَلِلْنَصَارَى فِي ذَلِكَ آرَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ، إِنَّ نَفَرًا مِنْهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ وَحْدَةٌ سِياسِيَّةٌ لاَ أَهِمِّيَّةَ دِينِيَّةَ لَهَا. وَإِنَّ نَفَرًا آخَرِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ قِيَامَ إِسْرَائِيلَ تَحْقِيقَ نُبُوءَةِ " التَّوْرَاةِ " ... أَمَّا أَكْثَرُ النَّصَارَى الذِينَ يَعِيشُونَ فِي إِسْرَائِيلَ فَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الكَنِيسَةِ الكَاثُولِيكِيَّةِ وَالكَنِيسَةِ الشَّرْقِيَّةِ (الرُّومُ الأُرْثُوذُكْسْ). وَهَؤُلاَءِ يَتَمَتَّعُونَ بَقَدَرٍ مِنَ الحُرِّيَّةِ الدِّينِيَّةِ. أمَّا النَّصَارَى مِنْ أَصْلٍ عِبْرِيٍّ (يَهُودِيٍّ) فَقَلِيلُونَ جِدًّا، ثُمَّ هُمْ مَوْضِعُ رِيبَةٍ يُنْظَرُ إِلَيْهِمْ كَمَا يُنْظَرُ إِلَى الخَوَنَةِ» (490). مَوْقِفُ البَابَوِيَّةِ مِنَ اليَهُودِ وَإِسْرَائِيلَ: في أثناء الإعداد للمجمع المسكوني الثاني فوض الباب (يوحنا الثالث والعشرون) (الكاردينال بِيَا) بوضع مرسوم يتعلق باليهود. تقول مجموعة المجمع المسكوني (¬1) (2/ 204): أن البابا (يوحنا الثالث والعشرين) لما كان قاصدًا رسوليًا في الشرق الأدنى (¬2) اطلع على حال الشقاء التي كان فيها كثير من اليهود الذين هربوا من مضطهديهم، وقد أنقذ حياة نفر كثيرين منهم. ثم إنه أبدى عليهم عطفًا في مناسبات مختلفة. وفي تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1961 جاء وفد من اليهود الأمريكيين ليشكروا للبابا (يوحنا الثالث والعشرين) مواقفه منهم فاستقبلهم بهذه الكلمات: «أَنَا يُوسُفُ أَخُوكُمْ. أَجَلْ، إِنَّ ثَمَّتَ فَرْقًا بَيْنَ الذِي لاَ يُؤْمِنُ إِلاَّ بِالعَهْدِ القَدِيمِ (أَيْ " التَّوْرَاةِ " - يَعْنِي اليَهُودِيَّ) وَبَيْنَ الذِي يُؤْمِنُ أَيْضًا بِالعَهْدِ الجَدِيدِ (أَيْ " الإِنْجِيلَ " يَعْنِي النَّصْرَانِيَّ) أَنَّهُ الشَّرِيعَةُ الهَادِيَةُ العُلْيَا. وَلَكِنَّ هَذَا الفَرْقَ لاَ يُنْقِصُ شَيْئًا مِنَ الأُخُوَّةِ القَائِمَةِ عَلَى أَصْلِنَا الوَاحِدِ: أَلَسْنَا جَمِيعًا ¬

_ (¬1) راجع، فوق، ص 256. (¬2) في تركيا، سنة 1935.

أَبْنَاءُ أَبٍ وَاحِدٍ فِي السَّمَاوَاتِ؟ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَنَا حُبٌّ مُشْرِقٌ، حُبٌّ نَشِيطٌ فَعَّالٌ». وفي ذلك الوقت نفسه، في أثناء الإعداد للمجمع الثاني أيضًا، طلب معهد التوراة في روما أن يكون للمجمع تفسير (رأي) في «الوجود اليهودي». وفي عام 1960 قام العالم اليهودي (يوليوس إيزاك) (إسحاق) بزيارة البابا (يوحنا الثالث والعشرين) طلبًا منه أن يعدل الفقرات المعادية للسامية في التعليم الديني. وفي نحو هذا الوقت بعث المطران (أويسترابشر) رئيس المؤسسة اليهودية المسيحية في ستون هول (الولايات المتحدة) إلى الكاردينال (بيا) عريضة وقعها خمسة عشر قسيسًا يطلبون فيها أن تستمر إزالة العبارات التي تدعو إلى سوء التفاهم ثم حذف التعابير الجارحة لليهود من العظات المسيحية (القداديس). وفي عام 1962 وضع الكاردينال (بيا) بصفته رئيسًا للأمانة العامة في (مؤسسة) وحدة المسيحيين (في الفاتيكان) المرسوم اليهودي (الذي يتضمن الفكرة المذكورة آنفًا). وتسرب خبر المرسوم اليهودي أو «الوثيقة لليهود» - وقيل إن مبعوثًا لإسرائيل سيحضر الجلسة التي ستعرض هذه الوثيقة فيها - وقيل إن هذا المبعوث قد زار البابا في شأن هذه الوثيقة - فحدث شيء من الهياج في الدول العربية من أجل ذلك. فَصُرِفَ النَّظَرُ عن الوثيقة مؤقتًا. غير أن المجمع المسكوني الثاني عاد فأقر هذه الوثيقة. من النقاط الأساسية في هذه الوثيقة ما يلي: [أ] تقر الكنيسة بأن جذورها تذهب بعيدًا في أرض إسرائيل القديمة، وتقر بذلك بسرور ... إن جذورها ترقى إلى الأسباط والأنبياء، وخصوصًا إلى ذلك اليوم الذي دُعِيَ فيه إبراهيم ليخرج من بيت أبيه الوثني وليسير في طريق الإيمان الجريئة. إنها ترقى إلى تلك الساعة التي اختار اللهُ فيها موسى ليخرج أبناء إسرائيل من أرض العبودية وليصل بهم إلى قرب الميعاد. [ب] والكنيسة، برغم إنها مؤسسة جديدة كل الجدة، مستمرة مع إسرائيل القديمة (في الوجود). إن هذا التأكيد ليس فقط تعبيرًا عن حقيقة تاريخية، بل عن واقع يملأ وجود الكنيسة ووجود كل مسيحي ويعيش فيهما. [ج] إن أوثق صلات الكنيسة بالشعب اليهودي «إنسانية» المسيح. إن الكنيسة

إذاعة الوثيقة في الصحف العالمية

لا تستطيع أن تنسى - ولا تريد أن تنسى - أن الله (¬1) لما أصبح أخًا للبشر (اختار) أن يكون يهوديًا. وبتعبير آخر، أن مخلص العالم عاش ومات على أنه شخص من الشعب الذي أنعم اللهُ عليه فاختاره واعتنى به. ولا يسع الكنيسة أن تنسى أيضًا أن مريم أم يسوع كانت من بيت داوود، وإن الرسل والحواريين (تلاميذ المسيح) كانوا من نسل إبراهيم، وأن هؤلاء جميعًا قد قضوا أيام طفولتهم بين أبناء إسرائيل. [هـ] ومع أن السكان القدماء في القدس كانوا كلهم من اليهود الذين آمنوا بيسوع مَسِيحًا مَهْدِيًّا، فإن القسم الأكبر من الشعب المختار لم يؤمن بيسوع مَسِيحًا. ولقد استنتج أهل العصور الماضية من ذلك ما يلي: بما أن اليهود بجملتهم (بمجموعهم) لم يؤمنوا بيسوع مسيحًا، فإن جميع بني إسرائيل أخذوا بهذه الجزيرة. فالمجمع المسكوني يعلن - خلافًا لذلك - أنه من الخطأ أن يستنتج الإنسان من الكتاب المقدس مثل هذه النتيجة .... [و] فاتهام الشعب اليهودي بجملته، إذن - مَنْ عَاشَ منه في الماضي ومن يعيش منه اليوم - باطل: إنه انسياق في الضلال وارتكاب للظلم. أما فيما يتعلق بالذين أرادوا قتل المسيح، فإنهم زمرة قليلة العدد من اليهود وروماني واحد وحفنة من السوريين التابعين للكتيبة العاشرة التي كانت مرابطة في فلسطين. وقد قال السيد المسيح عنهم كلهم - كما قال رسله من بعده -: «اغْفِرْ لَهُمْ، (يَا رَبُّ)، فَإِنَّهُمْ لاَ يَدْرُونَ مَا يَفْعَلُونَ!» (2/ 206 - 211). إِذَاعَةُ الوَثِيقَةِ فِي الصُّحُفِ العَالَمِيَّةِ: إن الوثيقة التي أقرها المجمع المسكوني الثاني نشرت في منشورات المجمع، وهذه منشورات قلما يطلع عليها جمهور القراء. من أجل ذلك دفعت خلاصة الوثيقة والغاية الأساسية منها إلى وكالات الأنباء العالمية فوزعتها الوكالات على صحف العالم. نشرت جريدة " النهار " ما يلي (¬2): ¬

_ (¬1) هذا التعبير الوارد في الوثيقة إلى اليهود. (¬2) بيروت، بتاريخ 12/ 12 / 1969، الصفحة الأولى (راجع الصحف الباقية).

وثيقة أقرها الفاتيكان تطلب من الكاثوليك الاعتراف بالمعنى الديني لدولة إسرائيل

وَثِيقَةٌ أَقَرَّهَا الفَاتِيكَانْ تَطْلُبُ مِنَ الكَاثُولِيكْ الاِعْتِرَافَ بِالمَعْنَى الدِّينِي لِدَوْلَةِ إِسْرَائِيلَ: نيويورك - 11 كانون الأول (ديسمبر) - آب - (" أسوشايتد برس ") أذاع رئيس أساقفة بالتيمور الكاردينال (لورنس شيهان) أمس وثيقة أقرها الفاتيكان عن العلاقات الكاثوليكية - اليهودية، ترمي إلى إزالة العداء التاريخي بين أتباع الديانتين. وكانت أمانة الفاتيكان لتشجيع الوحدة المسيحية (قَدْ) أقرت هذه الوثيقة في الأسبوع الماضي في روما. وحضر الكاردينال (شيهان) الاجتماع الذي تم إقرارها فيه. وذكرت الوثيقة أن على الكاثوليك أن يعترفوا بالمعنى الديني لدولة إسرائيل بالنسبة إلى اليهود وأن يفهموا ويحترموا صلة اليهود بتلك الأرض.

فهرس هجائي لأعلام الناس

فهرس هجائي لأعلام الناس (1) م = مكرر، ح = في الحاشية. - آ، أ - آدم: 211، 212. إبراهيم: 259، 264. إبراهيم باشا: 117، 137 م، 154. إبراهيم - حافظ: 174. ابن شرد: 222، 223. ابن عربي: 220. ابن منظور: 227 ح. أبو شقرا - عارف: 138 ح. أبو اللمع - إسماعيل: 139. - أتشنسون - دين: 196. أدي: 150. أدي - ماري: 61. أديسون: 201 م. أرسطو: 223 م. أرسلان - أحمد: 139. [أيرل - إدوارد ميد: 23]. إستانهوب - أستير: 154. إسحاق - يوليوس - إيزاك. إسرائيل (يعقوب): 265 م. إسرائيل: 251، 263. أسقلبيوس: 58. إسكندر - ميخائيل سلمون: 263. الإسلام: 259. إسماعيل باشا: 118 م، 119، 147، 148، 149 م، 239 م، 240 م. الأسير - يوسف: 43 م. أغسطينوس (القديس): 157 م. أفريقية: 254. ألبا - أ: 74. اللنبي: 186 م. الامتيازات الأجنبية: 132. [أمين الريحاني]: 34. أوليفر - رولاند: 51. أونفرا: 154 الأيبو - قبائل: 252. إيراني - جليل: 59. إيرل - أرنست ميد: 23. إيزاك - يوليوس: 264. أيزنهاور: 196. - ب - باتريك - ماري ميلر: 23. بارسونز - ليفي: 261 م. بارودي - بشارة: 59. بارودي - مريم: 100. بازييه - شارل: 210 م. باني - رالف: 190 م. ¬

_ (1) لم نفهرس الأسماء الواردة في المصادر والمراجع، سواء أكانت في قائمة المصادر والمراجع أو في الحواشي. وقد فهرسنا عددًا من الألفاظ غير الأعلام وجدنا فهرستها ضرورية.

- ت -

بايكر - صموئيل: 239. [بكر - كارل: 36]. براون - لورانس: 37، 128 - 131، 184. برنادوت (الكونت) 32. برنهارد - لودفيك: 98. البستاني - فؤاد أفرام: 28. بسنغر: 119. بشير الثاني: 137 م، 153 م، 154 م. بشير ملحم (الثالث): 138 م. بقراط: 58، 59. بكر: 36. بلدوين (مبشر): 43 م. بلس - دانيال: 63 م، 69، 95، 96 م، 99، 100، 106 م، 118 م، 142، 150، 194. بلس - فريدريك: 40، 41. بلس - هوارد: 81، 99، 100، 104. بلغرايف - وليم: 35. بلفور: 186 - 187. بلور - هنري: 119 م. بنديكتور (بابا) 119 م. بنروز: 45، 46، 67، 68، 59، 99، 101، 104، 105، 106 م، 107. بن نبي - مالك: 250. بواعث التبشير: 34. بوتيه - رينه: 44 م، 126. بولص السادس (بابا): 248 م. بيا (كاردينال): 264 م. بورر: 189 م. بوست - جورج: 61، 104. بولارد - ريدر: 50. بومان: 131. بوناشيتا: 142، 143. بونفيس: 210 م. بيافرا: 253، 254. بيانكي - جان: 141 م. بيدو - جورج: 178. بيفر - بيرس: 254، 256. بيوس التاسع (بابا): 44. - ت - تاكلي - جون: 40، 86. تامر - محمد: 53. ترومان: 188، 196. ترويه: 199. تريغفه لي: 188. تشرشل: 154. التطبيب: 58. التعليم: 65. تكلي: [88]. التمييز العنصري: 4. توخمان - برباره: 186، 187. توفيق باشا: 148، 240. - ث - ثيودور (ملك الحبشة): 245 م. - ج - جانشون - فرنسيس وكوليت: 178. جايمس (الملك): 231. الجزائر: 254. جسب - هنري: 35، 36، 40، 43، 44 م، 66 م، 67، 69 م، 96، 98، 110 م، 118، 119، 121، 142، 145 م، 150، 158، 159، 199. جمال عبد الناصر: 234، 235. الجميل - بطرس: 29. جنينة رسلان: 53، 122، 157. جورج (القديس) 4. جونس (المحترم): 118 م. جونسون (قنصل): 96. - ح - ح - جوزيف: 155. حام بن نوح: 200. حبيش (بطريرك): 154. حتي - حبيب: 100. حتي - فيليب: 100، 104، 221، 223. الحروب الصليبية: 36، 114. الحسني - السيد عبد الرزاق: 159 م.

- خ -

حسين - طه: 250. الحصري - ساطع: 84، 86. الحكيم - عمر: 177، 178. حكيم (المطران): 32، 33. حنا - الدكتور جورج: 31 م. الحوار: 257. حيدر (الأمير): 158. - خ - خالدي - الدكتور مصطفى: 100، 101، 107. الخطيب - عدنان: 221. الخطيب - محب الدين: 10. الخليفة - خليفة المهدي: 240. الخوري - رشيد سليم: 35. الخوري - شكري: 224. الخولي - بولص: 100، 104. - د - د. ريمون: 155. دانبي: 67، 68، 69. دانتي: 220. داوود: 265. داوود باشا: 151. دندنغر: 21. دنيس: 150. ده لا فورست: 133. دودج = ضودج. دوغلاس - المر: 194. دومينيك: 125. دي فورست: 95. - ر - رايد (مبشر): 193. رباط - أدمون: [27]. رستم باشا: 150. رسل: 118، 119. رشتر - يوليوس: 36،37، 43 م، 44، 98 م، 114، 142، 145، 150، 171، 172 م. روبرتسون: 203. روبسون: 170 ريتشرد قلب الأسد: 186. رينان: 218 م. - ز - الزنوج: 4. زويمر - صموئيل: 38، 145، 146، 169، 174 م، 195. - س - ساراي: 122 /، 124. سارطون - جورج: 219، 251 م. سام بن نوح: 200 م. سانجور: 3، 4. سعادة - أنطون: 90، 92. سعد - طانيوس: 100 م. سعيد باشا: 118 م، 147 م. سكين (قنصل): 119 م. سلاطين باشا: 239. سلستين (بابا): 77 م. سليمان (السلطان): 133 م. سميث -[إِلِي]: 210. السياسة: 113. [سيرس هملن: 23]. سيمون (القس): 37. - ش - شارلمان: 132 م. شافتسبري: 185 م. شانتور (الأب): 38 م، 54. شاهين - طانيوس: 141. شتراوس - أوسكار: 119، 120، 124. شترايت: 21. الشرق الأدنى: 258. شكسبير: 231. شمعون - نجيب: 59. شهاب - آل: 138. شهود يهوه: 255. شوفلر: 152. شوقي: 76، 148. شيهان - لورنس: 266 م. - ص - صائغ - أنيس: 11 م، 139، 152، 154.

- ض -

صروف - فؤاد: 108. الصليب الأحمر: 31. صموئيل - هوبرت: 184. الصهيونية: 258. - ض - ضودج - آسا: 61. ضودج - بيارد: 59، 82، 100، 101، 102، 104، 106، 185. ضودج - ستيوارت: 66. ضومط (امرأة جبر): 59. ضيا - محمد: 4 م. - ط - الطائفية: 160. طعمة - جورج: 176، 177. طومسون - وليام: 40، 61، 95، 96 م، 210. - ظ - الظهير البربري: 158. - ع - عباس الأول (الخديوي): 147. عبد الله بن محمد الفقيه = خليفة المهدي. عبد الكريم الخطابي: 12. عبد الكريم - مفيد: 59. عبد الناصر = جمال عبد الناصر. عبده - الشيخ محمد: 103. عرابي باشا: 148. عزام - عبد الرحمن: 188. عطا - موسى: 136 م. عفلق - ميشال: 247 م. علي رضا باشا: 119. عمر: 249. عمر باشا النمساوي: 138 م. عمرو بن كلثوم: 250. عواد - خليل: 59. عيسى = المسيح. - غ - غاردنر: 36، 115 م، 145. غروف: 242. غرونباوم: 249، 251. غصن - الخوري مارون: 224. غلادستون: 185. الغلاييني - الشيخ مصطفى: 63. غوردن: 110 م، 149 م، 185، 339، 240، 245. غودل - وليم: 210. غوسيه - بيار ورينه: 154، 156. غيومان: هـ 75. - ف - الفاخوري - الأب يوحنا: 221 م. فان أس: 184. فان ديك - كارنيليوس: 48، 61، 80، 95 م، 104. فاديك - هنري: 104. فرنسوا الأول: 133 م. فروخ - عمر: 29، 81 ح، 83 ح، 102، 103، 249، 250. فريج (المركيزة): 31. فريحة - أنيس: 225، 231. فكتوريا: 245. فلسطين: 257. فهمي - عبد العزيز: 12، 196. فورد: 96. فورست: 91، (راجع ده فورست، دي لا فورست). فونتين - بيار: 234، 235. الفيروزآبادي: 227 ح. فيزمار - أدولف: 41. فيلاسكيز: 123، 124. - ق - القدس: 258. قرطباوي - أنطون: 163. القوتلي - شكري: 165. - ك - كاتبة - داوود: 59. كاش - ولسن: 182، 183. كاننج - سترافورد: 120. كالهوم = كلهون. كرم - يوسف: 120 م. كررفرد - ستيوارت: 59. كرومر: 148، 149، 238. كساب - ماري: 100.

- ل -

الكفوري - جورج: 225 م. كتشنر: 237. كرد علي - محمد: 220، 221. كلاتس: 82 م. كلهون: 49 م، 61، 95، 96. كنعان: 200 م. كولي: 72. كيرك - جورج: 108، 109. - ل - لاتوريت: 146، 147. لافالت: 167. لافيجيري: 44 م، 45، 125، 126. لانسنغ: 187. لاي (الأب): 224. لبكي - كسروان: 26، 27. لل - رامون: 77 م، 115 م. لوستير - ف: 75. لو شاتليه: 10 م. لومومبا - باتريس: [2]، 246. ليفنغستون: 51 م، 185، 237. ليفونيان - لطفي: 40 م، 41، 115 م. لينز (الآنسة): 257. ليون الثالث عشر (بابا): 72. - م - ماراي - بنيامين: 70. مارتل - شارل: 73. مارغليوث (مارجليوث): 59. مارون (مار): 28. المارونية: 28. ماسينيون: 44، 50، 83 م، 89، 161، 162، 212، 224 م. مامادو ديا = ضيا - محمد. مبارك (المطران): [27]، 29. مترنخ: 138 م. المجمع المسكوني الثاني: 255. محمد رسول الله: 39 م، 42 م، 63، 72، 74 م، 75، 76، 179، 180، [193]. محمد بن أحمد = المهدي السوداني. محمد علي باشا: 147 م، 181 م، 238. المرتضى الزبيدي: 227 ح. المرشد - سليمان: 157 م. المحمصاني - أحمد عمر: 103. مدور - فريد: 82. المرأة: 86. مرمورة - إلياس: 86. مريم: 40، 41، 259، 265 م. المسيح: 35، 39، 40، 41، 44 م، 49، 50، 51، 52، 59، 61، 62 م، 66، 68، 75، 82 م، 83 م، 115، 116، 126 م، 191، 192، 205، 208 م، 211، 259، 269 م، 264، 265. المشنوق - عبد الله: 134. مصطفى كمال: 129. المهدي (المسيح المهدي المنتظر): 83، 259. المهدي (السوداني): 44، 110، 237، 240. موريسون: 59، 159، 160. موسى: 40، 264. موط - جون: 50 م، 55 م، 68، 97. موليه - غي: 178. ميليغان - أنا: 87. مييز: 127. - ن - نابليون: 167. نابليون الثالث: 135 م. نارفيز: 123، 124. نايتنغايل - فلورانس: 185. نايل - ستيفن: 262. نخلة - الأب روفائيل: 224 م. النصارى في إسرائيل: 261. نعيمة - أنطوان: 163. نقاش - ألفريد: 163. نقاش - جورج: 26، 27، 155. نلسون: 40، 41. نوح: 200 م. نيجيريا: 252. نيقولي - إدوارد: 98 م، 100.

- هـ -

- هـ - هاربر - ف ج: 42. هاريس - أيرا: 62. هاريسون - بول: 59. هايغ (الجنرال): 35. هرتر: 96. هارون: 40، 41. هارون الرشيد: 132. هول - وليم: 82، 83. هيلاسلاسي: 241. - و - واصا باشا: 150، 151. واطسون - تشارلس: 52، 145. الوثيقة لليهود: 262. ورتبات - يوحنا: 63، 104. ولسن (المبشر) 137 ح. وود: 154. - ي - يافث: 200. اليافي - مساعد: 10. يسوع = المسيح. يعقوب = إسرائيل. يعقوب (ملك أرغونة): 115. يوحنا الثالث والعشرين (بابا): 257، 263، 264. يوحنا (ملك الحبشة): 245. اليهود: 259، 261. يوسف: 263.

§1/1