التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول

صديق حسن خان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حُقُوق الطَّبْع مَحفُوظَة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007 م

مقدمة إدارة الشؤون الإسلامية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إدارة الشؤون الإسلامية إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. عودًا على بدء نواصلُ المسيرةَ في ظل قيادة حكيمة، ترى تراث الأمة أمانة، وجديرة بالعناية والرعاية، كانت هذه المجموعة من مطبوعات الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني - رحمه الله - حيث طبعت متلاحقة على نفقته الخاصة، كسائر مطبوعاته التي أتحف بها العالم الإسلامي كله، وها نحن نقدمها متوافقة، تجديدًا للصلة، في مساراتها الأربعة: الأول: "الدين الخالص". معالم التوحيد، مؤسسةٌ على النصوص الخالدة من الكتاب والسنة، إنه الدين في صورته الحقيقية. الثاني: "التاج المكلل من مآثر الطراز الآخر والأول". تراجم جملة من علماء الإسلام الأعلام الهداة الأئمة، مآثر واضحة، فضائل لائحة، مناقب سائرة. الثالث: "الموعظة الحسنة بما يُخطب في شهور السنة". نماذج فاعلة بكلماتها الجميلة للخُطب كافة، بدايةً من خُطبة الجمعة،

والعيدين، والاستسقاء، والكسوف والخسوف، حيث المناسبة، مع ذكر الأحكام الشرعية المتعلقة، فجاء الكتاب حافلًا مهمًا في بابه. الرابع: "رحلة الصديق إلى البلد العتيق". صورة شائقة لهذه الرحلة المباركة، من الهند على ظهر سفينة، وصولًا إلى جدة، ومن ثم إلى مكة المكرمة، مع ذكر الأحكام الخاصة بالحج والعمرة والزيارة، وأحكام وفضائل مكة والمدينة، جامعة بين المتعة بذكر جملة مما وقع له من حوادث أثناء الرحلة، وتلك الروح العلمية. لهذا كله وقع الاختيار عليها بعد نصف قرنٍ من نشرتها الأولى. حيثُ عهدت إدارة الشؤون الإسلامية إلى دار النوادر لصاحبها نور الدين طالب للعمل عليها لإخراجها في حلتها الجديدة، وفق خطة علمية، تلخصت في الآتي: 1 - إعادةُ تنضيد الكتب على أفضل وأرقى البرامج الطباعة الحالية. 2 - تصحيح الكتب بما ورد فيها من أخطاء مطبعية سابقة، وقد بلغت مئات الأخطاء. 3 - كتابةُ الآيات القرآنية بالرسم العثماني، منقولة من المصحف الشريف، إضافة إلى عزوها عقب الآية بين معكوفتين. 4 - ضبطُ النصوص المهمة والمشكلة بالشكل الضروري، كالأحاديث النبوية الشريفة، وأبيات الشعر، وغريب اللغة. 5 - إعادةُ تقسيم الكتاب، وتفصيل فقراته، بما يتناسب مع سهولة تناوله وقراءته. 6 - وضعُ علامات الترقيم المناسبة للنص، حتى يخرج نصًا صحيحًا من حيث اللغة والإعراب. وإنا لنرجو الله تعالى أن يكون في عملنا هذا الإفادةَ لطلبة العلم وأهله. وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. إدارة الشؤون الإسلامية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله على سوابغ نعمائه، وضوافي آلائه، حمدًا يملأ مكان الإمكان، وأركان الأمكنة، ويعطر شذاه خياشيم العصور والأزمنة. والصلاة والسلام على عبده ورسوله، محمدٍ أكرمِ رسله، وأفضل أنبيائه صلاة تبلغ قائلَها والآتي بها مَأْمَنَه؛ وسلامًا يحله بشفاعته في جنة الفردوس الأعلى وأسكنه. وعلى آله وصحبه سادة نجبائه، وأهل الحديث قدوة علمائه، وحفاظ هديه قادة أصفيائه، الذين استمعوا القول فاتبعوا أصوبه وأحسنه، ودعوا إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ونستغفره سبحانه من حصائد الألسنة. وبعد: فهذا تذكارُ عصابة مباركة من أهل العلم بالحديث الشريف النبوي، وذوي العمل بالأثر المصطفوي، ومآثرهم الجليلة التي يحتاج إليها طلبة العلم في معرفة ما كان عليه سلف هذه الأمة وخلفُها الأئمةُ من العمل بالدليل، وطرح التقليد ورفض القال والقيل، وتحريرُ بعض فوائدهم الجميلة التي لا مندوحة عنها لمريد سلوك سبيلهم السوي الجليل؛ من كتب طبقات المحدِّثين الحفاظ المجتهدين، وصحائف زبر العلماء المتقدمين والمتأخرين، على غير ترتيب لذكر ذوي الباقيات الصالحات، وتبويب لسنين مواليدهم والوفيات، كما هو صنيع بعض أهل العلم والأدب؛ كالعلامة ابن رجب؛ لأني لم أرد استيعاب جميع ذلك، ولا جمع جملة ما هنالك؛ فإن الدواوين المبسوطة المؤلفة في هذا الشأن تغني عن الإطناب والإطالة، وطولُ الكلام يفضي بالناظر الناقد البصير إلى السآمة والملالة.

وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما روينا عنه: "ما قَلَّ وكفى خيرٌ مما كثير وألهى"، فهم - وإن كانوا في هذا الكتاب قليلين في العدد -؛ فإنهم كثيرون بسبب أنهم ذريعة للمَدَد في كل المُدَد. وقد يقال: إن أعداد الكبار الشم الأنوف ربما عدلت عشراتها بالمئين، ومئوها بالألوف، وأضفت إليهم: أخبار بعض الملوك والشعراء والزهاد، من أعيان الأعيان وأمجاد الأمجاد. ولما كان الشروع ملزمًا، وإتمام ما شرعت فيه متحتمًا، لم أر بدًا من إلحام ما أسديتُه، وإصماء ما أنميته، فتذكرت من الكلام أوائلَه، وألحقت بكل منه ما شاكَلَه، وما أقدمني على هذا الشأن إلا تخلُّفُ أبناء الزمان، عن إحراز فضيلة السبق في هذا الميدان. وليس غرضي إلا أداءَ بعض حقهم المفترض، وأبرأ إلى الله من تهمة الغرض، وإني وإن قصرت في مواضع من تراجمهم، فما قصرت وإن طولت في مجال، فما تطولت، وغاية النصفة في هذا المقام هو الاعتراف بقصوره، والإقرار بعدم شعوره؛ فإن المرء ولو بلغ جهده، فالإحاطةُ بهذا الشان وتراجم أهله لله وحده. ولا أعتقد أني وفيتُ بالمقصود، أو أتيت بالمراد على الوجه الموعود، بل كل ما آمل من هذا الصنيع هو نيل ثواب في المبدأ ونجاة في اليوم المشهود. فقد ذكر غير واحد من العلماء؛ كابن فهد المكي وغيره، أن الاشتغال بنشر أخبار الأخيار، من أهل العلم والآثار، من علامات سعادة الدنيا وسيادة الآخرة؛ إذ هم شهود الله في أرضه، ولهم المراتب الفاخرة. والذين ذكرتهم في هذا المختصر - إنما هم بالنسبة إلى من تركتُ ذكرهم من الحفاظ العالمين بالكتاب والسنة، العاملين بهما من بين الأمة، كحركات العوامل، أو عدد الأنامل. فهاك - أيها المتفضل عليّ - كتابًا لطيفًا يحاكي في حسنه وجماله غصنَ البان، وفنن الجِنان، ويرد ورودَ ماء عذب بارد فراتٍ على الظمآن، ودونك أيها

المحسن إليّ - خطابًا شريفًا يرد ما شاع على ألسنة جماعة من الرعاع؛ من اختصاص سلفِ هذه الأمة بإحراز فضيلة البلوغ إلى ذروة الاجتهاد والتجديد، وتعذُّر وجودِ المجتهدين بعد المئة السادسة أو السابعة على التعيين والتحديد، وكانت هذه المقالة بمكان من الجهالة، لا تخفى على مَنْ له أدنى حظ من علم، وأنزرُ نصيب من عرفان، وخصر حصة من فهم وجلالة؛ لأنها كما قال العلامة الرباني، مجتهدُ القطر اليماني، مجددُ المئة الثالثة عشرة في إحياء الأمر الإيماني، شيخُنا وبركتنا قاضي القضاة شيخُ الإسلام، وحسنةُ الليالي والأيام، محمدُ بنُ علي بن محمدٍ الشوكاني - رضي الله عنه -: قصرٌ للفضل الإلهي والفيض الرباني على بعض العباد دون البعض، وعلى أهل عصر دون عصر، وعلى أبناء دهر دون دهر، بدون برهان ولا قرآن، على أن هذه المقالة المخذولة، والحكاية المرذولة، تستلزم خلو هذه الأعصار المتأخرة عن قائم بحجج الله، ومترجم عن كتابه العزيز، وسنة رسوله المطهرة، ومبين لما شرعه الله لعباده. وذلك هو ضياع الشريعة الحقة بلا مِرْية، وذهاب الدين المتين بلا شك، وهو تعالى قد تكفل بحفظ دينه القويم، وليس المراد به حفظه في بطون الصحف والدفاتر، بل إيجاد من يبينه للناس في كل وقت وعند كل حاجة، فليعلم صاحب تلك المقالة: أن الله تعالى - وله المنة - قد تفضل على الخلف كما تفضل على السلف، بل ربما كان في العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية، والمدارك الشرعية، على اختلاف أنواعها، من يقل نظيرُه من أهل العصور المتقدمة، انتهى. وسوق هذا الكلام منه - أعلى الله منزلته في دار السلام - فيمن يعرف الكتاب والسنة وعلومهما، دون من لم يرفع رأسه إليهما، بل أضاع عمره في الفروع سرمدًا، فإنه لا يكون مجتهدًا ولا مجددًا للدين أبدًا. وسيقف على ذلك من أمعن النظر في هذا "الكتاب"، وحل من عنقه عرا التقليد والارتياب، والمذكورون في هذا "المختصر" هم صميم الكرام، الذين

هم صميم الكرام من العلماء وأكابر الزمان، من أهل القرون الأولى ومَنْ بعدهم إلى الآن، مع ذكر فوائد نافعة غريبة، وبيان عوائد نفيسة عجيبة. ومن أمعن النظر في مطالعة كتب القوم: 1 - كتاريخ الإسلام، 2 - وتذكرة الحفاظ، 3 - والنبلاء، 4 - وكامل ابن الأثير، 5 - وتاريخ القاضي ابن خلكان، 6 - وفوات الوفيات، 7 - وتاريخ ابن الوردي، 8 - وطبقات ابن رجب، 9 - ونفح الطيب للمَقَّري، 10 - والدرر الكامنة، 11 - والنور المسافر، 12 - وخلاصة الأثر، 13 - والضوء اللامع، 14 - والبدر الطالع، ونحو ذلك، علم أن الفيض الإلهي لم ينقطع، وأن اللطف الرباني لم يتم، وأن الرحمة العامة لم تنصرم، وأن التفضل الرحماني لم يختم، وأن الجود المهيمني لم يبخل، وسميت هذا المختصر: التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول وما أنا فيما أوردت فيه من التراجم والأخبار بمعتقد كمالي، ولا معتصم من إخلالي، على أني بجسارة أقول: إنه حوى صفوة أقوال الرواة العدول، ونخبة أحوال الأعلام الفحول، دون عدول يجيء به تعصب ديني، أو ميل غرضي. ولقد سلكت في هذا الكتاب مسلك أبناء العصر، ومهيع أولاد الدهر؛ فإن الناس بزمانهم، أشبهُ منهم بآبائهم. ولو أخذت فيه أخذ الأدباء، وألبسته من براعة الكلام وبلاغة المعاني الإزار والرداء، فأبرزت فيه من المعاني الجزلة كلَّ بديع، في قوالب مبان فحلة ولفظ رفيع، لما عرف أحد قدره، ولا التفت إليه، ولا عوّل لقصور الأفهام والهمم عليه. ولما كانت المجازات خيرًا من الحقائق، والغلط المستعمَل أولى من الصواب في الدقائق، حررته في عبارات يسيرة، وإشارات رقيقة غير عسيرة، ولنعم ما قيل شعرًا: إذا أحسستَ في لفظي قُصورًا ... وحظي والبراعةِ والبيانِ

فلا ترتَبْ لفهمي إنَّ رقصي ... على مقدار إيقاعِ الزمانِ وقد انقلب الآن بأهله الزمان، فصار حاملُ الأدب والفضل من رهطه، والمنسلك من العلم في نظمه وسمطه، وصار فيه باقلٌ جريرًا، وجريرٌ جاهلًا كبيرًا، وليتني كنت في هذا وذاك كفافا، ومن خير الزمان وشره معافى. وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، من الحسنات والسيئات. وقد جعلت هذا الكتاب خدمة لأحبابي، ونصيحة لأخلافي - الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويحبون العمل بالكتاب والسنة، والإتيان بالموعظة الحسنة، ملتمسًا من ذوي الانتقاد أن يُقيلوا العِثار، ويقبلوا الأعذار، فيشدوا أسره، ويجبروا كسره، ويرقعوا خلَلَه، ويحققوا أملَه، متوسلًا إليه سبحانه وتعالى أن ينفع به قارئه من الفحول، فإنه أكرم مسؤول، وخير مأمول، حرسنا الله تعالى من التمادي في مهاوي الغواية، وجعل لنا من العرفان بأقدارنا أمنعَ وقاية، وسلك بنا مسلك أهدى هداية، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد عبده ورسوله وآله وصحبه - ما ذَرَّ شارِق، ولمع بارِق. ***

1 - الإمام أبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل ابن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الشيباني، المروزي الأصل

1 - الإمام أَبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل ابن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الشيباني، المروزي الأصل. هذا هو الصحيح في نسبه، وقيل: إنه من بني مازن بن ذهل بن شيبان، وذهل بن ثعلبة المذكور: هو عم ذهل بن شيبان، فليعلم ذلك، والله أعلم. خرجت أمه من مرو وهي حاملٌ به، فولدته في بغداد، في شهر ربيع الأول سنة 164، وقيل: إنه ولد بمرو، وحُمل إلى بغداد وهو رضيع. وكان إمام المحدثين، صنف كتابه "المسند"، وجمع فيه من الحديث ما لم يتفق لغيره، وقيل: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث، وكان من أصحاب الإمام الشافعي وخواصه، ولم يزل مصاحبَه إلى أن ارتحل الشافعي إلى مصر، وقال في حقه: خرجتُ من بغداد، وما خلفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل. وادعي إلى القول بخلق القرآن، فلم يجب، فضُرب وحُبس وهو مصرٌّ على الامتناع، وكان ضربه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة 220 عشرين ومئتين، وكان حسن الوجه، ربعة، يخضِب بالحناء خضبًا ليس بالقاني، في لحيته شعيرات سود. أخذ عنه الحديث جماعةٌ من الأماثل، منهم: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، ولم يكن في آخر عصره مثله في العلم والورع. توفي ضحوة نهار الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل: بل لثلاث عشرة ليلة بقين من الشهر المذكور، وقيل: من ربيع الآخر سنة 241 ببغداد، ودفن بمقبرة باب حرب. وباب حرب: منسوب إلى حرب بن عبد الله أحدِ أصحاب أبي جعفر المنصور، وإلى حرب هذا، تُنسب المحلة المعروفة بـ "الحربية".

وقبر أحمد بن حنبل مشهور بها يزار - رحمه الله تعالى - وحُرز من حضر جنازته من الرجال، فكانوا ثمانمئة ألف 800000، ومن النساء - ستين ألفًا 60000. وقيل: إنه أسلم يوم مات عشرون ألفًا من النصارى واليهود والمجوس. وذكر أَبو الفرج بن الجوزي في كتابه الذي صنفه في أخبار بشر بن الحارث الحافي - رضي الله عنه - في الباب السادس والأربعين ما صورته: حدث إبراهيم الحربي، قال: رأيت بشر بن الحارث الحافي في المنام؛ كأنه خارج من باب مسجد الرصافة، وفي كمه شيء يتحرك، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وأكرمني، فقلت: ما هذا الذي في كمك؟ قال: قدم علينا البارحةَ روح أحمد بن حنبل فنثر عليه الدرر والياقوت، فهذا مما التقطتُ، قلت: فما فعل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل؟ قال: تركتهما وقد زارا ربَّ العالمين، ووضعت لهما الموائد، قلت: فلمَ لم تأكل أنت؟ قال: قد عرف هوانَ الطعام عليَّ، فأباحني النظر إلى وجهه الكريم. وفي أجداده: حيان - بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون -، وبقية الأجداد لا حاجة إلى ضبط أسمائهم لشهرتها وكثرتها، ولولا خوف الإطالة لقيدتها، ورأيت: في نسبه اختلافًا، وهذا أصح الطرق التي وجدتها. وكان له ولدان عالمان، وهما: صالح، وعبد الله، فأما صالح: فتقدمت وفاته في شهر رمضان سنة 266، وكان قاضي أصبهان، فمات بها، ومولده في سنة 203. وأما عبد الله، فإنه بقي إلى سنة تسعين ومئتين، وتوفي يوم الأحد لثمان بقين من جمادى الأولى، وقيل: الآخرة، وله سبع وسبعون سنة، وكنيته: أَبو عبد الرحمن، وبه كان يكنى الإمام أحمد - رحمهم الله أجمعين -، انتهى ما في "وفيات الأعيان". وذكر ابن رجب في "طبقاته" في جملة ترجمة الحافظ يحيى المعروف بابن

مَنْدَهْ ما لفظه: صنف "مناقبَ" الإمام أحمد - رضي الله عنه - في مجلد كبير، وفيه فوائد حسنة، وقال في أوله: ومن أعظم جهالاتهم - يعني: المبتدعة -، وغلوهم في مقالاتهم، وقوعُهم في الإمام المرضي، إمام الأئمة، وكهف الأمة، ناصر الإسلام والسنة، من لم تر عين مثله علمًا وزهدًا وديانة وأمانة، إمامِ أهلِ الحديث: أحمدَ بن محمد بن حنبل الشيباني - قدس الله سره، وبرد عليه ضريحه -، الإمامِ الذي لا يُجارى، والبحر الذي لا يُبارى، ومن أجمع أئمةُ الدين في زمانه، على تقدمه في شأنه ونبله وعلو مكانه، والذي له من المناقب ما لا يعد ولا يحصى، قام لله تعالى مقامًا، لولاه لتجهم الناس، ولمشوا على أعقابهم القهقرى، ولضعف الإسلام واندرس العلم. ولقد صدق الإمام أَبو رجا، قتيبةُ بن سعيد البغلاني حيث قال: إن أحمد في زمانه بمنزلة أبي بكر وعمر في زمانهما، وأحسنَ من قال: لو كان أحمد في بني إسرائيل، لكان آية، أعاشنا الله تعالى على عقيدته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته -. وحين وقفت على سرائر هؤلاء، وخبثِ اعتقادهم في هذا الإمام، قصدت لمجموع نبهت فيه على بعض فضائله، ونبذة من مناقبه؛ وذكرت طرفًا مما منحه الله تعالى من المنزلة الرفيعة، والرتبة العلية في الإسلام والسنة، مع أني لست أرى لنفسي أهلية لذلك، وأن المشايخ الماضين قد عنوا بجمعه فشفوا؛ لكني أردت أن يبقى لي بجمع مناقبه ذكر، وأن أكون متشرفًا فيما بين أهل العلم من أهل السنة بانتسابي إليه، وتحلي مذهبه وطريقته. قال فوران: ماتت امرأة لبعض أهل العلم، فجاء يحيى بنُ معين والدَّورقي، قال: فلم يجدوا امرأة تغسلها إلا امرأة حائضًا، فجاء أحمد وهم جلوس، فقال: ما شأنكم؟ فقال أهل المرأة: ليس نجد غاسلة إلا امرأة حائضًا، فقال أحمد: أليس تروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشة! ناوليني الخمرة"، قالت: إني حائض، فقال: "إنّ حيضتك ليست في يدك"، يجوز أن تغسلها، قال: فحجلوا. ومن أقواله - رحمه الله -: الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فمن لم يعمل هنا، ندم هناك.

وسئل عن الفتوة؟ فقال: تركُ ما تهوى لما تخشى. وكان يقول: إن القلنسوة لتقع من السماء على رأس مَنْ لا يحبها. وقال ابنه عبد الله: قلت لأبي: يقولون إنك تتوضأ مما مست النار، قال: ما فعلته قط، ولم يثبت عندي في ذا خبر. ولقد ذكر له رجل من أهل العلم: كانت له زلة، وأنه تاب من زلته، فقال: لا يقبل ذلك منه حتى يظهر التوبة والرجوع عن مقالته، ليعلنْ أنه قال مقالته كيت وكيت، وأنه قد تاب إلى الله تعالى عن مقالته، ورجع عنها، فإذا ظهر ذلك منه، فحينئذ تقبل، ثم تلا: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160]، وروى عنه أنه قال: طلب إسناد العلوم من السنة، وقال أيضًا: كنا نرى السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه هؤلاء، فلما أظهروه، لم نجد بدًا من مخالفتهم. وقيل له: إن ها هنا رجلًا يفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية بن أبي سفيان، فقال أحمد: لا تجالسه، ولا تؤاكلْه ولا تشاربه، وإذا مرض فلا تعدْه. وكان يقول: سبحانك ما أغفلَ هذا الخلقَ عما أمامهم، الخائف منهم مقصر، والراجي منهم متوانٍ. وسئل عن رجلٍ عليه تحريرُ رقبة مؤمنة، فكان عبدٌ يقول بخلق القرآن، فقال: لا يجزي عنه عتقُه؛ لأن الله - تبارك وتعالى - أمره بتحرير رقبة مؤمنة، وليس هذا بمؤمن، هذا كافر. وقال عبد الله: سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى - عليه السلام - لم يتكلم بصوت، فقال: بل تكلم - عز وجل - بصوت، هذه الأحاديث نمرها كما جاءت - يعني: حديث ابن مسعود: إذا تكلم الله - عز وجل -، سمع له صوت كممر السلسلة على الصفوان، قال: وهذه الجهمية تنكره، قال: وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله - عز وجل - لم يتكلم، فهو كافر، إنا نروي هذه الأحاديث كما جاءت. وقال أحمد: أصولُ الإيمان ثلاثة: دالٌّ، ودليلٌ، ومستدلٌّ، فالدالُّ: الله تعالى، والدليل: القرآن، والمستدل: المؤمن، من طعن على حرف من القرآن؛ فقد طعن على الله - عز وجل -، وعلى كتابه، وعلى رسوله.

2 - أبو بكر، أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى، البيهقي، الخسروجردي

وقال: ثلاثة كتب ليس لها أُصول: 1 - المغازي، 2 - والملاحم، 3 - والتفسير. وقال: من لم يجمع علم الحديث وكثرَة طرقها واختلافها، لا يحل له الحكم على الحديث، ولا الفتيا به. وقال: إذا روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام، والسنن والأحكام، تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عنه - صلى الله عليه وسلم - في فضائل الأعمال، وما لا يضيع حكمًا، ولا يرفع، تساهلنا في الأسانيد. وسئل عن هذه الكتابة متى العمل بها؟ قال: أخذها العمل بها. وقال: ما الناسُ إلا من يقول حدثنا وأخبرنا، وسائر الناس لا خير فيهم. قال أَبو رجا، قتيبة: أحمد إمام، ومن لا يرضى بإمامته، فهو مبتدعٌ ضال. قال يحيى بن منده: نقول وبالله التوفيق: إن أحمد بن حنبل إمام المسلمين، وسيد المؤمنين، وبه نحيا، وبه نموت، وبه نبعث إن شاء الله تعالى، فمن قال غير هذا، فهو عندنا من الجاهلين. وحدث شيخ من أهل سجستان بمكة ذُكر عنه فضل ودين، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت: يا رسول الله! من تركت لنا في عصرنا هذا من أمتك نقتدي به في ديننا؟ قال: "أحمد بن حنبل" قال: من فما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نومه ويقظته، فهو حق، وقد ندب - صلى الله عليه وسلم - إلى الاقتداء به، فلزمنا جميعًا امتثالُ مرسومه، واقتفاء مأموره، انتهى كلامه - رحمه الله تعالى -. 2 - أَبو بكر، أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى، البيهقي، الخُسْرَوْجِردي. الفقيه الشافعي، الحافظ الكبير المشهور، واحدُ زمانه، وفرد أقرانه في الفنون، من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله بنِ البَيِّع في الحديث، ثم الزائد عليه في أنواع العلوم. أخذ الفقه عن أبي الفتح ناصرِ بنِ محمد العمري المروزي، غلب عليه الحديث، واشتهر به، ورحل في طلبه إلى العراق والجبال والحجاز، وسمع

3 - أبو عبد الرحمن، أحمد بن علي بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر النسائي الحافظ

بخراسان من علماء عصره، وكذلك ببقية البلاد التي انتهى إليها. وشرع في التصنيف، فصنف فيه كثيرًا، حتى قيل: تبلغ تصانيفه ألف جزء، وهو أول من جمع نصوص الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في عشر مجلدات، ومن مشهور مصنفاته "السنن الكبير" (¬1)، "والسنن الصغير"، و"دلائل النبوة"، و"السنن والآثار"، و"شعب الإيمان"، و"مناقب الشافعي المطلبي"، و"مناقب أحمد بن حنبل"، وغير ذلك. وكان قانعًا من الدنيا بالقليل، وقال إمام الحرمين في حقه: ما من شافعي المذهب، إلا وللشافعيِّ عليه مِنَّة إلا أحمد البيهقي، فإن له على الشافعي منة، وكان من أكثر الناس نصرًا لمذهب الشافعي، وطلب إلى نيسابور لنشر العلم، فأجاب، وانتقل إليها. وكان على سيرة السلف، وأخذ عنه الحديث جماعةٌ من الأعيان، منهم: زاهر الشحامي، ومحمد الفراوي، وعبد المنعم القشيري، وغيرهم. وكان مولده في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاث مئة 384، وتوفي في العاشر من جمادى الأولى سنة 458 بنيسابور، ونقل إلى بيهق - رحمه الله تعالى -، ونسبته إلى بيهق - بفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحته وبعد الهاء المفتوحة قاف -، وهي قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخًا منها، وخُسْرَوْجِرد، من قراها، وهي - بضم الخاء المعجمة وسكون السين وفتح الراء المهملتين وسكون الواو، وكسر الجيم ثم راء ودال مهملتين -، هكذا في "تقويم البلدان" نقلًا عن "اللباب". 3 - أَبو عبد الرحمن، أحمد بن علي بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر النسائي الحافظ. كان إمام عصره في الحديث، وله كتاب "السنن"، وسكن بمصر، وانتشرت بها تصانيفه، وأخذ عنه الناس. ¬

_ (¬1) السنن الكبير= "السنن الكبرى" طبع بمطبعة دائرة المعارف بحيدر آباد الدكن في 10 أجزاء سنة (37 - 13 هـ - 1925 م).

قال محمد بن إسحاق الأصبهاني: سمعت مشايخنا بمصر يقولون: إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية، وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسًا برأس حتى يفضل؟! وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا: لا أشبع الله بطنك، وكان يتشيع، فما زالوا يدفعون في حضنه حتى أخرجوه من المسجد، وفي رواية أخرى: يدفعون في خصيته وداسوه، ثم حُمل إلى الرملة، فمات بها. وقال الحافظ أَبو الحسن الدارقطني: لما امتُحن النسائي بدمشق، قال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها، فتوفي بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة. وكانت وفاته في شعبان من سنة 303. وقال الحافظ أَبو نعيم الأصفهاني: لما داسوه بدمشق، مات بسبب ذلك الدوس، وهو منقول، قال: وكان قد صنف كتاب "الخصائص" في فضل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأهلِ البيت، وأكثر رواياته فيه عن أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -، فقيل له: ألا تصنف كتابًا في فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -؟ فقال: دخلت دمشق والمنحرفُ عن علي - رضي الله عنه - كثير، فأردت أن يهديهم الله تعالى بهذا الكتاب، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان موصوفًا بكثرة الجماع. قال الحافظ أَبو القاسم المعروف بابن عساكر الدمشقي: كان له أربع زوجات يقسم لهنَّ، وسراري. وقال الدارقطني: امتحن بدمشق، فأدرك الشهادة، وتوفي يوم الاثنين لثلاثَ عشرةَ ليلة خلت من صفر سنة 303 بمكة - حرسها الله تعالى -، وقيل: بالرملة من أرض فلسطين. وقال أَبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس صاحب "تاريخ مصر" في تاريخه: إن أبا عبد الرحمن النسائي قدم مصر قديمًا، وكان إمامًا في الحديث، ثقة حافظًا ثبتًا، وكان خروجه من مصر في ذي القعدة سنة 302.

4 - الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني، الحافظ المشهور، صاحب كتاب "حلية الأولياء"

قال ابن خلكان: ورأيت بخطي في مسوداتي أن مولده: بنَساء، في سنة 215، وقيل: سنة 214، والله تعالى أعلم. ونسبته إلى نَساء - بفتح النون وفتح السين وبعدها همزة -، وهي مدينة بخراسان، خرج منها جماعة من الأعيان. 4 - الحافظ أَبو نعيم أحمدُ بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني، الحافظ المشهور، صاحب كتاب "حلية الأولياء". كان من الأعلام المحدثين، وأكابر الحفاظ، أخذ عن الأفاضل، وأخذوا عنه، وانتفعوا به، وكتابه "الحلية" من أحسن الكتب، وله كتاب "تاريخ أصبهان"، نقلتُ منه في ترجمة والده عبد الله نسبتَه على هذه الصورة. وذكر أن جده مهران أسلم إشارة إلى أنه أولُ من أسلم من أجداده، وأنه مولى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وذكر أن والده توفي في رجب سنة 365، ودفن عند جده من قبل أمه. ولد في رجب سنة 336، وقيل: سنة 334، وتوفي في صفر، وقيل: يوم الاثنين الحادي والعشرين من المحرم سنة 430 بأصبهان، وأصبهان: - بكسر الهمزة وفتحها، وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة، ويقال: - بالفاء أيضًا، وفتح الهاء بعد الألف نون -، وهي من أشهر بلاد الجبال، وإنما قيل لها هذا الاسم؛ لأنها تسمى بالعجمية: سباهان، وسباه: العسكر، وهان: الجمع، وكانت جموع عساكر الأكاسرة تجتمع إذا وقعت لهم واقعة في هذا الموضع؛ مثل عسكر فارس، وكرمان، والأهواز، وغيرها، فعرِّب، فقيل: أصبهان، وبناها: إسكندر ذو القرنين، هكذا ذكره السمعاني هكذا في "وفيات الأعيان" تاريخ ابن خلكان. 5 - الحافظ أَبو بكر، أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي بن ثابت البغدادي، المعروف بـ "الخطيب"، صاحب "تاريخ بغداد" وغيره من المصنفات. كان من الحفاظ المتقنين، والعلماء المتبحِّرين، ولو لم يكن له سوى التاريخ، لكفاه؛ فإنه يدل على اطلاع عظيم، وصنف قريبًا من مئة مصنف،

وفضله أشهر من من أن يوصف، وأخذ الفقه عن أبي الحسن المحاملي، والقاضي أبي الطيب الطبري، وغيرهما، وكان فقيهًا، فغلب عليه الحديث والتاريخ. ولد في جمادى الآخرة سنة 392 يوم الخميس لست بقين من الشهر، وتوفي يوم الاثنين سابع ذي الحجة سنة 463 ببغداد. وقال السمعاني: توفي في شوال، وسمعت أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي كان من جملة من حمل نعشه؛ لأنه انتفع به كثيرًا، وكان يراجعه في تصانيفه، والعجب أنه كان في وقته حافظ المشرق، وأبو عمرو يوسفُ بنُ عبد البر صاحبُ كتاب "الاستيعاب" حافظُ المغرب، وماتا في سنة واحدة كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -. وذكر محب الدين بن النجار في "تاريخ بغداد": أن أبا البركات إسماعيل بن سعد الصوفي، قال: إن الشيخ أبا بكر بن زهراء الصوفي، كان قد أعد لنفسه قبرًا إلى جانب قبر بِشْر الحافي، وكان يمضي إليه في كل أسبوع مرة، وينام فيه، ويقرأ فيه القرآن كله، فلما مات أَبو بكر الخطيب، وكان قد أوصى أن يدفن إلى جانب قبر بشر الحافي، فجاء أصحاب الحديث إلى أبي بكر بن زهراء، وسألوه: أن يدفن الخطيب في القبر الذي كان قد أعده لنفسه، وأن يؤثره به، فامتنع من ذلك امتناعًا شديدًا، وقال: موضع قد أعددته لنفسي منذ سنين، يؤخذ مني!. فلما رأوا ذلك، جاؤوا إلى والدي الشيخ أبي سعد، وذكروا له ذلك، فأحضر الشيخ أبا بكر بن زهراء، وقال له: أنا لا أقول لك أعطهم القبر، ولكن أقول لك: لو أن بشرًا الحافي في الأحياء، وأنت إلى جانبه، فجاء أَبو بكر الخطيب يقعد دونك، أكان يحسن بك أن تقعد أعلى منه؟ قال: لا، بل كنت أقوم وأُجلسه مكاني، قال: فهكذا ينبغي أن يكون الساعة، قال: فطاب قلب الشيخ أبي بكر، وأذن لهم في دفنه، فدفنوه إلى جانبه بباب حرب، وقد كان تصدق بجميع ماله، وهو مئتا دينار فرقها على أرباب الحديث والفقهاء والفقراء في مرضه، وأوصى أن يتصدق عنه بجميع ما عليه من الثياب، ووقف جميع كتبه على المسلمين، ولم يكن له عقب.

6 - أبو عبيد، أحمد بن محمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي المؤدب الهروي الفاشاني، صاحب كتاب "الغريبين"، هذا هو المنقول في نسبه

وصنف أكثر من ستين كتابًا، وكان الشيخ أَبو إسحق الشيرازي أحدَ من حمل جنازته، وقيل: إنه ولد سنة 391، والله أعلم. ورُئيت له منامات صالحة بعد موته، وكان قد انتهى إليه علمُ الحديث، وحفظه في وقته، هذا آخر ما نقلته من كتاب ابن النجار - رحمه الله تعالى رحمة واسعة -، ذكره ابن خلكان. 6 - أَبو عبيد، أحمد بن محمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي المؤدب الهروي الفاشاني، صاحب كتاب "الغريبين"، هذا هو المنقول في نسبه. قال ابن خلكان: ورأيت على ظهر كتابه "الغريبين": أنه أحمد بن محمد بن عبد الرحمن، والله أعلم. كان من العلماء الأكابر، وما قصر في كتابه المذكور، ولم أقف على شيء من أخباره لأذكره، سوى أنه كان يصحب أبا منصور الأزهريَّ اللغويَّ، وعليه اشتغل، وبه انتفع وتخرّج، وكتابه المذكور جمع فيه: بين تفسير غريب القرآن الكريم، والحديث النبوي، وسار في الآفاق، وهو من الكتب النافعة. وقيل: إنه كان يحب البذلة، ويتناول ... في الخلوة، ويعاشر أهل الأدب في مجالس اللذة والطرب، عفا الله عنه وعنا، أشار الباخرزي في ترجمة بعض أدباء خراسان إلى شيء من ذلك، والله أعلم. وكانت وفاته في رجب سنة 401 - رحمه الله -. والهروي - بفتح الهاء والراء - نسبة إلى هراة، وهي إحدى مدن خراسان الكبار، فتحها الأحنف بن قيس صلحًا من قبل عبد الله بن عامر. والفاشاني - بفتح الفاء وبعد الألف شين معجمة وبعد الألف الثانية نون - نسبة إلى فاشان، وهي قرية من قرى هراة، ويقال لها: باشان - بالباء الموحدة أيضًا -، ذكره السمعاني. 7 - الحافظ أَبو طاهر، أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم سلفة الأصبهاني، أحد الحفاظ المكثرين. رحل في طلب الحديث، ولقي أعيان المشايخ، وكان شافعي المذهب، ورد

بغداد، واشتغل بها على الكيا أبي الحسن علي الهرَّاسي في الفقه، وعلى الخطيب أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي اللغوي باللغة، وروى عن أبي محمد جعفر بن السراج وغيره من الأئمة الأماثل، وجاب البلاد، وطاف الآفاق، ودخل ثغر الإسكندرية سنة 511 في ذي القعدة، وكان قدومه إليه في البحر من مدينة صور، وأقام به، وقصده الناس من الأماكن البعيدة، وسمعوا عليه، وانتفعوا به، ولم يكن في آخر عمره مثله. وبنى له العادل أَبو الحسن، عليُّ بن السلار وزيرُ الظافر العبيدي صاحبِ مصر في سنة 546 مدرسةً بالثغر المذكور، وفوضها إليه، وهي معروفة به إلى الآن. قال ابن خلكان: وأدركت جماعة من أصحابه بالشام والديار المصرية، وسمعت عليهم، وأجازوني، وأماليه وتعاليقه كثيرة؛ والاختصار بالمختصر أولى. وكانت ولادته سنة 472 تقريبًا بأصبهان، وتوفي ضحوة نهار الجمعة، وقيل: ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر سنة 576 بثغر الإسكندرية، ودفن في وعلة، وهي مقبرة داخل السور عندا الباب الأخضر، فيها جماعة من الصالحين؛ كالطرطوشي، وغيره. قلت: وجدت العلماء المحدِّثين بالديار المصرية، من جملتهم الحافظُ زكي الدين أَبو محمد، عبد العظيم بن عبد القوي المنذري محدثُ مصرَ في زمانه يقولون في مولد الحافظ السلفي هذه المقالة، ثم وجدت في كتاب "زهر الرياض المفصح عن المقاصد والأغراض" تأليف الشيخ جمال الدين أبي القاسم، عبدِ الرحمن بن أبي الفضل، عبد المجيد بن إسماعيل بن حفص الصفراوي الاسكندري: أن الحافظ أبا طاهر السلفيَّ المذكور، وهو شيخه، كان يقول: مولدي بالتخمين - لا باليقين - سنة 478، فيكون مبلغ عمره على مقتضى ذلك ثمانيا وتسعين سنة. هذا آخر ما قاله الصفراوي المذكور. ورأيت في تاريخ الحافظ محب الدين محمد بن محمود، المعروف بابن

8 - أبو بكر، أزهر بن سعد السمان، الباهلي بالولاء، البصري - رحمه الله تعالى -

النجار البغدادي، ما يدل على صحة ما قاله الصفراوي، وهو تلميذه، مع أننا ما علمنا أن أحدًا منذ ثلاث مئة سنة إلى الآن بلغ المئة، فضلًا عن أنه زاد عليها، سوى القاضي أبي الطيب، طاهرِ بنِ عبد الله الطبري؛ فإنه عاش مئة سنة وسنتين، ونسبته إلى جده إبراهيم. سِلَفَةَ - بكسر السين المهملة وفتح اللام والفاء وفي آخره الهاء -، وهو لفظ عجمي، ومعناه بالعربي: ثلاث شفاه؛ لأن شفته الواحدة كانت مشقوقة، فصارت مثل شفتين غير الأخرى الأصلية، والأصل فيه سلبه - بالباء -، فابدلت بالفاء. 8 - أَبو بكر، أزهر بن سعد السمان، الباهلي بالولاء، البصري - رحمه الله تعالى -. روى الحديث عن حُميد الطويل، وروى عنه أهل العراق، كان يصحب أبا جعفر المنصور قبل أن يلي الخلافة، فلما وليها، جاءه أزهر مهنئًا، فحجبه المنصور، فترصد له يومَ جلوسه العام، وسلم عليه، قال له المنصور: ما جاء بك؟ فقال: جئت مهنئًا بالأمر، فقال المنصور: أعطوه ألف دينار، وقولوا له: قد قضيتَ وظيفة الهناء، فلا تعد إلي، فمضى وعاد في قابل، فحجبه، فدخل عليه في مثل ذلك المجلس، وسلم عليه، فقال له: ما جاء بك؟ فقال: سمعت أنك مرضت، فجئتك عائدًا، فقال: أعطوه ألف دينار، وقولوا له: قد قضيتَ وظيفة العيادة، فلا تعدْ إليَّ؛ فإني قليل الأمراض، فمضى وعاد في قابل، فقال له في مثل ذلك المجلس: ما جاء بك؟ فقال: سمعت منك دعاء مستجابًا، فجئت لأتعلمه منك، فقال له: يا هذا! إنه غيرُ مستجاب، إني في كل سنة أدعو الله به ألا تأتيني، وأنت تأتي. وله وقائع وحكايات مشهورة. كانت ولادته سنة 111، وتوفي سنة 203، وقيل سبع ومئتين، وأزهرُ اسمُ علم، والسمان: - بتشديد الميم -، هذه النسبة إلى بيع السمن، وحملِه، والبصري: هذه النسبة إلى بصرة، وهي من أشهر مدن العراق، وهي إسلامية، بناها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في سنة 14 للهجرة على يد عتبة بن غزوان.

9 - أبو يعقوب، إسحاق بن أبي الحسن، إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله ابن مطر بن عبيد الله بن غالب بن عبد الوارث بن عبيد الله بن عطية بن كعب بن مرة بن كعب بن همام بن أسد بن مرة بن عمرو بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرة الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه

قال ابن قتيبة في كتاب "أدب الكاتب" في باب: ما تغير من أسماء البلاد: البصرة: الحجارة الرخوة، فإن حذفوا الهاء، قالوا: البِصْر - بكسر الباء -، وإنما أجازوا في النسب بِصْري؛ لذلك، والبصر: أيضًا الحجارة الرخوة، قاله في "الصحاح"، انتهى ملخصًا. 9 - أَبو يعقوب، إسحاق بن أبي الحسن، إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله ابن مطر بن عبيد الله بن غالب بن عبد الوارث بن عبيد الله بن عطية بن كعب بن مرة بن كعب بن همام بن أسد بن مرة بن عمرو بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرة الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه. جمع بين الحديث والفقه والورع، وكان أحد أئمة الإسلام، ذكره الدارقطني فيمن روى عن الشافعي - رضي الله عنه -، وعده البيهقي في أصحاب الشافعي، وكان قد ناظر الشافعي في مسألة: جواز بيع دور مكة، وقد استوفى الشيخ فخر الدين الرازي صورة ذلك المجلس الذي جرى بينهما في كتابه الذي سماه: "مناقب الإمام الشافعي"، فلما عرف فضله، نسخ كتبه، وجمع مصنفاته بمصر. قال أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: إسحق عندنا إمام من أئمة المسلمين، وما عبر الجسر أفقهُ من إسحق، وقال إسحق: أحفظ سبعين ألف حديث، وأذاكر بمئة ألف حديث، وما سمعت شيئًا قط إلا حفظته، ولا حفظت شيئًا قط فنسيته، وله مسند مشهور. وكان قد رحل إلى الحجاز والعراق واليمن والشام، وسمع من سفيان بن عيينة ومَنْ في طبقته، وسمع منه: البخاري، ومسلم، والترمذي. وكانت ولادته سنة 161، وقيل: سنة 163 - وقيل سنة 166، وسكن في آخر عمره نيسابور، وتوفي بها ليلة الخميس النصف من شعبان، وقيل: الأحد، وقيل: السبت سنة 238، وقيل: سبع وثلاثين ومئتين، وقيل: سنة 230. ورَاهْوَيْهْ - بفتح الراء وبعد الألف هاء ساكنة ثم واو مفتوحة وبعدها ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها هاء ساكنة -: لُقب أبيه أبي الحسن إبراهيم، وإنما لقب بذلك؛ لأنه ولد في طريق مكة، والطريق بالفارسية: رَاهْ، ووَيْه معناه: وُجد،

10 - أبو الطاهر، بركات بن الشيخ أبي إسحاق، إبراهيم بن الشيخ أبي الفضل، طاهر بن بركات بن إبراهيم بن علي بن محمد بن أحمد بن العباس بن هاشم الخشوعي الدمشقي الجبروتي الفرشي الرفاء الأنماطي

فكأنه: وجد في الطريق، وقيل فيه أيضًا: راهوُيَه - بضم الهاء وسكون الواو وفتح الياء -. وقال إسحاق المذكور: قال لي عبد الله بن طاهر أميرُ خراسان: لم قيل لك: ابن راهويه؟ وما معنى هذا؟ وهل تكره أن يقال لك هذا؟ قلت: اعلم أيها الأمير أن أبي ولد في الطريق، فقالت المراوزة: راهويه؛ لأنه ولد في الطريق، وكان أبي يكره هذا، وأما أنا، فلست أكره ذلك، ومَخْلَد - بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح اللام وبعدها دال مهملة، والحنظلي - بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الظاء المعجمة وبعدها لام -، هذه النسبة إلى حنظلة بن مالك -، ينسب إليه بطن من تميم. 10 - أَبو الطاهر، بركات بن الشيخ أبي إسحاق، إبراهيم بن الشيخ أبي الفضل، طاهر بن بركات بن إبراهيم بن علي بن محمد بن أحمد بن العباس بن هاشم الخشوعي الدمشقي الجبروتي الفرشي الرفاء الأنماطي. كان له سماعات عالية، وإجازات تفرد بها، وألحق الأصاغر بالأكابر؛ فإنه انفرد في آخر عمره بالسماع والإجازة من أبي محمد، هبة الله بن أحمد بن الأكفاني، وانفرد بالإجازة من أبي محمد القاسم الحريري البصري صاحب "المقامات" أجازه في سنة 512 من البصرة، وهو من بيت الحديث، حدث هو وأبوه وجده، وسئل أبوه: لِمَ سموا الخُشوعيين؟ فقال: كان جدنا الأعلى يؤم بالناس، فتوفي في المحراب، فسمي: الخشوعي، نسبة إلى الخُشوع. وكان مولد أبي الطاهر المذكور بدمشق في رجب سنة 510، وتوفي ليلة السابع والعشرين من صفر سنة 598 بدمشق، ودفن من الغد بباب الفراديس عند والده - رحمه الله -، وهو آخر من روى بالإجازة عن الحريري. والفُرْشي - بضم الفاء وسكون الراء -: نسبة إلى بيع الفُرش، والأنماطي: الذي يبيع الفرش أيضًا، والرفاء معروف، قال ابن خلكان: واجتمعت بجماعة من أصحاب أبي الطاهر المذكور، وسمعت عليهم، وأجازوني، ولقيت ولده

11 - أبو محمد، جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج، المعروف بالقاري البغدادي

بالديار المصرية، وكان يتردد إليّ في كثير من الأوقات، وأجازني جميع مسموعاته، وإجازاته من أبيه. 11 - أبو محمد، جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج، المعروف بالقاري البغدادي. كان حافظ عصره، وعلامة زمانه، وله التصانيف العجيبة، منها: كتاب "مصارع العشاق"، وغيره، حدَّث عن أبي علي بن شاذان، وأبي القاسم بن شاهين، والخلال والبرمكي، والقزويني، وابن غيلان، وغيرهم، وأخذ عنه خلق كثير، وروى عنه خلق كثير، وروى عنه الحافظ أَبو طاهر السلفي، وكان يفتخر بروايته، مع أنه لقي أعيان ذلك الزمان، وأخذ عنهم، وله شعر حسن، فمنه: بانَ الخليطُ فأَدْمُعي ... وَجْدًا عليهم تَسْتَهِلُّ وحَدا بهم حادي الفِرا ... قِ عن المنازلِ فاستقلُّوا قلْ للذين ترحَّلوا ... عن ناظري والقلبَ حَلُّوا ودَمي بلا جُرم أتيتُ ... غَداةَ بَيْنِهِمُ استحلُّوا ما ضَرَّهُم لو أَنْهَلُوا ... من ماءِ وصلِهم وعَلُّوا وله غير ذلك نظم جيد. وكانت ولادته إما في أواخر سنة 418، أو أوائل سنة 418. وذكر الشريف أَبو المعمر المبارك بنُ أحمد بنِ عبد العزيز الأنصاريُّ في كتاب "وفيات الشيوخ": أن مولده سنة ست عشرة ببغداد، وتوفي بها ليلة الأحد الحادي والعشرين من صفر سنة خمس مئة، ودفن بباب أبزر. 12 - أبو عبد الله، حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران التجيبي الزميلي المصري، صاحب الإمام الشافعي. كان أكثر أصحابه اختلافًا إليه، واقتباسًا منه، وكان حافظًا للحديث، وصنف "المبسوط"، و"المختصر"، وروى عنه: مسلم بن الحجاج، فأكثرَ في "صحيحه" من ذكره.

13 - أبو علي، الحسن بن محمد بن الصباح، الزعفراني، صاحب الإمام الشافعي - رضي الله عنهما -

ومولده في سنة 166، وتوفي ليلة الخميس لتسع بقين من شوال سنة 243 بمصر، وقيل: أربع وأربعين، والتُّجيبي: هذه النسبة إلى تُجيب، وهو اسم امرأة، فنسب إليها أولادُها، والزميلي - نسبة إلى زميل: وهو بطن من تُجيب، توفي حرملة بن عمران جدُّ حرملةَ المذكورِ في صفر سنة ستين ومئة، ومولده سنة ثمانين للهجرة - رحمه الله تعالى -. 13 - أَبو علي، الحسن بن محمد بن الصباح، الزعفراني، صاحب الإمام الشافعي - رضي الله عنهما -. برع في الفقه والحديث، وصنف فيهما كتبًا، وسار ذكره في الآفاق، ولزم الإمام الشافعي حتى تبحر، وكان يقول: أصحابُ الحديث كانوا رقودًا حتى أيقظهم الشافعي، وما حمل أحد محبرة إلا وللشافعيِّ عليه مِنَّة، وكان يتولى قراءة كتب الشافعي عليه. وسمع من سفيان بن عيينة، ومن في طبقته؛ مثل: وكيع بن الجراح، وعمرو بن الهيثم، ويزيد بن هارون، وغيرهم، وهو أحد رواة الأقوال القديمة عن الشافعي - رضي الله عنه -. ورواتها أربعة: هو، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، والكرابيسي. ورواة الأقوال الجديدة ستة: المزني، والربيع بن سليمان الجيزي، والربيع بن سليمان المرادي، والبويطي، وحرملة، ويونس بن عبد الأعلى. وروى عنه: البخاري في "صحيحه"، وأبو داود السجستاني، والترمذي، وغيرهم. توفي في سلخ شعبان، وقال ابن قانع: في شهر رمضان سنة 260، وذكر السمعاني في "كتاب الأنساب" أنه توفي في شهر ربيع الآخر سنة 249 - رحمه الله -. والزَعفراني - بفتح الزاي وسكون العين المهملة وفتح الفاء والراء وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى الزعفرانية، وهي قرية بقرب بغداد، والمحلة التي

14 - أبو علي، الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي البغدادي

ببغداد تسمى: درب الزعفراني منسوبةٌ إلى هذا الإمام؛ لأنه أقام بها. وقال الشيخ أَبو إسحاق الشيرازي في "طبقات الفقهاء": وفيه مسجد الشافعي، وهو المسجد الذي كنت أدرس فيه بدرب الزعفراني، ولله الحمد والمنة. 14 - أَبو علي، الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي البغدادي. صاحب الإمام الشافعي - رضي الله عنهما -، وأشهرهم بانتياب مجلسه، وأحفظهم لمذهبه. وله تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه، وكان متكلمًا عارفًا بالحديث، وصنف أيضًا في الجرح والتعديل وغيره، وأخذ عنه الفقه خلقٌ كثير. وتوفي سنة خمس، وقيل: ثمان وأربعين ومئتين، وهو أشبه بالصواب. والكرابيسي: نسبة إلى الكرابيس، وهي الثياب الغليظة، واحدها كِرْباس- بكسر الكاف -، وهو لفظ فارسي عُرِّب، وكان يبيعها، فنسب إليها. 15 - أَبو محمد، حسين بن مسعود بن محمد، المعروف بالفراء، البغوي. الفقيه الشافعي المحدِّث المفسِّر، كان بحرًا في العلوم، وأخذ الفقه عن القاضي حسين بن محمد. وصنف في تفسير كلام الله تعالى، وأوضح المشكلات من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى الحديث ودرّس، وكان لا يلقي الدرس إلا على الطهارة. وصنف كتبًا كثيرة، منها كتاب "التهذيب" في الفقه، وكتاب "شرح السنة" في الحديث، و"معالم التنزيل" في تفسير القرآن الكريم، وكتاب "المصابيح" (أي: مشكاة المصابيح)، و"الجمع بين الصحيحين"، وغير ذلك. وتوفي في شوال سنة 510 بمروروذ، ودفن عند شيخه القاضي حسين بمقبرة الطالقاني، وقبره مشهور هنالك. ورأيت في كتاب "الفوائد السفرية" التي جمعها الشيخ الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري: إنه توفي في سنة ست عشرة وخمس مئة، ومن خطه نقلت

16 - أبو عبد الله، الحسين بن الحسين بن محمد بن حليم الفقيه الشافعي، المعروف بالحليمي الجرجاني

هذا، والله أعلم، ونقل عنه أيضًا: أنه ماتت له زوجة، فلم يأخذ من ميراثها شيئًا، وأنه كان يأكل الخبز البحت، فعذل في ذلك، فصار يأكل الخبز مع الزيت. والفراء: نسبة إلى عمل الفِراء وبيعِها، والبَغَوي: نسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهراة يقال لها: بغ، وبَغْشُور - بفتح الباء وضم الشين -، وهذه النسبة شاذة على خلاف الأصل، قاله السمعاني في "كتاب الأنساب". 16 - أَبو عبد الله، الحسين بن الحسين بن محمد بن حليم الفقيه الشافعي، المعروف بالحليمي الجرجاني. ولد بجرجان سنة 338، وحمل إلى بخارى. وكتب الحديث: عن أبي بكر، محمدِ بن أحمد بن حبيب وغيره، وتفقه على أبي بكر الأودني، وأبي بكر القفال، ثم صار إمامًا معظمًا مرجوعًا إليه بما وراء النهر، وله في المذاهب وجوه حسنة، وحدَّث بنيسابور، وروى عنه الحافظ الحاكمُ وغيره. وتوفي في جمادى الأولى، وقيل: في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربع مئة - رحمه الله -، ونسبته إلى جده حليم المذكور. 17 - أَبو علي، الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الجياني الأندلسي، المحدث. كان إماماً في الحديث والأدب، وله كتاب مفيد سماه: "تقييد المهمل"، ضبط فيه كل لفظ يقع فيه اللَّبْس من رجال "الصحيحين"، وما قصر فيه، وهو في جزأين، وكان من جهابذة المحدثين، وكبار العلماء المفيدين، وكان حسن الخط، جيد الضبط، وكان له معرفة بالغريب والشعر والأنساب. وكان يجلس في جامع قرطبة، ويسمع منه أعيانها، قال ابن خلكان: ولم أقف على شيء من أخباره حتى أذكر طرفًا منها. وكانت ولادته في المحرم سنة 427، وطلب الحديث سنة 444، وتوفي ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 498.

18 - أبو سليمان، حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، الخطابي البستي

والجَيَّاني - بفتح الجيم -: نسبة إلى جَيَّان، وهي مدينة كبيرة بالأندلس، وبأعمال الري قرية يقال لها: جَيَّان أيضًا. 18 - أَبو سليمان، حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، الخطابي البستي. كان فقيهًا أَديبًا محدثًا، له التصانيف البديعة، منها: "غريب الحديث"، و"معالم السنن في شرح سنن أبي داود"، و"أعلام السنن في شرح البخاري"، و"كتاب الشجاج"، وكتاب "شأن الدعاء"، وكتاب "إصلاح غلط المحدثين"، وغير ذلك. سمع بالعراق أبا علي الصفار، وأبا جعفر الرزاز، وغيرهما، وروى عنه الحاكم أَبو عبد الله بن البَيِّع النيسابوريُّ، وعبد الغفار بن محمد الفارسي، وأبو القاسم، عبد الوهاب بن أبي سهل الخطابي، وغيرهم، وذكره صاحب "يتيمة الدهر"، وأنشد له: وما غُربةُ الإنسانِ في شُقَّةِ النوى ... ولكنَّها واللهِ في عَدَمِ الشَّكْلِ وإنِّي غريبٌ بينَ "بُسْتَ" وأهلِها ... وإن كانَ فيها أسرتي وبها أَهلي وأنشد له أيضًا: شرُّ السباعِ العوادي دونه وَزَرٌ ... والناسُ شَرّهم ما دونَه وَزَرُ كَمْ معشرٍ سَلِموا لم يؤذِهم سَبُعٌ ... وما ترى بَشَرًا لم يؤذِهِ بَشَرُ وأنشد له أيضًا - عفا الله عنه -: فسامِحْ ولا تستوفِ حقَّك كلَّه ... وأَبقِ فلِم يَسْتقص قَطُّ كريمُ ولا تَغْلُ في شيءٍ من الأمرِ واقتصدْ ... كِلا طَرَفَيْ قصدِ الأمورِ ذميمُ وذكر له أشياء غير ذلك، وكان يشبَّه في عصره بأبي عبيد القاسم بن سلام علمًا وأدبًا، وورعًا وزهدًا، وتدريسًا وتأليفًا. وكانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة 388 بمدينة "بُست" رح. والخَطَّابي - بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة -: نسبة إلى جده

19 - أبو القاسم، خلف بن عبد الملك بن مسعود ابن بشكوال بن يوسف، الخزرجي، الأنصاري، القرطبي

الخطاب المذكور، وقيل: إنه من ذرية زيد بن الخطاب، فنسب إليه، والله أعلم. والبُسْتي - بالضم -: نسبة إلى "بُسْت"، وهي مدينة من بلاد كابل بين هراة وغزنة، كثيرة الأشجار والأنهار، وقد سُمع في اسم أبي سليمان: أحمد أيضًا، بإثبات الهمزة، والصحيح الأول. قال الحاكم أَبو عبد الله، محمدُ بنُ البَيِّع: سألتُ أبا القاسم المظفرَ بنَ طاهر بنِ محمد البستي الفقيه، عن اسم أبي سليمان الخطابي: أحمد، أو حمد؛ فإن بعض الناس يقول: أحمد، فقال: سمعته يقول اسمي الذي سميت به: حمد، ولكن الناس كتبوا: أحمد، فتركته عليه، وقال أَبو القاسم: أنشدنا أَبو سليمان لنفسه: ما دُمْتَ حَيًّا فدارِ الناسَ كلَّهم ... فإنما أنتَ في دارِ المُداراةِ من يَدْرِ دارَى ومن لم يدرِ سوف يُرى ... عَمَّا قليل نديمًا للنَّداماتِ 19 - أَبو القاسم، خلفُ بن عبد الملك بن مسعود ابن بشكوال بن يوسف، الخزرجيُّ، الأنصاريُّ، القرطبيُّ. كان من علماء الأندلس، وله التصانيف المفيدة، منها: كتاب "الصلة" الذي جعله ذيلًا على "تاريخ علماء الأندلس"، تصنيف القاضي أبي الوليد، عبد الله، المعروف بابن الفرضي، وقد جمع فيه خلقًا كثيرًا، وله تاريخ صغير في أحوال الأندلس، وما أقصر فيه، وكتاب "الغوامض والمبهمات" ذكر فيه من جاء ذكره في الحديث مبهمًا، فعينه ونسج فيه على منوال الخطيب البغدادي، في كتابه الذي وضعه على هذا الأسلوب، وجزء لطيف ذكر فيه من روى "الموطأ" عن مالك بن أنس، ورتب أسماءهم على حروف المعجم، فبلغت عدتهم ثلاثة وسبعين رجلًا، ومجلد لطيف سماه كتاب "المستغيثين بالله تعالى عند المهمات والحاجات والمتضرعين إليه سبحانه بالرغبات والدعوات، وما يسر الله الكريم لهم من الإجابات والكرامات"، وله غير ذلك من المصنفات. وكان مولده يوم الإثنين ثالث، وقيل: ثامن ذي الحجة سنة 494، وتوفي ليلة الأربعاء لثمان خلون من شهر رمضان سنة 578 بقرطبة، ودفن يوم الأربعاء

20 - أبو عمرو، خليفة بن خياط بن أبي هبيرة، خليفة بن خياط الشيباني العصفري البصري، المعروف بشباب صاحب "الطبقات"

بعد صلوة الظهر، بمقبرة ابن عباس - بالقرب من قبر يحيى بن يحيى - رحمه الله تعالى -. 20 - أَبو عمرو، خليفة بن خياط بن أبي هبيرة، خليفة بن خياط الشيباني العصفري البصري، المعروف بشباب صاحب "الطبقات". كان حافظًا عارفًا بالتواريخ وأيام الناس، غزير الفضل. روى عنه: محمد بن إسماعيل البخاري في "صحيحه"، و"تاريخه"، وعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، وأبو يعلى الموصلي، والحسن بن سفيان النسري في آخرين، وروى هو: عن سفيان بن عيينة، وأبي داود الطيالسي، ودرست بن حمزة، وتلك الطبقة. توفي في شهر رمضان سنة 230، وقال الحافظ ابن عساكر - في "معجم مشايخ الأئمة الستة": إنه توفي سنة 240، وقيل: سنة 246 - رحمه الله - والعُصْفُري - بالضم -: نسبة إلى العُصفر الذي يُصبغ به الثياب حمرًا، وشباب: اختلفوا في تلقيبه بذلك لأي معنى هو. 21 - أَبو سليمان، داود بن علي بن خلف الأصبهاني، الإمام المشهور المعروف بالظاهري. كان زاهدًا متقللًا، كثيرَ الورع. أخذ العلم عن إسحق بن راهويه، وأبي ثور، وغيرهما، وكان من أكثر الناس تعصبًا للإمام الشافعي، وصنف في فضائله والثناء عليه كتابين، وكان صاحب مذهب مستقل، وتبعه جمع كثير يعرفون بالظاهرية، وكان ولده أَبو بكر محمدٌ على مذهبه، وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد، وهو إمام أصحاب الظاهر. قال أَبو عبد الله المحاملي: صليت صلاة عيد الفطر في جامع المدينة، وقلت: أدخل على داودَ بن عليٍّ فأهنئه، فجئته، وإذا بين يديه طبق فيه أوراق هندبا، وعصارة فيها نخالة، وهو يأكل - فهنأته، وعجبت من حاله، ورأيتُ أن جميع ما في الدنيا ليس بشيء، فخرجتُ من عنده، ودخلت على رجل من محبي

الصَّنيعة، يقال له: الجرجاني، فخرج إليَّ حاسر الرأس حافيَ القدمين، وقال لي: ما عنى القاضي؟ قلت: مهم، قال: ما هو؟ قال: في جوارك داود بن علي، ومكانه من العلم ما تعلمه، وأنت كثيرُ الصلة والرغبة في الخير تغفل عنه، وحدثته بما رأيت، فقال: داودُ شرسُ الخلق، وجهتُ إليه البارحة بألف درهم ليستعين بها، فردها عليّ، وقال للغلام: قل له: بأي عين رأيتني؟ وما الذي بلغك من حاجتي وخُلَّتي حتى بعثت إليّ بهذا؟ فعجبتُ، وقلتُ له: هات الدراهم، فإني أحملها إليه، فدفعها إليّ، وقال للغلام: ائتني بكيس آخر، فوزن ألفًا أخرى، وقال: تلك لنا، وهذه لعناية القاضي، فأخذت له الألفين وجئت إليه، فقرعت الباب، ودخلتُ، وجلستُ ساعة، ثم أخرجت الدراهم، وجعلتها بين يديه، فقال: هذا جزاء من ائتمنك على سره، أنا بأمانة العلم، أدخلتك إليّ، ارجع فلا حاجة لي فيما معك، قال المحاملي: فرجعتُ وقد صَغُرَتِ الدنيا في عيني، وأخبرت الجُرجَاني، فقال: إني قد أخرجت هذه الدراهم لله تعالى، فلا ترجع في مالي، فليتولَّ القاضي إخراجَها في أهل البِرِّ والعفاف. قيل إنه كان يحضر مجلسه كل يوم: أربعُ مئة صاحب طيلسان أخضر. قال داود: حضر مجلسي يومًا أَبو يعقوب الشريطي، وكان من أهل البصرة، وعليه خرقتان، فتصدَّر لنفسه من غير أن يرفعه أحد، وجلس إلى جانبي، وقال لي: سلْ يا فتى عمَّا بدا لك، فكأني غضبتُ منه، فقلتُ له مستهزئًا: أسألك عن الحجامة؟ فبرك أَبو يعقوب، ثم روى طريق: "أفطر الحاجم والمحجوم"، ومن أرسلَه ومن أسندَه، ومن وقفه، ومن ذهب إليه من الفقهاء، وروى اختلاف طريق احتجام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإعطاء الحجام أجره، ولو كان حرامًا لم يعطه، ثم روى طرق: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم بقرن"، وذكر أحاديث صحيحة في الحجامة، ثم ذكر الأحاديث المتوسطة، مثل "ما مررت بملأ من الملائكة"، ومثل: "شفاء أمتي في ثلاث"، - وما أشبه ذلك، وذكر الأحاديث الضعيفة، مثل: قوله - عليه السلام -: "لا تحتجموا يوم كذا، ولا ساعة كذا"، ثم ذكر ما ذهب إليه أهلُ الطبِّ من الحجامة في كل زمان، وما ذكروه فيها، ثم ختم كلامه - بأن قال: وأول ما خرجتِ الحجامةُ من أصبهان، فقلت له: واللهِ! لا حقرتُ بعدَك أحدًا أبدًا.

22 - أبو محمد، الربيع بن سليمان بن داود بن الأعرج الأزدي بالولاء، لمصري "الجيزي"

وكان داود من عقلاء الناس، قال أَبو العباس ثعلب في حقه: كان عقلُ داود أكثر من علمه، وكان يقول: خيرُ الكلام ما دخل الأذنَ بغير إذن. وكان مولده بالكوفة سنة اثنتين ومئتين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: ستة ومئتين، ونشأ ببغداد، وتوفي بها سنة سبعين ومئتين في ذي القعدة، وقيل: في شهر رمضان، ودفن بالشوينزية، وقيل في منزله. وقال ولده أَبو بكر محمد: رأيت أبي داودَ في المنام، فقلتُ له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وسامحني، فقلت: غفر لك، فبم سامحك؟ فقال: يا بني! الأمر عظيم، والويل كل الويل لمن لم يُسَامَح. رحمه الله، وأصله من أصبهان، والله أعلم. 22 - أَبو محمد، الربيع بنُ سليمان بن داود بن الأعرج الأزديُّ بالولاء، لمصريُّ "الجيزي". صاحبُ الإمام الشافعي، لكنه قليل الرواية عنه، وإنما روى عن عبد الله بن الحكم كثيرًا، وكان ثقة، روى عنه أَبو داود، والنسائي. قيل: إنه اجتاز يومًا بمصر، فطُرحت عليه إجّانة رماد، فنزل عن دابته، وجعل ينفضه عن ثيابه، ولم يقل شيئًا، فقيل له: ألا تزجرُهم؟ فقال: من استحق النار، وصولح بالرماد، فقد ربح. توفي في ذي الحجة سنة 256 بالجيزة، وقبره بها، كذا قاله القضاعي في "الخطط"، والجيزة: بليدة في قبالة مصر - رحمه الله تعالى -. 23 - أَبو عبد الله الزبير بن بكار، وكنيته: أَبو بكر، من آل الزبير بن العوام القرشي، الأسدي. كان من أعيان العلماء، وتولى القضاء بمكة - حرسها الله تعالى -. وصنف الكتب النافعة، منها كتاب "أنساب قريش"، وقد جمع فيه شيئًا كثيرًا، وعليه اعتمادُ الناس في معرفة نسب القرشيين، وله غيرُه مصنفات دلت

24 - أبو محمد، زياد بن عبد الله بن طفيل بن عامر، القيسي، العامري، من بني عامر بن صعصعة، ثم من بني البكاء

على اطلاعه وفضله، روى عن: ابن عيينة ومَنْ في طبقته، وروى عنه: ابن ماجه القزويني، وابن أبي الدنيا، وغيرهما. توفي بمكة وهو قاض عليها ليلة السبع، وقيل: لتسع ليال بقين من ذي القعدة سنة 256، وعمره أربع وثمانون سنة - رحمه الله تعالى -. 24 - أَبو محمد، زيادُ بن عبد الله بن طفيل بن عامر، القيسيُّ، العامريُّ، من بني عامر بن صعصعة، ثم من بني البكاء. روى سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن محمد بن إسحق، ورواها عنه: عبد الملك بن هشام الذي رتبها، ونُسبت إليه، والبكائي المذكور كوفيٌّ. وكان صدوقًا ثقة، خرَّج عنه البخاري: في كتاب: الجهاد، ومسلم في مواضع من كتابه، وذكر البخاري في "تاريخه" عن وكيع: أنه قال: زياد أشرفُ من أن يكذب في الحديث، ووهم الترمذي، فقال في كتابه: عن البخاري، قال، قال وكيع: زيادُ بنُ عبد الله على شرفه يكذب في الحديث، وهذا وهم، ولم يقل وكيع فيه إلا ما ذكره البخاري في "تاريخه"، ولو رماه وكيع بالكذب، ما خرَّج البخاري عنه حديثًا واحدًا، ولا مسلمٌ، كما لم يخرجا عن الحارث الأعور لما رماه الشعبي بالكذب، ولا عن أبان بن عباس لما رماه شعبة بالكذب، وروى زياد عن: الأعمش، وروى عنه: أحمد بن حنبل، وغيره - رضي الله عنهم -. وكانت وفاة أبي محمد المذكور في سنة 183 بالكوفة. والبكَّائي - بفتح الموحدة وتشديد الكاف -: نسبة إلى البكَّاء، واسمه: ربيعةُ بنُ عامر بن صعصة، وسمي البكا بخبر يسمج ذكره. 25 - أم المؤيد، زينب، وتدعى: حرة أيضًا، بنت أبي القاسم، عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبدوس الجرجانيُّ الأصل، النيسابوريُّ الدار، الصوفي، المعروف بالشعري. كانت عالمة، وأدركت جماعة من أعيان العلماء، وأخذت عنهم رواية وإجازة.

26 - أبو بكر، سالم بن عياش بن سالم، الخياط، الأسدي، الكوفي

سمعَتْ من أبي محمد إسمعيل بن أبي القاسم بن أبي بكر النيسابوري القاري، وأبي القاسم، زاهر، وأبي بكر، وجيه ابني طاهر الشحاميين، وأبي المظفر، عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري، وأبي الفتوح، عبد الوهاب بن شاه الشاذياخي، وغيرهم، وأجاز لها الحافظُ أَبو الحسن، عبدُ الغافر بنُ إسمعيل بن عبد الغافر الفارسي، والعلامة أَبو القاسم، محمودُ بنُ عمرَ الزمخشريُّ صاحب "الكشاف"، وغيرُهما من السادات الحفاظ. قال ابن خلكان: ولنا منها إجازةٌ كتبتها في بعض شهور سنة عشر وست مئة، ومولدي يوم الخميس بعد صلوة العصر حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ثمان وستمئة بمدينة أربل، بمدرسة سلطانها الملك المعظم مظفر الدين - رحمه الله -. ومولد زينب المذكورة، سنة أربع وعشرين وخمس مئة بنيسابور، وتوفيت سنة خمس عشرة وست مئة في جمادى الآخرة بمدينة نيسابور - رحمها الله تعالى -. 26 - أَبو بكر، سالم بن عياش بن سالم، الخياط، الأسديُّ، الكوفيُّ. كان من أرباب الحديث، والعلماء المشاهير، وهو أحد راوي القراءات عن عاصم، وهو مولى واصل بن حيان الأحدب، ذكر أَبو العباس المبرِّدُ في "الكامل"، قال: قال أَبو بكر بن عياش: أصابتني مصيبة آلمتني، فذكرت قولَ ذي الرُّمَّة: لَعَلَّ انحدارَ الدمع يُعْقِبُ راحةً ... من الوَجْدِ، أو يَشفي نَجِيَّ البِلابلِ فخلوت بنفسي، وبكيت، فاسترحت، وله أخبار وحكايات كثيرة. وقيل: اسمه كنيته، وقيل: شعبة، والله أعلم، وروي عنه: أنه قال: لما كنت شاباً، وأصابتني مصيبة، تجلدت لها، ودفعت البكاء بالصبر، فكان ذلك يؤذيني ويؤلمني، حتى رأيت أعرابيًا بالكناسة، وهو واقف على نجيب له ينشد شعرًا: خليليَّ عُوجا من صُدورِ الرواحل ... بمهجورِ حَزْوَى فابْكِيا في المنازِلِ لعلَّ انحدارَ الدمعِ يُعقبُ راحةً ... من الوجدِ، أو يشفي نَجِىَّ البلابِلِ

27 - أبو زيد، سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد، الأنصاري، اللغوي، البصري

فسألتُ عنه، فقيل لي: ذو الرمة، فأصابني بعد ذلك مصائب، فكنت أبكي، فأجد لذلك راحة، فقلت: قاتل الله الأعرابيَّ ما كان أبصرَه! وكانت وفاته بالكوفة في سنة 193 بعد الرشيد بثمانية عشر يومًا، وعمره ثمان وتسعون سنة. وعياش - بالفتح وتشديد الياء -. 27 - أَبو زيد، سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد، الأنصاري، اللغويُّ، البصريُّ. كان من أئمة الأدب، وغلبت عليه اللغة والنوادر والغرائب، وكان يرى رأي القَدَر، وكان ثقة في روايته، وله في الأدب مصنفات مفيدة، وحكى بعضهم: أنه كان في حلقة شعبة بن الحجاج، فضجر من إملاء الحديث، فرمى بطرفه، فرأى أبا زيد الأنصاري في أخريات الناس، فقال: يا أبا زيد! شعر: استَعْجَمتْ دارُ ميٍّ ما تُكَلِّمُنا ... والدارُ لو كَلَّمَتْنا ذاتُ أَخبارِ إليّ يا أبا زيد! فجاءه، فجعلا يتحدثان ويتناشدان الأشعار، فقال له بعض أصحاب الحديث: يا أبا بسطام! نقطع إليك ظهورَ الإبل لنسمعَ منك حديثَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فتدعنا وتُقبل على الأشعار! قال: فغضب شعبةُ غضبًا شديدًا، ثم قال: يا هؤلاء! أنا أعلمُ بالأصلح لي، أنا والله الذي لا إله إلا هو! في هذا أسلمُ مني في ذاك. وكانت وفاته بالبصرة في سنة 215، وقيل: سنة 214، وقيل: سنة 216، وعُمِّر عمرًا طويلًا حتى قارب المئة، وقيل: عاش ثلاثًا وتسعين سنة، وقيل: خمسًا وتسعين، وقيل: ستًا وتسعين - رحمه الله -. 28 - أَبو عبد الله، سفيان بنُ سعيد بنِ مسروق بنِ حبيب رافع الثوريُّ الكوفيُّ. كان إمامًا في علم الحديث وغيره من العلوم. وأجمع الناس على دينه، وورعه، وزهده، وثقته، وهو أحد الأئمة

29 - أبو محمد، سفيان بن عيينة" بن أبي عمران ميمون الهلالي، مولى امرأة من بني هلال بن عامر، رهط ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: مولى بني هاشم، وقيل غير ذلك

المجتهدين، ويقال: إن الشيخ أبا القاسم الجنيد كان على مذهبه على اختلاف فيه. قال سفيان بن عيينة: ما رأيت رجلًا أعلمَ بالحلال والحرام من سفيانَ الثوريِّ. سمعَ الحديث من أبي إسحقَ السَّبيعيِّ، والأعمش، ومَنْ في طبقتهما، وسمع منه الأوزاعيُّ، وابن جريج، ومحمد بن إسحق، ومالك، وتلك الطبقة. قال المسعودي: في "مروج الذهب": قال المهدي: اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على ألا يعترض عليه في حكم، فكتب عهده، ودفع إليه، فأخذه وخرج، فرمى به في دجلة، وهرب، فطُلب في كل بلد فلم يوجد، ولما امتنع من قضاء الكوفة، وتولاه شريك بن عبد الله النخعي، قال الشاعر: تَحَرَّزَ سفيانٌ وَفَرَّ بدينِهِ ... وأَمْسى شريكٌ مَرْصَدًا للدَّراهِمِ وحكي عن أبي صالح شعيب بن حرب المدائني، وكان أحد السادة الأئمة الأكابر في الحفظ والدين: أنه قال: إنني لأحسب يجاء بسفيان الثوري في القيامة حجةً من الله على الخلق، يُقال لهم: لم تدركوا نبيكم - عليه أفضل الصلاة والسلام -، فلقد رأيتم سفيان الثوري، ألا اقتديتم به؟ مولده في سنة 95، وقيل: ست، وقيل: سبع وتسعين للهجرة، وتوفي بالبصرة سنة 161 متواريًا من السلطان، ودفن عشاء، ولم يُعقّب، والثوريُّ: نسبة إلى ثورِ بن عبد مناة، وثمَّ ثوريٌّ آخرُ من بني تميم، وثوريٌّ آخر بطن من همدان. 29 - أَبو محمد، سفيان بن عيينة" بن أبي عمران ميمون الهلاليُّ، مولى امرأة من بني هلال بن عامر، رهطِ ميمونة زوجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: مولى بني هاشم، وقيل غير ذلك. كان إمامًا عالمًا ثبتًا زاهدًا ورعًا، مجمعًا على صحة حديثه وروايته، حج سبعين حجة، روى عن: الزهري، وأبي إسحق السَّبيعي، وعمرو بن دينار،

30 - أبو محمد، سليمان بن مهران مولى بني كاهل، من ولد أسد، المعروف بالأعمش الكوفي

ومحمد بن المنكدر، وأبي الزناد، وعاصم، والأعمش، وغير هؤلاء من أعيان العلماء. وروى عنه: الإمام الشافعيُّ، وشعبةُ بن الحجاج، ومحمدُ بن إسحق، وابنُ جريج، والزبيرُ بن بكار، وعمُّه مصعَب، وعبد الرزاق، وخلق كثير. قال الشافعي: ما رأيت أحدًا فيه من آلة الفتيا ما في سفيان، وما رأيت أكفَّ منه عن الفتيا. قال سفيان: دخلت الكوفة، ولم يتم لي عشرون سنة، فقال أَبو حنيفة لأصحابه ولأهل الكوفة: جاءكم حافظ علم عمرو بن دينار، قال: فجاء الناس يسألوني عن عمرو بن دينار، فأول من صيرني محدِّثًا: أَبو حنيفة، فذاكرته، فقال لي: يا بني! ما سمعت من عمرو إلا ثلاثة أحاديث - يضطرب في حفظ تلك الأحاديث. ومولد سفيان بالكوفة في منتصف شعبان سنة 107، وتوفي يوم السبت آخر يوم من جمادى الآخرة، وقيل أول يوم من رجب سنة 198 بمكة، ودُفن بالحَجون. 30 - أَبو محمد، سليمان بنُ مِهرانَ مولى بني كاهلٍ، من ولد أسدٍ، المعروفُ بالأعمش الكوفيُّ. الإمام المشهور، كان ثقة عالمًا فاضلًا، وكان أبوه من دنباوند، وقدم الكوفة، وامرأته حاملٌ بالأعمش، فولدته بها. قال السمعاني: وهو لا يعرف بهذه النسبة، بل يعرف بالكوفي، وكان يقارن بالزهري في الحجاز، ورأى أنسَ بنَ مالك، وكلمه، لكن لم يرزق السماع عليه، وما يرويه عن أنس فهو إرسال أخذه عن أصحاب أنس. وروى عن: عبد الله بن أبي أوفى حديثًا واحدًا، ولقي كبار التابعين، وروى عنه: سفيانُ الثوري، وشعبةُ بنُ الحجاج، وحفصُ بن غياث، وخلق كثيرٌ من جلة العلماء. وكان لطيف الخلق، مزَّاحًا، جاءه أصحاب الحديث يومًا ليسمعوا عليه،

31 - أبو داود، سليمان بن الأشعث بن إسحق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران، الأزدي السجستاني

فخرج إليهم، وقال: لولا أن في منزلي من هو أبغضُ إليَّ منكم، ما خرجتُ إليكم. وقال له داود بن عمر الحائك: ما تقول في الصلاة خلف الحائك؟ فقال: لا بأس بها على غير وضوء، فقال له: ما تقول في شهادة الحائك؟ فقال: تقبل مع عدلين. ويقال: إن الإمام أبا حنيفة - رحمه الله - عاده يومًا في مرضه، فطوَّل القعودَ عنده، فلما عزم على القيام، قال له: ما كأني إلا ثقلت عليك، فقال: والله! إنك لثقيلٌ عليّ وأنت في بيتك. وعاده أيضًا جماعة، فأطالوا الجلوس عنده، فضجر منهم، فأخذ وسادته وقام، وقال: شفى الله مريضَكم بالعافية. وقيل عنده يومًا: قال - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن قيام الليل، بال الشيطان في أذنه"، فقال: ما عمشت عيني إلا من بول الشيطان في أذني. وكانت له نوادر كثيرة. وقال أَبو معاوية الضرير: بعث هشامُ بنُ عبد الملك إلى الأعمش أن: اكتبْ لي مناقبَ عثمان، ومساوىء علي بن أبي طالب، فأخذ الأعمشُ القرطاس في فم شاة، فلاكَتْها، وقال لرسوله: قل له: هذا جوابك، فقال له الرسول: إنه قد آلى أن يقتلني إن لم آتِه بجوابك، وتحمل عليه بإخوانه، فقالوا له: يا أبا محمد! نَجِّه من القتل، فلما ألحوا عليه، كتب له: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أما بعد: يا أمير المؤمنين! فلو كانت لعثمان مناقبُ أهل الأرض، ما نفعتك، ولو كانت لعلي - رضي الله عنه - مساوىء أهل الأرض، ما ضرتك، فعليك بخوَيِّصة نفسك، والسلام. مولده سنة 60 للهجرة، وتوفي سنة 148 في شهر ربيع الأول، قال زائدة بن قدامة: تبعتُ الأعمشَ يومًا، فأتى المقابرَ، فدخل في قبر محفورٍ، فاضطجعَ فيه، ثم خرج منه وهو ينفضُ التراب عن رأسه، ويقول: واضيقَ مسكناه! 31 - أَبو داود، سليمانُ بنُ الأشعث بن إسحق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران، الأزديُّ السجستانيُّ. أحدُ حفاظ الحديثِ وعلمِه وعللِه، وكان في الدرجة العالية من النسك والصلاح، طوَّف البلاد، وكتب عن العراقيين، والخراسانيين، والشاميين،

والمصريين، والجزريين، وجمعَ كتاب "السنن" قديمًا، وعرضه على الإمام أحمد بن حنبل رح، فاستجاده، واستحسنه، وعدَّه الشيخ أَبو إسحق الشيرازيُّ في "طبقات الفقهاء" من جملة أصحاب الإمام أحمد بن حنبل. وقال إبراهيم الحربي لما صنف أَبو داود كتابَ "السنن": أُلين لأبي داودَ الحديثُ كما أُلين لداود الحديد، وكان يقول: كتبتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس مئة ألف حديث، انتخبتُ منها ما ضمَّنته هذا الكتابَ؛ يعني: "السنن"، جمعت فيه أربعة آلاف وثمانَ مئة حديث، ذكرت الصحيحَ وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسانَ لدينه من ذلك أربعةُ أحاديث. 1 - أحدها: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات". 2 - والثاني: قوله "من حُسْنِ إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه". 3 - الثالث: قوله: "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه". 4 - والرابع: قولُه: "الحلالُ بَيِّنٌ، والحرامُ بينٌ، وبينَ ذلك أمورٌ مشتبهات" الحديث بكماله. وجاء سهلُ بنُ عبدِ الله التُّسْتَريُّ، فقيل له: يا أبا داود! هذا سهلُ بنُ عبد الله قد جاءك زائرًا، قال، فرحَّبَ به وأجلَسَه، فقال له: يا أبا داود! لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: حتى تقولَ: قضيتُها مع الإمكان، قال: قد قضيتُها مع الإمكان، قال: أخرج لسانَك الذي حدَّثْتَ به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أُقبله، قال: فأخرج لسانه، فقبله. وكانت ولادته في سنة 202، وقدم بغداد مرارًا، ثم نزل إلى البصرة، وسكنها، وتوفي بها يوم الجمعة منتصفَ شوال سنة 275 - رحمه الله -. وكان ولده أَبو بكر، عبدُ الله بنُ أبي داود سليمان من أكابرِ الحفاظ ببغداد، عالمًا متفَقًا عليه إمامٌ بنُ إمام، وله كتاب "المصابيح"، وشارك أباه في شيوخه بمصر والشام، وسمع ببغداد، وخراسان، وأصبهان، وسجستان، وشيراز.

32 - أبو القاسم، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني

توفي سنة 316، واحتجَّ به ممن صنف الصحيح، أبو علي الحافظُ النيسابوريُّ، وابن حمزة الأصبهانيُّ. والسجستاني - بكسر السين المهملة والجيم وسكون السين الثانية وفتح التاء المثناة من فوقها وبعد الألف نون - هذه النسبة إلى سجستانَ الإقليمِ المشهور، وقيل: بل نسبته إلى سجستان، أو سجستانة: قرية من قرى البصرة. 32 - أَبو القاسم، سليمانُ بنُ أحمدَ بن أيوبَ بنِ مطيرٍ اللخميُّ الطبرانيُّ. كان حافظَ عصره، رحلَ في طلب الحديث من الشام إلى العراق والحجاز واليمن ومصر وبلاد الجزيرة الفراتية، وأقام في الرحلة ثلاثًا وثلاثين سنة، وسمع الكثير، وعدد شيوخه ألفُ شيخ. وله المصنفاتُ الممتعة النافعة الغريبة، منها: المعاجم الثلاثة: "الكبير"، و"الأوسط"، و"الصغير"، وهي أشهر كتبه، وروى عنه: الحافظ أَبو نعيم، والخلق الكثير. مولده سنة ستين ومئتين بطبرية الشام، وسكن أصبهان إلى أن توفي بها يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة 360، وعمره تقديرًا مئة سنة، وقيل: إنه توفي في شوال، والله أعلم، ودفن إلى جانب حمة الدوسي - صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والطبراني - بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة والراء، وبعد الألف نون - هذه النسبة: إلى طبرية، والطبريُّ نسبة إلى طبرستان. واللخميُّ - بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة وبعدها ميم -، هذه النسبة: إلى لخم، واسمه: مالكُ بنُ عَدِيّ، وهو أخو جذام، ومُطَير: تصغيرُ مَطَر. 33 - أَبو الوليد، سليمانُ بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي المالكي الأندلسيُّ الباجيُّ. كان من أكابر علماء الأندلس وحفاظها، سكن شرق الأندلس، ورحل إلى المشرق سنة ست وعشرين وأربع مئة ونحوها، فأقام بمكة مع أبي ذر الهروي

ثلاثة أعوام، وحج فيها أربع حجج، ثم رحل إلى بغداد، فأقام بها ثلاثة أعوام يدرس الفقه، ويقرأ الحديث، ولقي بها سادة من العلماء؛ كأبي الطيب الطبري الفقيه الشافعي، والشيخ أبي إسحق الشيرازي صاحب "المهذب"، وأقام بالموصل مع أبي جعفر السمناني عامًا يدرس عليه الفقهَ، وكان مقامه بالمشرق نحو ثلاثة عشر عامًا، وروى عن الحافظ أبي بكر الخطيب، وروى الخطيب أيضًا عنه، قال: أنشدني أَبو الوليد الباجي - رحمه الله - لنفسه: إذا كنتُ أعلمُ علمًا يقينًا ... بأنَّ جميعَ حياتي كساعَه فَلِمْ لا أكونُ ضَنينًا بِها ... وأَجعلُها في صلاحٍ وطاعهْ وصنف كتبًا كثيرة، منها: كتاب "المنتقى"، وكتاب "التعديل والتجريح فيمن روى عنه البخاري في "الصحيح"، وغير ذلك، وهو أحد أئمة المسلمين، وكان يقول: سمعت أبا ذر عبدَ بنَ أحمد الهروي يقول: لو صحت الإجازة، لبطلت الرحلة. وكان قد رجع إلى الأندلس، وولي القضاء هناك. ومولده يوم الثلاثاء النصف من ذي القعدة سنة 403 بمدينة بَطْلَيَوْسَ. وتوفي بالمَرِيَّة ليلة الخميس بين العشاءين تاسع عشر رجب سنة 474، ودفن بالرباط على ضفة البحر، وصلَّى عليه ابنه القاسم. وأخذ عنه أَبو عمرو بنُ عبد البَرِّ صاحبُ كتاب "الاستيعاب"، وبينه وبين أبي محمد بن حزم المعروفِ بالظاهري مجالسُ ومناظراتٌ وفصول، يطولُ شرحُها. والباجي: نسبة إلى باجة، وهي مدينة بالأندلس، وثمَّ باجةٌ أخرى، وهي مدينة بأفريقية، وباجةُ أخرى، وهي قرية من قرى أصبهان. وذكر له المَقَّرِيُّ في "نفح الطيب" ترجمةً حافلة جليلة، وقال: ولعمري! إنه لم يوفَّ القاضي الباجيُّ حقَّه الواجبَ المفترض، ووددتُ أنه مُدَّ النفسُ في ترجمته بعبارة يعترف ببراعتها من سلَّم له ومن اعترض، قال: ومن تواليفه:

34 - فخر النساء شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج بن عمر الابري، الكاتبة الدينورية الأصل، البغدادية المولد والوفاة

"المنتقى في شرح الموطأ" ذهب فيه مذهبَ الاجتهاد وإيرادِ الحجج، وهو مما يدلُّ على تَبَحُّره في العلوم والفنون. 34 - فخر النساء شهدة بنتُ أبي نصر أحمدَ بنِ الفرج بنِ عمرَ الابريِّ، الكاتبةُ الدِّينَوَرِيَّةُ الأصل، البغداديةُ المولد والوفاة. كانت من العلماء، وكتبت الخط الجيد، وسمع عليها خلقٌ كثير، وكان لها السماعُ العالي، ألحقت فيها الأصاغرَ بالأكابر، سمعت من أبي الخطاب نصرِ بن أحمدَ، وفخرِ الإسلامِ أبي بكر محمدِ بنِ أحمد الشاشيِّ، واشتُهر ذكرها، وبَعُدَ صيتُها. كانت وفاتها يوم الأحد بعد العصر ثالث عشر المحرم سنة أربع وسبعين وخمس مئة. 35 - أَبو عبد الرحمن، عبد الله بنُ المبارَك بنِ واضحٍ المروزيُّ، مولى بني حنظلةَ. كان قد جمع بين العلم والزهد، وتفقه على سفيان الثوري، ومالك بن أنس - رضي الله عنهما -، وروى عنه "الموطأ"، وكان كثيرَ الإنقطاع، محبًا للخلوة، شديدَ التورُّع. ونقل أَبو علي النسائي الجَيَّاني: أن عبد الله بنَ المباركُ سئل: أيُّما أفضلُ معاويةُ بن أبي سفيان، أم عمرُ بنُ عبد العزيز؟ فقال: والله! إن الغبارَ الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ من عمرَ بألفِ مرةٍ، صلَّى معاوية خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سمعَ الله لمن حمده، فقال معاوية: "ربنا لك الحمدُ"، فما بعد هذا؟ وكان لعبد الله شعرٌ فمن ذلك قوله شعر: قَدْ يفتحُ المرءُ حانوتًا لمَتْجَرِهِ ... وقد فتحتَ لكَ الحانوتَ بالدينِ بينَ الأساطينِ حانوتٌ بلا غلقٍ ... تبتاعُ بالدين أموالَ المساكين صَيَّرْتَ دينكَ شاهينًا تصيدُ به ... وليسَ يُفلح أصحابُ الشواهينِ

36 - أبو محمد، عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث بن رافع، الفقيه المالكي المصري

ومن كلامه: تعلَّمنا العلم للدنيا، فدلَّنا على ترك الدنيا. توفيِ بِهيت - بالكسر -: مدينة على الفرات فوق الأنبار، من أعمال العراق، سنة 181، وقيل: سنة 182، وقبره ظاهر بها يُزار. قال ابن خلكان: وقد جمعت أخبارَه في جزأين. 36 - أَبو محمد، عبدُ الله بنُ عبد الحكم بنِ أعين بن ليث بن رافع، الفقيهُ المالكيُّ المصريُّ. كان أعلمَ أصحاب مالك بمختلِف قوله، وأفضَتْ إليه رئاسةُ الطائفة المالكية بعد أشهب، وروى عن مالك "الموطأ" سماعًا، وكان من ذوي الأموال والرباع، له جاه عظيم، وقدر كبير، وكان يزكِّي الشهودَ ويجرحهم، ومع هذا لم يشهد ولا أحد من ولده لدعوة سبقت فيه، ذكر ذلك القضاعيُّ في كتاب "خطط مصر"، قال بشر بن بكر: رأيت مالكَ بن أنس في النوم بعدَ ما ماتَ بأيام، فقال: إن ببلادكم رجلًا يقال له: ابنُ عبدِ الحكم، فخذوا عنه؛ فإنه ثقة. كانت ولادته في سنة 150، أو سنة 155، وتوفي في رمضان سنة 214 بمصر، وقبرُه إلى جانب قبر الإمام الشافعي مما يلي القبلة - رحمه الله تعالى -. 37 - أَبو محمد، عبد الله بن وهب بن مسلم، القرشيُّ بالولاء. كان أحدَ أئمة عصره، صحبَ الإمام مالكَ بنَ أنس عشرين سنة. وصنف "الموطأ الكبير"، و"الموطأ الصغير"، وقال مالكٌ في حقه: إمامٌ أدرك من أصحاب ابن شهاب الزهري أكثرَ من عشرين رجلًا. مولده في سنة 125، وقيل: سنة 124 بمصر، وتوفي بها يوم الأحد لخمس بقين من شعبان سنة 197، وقبره مختلف فيه. وله مصنفات في الفقه معروفة، وكان محدِّثًا، قال يونسُ بنُ عبد الأعلى صاحبُ الشافعي: كتب الخليفة إليه في قضاء مصر، فخبأ نفسه، ولزم بيته، فاطلع عليه أسدُ بن سعد، وهو يتوضأ في صحن داره، فقال له: ألا تخرجُ إلى الناس فتقضي بينهم بكتاب الله وسنة رسوله؟ فرفع إليه رأسه، وقال: إلى هنا

38 - أبو عبد الرحمن، عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي، الغافقي، المصري

انتهى عقلُك، أما علمت أن العلماء يُحشرون مع الأنبياء، وأن القضاة يُحشرون مع السلاطين؟! وكان عالمًا صالحًا، خائفًا لله تعالى، وسبب موته: أنه قرىء عليه كتاب "الأهوال" من جامعه، فأخذه شيء كالغشي، فحُمل إلى داره، فلم يزل كذلك إلى أن قضى نحبه. 38 - أَبو عبد الرحمن، عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي، الغافقيُّ، المصريُّ. كان مكثرًا من الحديث والأخبار والرواية. قال محمد بن سعد في حقه: إنه كان ضعيفًا، ومن سمعَ منه في أول أمره أقربُ حالًا ممَّن سمع منه في آخر عمره، وكان يقرأ عليه ما ليس من حديثه، فيسكت، فقيل له في ذلك، فقال: ما ذنبي؟ إنما يجيئوني بكتاب يقرؤونه عليّ، ويقومون، ولو سألوني، لأخبرتهم أنه ليس من حديثي. توفي بمصر سنة 174، وعمره إحدى وثمانون سنة - رحمه الله تعالى -. وكان أَبو جعفر المنصور ولاَّه القضاء بمصر، وهو أول قاضٍ ولي بمصر من قبل الخليفة، ثم صُرف عن القضاء، وهو أول قاضٍ حضر لنظر الهلال في شهر رمضان، واستمر القضاة عليه إلى الآن. 39 - أَبو عبد الرحمن، عبدُ الله بنُ مسلمةَ بنِ قعنبٍ الحارثيُّ، المعروفُ بالقعنبي. كان من أهل المدينة، وأخذ العلم والحديث عن الإمام مالك، وهو من جلة أصحابه وفضلائهم وثقاتهم وخيارهم، وهو أحد رواة "الموطأ" عنه، فإن "الموطأ" رواه عن مالك جماعةٌ، وبين الروايات اختلافٌ، وأكملها رواية يحيى بن يحيى كما سيأتي. وكان يسمى: الراهب؛ لعبادته وفضله، قال الهيثم: كنا إذا أتينا عبدَ الله بنَ مسلمة، خرج إلينا كأنه مشرفٌ على جهنم - نعوذ بالله منها -، وكان يسكن البصرة.

40 - أبو محمد، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي، صاحب كتاب "المعارف"

وتوفي يوم الجمعة من محرم سنة إحدى وعشرين ومائتين بالبصرة، وقال ابن بشكوال: بمكة. 40 - أَبو محمد، عبد الله بنُ مسلم بن قتيبة الدَّينوريُّ، وقيل: المروزيُّ، صاحبُ كتاب "المعارف". كان فاضلا ثقة، سكن بغداد، وحدَّث بها عن إسحق بن راهويه، وأبي حاتم السجستاني، وتلك الطبقة، وروى عنه: ابنه أحمد، وابن دُرُستويه. تصانيفه كلها مفيدة، منها: "غريب القرآن"، و"غريب الحديث"، و"مشكل القرآن"، و"مشكل الحديث". توفي سنة سبعين، وقيل: إحدى وسبعين، وقيل: ست وسبعين ومئتين، والأخير أصحُّ الأقوال، وكانت وفاته فجأة، صاح صيحة سُمعت من بعد، ثم أُغمي عليه، فمات. وقُتيبة: واحدةُ الأقتاب، والأقتاب: الأمعاء، وبها سُمي الرجل، والنسبة إليه قُتَبي. والدِّينوري - بالكسر -: نسبة إلى دِينَوَر، وهي بلدةٌ من بلاد الجبل عند قرميسين، خرج منها خلق كثير. 41 - أَبو محمد، عبدُ الله بن جعفر بنِ درستويه بنِ المرزبان الفارسيُّ الفسويُّ النَّحْوِيُّ. كان عالمًا فاضلًا، أخذ فنَّ الأدب عن ابن قتيبة المتقدِّم ذكرُه، وعن المُبَرِّدِ، وغيرهما ببغداد، وأخذ عنه جماعة من الأفاضل؛ كالدارُقطنيِّ، وغيره. وكانت ولادته سنة 258، وتوفي يوم الإثنين لتسع بقين من صفر، وقيل: لست بقين منه سنة 347 ببغداد - رحمه الله -، وكان أبوه من كبار المحدِّثين وأعيانِهم. وتصانيفه في غاية الجودة والإتقان، منها كتاب "غريب الحديث". 42 - أَبو محمد، عبد الله بنُ القاسم بنِ المظفرِ بنِ عليٍّ الشهرزوريُّ، المنعوتُ بالمرتضى والدُ القاضي كمال الدين. كان مشهورًا بالفضل، والدين، وكان مليحَ الوعظ، مع الرشاقة والتجنيس.

43 - أبو الوليد، عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر، الأزدي الأندلسي القرطبي، المعروف بـ "ابن الفرضي"

أقام ببغداد مدة يشتغل بالحديث والفقه، ثم رجع إلى الموصل، وتولى بها القضاء، وروى الحديث، وله شعر رائق. ولادته في شعبان سنة 465، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وخمس مئة بالموصل، وقيل: توفي بعد سنة 520، قاله السمعاني. 43 - أَبو الوليد، عبدُ الله بنُ محمدِ بن يوسفَ بن نصر، الأزديُّ الأندلسيُّ القرطبيُّ، المعروفُ بـ "ابن الفرضي". كان فقيهًا عالِمًا في فنون علم الحديث وعلمِ الرجال، والأدبِ البارع، وغير ذلك. وله من التصانيف كتاب حسنٌ في "المختلِف والمؤتلِف"، وفي "مُشتبِه النسبة". ورحل من الأندلس إلى المشرق في سنة 382، فحج، وأخذ عن العلماء وسمع منهم، وكتب من أماليهم. ومن شعره: أَسيرُ الخطايا عندَ بابكَ واقفُ ... على وَجَلٍ، ممَّا به أنتَ عارفُ يخافُ ذنوبًا لم يغبْ عنك غيبُها ... ويرجوك فيها فهوَ راجٍ وخائفُ ومَنْ ذا الذي يرجو سواكَ ويَتَّقي ... وما لَكَ في فصلِ القضاءِ مُخالِفُ فيا سيدي! لا تُخْزني في صَحيفتي ... إذا نشُرت يومَ الحسابِ الصحائفُ وكُنْ مونسي في ظلمةِ القبرِ عندَ ما ... يصدُّ ذوو القربى ويجفو الموالِفُ لئنْ ضاقَ عني عفوُك الواسعُ الذي ... أُرجي لإسرافي فإنِّي لتَالِفُ ومن شعره: إنَّ الذي أصبحتُ طوعَ يميِنه ... إن لَمْ يكنْ قمرًا فليسَ بدونِهِ ذُلِّي له في الحبِّ من سلطانِه ... وسقامُ جسمي من سَقامِ جفونِهِ وله شعر كثير. مولده في ذي القعدة سنة 351، وتولَّى القضاء بمدينة بَلَنْسِيَةَ، وقتلته البربر يوم فتح قرطبة، وهو يوم الإثنين لستٍّ خلونَ من شوال سنة 403 - رحمه الله -

44 - أبو محمد، عبد الله بن علي بن عبد الله بن خلف بن أحمد بن عمر اللخمي، المعروف بالرشاطي الأندلسي المري

وبقي في داره ثلاثة أيام، ودُفن متغيرًا من غير غسل ولا كفن ولا صلاة. وروي أنه قال: تعلقت بأَستار الكعبة، وسألت الله الشهادة، ثم انحرفتُ وفكرت في هول القتل، فندمتُ، وهممت أن أَرجع فأَستقيلَ اللهَ سبحانه ذلكَ، فاستحييت. وأخبر مَنْ رآه بين القتلى، ودنا منه، فسمعه يقول بصوت ضعيف: "لا يُكْلَم أحدٌ في سبيل الله، واللهُ أعلمُ بمَنْ يُكْلَم في سبيله، إلا جاءَ يومَ القيامة وجُرحُهُ يَثْعَبُ دمًا، اللونُ لونُ الدم، والريحُ ريحُ المسك"، كأنه يعيدُ على نفسه الحديثَ الوارد في ذلك، قال: ثم مضى على أثر ذلك، وهذا الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه". ذكر له المَقَّرِيُّ في "نفح الطيب" ترجمتَه، وأورد له أشعارًا، وساق في كتاب "المطمح" حكاية شهادته. قال: كان حافظًا عالمًا كَلِفًا بالرواية، رحل في طلبها، وتبحَّر في المعارف بسببها مع حظٍّ من الأدب كثيرٍ، واختصاص بنظيمٍ ونَثيرٍ، وقد عرّف به ابن حيان في "المقتبس"، وذكر قصة شهادته - رحمه الله -. 44 - أبو محمد، عبدُ الله بنُ عليِّ بنِ عبد الله بنِ خلف بنِ أحمدَ بن عمر اللَّخميُّ، المعروف بالرَّشاطيِّ الأندلسيُّ المريُّ. كانت له عناية كثيرة بالحديث والرجال والرواة والتواريخ، وله كتاب حسن، سماه: كتاب "اقتباس الأنوار، والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار"، أخذه الناس عنه، وأحسن فيه، وجمع وما أقصر، وهو على أسلوب كتاب أبي سعيد السمعاني الحافظ الذي سماه بـ "الأنساب"، وتوفي شهيدًا بالمَرِيَّةِ عند تغلُّب العدو عليها صبيحةَ يوم الجمعة العشرين من جمادى الأولى سنة 542. والرشاطي: هذه النسبة ليست إلى قبيلة، ولا إلى بلد، بل ذكر في كتابه المذكور: أن أحد أجداده كانت في جسمه شامة كبيرة، وكانت له خادمة عجمية تحضنه في صغره، فإذا لاعبته، قالت له: رشاطة، وكثر ذلك منها، فقيل له: الرشاطي.

45 - أبو محمد، عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار المقدسي

45 - أَبو محمد، عبد الله بنُ أبي الوحش بري بن عبد الجبار المقدسيُّ. الإمام المشهورُ في علم النحو واللغة، والرواية والدراية. كان علامة عصره، وحافظَ وقته، ونادرة دهره، اطلَّع على أكثر كلام العرب، وله كتاب على "كتاب الصحاح" للجوهري، وحواش فائقة، أتى فيها بالغرائب، واستدرك عليه فيها مواضع كثيرة، وهي دالة على سَعَة علمه، وغزارةِ مادته، وعظم اطلاعه، وصحبه خلقٌ كثير اشتغلوا عليه، وانتفعوا به. قال ابن خِلَّكان: ولقيتُ بمصرَ جماعةَ من أصحابه، وأخذت عنهم روايةً وإجازةً، ويحكى أنه كانت فيه غَفلة، ولا يتكلَّف في كلامه، ولا يتقيد بالإعراب، بل يسترسل في حديثه كيف ما اتفق، حتى قال يومًا لبعض تلامذته ممن يشتغل عليه بالنحو: اشترِ لي قليل هندبا بعروقو، فقال له التلميذ: هندبا بعروقه؟ فعزَّ عليه كلامُه، وقال: لا تأخذه إلا بعروقو، وإن لم يكن بعروقو، فما أُريده، وكانت له ألفاظ من هذا الجنس لا يكترث بما يقوله، ولا يتوقف على إعرابها، وله جزء لطيف في أغاليط الفقهاء. كانت ولادته بمصر سنة تسع وتسعين وأربع مئة، وتوفي سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة. وبَرّي - بالفتح وتشديد الراء -: اسم علم يشبه النسبة. 46 - أَبو عمرو، عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعيُّ، إمام أهل الشام. لم يكن بالشام أعلمُ منه، قيل: إنه أجاب في سبعين ألف مسألة. وكان يسكن بيروت، سمع من الزهري، وعطاء، وروى عنه الثوري، وأخذ عنه عبد الله بن المبارك وجماعة كثيرة. كانت ولادته ببعلبك سنة 88 للهجرة، وقيل: سنة 93، وكان فوقَ الربعة، خفيفَ اللحية، به سمرة، وكان يخضب بالحناء. توفي سنة 157 بمدينة بيروت، وأهل القرية لا يعرفونه، ويقولون: ها هنا

47 - أبو الفرج، عبد الرحمن بن أبي الحسن، علي بن محمد بن علي بن عبد الله، من بني محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - القرشي التيمي البكري البغدادي، الفقيه الحنبلي الواعظ، الملقب: جمال الدين الحافظ

رجل صالح ينزل عليه النور، ولا يعرفه إلا الخواص من الناس، ورثاه بعضهم بقوله: جادَ الحَيا بالشام كُلَّ عشيةٍ ... قبرًا تضمَّن لحدُه الأوزاعي قبرٌ تضمَّن فيه طودُ شريعةٍ ... سَقيًا له من عالم نَفَّاعِ عُرضت له الدنيا فأَعرض مُقْلِعًا ... عنها بزُهدٍ أَيَّما إقلاعِ ذكر الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق": أن الأوزاعي دخل الحمام ببيروت، وكان لصاحب الحمام شغل، فاغلق الحمام عليه، وذهب، ثم جاء ففتح الباب، فوجده ميتًا، قد وضع يده اليمنى تحت خده، وهو مستقبل القبلة. وقيل: إن امرأته فعلت ذلك، ولم تكن عامدة لذلك، فأمرها سعيدُ بن عبد العزيز بعتق رقبة. والأوزاع: بطنٌ من ذي الكلاع من اليمن، وقيل: بطن من همدان، وقيل: قرية بدمشق. وبيروت: بليدة بساحل الشام، أخذها الفرنج من المسلمين في سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة. 47 - أبو الفرج، عبدُ الرحمن بنُ أبي الحسن، عليِّ (¬1) بنِ محمد بن علي بن عبد الله، من بني محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - القرشيُّ التيميُّ البكريُّ البغداديُّ، الفقيه الحنبليُّ الواعظ، الملقبُّ: جمال الدين الحافظ. كان علامة عصره، وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ، صنف في فنون عديدة، وله في الحديث تصانيفٌ كثيرة. وله "الموضوعات" في أربعة أجزاء، ذكر فيها كل حديث موضوع. وبالجملة: كتبُه أكثرُ من أن تعد، وكتب بخطه شيئًا كثيرًا، والناس يغالون في ذلك حتى يقولون: إنه جمعت الكراريس التي كتبها، وحسبت مدة عمره، وقسمت الكراريس على المدة، فكان ما خص كل يوم تسع كراريس، وهذا شيء لا يكاد يقبله العقل، ويقال: إنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث ¬

_ (¬1) ابن الجوزي: عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (508 - 597 هـ - 1114 - 1201 م).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحصل منها شيء كثير، وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته، ففعل ذلك، فكفت، وفضل منها، وله أشعار كثيرة. وكانت له في مجلس الوعظ أجوبة نادرة، فمن أحسن ما يحكى عنه: أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي - رضي الله عنهما -، فرضي الكل بما يجيب به الشيخ أبو الفرج، فأقاموا شخصًا سأله عن ذلك، وهو على الكرسي في مجلس وعظه، فقال: أفضلُهما من كانت ابنتُه تحتَه، ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك. فقال السنية: هو أبو بكر؛ لأن ابنته عائشة تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالت الشيعة: هو علي بن أبي طالب؛ لأن فاطمة بنتَ رسول الله تحته. وهذه من لطائف الأجوبة، ولو حصل بعد الفكر التام وإمعان النظر، كان في غاية الحسن، فضلًا عن البديهة، وله محاسن كثيرة يطول شرحها. كانت ولادته بطريق التقريب سنة 508، أو سنة 510. وتوفي ليلة الجمعة ثاني عشر رمضان سنة 597 ببغداد، ودفن بباب حرب. والجوزي: نسبة إلى فرضة الجوز، وهو موضع مشهور. وفي "طبقات ابن رجب": الحافظُ المفسرُ الفقيهُ الواعظ الأديب، شيخُ وقته وإمام عصره، ابن الجوزي، اختُلف في هذه النسبة، وفي سنة مولده وذكرها، وقال: لما ترعرع حملته أمه إلى مسجد الحافظ ابن ناصر، فاعتنى به، وأُسمع الحديث، وحفظ القرآن، وقرأه على جماعة من أئمة القراء، وسمع بنفسه الكثير، وعني بالطلب. قال ابن الجوزي: كنت ألازم من الشيوخ أعلمَهم، وأوثر من أرباب النقل أفهمَهم، فكانت همتي تجويد العدد، لا تكثير العدد، انتهى. قال ابن رجب: ووعظ وهو صغير جدًا، وأخذ في التصنيف والجمع، ونظر في جميع الفنون، وألف فيها، وكان أكثر علومه يستفيدها من الكتب، وعظم شأنه في ولاية الوزير ابن هبيرة، وكان يتكلم عنده في داره كل جمعة، قال:

فتكلمت، وكان يحزر جمع مجلسي على الدوام بعشرة آلاف، أو خمسة عشر ألفًا، قال: وظهر أقوام يتكلمون بالبدع ويتعصبون، فأعانني الله سبحانه عليهم، وكانت كلمتنا هي العليا. قال ابن رجب: وكان الشيخ يُظهر في مجالسه مدحَ السنة، والإمام أحمد وأصحابه، ويذمُّ من خالفهم، قال يومًا على المنبر: أهلُ البدع تقول: ما في السماء أحد، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، ثلاث عورات لكم. وقيل له مرة: قَلِّلْ من ذكر أهل البدع مخافة الفتن، فأنشد، شعر: أَتوبُ إليك يا رحمنُ مِمَّا ... جنيتُ فقد تعاظَمَتِ الذنوبُ وأما مِنْ هَوى ليلى وتركي ... زيارَتَها فإني لا أتوبُ وقال له قائل: ما فيك عيب إلا أنك حنبلي، فأنشد: وعَيَّرَني الواشونَ أني أُحبُّها ... وتلكَ شكاةٌ ظاهر عنك عارُها ثم قال: هذا عيبي، ولا عيبَ في وجه نقط صفحته بالخال، وأنشد: ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم ... بِهِنَّ فُلولٌ من قِراعِ الكتائبِ وكتب إليه رجل في رقعة: والله ما أستطيع أراك، فقال: أعمش وشمس! كيف يراها؟! ثم قال: إذا خلوتُ في البيت، غرستُ الدر في أرض القراطيس، وإذا جلست للناس، دفعت بدرياق العلم سموم الهوى، أحميكم عن طعام البدع، وتأبون إلا التخليط، والطبيب مبغوض. قال: وانتهى تفسيري للقرآن في المجلس على المنبر إلى أن تم، فسجدت على المنبر سجدة الشكر، وقلت: ما عرفت أن واعظًا فسر القرآن كله في مجلس الوعظ منذ نزل القرآن، ثم ابتدأت يومئذ في ختمة، أفسرها على الترتيب، واللَّه قادر على الإنعام والإتمام، والزيادة من فضله. وكانت الخلفاء والسلاطين يحضرون مجالس وعظي، وأما سائر الناس، فلا تسأل عنهم؛ فقد حُزر الجمع بمئة ألف وزيادة، وتاب خلق كثير، قال: وتقدم الخليفة بعمل لوح ينصب على قبر الإمام أحمد، وفي رأسه مكتوب: هذا قبر تاج

السنة، وحيد الأمة، العالي الهمة، العالم العابد، الفقيه الزاهد، الورع المجاهد، العاملِ بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال: وبنى للشيخ أبي الفتح بن المنِّي دكة في موضع جلوسه في الجامع، فتأثر أهل المذاهب من ذلك، وجعل الناس يقولون لي: هذا بسببك - فإنه ما ارتفع هذا المذهب عند السلطان - حتى مال إلى الحنابلة - إلا بسماع كلامك، فشكرت الله على ذلك. قال: وقد تاب على يدي أكثر من مئة ألف، وصار لي اليوم مئة وخمسون مصنفًا، ولم ير واعظ مثل جمعي، فقد حضر مجلسي: الخليفة، والوزير، وصاحب المخزن، وكبار العلماء، والحمد لله على نعمه. وسمع المستضيء بالله ابنَ الجوزي ينشد تحت داره شعر: ستنقلُك المنايا عن ديارِكْ ... ويُبدِلُك الردى دارًا بدارِكْ وتتركُ ما عُنيت به زمانًا ... وتُنقل من غناك إلى افتقارِكْ فدودُ القبرِ في عينيك يرعى ... وترعى عينُ غيرِك في ديارِك فجعل أمير المؤمنين يمضي في قصره، ويقول: أي والله! "وترعى عين غيرك في ديارك"، ويكررها، ويبكي حتى الليل. وحاصل الأمر: أن مجالسه الوعظية لم يكن لها نظير، ولم يسمع بمثلها، وكانت عظيمة النفع، يتذكر بها الغافلون، ويتعلم منها الجاهلون، ويتوب فيها المذنبون، ويسلم فيها المشركون، ويتسنن فيها المبتدعون. قال ابن الجوزي: ولا يكاد يُذكر لي حديث إلا ويمكنني أن أقول: صحيح، أو حسن، أو محال. قال سبطُه أبو المظفر: أقلُّ ما كان يحضر مجلسه عشرُة آلاف، وربما حضر عنده مئة ألف، وسمعته يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بإصبعيَّ هاتين ألفي مجلدة، وتاب على يدي مئة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني. قال: وكان يختم القرآن في كل سبعة أيام، وما مازح أحدًا قط، ولا لعب مع

صبي، ولا أكل من جهة لا يتبين حلها، وما زال على ذلك الأسلوب حتى توفاه الله تعالى. وقال الإمام ناصح الدين بن الحنبلي: اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع في غيره، وكانت مجالسه الوعظية جامعة للحسن والإحسان باجتماع طراق بغداد وانضياف الناس، وحسن الكلمات المسجعة، والمعاني المودعة، والألفاظ الرابحة، وقراءة القرآن بالأصوات المرجعة، والنغمات المطربة، وصيحات الواجدين، ودمعات الخاشعين، وإنابة النادمين، وذل التائبين، والإحسان بما يفاض على المستمعين من رحمة أرحم الراحمين. ولا سافر إلا إلى مكة، ولقد كان جمالًا لأهل بغداد خاصة، وللمسلمين عامة، ولمذهب أحمد منه ما لحضرة القدس من القدس. قال ابن الدبيثي في "ذيله على تاريخ ابن السمعاني": إليه انتهت معرفة الحديث وعلومه، والوقوف على صحيحه من سقيمه، وله من المسانيد والأبواب والرجال ومعرفة ما يحتج به في أبواب الأحكام والفقه، وما لا يحتج به من الأحاديث الواهية والموضوعة والانقطاع والاتصال، وله في الوعظ العبارة الرائقة، والإشارة الفائقة، والمعاني الدقيقة، والاستعارة الرشيقة، وكان من أحسن الناس كلامًا، وأتمهم نظامًا، وأعذبهم لسانًا، وأجودهم بيانًا، وبورك له في عمره وعلمه، فروى الكثير، وسمع منه الناس أكثر من أربعين سنة، وحدث بمصنفاته مرارًا. وقال الموفق عبد اللطيف: كان ابن الجوزي لطيفَ الصوت، حلوَ الشمائل، رخيمَ النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المفاكهة، يحضر مجلسه مئة ألف أو يزيدون، لا يضيع من زمانه شيئًا، يكتب في اليوم أربعة كراريس، ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدًا إلى ستين، وله في كل علم مشاركة، لكنه كان في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفاظ، وفي التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كافٍ، وأما السجع الوعظي، فله فيه ملكة قوية، إن ارتجل أجاد، وإن روى أبدع.

وله في الطب كتاب "اللقط"، وكان يراعي حفظ صحته، وتلطيف مزاجه، وما يفيد عقله قوة، وذهنه حدة، جل غذاءه الفراريخ والمزاوير، ويعتاض عن الفاكهة بالأشربة والمعجونات، ولباسه أفضل لباس: الأبيض الناعم المطيب. ونشأ يتيمًا على العفاف والصلاح، وله ذهن وَقَّاد، وجوابٌ حاضر، ومجون لطيف، ومداعبات حلوة لا ينفك من جارية حسناء. وذكر غير واحد أنه شرب حب البلادر، فسقطت لحيته، فكانت قصيرة جدًا، وكان يخضبها بالسواد، وصنف في جواز الخضاب بالسواد مجلدًا. وذكره ابن البزوري في "تاريخه"، وأطنب في وصفه، فقال: أصبح في مذهبه إمامًا يشار إليه، ويعقد الخنصر في وقته عليه، بنى لنفسه مدرسة، ووقف عليها كتبه، برع في العلوم، وتفرد بالمنثور والمنظوم، وفاق على أدباء عصره، وعلا على فضلاء دهره. له التصانيف العديدة، سئل عن عددها، فقال: زيادة على ثلاث مئة وأربعين مصنفًا، منها ما هو عشرون مجلدًا، ومنها ما هو كراس واحد، ولم يترك فنًا من الفنون إلا وله فيه مصنف، كان واحدَ زمانه، وما أظنُّ الزمان يسمح بمثله، وكان إذا وعظ، اختلس القلوب، وشقق النفوس دونَ الجيوب. وذكره العماد الكاتب في "الخريدة"، وابن خلكان، والحموي، وابن النجار، وأبو شامة، وغيرهم، وأثنوا عليه، مع أن اشتهاره بالعلوم والفضائل يغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره، فقد بلغ ذكرُه مبلغَ الليل والنهار، وسارت بتصانيفه الركبانُ إلى أقطار الأرض. وقال ابن النجار: له حظ من الأذواق الصحيحة، ونصيب من شرب حلاوة المناجاة. وقد ذكر ابن القادسي: أنه كان يقوم الليل، ولا يكاد يفتر عن ذكر الله، ورأى ربَّ العزة في منامه ثلاث مرات، ومع هذا، فللناس فيه - رحمه الله - كلام من وجوه: منها: كثرة أغلاطه في تصانيفه، وعذرُه في هذا واضح، وهو أنه مكثر من التصانيف؛ فيصنف الكتاب ولا يعتبره، بل يشتغل بغيره، ولولا ذلك، لم

تجتمع له هذه المصنفات الكثيرة، ومع هذا، فكان تصنيفه في فنون من العلوم بمنزلة الاختصار من كتب في تلك العلوم. ولهذا نقل عنه أنه قال: أنا مرتِّب، ولست بمصنِّف، ومنها: ما يوجد في كلامه من التأوه والترفع والتعاظم وكثرة الدعاوى، ولا ريب أنه كان عنده من ذلك طرف، والله يسامحه، ومنها: ميله إلى التأويل في بعض كلامه، واشتد نكيرهم عليه في ذلك. وأثنى عليه الشيخ موفق الدين المقدسي، وقال: كان حافظًا للسنة، إلا أننا لم نرض تصانيفه ولا طريقته. وكان شيخه ابن ناصر يثني عليه كثيرًا، وقال: نفعه الله بعلمه ونفع به، وبلغه لغاية العمر لينفعَ المسلمين، وينصر السنَّة وأهلَها، ويدحض البدع وحزبَها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كان الشيخ أبو الفرج متفننًا كثيرَ التصانيف، له مصنفات في أمور كثيرة، حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف. ورأيت له بعد ذلك ما لم أره، وله من التصانيف في الحديث وفنونه، ما قد انتفع به الناس وهو كائن من أجود فنونه، انتهى. له جزء في "مناقب أصحاب الحديث" مجلد، وفي "موت الخضر" مجلد. ومن لفظ كلامه الحسن في المجالس، قال يومًا - وقد طرب أهل مجلسه -: فَهِمتُهم فَهُمتُم. وقال يومًا: شهوات الدنيا أنموذج، والأنموذج يعرض ولا يقبض. وسأله رجل: أيُّما أفضل! أُسبح أو أستغفر؟ فقال: الثوبُ الوسخ أحوجُ إلى الصابون من البخور. ومن كلامه: من قنع، طاب عيشه، ومن طمع، طال طيشه. وسئل كيف ضرب عمر - رضي الله عنه - بالدرة الأرض؟ قال: الخائن خائف، والبَري جَري. وقال: الدنيا دار الإله، والمتصرف في الدار بغير أمر صاحبِها لِصّ.

وسأله سائل: هل يجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي؟ فقال: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها، فلا تشغلها بالملاهي بلاهي. وقال في قول فرعون: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51]، قال: افتخر بنهر ما أجراه، ما أجراه! وسئل يومًا: ما تقول في الغناء؟ فقال: أقسم بالله لهوَ لهوٌ. وقال يومًا: ما عز يوسف إلا بترك ما ذلَّ به ما عِز. وقرىء بين يديه يومًا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] فقال: هذا والله! توقيع بخراب البيوت. وقال يومًا في مناجاته: إلهي! لا تعذب لسانًا يُخبر عنك، ولا عينًا تنظر في علوم تدل على مناجاتك، ولا قدمًا تمشي إلى خدمتك، ولا يدًا تكتب حديث رسولك، فبعزتك لا تدخلْني النار، فقد علم أهلُها أني كنت أذبُّ عن دينك، وارحمْ عبرةً تترقرق على ما فاتها منك، وكبدًا تحترق على بعدِها منك، إلهي! علمي بفضلك يطمعني فيك، ويقيني بسطوتك لا يؤيسني منك، كلما رفعت ستر الشوق إليك، مسكه الحياء منك، إلهي! لك أَذِلُّ، وبك أُذِل، وعليك أدل، وأنشد: أَحْيا بذكرك ساعةً وأموتُ ... لولا التعلُّلُ بالمُنى لَفَنيتُ وله أشعار حسنة كثيرة. قال أبو شامة: قيل: إنها عشر مجلدات، قال: وأنشدنا لنفسه: سلامٌ على الدار التي لا تزورُها ... على أن هذا القلبَ فيها أسيرُها إذا ما ذكرنا طِيبَ أيامِنا بها ... تَوقَّدُ في نفس الذكور سعيرُها رحلْنا وفي سرِّ الفؤاد ضمائرٌ ... إذا هبَّ نجديُّ الصَّبا يستثيرُها محتْ بعدكم تلك العيونُ دموعَها ... فهل من عيون بعدَها نستعيرُها أتنسى رياض الروض بعدَ فراقها ... وقد أخذ الميثاقَ منك غديرُها يجعّده مرُّ الشّمال وتارةً ... يُغازله كرُّ الصَّبا ومرورُها ألا هل إلى شَمِّ الخُزامى وعَرْعَرٍ ... وشيح بوادي الأثلِ أرضٌ نزورُها ألا أيّها الركبُ العراقيُّ بَلِّغوا ... رسالةَ محزون حَوَتْه سطورُها

إذا كتبتْ أنفاسُه بعضَ وجدِها ... على صفحةِ الذكرى محاه زفيرُها ترفَّقْ رفيقي هل بدتْ نارُ أرضِهم ... أم الوجدُ يُذْكى نارَه ويثيرُها أَعِدْ ذكرَهم فهو الشفاءُ، وربما ... شفى النفسَ أمرٌ ثم عادَ يضيرُها ألا أين أزمانُ الوصال التي خلتْ ... وحَلّت خَلَت خَلَّت وحالَ مريرُها سقى الله أيامًا مضتْ ولياليًا ... تَضَوَّع رَيَّاها وفاحَ عبيرُها وقرأ عليه جماعة، منهم: طلحة العلثي، وأبو عبد الله بن تيمية خطيبُ حران، وذكر في أول تفسيره أنه قرأ عليه كتابه "زاد المسير في التفسير" قراءة بحث ومراجعة، وسمع الحديث وغيره من تصانيف خلق لا يحصون كثرة من الأئمة والحفاظ والفقهاء. وروى عنه خلق، منهم: ابنه محيي الدين، وسبطه أبو المظفر الواعظ، والشيخ موفق الدين، والحافظ عبد الغني، وابن القطيعي، وابن النجار، وابن عبد الدائم، وعبد اللطيف الحراني، وهو خاتمة أصحابه بالسماع، وروى عنه آخرون بالإجازة، وقد نالته المحنة في آخر عمره، وحديثُها يطول، وأنشد في مجلس: اللَّهَ أسألُ أن يطوِّلَ مدَّتي ... وأنالَ بالإنعام ما في نِيَّتي لي هِمَّةٌ في العلم، ما من مثلِها ... وهي التي جَنَتِ النُّحولَ هي التي خلقت من الفلق العظيم إلى المنى ... دُعيت إلى نَيْل المكارم لبَّتِ كم كان لي من مجلسٍ، لو شبهت ... حالاتُه لتشبهَتْ بالجنةِ أشتاقه لما مضت أيامُه ... عللًا وتعذر ناقةٌ إن جنتِ فهل لِليلات بجَمْعٍ عودةٌ ... أم هل إلى وادي مِنًى من نظرةِ قد كان أحلى من تصاريف الصّبا ... ومن الحَمام مغنِّيًا في الأيكةِ فيها البديهاتُ التي ما نالَها ... خلقٌ بغير مخمر ومبيتِ برجاحةٍ وفصاحةٍ وملاحةٍ ... يقضي لها عدنانُ بالعربيَّةِ وبلاغةٍ وبراعةٍ ويراعةٍ ... ظنَّ النُّباتيْ أَنَّها لم تنبُتِ وإشارةٌ تُبكي الجُنَيْدَ وصحبَه ... في رِقَّةٍ، ما قالَها ذو الرُّمَّةِ

قال أبو شامة: هذه الأبيات أظنها كانَ نظمها في أيام محنته إذ كان محبوسًا بواسِط، فمعانيها دالة على ذلك، واللَّه أعلم. قال أبو المظفر: نزل من المنبر، فمرض خمسة أيام، وتوفي في داره سنة 597 ليلة الجمعة، واجتمع أهل بغداد، وغلقت الأسواق، وجاء أهل المحالّ، وشددنا التابوت بالحبال، وسلمناه إليهم، فذهبوا به إلى البرية مكان جلوسه، فصلى عليه ابنه أبو القاسم، علي اتفاقًا؛ لأن الأعيان لم يقدروا على الوصول إليه، ثم ذهبوا به إلى جامع المنصور، فصلوا عليه، وضاق بالناس، وكان يومًا مشهودًا، لم يصلْ إلى حفرته عندَ قبر أحمد بن حنبل إلا وقت صلاة الجمعة، وما وصل إلى حفرته من الكفن إلا قليل. ونزل في الحفرة والمؤذن يقول: اللَّه أكبر! وحزن الناس عليه حزنًا شديدًا، وبكوا عليه بكاءً كثيرًا، وباتوا عند قبره طول شهر رمضان يختمون الختمات، ورآه تلك الليلة المحدث أحمدُ بنُ سليمان الحربي على منبرٍ من ياقوت مرصَّع بالجوهر، والملائكة حِلَقٌ بين يديه، والحقُّ تعالى حاضر يسمع كلامه. ورثاه القادري العلوي بأبيات، منها: الدهرُ عن طمع يَغُرُّ ويخدَعُ ... وزخارفُ الدنيا الدنيَّةِ تُطْمِعُ وأَعِنَّةُ الآمال يُطلِقها الرَّجا ... طَمَعًا، وأسيافُ المنيَّةِ تقطعُ والموتُ آتٍ والحياةُ مريرةٌ ... والناسُ بعضُهُمُ لبعضٍ يَتبعُ واعلمْ بأنَّكَ عن قليلٍ صائرٌ ... خَبَرًا، فكن خبرًا بخيرٍ يسمعُ إلى تمام القصيدة. قال: وأوصى أن يكتب على قبره: يا كثيرَ العفو عمن ... كثُر الذنب لديه! جاءك المذنبُ يرجو ... الصفحَ عن جرمِ يديهِ أنا ضيفٌ وجزاءُ الضيفِ ... الإحسان إليه فرحمه اللَّه، وغفر له، ورحم سائر علماء المسلمين. وحدث سعد الله البصري - وكان رجلا صالحًا، وكان مرجان حينئذ في

عافية -: قال رأيت مرجان في المنام، ومعه اثنان، كل واحد قد أخذ بيده، فقلت: إلى أين؟ قالا: إلى النار، قلت: لماذا؟ قالا: كان يبغض ابنَ الجوزي هذا. وقد أطنب ابن رجب في ترجمته إلى كراسة وزيادة، وذكر من أسامي كتبه المؤلفة ما يطول ذكرُها، وكتب من أحوال مجالسه الوعظية، ورفعة شأنه وعلو مكانه في العلوم وعند الناس ما لا يأتي عليه الحصر، ولا ريب أنه كان عمودًا من عمد الإسلام، وفخرًا من مفاخر الأنام، وحسنة من حسنات الليالي والأيام، وناصرًا من أنصار السنة المطهرة، ومفسرًا من مفسري الكتاب، ومحدِّثًا جليلًا من محدثي الآثار رادًا على المبتدعين، باغضًا لأصحاب المذاهب من المقلدين، عارفًا بصحيح الحديث من سقيمه، وضعيف الآثار من موضوعها، إمامًا في الجرح والتعديل، أستاذًا للأئمة الكبار بلا مدافعة، واعظًا نبيلًا لم تر عينٌ مثلَه في الوعاظ، بليغًا أديبًا شاعرًا كاملًا لم يخلف مثله في الديار، وفضائله أجل من أن تذكر، ومناقبه أكثر من أن تحصر، جزاه اللَّه عن المسلمين، خيرًا، ورحمه ورحم سائر المتبعين المقتفين لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم -، والناصرين لسنته المطهرة الذابِّين عنها بالألسنة والأسنة. فالناس كثير، والدنيا ملاء منهم، ومدَّعو العلم غزير، والعالم مشحون بهم، ولكن أين مثل هذا الشيخ ونظرائه في العلم والعمل، ومعرفة الحق من الباطل، كَثَّر اللَّه من أمثاله، وحققنا بفعاله وأحواله وأقواله، وما ذلك على اللَّه بعزيز. اللهم! إنك تعلم كوننا في هذه المئة الثالثة عشر التي ذهبت بكل خير، وجاءت إلينا بكل شر، ومذ فتحنا عينًا لم نر إلا شينًا ورينًا، وقعنا في ناس جاهلين، وقوم عن الدين ناكبين، وخُلقنا في زمان ليس علينا فيه سلطان أحد من المسلمين، وإنما نحن كالأسراء في أيدي الفجرة الكفرة الجبابرة الظالمين، لا نقدر على شيء، ولا نعرف سبيلًا إلى خروج، ولا نجد مَنْ نجالسه ونصاحبه، ونستعين به على دفع مكائد الشياطين من الإنس والجن أجمعين، ولا نقف على من يهدينا سبيل الرشاد، ويوصلنا إلى طريق الصدق والسداد، {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] رب تب عليَّ إنك أنت

48 - أبو القاسم، عبد العزيز بن عبد الله بن محمد الداركي الفقيه الشافعي

التواب الرحيم، واهدنا الصراط السوي والطريق القويم، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، آمين. 48 - أبو القاسم، عبد العزيز بن عبد اللَّه بن محمد الداركيُّ الفقيهُ الشافعيُّ. كان أبوه محدث أصبهان في وقته. وكان أبو القاسم من كبار فقهاء الشافعية، نزل نيسابور، ودرس الفقه بها سنين، ثم انتقل إلى بغداد، وسكنها إلى حين وفاته، وانتهى إليه التدريس ببغداد - وانتفع به خلق كثير. وكان الشيخ أبو حامد الإسفراييني يقول: ما رأيت أحدًا أفقهَ من الداركيِّ، وأخذ الحديث عن جده لأمه الحسنِ بن محمد الداركيِّ، وكان إذا جاءه مسألة يفكر طويلًا، ثم يفتي فيها، وربما أفتى على خلاف مذهب الإمامين الشافعي وأبي حنيفة - رضي الله عنهما -، فيقال له في ذلك، فيقول: ويحكم! حدث فلان عن فلان عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بكذا وكذا، والأخذ بالحديث أولى من الأخذ بقول الإمامين. توفي ببغداد يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس وسبعين وثلاث مئة عن نيف وسبعين سنة، - رحمه الله تعالى -، وكان ثقة أمينًا. والداركي: قال السمعاني هذه النسبة إلى دارك، وظني أنها قرية من قرى أصبهان. 49 - أبو القاسم، عبد الكريم بن هوازن القشيري، الفقيه الشافعي. كان علامة في الفقه والتفسير والحديث والأصول، والأدب والشعر والكتابة، وعلمِ التصوف، جمع بين الشريعة والحقيقة، خرج إلى الحج في رُفقة فيها: الشيخ أبو محمد الجويني والدُ إمام الحرمين، وأحمدُ بن حسين البيهقي، وجماعة من المشاهير، فسمع منهم الحديثَ ببغداد والحجاز، وعقدَ لنفسه مجلسَ الإملاء في الحديث. وذكره الخطيب في "تاريخه"، وقال: قدم علينا - يعني: إلى بغداد في سنة 448، وحدَّث ببغداد، وكتبنا عنه، وكان ثقة، حسن

50 - تاج الاسلام، أبو سعد، ويقال: أبو سعيد، عبد الكريم بن أبي بكر، محمد بن أبي المظفر، منصور بن محمد التميمي السمعاني المروزي، الفقيه الشافعي الحافظ

الوعظ، مليح الإشارة. قال أبو الفتح محمد بن محمد الفراوي: كان أبو القاسم القشيري كثيرًا ما ينشد لبعضهم؛ وهذان البيتان لذي القرنين بن حمدان. لو كنتَ ساعةَ بَيْنِنا ما بيننا ... وشهدْتَ كيف نكرِّرُ التَّوديعا أيقنتَ أنَّ من الدموع محدِّثًا ... وعلمت أن من الحديث دموعا ولد في سنة 376، وتوفي يوم الأحد قبل طلوع الشمس سادس عشر ربيع الأول سنة 465 بمدينة نيسابور، ودفن بالمدرسة تحت قبر شيخه أبي على الدقاق. وكان ولده أبو نصر، عبد الرحيم إمامًا كبيرًا أشبهَ أباه في علومه ومجالسه، ورأيت له في بعض المجاميع هذه الأبيات، وذكرها السمعاني في الذيل أيضًا: القلبُ نحوَكَ نازعُ ... والدَّهرُ فيكَ منازِعُ جرتِ القضيةُ بالنوى ... ما للقضية وازِعُ الله يعلمُ أنني ... لفراقِ وجهِكَ جازعُ توفي سنة 514 بنيسابور - رحمه الله تعالى - 50 - تاج الاسلام، أبو سعد، ويقال: أبو سعيد، عبد الكريم بن أبي بكر، محمدِ بن أبي المظفر، منصور بن محمد التميميُّ السمعانيُّ المروزيُّ، الفقيه الشافعي الحافظ. ذكره الشيخ عز الدين أبو الحسن عليُّ بن الأثير الجزريُّ، في أول "مختصره"، فقال: كان أبو سعد واسطة عِقد البيت السمعاني، وعينَهم الباصرة، ويدهم الناصرة، وإليه انتهت رئاستهم، وبه كملت سيادتهم. رحل في طلب العلم والحديث إلى شرق الأرض وغربها، وشمالها وجنوبها، وسافر إلى ما وراء النهر، وسائر بلاد خراسان عدةَ دفعات، ولقي العلماء، وأخذ عنهم، وجالسهم، وروى عنهم، واقتدى بأفعالهم الجميلة، وآثارهم الحميدة، وكان عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ، وصنف التصانيف الحسنة الغزيرة الفائدة.

51 - أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني، مولى حمير

كانت ولادته سنة 506، وتوفي بمرو سنة 562. وكان أبوه إمامًا فاضلًا، محدثًا حافظًا، فقيهًا شافعيًا، وله "الإملاء" الذي لم يسبق مثله، تكلم على المتون والأسانيد، وأبان مشكلاتها. وكان جده المنصور إمام عصره بلا مدافعة، أقر له بذلك الموافق والمخالف، وكان حنفي المذهب، فحج في سنة 462، وظهر له بالحجاز مقتضى انتقاله إلى مذهب الإمام الشافعي، فلما عاد إلى مرو، لقي بسبب انتقاله محنًا وتعصبًا شديدًا، فصبر على ذلك، وصار إمامَ الشافعية بعد ذلك، يدرِّس ويفتي، وجمع في الحديث ألف حديث عن مائة شيخ، وتكلم عليها فأحسن، وله وعظ مشهور بالجودة. توفي سنة 489 بمرو، ومولده سنة 426. وسمعان: بطن من تميم. وكان لأبي سعد عبد الكريم ولدٌ يقال له أبو المظفر عبدُ الرحيم، بكر به والدُه في سماع الحديث، وطاف في بلاد خراسان وما وراء النهر، وأسمعه الحديث، وحصل له النسخ، وجمع له معجمًا لمشايخه في ثمانية عشر جزءًا، وعوالي في مجلدين ضخمين، وحدَّث بالكثير، ورحل إليه الطلاب، وكان محترمًا في بلاده. مولده سنة سبع وثلاثين وخمس مئة بنيسابور، وتوفي بمرو ما بين سنة أربع عشرة وست مئة - رحمه الله تعالى -. 51 - أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني، مولى حمير. قال أبو سعد السمعاني: قيل: ما رحل الناس إلى أحد بعدَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مثلَ ما رحلوا إليه، ويروي عن معمر بن راشد الأسدي مولاهم البصري، والأوزاعي، وابن جريح، وغيرهم. وروى عنه: أئمة الإسلام في زمانه. مثهم: سفيانُ بن عيينة، وهو من شيوخه، وأحمدُ بن حنبل، ويحيى بن مَعين، وغيرهم.

52 - أبو محمد، عبد الغني بن سعيد بن علي، الأزدي، الحافظ، المصري

كانت ولادته في سنة 126، وتوفي سنة 211 باليمن - رحمه الله تعالى -. والصنعاني: نسبة إلى صنعاء، وهي من أشهر مدن اليمن، وقال أبو محمد عبد الله بن الحارث الصنعاني: سمعت عبد الرزاق يقول: من يصحبِ الزمان يرى الهوان. قال: وسمعته ينشد: فذاكَ زمانٌ لَعِبْنا به ... وهذا زمانٌ بِنا يلعبُ 52 - أبو محمد، عبد الغني بن سعيد بن علي، الأزدي، الحافظُ، المصريُّ. كان حافظَ مصر في عصره، وله تواليف نافعة، منها "مشتبه النسبة"، وكتاب "المؤتلف والمختلف" وغير ذلك، وانتفع به خلق كثير. كانت ولادته في سنة 332، وتوفي في سنة 309 بمصر، ودفن بحضرة مصلَّى العيد، رح. قال عبد الغني المذكور: رجلان جليلان لزمهما لقبان قبيحان 1 - معاوية بن عبد الكريم الضال: وإنما ضل في طريق مكة. 2 - وعبد اللَّه بن محمد الضعيف: وإنما كان ضعيفًا في جسمه، لا في حديثه. وقال أبو عبد اللَّه محمد بن علي الحافظ الصوري: قيل للدارقطني: هل رأيت في الحديث أحدًا يرجى علمه؟ فقال نعم، شابًا بمصر كأنه شعلة نار، يقال له: عبد الغني، فلما خرج الدارقطني من مصر، جاء المودعون، وتحزنوا على مفارقته، وبكوا، فقال: لقد تركت عندكم خلفًا - يعني: عبد الغني -. وقال أيضًا - أعني: الصوري -: لما صنف عبد الغني "المؤتلف والمختلف" عرضوه على الدارقطني، فقال له: اقرأه، فقال: كيف أقرؤه لك، ومعظمُه أخذته عنك؟ فقال: نعم أخذتَه عني متفرقًا؛ والآن قد جمعته. واللَّه أعلم. 53 - أبو الحسن، عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسيُّ، الحافظُ. كان إمامًا في الحديث والعربية، وقراءة القرآن الكريم، ولقن الاعتقاد بالفارسية وهو ابن خمس سنين، وتفقه على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني،

54 - أبو الوقت، عبد الأول بن أبي عبد الله، عيسى بن شعيب بن إسحاق السجزي

صاحب "نهاية المطلب في دراية المذهب" ولازمه مدة أربع سنين. وهو سِبط الإمام أبي القاسم عبد الكريم القشيري، وسمع عليه الحديث الكثير، وعلى جدته فاطمة بنتِ أبي علي الدقاق، وعلى خاليه أبي سعد وأبي سعيد ولدي أبي القاسم القشيري، ووالدِه أبي عبد اللَّه إسماعيل بن عبد الغافر، ووالدته أَمَةِ الرحيم بنتِ أبي القاسم، وجماعة كثيرة سواهم، ثم خرج من نيسابور إلى خوارزم، ولقي بها الأفاضل، وعقد له المجلس، ثم خرج إلى غزنة، ومنها إلى الهند، وروى الأحاديث، وقرىء عليه لطائف الإشارات بتلك النواحي. ثم رجع إلى نيسابور، وولي الخطابة بها، وأملى بها في مسجد عقيل أعصار يوم الإثنين سنين، ثم صنف كتبًا عديدة، منها: "المفهم لشرح غريب صحيح مسلم"، وكتاب "مجمع الغرائب" في غريب الحديث، وغير ذلك من الكتب المفيدة. وكانت ولادته في ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وأربع مئة. وتوفي سنة تسع وعشرين وخمس مئة بنيسابور - رحمه الله تعالى -. 54 - أبو الوقت، عبدُ الأول بنُ أبي عبد اللَّه، عيسى بنِ شعيبِ بنِ إسحاق السجزيُّ. كان مِكثارًا من الحديث، عالي الإسناد، طالت مدته، وأَلحقَ الأصاغر بالأكابر، وكان صالحًا يغلب عليه الخير. ولد بهراة سنة 458، وتوفي سنة 553. وكان قد وصل إلى بغداد، ونزل في رباط فيروز، وبه مات، وصُلِّي عليه فيه، ثم صلوا عليه الصلاة العامة بالجامع، وكان الإمام في الصلاة الشيخ عبد القادر الجيلي، وكان الجمع متوفرًا. وكان سماعه الحديثَ بعد الستين والأربع مئة، وهو آخر من روى في الدنيا عن الداودي. والسجزيُّ: نسبة إلى سجستان، وهي من شواذ النسب.

55 - أبو الفرج، عبد المنعم بن أبي الفتح، عبد الوهاب بن سعد بن صدقة، الملقب: شمس الدين الحراني الأصل، البغدادي المولد والدار، الحنبلي المذهب

55 - أبو الفرج، عبد المنعم بنُ أبي الفتح، عبدِ الوهاب بنِ سعد بنِ صدقةَ، الملقب: شمسُ الدين الحرَّانيُّ الأصل، البغداديُّ المولد والدار، الحنبليُّ المذهب. كان تاجرًا، وله في حديث السماعات العالية، وانتهت إليه الرحلة من أقطار الأرض، وألحق الصغار بالكبار، لا يشاركه في شيوخه ومسموعاته أحد. كانت ولادته في سنة 505، وتوفي في سنة 596، ببغداد - ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله تعالى عنه -. وكان صحيحَ الذهن والحواس إلى أن مات، وتسرى بمئة وثمان وأربعين جارية - رحمه الله تعالى -. 56 - أبو عمرو، عثمان بن عبد الرحمن بنِ عثمانَ بنِ موسى بنِ أبي النصر، النصريُّ الكرديُّ الشهرزوريُّ، المعروف بابن الصلاح الشرخانيّ، الملقب: تقيُّ الدين، الفقيهُ الشافعيُّ. كان أحدَ فضلاء عصره في التفسير، والحديث، والفقه، وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث، وفقه اللغة، وكانت له مشاركة في فنون عديدة، وكانت فتاواه مسدَّدة، قال ابن خلكان: وهو أحد أشياخي الذين انتفعت بهم. سافر إلى خراسان، فأقام بها زمانًا، وحصل علم الحديث هناك، ثم رجع إلى الشام، وتولى التدريس بالمدرسة الناصرية بالقدس، ولما بنى الملك الأشرف بن الملك العادل بن أيوب دارَ الحديث بدمشق، فوض تدريسه إليه، واشتغل الناس عليه بالحديث. وكان من العلم والدين على قدم عظيم، وصنف في "علوم الحديث" كتابًا نافعًا، وكذلك في "مناسك الحج"، جمع فيه أشياء حسنة، يحتاج الناس إليها، وهو مبسوط، ولم يزل أمره جاريًا على السداد والصلاح والاجتهاد في الاشتغال والنفع إلى أن توفي يوم الأربعاء وقت الصبح، وصُلِّي عليه بعد الظهر، وهو الخامس والعشرون من شهر ربيع الآخر سنة 643 بدمشق. مولده سنة سبع وسبعين وخمس مئة بشرخان، وهي قرية من أعمال أربل

57 - أبو الحسن، علي بن محمد بن علي الطبري، المعروف بالكياهراسي، الفقيه الشافعي

قريبة من شهرزور، قال في آثار الأدهار: وله عدة مصنفات، منها كتاب في علوم الحديث. قال الشيخ برهان الدين الأنباسي في "شذى الفياح من علوم ابن الصلاح": إن كتابه هذا أحسن تصنيف فيه، وقد اعتنى به العلماء في زمانه إلى هذا الزمان، منهم من اختصره ومنهم من اعترض عليه، وله كتاب "أدب المفتي والمستفتي"، وهو مختصر نافع، و"رحلة إلى الشرق" عظيمة النفع في سائر العلوم، وكتاب "مناسك الحج" جمع فيه أشياء سنة يحتاج الناس إليها، انتهى حاصله. 57 - أبو الحسن، عليُّ بن محمدِ بنِ علي الطبري، المعروف بالكياهراسي، الفقيهُ الشافعيُّ. كان من أهل طبرستان، وخرج إلى نيسابور، وتفقه على إمام الحرمين مدة إلى أن برع، وكان حسن الوجه، جهوريَّ الصوت، فصيحَ العبارة حلوَ الكلام. وكان محدثًا يستعمل الأحاديث في مناظراته ومجالساته، ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح. وحدث الحافظ أبو الطاهر السِّلَفي، قال: استفتيت شيخنا أبا الحسن المعروف بالكياهراسي ببغداد في سنة خمس وتسعين وأربع مئة لكلام جرى بيني وبين الفقهاء بالمدرسة النظامية، وصورة الاستفتاء: ما يقول الإمام - وفقه الله تعالى - في رجل أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء، هل تدخل كتب الحديث تحت هذه الوصية أم لا؟ فكتب الشيخ تحت السؤال: نعم، وكيف لا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا من أمر دينها، بعثه الله يوم القيامة فقيهًا عالمًا"؟. وسئل الكياهراسي أيضًا عن يزيد بن معاوية، فقال: إنه لم يكن من الصحابة؛ لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأما قول السلف في لعنه، ففيه لأحمد قولان: تلويحٌ وتصريح، ولمالك قولان: تلويح

58 - أبو الحسن، علي بن الأنجب أبي المكارم، المفضل اللخمي، المقدسي، المالكي المذهب

وتصريح، ولأبي حنيفة قولان: تلويح وتصريح، ولنا قول واحد: التصريحُ دون التلويح، وكيف لا يكون كذلك، وهو اللاعب بالنرد، والمتصيد بالفهود، ومدمنُ الخمر، وشعرُه في الخمر معلوم، وكتبَ فصلًا، ثم قلب الورقة، وكتب: لو مددت ببياض، لمددت العنانَ في مخازي هذا الرجل، وكتب فلان بن فلان. نقل ابن خلكان بعد ذلك فتوى أبي حامد الغزالي بعبارتها في المنع عن لعن يزيد بن معاوية. وكانت ولادة "الكياهراسي" في سنة 450، وتوفي سنة 504 ببغداد. قال ابن خلكان: ولا أعلم لأيِّ معنًى قيل له: الكيا، وهو - بكسر الكاف وفتح التحتية - في اللغة العجمية: هو الكبير القدر، المقدم بين الناس. 58 - أبو الحسن، علي بن الأنجب أبي المكارم، المفضلُ اللخميُّ، المقدسيُّ، المالكيُّ المذهب. كان فقيهًا فاضلًا، ومن أكابر الحفاظ المشاهير في الحديث وعلومه، وصحب أبا طاهر السِّلَفي، وانتفع به، وصحبه المنذريُّ، ولازم صحبته، وبه انتفع، وعليه تخرج، وذكر عنه فضلًا غزيرًا، وصلاحًا كثيرًا. قال ابن خلكان: وأنشدني له مقاطيعَ عديدة، فمما أنشدني لنفسه، شعر: أَيا نفسُ بالمَأْثور عن خيرِ مرسَلٍ ... وأصحابِه والتابِعينَ تَمَسَّكي عساكِ إذا بالغْتِ في نشر دينِهِ ... بما طابَ من نشرٍ له أن تَمَسَّكي وخافي غدًا يومَ الحساب جهنمًا ... إذا لفحتْ نيرانها أن تَمَسَّكي وأنشدني أيضًا: ثلاثُ باءات بُلينا بها ... البقُّ والبُرغوثُ والبرغَشُ ثلاثٌ أوحشُ ما في الورى ... ولستُ أدري أيها أوحشُ كانت ولادته سنة أربع وأربعين وخمس مئة، وتوفي سنة إحدى عشرة وست مئة بالقاهرة.

59 - أبو الحسن، علي بن عمر بن أحمد بن مهدي، البغدادي، الدارقطني، الحافظ المشهور

59 - أبو الحسن، علي بنُ عمرَ بنِ أحمدَ بنِ مهديٍّ، البغداديُّ، الدارقطنيُّ، الحافظُ المشهور. كان عالمًا مشهورًا فقيهًا على مذهب الإمام الشافعي، وانفرد بالإمامة في علم الحديث في عصره، ولم ينازعه في ذلك أحد من نظرائه، وكان عارفًا باختلاف الفقهاء، ويحفظ كثيرًا من دواوين العرب. وروى عنه: الحافظُ أبو نعيم الأصبهاني، صاحبُ "حلية الأولياء"، وجماعة كثيرة، وقبل القاضي ابن معروف شهادته، فندم على ذلك، وقال: كان يقبل قولي على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بانفرادي، فصار لا يقبل قولي على نقلي إلا مع آخر! وصنف كتاب "السنن"، و"المختلف والمؤتلف"، وغيرهما، وأقام عند أبي الفضل بمصر مدة، وبالغ أبو الفضل في إكرامه، وانفق عليه نفقة واسعة، وأعطاه شيئًا كثيرًا، ولم يزل عنده حتى فرغ المسند، وكان يجتمع هو والحافظ عبد الغني المذكور على تخريج المسند وكتابته إلى أن نجز. وقال الحافظ عبد الغني: أحسنُ الناس كلامًا على حديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة 1 - علي بن المديني، في وقته 2 - وموسى بن هارون، في وقته 3 - والدارقطني، في وقته. وسأل الدارقطنيَّ يومًا أحدُ أصحابه، هل رأى الشيخُ مثلَ نفسه؟ فامتنع من جوابه، وقال، قال اللَّه تعالى {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، فألح عليه، فقال: إن كان في فن واحد، فقد رأيت من هو أفضل مني، وإن كان من اجتمع فيه ما اجتمع فيّ، فلا. وكان متفننًا في علوم كثيرة، إمامًا في علوم القرآن. وكانت ولادته في ذي القعدة سنة 306، وتوفي يوم الأربعاء لثمان خلون، وقيل: للثاني من ذي القعدة، وقيل: ذي الحجة سنة 385 ببغداد، وصلى عليه الشيخ أبو حامد الإسفراييني الفقيهُ المشهور، ودُفن قريبًا من معروفٍ الكَرْخِيِّ في مقبرة باب حربٍ، ودارُ القطنِ: محلةٌ كبيرةٌ ببغداد، واللَّه أعلم.

60 - الأمير سعد الملك، أبو نصر، علي بن هبة الله بن علي بن جعفر، العجلي، المعروف بابن ماكولا

60 - الأمير سعدَ الملك، أبو نصر، عليُّ بنُ هبةِ اللَّه بنِ عليِّ بن جعفر، العجليُّ، المعروف بابن ماكولا. أصله من جرباذقان من نواحي أصبهان، ووزر أبوه أبو القاسم هبة اللَّه للإمام القائم بأمر اللَّه، سمع الحديث الكثير، وصنف المصنفات النافعة، وأخذ عن مشايخ العراق وخراسان والشام وغير ذلك. وكان أبو نصر أحدَ الفضلاء المشهورين، تتبع الألفاظ المشتبهة في الأسماء الأعلام وجمع منها شيئًا كثيرًا، وكان الخطيب أبو بكر، صاحب "تاريخ بغداد" أخذ كتاب أبي الحسن الدارقطني المسمى: "المختلف والمؤتلف"، وكتاب الحافظ عبد الغني بن سعيد الذي سماه: "مشتبه النسبة"، وجمع بينهما، وزاد عليهما، وجعله كتابًا مستقلًا سماه: "المؤتنف تكملة المختلف"، وجاء الأمير أبو النصر المذكور، وزاد على هذه التكملة، وضم إليها الأسماء التي وقعت له، وجعله أيضًا كتابًا مستقلًا، وسماه: "الإكمال"، وهو في غاية الإفادة في رفع الالتباس والضبط والتقييد، وعليه اعتماد المحدثين وأرباب هذا الشأن؛ فإنه لم يوضع مثله، ولقد أحسن فيه غاية الإحسان، ثم جاء ابن نقطة، وذيله وما قَصَّر فيه أيضًا، وما يحتاج الأميرُ المذكور مع هذا الكتاب إلى فضيلة أخرى، وفيه دلالة على كثرة اطلاعه، وضبطه وإتقانه، ومن شعره المنسوب إليه: قَوِّضْ خِيامَك عن أرضٍ تُهانُ بها ... وجانبِ الذلَّ إنَّ الذلَّ يُجتنبُ وارحلْ إذا كان في الأوطان مَنْقَصَةٌ ... فالمَنْدَلُ الرطبُ في أوطانِه حطبُ وكانت ولادته في عكبرا خامس شعبان سنة 421 الهجرية، وقتله غلمانه بجرجان في سنة نيف وسبعين وأربع مئة. وقال ابن خلكان: لا أعرف معناه، ولا أدري سبب تسميته بالأمير، هل كان أميرًا بنفسه؟ أم لأنه من أولاد أبي دلف العجلي. 61 - الحافظ أبو القاسم، علي بنُ أبي محمدِ الحسنِ بنِ هبةِ اللَّه بنِ عبد اللَّه بنِ الحسين، المعروف بابن عساكر، الدمشقيُّ، الملقبُ: ثقةُ الدين. كان محدث الشام في وقته، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلب عليه

الحديث، فاشتهر به، وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره، ورحل وطَوَّفَ وجاب البلاد، ولقي المشائخ. وكان رفيقَ الحافظ أبي سعيد، عبدِ الكريم السمعاني في الرحلة، وكان حافظًا دَيِّنًا، جمعَ بين المتون والأسانيد، سمع ببغداد في سنة 520 من أصحاب البرمكي، والتنوخي، والجوهري، ثم رجع إلى دمشق، ثم رحل إلى خراسان ودخل نيسابور، وهراة، وأصبهان، والجبال، وصنف التصانيف المفيدة، وخرج التخاريج. وكان حسنَ الكلام على الأحاديث، محفوظًا في الجمع والتأليف، صنف "التاريخ الكبير" لدمشق، في ثمانين مجلدًا، أتى فيه بالعجائب، وهو على نسق "تاريخ بغداد"، وله غيره تواليف حسنة، وأجزاء ممتعة، وله شعر لا بأس به، فمن ذلك قوله: ألا! إن الحديثَ أجلُّ علمٍ ... وأشرفُه الأحاديثُ العَوالي وأنفعُ كلِّ نوع منه عندي ... وأحسنُه الفوائدُ والأمالي وإنك لن ترى للعلم شيئًا ... يُحققه كأفواهِ الرجال فكنْ يا صاحِ ذا حرصٍ عليه ... وخذْه عن الرجال بلا مَلالِ ولا تأخذْهُ من صحفٍ فتُرمى ... من التَّصحيفِ بالداء العُضالِ ومن المنسوب إليه: أيا نفسُ ويحكِ جاءَ المشيبُ ... فماذا التصابي وماذا الغَزَلْ تولَّى شبابي كأنْ لم يَكُنْ ... وجاء مشيبي كأن لم يَزَلْ كأني بنفسي على غِرَّةٍ ... وخَطْبُ المَنون بها قد نَزَلْ فيا ليتَ شِعريَ مِمَّنْ أكونُ ... وما قَدَّرَ اللَّهُ لِي بالأزَلْ قال في الآثار: وله كتاب "الاجتهاد في إقامة فرض الجهاد"، وكتاب "تبيين الوهم والتغليط الواقع في حديث الأطيط"، وهو رسالة في جزء ردّ فيه الحديثَ الذي أخرجه أبو داود، وهو: أن أعرابيًا أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فاستشفع للمطر، وفيه لفظ: أطيط الرحل بالراكب، ذكره ابن كثير. وله كتاب "تبيين كذب المفتري فيما

62 - أبو الحسن، علي بن الحسن بن الحسين بن محمد القاضي المعروف بالخلعي، الموصلي الأصل، المصري الدار، الشافعي، صاحب "الخلعيات" المنسوبة إليه

نُسب إلى أبي الحسن الأشعري"، قال ابن السبكي: وهو من أجل الكتب فائدة، فيقال: كل سُنِّيٍّ لا يكون عنده ذلك الكتاب، فليس من نفسه على بصيرة، ولا يكون الفقيه شافعيًا على الحقيقة حتى يحصل له ذلك، اختصره الإمام اليافعي، وكتاب "مُبْهمات القرآن"، وغير ذلك، انتهى. وكانت ولادته في أول المحرم سنة 499، وتوفي ليلة الاثنين الحادي والعشرين من رجب سنة 571 بدمشق، وحضر الصلاة عليه السلطان صلاح الدين - رحمه الله -. وكان ولده أبو محمد القاسم الملقبُ: بهاء الدين أيضًا حافظًا، وتوفي أخوه الفقيه المحدِّث الفاضل صائنُ الدين هبة اللَّه بن الحسين سنة 563 بدمشق، ودرس في جامع دمشق، وأفتى وحدث. 62 - أبو الحسن، علي بن الحسن بن الحسين بن محمد القاضي المعروف بالخُلَعيِّ، الموصليُّ الأصل، المصريُّ الدار، الشافعيُّ، صاحبُ "الخلعيات" المنسوبة إليه. سمع أبا الحسن الحوفي، وأبا محمد بن النحاس، وأبا الفتح العداس، وأبا سعيد الماليني، وغيرهم. قال القاضي عياض: سألت أبا علي الصدفيَّ عنه، فقال: فقيه، له تواليف حسنة، ولي القضاء، وقضى يومًا واحدًا، واستعفى، وانزوى بالقرافة الصغرى، وكان مسنِدَ مصر بعد الحَبّال، وذكره أبو بكر بن العربي، فقال: له علو في الرواية، وعنده فوائد، وحدث عنه الحميدي، وكنى عنه بالقرافي. وقال الحافظ أبو طاهر السِّلَفي: كان أبو الحسن الخلعي إذا سمع الحديث، يختم مجالسه بهذا الدعاء: "اللهمَّ ما مننتَ به فتمِّمْه، وما أنعمتَ به فلا تسلبْه، وما سترتَه فلا تهتكه، وما عَلِمْتَه فاغفرْه". وكانت ولادته سنة 405 بمصر، وتوفي بها سنة 492. والخلعي: نسبة إلى الخلع؛ لأنه كان يبيع بمصر الخلعَ لأملاك مصر، فاشتهر بذلك وعرف به.

63 - أبو الحسن، علي بن محمد بن خلف، المعافري، القروي، المعروف بابن القابسي

63 - أبو الحسن، علي بن محمد بن خلف، المعافريُّ، القرويُّ، المعروف بابن القابسي. كان إمامًا في علم الحديث ومتونه وأسانيده، وجميعِ ما يتعلق به. وكان للناس فيه اعتقاد كثير، وصنف في الحديث كتاب "المخلص" جمعَ فيه ما اتصل إسناده من حديث مالكِ بن أنس - رضي الله عنه - في كتاب "المؤطأ" رواية أبي عبد اللَّه، عبدِ الرحمن بن القاسم المصري، وهو - على صغر حجمه - جيدٌ في بابه. كانت ولادته سنة 324، وحج سنة 353، وسمع كتاب البخاري بمكة من أبي زيد، ذكر الحافظ السلفي في "معجم السفر": أن شخصًا قال في مجلس القابسي وهو بالقيروان، ما أقصر المتنبي في معنى قوله: يُراد من القلبِ نسيانُكم ... وتأَبى الطَّباعُ على الناقِلِ فقال له: يا مسكين! أين أنت من قوله تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]. توفي في سنة 403، وبات عند قبره من الناس خلق كثير، وضُربت الأخبية، وأقبل الشعراء بالمراثي - رحمه الله -. وقابس: مدينة بأفريقية بالقرب من المَهْدِيَّة. 64 - أبو محمد، عليُّ بنُ أحمدَ بنِ سعيدِ بنِ حزمِ بنِ غالبِ بنِ صالحِ بنِ خلفٍ (¬1). وأولُ من أسلم من أجداده يزيدُ مولى يزيدَ بن أبي سفيان، وأصلُه من فارس، وجده خلفٌ أولُ من دخل الأندلس من آبائه. ومولدُه بقرطبةَ من بلاد الأندلس يوم الأربعاء قبل طلوع الشمس، سلخَ ¬

_ (¬1) ابن حزم الظاهري، ومن أشهر مصنفاته "المحلى"، طبع في 11 جزءًا، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل"، 5 أجزاء.

رمضان سنة أربع وثمانين وثلاث مئة، في الجانب الشرقي منها. وكان حافظًا عالمًا بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، بعد أن كان شافعيَّ المذهب، فانتقل إلى مذهب أهل الظاهر. وكان متفننًا في علوم جمَّة، عاملًا بعلمه، زاهدًا في الدنيا بعد الرئاسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الملك، متواضعًا، ذا فضائل جمة، وتواليف كثيرة، وجمع من الكتب في علوم الحديث والمصنفات والمسندات شيئًا كثيرًا، وسمع سماعًا جمًّا. وألف في فقه الحديث كتابًا سماه: "الإيصال إلى فهم الخصال" الجامعة لجمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع. أورد فيه أقوالَ الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم من أئمة المسلمين - رضي اللَّه عنهم أجمعين - في مسائل الفقه والحجة لكل طائفة وعليها، وهو كتاب كبير. وله كتاب "الإحكام لأصول الأحكام" في غاية التقصِّي وإيراد الحجج، وكتاب "في الإجماع ومسائله" على أبواب الفقه. قال ابن بشكوال في حقه: كان أبو محمد أجمعَ أهل الأندلس قاطبةً لعلوم الإسلام، وأوسعَهم معرفةً، مع توسُّعه في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة والسير والأخبار، أخبرَ ولدُه أبو رافع الفضلُ: أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تأليفه نحو أربع مئة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة. وقال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن فتوح الحميدي: ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء، وسرعة الحفظ، وكرم النفس، والتدين، وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه، ثم قال: ومن شعره: وَذي عَذَلٍ فيمن سَباني حسنُه ... يُطيلُ مَلامي في الهوى ويقولُ أفي حسنِ وَجْهٍ لاحَ لم ترَ غيرَه ... ولم تدرِ كيفَ الجسمُ أنتَ قتيلُ فقلتُ له أسرفتَ في اللوم ظالمًا ... وعندي ردٌّ لو أردت طويلُ ألم ترَ أنِّي ظاهريٌّ وأنني ... على ما بدا حتى يقومَ دليلُ

وكان كثيرَ الوقوع في العلماء المتقدِّمين، لا يكاد يسلَم أحد من لسانه، فنفرت عنه القلوب، واستهدف لفقهاءِ وقته، فتمالؤوا على بغضه، وردُّوا قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنَّعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوَا عوامَّهم عن الدنوِّ منه، والأخذ عنه، فأقْصَتْه الملوك، وشردته عن بلاده، حتى انتهى إلى بادية لِبلى، فتوفي بها آخر نهار الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة 456، وقيل: إنه توفي في "منت ليشم"، وهي قرية ابن حزم المذكورة - رحمه اللَّه -. وكانت ولادته بعد طلوع الفجر، وقبل طلوع الشمس يوم الأربعاء سلخَ رمضان سنة أربع وثمانين وثلاث مئة، قاله ابن صاعد. وفيه قال أبو العباس بن العريف: كان لسانُ ابن حزم وسيفُ الحجاج بنِ يوسف الثقفي شقيقينِ، وإنما قال ذلك؛ لكثرة وقوعه في الأئمة. وكانت وفاة والده أبي عمر أحمد في سنة 402، وكان وزيرَ الدولة العامرية، وهو من أهل العلم والأدب والبلاغة والخير. وقال ولده أبو محمد المذكورُ: أنشدني والدي الوزيرُ في بعض وصاياه لي - رحمه اللَّه تعالى -: إذا شئتَ أن تَحْيا غنيًا فلا تكنْ ... على حالةٍ، إلا رضيتَ بِدونِها وكان لأبي محمد المذكور ولدٌ نبيهٌ سريٌّ فاضلٌ يقال له: أبو رافع، الفضلُ بنُ أبي محمد، وكان في خدمة المعتمد بن عباد، صاحبِ إِشبيلية وغيرِها من بلاد الأندلس، وقُتل أبو رافع المذكورُ في وقعة الزَّلَّاقة مع مخدومه المعتمِد في سنة 479 الهجرية. ولبله: بلدة بالأندلس، ومنت ليشم - بالشين -: قرية من أعمال لبله، كانت ملكَ ابن حزم، وكان يتردد إليها، واللَّه أعلم. قال المقري في "نفح الطيب" في ترجمته الشريفة: قال ابن حيان وغيرُه: كان ابن حزم صاحبَ حديثٍ وفقهٍ وجَدَل، وله كتب كثيرة في المنطق والفلسفة، وكان شافعيَّ المذهب، يناضل الفقهاء عن مذهبه، ثم صار ظاهريًا، فوضع

الكتب في هذا المذهب، وثبت عليه إلى أن مات، وكان له تعلُّق بالأدب، وشنَّع عليه الفقهاء، وطعنوا فيه، وأقصاه الملوك، وأبعدوه عن وطنه. قال صاعد في "تاريخه": كان ابن حزم أجمعَ أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعَهم معرفةً، مع توسُّعه في علم اللسان، والبلاغة، والشعر، والسير، والأخبار. قال الذهبي: وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن، وسَعَة العلم بالكتاب والسنة، والمذاهب والمِلل والنِّحَل، والعربية والآداب، والمنطق والشعر، مع الصدق والديانة، والحشمة والسؤدد والرئاسة والثروة، وكثرة الكتب. قال الغزالي: وجدت في أسماء اللَّه تعالى كتابًا لابن حزم يدل على عِظَم حفظه، وسيلانِ ذهنه، انتهى. وعلى الجملة: فهو نسيجُ وحدِه لولا ما وُصف به من سوء الاعتقاد، والوقوع في السَّلف الذي اثار عليه الانتقاد، سامحه اللَّه تعالى. قال محرر هذه السطور - عفا اللَّه عنه -: لم يكن موصوفًا بسوء الاعتقاد كما زعم المَقَّري، بل كانت عقيدته الكتابَ والسنة والمحصنة، وهذه فضيلةٌ لا يساويها فضيلة، وأما وقوعُه في السلف، فكان ذبًّا عن الإسلام، وهو لا ينافي العلم، وعمره اثنتان وسبعون سنة، وكان كثير المواظبة على التأليف، ذكر جملة منها المقري. وقال ابن سعيد فيه: الوزير العالم الحافظ، وشهرته تغني عن وصفه، وذكر له المَقَّري أشعارًا كثيرة بديعةَ المبنى والمعنى. وأثنى عليه الشيخ العارف محيي الدين بن عربي، صاحب "الفتوحات المكية" كثيرًا، وقال في الباب الثالث والعشرين ومئتين، في معرفة حال التفرقة في (صفحة 684 من النسخة المطبوعة بمصر) ما نصه: وهذه غايةُ الوصلة أن يكون الشيء عينَ ما ظهرَ، ولا يُعرف أنه هو كما رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقد عانق أبا محمدٍ بنَ حزم المحدِّثَ، فغاب الواحدُ في الآخرَ، فلم يُر إلا واحد، وهو

رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فهذه غايةُ الوصلة، وهو المعبر عنه بالاتحاد؛ أي: كون الاثنين عينا للواحد، وما في الوجود أمر زائد، انتهى. وللَّه در القائل: تَوَهَّمَ واشِينا بِلَيْلِ مَزارِنا ... فَهَمَّ ليسعى بينَنا بالتباعُدِ فعانَقْتُهُ حتى اتَّحَدْنا تعانُقًا ... فلمَّا أتانا ما رأى غيرَ واحدِ وفي معناه ما قال الشاعر بالفارسية: جذبه وصل بحديست من وتو ... كه رقيب آمد وبرسيد نشان من وتو ولا غرو في ذلك، فقد قلنا في كتابنا "الحِطَّة بذكر الصِّحاح الستة" ما نصه: إن أهل الحديث - كَثَّرَ اللَّه تعالى سوادَهم، ورفع في العالمين عمادَهم - لهم نسبةٌ خاصة، ومعرفة مخصوصة بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لا يشاركهم فيها أحد من العالمين، فضلًا عن سائر الناس أجمعين، فإنهم لا يزال يجري صفاته العليا وأحواله الكريمة وشمائله الشريفة على لسانهم، ولم يبرح تمثالُ جماله الكريم وخيالُ وجهه الوسيم ونورُ حديثه المستبين وبركةُ العمل بسنته المطهرة يتردَّدُ في حاق وسطِ جَنانهم، فعلاقة باطنهم بباطنه العلي متصلة، ونسبةُ ظاهرهم بظاهره النقي مسلسلة، فهم أهلُ الودِّ والاتحاد حقًا، وأصحاب الوحدة المطلقة عدلًا وصدقًا، فأكرمْ بهم من كرام يشاهِدون عظمةَ المسمَّى حين يذكر الاسم، ويصلُّون عليه كلَّما مر ذكره الشريف بأحسنِ الحدِّ والرسم، وخاضوا في بحار العلوم المحمدية خوضًا، وصاروا به نحو المعلوم، خدموا الأحاديث الأحمدية خدمة، وعادوا معها عينَ المخدوم، انتهى. وذكر له سليم الخوري في كتاب "آثار الأدهار" ترجمة حسنة، وقال: كان ابن حزم خبيرًا بالأحكام، بصيرًا بأمور السياسة، وقد أُحرقت داره في قرطبةَ لما استولى عليها البربرُ، وسُبيت نساؤه، ونُهبت أمواله، ونُفي منها، ثم عاد، وكان عبدُ الرحمن الرابعُ المرتضى قد ولي أمرَها، وحضر فيها الوقعة التي جرت بين عبد الرحمن وزاوي صاحب غرناطة، فأسر وبقي في أسر البربر مدة، ثم أطلقوه، وكان متشيِّعًا للأموية، لا يفتُر عن الدعوة إليهم، فانكشف أمرُه لخيران رئيسِ الصقالبة، فقبض عليه، ونفاه.

ولما ولي عبد الرحمن الخامس الملقبُ بالمستظهر أمرَ قرطبة، استوزر ابنَ حزم لنفسه، وقربه، ورفع منزلته، ثم قُتل عبد الرحمن المذكور، فقُبض على ابن حزم، واعتقل هو وابن عمه عبدُ الوهاب بن حزم، ثم أُطلق، فاعتزل السياسة والأَشغال المعايشة، وأكبَّ على الدرس والمراجعة، وأصاب من العلم نصيبًا جزيلًا، انتهى. وذكرَ له مؤلفاتٍ كثيرةً سماها بأسمائها، قال: وقد أَحرق المعتضدُ بنُ عباد كتبه بإشبيلية. ومن شعره: دَعُوني من إحراقِ رَقٍّ وكاغدٍ ... وقولوا بعلمٍ كي يرى الناس مَنْ يدري فإنْ تُحْرِقوا القِرْطاسَ لَمْ تحرقوا الذي ... تَضَمَّنَهُ القِرطاسُ، بل هو في صَدْري وفي كتاب "دائرة المعارف" للمعلم بطرس البستاني في ترجمته: ومن شعره: لَئِنْ أَصبحتُ مرتحلًا بجسمي ... فَرُوحي عندَكُم أبدًا مقيمُ ولكنْ للعيانِ لطيفُ معنًى ... لهُ سألَ المُعاينةَ الكَليمُ وله أيضًا في المعنى: يقول أخي شَجاكَ رحيلُ جسمٍ ... ورُوحُك ما لَها عَنَّا رَحيلُ فقلتُ لهُ المعاينُ مطمئنٌّ ... لذا طلبَ المُعاينَةَ الخَليلُ قال: وكانت بينه وبين أبي الوليد الباجي مناظراتٌ وماجرياتٌ يطولُ شرحها. * ولا يخفى عليك أن كتاب "آثار الأدهار"، و"دائرة المعارف"، و"الروضة الغناء في دمشق الفيحاء"، كل ذلك من مؤلفات العلماء المسيحية، ولا مضايقة في نقلنا عنها؛ لأنها تشتمل على معارف صحيحة، ونقُول ثابتة من كتب الإسلام في تراجم الأعلام والآثار، و"الدائرة" قد احتوت على غالب طبقات العلماء، قلَّ من فات عنهم ترجمته. وإنما أخذنا منهما في هذا الكتاب نبذة يسيرة، ولو ذهبنا نأخذ منهما الكثير،

65 - أبو الحسن، علي بن أبي الكرم، محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد، الشيباني، المعروف بابن الأثير، الجزري، الملقب: عز الدين

لجاء كتاب مفرد، ولا ريب أنهما على ترتيب حسن، وتهذيب أنيق، وهذا المختصر لم نراع فيه هذين الأمرين فليكن ذلك على ذكر منك. ويالله العجب من أهل ملة الإسلام! إنهم قعدوا عن إدراك العلوم والفنون، وتركوا قواعد التأليف والتحقيق مع حدودها والرسوم. والذين ليسوا من أهل جلدتنا، ولا من أصحاب ملتنا، قد اعتنوا بجميع الكمالات، وفاقوا فيها غالب أهل الصناعات؛ بحيث لا يلحق شأوَهم أحدٌ من العُصبة الحاضرة، والجماعة الموجودة من الناس المختلفين مذهبًا ومشربًا، وهذا من عجائب قدر اللَّه وقواه، فاللَّه - سبحانه وتعالى - يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. 65 - أبو الحسن، علي بنُ أبي الكرم، محمدِ بنِ محمدِ بنِ عبدِ الكريم بنِ عبدِ الواحدِ، الشيبانيُّ، المعروف بابن الأثير، الجزريُّ، الملقب: عزُّ الدين. ولد بالجزيرة، ونشأ بها، ثم سار إلى الموصل، وسكن بها، وسمع بها من أبي الفضل الخطيب الطوسي ومَنْ في طبقته، وقدمَ بغدادَ مرارًا حاجًّا ورسولًا من صاحب الموصل، ثم رحل إلى الشام والقدس، وسمع هناك من جماعة، ثم عاد إلى الموصل، ولزم بيته منقطعًا إلى التوفر على النظر في العلم والتصنيف. وكان بيته مجمعَ الفضل لأهل المَوْصل والواردين عليها، وكان إمامًا في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به، وحافظًا للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، وخبيرًا بأنساب العرب وأيامهم ووقائعهم وأخبارهم، وله كتاب "أخبار الصحابة" في ست مجلدات كبار. قال ابن خلكان: واجتمعت به، فوجدته رجلًا مكملًا في الفضائل وكرم الأخلاق وكثرة التواضع، فلازمت التردد إليه. وكانت ولادته سنة 555، بجزيرة ابن عمر، وهو من أهلها، وتوفي سنة 630 بالموصل.

66 - أبو الخطاب، عمر بن الحسن بن علي بن محمد الجميل، المعروف بابن دحية، الأندلسي، الحافظ

66 - أبو الخطاب، عمرُ بنُ الحسنِ بنِ عليِّ بنِ محمدٍ الجميل، المعروفُ بابن دحية، الأندلسيُّ، الحافظُ. قال الذهبي: وفي تواليفه أشياء تنقم عليه من تصحيح وتضعيف. كان من أعيان العلماء، ومشاهير الفضلاء، متقنًا لعلم الحديث النبوي وما يتعلق به، عارفًا بالنحو واللغة، وأيام العرب وأشعارها، واشتغل بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلامية، ولقي بها علماءها ومشايخها، ثم رحل إلى مراكش وإفريقية والديار المصرية، ثم إلى الشام والشرق والعراق، وسمع ببغداد وواسِط، ودخل إلى عراق العجم وخراسان وما والاها، كلّ ذلك في طلب الحديث، والاجتماع بأئمته، والأخذ عنهم، وهو في تلك الحال يؤخذ عنه، ويستفاد منه. وقدم مدينة أربل سنة 604، فرأى صاحبها الملكَ المعظم مولَعًا بعمل مولد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، عظيمَ الاحتفال به، فعمل له كتاب "التنوير في مولد السراج المنير"، وقرأه عليه بنفسه، وختم هذا الكتاب بقصيدة طويلة، أولها: لولا الوشاةُ لهم ... أَعداؤنا ما وهموا ودفع له الملكُ ألفَ دينار، وله عدة تصانيف. وكانت ولادته سنة 544، وتوفي سنة 633 بالقاهرة. ذكر له المَقَّري في "نفح الطيب" ترجمةً حافلة، وأثنى عليه، وذكر من شعره الرائق شيئًا، وقال: ولد سنة 548، وتكلم فيه جماعة فيما ذكره ابن النجار، وقدرُه أجلُّ مما ذكروه. سمع بالأندلس من ابن بشكوال، وببغداد من ابن الجوزي، وطاف البلاد، وكل ذلك في طلب الحديث، وله مؤلفات كثيرة حسنة، وكان ظاهريَّ المذهب، من كبار المحدِّثين، ومن الحفاظ الثقات الأثبات المحصَّلين، روى وأَسمع، وكان من أحفظ أهل زمانه باللغة، حتى صار حوشِيُّ اللغة عنده مستعملًا غالبًا، وكان قصده أن يشتهر بنوع ينفرد به دون غيره؛ كما فعل كثير من الأدباء، إلى آخر ما قال.

67 - أبو زيد، عمر بن شبة، واسمه زيد، وشبة لقب ابن عبيدة بن زيد، ويقال: ابن رابطة، النميري، البصري

67 - أبو زيد، عمر بنُ شَبَّةَ، واسمه زيد، وشبةُ لقب ابنِ عبيدةَ بنِ زيد، ويقال: ابن رابطة، النميريُّ، البصريُّ. كان صاحب أخبار ونوادر واطلاع كثير، وصنف "تاريخ البصرة"، سمع منه أبو محمد بن الجارود، وسئل عنه أبو حاتم الرازي، فقال: صدوق، وروى عنه الحافظ محمد بن ماجه، صاحب "السنن"، وغيره. ولد في رجب سنة 173، وتوفي سنة 262 - وقيل: سنة 263، بِسُرَّ مَنْ رأى، رح. 68 - أبو حفص، عمرُ بنُ أبي بكر محمدِ بنِ معمر، المعروفُ بابن طَبَرْزَد، المحدثُ المشهورُ، البغداديُّ. كان أخوه الأكبر أبو البقاء قد أسمعه الكثيرَ من الحديث، ثم استقل بإفادة نفسه، وعُمِّرَ حتى حدَّث سنين. وكان سماعه من أبي القاسم هبةِ اللَّه الحريريِّ، وأبي المواهب، والأنماطيِّ، وخلقٍ كثير، وكان سماعه صحيحًا على تخليط فيه، وحدث بأربل، والموصل، وحران، وحلب، ودمشق، وغيرها، وعاد إلى بغداد، وحدث بها. وتفرد بالرواية عن جماعة، منهم: الراعوني، والشروطي، وغيرهما، وجمع له ابن المديني مشيخة فى جزأين وبعض ثالث، فيها ثلاثة وثمانون شيخًا، وكان عاليَ الأسناد في سماع الحديث، طاف البلاد، وأفاد أهلها، وأَلحق الأصاغرَ بالأكابر، وطبق الأرض بالسماعات والإجازات، وامتدت له الحياة، فخلا له العصر، وكان فيه صلاح وخير. مولده سنة 516، وتوفي في سنة 607 ببغداد. وطَبَرْزَد: اسم نوع من السكر. 69 - القاضي أبو الفضل، عياض بنُ موسى بنِ عياض، اليحصبيُّ السبتيُّ. كان إمامَ وقته بالحديث وعلومِه، والنحو واللغة وكلام العرب، وأيامهم وأنسابهم، وصنف التصانيف المفيدة: منها: كتاب "الإكمال في شرح كتاب

70 - أبو عبيد القاسم بن سلام - بتشديد اللام -

مسلم"، كمل به "المُعْلِم في شرح كتاب مسلم" للمازري، ومنها: "مشارق الأنوار"، وهو كتاب مفيد جدًا في تفسير غريب الحديث المختص بالصحاح الثلاثة، وهي الموطأ، والبخاري، ومسلم، وشرح حديث أم زَرْع شرحًا مستوفًى، وله كتاب سماه: "التنبيهات"، جمع فيه غرائب وفوائد. وبالجملة: فكل تواليفه بديعة، ذكره أبو القاسم بن بشكوال في كتاب "الصلة"، فقال: دخل الأندلس طالبًا للعلم، فأخذ بقرطبة عن جماعة، وجمع من الحديث كثيرًا، وكان له عناية كثيرة به، والاهتمام بجمعه وتقييده، وهو من أهل اليقين والعلم، والذكاء والفطنة والفهم، واستقضي ببلده يعني مدينة سبتة مدة طويلة حُمدت سيرتُه فيها، ثم نُقل منها إلى قضاء غرناطة، فلم تطل مدته فيها، انتهى كلامه. وله شعر حسن، وذكره العمادُ في "الخريدة"، فقال: كبير الشأن، غزير البيان، وذكره ابن الأبَّار في أصحاب علي الغساني، وقال: أحدُ الأئمة الحفاظ الفقهاء المحدثين الأدباء، تواليفه وأشعاره شاهدة بذلك. كتب إليه أبو علي في جماعة جلة، ولقي أيضًا آخرين مثلهم، وشيوخه يقاربون المئة. ولد سنة 476 بسَبْتَة، وتوفي بمراكش سنة 544. واليَحْصُبِيُّ - مثلثة الصاد -: نسبة إلى يحصب بن مالك: قبيلة من حِمْيَر، وسَبْتَة: مدينة مشهورة بالمغرب، وكذلك غرناطة مدينة بالأندلس - رحمه اللَّه تعالى -. 70 - أبو عبيد القاسمُ بنُ سَلَّام - بتشديد اللام -. كان أبوه عبدًا روميًا لرجل من أهل هراة، واشتغل أبو عبيد بالحديث والأدب والفقه، وكان ذا دِينٍ وسيرة جميلة، ومذهبٍ حسن وفضلٍ بارع، حسنَ الرواية، صحيحَ النقل. قال القاضي أحمد بن كامل: لا أعلم أحدًا من الناس طعن عليه في شيء من أمر دينه. ولي القضاء بمدينة طرطوس ثماني عشرة سنة، روى عن: أبي زيد الأنصاري، والأصمعي، وابن الأعرابي، والكسائي، والفراء، وجماعة كثيرة،

71 - قاضي الخافقين أبو بكر، محمد بن أحمد القاسم بن المظفر بن علي، الشهرزوري

وروى عنه الناسُ من كتبه المصنفة بضعةً وعشرين كتابًا في القرآن الكريم، والحديث وغريبه والفقه. ويقال: إنه أول من صنف في "غريب الحديث (¬1) "، ولما وضع كتابَ الغريب، عرضه على عبد اللَّه بن طاهر، فاستحسنه. وقال محمد بن وهب: سمعت أبا عبيد يقول: مكثتُ في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأضعها في موضعها من الكتاب، فأبيتُ ساهرًا فرحًا مني بتلك الفائدة، وأحدُكم يجيئني فيقيم عندي أربعة أو خمسة أشهر، فيقول: قد أقمت كثيرًا! قال الهلال بن علاء الرَّقِّي: مَن اللَّه تعالى على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: 1 - بالشافعي، تفقه في حديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - 2 - وبأحمد بن حنبل، ثبت في المحنة، ولولا ذاك لكفر الناس، 3 - ويحيى بن معين، نفى الكذب عن حديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، 4 - وبأبي عبيد القاسم بن سلام، فسر "غريب الحديث"، ولولا ذاك، لاقتحم الناس الخطأ. وقال إسحاق بن راهويه: أبو عبيد أوسعُنا علمًا، وأكثرنا أدبًا، وأجمعُنا جمعًا، إنا نحتاج إليه، وهو لا يحتاج إلينا. وكان يخضب بالحناء، أحمرَ الرأس واللحية، وكان له وقار وهيبة. قدم بغداد، فسمع الناس منه كتبَه، ثم حجَّ وتوفي بمكة، وقيل: بالمدينة بعد الفراغ من الحج سنة 223، وقال البخاري: سنة 224. وقال الخطيب في "تاريخ بغداد": بلغني أنه عاش سبعًا وستين سنة. 71 - قاضي الخافقين أبو بكر، محمد بنُ أحمدَ القاسم بنِ المظفر بن علي، الشهرزوريُّ. اشتغل بالعلم على أبي إسحاق الشيرازي، وولي القضاء بعدة بلاد، ورحل إلى العراق وخراسان والجبال، وسمع الحديث الكثير، وسمع منه السمعانيُّ. ¬

_ (¬1) وقد استخرج من "غريب الحديث" كتاب سمي: "كتاب الأجناس فيما اشتبه لفظه واختلف معناه"، وطبع هذا الكتاب في مطبعة شرف الدين الكتبي وأولاده، ببمباي، سنة (1356 هـ 1938 م).

72 - أبو محمد، القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الشاطبي، الضرير، المقرىء

ولد سنة ثلاث، أو 454، وتوفي سنة 538 ببغداد، وإنما قيل له: قاضي الخافقين؛ لكثرة البلاد التي ولي فيها. 72 - أبو محمد، القاسمُ بن فيرةَ بنِ خلفِ بنِ أحمدَ الشاطبيُّ، الضريرُ، المقرىءُ. صاحبُ القصيدة التي سماها: "حرزَ الأماني ووجه التهاني" في القراءات، وعدتها ألف ومئة وثلاثة وسبعون بيتًا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم. وكان عالمًا بكتاب اللَّه تعالى قراءةً وتفسيرًا، وبحديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، مبرزًا فيه، وكان إذا قرىء عليه "صحيح البخاري"، و"مسلم" و"الموطأ" يصحح النسخ من حفظه، ويملي النكت على المواضع التي تحتاج إليها. وكان أوحدَ زمانه في علم النحو واللغة، عارفًا بعلم الرؤيا، وسمع الحديث من أبي عبد اللَّه محمد بن يوسف الخزرجي، والحافظ أبي الحسن بن النعمة، وغيرهما. وانتفع به خلق كثير. ولد سنة 538، وتوفي سنة 590. والشاطبي: نسبة إلى شاطبة، مدينة كبيرة ذات قلعة حصينة بشرق الأندلس، وفِيرُّه (¬1) بكسر الفاء وسكون التحتية وتشديد الراء وضمها - هو بلغة اللطيني (¬2) من أعاجم الأندلس، معناه بالعربي: الحديد. قال المَقَّري، في "نفح الطيب": حكي أن الأمير عز الدين موسك الذي كان والد ابن الحاجب - حاجبًا له، بعث إلى الشاطبي يدعوه إلى الحضور عنده، فأمر الشيخ بعض أصحابه يكتب إليه: قل للأمير مقالة ... من ناصحٍ فَطِنٍ نَبيهٍ إنَّ الفقيهَ إذا أتى ... أبوابَكُمْ لا خيرَ فيه ¬

_ (¬1) فيره: فيرو Ferro: الحديد. (¬2) اللطيني: اللاتيني Latin.

73 - الإمام أبو عبد الله، مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث، الأصبحي، المدني، إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأعلام

73 - الإمام أبو عبد اللَّه، مالكُ بنُ أبي عامرِ بنِ عمرِو بنِ الحارث، الأَصْبَحيُّ، المَدَنيُّ، إمامُ دار الهجرة، وأحدُ الأئمة الأعلام. أخذ القراءة عرضًا عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الزهري، ونافعًا مولى ابن عمر، وروى عنه: الأوزاعي، ويحيى بن سعيد، وأخذ العلم عن ربيعة الرأي، وأفتى معه عند السلطان، وقال مالك: قلَّ رجلٌ كنت أتعلَّمُ منه ما مات حتى يجيئني ويستفتيني. وكان مالك إذا أراد أن يحدث: توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسرَّحَ لحيته، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة، ثم حدَّث، فقيل له في ذلك، فقال: أحبُّ أن أُعَظِّم حديثَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحدث به إلا متمكنًا على طهارة. وكان يكره أن يحدث على الطريق، أو قائمًا، أو مستعجلًا، ويقول: أحبُّ أن أتفهم ما أحدِّثُ به عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وكان لا يركب في المدينة، مع ضعفه وكبر سنه، ويقول: لا أركب في مدينة فيها جثةُ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مدفونة. وكان يأتي المسجدَ ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضورَ الجنائز، فكان يأتي أهلها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد، ولا الجمعة، ولا يأتي أحدًا يعزيه، ولا يقضي له حقًا، واحتمل الناس له ذلك حتى مات. وكان ربما قيل له في ذلك، فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره. وسعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد اللَّه بن عباس - رضي اللَّه عنهما -، وهو عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له: لا يرى أيمانَ بيعتِكم هذه بشيء، فغضب جعفر، ودعا به وجرده، وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمرًا عظيمًا، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت تلك السياط حليًا حُلِّي به.

وذكر ابن الجوزي في "شذور العقود"، في سنة 147: وفيها ضُرب مالك بن أنس سبعين سوطًا؛ لأجل فتوى لم توافق غرضَ السلطان، واللَّه أعلم. كانت ولادته في سنة خمس وتسعين للهجرة، وحُمل به ثلاث سنين، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة 179 - رضي الله عنه -، فعاش أربعًا وثمانين سنة. قال الواقدي: مات وله تسعون سنة. وقال ابن الفرات في "تاريخه" المرتب على السنين: توفي مالك بن أنس الأصبحي لعشر مضين من ربيع الأول سنة 179. وقيل: إنه توفي في سنة 178، وقيل: إن مولده سنة تسعين للهجرة. وقال السمعاني في كتاب "الأنساب": إنه ولد في سنة ثلاث، أو أربع وتسعين، واللَّه أعلم. وحكى الحافظ أبو عبد اللَّه الحميدي في كتاب "جذوة المقتبس"، قال: حدث القَعْنبيُّ، قال: دخلتُ على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمتُ عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت: يا أبا عبد اللَّه! ما الذي يُبكيك؟ فقال لي: يا بن قعنب! وما لي لا أبكي؟ ومن أحقُّ بالبكاء مني؟ واللَّه! لوددتُ أني ضُربت بكل مسألة أفتيت فيها برأيي بسوط سوط، وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أفت برأيي، أو كما قال. وكانت وفاته بالمدينة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - ودفن بالبقيع. وكان شديدَ البياض إلى الشقرة، طويلًا، عظيمَ الهامة، أصلعَ، يلبس الثياب العدنيةَ الجيادَ، ويكره حلقَ الشارب، ويعيبه، ويراه من المُثْلَة، ولا يغير شيبه. ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج، بقوله: سقى جَدَثًا ضَمَّ البقيع لمالك ... مِنَ المُزْنِ مِرْعادُ السَّحائِبِ مِبْراقُ إمامٌ مُوَطَّاهُ الذي طبقتْ به ... أقاليمُ في الدنيا، فِساحٌ وآفاقُ أقامَ به شرعَ النبيِّ محمدٍ ... له حذرٌ من أن يُضام وإشفاقُ له سَنَدٌ عالٍ صحيحٌ وهيبةٌ ... فللكلِّ منه حينَ يرويه إطراقُ

74 - أبو السعادات، المبارك بن أبي الكرم، محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد، الشيباني، المعروف بابن الأثير الجزري، الملقب: مجد الدين

وأصحابُ صدقٍ كلهم عَلَمَ، فَسَلْ ... بهمْ إنهم إنْ أنتَ ساءلت حُذَّاقُ ولو لم يكنْ إلا ابنُ إدريس وحدَه ... كفاهُ، ألا إنَّ السعادةَ أرزاقُ والأصبحيُّ: نسبة إلى ذي أصبح، واسمُه الحارثُ بن عوف بن مالك، إلخ. 74 - أبو السعادات، المبارك بنُ أبي الكرم، محمدُ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الكريم بنِ عبدِ الواحدِ، الشيبانيُّ، المعروفُ بابن الأثير الجزريُّ، الملقبُ: مجد الدين. قال أبو البركات بن المستوفي في "تاريخه" في حقه: أشهر العلماء ذكرًا، وأكبر النبلاء قَدْرًا، وأحد الأفاضل، المشار إليه، وفردُ الأماثل، المعتمَدُ في الأمور إليه. أخذ النحو عن شيخه أبي محمد، سعيدِ بنِ المبارك بنِ الدهان، وسمع الحديث متأخرًا، ولم تتقدم روايته. وله المصنفاتُ البديعة، والرسائل الوسيعة، منها: "جامع الأصول في أحاديث الرسول" جمع فيه بين الصحاح الستة، وهو على وضع كتاب رزين، إلا أن فيه زيادات كثيرة عليه، ومنها كتاب "النهاية في غريب الحديث" في أربع مجلدات، وله كتاب "المصطفى المختار في الأدعية والأذكار"، وكتاب "الشافي في شرح مسند الإمام الشافعي"، وغير ذلك من التصنيفات. كانت ولادته بجزيرة ابن عمر، في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين وخمس مئة، وكانت وفاته بالموصل يوم الخميس سلخ ذي الحجة سنة ست وست مئة - رحمه اللَّه تعالى -. 75 - أبو البركات، المباركُ بنُ أبي الفتح، أحمدَ بنِ المبارك، اللخميُّ، الملقب: شرف الدين، المعروفُ "بابن المستوفي" الأربلي. كان رئيسًا جليلَ القدر، كثيرَ التواضع، واسعَ الكرم، لم يصل إلى أربل أحدٌ من الفضلاء إلا وبادر إلى زيارته، وحمل إليه ما يليق بحاله، ويقرب إلى قلبه بكل طريق.

76 - أبو بكر، المبارك بن أبي طالب المبارك، المعروف بابن الدهان، النحوي، الضرير، الواسطي، الملقب بالوجيه

وكان جم الفضائل، عارفًا بعدة فنون، منها: الحديثُ، وعلومه، وأسماء رجاله، وجميع ما يتعلق به، وكان إمامًا فيه، وكان ماهرًا في فنون الأدب؛ من النحو واللغة والعروض والقوافي، وعلم الأنساب، وأشعار العرب وأخبارها وأيامها ووقائعها وأمثالها. قال ابن خلكان: وسمعت منه كثيرًا، وسمعت بقراءته على المشايخ الواردين على أربل شيئًا كثيرًا، فإنه كان يعتمد القراءة بنفسه، وله ديوان شعر أجاد فيه. ولد في سنة 564، وتوفي بالموصل سنة 637 - رحمه اللَّه تعالى -. 76 - أبو بكر، المباركُ بنُ أبي طالب المبارك، المعروف بابن الدهان، النحويُّ، الضريرُ، الواسطيُّ، الملقب بالوجيه. ولد ببلده، ونشأ بها، وحفظ القرآن، وقرأ القراءات، واشتغل بالعلم، وسمع بها، ثم قدم بغداد واستوطنها، وسمع الحديث من أبي زرعة، طاهرِ بن محمدٍ المقدسيِّ، وتفقه على مذهب أبي حنيفة بعد أن كان حنبليًا. ثم شغر منصبُ تدريس النحو بالمدرسة النظامية، وشرط الواقف ألا يفوض إلا إلى شافعي المذهب، فانتقل إلى مذهب الشافعي، وتولاه. وفي ذلك يقول المؤيد أبو البركات بن زيد التكريتي: وَمَنْ مبلِغٌ عنِّي الوجيهَ رسالةً ... وإن كانَ لا تُجدي إليه الرسائلُ تَمَذْهَبْتَ للنعمانِ بعدَ ابنِ حنبلٍ ... وذلك لمَّا أعوزَتْكَ المآكلُ وما اخترتَ قولَ الشافعيِّ تدينًا ... ولكنَّما تهوى الذي منه حاصلُ وعما قليل أنتَ لا شكَّ صائرٌ ... إلى مالكٍ، فافطنْ لما أنا قائلُ ولد سنة اثنتين وخمس مئة بواسط، وتوفي سنة 612 ببغداد، ودفن من الغد بالوردية - رحمه اللَّه تعالى -. 77 - القاضي أبو علي، المحسنُ بن أبي القاسم علي بن محمد، التنوخيُّ. له كتاب "الفرج بعد الشدة"، وذكر فيه: أنه كان على العيار في دار الضرب بسوق الأهواز، في أوائل هذا الكتاب، ثم ذكر أنه كان على القضاء بجزيرة ابن عمر.

78 - الإمام أبو عبد الله، محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، القريشي، المطلبي الشافعي

وله ديوان شعر، وسمع بالبصرة من أبي العباس الأثرم، وأبي بكر الصولي، وطبقتهم، ونزل بغداد، وأقام بها، وحدث إلى حين وفاته، وكان سماعه صحيحًا، وكان أديبًا شاعرًا إخباريًا، وكان أول سماعه الحديث في سنة 333. وله أشياء فائقة. كانت ولادته في سنة 327، وتوفي في سنة 384 ببغداد - رحمه اللَّه تعالى -. 78 - الإمام أبو عبد اللَّه، محمدُ بنُ إدريسَ بنِ العباسِ بنِ عثمانَ بنِ شافعِ بنِ السائبِ بنِ عبيدِ بنِ عبدِ يزيدَ بنِ هاشمِ بنِ المطلبِ بنِ عبد مناف، القريشيُّ، المطلبيُّ الشافعيُّ. يجتمع مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في عبدِ مناف المذكور، وباقي النسب إلى عدنان معروف، لقي جدُّه شافعٌ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو مترعرع. وكان أبوه السائب صاحبَ راية بني هاشم يوم بدر، فأُسر، وفدى نفسه، ثم أسلم، فقيل له: لِمَ لم تسلمْ قبل أن تفدي نفسك؟ فقال: ما كنت أحرمُ المؤمنين مطمعًا لهم فِيَّ. وكان الشافعي كثير المناقب، جمَّ المفاخر، منقطع القرين، اجتمعتْ فيه من العلوم بكتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وكلام الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وآثارهم، واختلاف أقاويل العلماء، وغير ذلك؛ من معرفة كلام العرب، واللغة والعربية، والشعر، حتى إن الأصمعي - مع جلالة قدره في هذا الشأن - قرأ عليه أشعارَ الهُذَليين ما لم يجتمع في غيره، حتى قال أحمد بن حنبل - رضي اللَّه عنه -: ما عرفتُ ناسخَ الحديث من منسوخه حتى جالستُ الشافعي. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلًا قط أكملَ من "الشافعي". وقال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أَيَّ رجل كان الشافعيُّ، سمعتك تكثر من الدعاء له؟ فقال: يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف، أو عنهما من عِوَض؟ وقال أحمد: ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي، وأستغفر له.

وقال يحيى بن معين: كان أحمد بن حنبل ينهانا عن الشافعي، ثم استقبلته يومًا والشافعيُّ راكبٌ بغلةً وهو يمشي خلفه، فقلت: يا أبا عبد اللَّه! تنهانا عنه، وتمشي خلفه؟! فقال: اسكت! لو لزمتَ البغلة لانتفعتُ. وقال الشافعي: قدمت على مالك بن أنس، وقد حفظتُ "الموطأ"، فقال لي: أَحضرْ من يقرأ لك، فقلت: أنا قارىء، فقرأت عليه "الموطأ" حفظًا، فقال: إن يكُ أحدٌ يفلح، فهذا الغلام. وكان سفيان بن عُيينة إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا، التفت إلى الشافعي، فقال: سلوا هذا الغلام. وقال الحميدي: سمعت الزنجيَّ بنَ خالد - يعني: مسلمًا - يقول للشافعي: أَفتِ يا أبا عبد اللَّه! فقد واللَّه آنَ لك أن تفتي، وهو ابن خمس عشرة سنة. وقال محفوظ بن أبي توبة البغدادي: رأيت أحمد بن حنبل عند الشافعي في المسجد الحرام، فقلت: يا أبا عبد اللَّه! هذا سفيان بن عُيينة في ناحية المسجد يحدث، فقال: إن هذا يفوت وذاك لا يفوت. وقال أبو حسان الزيادي: ما رأيت محمدَ بنَ الحسن يعظِّم أحدًا من أهل العلم تعظيمَه للشافعي، ولقد جاءه يومًا، فلقيه وقد ركب محمد بن الحسن، فرجع إلى منزله، وخلا به يومه إلى الليل، ولم يأذن لأحد عليه. والشافعي أول من تكلم في أصول الفقه، وهو الذي استنبطه. وقال أبو ثور: من زعم أنه رأى مثلَ محمد بن إدريس في علمه وفصاحته ومعرفته وثباته وتمكنه، فقد كذب، كان منقطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله، لم يعتض منه. وقال أحمد بن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منة. وكان الزعفراني يقول: كان أصحاب الحديث رقودًا حتى جاء الشافعي فأيقظهم، فتيقظوا. ومن دعائه: "اللهمَّ يا لطيفُ أسألك اللطفَ فيما جرت به المقادير"، وهو مشهور بين العلماء بالإجابة، وهو مجرب، وفضائله أكثر من أن تعد. ومولده سنة خمسين ومئة، وقد قيل: إنه ولد في اليوم الذي تُوفي فيه الإمام

79 - أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، القرشي الزهري - رحمه الله -

أبو حنيفة - رحمه الله -. وكانت ولادته بمدينة غزة، وقيل: بعسقلان، وقيل: باليمن، والأول أصح، وحُمل من غزة إلى مكة وهو ابن سنتين، فنشأ بها، وقرأ القرآن الكريم. وحديث رحلته إلى مالك مشهور، فلا حاجة إلى التطويل فيه، وقدم بغداد سنة 195 فأقام بها سنتين، ثم خرج إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد فأقام بها شهرًا. ثم خرج إلى مصر، وكان وصوله إليها في سنة تسع وتسعين ومئة، ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومئتين، ودفن بعد العصر من يومه بالقرافة الصغرى، وقبره يزار بها. قال الربيع بن سليمان المرادي: رأيت هلال شعبان وأنا راجعٌ من جنازته، وقال: رأيته في المنام بعد وفاته، فقلت: يا أبا عبد اللَّه! ما صنع اللَّه بك؟ فقال: أجلسني على كرسي من ذهب، ونثر عليَّ اللؤلؤ الرطب. وذكر الشيخ أبو إسحق الشيرازي في كتاب "طبقات الفقهاء" ما مثاله. وحكى الزعفرانيُّ عن أبي عثمان بن الشافعي، قال: مات أبي وهو ابن ثمان وخمسين سنة. وقد اتفق العلماء قاطبة من أهل الحديث والفقه والأصول واللغة والنحو وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته، وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه، وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه، وأخبرني أحد المشايخ الأفاضل: أنه عمل في مناقب الشافعي ثلاثة عشر تصنيفًا، انتهى ملخصًا وتركًا للأبيات. 79 - أبو بكر، محمد بنُ مسلم بنِ عبيدِ اللَّه بنِ عبدِ اللَّه بنِ شهابٍ، القرشيُّ الزهريُّ - رحمه الله -. أحدُ الفقهاء والمحدثين والأعلام التابعين بالمدينة. رأى عشرة من الصحابة - رضي الله عنهم -، وروى عنه جماعةٌ من الأئمة، منهم: مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري. وكان قد حفظ علم الفقهاء السبعة، وكتبَ عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: عليكم بابن شهاب؛ فإنكم لا تجدون أحدًا أعلمَ بالسنة الماضية منه. توفي في سنة أربع وعشرين ومئة - رضي الله تعالى عنه -.

80 - أبو عبد الله، محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني بالولاء، الفقيه الحنفي

80 - أبو عبد اللَّه، محمدُ بنُ الحسنِ بنِ فرقدٍ الشيبانيُّ بالولاء، الفقيهُ الحنفيُّ. أصله من قرية اسمها: حرستا؛ على باب دمشق في وسط الغوطة. وقدم أبوه من الشام إلى العراق، وأقام بواسط، فولد بها محمدٌ المذكور، ونشأ بالكوفة، فطلب الحديث، ولقي جماعة من أعلام الأئمة، وحضر مجلس الإمام أبي حنيفة سنين، ثم تفقه على أبي يوسف؛ صاحب أبي حنيفة. وصنف الكتب الكثيرة النادرة: منها: "الجامع الكبير"، و"الجامع الصغير"، وغيرهما، وله في مصنفاته المسائل المشكلة، خصوصًا المتعلقة بالعربية ونشر علم أبي حنيفة. وكان من أفصح الناس، وكان إذا تكلم خُيل إلى سامعه أن القرآن نزل بلغته. ولما دخل الإمام الشافعي بغداد، كان بها؛ وجرى بينهما مجالس ومسائل بحضرة هارون الرشيد. وقال الشافعي: ما رأيت أحدًا يسأل عن مسالة فيها نظر، إلا تبينت الكراهة في وجهه، إلا محمد بن حسن، وقال أيضًا: حملتُ من علم محمد بن الحسن وقر بعير. وقال أيضًا ما رأيتُ سمينًا ذكيًا إلا محمدَ بن الحسن. وكان الرشيد قد ولاه قضاء الرقة، ثم عزله عنها، وقدم بغداد، ولم يزل ملازمًا للرشيد حتى خرج إلى الري، فخرج معه. ومولده سنة خمس وثلاثين، ومات في سنة تسع وثمانين ومئة، وقيل: مات هو والكسائي في يوم واحد بالري، ومحمدٌ المذكورُ ابنُ خالة الفراء صاحبِ النحو واللغة. 81 - أبو عبد اللَّه، محمدُ بنُ أبي الحسنِ، إسماعيل بنِ إبراهيم بنِ المغيرة بن الأحنفِ، الجعفيُّ بالولاء، البخاريُّ. الحافظ الإمام في علم الحديث، صاحب "الجامع الصحيح"، و"التاريخ" (¬1) ". ¬

_ (¬1) التاريخ المذكور قد طبع، وسمي: "التاريخ الكبير" في ثمانية أجزاء، وقامت بطبعه دائرة =

رحل في طلب الحديث إلى أكثر محدِّثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال، ومدن العراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد، واجتمع إليه أهلها، واعترفوا بفضله، وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية. حكى أبو عبد اللَّه الحميديُّ في كتاب "جذوة المقتبس"، والخطيبُ في "تاريخ بغداد": أن البخاريَّ لما قدم بغداد، سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا، وعمدوا إلى مئة حديث، فقلبوا مُتونها وأسانيدها، وجعلوا متنَ هذا الإسناد لإسناد آخر، ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس: أن يلقوا ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلسَ جماعةٌ من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها من البغداديين، فلما اطمئن المجلس بأهله، انتدب إليه واحد من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدًا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه. فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض؛ ويقولون: الرجل فهم، ومن كان منهم ضد ذلك، يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم. ثم انتدب رجل آخر من العشرة، فسأله من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن الآخر، فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحدًا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه. ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه. فلما علم البخاري أنهم فرغوا، التفتَ إلى الأول منهم، فقال: أما حديثُك الأول، فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على الولاء حتى أتى ¬

_ = المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند سنة (1379 هـ 1959 م).

على تمام العشرة، فردّ كلَّ متن إلى إسناده، وكلَّ إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين كذلك، ورد متونَ الأحاديث إلى أسانيدها، وأسانيدَها إلى متونها، فأقر له الناس بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل، وكان ابنُ صاعد إذا ذكره، يقول: الكبش النطاح. ونقل عنه محمدُ بن يوسف الفربريُّ أنه قال: ما وضعت في كتابي "الصحيح" حديثًا إلا اغتسلتُ قبل ذلك، وصليت ركعتين. وعنه أنه قال: صنفت كتابي "الصحيح" لستَّ عشرةَ سنة، خرَّجته من ست مئة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين اللَّه. وقال الفربريُّ: سمع "صحيح البخاري" تسعون ألفَ رجل، فما بقي أحد يروي عنه غيري، وروى عنه أبو عيسى الترمذي. وكانت ولادته يوم الجمعة، بعد الصلاة لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من شوال سنة 194. وقال أبو يعلى الخليلي في كتاب "الإرشاد": إن ولادته كانت لاثنتي عشرة ليلة خلت من الشهر المذكور. وتوفي ليلة السبت بعد صلاة العشاء، وكانت ليلة عيد الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة 256 بخرتنك - رحمه اللَّه تعالى -. وكان خالد بن أحمد بن خالد الذهلي أميرُ خراسان قد أخرجه من بخارى إلى خرتنك، ثم حج خالد المذكور، فوصل إلى بغداد، فحبسه الموفق بن المتوكل أخو المعتمد الخليفة، فمات في حبسه. وكان البخاري نحيفَ الجسم، لا بالطويل ولا بالقصير. والبخاري: نسبة إلى بخارى، وهي من أعظم مدن ما وراء النهر، بينها وبين سمرقند مسافة ثمانية أيام. وخرتنك: قرية من قرى سمرقند، ونسبته إلى سعيد بن جعفر الجعفي، والي خراسان، وكان له عليهم الولاء، فنسبوا إليه - رضي الله عنه -.

82 - أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري، صاحب التفسير الكبير، والتاريخ الشهير

82 - أبو جعفر، محمدُ بنُ جريرِ بنِ يزيدَ بنِ خالد (¬1) الطبري، صاحب التفسير الكبير، والتاريخ الشهير. كان إمامًا في فنون كثيرة، منها: التفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ، وغير ذلك، وله مصنفات مليحة في فنون عديدة تدل على سعة علمه وغزارة فضله. وكان من الأئمة المجتهدين، لم يقلد أحدًا. وكان أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني، المعروف بابن طرار على مذهبه، وكان ثقة في نقله. وتاريخُه أصح التواريخ وأثبتها. وذكره الشيخ أبو إسحق الشيرازي في "طبقات الفقهاء" في جملة المجتهدين، ذكره سليم الخوري في "الآثار"، قال: ومن تصانيفه كتابُ في اختلاف العلماء، لم يذكر فيه أحمد بن حنبل، وقال: لم يكن أحمد فقيهًا، وإنما كان محدثًا. ولذلك رموه بعدَ موته بالرفض، وله التاريخ المشهور، قال ابن الجوزي: بسط فيه الكلام على الوقائع بسطًا، وجعله مجلدات، وإن المشهور المتداول مختصر من الأصل، وإنه هو العمدة في هذا الفن، وللطبري كتاب في التفسير ذكره السيوطي في "الإتقان"، فقال: إنه أجلُّ التفاسير وأعظمُها؛ فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب والاستنباط، فهو يفوق بذلك تفاسير الأقدمين، انتهى. وقال النووي: أجمعت الأمة على أنه لم يُصنف مثل "تفسير الطبري". وقال أبو حامد الإسفراييني: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له تفسير ابن جرير، لم يكن ذلك كثيرًا، وذكره ابن السبكي في "طبقاته"، انتهى. ¬

_ (¬1) ذكر الخطيب اسمه: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب أبو جعفر الطبري، ولم يذكر: "خالد" حسب ما ذكر المؤلف في الكتاب نقلًا من "تاريخ بغداد" (ج 2 ص 621) (ترجمة 589).

83 - أبو جعفر، محمد بن أحمد بن نصر الترمذي، الفقيه، الشافعي، المحدث

ولد سنة 224 بآمل طبرستان، وتوفي سنة 310 ببغداد. 83 - أبو جعفر، محمد بنُ أحمدَ بنِ نصرٍ الترمذيُّ، الفقيهُ، الشافعيُّ، المحدِّثُ. لم يكن للفقهاء الشافعية في وقته أرأس منه، ولا أورع، ولا أكثر تقللًا (¬1). كان يسكن بغداد، وحدَّث بها عن يحيى بن بكير المصري، ويوسف بن عدي، وكثير بن يحيى، وغيرهم، وروى عنه: أحمد بن كامل القاضي، وعبد الباقي بن قانع، وغيرهما، وكان ثقة، من أهل العلم والفضل، والزهد في الدنيا. قال أبو الطيب، أحمدُ بنُ عثمان السمسارُ والدُ أبي حفص، عمرَ بنِ شاهين: حضرت عند أبي جعفر الترمذي؛ فسأله سائل عن حديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا"، فالنزول كيف؟ أيبقى فوقه علو؟ فقال أبو جعفر: النزولُ معقول، والكيفُ مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكان يقول: تفقهت على مذهب أبي حنيفة، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد المدينة عام حججت، فقلت: يا رسول اللَّه! قد تفقهت بقول أبي حنيفة، أفآخذ به؟ قال: لا، فقلت: أفآخذ بقول مالك بن أنس؟ فقال: خذ منه ما وافقَ سنتي، قلت: أفآخذ بقول الشافعي؟ فقال: ما هو بقوله إلا أنه أخذ بسنتي، وردّ على من خالفها، فخرجت في أثر هذه الرؤيا إلى مصر، وكتبتُ كتبَ الشافعي. قال الدارقطني: هو ثقة مأمون ناسكٌ، وكان يقول: كتبت الحديث تسعًا وعشرين سنة. ولد في سنة 210، وتوفي في سنة 295، ولم يغير شيبه، وكان قد اختلط في آخر عمره اختلاطًا عظيمًا - رحمه الله -. قال السمعاني في نسبة الترمذي: هذه النسبة إلى مدينة قديمة على طرف نهر ¬

_ (¬1) هو من كان من أهل التقلل في المطعم.

84 - أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال، الشاشي؛ الفقيه، الشافعي

بلخ؛ الذي يقال له: جيحون، والناس يختلفون في كيفية هذه النسبة؛ بعضهم يقول: - بفتح التاء ثالث حرف -؛ وبعضهم يقول: - بضمها -؛ وبعضهم يقول: - بكسرها -. والمتداوَل على لسان أهل تلك المدينة - بفتح التاء وكسر الميم -، والذي كنا نعرفه قديمًا: - كسر التاء والميم جميعًا -. والذي يقوله المتنوقون وأهل المعرفة - بضم التاء والميم -، وكل واحد يقول معنى لما يدَّعيه؛ هذا كله كلام السمعاني؛ واللَّه أعلم. قال ابن خلكان: وسألت من وراءها؛ هل هي في ناحية خوارزم؛ أم في ناحية ما وراء النهر؟ فقال: بل هي في حساب ما وراء النهر من ذلك الجانب. توفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمئة بمرو - رحمه الله تعالى -. 84 - أبو بكر محمدُ بنُ عليِّ بنِ إسماعيلَ القفالُ، الشاشيُّ؛ الفقيه، الشافعيُّ. إمام عصره بلا مدافعة، كان فقيهًا محدثًا أصوليًا لغويًا شاعرًا، لم يكن بما وراء النهر للشافعيين مثله في وقته، رحل إلى خراسان والعراق والحجاز والشام والثغور، وسار ذكره في البلاد. روى عن: محمد بن جرير الطبري، وروى عنه: الحاكمُ أبو عبد اللَّه، وأبو عبد اللَّه بن منده، وأبو عبد الرحمن السلمي، وجماعة كثير. ووقع الاختلاف في وفاته، فقيل: في سنة ست وثلاثين وثلاث مئة، وقيل: خمس وستين وثلاث مئة. والشاشي: نسبة إلى شاش، مدينة وراء نهر سيحون، خرج منها جماعة من العلماء، وهذا القفال غيرُ القفال المروزي، وهو متأخر عن هذا. 85 - أبو زيد، محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عبدِ اللَّه بنِ محمدٍ، المروزيُّ، الفاشاني، الفقيهُ، الشافعيُّ - رحمه الله -. كان من الأئمة الأجلاء، حافظًا للمذهب، دخل بغداد، وحدث بها، وسمع

86 - أبو عبد الله، محمد بن سلامة بن جعفر بن علي القضاعي، الفقيه، الشافعي

منه الحافظ أبو الحسن الدارقطني، ومحمد بن أحمد بن القاسم المحاملي، ثم خرج إلى مكة، وجاور بها سنين؛ وحدث هناك بصحيح البخاري عن محمد بن يوسف الفربري. قال الخطيب: وأبو زيد أجلُّ من رَوى هذا الكتاب، قال أبو بكر البزار: عادلت الفقيهَ أبا زيد من نيسابور إلى مكة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه - يعني: خطيئة -. وقال أبو زيد: رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في المنام - وأنا بمكة -، وكأنه يقول لجبريل - عليه السلام -: يا روح اللَّه! اصحبه إلى وطنه. توفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمئة بمرو - رحمه الله تعالى -. 86 - أبو عبد اللَّه، محمدُ بنُ سلامة بنِ جعفرِ بنِ عليٍّ القُضاعِيُّ، الفقيهُ، الشافعيُّ. ذكره الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق"، وقال: روى عنه عبد اللَّه الحميدي، وتولى القضاء بمصر نيابة من جهة المصريين، وتوجه منهم رسولًا إلى جهة الروم. وله عدة تصانيف، منها كتاب "الشهاب"، وكتاب "مناقب الإمام الشافعي وأخباره"، وله كتاب "خطط مصر"، وذكره الأمير أبو نصر بن ماكولا في كتاب "الإكمال"، وقال: كان متفننًا في عدة علوم. وتوفي بمصر سنة أربع وخمسين وأربع مئة. وذكر السمعاني في كتاب "الذيل" في ترجمة الخطيب؛ صاحب "تاريخ بغداد": أنه حج سنة 445، وحج تلك السنة أبو عبد اللَّه القضاعي المذكور، وسمع الحديث منه. والقُضاعيُّ - بالضم -: نسبة إلى قضاعة، ويقال: هو من حِمْيَر، وهو الأكثر والأصح - رحمة الله تعالى عليه -. 87 - أبو المعالي، محمدُ بنُ أبي الحسن عليِّ بنِ محمدٍ، المعروفُ بابن زكي الدين الدمشقي، الفقيهُ، الشافعيُّ. كان ذا فضائل عديدة من الفقه والأدب وغيرهما، وله النظم المليح،

88 - أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله، محمد بن إسحق بن يسار المطلبي بالولاء، المدني، صاحب "المغازي والسير"

والخطب والرسائل، وتولى القضاء بدمشق، وكان والده أبو الحسن خرج إلى مكة حاجًا، وعاد إلى بغداد، وكان عالي الطبقة في سماع الحديث؛ سمع خلقًا كثيرًا، وحدث ببغداد مدة إقامته، وسمع عليه الناس، ولم يزل بها إلى أن توفي - رحمه الله - سنة 598. 88 - أبو بكر، وقيل: أبو عبد اللَّه، محمدُ بنُ إسحقَ بنِ يسارٍ المُطَّلبيُّ بالوَلاء، المدنيُّ، صاحبُ "المغازي والسير". كان ثبتًا في الحديث عند أكثر العلماء، وأما في المغازي والسير، فلا تجهل إمامته، وذكره البخاري في "تاريخه". وقال سفيان بن عيينة: ما أدركتُ أحدًا يتهم ابنَ إسحق في حديث، وقال شعبة بن الحجاج: محمدُ بنُ إسحقَ أميرُ المؤمنين - يعني: في الحديث -، ويحكى عن الزهري: أنه خرج إلى قرية، فاتبعه طلاب الحديث، فقال لهم: أين أنتم من الغلام الأحول؟ أو: قد خلفتُ فيكم الغلام الأحول - يعني: محمد بن إسحق -. وذكر الساجي: إن أصحاب الزهري كانوا يلجؤون إلى محمد بن إسحق فيما شكوا فيه من حديث الزهري ثقةً منهم بحفظه، وحكى عن يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد القطان أنهم وثقوا محمد بن إسحق، واحتجوا بحديثه، وإنما لم يُخرج البخاري عنه، وقد وثقه؛ وكذلك مسلم بن الحجاج لم يخرج عنه إلا حديثًا واحدًا في الرجم؛ من أجل طعن مالك بن أنس فيه، وإنما طعن مالك فيه؛ لأنه بلغه عنه أنه قال: هاتوا حديث مالك! فأنا طبيب بعلله، فقال مالك: وما ابن إسحق؟ إنما هو دجال من الدجاجلة، نحن أخرجناه من المدينة - يشير، والله أعلم إلى أن الدجال لا يدخل المدينة. وحكى الخطيب في "تاريخ بغداد": أن محمد بن إسحق رأى أنسَ بنَ مالك - رضي الله عنه -، وعليه عمامة سوداء، والصبيان خلفه يشتدون، ويقولون: هذا رجل من أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا يموت حتى يلقى الدجال، توفي ببغداد سنة 151 - رحمه الله تعالى -.

89 - أبو عيسى، محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي، الضرير، البوغي، الترمذي، الحافظ المشهور

89 - أبو عيسى، محمدُ بنُ عيسى بنِ سورةَ بنِ موسى بنِ الضحاك السلميُّ، الضريرُ، البوغيُّ، الترمذي (¬1)، الحافظُ المشهور. أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث. صنف كتاب "الجامع"، و"العلل" تصنيفَ رجل متقِن، وبه كان يضرب المثل، وهو تلميذ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وشاركه في بعض شيوخه مثل: قتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر، وابن بشار، وغيرهم، وتوفي لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، ليلة الاثنين، سنة 279 بترمذ، وقال السمعاني: توفي بقرية بوغ في سنة 275، وذكره في كتاب "الأنساب" في نسبة البوغي. وبوغ: قرية من قرى ترمذ، على ستة فراسخ منها، وقد تقدم الكلام على الترمذي، والاختلاف في كسر التاء وضمها وفتحها في ترجمة (¬2) أبي جعفر، محمد بن أحمد الفقيه الشافعي - رحمه الله تعالى -. 90 - أبو عبد الله، محمد بنُ يزيدَ ابنُ ماجَه، الربعيُّ بالولاء، القزوينيُّ، الحافظُ المشهور، مصنف كتاب "السنن" في الحديث. كان إمامًا في الحديث، عارفًا بعلومه وجميع ما يتعلق به، ارتحل إلى العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام والري ومصر لكتب الحديث، وله "تفسير القرآن الكريم"، وتاريخ مليح، وكتابه في الحديث أحدُ الصحاح الستة. وكانت ولادته سنة 209، وتوفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين ومئتين - رحمه الله تعالى -، وصلى عليه أخوه أبو بكر، وتولى دفنه أخواه أبو بكر وعبد الله، وابنه عبد الله. وماجَهْ: - بفتح الميم والجيم وبينهما ألف وفي الآخر هاء ساكنة -. والربعي: - بفتح الراء - نسبة إلى ربيعة، وهي اسم لعدة قبائل، لا أدري إلى أيها يُنسب المذكور. ¬

_ (¬1) أبو عيسى الترمذي ولد سنة (209 هـ 874 م). (¬2) تقدمت ترجمته تحت رقم 83.

91 - أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم، الضبي، الطهماني الحاكم، النيسابوري، الحافظ، المعروف بابن البيع، إمام أهل الحديث في عصره، والمؤلف فيه الكتب التي لم يسبق إلى مثلها

والقزويني - بفتح القاف وكسر الواو -: نسبة إلى قزوين، وهي من أشهر مدن عراق العجم، خرج منها جماعة من العلماء. 91 - أبو عبد الله، محمدُ بنُ عبدَ الله بنِ محمدِ بنِ حمدويه بنِ نعيم بنِ الحكمِ، الضبيُّ، الطهمانيُّ الحاكمُ، النيسابوريُّ، الحافظُ، المعروف بابن البَيِّع، إمامُ أهل الحديث في عصره، والمؤلف فيه الكتبُ التي لم يسبق إلى مثلها. كان عارفًا واسعَ العلم، تفقه، ثم طلب الحديث، وغلب عليه، فاشتهر به، وسمعه من جماعة لا يحصون كثرة؛ فإن معجمَ شيوخه يقرب من ألفي رجل، حتى روى عمن عاش بعده؛ لسعة روايته، وكثرة شيوخه، وصنف في علومه ما يبلغ ألفًا وخمس مئة جزء، منها: "الصحيحان"، و"العلل"، و"الأمالي"، و"فوائد الشيوخ"، و"أمالي العشيات"، و"تراجم الشيوخ". وأما ما تفرد بإخراجه، فـ "معرفة الحديث"، و"تاريخ علماء نيسابور"، و"المدخل إلى علم الصحيح"، و"المستدرك على الصحيحين"، و"ما تفرد به كل واحد من الإمامين"، و"فضائل الإمام الشافعي"، وله إلى الحجاز والعراق رحلتان. وكانت الرحلة الثانية سنة ستين وثلاث مئة، وناظر الحفاظَ، وذاكرَ الشيوخ، وكتب عنهم أيضًا، وباحث الدارقطنيَّ فرضيه، وتقلد القضاء بنيسابور في سنة 359 في أيام الدولة السامانية، ووزارة أبي النصر محمد بن عبد الجبار العتبي، وقلد بعد ذلك قضاء جرجان، فامتنع، وكانوا ينفذونه في الرسائل إلى ملوك بني بويه. وكانت ولادته في ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة بنيسابور. وتوفي بها يوم الثلاثاء ثالث صفر سنة 405، وقال الجيلي في كتاب "الإرشاد": توفي سنة ثلاث وأربع مئة، وسمع الحديث في سنة 330، وأملى بما وراء النهر سنة 55،، وبالعراق سنة 367، ولازمه الدارقطنيُّ، وسمع منه أبو بكر القفال الشاشي، وأنظارهما. والبَيِّع: - بتشديد الياء وكسرها -، وإنما عرف بالحاكم؛ لتقلده القضاء.

92 - أبو عبد الله، محمد بن أبي نصر، فتوح بن عبد الله بن حميد بن يصل، الأزدي، الحميدي، الأندلسي الميورقي، الحافظ المشهور

92 - أبو عبد الله، محمدُ بنُ أبي نصر، فتوح بنِ عبدِ الله بنِ حُميد بن يصل، الأزديُّ، الحميديُّ، الأندلسي الميورقيُّ، الحافظ المشهور. أصله من قرطبة من ربض الرصافة، وهو من أهل جزيرة ميورقة، روى عن أبي محمد علي بن حزم الظاهري - المقدم ذكره -، واختص به، ولازمه، وأكثر من الأخذ عنه، وقرأ عليه، وشهر بصحبته، وصار على مذهبه، إلا أنه لم يكن يتظاهر به، وسمع عن أبي عمر يوسف بن عبد البر صاحب كتاب "الاستيعاب"، وعن غيرهما من الأئمة، ورحل إلى المشرق سنة 448، فحج، وسمع بمكة - حرسها الله تعالى -، وبإفريقية، وبأندلس، ومصر والشام والعراق، واستوطن بغداد. وكان موصوفًا بالنباهة والمعرفة والإتقان والدين والورع، وكانت له نغمة حسنة في قراءة الحديث، وذكره الأمير أبو نصر علي بن ماكولا صاحبُ كتاب "الإكمال" المقدم ذكرُه، فقال: أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي، وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ، وقال: لم أر مثله في عفته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم. ولأبي عبد الله المذكور كتابُ "الجمع بين الصحيحين" - البخاري ومسلم -، وهو مشهور، وأخذه الناس عنه، وله أيضًا: تاريخ علماء الأندلس، سماه: "جذوة المقتبس" في مجلد واحد، - ذكر في خطبته: أنه كتبه من حفظه، وقد طلب ذلك منه ببغداد. وكان يقول: ثلاثة أشياء من علوم الحديث يجب تقديم التهمم بها: 1 - كتاب العلل، وأحسن كتاب وضع فيه: كتاب الدارقطني، 2 - وكتاب المؤتلف والمختلف، -وأحسن كتاب وضع فيه: كتاب الأمير أبي نصر بن ماكولا، 3 - وكتاب وفيات الشيوخ، وليس فيه كتاب. وقد كنت أردت أن أجمع في ذلك كتابًا، فقال لي الأمير: رتبه على حروف المعجم، بعد أن رتبته على السنين، قال أبو بكر بن طرخان: فشغله عنه "الصحيحان" إلى أن مات، وقال ابن طرخان المذكور: أنشدنا الحميدي لنفسه:

لقاءُ الناسِ ليس يفيدُ شيئًا ... سوى الهذيانِ من قيلٍ وقالِ فأَقلِلْ من لقاء الناس، إلا ... لأخذِ العلمِ أو إصلاحِ حالِ وكان قد أدرك بدمشق الخطيبَ أبا بكر الحافظ، وروى عنه وعن غيره، وروى الخطيب أيضًا عنه. كانت ولادته قبل العشرين وأربع مئة، وتوفي ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة سنة 488 ببغداد. قال السمعاني في كتاب "الأنساب" في ترجمة الميورقي: إنه توفي في صفر سنة إحدى وتسعين وأربع مئة، هكذا وجدته في "المختصر"، الذي اختصره أبو الحسن علي بن الأثير الجزري المقدم ذكره، وفي كتاب "الذيل" للسمعاني: أنه توفي ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة سنة 488، وهو الصواب. والحُمَيْدي - بضم الحاء - نسبة إلى حُميد جدّ المذكورَ - رحمه الله تعالى -، ذكر له المقري في "نفح الطيب" ترجمة حافلة حسنة، وقال: كان إمامًا من أئمة المسلمين في حفظ الحديث، ومعرفة علله، وحرصه على نشر العلم، وبثِّه في أهله، وذكره الحجازي في "الملهب"، وأثنى عليه ثناء حسنًا، قال: وهو من علماء أئمة الحديث، لازمَ ابن حزم في الأندلس، واستفاد منه. ومن شعره - رضي الله عنه -: ألفتُ الهَوى حتى أنستُ بوحشِها ... وصرتُ بها لا في الصَّبابَةِ مولَعا فلمْ أُحْصِ كم رافقتُه من موافِقٍ ... ولم أُحْصِ كَمْ خيمتُ في الأرض مَوْضِعا ومن بعدِ جَوْبِ الأرض شرقًا ومغربًا ... فلا بدَّ لي من أن أوافيَ مَصْرَعا وله رح: طريقُ الزهدِ أفضلُ ما طريقِ ... وتقوى الله تاليةُ الحقوقِ فثقْ باللَّه يَكفكَ واستَعِنْه ... يُعِنْكَ ودعْ بنياتِ الطريقِ وله: كلام الله عزَّ وجَلَّ قولي ... وما صَحَّتْ به الآثارُ دِيني

93 - أبو عبد الله، محمد بن علي بن عمر بن محمد، التميمي، المازري، الفقيه المالكي، المحدث

وما اتَّفَقَ الجميعُ عليه بدءًا ... وعَوْدًا، فهو عن حَقٍّ مُبينِ فدعْ ما صَدَّ عن هذا وهذا ... تكنْ منها على عَيْنِ اليقينِ 93 - أبو عبد الله، محمدُ بنُ عليِّ بنِ عمرَ بنِ محمدٍ، التميميُّ، المازريُّ، الفقيهُ المالكيُّ، المحدِّثُ. أحدُ الأعلام المشار إليهم في حفظ الحديث، والكلامِ عليه. شرح "صحيح مسلم" شرحا جيدًا سماه: "كتاب المعلم بفوائد كتاب مسلم"، وعليه بنى القاضي عياض "كتاب الإكمال"، وهو تكملة لهذا الكتاب، وله في الأدب كتب متعددة، وله كتاب "إيضاح المحصول في برهان الأصول"، وكان فاضلًا متفننًا. توفي في الثامن عشر ربيع الأول سنة 536، وعمره ثلاث وثمانون سنة. والمازريُّ - بفتح الميم وبعدها ألف ثم زاي مفتوحة، وقد تكسر أيضًا ثم راء - هذه النسبة إلى مازر: وهي بُليدة بجزيرة صِقِلِّية. 94 - أبو موسى، محمدُ بنُ أبي بكرٍ عمرَ بنِ أبي عيسى أحمدَ بنِ عمرَ بنِ محمدِ بنِ أبي عيسى الأصبهانيُّ المدينيُّ، الحافظُ المشهورُ. كان إمامَ عصره في الحفظ والمعرفة، وله في الحديث وعلومه تواليف مفيدة، وصنف "كتاب المغيث" في مجلد، كمل به كتاب "الغريبين" للهروي، واستدرك عليه، وهو كتاب نافع، وله كتاب "الزيادات" في جزء لطيف جعله ذيلًا على كتاب شيخه أبي الفضل، محمدِ بن طاهر المقدسي، الذي سماه: كتاب "الأنساب"، وذكر من أهمله وما أقصر فيه. ورحل عن أصبهان في طلب الحديث، ثم رجع إليها وأقام بها. ولد سنة 501، وتوفي ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة 581 بأصبهان. والمديني: نسبة إلى مدينة أصفهان، وذكر الحافظ أبو سعد السمعاني في كتاب "الأنساب": هذه النسبة إلى عدة مدن: أولاها: مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

95 - أبو الفضل، محمد بن طاهر بن علي بن أحمد، المقدسي، الحافظ المعروف بابن القيسراني - رحمه الله -

والثانية: مرو، والثالثة: نيسابور، والرابعة: أصبهان، والخامسة: مدينة المبارك قزوين، والسادسة: بخارى، والسابعة: سمرقند، والثامنة: نسف. وذكر أن النسبة إلى هذه المدن كلها: المديني، وقال: أكثر ما ينسب إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المَدَني. 95 - أبو الفضل، محمدُ بنُ طاهرِ بنِ عليِّ بنِ أحمدَ، المقدسيُّ، الحافظُ المعروفُ بابن القيسراني - رحمه الله -. كان أحد الرحالين في طلب العلم والحديث، سمع بالحجاز والشام ومصر والثغور والجزيرة والعراق والجبال وفارس وخوزستان وخراسان، واستوطن همدان. وكان من المشهورين بالحفظ والمعرفة بعلوم الحديث، وله في ذلك مصنفات ومجموعات تدل على غزارة علمه وجودة معرفته، وصنف تصانيف كثيرة منها: "أطراف الكتب الستة"، وهي: صحيح البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، و"أطراف الغرائب"، تصنيف الدارقطني، وكتاب "الأنساب" في جزء لطيف، وهو الذي ذيله الحافظ أبو موسى الأصبهاني، وغير ذلك من الكتب. وكانت له معرفة بعلم التصوف وأنواعه متفننًا فيه، وله فيه تصنيف أيضًا، وله شعر حسن، وكتب عنه غير واحد من الحفاظ، منهم: أبو موسى المذكور. ولد في السادس من شوال سنة 448 ببيت المقدس، وأول سماعه سنة 460، ودخل بغداد، ثم رجع إلى بيت المقدس، فأحرم من ثمَّ إلى مكة، وتوفي عند قدومه من الحج آخر حجاته يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة 507 ببغداد. وكان ولده أبو زرعة طاهرُ بنُ محمد بن طاهر من المشهورين بعلو الإسناد، وكثرة السماع، ولم يكن له معرفة بالعلم، لكن كان والده قد أسمعه في صباه من جماعة منهم: أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد الدوبي بالري، وأبو الفتح، عبدوس بن عبد الله بهمذان، وأبو عبد الله، محمد بن عثمان الكامخي، وأبو الحسن مكي بن منصور السلار، وقدم به بغداد، فسمع بها من

96 - أبو عبد الله، محمد بن يحيى بن منده، العبدي، الحافظ المشهور صاحب كتاب "تاريخ أصبهان"

أبي القاسم علي بن أحمد بن ريان، وغيره، وسكن بعد وفاة أبيه بهمدان. وكان يقدم بغداد للحج، فحدث بها أكثر سماعاته، وسمع منه الوزير أبو المظفر يحيى بن هبيرة، وغيره. وكان مولده بالري سنة 481، وتوفي سنة 566 بهمدان. والقيسراني: نسبة إلى قيسرية، وهي بُليدة بالشام على ساحل البحر، وهي الآن بيد الفرنج - خذلهم الله تعالى -. قلت: ثم استنقذها من أيديهم الملكُ الظاهر ركنُ الدين بيبرس الصالحيُّ في شهور سنة 663، وخربها، وهي الآن خراب. 96 - أبو عبد الله، محمدُ بنُ يحيى بن مَنْدَهْ، العبديُّ، الحافظُ المشهورُ صاحبُ كتاب "تاريخ أصبهان". كان أحد الحفاظ الثقات، وهم أهل بيت كبير؛ خرج منه جماعة من العلماء ولم يكونوا عبديين، وإنما أمُّ الحافظ أبي عبد الله المذكور، واسمها برة بنت محمد، كانت من بني عبد ياليل، فنسب إلى أخواله، ذكر ذلك الحافظ أبو موسى الأصبهاني في كتاب "زيادات الأنساب"، واستوفى رفع نسبها هناك. قال ابن خلكان: فأَضربتُ عن ذكره لطوله، وكذلك ذكره الحازمي في كتاب "العجالة"، لكنه لم يرفع في نسبها، توفي الحافظ المذكور في سنة 301. ومنده: - بفتح الميم والدال المهملة بينهما نون ساكنة وفي الآخر هاء ساكنة أيضًا -. 97 - أبو عبد الله، محمدُ بنُ يوسفِ بنِ مطرِ بنِ صالحِ بنِ بشرِ "الفربري" رح. راويةُ "صحيح البخاري" عنه، رحل إليه الناس، وسمعوا منه هذا الكتاب. ولد في سنة 231، وتوفي ثالث شوال سنة 320. ونسبته إلى فَرَبْر - بفتح الفاء والراء وسكون الباء الموحدة وفي آخرها راء ثانية -، وهي بلدة على طرف جيحون مما يلي بخارى، وهو آخر من روى "الجامع الصحيح" عن البخاري - رحمه الله تعالى -.

98 - أبو عبد الله، محمد بن الفضل بن أحمد بن محمد بن أحمد الصاعدي، الفراوي، النيسابوري

98 - أبو عبد الله، محمدُ بنُ الفضلِ بنِ أحمدَ بنِ محمدِ بنِ أحمدَ الصاعديُّ، الفَراوِيُّ، النيسابوريُّ. كان فقيهًا محدثًا مفتيًا مناظرًا واعظًا، وكان يحمل الطعام إلى المسافرين الواردين عليه، ويخدمهم بنفسه مع كبر سنه. سمع "صحيح مسلم" من عبد الغافر الفارسي، و"صحيح البخاري" من سعيد بن أبي سعيد، وسمع من الشيخ إسحق الشيرازي، والحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، وأبي القاسم القشيري، وإمام الحرمين. وتفرد برواية عدة كتب للحافظ البيهقي، مثل "دلائل النبوة"، و"الأسماء والصفات"، و"البعث والنشور"، و"الدعوات الكبيرة"، و"الصغيرة"، وكان يقال في حقه: الفراوي ألف راوي. ولد سنة 441 أو 442 بنيسابور، وسمع الحديث سنة 47، وتوفي سنة 530. والفَراوي: نسبة إلى فَراوة، وهي بليدة مما يلي خُوارزم، يقال لها: رباط فراوة، بناها عبد الله بن طاهر في خلافة المأمون، وهو يومئذ أمير خراسان. 99 - أبو بكر، محمد بنُ الحسينِ بنِ عبدِ الله، الآجُرِّيُّ، الفقيهُ، المحدِّث، الشافعيُّ، صاحب كتاب "الأربعين حديثًا"، وهي مشهورة به. وكان صالحًا عابدًا، وروى عن أبي مسلم الكُجِّي، وأبي شعيب الحَرَّاني، وأحمدَ بن يحيى الحُلْواني، وخلق كثير من أقرانِهم، ذكره محمد بن إسحق النديم في كتابه الذي سماه "الفهرست"، وصنف في الفقه والحديث كثيرًا. وذكره الحافظ الخطيب البغدادي في "تاريخه"، وكان ثقة صدوقًا دينًا، وله تصانيف كثيرة، وحدَّث ببغداد، ثم انتقل إلى مكة، فسكنها حتى توفي بها. وروى عنه جماعة من الحفاظ، منهم: أبو نعيم الأصبهاني صاحب كتاب "حلية الأولياء"، وغيره. قال ابن خلكان: وأخبرني بعض العلماء: أنه لما دخل مكة - حرسها الله

100 - أبو الفضل، محمد بن ناصر بن محمد بن علي بن عمر، البغدادي، الحافظ، الأديب، المعروف بالسلامي

تعالى -، أعجبته، فقال: اللهمَّ ارزقني الإقامة بها سنة، فسمع هاتفًا يقول له: بل ثلاثين سنة، فعاش بعد ذلك ثلاثين سنة؛ ثم مات بها في المحرم سنة ستين وثلاث مئة. قال الخطيب: قرأت ذلك على بلاطة قبره بمكة. والآجري - بفتح الهمزة الممدودة وضم الجيم وتشديد الراء -: هذه النسبة إلى الآجُرّ، ولا أعلم لأي معنًى نُسب إليه. قال ابن خلكان: ورأيت حاشية على كتاب "الصلة" صورتها: الإمام أبو بكر الآجري نسب إلى قرية من قرى بغداد، يقال لها: آجر، واستوطن مكة - حرسها الله تعالى -. وتوفي بها أول يوم من المحرم سنة ستين وثلاث مئة - رحمه الله تعالى -. 100 - أبو الفضل، محمدُ بنُ ناصرِ بنِ محمدِ بنِ عليِّ بنِ عمرَ، البغداديُّ، الحافظُ، الأديبُ، المعروفُ بالسلامي. كان حافظ بغداد في وقته، وكان له حظ وافر من الأدب، وأخذ الأدب عن الخطيب أبي زكريا التبريزي، وخطُّه في غاية الصحة والإتقان، وكان كثير البحث عن الفوائد وإثباتها، روى عنه الأئمة فأكثروا، وأخذ عنه علماء عصره، منهم: الحافظ أبو الفرج بن الجوزي، وأكثرُ روايته عنه، وذكره الحافظ أبو سعد بن السمعاني في كتبه. ولد سنة سبع وستين وأربع مئة، وتوفي سنة 550 ببغداد، وأُخرج من الغد، وصُلِّي عليه بالقرب من جامع السلطان ثلاث مرات، وعُبر به إلى جامع المنصور، فصلُّي عليه، ثم إلى الحربية، وصلي عليه، ودُفن بباب حرب. والسلامي: نسبة إلى مدينة السلام "بغداد". قال ابن السمعاني؛ كذا كان يكتب لنفسه "السلامي" - يعني: الحافظ المذكور -. 101 - أبو بكر، محمدُ بنُ أبي عثمانَ بنِ موسى الحازميُّ، الهمذانيُّ، الملقبُ: زين الدين. أحدُ الحفاظ المتقِنين، وعبادِ الله الصالحين. حفظ القرآن، وحضر بهمدان

102 - أبو بكر، محمد بن الحسن بن زياد بن هارون بن جعفر المقرىء، المعروف بالنقاش، الموصلي الأصل، البغدادي المولد والمنشأ

أبا الوقت عبدَ الأول السجزيَّ، وسمع بها من أبي المنصور شهردار بن شيرويه الديلمي، وأبي زرعة طاهر بن محمد المقدسيِّ، وأبي العلاء الحسن بنِ أحمدَ الحافظِ، وجماعة كثيرة، وتفقه وسمع الحديث ببغداد من أبي الحسين عبد الحق، وأبي نصر عبد الرحيم، وأبي الفتح عبيد الله، وغيرهم. ثم عني بنفسه، فارتحل في طلبه إلى عدة بلاد من العراق، ثم إلى الشام والموصل، وبلاد فارس وأصبهان وهمدان، وكثير من بلاد آذربيجان، وكتب عن أكثر شيوخ هذه البلاد. وغلب عليه الحديث، وبرع فيه، واشتهر به، وصنف فيه وفي غيره كتبًا مفيدة، منها: "الناسخ والمنسوخ" في الحديث، وكتاب "الفيصل في مشتبه النسبة"، وكتاب "سلسلة الذهب فيما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن الإمام الشافعي"، و"شروط الأئمة"، وغير ذلك. واستوطن بغداد، ولم يزل مواظب الخير إلى أن اخترمته المنية وغصنُ شبابه نضير، وذلك في ليلة الاثنين الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة 584 بمدينة بغداد، ودفن مقابل قبر الجُنيد - رضي الله عنه -، بعد أن صلى عليه خلق كثير، وفرق كتبه على أصحاب الحديث. وكانت ولادته في سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمس مئة بطريق همدان، وحمل إليها، ونشأ بها - رحمه الله تعالى -. والحازمي: نسبة إلى جده حازم. 102 - أبو بكر، محمدُ بنُ الحسن بن زيادِ بنِ هارونَ بنِ جعفرٍ المقرىء، المعروفُ بالنقاش، الموصليُّ الأصل، البغداديُّ المولد والمنشأ. كان عالمًا بالقرآن والتفسير، وسافر الكثير شرقًا وغربًا وسمع بالكوفة والبصرة ومكة ومصر والشام والجزيرة والموصل والجبال وخراسان وما وراء النهر، وفي حديثه مناكير بأسانيد مشهورة، وذُكر النقاشُ عند طلحة بن محمد بن جعفر، فقال: كان يكذب في الحديث، والغالب عليه القصص، وروى عن جماعة من جلة العلماء، وروا عنه. قال البرقاني: كل حديث النقاش مناكير، وليس في تفسيره حديث صحيح.

103 - أبو العباس محمد بن صبح مولى بنى عجل المعروف بابن السماك، القاص الكوفي، الزاهد المشهور

ولد سنة 265، وتوفي سنة 351. والنقاش: مَنْ ينقش السقوف والحيطان وغيرها، وكان أبو بكر المذكور في مبدأ أمره يتعاطى هذه الصنعة، فعرف بها. 103 - أبو العباس محمدُ بنَ صبح مولى بنى عِجْل المعروف بابن السماك، القاصُّ الكوفيُّ، الزاهدُ المشهورُ. لقي جماعة من الصدر الأول، وأخذ عنهم؛ مثل: هشام بن عروة، والأعمش، وغيرهما، وروى عنه أحمد بن حنبل وأنظاره. ومن كلامه: خَفِ الله كأنك لم تُطعه، وارجُ الله كأنك لم تَعصه. ودخل على بعض الأمراء يشفع إليه في رجل، فقال له: إني أتيتك في حاجة، وإن الطالب والمطلوب منه عزيزان، إن قضيت الحاجة ذليلان، إن لم تقضها فاختر لنفسك: عزَّ البذل على ذل المنع، واختر لي عزَّ النجح على ذلِّ الرد، فقضى حاجته. ومن كلامه: من جرعته الدنيا حلاوتها بميله إليها، جرعته الآخرة مرارتَها بتجافيها عنه. توفي سنة 183 بالكوفة. والسماك - بالميم المشددة -: نسبة إلى بيع السمك، وصيده. 104 - أبو بكر، محمدُ بنُ أبي محمدٍ القاسمِ بنِ محمدِ بنِ بشارِ بنِ الحسنِ، الأنباريُّ النحويُّ. كان علامة وقته في الأدب، وأكثر الناس حفظًا له، وكان صدوقًا، ثقة، دَيِّنًا، خيرًا، من أهل السنة، صنف كتبًا كثيرة. قال أبو علي القالي: كان أبو بكر الأنباري يحفظ فيما ذكر ثلاثَ مئة ألف بيت شاهد في القرآن الكريم، وقيل: إنه كان يحفظ مئة وعشرين تفسيرًا للقرآن بأسانيدها، وكتابه "غريب الحديث" قيل: خمسة وأربعون ألف ورقة. ولد سنة إحدى وسبعين ومئتين، وتوفي سنة سبع وعشرين وثلاث مئة - رحمه الله -.

105 - أبو عبد الله، محمد بن عمر بن واقد، الواقدي، المدني، مولى بني هشام

105 - أبو عبد الله، محمدُ بنُ عمرَ بنِ واقدٍ، الواقديُّ، المدنيُّ، مولى بني هشام. كان إمامًا عالمًا؛ له التصانيف في المغازي وغيرها. سمع من أبي ذئب، ومعمر بن راشد، ومالك بن أنس، والثوريِّ، وغيرهم، وروى عنه كتابه: محمدُ بن سعد، وتولى القضاء بشرقي بغداد، وولاه المأمون القضاء بعسكر المهدي، وضعفوه في الحديث، وتكلموا فيه. ولد في أول سنة 103، وتوفي سنة 207. قال ابن قتيبة: وهو يومئذ قاض ببغداد، وله ثمان وسبعون سنة - رحمه الله تعالى -. 106 - أبو عبد الله، محمدُ بنُ سعدٍ، الزهريُّ كاتبُ الواقديِّ. كان أحد الفضلاء والنبلاء، صحب الواقدي، وسمع سفيان بن عيينة وأنظاره، وروى عنه: أبو بكر بن أبي الدنيا، وأبو محمد الحارث بن أبي أسامة التميمي. وصنف كتابًا كبيرًا في طبقات الصحابة والتابعين والخلفاء (¬1) إلى وقته، فأجاد فيه، وأحسن، وهو يدخل في خمس عشرة مجلدة. وكان صدوقًا، ثقة، وكان كثير العلم، غزير الحديث والرواية، كثير الكتب، كتب الحديث والفقه وغيرهما. قال الخطيب في "تاريخ بغداد": محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثُه يدل على صدقه؛ فإنه يتحرى في كثير من رواياته، وهو من موالي بني العباس. توفي سنة 230 ببغداد - رحمه الله تعالى -. 107 - أبو بشر، محمدُ بنُ أحمدَ بنِ حمادِ بنِ سعدٍ، الأنصاريُّ الولاء، الورَّاقُ، الرازيُّ، الدولابيُّ. كان عالمًا بالحديث والأخبار والتواريخ؛ سمع الأحاديث بالشام والعراق. ¬

_ (¬1) كتاب "الطبقات الكبير" المذكور لابن سعد، طبع أول مرة في ليدن، سنة 1321 هـ.

108 - أبو عبد الله، محمد بن عمران بن موسى بن سعيد، الكاتب المرزباني

وروى عن: محمد بن بشار، وأحمد بن عبد الجبار العطاردي، وخلقٍ كثير، وروى عنه: الطبراني، وأبو حاتم بن حبان البستي. وله تصانيف مفيدة في التاريخ ومواليدِ العلماء ووَفياتهم، واعتمد عليه أربابُ هذا الفن في النقل، وأخبروا عنه في كتبهم ومصنفاتهم المشهورة. وبالجملة: فقد كان من الأعلام في هذا الشأن، وممن يرجَع إليه، وكان حسن التصنيف. توفي سنة 320 بالعرج. والدولابيُّ: نسبة إلى دولاب، وهي قرية من أعمال الري - رحمه الله تعالى -. 108 - أبو عبد الله، محمدُ بنُ عمرانَ بنِ موسى بنِ سعيد، الكاتبُ المرزبانيُّ. صاحب أخبار (¬1). وتواليفه كثيرة، وكان ثقة في الحديث، ومائلًا إلى التشيع في المذهب، حدَّث عن: عبد الله بن محمد البغوي، وأبي بكر بن داود السجستاني، في آخرين. ولد سنة 297، أو سنة 296 وتوفي سنة 384، والمرزُباني: نسبة إلى أجداده، وكان اسمه المَرْزُبان، وهذا الإسم لا يطلق عند العجم إلا على الرجل المقدم العظيم القدر، وتفسيره بالعربية: حافظ الحد، قاله ابن الجواليقي في كتابه "المعرب". 109 - أبو عبد الله، محمدُ بنُ القاسمِ الخضرِ بنِ محمدِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ الله المعروفُ بابن تيمية الحَرَّاني، الملقب: فخر الدين، الخطيبُ، الواعظُ، الفقيهُ، الحنبليُّ. كان فاضلًا، تفرد في بلاده بالعلم، وكان المشار إليه في الدين، لقي جماعة من العلماء، وأخذ عنهم العلوم، وقدم بغداد، وتفقه بها على أبي الفتح بن المَنِّي. وسمع الحديث بها من: شهدة بنتِ الأبري، وابنِ المقرب، وابن البطي، وغيرهم؛ وصنف في مذهب الإمام أحمد مختصرًا أحسنَ فيه، وله ديوان خطب مشهور، وهو في غاية الجودة، وله "تفسير القرآن الكريم"، وله شعر حسن. ¬

_ (¬1) ذكرت كنيته "أبو عبيد الله" في "الأعلام" للزركلي.

وكانت إليه الخطابة بحرَّان، ولأهلِه من بعده، ولم يزل أمرُه جاريًا على سداد وصلاح حال. ولد سنة 542 بمدينة حَرّان، وتوفي بها سنة 621. ذكره أبو البركات بنُ المستوفي في "تاريخ أربل"، فقال: ورد أربل حاجًّا، ثم قال: سألته عن اسم تيمية ما معناه؟ فقال: حج أبي أو جدي، وكانت امرأته حاملًا، فلما كان بتيماء، رأى جويرية حسنة قد خرجت من خباء، فلما رجع إلى حران، وجد امرأته قد وضعت جارية، فلما رفعوها إليه، قال: يا تيمية! يا تيمية! يعني: أنها تشبه التي رآها بتيماء، فسمي بها، أو كلامًا هذا معناه. وتيماء: بليدة في بادية تبوك، وتيمية: منسوبة إلى هذه البليدة، وكان ينبغي أن يكون تيماوية؛ لأن النسبة إلى تيماء تيماوية، لكنه هكذا قال، واشتهر كما قال. قال ابن رجب في ترجمته: قرأ القرآن، وشرع في الاشتغال بالعلم من صغره، وارتحل إلى بغداد، وسمع الحديث بها، وأيضًا بحران، ولازم أبا الفرج ابنَ الجوزي ببغداد، وسمع منه كثيرًا من مصنفاته، وقرأ الأدب على ابن الخشاب، وبرع في الفقه، والتفسير، وغيرهما، ثم أخذ في التدريس والوعظ والتصنيف، وشرع في إلقاء التفسير بكرةَ كل يوم بجامع حران، وولي الخطابة والإمامة بها، وبنى مدرسة، وهو واعظ البلد، وله القبول من عوام البلد، والوجاهة عند ملوكها. وكان بارعًا في تفسير القرآن، وجميع العلوم له فيها يد بيضاء، أثنى عليه ابن نقطة، وقال ابن النجار: سمعت منه ببغداد وحران، وقال المنذري: له خطب مشهورة وشعر، ولنا منه إجازة، وحجَّ، وله تصانيف كثيرة، منها: "ترغيب القاصد في تقريب المقاصد"، و"بلغة الساغب وبغية الراغب". وكانت بينه وبين الشيخ موفق الدين مراسلاتٌ ومكاتبات، ووقع بينهما تنازع في مسألة تخليد أهل البدع المحكوم بكفرهم في النار، وكان الشيخ الموفق لا يطلق عليهم التخليد، فأنكر عليه الشيخ الفخر، وقال: إن كلام الأصحاب مخالف لذلك.

وأرسل يقول للشيخ موفق الدين: انظر! كيف تستدرك هذه الهفوة، فأرسل إليه الشيخ الموفق كتابًا، أوله: أخوه في الله عبدُ الله بن أحمد يسلِّم على أخيه الإمام الكبير فخر الدين جمال الإسلام ناصر السنة - أكرمه الله بما أكرم به أولياءه، وأجزل من كل خير عطاءه، وبلغه أمله ورجاءه؛ وأطال في طاعة الله بقاءه - إلى أن قال: إنني لم أنه عن القول بالتخليد نافيًا له، ولاعِبْتُ القولَ به منتصرًا لضده، وإنما نهيت عن الكلام فيها من الجانبين إثباتًا أو نفيًا؛ كفًا للفتنة بالخصام فيها، واتباعًا للسنة في السكوت عنها، إذ كانت هذه المسألة من جملة المُحْدَثات، وأشرت على من قبل نصيحتي بالسكوت عما سكت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، والأئمة المقتدى بهم من بعده، إلى أن قال: وأما قوله - وفقه الله -: إني كنت مسألة إجماع فصرت مسألة خلاف، فإنني إذا كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حزبه متبعًا للسنة، ما أبالي مَنْ خالفني، ولا مَنْ خالف فيَّ، ولا أستوحش لفوات من فارقني، وإني لمعتقد أن الخلق كلهم لو خالفوا السنة وتركوها، وعادَوْني من أجلها، لما ازددت لها إلا لزومًا، ولا بها إلا اغتباطًا - إن وفقني الله لذلك -؛ فإن الأمور كلها بيده، وقلوب العباد بين إصبعيه. وأما قوله: إن هذه المسألة مما لا يخفى، فقد صدق وبرّ، ما هي - بحمد الله - عني خفية، بل هي متجلية مضيئة، ولكن إن أظهر عنده بسعادته تصويب الكلام فيها تقليدًا للشيخ أبي الفرج، وابن الزاغوني، فقد تيقنت تصويب السكوت عن الكلام فيها اتباعًا لسيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، ومن هو حجة على الخلق أجمعين، ثم لخلفائه الراشدين، وسائر الصحابة والأئمة المرضيين، لا أبالي مَنْ لامني في اتباعهم، ولا من فارقني في وفاقهم، فأنا كما قال الشاعر: أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حُبًّا لذِكْرِكِ فَلْيَلُمْني اللُّوَّمُ فمن وافقني على متابعتهم، وأجابني إلى مرافقتهم وموافقتهم، فهو رفيقي وحبيبي وصديقي، ومن خالفني في ذلك، فليذهب حيث شاء، فإن السبل كثيرة، لكن خطرة لا خضرة. وقوله بسعادته: إن تعلقه بأن لفظة التخليد لم ترد، ليس بشيء، فأقول: لكن عندي - أنا - هو الشيء الكبير، والأمر الجليل الخطير؛

فأنا أوافق أئمتي في سكوتهم كموافقتي لهم في كلامهم. أقول إذا قالوا؛ واسكت إذا سكتوا؛ وأسير إذا ساروا؛ وأقف إذا وقفوا، وأحتذي طريقتهم في أحوالهم جهدي، ولا أنفرد عنهم خيفة الضيعة إن سرت وحدي. إلى أن قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أطلق التكفير في مواضع لا تخليد فيها؛ وذكر حديث: "سبابُ المؤمن فسوق، وقتاله كفر"، وغيره من الأحاديث، وقال، قال أبو نصر السجزي: اختلف القائلون بتكفير القائل بخلق القرآن، فقال بعضهم: كفرٌ ينقل عن الملة، وقال بعضهم: كفرٌ لا ينقل عن الملة. ثم إن الإمام أحمد الذي هو أشدُّ الناس على أهل البدع، قد كان يقول للمعتصم: يا أمير المؤمنين! ويرى طاعة الخلفاء الداعين إلى القول بخلق القرآن وصلاة الجمع والأعياد خلفهم، وأما قولك: انظر كيف تتلافى هذه الهفوة، وتزيل تكدير هذه الصفوة؛ فإن قنع مني بالسكوت، فهو مذهبي وسبيلي، وعليه تعويلي، وقد ذكرتُ عليه دليلي، وإن لم يرض مني إلا أن أقول ما لا أعلم، وأسلك السبيل الذي غيره أسد وأسلم واخلع عذاري في سلوك، ما فيه عثاري، ويسخط عليَّ الباري، ففي هذا التلافي إتلافي، وتكدير صافي أوصافي، ولا يرضاه لي الأخ المُصافي، ولا من يريد إنصافي، ولا من سعى في إسعافي، وما أتبعه ولو أنه بشرٌ الحافي. إلى أن قال: واعلم أيها الأخ الناصح أنك قادم على الله، ومسؤول عن مقالتك هذه، فانظر من السائل، وانظر ما أنت له قائل، فاعد للمسألة جوابًا؛ وادرع للاعتذار جلبابًا؛ ولا تظن أنه يقنع منك في الجواب تقليد بعض الأصحاب، ولا يكتفي منك بالحوالة على الشيخ أبي الفرج، وابن الزاغوني، وأبي الخطاب، ولا يخلصك الاعتذار بأن الأصحاب اتفقوا على أنهم من جملة الكفار، ولازم هذا الخلود في النار؛ فإن هذا كلام مدخول، وجواب غير مقبول. إلى أن قال: فأنتم إن كنتم أظهركم الله على غيبه، وبرأكم من الجهل وعيبه، وأطلعكم على ماهو صانع بخلقه، فنحن قوم ضعفاء، فقد قنعنا بقول نبينا - عليه الصلاة والسلام -، وسلوك سبيله، ولم نتجاسر على أن نتقدم بين يدي الله ورسوله، فلا

تجملوا قوتكم على ضعفنا، ولا علمكم على جهلنا. قال ابن رجب وهي رسالة طويلة لخَّصتُ منها هذا القدر. وأخذَ العلمَ عن الشيخ فخر الدين جماعة، منهم: ولده أبو محمد عبد الغني خطيب حران، وابن عمه الشيخ مجد الدين عبد السلام، وسمع منه خلق كثير من الأئمة والحفاظ، منهم: ابن نقطة، وابن النجار، وسبط ابن الجوزي، وله شعر كثير حسن منه: أَرى قُوَّتي في كلِّ يومٍ وليلة ... تؤول إلى نقصٍ وتُفْضي إلى ضعفِ وما ذاكَ من كَرِّ الليالي ومَرِّها ... ولكنْ صروفُ الدهرِ صرفٌ على صَرْفِ فراقٌ وهجرٌ واخترامُ منيةٍ ... وكيدُ حسودٍ للعداوة لا يُخفي وداءٌ دخيلٌ في الفؤاد مقلقلُ ... الضُّلوعِ يَجِلُّ الخَطْبُ فيه عنِ الوَصْفِ وعِشْرةُ أبناءِ الزمان ومكرُهم ... وواحدةٌ منها لِهَدِّ القُوَى تكفي بُليت بها منذُ ارتقيتُ ذرا العلا ... كما البدرُ في النقصان من ليلةِ النصفِ وما برحَتْ تَتْرى إلى أن بكيت من ... تَضاعيفها ضَعفًا يزيدُ على ضَعْفِ وأصبحت شبهًا بالهلال صبيحةَ ... الثلاثينَ أخفاه المحاقُ عن الطَّرْفِ توفي - رحمه الله تعالى - يوم الخميس عاشر صفر سنة 621، ولما مات، كان في الصلاة. وقد ذكر ولده مناماتٍ صالحة رُئيت له بعد وفاته، وهي كثيرة جدًا، جمعَها في جزء. منها: أن رجلًا حدثه: أنه رأى والده الشيخ فخر الدين جالسًا على تخت عالٍ، وعليه ثياب جميلة، فقلت له يا سيدي! ما هذا؟ فقرأ: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [الكهف: 31]. ورآه آخر فسأله: ماذا فعل الله بك؟ قال: غفر لي. ورأى غير واحد جماعة معهم سيوف ورايات، فسألوا عن حالهم، فقالوا: السلطان يركب، ونحن في انتظاره، فقيل له: من السلطان؟ قالوا: الشيخ فخر الدين. ورآه رجل آخر وهو على أحسن حالة، فقال: أليس قد مِتَّ؟ قال: بلى! ولكن أنا - إن شاء الله تعالى - في الأحياء. ورآه آخر، فقال أخبرني الموت كيف هو؟ فقال: والله! الموت وقت حضوره صعب شديد، وبعد الموت كله هين، ثم

110 - أبو بكر، محمد بن عبد الغني بن أبي بكر بن شجاع، الحنبلي، المعروف بابن نقطة، الملقب: معين الدين، البغدادي، المحدث

قال لي: الصلاة ما عند الله شيء أفضل منها، فمن واظب عليها محافظًا على السنة والجماعة، ما يلقى إلا الخير الكثير. ورآه أبو الحسن النجار، وكان يلازم الشيخَ لسماع الحديث، قال: رأيته بعد موته في المنام على كرسي، وتحته رجال ونساء كثير، سمعته ينشد: تَجَلَّى الحبيبُ لأحبابِهِ ... فطوبى لمَنْ كان يُعنىِ بهِ فلمَّا تجلَّى لهم كَبَّروا ... وخَرُّوا سجودًا على بابِهِ والمنامات الصالحة له كثيرة. 110 - أبو بكر، محمدُ بنُ عبدِ الغنيِّ بنِ أبي بكرِ بنِ شجاع، الحنبليُّ، المعروفُ بابن نقطة، الملقب: معين الدين، البغداديُّ، المحدثُ. كان من طلبة الحديث المشهورين به، المكثرين من سماعه وكتابته، والراحلين في تحصيله، دخل خراسان وبلاد الجبل والجزيرة والشام ومصر، ولقي المشايخ، وأخذ عنهم، واستفاد منهم، وكتب الكثير، وعلق التعاليق النافعة، وذَيَّلَ على "الإكمال" كتابِ الأمير أبي نصر بن ماكولا المقدَّم ذكره، وما أقصر فيه، وجاء في مجلدين، وله كتاب آخر لطيف في الأنساب، مثل الذيل على كتابي محمدِ بن طاهرٍ المقدسيَّ، وأبي موسى الأصبهاني، وكتاب "التقييد لمعرفة الرواة والسنن المسانيد". قال ابن خلكان: وكنت أسمع به في وقته، ولم أجتمع به، وذكره أبو البركات بن المستوفى في "تاريخ أربل"، وعده في جملة من وصل إليها، وسمع الحديث بها، وأثنى عليه. توفي في الثاني والعشرين من صفر سنة 629 ببغداد، وهو في سن الكهولة - رحمه الله تعالى -، ذكر له ابن رجب ترجمة حسنة، وأثنى عليه كثيرًا. 111 - أبو عبد الله، محمدُ بنُ أبي المعالي سعيدِ بنِ أبي طالبٍ يحيى بنِ أبي الحسنِ، المعروفِ بابن الدبيتي، الفقيهُ الشافعيُّ، المؤرخ، الواسطيُّ. سمع الحديث كثيرًا، وعلق تعاليق مفيدة، وكانت له محفوظات حسنة، وكان يوردها ويستعملها في محاورته.

112 - أبو الحسين، مسلم بن الحجاج بن مسلم، القشيري، النيسابوري

وكان في الحديث وأسماء رجاله والتاريخ من الحفاظ المشهورين، والنبلاء المذكورين، وصنف كتابًا جعله ذيلًا على تاريخ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني الحافظ المقدم المذيل على "تاريخ بغداد" للخطيب، وذكر فيه ما لم يذكره السمعاني ممن أغفله، وما أقصر فيه، وهو في ثلاث مجلدات، وصنف تاريخًا لواسط، وصنف غير ذلك، ذكره ابن المستوفي في "تاريخ أربل"، ولم يزل على اجتهاده وتعليقه إلى أن توفي. ولد سنة ثمان وخمسين وخمس مئة بواسط، وتوفي سنة 637 ببغداد - رحمه الله -. والدبيتي: نسبة إلى دبيتا، وهي قرية بنواحي واسط، وأصله من كنجه، وقدم جده من دبيتا، وسكن واسط، وبها توالدوا. 112 - أبو الحسين، مسلمُ بنُ الحَجَّاج بنِ مسلم، القُشيريُّ، النيسابوريُّ. صاحبُ "الصحيح"، أحدُ الأئمة الحفاظ، وأعلام المحدثين. رحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر، وسمع يحيى بن يحيى النيسابوري، وأحمد بن حنبل، وإسحقَ بنَ راهويه، وعبد الله بن مسلمة القعنبيَّ، وغيرَهم، وقدم بغداد غير مرة، فروى عنه أهلها، وآخر قدومه إليها في سنة 259، وروى عنه الترمذي، وكان من الثقات. وقال محمد الماسرجسيُّ: سمعت مسلمَ بنَ الحجاج يقول: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاث مئة ألف حديث مسموعة. وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث. وقال الخطيب البغدادي: كان مسلم يناضل عن البخاري حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه، وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ: لما استوطن البخاري نيسابور، أكثر مسلم من الاختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ، ونادى عليه، ومنع الناس من الاختلاف إليه حتى هجر، وخرج من نيسابور في تلك المحنة، وقطعه

أكثر الناس غير مسلم؛ فإنه لم يتخلف عن زيارته، فأُنهي إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديمًا وحديثًا، وأنه عوتب على ذلك بالحجاز والعراق، ولم يرجع عنه، فلما كان يوم مجلس محمد بن يحيى، قال في آخر مجلسه - إلا من قال - باللفظ: فلا يحل أن يحضر مجلسنا. فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته، وقام على رؤوس الناس، وخرج من مجلسه، وجمع كلَّ ما كتب منه، وبعث به على ظهر حَمَّال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت بذلك الوحشة، وتخلف عنه وعن زيارته. وتوفي مسلمٌ المذكور عشيةَ يوم الأحد، ودُفن بنصر آباد ظاهرَ نيسابور يوم الاثنين لخمس، وقيل: لست بقين من شهر رجب الفرد سنة 261 بنيسابور، وعمره خمس وخمسون سنة، هكذا وجدته في بعض الكتب، ولم أر أحدًا من الحفاظ ضبط مولده، ولا تقدير عمره، وأَجمعوا على أنه ولد بعد المئتين. قال ابن خلكان: وكان شيخنا تقي الدين أبو عمرو عثمان المعروف بابن الصلاح يذكر مولده، وغالب ظني أنه قال: سنة 202، ثم كشفت ما قاله ابن الصلاح، فإذا هو في سنة 206، نقل ذلك من كتاب "علماء الأمصار" تصنيف الحاكم أبي عبد الله بن البيع النيسابوري الحافظ. ووقفت على الكتاب الذي نقل منه، وملكت النسخة التي نقل منها أيضًا، وكانت ملكه، وبيعت في تركته، ووصلتْ إليَّ وملكتُها، وصورة ما قاله: إن مسلم بن الحجاج توفي بنيسابور لخمس بقين من شهر رجب الفرد سنة 261، وهو ابن خمس وخمسين سنة، فتكون ولادته في سنة 206، والله أعلم. وأما محمد بن يحيى المذكور، فهو أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد ابن فارس بن ذؤيب الذهلي النيسابوري، وكان أحد الحفاظ الأعيان، روى عنه: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه القزويني، وكان ثقة مأمونًا، وكان سبب الوحشة بينه وبين البخاري: أنه لما دخل البخاري مدينة نيسابور، شغب عليه محمد بن يحيى في مسألة خلق اللفظ، وكان قد سمع منه، فلم يمكنه تركُ الرواية عنه، وروى عنه في الصوم،

113 - أبو أيوب، مطرف بن مازن، الكناني بالولاء، وقيل: القيسي بالولاء، الصنعاني

والطب، والجنائز، والعتق، وغير ذلك مقدار ثلاثين موضعًا، ولم يصرح باسمه، فيقول: حدثنا محمد بن يحيى الذهلي، بل يقول: حدثنا محمد، ولا يزيد عليه، ويقول: محمد بن عبد الله، فينسبه إلى جده، وينسبه أيضًا إلى جد أبيه، وتوفي محمد المذكور سنة 252، وقيل: سبع، وقيل: ثمان وخمسين ومئتين - رحمه الله -. 113 - أبو أيوب، مطرفُ بنُ مازن، الكنانيُّ بالولاء، وقيل: القيسيُّ بالولاء، الصنعانيُّ. ولي القضاء بصنعاء اليمن، وحدث عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وجماعة كثيرة، وروى عنه الإمام الشافعي وخلق كثير، واختلفوا في روايته، فنقل عن يحيى بن معين: أنه سئل عنه، فقال: كذاب. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال السعدي: يتثبت في حديثه حتى يملي ما عنده. وقال أبو حاتم محمد بن حبان البستي: مطرفٌ يروي عن معمر، وابن جريج، وروى عنه الشافعي، وأهل العراق، وكان يحدث بما لا يسمع، ويروي ما لا يكتب عمن لم يره، ولا تجوز الرواية عنه إلا عند الخواص للاعتبار فقط. قال حاجب بن سليمان: كان مطرف رجلًا صالحًا، وذكر عنه حكاية في إبرار قسم من أقسم على أمر شنيع يفعله به، وذكر أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني أحاديث من رواية مطرف، وقال لمطرف غير ما ذكرت أفرادٌ يتفرد بها عمن يرويها عنه، ولم أر فيما يرويه منكرًا. توفي سنة إحدى وتسعين ومئة - رحمه الله تعالى -. 114 - أبو الحسن، مقاتلُ بنُ سليمانَ بنِ بشيرٍ، الأزديُّ بالولاء، الخراسانيُّ المروزيُّ. أصله من بلخ، وانتقل من البصرة، ودخل بغداد، وحدث بها، وأخذ الحديث عن مجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، وروى عنه: بقيةُ بن الوليد

الحمصي، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني. وكان من العلماء الأجلاء، حكى عن الإمام الشافعي، وقد اختلف العلماء في أمره، فمنهم من وثقه في الرواية، ومنهم من نسبه إلى الكذب. قال بقية بن الوليد: كنت كثيرًا أسمع شعبةَ بنَ الحجاج وهو يُسأل عن مقاتل؛ فما سمعته قطُّ ذكره إلا بخير، وسئل عبد الله بنُ المبارك عنه، فقال: رحمه الله، لقد ذُكر لنا عنه عبادة، وروي عن عبد الله بن المبارك أيضًا: أنه ترك حديثه، وسئل إبراهيم الحربي عن مقاتل، هل سمع من الضحاك بن مزاحم؟ فقال: لا، مات الضحاك قبل أن يولد مقاتل بأربع سنين، وقال إبراهيم أيضا: لم يسمع مقاتل عن مجاهد شيئًا، ولم يلقه، وقال أحمد بن يسار: كان من أهل بلخ، وتحول إلى مرو، وخرج إلى العراق، وهو متهم متروك الحديث مهجور القول، وكان يتكلم في الصفات بما لا تحل الرواية عنه، وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: كان دجالًا جسورًا. وقال أبو عبد الرحمن النسائي: الكذابون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة؛ 1 - ابنُ أبي يحيى بالمدينة، 2 - والواقدي ببغداد، 3 - ومقاتل بن سليمان بخراسان، 4 - ومحمد بن سعيد - ويعرف بالمصلوب - بالشام. وذكر وكيع يومًا مقاتلًا، فقال: كان كذابًا. وقال أبو بكر الآجري: سألت أبا داود سليمانَ بن الأشعث عن مقاتل؟ فقال: تركوا حديثه، وقال عمرو بن علي الفلاس: كذاب، متروك الحديث. وقال البخاري: سكتوا عنه؛ وقال في موضع آخر: لا شيء البتة، وقال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء. وقال أحمد بن حنبل: ما يعجبني أن أروي عنه شيئًا. وقال أبو حاتم الرازي: هو متروك الحديث، وقال زكريا بن يحيى الساجي: قالوا: كان كذابًا متروك الحديث. وقال أبو حاتم محمد بن حبان البستي: كان يأخذ عن اليهود والنصارى علمَ القرآن العزيز الذي يوافق كتبهم، وكان مشبهًا يشبه الربَّ بالمخلوقين، وكان يكذب مع ذلك في الحديث.

115 - أبو عبد الله، مكحول بن عبد الله، الشامي من سبي كابل

وبالجملة: فإن الكلام في حقه كثير، وقد خرجنا عن المقصود، ولكن أردنا ذكر اختلاف أقاويل العلماء في شأنه. توفي سنة 150 بالبصرة - رحمه الله تعالى -. 115 - أبو عبد الله، مكحولُ بنُ عبدِ الله، الشاميُّ من سبي كابل. كان سِنْديًا لا يُفصح، وكان معلم الأوزاعي، قال الزهري: العلماءُ أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام، ولم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا، وكان لا يفتي حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم، هذا رأيي، والرأي يخطىء ويصيب. وسمع أنسَ بن مالك، وواثلةَ بن الأسقع، وأبا هند الرازي، وغيرهم. وكان مقامه بدمشق، وكان في لسانه عُجمة ظاهرة، ويبدل بعض الحروف بغيره، قال: أساهر أنا؟ - يريد: أساحر أنا؟ -، ويقول لرجل: ما فعلت تلك الهاجة؟ - يريد: الحاجة -، وهذه العجمة تغلب على أهل السند. توفي سنة 118. وكابل: ناحية معروفة ببلاد السند - رحمه الله تعالى -. 116 - أبو الحسن المؤيدُ بنُ محمدِ بنِ عليٍّ، الطوسيُّ الأصلِ، النيسابوريُّ الدارِ، المحدث. كان أعلى المتأخرين إسنادًا، لقي جماعة من الأعيان، وأخذ عنهم. وسمع "صحيح مسلم" من الفقيه أبي عبد الله محمد بن الفضل الفَراويِّ، وهو آخر من بقي من أصحابه، وسمع "صحيح البخاري" من أبي بكر وجيه بن طاهر بن محمد الشحَّامي، وأبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه بن أحمد الشاذياخي، وسمع "الموطأ" رواية أبي مصعب، إلا ما استثنى منه من أبي محمد هبة الله بن سهل بن عمر البسطامي المعروف بالسدِّي، وسمع أيضًا من جماعة من شيوخ نيسابور، منهم: أبو محمد عبد الجبار بن محمد الحواري؛ وأم الخير فاطمة بنت أبي الحسن علي بن المظفر بن رعيل، وحدث بالكثير، ورحل إليه من الأقطار. قال ابن خلكان: ولنا منه إجازة كتبها من خراسان باستدعاء الوالد -

117 - أبو عبد الله، نافع مولى عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهم -

رحمه الله -، وإنما ذكرته لشهرته وتفرده في آخر عصره. ولد سنة 524 ظنًا، وتوفي سنة سبع عشرة وست مئة بنيسابور - رحمه الله تعالى -. 117 - أبو عبد الله، نافعٌ مولى عبدِ الله بنِ عمرَ - رضي الله تعالى عنهم -. هو من كبار التابعين، سمع مولاه، وأبا سعيد الخدري، وروى عنه: الزهري، وأيوب السختياني، ومالك بن أنس، وهو من المشهورين بالحديث، ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم، ويُجمع حديثهم، ويعمل به، ومعظمُ حديث ابنِ عمر عليه دار. وقال مالك: كنت إذا سمعت حديث نافع، عن ابن عمر، لا أبالي ألا أسمعه من أحد غيره. وأهل الحديث يقولون: رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر: سلسلة الذهب؛ لجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة. توفي سنة سبع عشرة، وقيل: سنة عشرين ومئة - رضي الله عنه -. 118 - أبو الحسن، النضرُ بنُ شُميل بنَ خرشةَ بنِ يزيدَ، التميميُّ المازنيُّ النَّحْوِيُّ البصريُّ. كان عالمًا بفنون العلم، صدوقًا، ثقة. صاحب غريب، وفقه وشعر، ومعرفة بأيام العرب، ورواية الحديث؛ وهو من أصحاب الخليل بن أحمد. ذكره أبو عبيدة في كتاب "مثالب أهل البصرة"، فقال: ضاقت المعيشة على النضر بن شميل البصري بالبصرة، فخرج يريد خراسان، فشيعه من أهل البصرة نحو من ثلاثة آلاف رجل، ما فيهم إلا محدِّث أو نحوي أو لغوي أو عروضي أو إخباري، فلما صار بالمربد، جلس؛ وقال: يا أهل البصرة! يعز عليّ فراقُكم، ووالله! لو وجدتُ كلَّ يوم كَيْلَجة باقلى ما فارقتكم، فلم يكن أحد فيهم يتكلف له ذلك، فسار حتى وصل خراسان، فأفاد بها مالًا عظيمًا، توفي سنة 204 - رحمه الله تعالى -.

119 - الإمام أبو حنيفة، النعمان بن ثابت - رضي الله عنه - ابن زوطي بن ماه، مولى تيم الله بن ثعلبة، وهو من رهط حمزة الزيات

119 - الإمام أبو حنيفة، النعمانُ بنُ ثابتٍ - رضي الله عنه - ابنِ زوطي بنِ ماه، مولى تيمِ الله بنِ ثعلبة، وهو من رهط حمزة الزيات. كان خزازًا - يبيع الخز -، وجده زوطي من أهل كابل، وقيل: من أهل بابل، وقيل: من أهل الأنبار، وقيل: من أهل نَسا، وقيل: من أهل ترمذ، وهو الذي مسَّه الرق، فأُعتق، وولد ثابت على الإسلام. وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: أنا من أبناء فارس من الأحرار، والله! ما وقع علينا رَقٌّ قطُّ، ولد جدي سنة 80، وذهب ثابت إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته، ونحن نرجو أن يكون الله تعالى قد استجاب ذلك لِعَلِيّ فينا. قال الخطيب في "تاريخه" - والله أعلم -: أدرك أبو حنيفة أربعةً من الصحابة، وهم: 1 - أنس بن مالك بالبصرة، 2 - وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، 3 - وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، 4 - وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة. ولم يلق أحدًا منهم، ولا أخذ عنه. وأصحابه يقولون: لقي جماعة من الصحابة، وروى عنهم، ولم يثبت ذلك عند أهل النقل، وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد": أنه رأى أنس بن مالك، وأخذ الفقه عن حماد بن سليمان، وسمع عطاء بن أبي رباح، وأبي إسحاق السَّبيعي، ومحارب بن دثار، والهيثم بن حبيب الصراف، ومحمد بن المنكدر، ونافعًا مولى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -، وهشام بن عروة، وسِماكَ بن حرب، وروى عنه: عبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، والقاضي أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، وغيرهم. وكان عالمًا عاملًا زاهدًا عابدًا ورعًا تقيًا؛ كثيرَ الخشوع، دائمَ التضرع إلى الله تعالى، وأراد أبو جعفر المنصور أن يوليه القضاء، فحلف ألا يفعل، فأمر به إلى الحبس. وكان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أميرَ العراقين أراده أن يلي القضاء بالكوفة أيام مروان بن محمد آخرِ ملوك بني أمية، فأبى عليه، فضربه مئة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة أسواط، وهو على الامتناع، فلما رأى ذلك، خلَّى سبيله.

وكان أحمد بن حنبل إذا ذكر ذلك، بكى، وترحم على أبي حنيفة، وذلك بعد أن ضُرب أحمد على القول بخلق القرآن. وكان أبو حنيفة حسنَ الوجه، حسنَ المجلس، شديدَ الكرم، حسنَ المواساة لإخوانه، وكان ربعةً من الرجال؛ وقيل: كان طوالًا تعلوه سمرة، أحسنَ الناس منطقًا وأحلاهم نغمة. وذكر الخطيب في "تاريخه": إن أبا حنيفة رأى في المنام: كأنه ينبش قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث مَنْ سأل ابنَ سيرين، فقال: صاحب هذه الرؤيا يثور علمًا لم يسبقه إليه أحد قبله. قال الشافعي: قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ فقال: نعم! رأيت رجلًا لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا، لقام بحجته. وقال الشافعي: من أراد أن يتبحَّر في الفقه، فهو عيال على أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة ممن وفق له الفقه. وقال جعفر بن ربيع: أقمت على أبي حنيفة خمس سنين، فما رأيت أطولَ صمتًا منه، فإذا سئل عن الفقه، تفتح وسال كالوادي، وسمعت له دويًا وجهارةً في الكلام، وكان إمامًا في القياس. وقال علي بن عاصم: دخلت على أبي حنيفة وعنده حجام يأخذ من شعره، فقال للحجام: تتبع مواضع البياض، فقال الحجام: ولا تزد، فقال: ولم؟ قال: لا يكثر؛ قال: فتتبعْ مواضعَ السواد لعله يكثر، وحكيت لشريك هذه الحكاية، فضحك، وقال: لو ترك أبو حنيفة قياسه، لتركه مع الحجام. وقال ابن المبارك: قلت لسفيان الثوري: يا عبد الله! ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة! ما سمعته يغتاب عدوًا له قط، فقال: هو أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهبها، ومناقبه وفضائله كثيرة، وقد ذكر الخطيب في "تاريخه" منها شيئًا كثيرًا، ثم أعقب ذلك بذكر ما كان الأليق تركه والإضراب عنه، فمثل هذا الإمام لا يشك في دينه، ولا في ورعه وبحفظه، ولم يكن يُعاب بشيء سوى قلة العربية. ولد سنة 80، وتوفي سنة 150، وكانت وفاته ببغداد في السجن ليليَ القضاء فلم يفعل، هذا هو الصحيح. وقيل: إنه لم يمت في السجن، وقيل: توفي في

120 - السيدة نفيسة بنة أبي محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم أجمعين -

اليوم الذي ولد فيه الإمام الشافعي، ودفن في مقبرة الخيزران، وقبره هناك مشهور يزار. وزوطي - بالضم -: اسمٌ نبطي، وكابل: ناحية معروفة من بلاد الهند، ينسب إليها جماعة من العلماء وغيرهم. وبنى شرف الملك أبو سعد، محمدُ بن منصور الخوارزمي مستوفي مملكة السلطان ملك شاه السلجوقي، على قبر الإمام أبي حنيفة مشهدًا وقبة، وبنى عنده مدرسة كبيرة للحنفية، وكان بناء ذلك سنة 459. 120 - السيدة نفيسة بنةُ أبي محمدٍ الحسنِ بنِ زيدِ بنِ الحسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ - رضي الله عنهم أجمعين -. دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق، وقيل: دخلت مع أبيها الحسن. وكانت من النساء الصالحات التقيات. ويروى: أن الإمام الشافعي - لما دخل مصر - حضر إليها، وسمع عليها الحديث، وكان للمصريين فيها اعتقاد عظيم، وهو إلى الآن باقٍ كما كان. ولما توفي الإمام الشافعي، أدخلت جنازته إليها، وصلَّت عليه في دارها. وكانت في موضع مشهدها اليوم، ولم تزل به إلى أن توفيت في شهر رمضان سنة 208، وقبرها معروف بإجابة الدعاء عنده، وهو مجرب (¬1) - رضي الله عنها -. 121 - أبو البختري، وهبُ بنُ وهبِ بنِ وهبِ بنِ كثيرِ بنِ عبدِ الله بنِ زمعةَ، القرشيُّ الأسديُّ المدنيُّ. حدَّث عن عبيد الله بن عمر العمري؛ وهشام بن عروة بن الزبير؛ وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهم، وروى عنه رجاء بن سهل الصاغاني، وأبو القاسم بن سعيد بن المسيب، وغيرهما، وكان متروك الحديث، مشهورًا بوضعه، وكان جعفر الصادق بن محمد الباقر قد تزوج أمه بالمدينة، وله عنه روايات وأسانيد. ¬

_ (¬1) ولكن لا يصح مثل الدعاء؛ فإنه خلاف السنة المطهرة.

122 - أبو القاسم، هبة الله بن الفضل بن القطان عبد العزيز، الشاعر المعروف بابن القطان

روى الخطيب في "تاريخه": أن هارون الرشيد لما قدم المدينة - أعظمَ أن يرقى منبرَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قباء ومنطقة، فقال أبو البختري: حدثني جعفرُ بنُ محمد الصادق عن أبيه، قال: نزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه قباء ومنطقة مخنجرًا بخنجر، فقال المعافى التميميُّ - شعر: وَيْلٌ وغَوْلٌ لأبي البختري ... إذا توافى الناسُ للمَحْشَرِ من قولِهِ الزورَ وإعلانِه ... بالكذب في الناس على جَعفرِ واللهِ ما جالسه ساعةً ... للفقهِ في بَدْوٍ ولا مَحْضَرِ ولا رآه الناسُ في دهره ... يمرُّ بين القبر والمنبرِ يا قاتلَ الله ابنَ وهبٍ! لقد ... أعلنَ بالزور وبالمُنْكَرِ يزعُم أن المصطفى أحمدًا ... أتاهُ جبريلُ التقيُّ البَري عليه خُفٌّ وقبا أسودٌ ... مخنجرًا في الحقوِ بالخنجرِ وحكى جعفر الطيالسي: أن يحيى بنَ معين وقف على حلقته وهو يحدث بهذا الحديث عن جعفر الصادق، فقال له: كذبت يا عدو الله! على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن قتيبة في "كتاب المعارف": كان أبو البختري ضعيفًا في الحديث. توفي سنة مئتين للهجرة ببغداد، في خلافة المأمون. 122 - أبو القاسم، هبةُ اللَّهِ بنُ الفضلِ بنِ القطانِ عبدِ العزيز، الشاعرُ المعروفُ بابن القطان. سمع الحديث من جماعة، وسمع عليه. وكان غاية في الخلاعة والمجون؛ كثير المزاح، ذكره أبو سعد السمعاني في كتاب "الذيل"، وقال: كتبت عنه حديثين لا غير، وعلَّقت عليه مقطعات من شعره. وذكر الحافظ السِّلفَي أباه، وقال: إن بعض أولاد المحدثين سأله عن مولده، فقال: سنة ثمان عشرة وأربع مئة، وتوفي سنة 498.

123 - أبو القاسم - وأبو الكرم، هبة الله بن علي بن مسعود، الأنصاري، الخزرجي، المعروف بالبوصيري

له حكايات ظريفة، وديوان شعر أكثرُه جيد، عبث فيه بجماعة من الأعيان، وثلبهم، ولم يسلم منه أحد، لا الخليفةُ ولا غيره، وله مع حيص بيص ماجرياتٌ، وأحواله ومضحكاته كثيرة، فإنه كان آية في هذا الباب، وكان مجمَعًا على ظرفه ولطفه، وكان الناس يشيرون إليه: هذا ابن قطان الهجاء، وأما ابن القطان أبو الحسين بن أحمد البغدادي الفقيه الشافعي، فإنه كان من كبار أئمة الأصحاب، أخذ عنه العلماء، وكانت الرحلة إليه بالعراق، توفي سنة تسع وخمسين وأربع مئة - رحمه الله -. 123 - أبو القاسم - وأبو الكرم، هبةُ الله بنُ عليِّ بنِ مسعودٍ، الأنصاريُّ، الخزرجيُّ، المعروف بالبوصيريِّ. كان أديبًا كاتبًا، له سماعات عالية، وروايات تفرد بها، وألحق الأصاغرَ بالأكابر في علو الإسناد، ولم يكن في آخر عصره في درجته مثله، وسمع بقراءة الحافظ أبي الطاهر السلفي، وإبراهيم بن حاتم الأسدي على أبي صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المديني - إمامِ الجامع العتيق - بمصر. والبوصيريُّ آخر من روى في الدنيا كلها عن أبي صادق، وأبي الحسن، عليِّ بن الحسين بن عمر الفراء الموصلي سماعًا، وروى أيضًا عن أبي الفتح، سلطانِ بن إبراهيم بن مسلم المقدسي، وهو آخر من روى عنه سماعًا في الأرض كلها، وسمع عليه الناس، وأكثروا ورحلوا إليه من البلاد. ولد سنة 506 بمصر، وتوفي سنة 598 - رحمه الله تعالى -. 124 - أبو زكريا، يحى بن مَعين بنِ عونِ بنِ زياد بنِ بسطامِ، المريُّ البغداديُّ، الحافظُ المشهورُ. كان إمامًا عالمًا حافظًا متفننًا، قيل: إنه من قرية نحو الأنبار تسمى نقياي، وكان أبوه كاتبًا لعبد الله بن مالك، وقيل: إنه كان على خراج الري، فمات، فخلف لابنه يحيى المذكور ألفَ ألفِ درهم وخمسين ألف درهم، فانفق جميعَ المال على الحديث.

وسئل يحيى: كم كتبت من الحديث؟ فقال: كتبت بيدي هذه ست مئة ألف حديث. وقال راوي هذا الخبر - وهو أحمد بن عقبة -: وإني أظن أن المحدثين قد كتبوا له بأيديهم ست مئة ألف، وست مئة ألف، وخلف من الكتب مئة قِمَطر، وأربع حباب شرابية مملوءة كتبًا، وهو صاحب "الجرح والتعديل"، وروى عنه الحديث كبارُ الأئمة، منهم: أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو الحسين، مسلمُ بن الحجاج القشيري، وأبو داود السجستاني، وغيرُهم من الحفاظ. وكان بينه وبين الإمام أحمد بن حنبل من الصحبة والألفة والاشتراك بالاشتغال بعلوم الحديث ما هو مشهور، ولا حاجة إلى الإطالة فيه، وروى عنه: هو، وأبو خيثمة، وكانا من أقرانه. وقال علي بن المديني: انتهى العلم بالبصرة إلى يحيى بن أبي كثير، وقتادة، وعلمُ الكوفة إلى إسحاق، والأعمش، وانتهى علم الحجاز إلى ابن شهاب، وعمرو بن دينار، وصار علمُ هؤلاء الستة بالبصرة إلى سعيد بن أبي عروبة، وشعبة، ومعمر، وحماد بن سلمة، وأبي عوانة، ومن أهل الكوفة إلى سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، ومالك بن أنس، ومن أهل الشام إلى الأوزاعي، وانتهى علم هؤلاء إلى محمد بن إسحق، وهشيم، ويحيى بن سعيد، وابن أبي زائدة، ووكيع، وابن المبارك، وهو أوسع هؤلاء علمًا، وابن مهدي، ويحيى بن آدم، وصار علم هؤلاء جميعًا إلى يحيى بن معين. وقال أحمد بن حنبل: كل حديث لا يعرفه يحيى فليس هو بحديث، وكان يقول: ها هنا رجل خلقه الله لهذا الشأن، يُظهر كذب الكذابين؛ يعني: يحيى بن معين. وقال ابن الرومي: ما سمعت أحدًا قطُّ يقول الحق في المشايخ غير يحيى بن معين، وغيره كان يتحامل بالقول، وقال يحيى: ما رأيت على رجل قط خطأ إلا سترته، وأحببت أن أزين أمره، وما استقبلت رجلًا في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك، وإلا تركته، وكان يقول: كتبنا عن

الكذابين، وسجرنا به التنور، وأخرجنا به خبزًا نضيجًا. وكان ينشد كثيرًا - شعر: المالُ يذهب حلُّه وحرامُه ... طُرًّا ويبقى في غدٍ آثامُهُ ليسَ التقيُّ بمتَّقٍ لإلَهِهِ ... حتى يطيبَ شرابُه وطعامُهُ ويطيب ما يحوي وتكسب كفه ... ويكون في حسن الحديثِ كلامُهُ نطقَ النبيُّ لنا به عن ربِّه ... فعلى النبيِّ صلاتُه وسلامُهُ وقد ذكره الدارقطني فيمن روى عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه -، وقد سبق في ترجمة الشافعي - رحمه الله - خبره معه، وما جرى بينه وبين الإمام أحمد في ذلك، وسمع أيضًا من عبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة. وكان يحيى يحج، فيذهب إلى مكة، ويرجع إلى المدينة، فلما كان آخر حجة حجَّها، خرج إلى المدينة، ورجع إلى المدينة، فأقام بها ثلاثة أيام، ثم خرج حتى أتى المنزل مع رفقائه، فباتوا، فرأى في النوم هاتفًا يهتف به: يا أبا زكريا! أترغبُ عن جواري؟! فلما أصبح، قال لرفقائه: امضوا؛ فإني راجع إلى المدينة، فمضوا، ورجع، وأقام بها ثلاثة أيام، ثم مات، فحُمل على أعواد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكانت وفاته لسبع ليال من ذي القعدة سنة 233، هكذا قاله الخطيب في "تاريخ بغداد"، وهو غلط قطعًا؛ لما تقدم ذكره. وهو أنه خرج إلى مكة للحج، ثم رجع إلى المدينة، ومات بها، ومن يكون قد حج، كيف يتصور أن يموت بذي القعدة من تلك السنة؟ فلو ذكر أنه توفي في ذي الحجة، لأمكن، ويحتمل أن يكون هذا غلطًا من الناسخ. قال ابن خلكان: لكني وجدته في نسختين على هذه الصورة، فيبعد أن يكون من الناسخ، والله أعلم، ثم ذكر بعد ذلك: أن الصحيح أنه مات قبل أن يحج، وعلى هذا يستقيم ما قاله من تاريخ الوفاة. ثم نظرت في كتاب "الإرشاد في معرفة علماء الحديث"، تأليف أبي يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن الخليل الحافظ: أن يحيى بن معين

125 - أبو محمد، يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس، الليثي

المذكور توفي لسبع ليال بقين من ذي الحجة من السنة المذكورة، فعلى هذا يكون قد حج. وذكر الخطيب أيضًا: أن مولده كان آخر سنة 158، ثم قال بعد ذكر وفاته: إنه بلغ سبعًا وسبعين سنة إلا عشرة أيام، وهذا أيضا لا يصح من جهة الحساب، فتأمله. ورأيت في بعض التواريخ: أنه عاش خمسًا وسبعين سنة، والله أعلم، وصلى عليه والى المدينة، ثم صُلَّي عليه مرارًا، ودفن بالبقيع - رضي الله عنه -. وكان بين يدي جنازته رجل ينادي: هذا الذي كان ينفي الكذب عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورثاه بعض المحدثين، فقال: ذهبَ العليمُ بعيب كل محدِّثٍ ... وبكلِّ مختلفٍ من الإسناد وبكلِّ وهمٍ في الحديث ومشكلٍ ... يَعْيا به علماءُ كلِّ بلاد ومَعين: - بفتح الميم وكسر العين المهملة وسكون التحتية -، وبسطام: بكسر الباء، واللَّه أعلم. 125 - أبو محمد، يحيى بنُ يحيى بنِ كثير بن وسلاسٍ، الليثي. أصلُه من بربر من قبيلة يقال لها: مصمود، مولى بن الليث، فنسب إليهم جدّه كثير، يكنى: أبا عيسى، وهو الداخل إلى الأندلس. وسكن قرطبةَ، وسمع بها من زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخميِّ المعروفِ بسبطون القرطبي - راوي "موطأ مالك بن أنس"، وسمع من يحيى بن مضر القيسي الأندلسي، ثم رحل إلى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة، فسمع من مالك بن أنس "الموطأ" غير أبواب في كتاب الاعتكاف، شكَّ في سماعه فيها، فأثبت روايته فيها عن زياد، وسمع بمكة من سفيان ين عيينة، وبمصر من الليثِ بن سعد، وعبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم، وتفقه - بالمدينتين والمصرين، من أكابر أصحاب مالك بعد انتفاعه به وملازمته له. وكان مالك يسميه: عاقل أهل الأندلس، وسببُ ذلك - فيما يروي - أنه كان في

مجلس مالك جماعةٌ من أصحابه، فقال قائل: قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه، ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: ما لك لا تخرج فتراه لأنه لا يكون بالأندلس؟ فقال: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك، وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجىء لأنظر إلى الفيل، فأعجب به مالك، وسماه: عاقل أهل الأندلس. ثم إن يحيى عاد إلى الأندلس، وانتهت إليه الرئاسة بها، وبه انتشر مذهب مالك في تلك البلاد، وتفقه به جماعة لا يحصون عددًا، وروى عنه خلق كثير، وأشهر روايات "الموطأ" وأحسنها رواية يحيى بن يحيى المذكور، وكان مع إمامته ودينه معظمًا عند الأمراء، مكينًا عفيفًا عن الولايات، متنزهًا، جلَّت رتبته عن القضاء، فكان أعلى قدرًا من القضاة عند ولاة الأمر هناك؛ لزهده في القضاء، وامتناعه منه. قال أبو محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الأندلسي، المقدم ذكره: مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرئاسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة؛ فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف يعقوب صاحبُ أبي حنيفة، كانت القضاة من قبله، فكان لا يولي قضاء البلدان من أقصى الشرق إلى أقصى إفريقية إلا أصحابَه، والمنتمين إليه، وإلى مذهبه. ومذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكينًا عند السلطان، مقبولَ القول في القضاة، فكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه، ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا عليه يرجون بلوغَ أغراضهم به، على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط، ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدًا في جلالته عندهم، وداعيًا إلى قبول رأيه لديهم. حكى أحمد بن أبي الفياض في كتابه، قال: كنت عند الأمير عبد الرحمن بن الحكم الأموي المعروف بالمرتضى، صاحبِ الأندلس، فأرسل إلى الفقهاء يستدعيهم إليه، فأتوا إلى القصر، وكان عبد الرحمن المذكورُ قد نظر في شهر

126 - أبو محمد، يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن بن سمعان، المروزي

رمضان إلى جارية له كان يحبها حبًا شديدًا، فعبث بها، ولم يملك نفسَه أن وقع عليها، ثم ندم ندمًا شديدًا، فسأل الفقهاءَ عن توبته من ذلك وكفارته، فقال يحيى بن يحيى: يكفّر ذلك بصوم شهرين متتابعين، فلما بدر يحيى بن يحيى بهذه الفتيا، سكت بقيةُ الفقهاء حتى خرجوا من عنده، فقال بعضهم لبعض - وقالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهب مالك؟ فعنده أنه مخير بين العتق والإطعام والصيام، فقال: لو فتحنا له هذا الباب، سهل عليه أن يطأ كل يوم، ويعتق رقبةً فيه، ولكن حملتُه على أصعب الأمور؛ لئلا يعود. ولما انفصل يحيى عن مالك ليعود إلى بلاده، ووصل إلى مصر؛ رأى عبد الرحمن بن القاسم يدون سماعه من مالك، فنشط إلى الرجوع إلى مالك ليسمع منه المسائل التي كان ابن القاسم دوّنها عنه، فرحل إليه ثانية، فلقي مالكًا عليلًا، فأقام عنده إلى أن توفي، وحضر جنازته، فعاد إلى ابن القاسم، وسمع منه سماعه من مالك. ذكر ذلك أبو الوليد بن الفرضي في "تاريخه". وكان أحمد بن خالد يقول: لم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس منذ دخلها الإسلام من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر ما أُعطيه يحيى بن يحيى. وقال ابن بشكوال في "تاريخه": إن يحيى بن يحيى مُجاب الدعوة، وكان قد أخذ في نفسه وهيئته ومقعده هيئة مالك، وحكي عنه أنه قال: أخذت ركاب الليث بن سعد، فأراد غلامه أن يمنعني، فقال: دعه، ثم قال لي الليث: خدمك أهلُ العلم، فلم تزل بي الأيام حتى رأيت ذلك، ثم قال. وتوفي يحيى بن يحيى في رجب سنة 234؛ وقبره يُستسقى به - رحمه الله تعالى -، وقد ذكر له المقرىء في "نفح الطيب" ترجمةً حافلة حسنة، فارجع إليه. 126 - أبو محمد، يحيى بنُ أكثمَ بنِ محمدِ بنِ قطنِ بنِ سمعانَ، المروزيُّ. كان فقيهًا عالمًا بالفقه، بصيرًا بالأحكام، ذكره الدارقطني في أصحاب الشافعي، وقال الخطيب في "تاريخ بغداد": كان يحيى بن أكثم سليمًا من البدعة، ينتحل مذهب أهل السنة، سمع عبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة،

127 - أبو زكريا، يحيى بن عبد الوهاب بن الإمام أبي عبد الله، محمد بن إسحق بن محمد بن يحيى بن منده، واسم منده: إبراهيم، ومنده: لقب

وغيرهما، وروى عنه أبو عيسى الترمذي، وغيره، وقال طلحة بن محمد في حقه: أحد أعلام الدنيا، وقد اشتهر أمره، وعرف خبره، ولم يستتر عن الكبير والصغير من الناس فضلُه وعلمه ورئاسته وسياسته. توفي سنة 242، وحكى أبو عبد الله الحسينُ بنُ عبد الله بن سعيد، قال: كان يحيى بن أكثم القاضي صديقًا لي، وكان يودني وأوده، فمات يحيى، فكنت أشتهي أن أراه في المنام، فأقول: ما فعل الله بك؟ فرأيته ليلة في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، إلا أنه وَبَّخني، ثم قال لي: يا يحيى! خلطت على نفسك الدنيا، فقلت: يا رب! اتكأت على حديث حدثني به أبو معاوية الضرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّك قلتَ: إني لأستحي أن أعذب ذا شيبة بالنار، فقال: قد عفوتُ عنك يا يحيى، وصدقَ نبيي، إلا أنك خلطت على نفسك في دار الدنيا، هكذا ذكره أبو القاسم القشيري في "الرسالة". 127 - أبو زكريا، يحيى بنُ عبد الوهاب بنِ الإمام أبي عبدِ الله، محمدِ بن إسحق بنِ محمدِ بنِ يحيى بن منَدْه، واسمُ منده: إبراهيم، ومنَدْه: لقب. كان من الحفاظ المشهورين، وأحد أصحاب الحديث المبرزين، وهو محدث ابن محدث ابن محدث ابن محدث ابن محدث ابن محدث، وكان جليل القدر، وافر الفضل، واسع الرواية، ثقة حافظًا فاضلًا مُكِثرًا صدوقًا، كثير التصانيف، حسن السيرة، بعيد التكلف، أوحدَ أهل بيته في عصره، خرَّج التخاريج لنفسه ولجماعة من الشيوخ الأصبهانيين، وسمع أبا بكر محمدَ بنَ عبد الله بن زيد الضبيَّ، وأبا طاهر محمدَ بنَ أحمد الكاتب، وأبا منصور محمدَ بنَ عبد الله بن فضلويه الأصبهاني، وأباه أبا عمرو، وعمه أبا الحسن عبيدَ الله، وأبا القاسم عبدَ الرحمن، وأبا العباس أحمدَ بنَ محمد بن أحمد القضاعي، وأبا عبد الله محمد بن علي بن محمد الجصاص، وأبا بكر محمدَ بنَ علي الجورداني، وأبا طاهر أحمد بن محمود الثقفي، ورحل إلى نيسابور، وسمع بها من أبي بكر أحمدَ بن منصور المقرىء، وأحمد بن

منصور البيهقي، وبهمدان، وبالبصرة، وجماعة كثيرة سواهم. ودخل بغداد حاجًا، وحدَّث بها، وأملى بجامع المنصور، وكتب عنه الشيوخ؛ لشهرته وثبته، وروى عنه: الأنماطيُّ الحافظ، وأبو الحسن علي الخياط البغدادي، وأبو طاهر يحيى بن عبد الغفار الصباغ، وجماعة كثيرة، وذكره الحافظ ابن السمعاني في كتاب "الذيل"، وقال: كتب لي الإجازة بجميع مسموعاته، ثم قال: سألت عنه أبا القاسم إسماعيل بن محمد الحافظ، فأثنى عليه، ووصفه بالحفظ والمعرفة والدراية، ثم قال: سمعت أبا بكر محمد بن نصر بن محمد الكفتواني الحافظ يقول: بيتُ ابن مندَه بُدىء بيحيى، وختم بيحيى، يريد: في معرفة الحديث والعلم والفضل، وذكره الحافظ عبد الغافر في مساق "تاريخ نيسابور"، فقال: ابن منده رجل فاضل، من بيت العلم والحديث المشهور في الدنيا، سافر وأدرك المشايخ، وسمع منهم، وصنف على "الصحيحين". وكان يروى بإسناده المتصل إلى بعض العلماء أنه قال: كثرةُ الضحك أمارةُ الحمق، والعجلةُ من ضعف العقل، وضعفُ العقل من قلة الرأي، وقلةُ الرأي من سوء الأدب، وسوءُ الأدب يورث المهانة، والمجونُ طرفٌ من الجنون، والحسدُ داء لا دواء له، والنمائمُ تورث الضغائن. ولد يوم الثلاثاء تاسع عشر شوال سنة 434، وتوفي يوم عيد النحر سنة 512 بأصفهان، ومولده بها أيضًا، ولم يخلف في بيت ابن منده بعده مثله. وقال ابن نقطة في كتابه "الإكمال": توفي يوم السبت ثاني عشر ذي الحجة من سنة إحدى عشرة وخمس مئة. قال ابن رجب في "الطبقات": وذكره شيرويه بن شهردار الحافظ، فقال: كان حافظًا فاضلًا مكثرًا ثقة، يحسن هذا الشأن جدًا، كثير التصانيف، شيخ الحنابلة ومقدمهم، حسن الصورة، بعيدًا من التكلف، متمسكًا بالأثر، انتهى. وصنف مناقب الإمام أحمد في مجلد كبير، وفيه فوائد حسنة. وكتب له - ابن رجب - ترجمة حافلة حسنة.

128 - أبو بكر، يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد الأزدي، القرطبي، الملقب: صائن الدين

128 - أبو بكر، يحيى بنُ سعدون بنِ تمام بنِ محمدٍ الأزديُّ، القرطبيُّ، الملقب: صائن الدين. أحد الأئمة المتأخرين في القرءات وعلوم القرآن الكريم، والحديث والنحو واللغة، وغير ذلك. خرج من الأندلس في عنفوان شبابه، وقدم ديار مصر، فسمع بالإسكندرية أبا عبد الله محمدَ بنَ أحمدَ بنِ إبراهيم الرازيَّ، وبمصر أبا طاهر السِّلَفي، وغيره، وقرأ الحديث على أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزاز المعروف بقاضي المارستان، وكان دينًا ورعًا، عليه وقار وهيبة وسكينة، وكان ثقة صدوقًا نبيلًا، قليل الكلام كثير الخير، مفيدًا، توفي سنة 567. 129 - أبو زكريا، يحيى بنُ عليِّ بنِ محمدِ بنِ الحسنِ بنِ بسطام، الشيبانيُّ، التبريزيُّ، المعروف بالخطيب. أحد أئمة اللغة، سمع الحديث بمدينة صور من الفقيه أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي، وروى عنه الخطيب الحافظ صاحب "تاريخ بغداد"، والحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر، وأبو منصور الجواليقي، وأبو الحسن سعد الخير الأندلسي، وغيرهم من الأعيان، وتخرج عليه خلق كثير وتلمذوا له، وله كتاب "تهذيب غريب الحديث"، وغيره. ولد سنة إحدى وعشرين وأربع مئة، وتوفي سنة 502 ببغداد. 130 - القاضي أبو يوسف، يعقوبُ بنُ إبراهيمَ بنِ حبيب بن خنيس بنِ سعدِ بنِ حبتةَ الأنصاريُّ. وسعدُ بن حبتة أحد الصحابة، وهو مشهور في الأنصار بأمه، وهي حبتة بنت مالك من بني عمرو بن عوف. كان القاضي أبو يوسف من أهل الكوفة، وهو صاحب أبي حنيفة، وكان فقيهًا عالمًا حافظًا، سمع أبا إسحق الشيباني، وسليمان التيمي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، وهشامَ بنَ عروة، وعطاء بن السائب، ومحمدَ بن

إسحق بن يسار، وتلك الطبقة، وجالس محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثم جالس أبا حنيفة النعمان بن ثابت، وكان الغالب عليه مذهب أبي حنيفة، وخالفه في مواضع كثيرة، وروى عنه: محمد بن الحسن الشيباني الحنفي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن جعد، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، في آخرين، وكان قد سكن بغداد، وتولى القضاء بها لثلاثة من الخلفاء: المهدي، وابنه الهادي، ثم هارون الرشيد، وكان الرشيد يكرمه ويُجِلُّه، وهو أول من دعي بقاضي القضاة، ويقال: إنه أول من غير لباسَ العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها في هذا الزمان، وكان ملبوس الناس قبل ذلك واحدًا لا يتميز أحد عن أحد بلباسه. ولم يختلف يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني في ثقته في النقل، وذكر ابن عبد البر في كتاب "الانتهاء في فضائل الثلاثة الفقهاء": أن أبا يوسف كان حافظًا، وأنه كان يحضر المحدث، ويحفظ خمسين أو ستين حديثًا، ثم يقوم فيمليها على الناس، وكان كثير الحديث. وقال محمد بن جرير الطبري: وتحامى حديثَه قومٌ من أهل الحديث من أجل غلبة الرأي عليه، وتفريعه الفروع والأحكام، مع صحبة السلطان وتقلده القضاء. قال طلحة بن محمد بن جعفر: أبو يوسف مشهور الأمر، ظاهر الفضل، أفقَهُ أهل عصره، ولم يتقدمه أحد في زمانه، وكان النهايةَ في العلم والحكم والرئاسة والقدر، وهُوَ أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل، ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض. قال عمار بن أبي مالك: ما كان في أصحاب أبي حنيفة مثلُ أبي يوسف، لولا أبو يوسف ما ذكر أبو حنيفة، ولا محمد بن أبي ليلى، ولكنه هو الذي نشر قولَهما، وبث علمَهما. وقال أبو يوسف: سألني الأعمش عن مسألة، فأجبته عنها، فقال لي، من أين لك هذا؟ فقلت من حديثك الذي حدثتنا أنت، ثم ذكرتُ له الحديث، فقال لي: يا يعقوب! إني لأحفظ هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك؛ وما عرفتُ تأويله حتى الآن.

131 - أبو عوانة، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن زيد، النيسابوري، ثم الإسفراييني الحافظ

ومن كلام أبي يوسف: العلمُ شيء لا يعطيك بعضَه حتى تعطيه كُلَّك، وأنت إذا أعطيته كلك من إعطائه البعضَ على غرور. وأخبار أبي يوسف كثيرة، وأكثر الناس من العلماء على تفضيله وتعظيمه. وقد نقل الخطيب البغدادي في "تاريخه الكبير" ألفاظًا عن عبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، ويزيد بن هارون، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحسن الدارقطني، وغيرهم ينبو السمع عنها، فتركت ذكرها، واللَّه أعلم بحاله. وكانت ولادته سنة 113، وتوفي يوم الخميس أول وقت الظهر لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة 182 ببغداد. وولي القضاء سنة 166، ومات وهو على القضاء. وأما ولدُه يوسف، فإنه كان قد نظر في الرأي، وفَقُهَ، وسمع الحديث من يونس بن أبي إسحق السَّبيعي، والسري بن يحيى، وغيرهما، وولي القضاء بالجانب الغربي من بغداد في حياة أبيه، وصلى بالناس الجمعة في مدينة منصور بأمر هارون الرشيد، ولم يزل على القضاء إلى أن مات في رجب سنة 192 ببغداد - رحمه الله تعالى -. 131 - أبو عوانة، يعقوبُ بنُ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ بنِ زيدٍ، النيسابوريُّ، ثم الإسفراييني الحافظُ. صاحبُ "المسند الصحيح" المخرج على كتاب مسلم بن الحجاج. كان أبو عوانة أحد الحفاظ الجوَّادين، والمحدثين المكثرين، طاف الشام ومصر والبصرة والكوفة وواسط والحجاز والجزيرة واليمن وأصبهان والري وفارس. قال الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في "تاريخ دمشق": سمع أبو عوانة بدمشق يزيدَ بن محمد بن عبد الصمد، وإسماعيل بن محمد بن قيراط، وشعيب بن شعيب بن إسحق، وغيرهم، وبمصر يونس بن عبد الأعلى، وابن أخي وهب، والمزني، والربيع، ومحمدًا وسعدًا ابني عبد الحكم. وبالعراق سعدانَ بنَ نصر، والحسن الزعفراني، وعمر ابن شبة، وغيرهم،

وبخراسان محمد بن يحيى الذهلي، ومسلم بن الحجاج، ومحمد بن رجاء السندي، وغيرهم، وبالجزيرة عليَّ بن حرب وغيره. وروى عنه: أبو بكر الإسماعيلي، وأحمد بن علي الرازي، وأبو علي الحسين بن علي، وأبو أحمد علي، وسليمان الطبراني، ومحمد بن يعقوب بن إسماعيل الحافظ، وأبو الوليد الفقيه، وابنه أبو مصعب محمدُ بن أبي عوانة. وحج خمس مرات، قال: وكنت بالمصيصة، فكتب إليَّ أخي محمد بن إسحاق، فكان في كتابه، شعر: فإنْ نحنُ التقينا قبلَ موتٍ ... شَفَينا النفسَ من مضضِ العِتابِ وإن سبقتْ بنا أيدي المنايا ... فكَمْ من غائب تحتَ الترابِ وقال أبو عبد الله الحاكم: أبو عوانة من علماء الحديث وأثباتهم، ومن الرحالة في أقطار الأرض لطلب الحديث. توفي سنة 316، قال أبو القاسم بن عساكر: إن قبر أبي عوانة بأسفرايين مزارُ العالم، ومتبَّرك الخلق، وبجنب قبره قبر الراوية عنه أبي نعيم عبد الملك بن أبي الحسن الأزهر الأسفراييني في مشهد واحد داخل المدينة على يسار الداخل من باب نيسابور من أسفرايين، وقريب من مشهده مشهد الإمام الأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني على يمين الداخل من نيسابور، وبجنب قبره قبر الأستاذ أبي منصور البغدادي الإمام الفقيه المتكلم صاحبه الصاحب بالجنب حيًا وميتًا، المتظاهرين لنصرة الدين بالحجج والبراهين، سمعت جدي الإمام عمرَ بنَ الصفار - رحمه الله تعالى - ونظر إلى القبور حول قبر الإمام الأستاذ أبي إسحاق، وأشار إلى المشهد، وقال: قد قيل: ها هنا من الأئمة والفقهاء على مذهب الإمام الشافعي أربعون إمامًا، كل واحد منهم لو تصرف في المذهب، وأفتى برأيه واجتهاده - يعني: على مذهب الشافعي - لكان حقيقًا بذلك، والعوام يتقربون إلى مشهد الأستاذ أبي إسحق أكثرَ مما يتقربون إلى أبي عوانة، وهم لا يعرفون قدرَ هذا الإمام الكبير المحدَّث أبي عوانة؛ لبعد العهد بوفاته، وقرب العهد بوفاة الأستاذ أبي إسحق، وأبو عوانة هو الذي أظهر لهم مذهب الإمام الشافعي -

132 - أبو البقا، يعيش بن علي بن يعيش المعروف بابن الصائغ

رحمه الله تعالى - بأسفرايين بعد ما رجع من مصر، وأخذ العلم عن أبي إبراهيم المزني، رح. وكان جدي إذا وصل إلى مشهد الأستاذ، لا يدخله احترامًا، بل كان يقبل عتبة المشهد، وهي مرتفعة بدرجات، ويقف ساعة على هيئة التعظيم والتوقير، ثم يعبر عنه كالمودع لعظيم الهيبة، وإذا وصل إلى مشهد أبي عوانة، كان أشد تعظيمًا له وإجلالا وتوقيرًا، ويقف أكثر من ذلك، رح. وعوانة: - بفتح العين المهملة وبعد الألف نون -. 132 - أبو البقا، يعيشُ بنُ عليِّ بنِ يعيشَ المعروفِ بابن الصائغ. سمع الحديث على أبي الفضل، عبدِ الله بن أحمد الخطيب الطوسي بالموصل، وعلى أبي محمد عبد الله بن عمرو بن سويد التكريتي، وبحلب من أبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي، وبدمشق على تاج الكندي، وغيرهم، وحدث بحلب، وكان فاضلًا ماهرًا في النحو والتصريف. ولد سنة 556 بحلب، وتوفي بها سنة 643 - رحمه الله تعالى -. 133 - أبو بكر يموت بن المزرع بن يموت، العبديُّ البصريُّ. كان قد سمى نفسه محمدًا، ذكره الخطيب في "تاريخه الكبير" في المحمَّدين، ثم ذكره في حرف الياء، وقال: هو شيخ كبير، قدم بغداد، وحدث بها عن أبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي، ونصر بن علي الجَهْضَمي، وعبد الرحمن بن أخي الأصمعي، ومحمد بن يحيى الأزدي، وغيرهم. وروى عنه: أبو بكر الخرائطي، وأبو ميمون بن راشد، وأبو الفضل العباس بن محمد الرقي، وأبو بكر بن مجاهد المقرىء، وأبو بكر بن الأنباري، وغيرهم. وكان أديبًا أخباريًا، وله ملح ونوادر، وكان لا يعود مريضًا خوفًا من أن يتطير باسمه. وكان يقول: بليت بالاسم الذي سماني به أبي، فإني إذا عدت مريضًا،

134 - أبو يعقوب، يوسف بن يحيى المصري البويطي، صاحب الإمام الشافعي - رضي الله عنه -

فاستأذنتُ عليه، فقيل: من هذا؟ قلت: أنا ابن المزرع، وأسقطت اسمي. مات يموت بن المزرع سنة 304 بدمشق، - رحمه الله تعالى -. 134 - أبو يعقوب، يوسفُ بنُ يحيى المصري البويطيُّ، صاحبُ الإمام الشافعي - رضي الله عنه -. كان واسطة عقد جماعته، وأظهرَهم نجابةً، اختص به في حياته، وقام مقامه في الدرس والفتوى بعد وفاته، سمع الأحاديث النبوية من عبد الله بن وهب الفقيه المالكي، ومن الإمام الشافعي، وروى عنه: أبو إسماعيل الترمذي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، والقاسم بن المغيرة الجوهري، وأحمد بن منصور الرمادي، وغيرهم. وكان قد حمل في أيام الواثق بالله من مصر إلى بغداد في مدة المحنة، وأُريد على القول بخلق القرآن، فامتنع من الإجابة إلى ذلك، فحُبس ببغداد، ولم يزل في السجن والقيد حتى مات، وكان صالحًا متنسكًا عابدًا زاهدًا. قال الربيع: دخلت على البويطي أيام المحنة، فرأيته مقيدًا إلى أنصاف ساقيه، مغلولةً يدُه إلى عنقه، وكتب إليَّ من السجن: إنه ليأتي عليّ أوقاتٌ لا أحس بالحديد على بدني حتى تمسه يدي، فإذا قرأتَ كتابي هذا، فأحسن خلقك مع أهل حلقتك، واستوصِ بالغرباء خاصة خيرًا، فكثيرًا ما كنت أسمع الشافعي - رضي الله عنه - يقول: أُهينُ لهم نفسي لأكرمَهم بها ... ولن تُكرَم النفسُ التي لا تُهينها وأخباره كثيرة. توفي يوم الجمعة قبل الصلاة في رجب سنة 231 في القيد والسجن ببغداد. والبويطي: نسبة إلى بُوَيْط، وهي قرية من أعمال الصعيد الأدنى من ديار مصر. 135 - أبو عمرو، يوسف بنُ عبد البر بن محمد بن عبد البر بن عاصم، النَّمَريُّ، القرطبيُّ، الحافظُ جمالُ الدين. إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلق بهما.

روى بقرطبة عن أبي القاسم خلف بن القاسم الحافظ، وعبد الوارث بن سفيان، وأبي سعيد نصر، وأبي محمد بن عبد المؤمن، وأبي عمرو الباجي، وأبي عمر الطلمنكي، وأبي الوليد بن الفرضي، وغيرهم. وكتب إليه من أهل المشرق: أبو القاسم السقطي المكي، وعبد الغني بن سعيد الحافظ، وأبو ذر الهروي، وأبو محمد النحاس المصري، وغيرهم. قال القاضي أبو علي بن سكرة: سمعت شيخنا القاضي أبا الوليد الباجي يقول: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمرو بن عبد البر في الحديث، وقال الباجي أيضًا: أبو عمرو أحفظ أهل المغرب. وقال أبو علي الغساني الأندلسي: إن ابن عبد البر أخذ كثيرًا من علم الأدب والحديث، ودأب في طلب العلم، وأفتى به، وبرع براعة فاق فيها مَنْ تقدمه من رجال الأندلس، وألف في "المؤطأ" كتبًا مفيدة، منها: كتاب "التمهيد لما في المؤطأ من المعاني والأسانيد"، ورتبه على أسماء شيوخ مالك على حروف المعجم، وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله، وهو سبعون جزءًا. قال أبو محمد بن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثلَه، فكيف أحسن منه؟! ثم صنع كتاب "الاستدراك لمذاهب الأعصار فيما تضمنه المؤطأ من معاني الرأي والآثار"، شرح فيه المؤطأ على وجهه، ونسق أبوابه، وجمع في أسماء الصحابة - رضي الله عنهم - كتابًا مفيدًا جليلًا سماه "الاستيعاب"، وله كتاب "جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله"، وغير ذلك من تأليفه. وكان موفقًا في التأليف، معانًا عليه، ونفع الله به، وكان - مع تقدمه في علم الآثر وبصره بالفقه ومعاني الحديث - له بسطةٌ كثيرة في علم النسب. تولى قضاء الاشبونة، وشنترين في أيام ملكها المظفر بن الأفطس. توفي يوم الجمعة آخر يوم من شهر ربيع الآخر سنة 463 بمدينة شاطبة من شرق الأندلس، وولد يوم الجمعة - والإمام يخطب - لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة 368، وتقدم في ترجمة الخطيب أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت

136 - أبو موسى، يونس بن عبد الأعلى بن موسى الصدفي، المصري، الفقيه الشافعي

البغدادي الحافظ: أنه كان حافظ المشرق، وابن عبد البر حافظ المغرب، وماتا في سنة واحدة، وهما إمامان في هذا الفن. والنَّمَري - بالفتح -: نسبة إلى نمر بن قاسط، وهي قبيلة كبيرة مشهورة - رحمه الله -. 136 - أبو موسى، يونسُ بنُ عبدِ الأعلى بنِ موسى الصدفيُّ، المصريُّ، الفقيهُ الشافعيُّ. أحد أصحاب الشافعي، والمكثرين في الرواية عنه، والملازمة له. وكان كثير الورع، متين الدين، وكان علامة في علم الأخبار، والصحيح والسقيم؛ لم يشاركه في زمانه في هذا أحد، وسمع سفيان بن عيينة، وعبدَ الله بن وهب المصري، وكان محدثًا جليلًا، ذكره القضاعي في كتاب "خطط مصر"، وقال: صحب الشافعيَّ، وأخذ عنه الحديث والفقه، وحدَّث بهما عنه جماعة، وله حبس في ديوان الحكم، وعقب، وله دار مشهورة في خطة الصدف مكتوبٌ عليها اسمه. وذكر غير القضاعي: أن يونس بن عبد الأعلى روى عنه: الإمامُ مسلم بن الحجاج القشيري وأبو عبد الرحمن النسائي، وأبو عبد الله بن ماجه القزويني، وغيرهم. قال يونس: قال لي الشافعي: يا يونس! دخلتَ بغداد؟ فقلت: لا، قال: ما رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس. وقال علي بن قديد: كان يونس يحفظ الحديث، ويقوم به، وذكر أبو عبد الرحمن النسائي، فقال: هو ثقة وقال غيره. ولد سنة سبعين ومئة، وتوفي سنة أربع وستين ومئتين - رحمه الله تعالى -. 137 - قاضي القضاة، شمس الدين أبو العباس، أحمدُ بن إبراهيمَ بنِ أبي بكر، بن خَلِّكان، الأربليُّ الشافعيُّ، رح. هو من بيت كبير بناحية أربل مدينة بالعراق على الشاطىء الشرقي من نهر دجلة بالقرب من موصل، ذكره ابن كثير في تاريخه "البداية والنهاية" فيمن توفي من الأعيان في سنة 681، فقال: أحد الأئمة الفضلاء، والسادة العلماء،

138 - إبراهيم بن إسحق الحربي

الصدور الرؤساء، ولي التدريس بعدة مدارس لم تجتمع لغيره، ولم يبق معه في آخر وقته إلا منيته، وبيد ابنه كمال الدين موسى تدريس التجيبة. وكانت وفاته بالمدرسة المذكورة عن ثلاث وسبعين سنة، وقد كان له نظم حسن رائق، ومحاضرته في غاية الحسن، وله التاريخ المفيد الذي وسمه بـ "وفيات الأعيان" من أكبر المصنفات. وقال المؤلف نفسه في ترجمة أم المؤيد النيسابورية: ومولدي يوم الخميس بعد صلاة العصر - حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة 608، بمدينة أربل، بمدرسة سلطانها الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين، رح. وقال أيضًا في ترجمة عبد الأول السجزي، انه سمع "صحيح البخاري" سنة 621 بمدينة أربل على الشيخ الصالح ابن هبة الله. وبالجملة: فمن تتبع كتابه هذا وتصفحه يعلم أحواله وأطواره وتنقلاته، وكان له ميل إلى بعض أولاد الملوك، وله فيه أشعار رائقة، وهو الملك المسعود بن المظفر صاحب حماة، وكان قد تيمه حبه، وكرر هذين البيتين ليلة إلى أن أصبح: أنا واللهِ هالك ... آيسٌ من سلامتي أو أرى القامةَ التي ... قد أقامَتْ قيامتي وقال: تَمَثَّلْتُمولِي والديارُ بعيدة ... فَخُيِّل لي أن الفؤادَ لكم مَغْنَى وناجاكُمُ قلبي على البُعِد والنوى ... فأوحشتم لفظًا وآنَسْتُم معنَى وإلى هنا تم ما أخذته من كتابه "وفيات الأعيان"، مع زيادة عليه وتصرف فيه باختصار، وغالبه مرتب، وما يأتي بعد ذلك، فليس فيه رعاية الترتيب في شيء، فليعلم. 138 - إبراهيم بنُ إسحق الحربيُّ. قال الصلاحُ الكتبي في "فوات الوفيات": أحد الأئمة الأعلام، ولد سنة 198.

139 - إبراهيم بن سليمان ابن النجار، الدمشقي

تفقه على الإمام أحمد، وكان من نجباء أصحابه. قال الخطيب: كان إمامًا في العلم، رأسًا في الزهد، حافظًا للحديث، مجيبًا للمسألة، قيمًا بالأدب، صنف "غريب الحديث" وكتبًا كثيرة، وأنشده رجل، شعر: أنكرت ذُلِّي فأيُّ شيء ... أحسنُ من ذِلَّةِ المُحِبِّ أليسَ شوقي وفَيْضُ دمعي ... وضعفُ جسمي شهودَ حُبِّي فقال إبراهيم: هؤلاء شهود ثقات. وقال: ما أنشدت شيئًا من الشعر إلا قرأت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثلاث مرات. وقال: إنه بلغني أن الإنسان إذا ابتُلي بحب صورة قبيحة، كان بلاء تجب الاستعاذة من مثله، وإن كان مليحًا، كان ابتلاء يجب الصبر عليه واحتمال المشقة، وكان أصله من مرو، وتوفي سنة 285. 139 - إبراهيم بن سليمان ابن النجار، الدمشقيُّ. ولد سنة 590، وتوفي سنة 651. حدث وكتب في الإجازات، وكتب عليه أبناء البلد، وله نظم وأدب، وسمع بدمشق من التاج الكندي، ومن شعره: لقد نبتتْ في صحنِ خَدِّك لحيةٌ ... تأنَّق فيها صانعُ الإنس والجِنِّ وما كنتَ محتاجًا إلى حسنِ نبِتها ... ولكنها زادَتْكَ حُسْنًا إلى حُسنِ وله أيضًا: جُبلْتُ على حُبِّي لها وأَلِفْتُه ... ولا بدَّ أن أَلْقى بهِ اللَّهَ مُعْلِنا ولَم يَخْلُ قلبي من هَواها بقدرِ ما ... أقولُ وقلبي خالِيًا فتمكَّنا 140 - شهاب الدين، أبو العباس، أحمدُ (¬1) بن أبي المعالي محيي الدين، القدسيُّ العدويُّ العمريُّ، الإمامُ الحافظُ. حجة الكتاب، إمام أهل الأدب، أحد رجالات الزمان كتابة وترسُّلًا، يتوقد ¬

_ (¬1) هو: أبو العباس، أحمد بن فضل الله شهاب الدين القرشي العدوي العمري، مولده ومنشؤه ووفاته في دمشق.

141 - تقي الدين بن أبي اليسر

ذكاء وفطنة، ويتلهب وينحدر سيله مذاكرة وحفظًا، ويتصبب ويتدفق بحرُه بالجواهر كلامًا، ويتألق إنشاؤه بالبوارق المستعرة نظامًا، ويقطر كلامه فصاحة وبلاغة، وتندي عبارته انسجامًا وصياغة، ذكره الصفدي، وأثنى عليه ثناء كثيرًا حكاه عنه في الآثار، وعرف به العلامة المقريزي، أذن له العلامة شمس الدين الأصفهاني في الإفتاء على مذهب الشافعي. ولد بدمشق سنة 700. قرأ العربية على ابن شهبة، والأحكام الصغرى على الشيخ تقي الدين بن تيمية، صنف كتاب "مسالك الأبصار (¬1) في ممالك الأمصار" في عشرين مجلدًا، وهو كتاب حافل، ما أعلم أن لأحد مثلَه. وله "دمعة الباكي"، و"يقظة الساهر"، و"نفحة الروض"، و"صبابة المشتاق" في المدائح النبوية، و"سفر السافر"، و"تذكرة الخاطر"، ذكر - له ولوالده - سليم الخوري ترجمةً حافلة في "الآثار". ونظم كثيرًا من القصائد والأراجيز والمقطعات، وأنشأ كثيرًا من التقاليد والمناشير والتواقيع ومكاتبات الملوك. توفي سنة 749. 141 - تقي الدين بن أبي اليسر. مسند الشام، تفرد بأشياء كثيرة، وكان جيد النظم، حسنَ القول، صحيحَ السماع، ولي مشيخة الزاوية بدار الحديث الأشرفية، روى عنه: الصرصري، وابن العطار، وابن تيمية، وأخواه. 142 - أحمد بن محمد بن منصور القاضي ناصر الدين بن المُنَيّرِ الإسكندرانيُّ. ولد سنة 720، وتوفي سنة 683. وكان عالمًا فاضلًا متفننًا، له اليد الطولى في الأدب، وتفسيره نفيس، ولي قضاء الإسكندرية وخطابتها مرتين، وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: ¬

_ (¬1) "مسالك الأبصار" طبع منه المجلد الأول، بدار الكتب المصرية سنة (1342 هـ 1924 م). وللمؤلف أيضًا "مختصر قلائد العقيان"، و"الشتويات"، و"النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية"، و"ممالك عباد الصليب"، و"الدائرة بين مكة والبلاد"، و"فواضل السمر في فضائل آل عمر" في أربع مجلدات.

143 - خالد بن يوسف بن سعد، الحافظ المفيد، زين الدين، أبو البقا النابلسي، ثم الدمشقي

ديار مصر تفتخر برجلين في طرفيها: ابن المنير - بالإسكندرية، وابن دقيق العيد - بقوص، وله ديوان خطب، وتفسير "حديث الاسراء". 143 - خالد بن يوسف بنِ سعد، الحافظُ المفيدُ، زينُ الدين، أبو البقا النابلسيُّ، ثم الدمشقيُّ. ولد سنة 585، وتوفي سنة 663. سمع من القاسم بن عساكر، وابن طَبْرَزَد، وطائفة، ونظر في اللغة والعربية، وكان يعرف جملة من الغريب، والأسماء، والمختلف والمؤتلف، روى عنه: النووي، والتاج الفزاري، وابن دقيق العيد. 144 - سليمان بنُ علي، الشيخُ الأديبُ البارع عفيفُ الدين التلمسانيُّ. كان كوفي الأصل، وكان يدَّعي العرفان على اصطلاح القوم، وكان منتحلًا في - أقواله وأفعاله - طريقةَ ابن عربي. توفي بدمشق في شهور سنة 690، ودفن بمقابر الصوفية، ومن نظمه، شعر: إنْ كان قتلي في الهوى يتعيَّنُ ... يا قاتلي! فبسيفِ طرفِكَ أَهْوَنُ حَسْبي وحَسْبُك أن تكونَ مدامعي ... غسلي، وفي ثوبِ السَّقامِ أُكَفَّنُ قلت: ومن هذا الوادي قولُ آزاد البلجرامي - رحمه الله - بالفارسية: اكر بخاطر عاطر بود شهادت ما ... زدست وتيغ تو مردن زهى سعادت ما 145 - سليمانُ بنُ حمزة الإمامُ المفتي مسندُ الشام، تقيُّ الدين أبو الفضل المقدسيُّ الجماعيليُّ الدمشقيُّ الحنبليُّ. ولد سنة 628، وتوفي سنة 715، ولي القضاء عشرين سنة، وكان إذا أراد أن يحكم، قال: صلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا صلوا، حكم، رح. 146 - عبد الله بن محمد بن عبيد، يعرف بابن أبي الدنيا. مولده سنة 208، وتوفي سنة 282 أو سنة 281. وكان يؤدب المعتضد باللَّه، والمكتفي باللَّه في حداثتهما، وكان له عليهما كل

147 - عبد الحق بن إبراهيم بن محمد، المرسي، الأندلسي الصوفي، يعرف بابن سبعين

يوم خمسة عشر دينارًا، وهو أحد الثقات المصنفين للأخبار والسير. وله كتب كثيرة تزيد على مئة كتاب، سمع من المشايخ، وروى عنه جماعة. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وكان صدوقًا، وكان إذا جالس أحدًا إن شاء أضحكه، وإن شاء أبكاه، رح. قال في "آثار الأدهار". وقيل: إنه كان يروي عن محمد بن إسحق البلخي، وهو كذاب لا يركن إليه، وتصانيفه كثيرة. 147 - عبدُ الحق بنُ إبراهيمَ بنِ محمدٍ، المرسيُّ، الأندلسيُّ الصوفيُّ، يعرف بابن سبعين. كان صوفيًا على قواعد الفلاسفة من القائلين بوحدة الوجود، وله كلام كثير في العرفان، وتصانيف، وله أتباع ومريدون، يعرفون: بالسبعينية. ذكر له سليم الخوري في "آثار الأدهار" ترجمة مطولة، قال: وقد رُمي بضعف المعتقد، واختلفت فيه الأقوال، وقال غير واحد: إن أغراض الناس فيه متباينة بعيدة عن الاعتدال، فمنهم المرهق المكفِّر، ومنهم المقلد المعظم الموقر، وحصل بهذين الطرفين من الشهرة والاعتقاد والنفرة والانتقاد ما لم يقع لغيره. قال ابن خلدون: وكان حافظًا للعلوم الشرعية والعقلية، سالكًا مرتاضًا بزعمه على طريقة الصوفية، ويتكلم بمذاهب غريبة منها، ويقول برأي الوحدة، ويزعم بالتصرف في الأكوان على الجملة، فأرهق في عقيدته، ورُمي بالكفر أو الفسق في كلماته، وأعلن بالنكير عليه والمطالبة له السكوني، فلحق بالمشرق، انتهى. وقد ذهب ابن سبعين إلى القول بالحلول والوحدة المطلقة، وتوغل فيه، كالهروي، وابن عربي، وابن العفيف، وابن الفارض، والنجم الإسرائيلي، وهذا القول غريب في تعقله وتفاريعه. ومن مكفريه: شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - والله أعلم. قال الذهبي: ذكر شيخنا ابن دقيق العيد، قال: جلست مع ابن سبعين من ضحوة إلى قريب الظهر، وهو يسرد كلامًا تعقل مفرداته، ولا تعقل مركباته. قال

148 - عبد الحق بن عبد الرحمن، الأزدي، الإشبيلي، يعرف بابن الخراط

الذهبي: واشتهر أنه قال لقد تحجر ابن آمنة واسعًا بقوله: "لا نبيَّ بعدي"، قال: إن كان ابن سبعين قال هذا، فقد خرج من الإسلام، مع أن هذا الكلام هو أخفُّ وأهون من قوله في رب العالمين: إنه حقيقة الموجودات - تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا -، ثم إنه فصد يديه، وترك الدم يخرج حتى مات بمكة في سنة 668، وله عدة رسائل، وكتاب "الإحاطة"، ويقال: إنه كان يعرف السيمياء والكيمياء، ويحكون عنه أشياء من الرياضة، وكلام فحل محشو بكلام. 148 - عبد الحق بنُ عبد الرحمن، الأزديُّ، الإشبيليُّ، يعرف بابن الخراط. روى عن: شريح بن محمد، وأبي الحكم بن برجان، وغيرهم، أجاز له: ابنُ عساكر، وولى الخطبة والصلاة بالأندلس، وكان حافظًا عالمًا بالحديث وعلله ورجاله، موصوفًا بالخير والصلاح والزهد والتقلل من الدنيا، مشاركًا في الأدب وقول الشعر. صنف في الأحكام نسختين؛ كبرى، وصغرى، وجمع بين الصحيحين، وبوبه، وجميع الكتب الستة، وله كتاب في المعتل من الحديث، وله كتاب "الزهد"، وكتاب "العاقبة في ذكر الموت"، وكتاب "الرقائق"، ومن شعره: إنَّ في الموت والمعاد لَشُغْلًا ... وادِّكارًا لذي النُّهى وبَلاغا فاغتنمْ خصلتين قبل المنايا ... صحةَ الجسمِ يا أخي والفراغا وله في اللغة كتاب حافل ضاهى به كتاب الهروي. وكانت وفاته في سنة 581، ذكر له سليم الخوري في "الآثار" ترجمة حسنة. 149 - عبد الرحمن بنُ إبراهيمَ بن سباع، تاجَ الدين، القراريُّ، البدريُّ، المصريُّ. العلامة الإمام، فقيه الشام، ولد سنة 624، وتوفي سنة 690. سمع من ابن النجار، وابن الصلاح، والسخاوي، وسع منه ابن تيمية، والمزي، وابن الزملكاني، وغيرهم، درَّس وناظرَ وصَنَّف. وكان ممن بلغ رتبة الاجتهاد، ومحاسنُه كثيرة، وكان يلثَغُ بالراء غينًا.

150 - عبد الرحمن بن أحمد بن يونس، الصدفي، المصري، الحافظ المؤرخ

وكان أكبر من النووي، ويقول: أيش قال النووي في مزبلته؟ يعني: "الروضة". عاش ستاً وستين سنة وثلاثة أشهر، وله "كشف القناع في حل السماع"، وله شعر رائق. 150 - عبد الرحمن بنُ أحمدَ بنِ يونسَ، الصدفيُّ، المصريُّ، الحافظُ المؤرخُ. ولد سنة 281، وتوفي سنة 347. له كلام في الجرح والتعديل؛ يدل على تبصره بالرجال، ومعرفته بالعلل. وكان إماماً في علم التاريخ، عمل لمصر تاريخين. ولما مات، رثاه الخشاب النحوي. 151 - عبد الرحمن بنُ إسماعيل بنِ إبراهيم، أبو شامة، المقدسيُّ، النحويُّ، المقرىءُ. ولد سنة 596 بدمشق، وتوفي سنة 665. حصل له عناية بالحديث، وسمع أولاده، وقرأ بنفسه، وأتقن الفقه، ودرَّس وأفتى، وبرع في العربية، له كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، وغير ذلك، وحصل له الشيب وعمره خمس وعشرون سنة، ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية، ومن نظمه في "السبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله": إمامٌ، محبٌّ، ناشىءٌّ، متصدِّقٌ ... وباكٍ، مُصَلًّ، خائفُ سطوةَ الباسِ يُظِلُّهُمُ اللهُ الجليلُ بظلِّهِ ... إذا كان يومَ العرضِ لا ظِلَّ للنَّاسِ أشرتُ بألفاظِ تدُلُّ عليهم ... فيذكرُهم في النظمِ من بعضهم ناسي وقال في المعنى: وقال النبيُّ المصطفى إنَّ سبعةً ... يُظِلُّهم اللهُ العظيمُ بظلِّهِ مُحِبٌّ، عفيفٌ، ناشىءٌ، متصدِّقٌ ... وباكٍ، مصلًّ، والإمامُ بعدلِهِ

152 - عبد الرحمن بن محمد بن إدريس أبو محمد بن أبي حاتم، التميمي، الحنظلي

وهذا الأخير أورده الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" وزاد عليه أشياء، ونظمها، ذكرتها في "دليل الطالب" فليراجع. 152 - عبد الرحمن بن محمد بن إدريس أبو محمد بنُ أبي حاتمِ، التميميُّ، الحنظليُّ. الإمام بنُ الإمام، الحافظ بن الحافظ، سمع أباه وغيره. قال ابن مندَهْ: صنف ابن أبي حاتم "المسند" في ألف جزء، وله "مقدمة الجرح والتعديل"، و"اختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار"، وله "الجرح والتعديل (¬1) " في عدة مجلدات تدل على سَعَة حفظه وإمامته، وكتاب "الرد على المجسمة"، وله تفسير كبير - سائره آثار مسندة - في أربع مجلدات. وكان يُعد من الأبدال، وقد أثنى عليه جماعة بالزهد والورع التام، والعلم والعمل، توفي في المحرم سنة 327 - رحمه الله تعالى -. 153 - عبد الرحمن بنُ محمدِ بنِ إسحقَ بنِ محمد بنِ يحيى بن منده، العبديُّ الأصفهانيُّ. كأن كبير الشأن، جليل القدر، حسنَ الخطّ، واسع الرواية، له أصحاب وأتباع، وله تصانيف كثيرة، وردود جمة على أهل البدع، توفي سنة 470. قال ابن رجب في "طبقاته": كان كثير السماع، كبير الشأن، سافر إلى البلاد، وخرج التخاريج، وكان متمسكًا بالسنة، معرضًا عن أهل البدع. وكان سعد بن محمد الزنجاني يقول: حَفظ اللهُ الإسلام برجلين: أحدُهما بأصبهان، والآخر بهراة: عبد الرحمن بن منده، وعبد الرحمن الأنصاري. وقال يحيى بن منده: كان عمي سيفًا على أهل البدع. وقال إسماعيل التيمي: خالف أباه في مسائل، وأعرض عنه مشايخ الوقت، وما تركني أبي أسمع منه، قال ابن رجب: وهذا ليس بقادح إن صح. ¬

_ (¬1) قد طبع "الجرح والتعديل" ومقدمته في تسع مجلدات، بدائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، سنة (1360: 1373 هـ 1941 - 1953 م).

154 - عبد الرحمن بن محمد بن الحسن يعرف بابن عساكر، الدمشقي

قال ابن السمعاني: سمعت الحسينَ بنَ عبد الملك يقول: سمعتُ ابن مندَهْ يقول: قد تعجبت من حالي مع الأقربين والأبعدين؛ فإني وجدت في الآفاق التي قصدتها أكثر من لقيته بها - موافقًا كان أو مخالفًا - دعاني إلى مساعدته على ما يقوله، وتصديق قوله والشهادة له في فعله على قبول ورضًا، فإن كنت صدقته، سماني: موافقًا، وإن وقعت في حرف من قوله وفي شيء من فعله، سماني: مخالفًا، وإن ذكرت في واحد منهما أن "الكتاب والسنة" بخلاف ذلك، سماني: خارجيًا، وإن أوردت حديثًا في التوحيد، سماني: مشبهاً، وإن كان في الرؤية، سماني: سالميًا، وأنا متمسك بالكتاب والسنة، متبرىء إلى الله من التشبيه والتمثيل والضد والند والجسم والأعضاء ومن كل ما ينسب إليَّ، ويُدَّعى عليَّ من أن أقول في الله تعالى شيئًا من ذلك، أو قلته أو أراه أو أتوهمه أو أتخذه أو انتحله. ومن تصانيفه "الردُّ على الجهمية" قال ابن تيمية رح: كان ابنُ مندَهْ من الأصحاب، وكان يذهب إلى الجهر بالبسملة في الصلاة. قال ابن منده: علامة الإخلاص زيادة السر على الإعلان في إيثار قول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الأقوال كلها، وعلامة الصبر: حبسُ النفس في استحكام الدرس بالكتاب والسنة، وعلامة التسليم: الثقة بالله الحكيم في قوله، والسكون إلى الله العظيم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأشياء، وقال في كتاب "الرد على الجهمية": التأويل عند أصحاب الحديث: فرعٌ من التكذيب. 154 - عبد الرحمن بن محمد بن الحسنِ يعرف بابن عساكر، الدمشقيُّ. صنف في الحديث والفقه، ودرس في مواضع، وكان يتورع من المرور في رواق الحنابلة؛ لئلا يأثموا بالوقيعة فيه؛ لأن عوامهم يبغضون بني عساكر؛ لأنهم شافعية أشاعرة، وعرضوا عليه ولايات ومناصب، فتركها. توفي سنة 620، ومولده سنة 550. 155 - عبد الرحمن بنُ محمدِ بنِ المظفر، الداوديُّ. جمالُ الإسلام، وشيخ خراسان، راوي البخاري من السرخسي، كان من الأئمة الكبار مع علو الإسناد.

156 - عبد الرحمن بن أحمد بن محمد، يعرف بابن الاخوة

وله حظ من النظم والنثر، أخذ في التدريس والفتوى والتصنيف، وعقد مجالس التذكير ورواية الحديث إلى أن توفي سنة 467، وكان مولده في سنة 374، ومن شعره: كانَ اجتماعُ الناس فيما مضى ... يُؤرثُ البهجةَ والسَّلْوَهْ فانقلبَ الأمرُ إلى ضِدِّهِ ... فصارتِ السلوةُ في الخلوهْ وله أيضًا: كان في الاجتماع من قبلُ نورٌ ... فمضى النورُ وادْلَهَمَّ الظلامُ فَسَدَ الناسُ والزَمانُ جميعًا ... فعلى الناسِ والزمانِ السلامُ 156 - عبد الرحمن بن أحمد بن محمد، يعرفُ بابن الاخوة. سمع من جماعة، وسافر إلى خراسان في طلب الحديث، وسمع بنيسابور، والري، وطبرستان، وأصبهان، وقرأ بنفسه، وكان سريع القراءة والكتابة، قال: كتبت بخطي ألف مجلد، وله معرفة بالأدب، ومن شعره: الدهرُ كالميزانِ يرفعُ ناقصًا ... أبدًا، ويخفضُ زائدَ المقدارِ وإذا انتحى الإنصافَ عادل عدله ... في الوزنِ بينَ حديدةٍ ونُضار أنفقتُ شرخَ شبابي في ديارِكُمُ ... فما حَظيتُ ولا أنفدتُ إنفاقي وخيرُ عمري الذي وَلَّى وقد ولعت ... به الهمومُ، فكيف الظنُّ بالباقي 157 - عبد الصمد بنُ عبدِ الوهاب بنِ الحسنِ بن عساكر، الإمامُ، المحدثُ، الزاهد، أبو اليمن، الدمشقيُّ نزيلُ الحرم. سمع من جده، ومن ابن الزبيدي، وابن غسان، وأجاز له أبو روح الهروي، وطائفة، وحدث بالحرمين بأشياء، وكان جيد المشاركة في العلوم. وكان شيخَ الحجاز في وقته، وله تآليف في الحديث. وله سنة 614، وتوفي سنة 687.

158 - عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، الحافظ، الإمام، زكي الدين، أبو محمد، المنذري المصري

158 - عبدُ العظيم بنُ عبد القويِّ بنِ عبدِ الله، الحافظُ، الإمامُ، زكيُّ الدين، أبو محمد، المنذريُّ المصريُّ. ولد سنة 581، وتوفي سنة 656. قرأ القرآن على الأبارجي، وتأدب على جماعة من أهل العلم، وبرع، وسمع من جماعة، وخرج لنفسه معجمًا كبيرًا مفيدًا، روى عنه: الدمياطي، وابن دقيق العيد، وخلقٌ كثير، ودرَّس بالجامع الظافري بالقاهرة، ثم ولي مشيخة دار الحديث الكاملية، وانقطع بها نحوًا من عشرين سنة. قلت: وله كتاب حافل في "الترغيب والترهيب" مفيدٌ نافع جدًا، وقد صدر أمر الرئيسة المعظمة العالية، والية "بهويال" المحمية - حفظها الله تعالى - بطبعه لهذا العهد سنة 1298 - بدار العلم دهلي - في المطبعة الفاروقية، ولله الحمد حمدًا كثيرًا. وله "تلخيص صحيح مسلم" في غاية الجودة والإتقان، يدل على علو كعبه في فهم السنة، علَّقت عليه شرحًا مختصرًا في هذه الأيام من غرة رجب سنة 1398 للهجرة، وسميته: "السراج الوهاج" - أعان الله على إتمامه بمنه وكرمه -. 159 - عبد القادر الجيلاني بنُ أبي صالح موسى بن جنكي دوست، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي - رضي الله عنهما - الشيخُ أبو محمد، الجيليُّ، الحنبليُّ، الزاهدُ المشهورُ. صاحبُ المقامات والكرامات والعلوم والمعارف والأحوال المشهورة، شيخُ الحنابلة، ولد بجيلان سنة 490 أو سنة 491. قدم بغداد شابًا، وسمع بها الحديث من الباقلاني، وجعفر السراج، وأبي بكر بن سوس. وقيل: قرأ أيضًا على ابن عقيل، والقاضي أبي الحسين، وبرع في المذهب والخلاف، وقرأ الأدب على أبي زكريا التبريزي، وصحب الشيخَ يحيى بن علي حماد الدباس الزاهد. قال ابن الجوزي: درس بمدرسة شيخه المخرمي، وكانت هذه المدرسة لطيفة، ففوضت إلى عبد القادر، فتكلم

على الناس بلسان الوعظ، وظهر له صيت بالزهد، وكان له سَمْتٌ وصمتٌ، وضاقت المدرسة بالناس، وكان يجلس عند سور بغداد مستندًا إلى الرباط ويتوب عنده في المجلس خلق كثير، فعمرت المدرسة ووسعت، وتعصب في ذلك العوام، وأقام في مدرسته يدرس إلى أن توفي، انتهى. وذكره ابن السمعاني، فقال: حصل له القبول التام من الناس، واعتقدوا ديانته وصلاحه، وانتفعوا بكلامه ووعظه، وانتصر أهل السنة بظهوره، واشتهرت أحواله وأقواله وكراماته ومكاشفاته، وهابه الملوكُ فمَنْ دونهم. قال الشيخ موفق الدين صاحب "المغني": لم أسمع عن أحد يحكى عنه من الكرامات أكثر مما يحكى عن الشيخ عبد القادر، ولا رأيت أحدًا يعظم من أجل الدين أكثر منه. وذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام: أنه لم تتواتر كرامات أحد من المشايخ إلا الشيخ عبد القادر؛ فإن كراماته نقلت بالتواتر. قال ابن رجب: جمع المقرىء أبو الحسن الشنطوفي المصري في أخباره ومناقبه ثلاث مجلدات، وقد رأيت بعض هذا الكتاب، ولا يطيب على قلبي أن أعتمد على شيء مما فيه، وذلك لكثرة ما فيه من الرواية عن المجهولين، وفيه من الشطح والطامات والدعاوى والكلام الباطل ما لا يحصى، ولا يليق نسبة مثل ذلك إلى الشيخ عبد القادر - رحمه الله -. ثم وجدت الكمال جعفرًا الأدبوي، قد ذكر: أن الشنطوفي كان متهمًا في نفسه فيما يحكيه في هذا الكتاب بعينه، وذكر في هذا الكتاب، قال: جاءت فتيا من بلاد المعجم إلى بغداد - بعد أن عرضت على علماء العراقيين، فلم يتضح لأحد فيها جواب شافٍ، وصورتها: ما تقول العادة في رجل حلف بالطلاق الثلاث إنه لا بد أن يعبد الله - عز وجل - عبادة ينفر بها دون جميع الناس في تلبسه بها، فما يفعل من العبادات؟ فكتب عليها على الفور: يأتي مكة، ويخلَّى له المطافُ أسبوعًا وحده، وتنحل له يمينه، فما بات المستفتي ببغداد. فأما الحكاية عنه: أنه قال: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله، فقد ساقها هذا المصنف من طرق متعددة، وأحسنُ ما قيل في هذا الكلام ما ذكره الشيخُ

أبو حفص السهرورديُّ في "عوارفه": أنه من شطحات الشيوخ التي لا يُقتدى بهم فيها، ولا يقدح في مقاماتهم ومنازلهم، فكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا المعصومَ - صلى الله عليه وسلم -، ومن ساق الشيوخ المتأخرين مساق الصدر الأول، وطالبهم بطرائقهم، وأراد منهم ما كان عليه الحسن البصري وأصحابه؛ من العلم العظيم، والعمل العظيم، والورع العظيم، والزهد العظيم، مع كمال الخشية والخوف، وإظهار الذل والحزن والانكسار، والإزراء على النفس، وكتمان الأحوال والمعارف، والمحبة والشوق، ونحو ذلك، فلا ريب أنه يزدري المتأخرين ويمقتهم، ويهضم حقوقهم، فالأولى تنزيلُ الناس منازلَهم، وتوفيتُهم حقوقَهم، ومعرفةُ مقاديرهم، وإقامةُ معاذيرهم، وقد جعل اللهُ لكل شيء قدرًا. أقول: هذا الكتاب هو "بهجة الأسرار"، وفيه نسب الحكايات الشركية التي لا تلائم حال الأبرار إلى حضرة الشيخ - عليه الرحمة -، وهو مملوء بالأكاذيب والأباطيل، وقد سلك صاحب "أخبار الأخيار" وغيرُه من أهل الطبقات في مدائح الشيخ ومناقبه طريق المبالغة والإغراق، وذكروا أشياء لا يقبلها العقل السليم، والنقل المستقيم، والظاهر أنها مكذوبة عليه - رحمه الله تعالى -. قال ابن رجب: ولما كان الشيخ أبو الفرج بن الجوزي عظيمَ الخبرة بأحوال السلف والصدر الأول، قلَّ من كان في زمانه يساويه في معرفة ذلك، وكان له أيضاً حظ من ذوق أحوالهم، وقسطٌ من المشاركة في معارفهم، كان لا يعذر المشايخ المتأخرين في طرائقهم المخالفة لطريق المتقدمين، ويشتد إنكارُه عليهم، وقد قيل: إنه صنف كتابًا ينقم فيه على الشيخ عبد القادر أشياءَ كثيرة، ولكن قد قلَّ في هذا الزمان من له الخبرة التامة بأحوال الصدر الأول، والتمييز بين صحيح ما يذكر عنهم من سقيمه، فأما من له مشاركة لهم في أذواقهم، فهو نادر النادر، وإنما ألم أهل هذا الزمان بأحوال المتأخرين، ولا يميزون بين ما يصح عنهم من ذلك من غيره، فصاروا يخبطون خبط عشواء في ظلمات، والله المستعان. وللشيخ عبد القادر - رحمه الله تعالى - كلامٌ حسن في التوحيد والصفات

والقدر، وفي علوم المعرفة موافقٌ للسنة، وله كتاب "الغنية لطالبي طريق الحق - عز وجل -"، وهو معروف، وله كتاب "فتوح الغيب"، وجمع أصحابه من مجالسه في الوعظ كثيرًا، وكان متمسكًا في مسائل الصفات والقدر ونحوهما بالسنة، مبالغًا في الرد على مَنْ خالفها. قال في كتابه "الغنية": وهو بجهة العلو مستوٍ على العرش، محتوٍ على الملك، محيطٌ علمُه بالأشياء، إليه يصعد الكَلِمُ الطيب، والعملُ الصالح يرفعه، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء - على العرش - كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وذكر آيات وأحاديث، إلى أن قال: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش، قال: وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على لسان كل نبي أرسل بلا كيف، وذكر كلاماً طويلاً وذكر نحو هذا في سائر الصفات. وذكر أبو زكريا الصرصري عن شيخه العارف علي بن إدريس: أنه سأل الشيخَ عبد القادر، فقال: يا سيدي! هل كان لله وليٌّ على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ فقال: ما كان ولا يكون. وقد نظمه الصرصري في قصيدته. وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية، رح: حدثني الشيخ عز الدين أحمدُ بنُ إبراهيم الفاروقي: أنه سمع شهاب الدين عمر بن محمد السهرورديّ، صاحب "العوارف"، قال: كنت قد عزمت على أن أقرأ شيئًا من علم الكلام، وأنا متردد: هل أقرأ "الإرشاد" لإمام الحرمين، أو "نهاية الإقدام" للشهرستاني، أو كتاباً آخر، ذكره؟ فذهبت مع خالي أبي النجيب، وكان يصلي بجنب الشيخ عبد القادر، فالتفت الشيخ عبد القادر إليَّ، وقال لي: يا عمر! ما هو من زاد القبر؟ ما هو من زاد القبر؟ فرجعت عن ذلك، قال الشيخ تقي الدين: ورأيت هذه الحكاية معلقة بخط الشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي - رحمه الله -. وحكى الشيخ الزاهد عليُّ بن سليمان الخباز عن الشيخ عبد القادر، وناهيك به! فإنه صاحب المكاشفات والكرامات التي لم ينقل لأحد من أهل عصره

160 - عبد الكريم بن محمد، أبو القاسم، الرافعي، القزويني. ذكره ابن الصلاح، وقال: ما أظن في بلاد المعجم مثله، صنف "شرح الوجيز" في اثني عشر مجلدا لم يشرح الوجيز بمثله، قال النووي: له كرامات كثيرة ظاهرة

مثلها: أنه قال: لا يكون لله ولي إلا على اعتقاد أحمد بن حنبل، قال الحافظ بن النجار في "تاريخه": كان الشيخ عبد القادر يقول: الخلق حجابُك عن نفسك، ونفسُك حجابك عن ربك، ما دمت ترى الخلق، لا ترى نفسَك، وما دمت ترى نفسك، لا ترى ربك. وقال: ما ثَمَّ إلا خالق وخَلْق، فإن: اخترت الخالق، فقل كما قال الخليل: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77]، ثم قال: من ذاقه فقد عرفه، فاعترضه سائل، فقال: يا سيدي! من غلبت عليه مرارة الصَّدِّ كيف يجدُ حلاوةَ الذوق؟ قال: يتعمد قيء الشهوات من قلبه. قال ابن رجب: وأخبار الشيخ عبد القادر كثيرة. قال ابن الجوزي: توفي الشيخ ليلة السبت ثامن، وقال غيره: تاسع ربيع الآخر سنة 561 بعد المغرب، ودفن من وقته بمدرسته، وبلغ سبعين سنة. وسمعت أنه كان يقول عند موته: رفقًا رفقًا، ثم يقول: وعليكم السلام، وعليكم السلام، أجيء إليكم، وقبره ظاهر يزار بمدرسته ببغداد. وروى ابن رجب أيضًا حديثًا بسنده - فيه الشيخ عبد القادر - ما نصه: عن كعب بن مالك - رضي الله عنه -، قال: قلّما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إذا أراد سفرًا إلا يوم الخميس، انتهى. ولد بجيلان سنة 491، وتوفي سنة 561، وروى عنه: أبو سعد السمعاني، والحافظ عبد الغني، وكان إمامَ زمانه، وقطبَ عصره، وشيخَ شيوخ الوقت بلا مدافعة، وله كلام على لسان أهل الطريق، درَّسَ وأفتى، وصنَّف في الفروع والأصول، وصار مجتهدًا، وولد له تسعة وأربعون ولدًا: عشرون ذكرًا، والباقي إناث - رحمه الله تعالى -. 160 - عبد الكريم بنُ محمد، أبو القاسم، الرافعيُّ، القزوينيُّ. ذكره ابن الصلاح، وقال: ما أظن في بلاد المعجم مثله، صنف "شرح الوجيز" في اثني عشر مجلدًا لم يُشرح الوجيزُ بمثله، قال النووي: له كرامات كثيرة ظاهرة.

161 - عبد المحسن بن حمود بن عبد المحسن، أمين الدين التنوخي، الحلبي، الكاتب

وقال محمد الأسفراييني: هو شيخنا، إمام الدين، وناصر السنة، كان له مجلس في التفسير والحديث، صنف شرحًا لمسند الشافعي - رحمه الله تعالى -. مات بقزوين سنة 623، وكان ذا فنون، مجتهدًا عالمًا كبيرًا، خرج لكتاب ابن حجر تخريجًا سماه: "التلخيص". 161 - عبد المحسن بن حمود بنِ عبدِ المحسن، أمينُ الدينِ التنوخيُّ، الحلبيُّ، الكاتبُ. ولد سنة 570، وتوفي سنة 643. رحل وسمع بدمشق من حنبل، وابن طَبَرْزَد، وجماعة، وعُني بالأدب، ومن شعره: اشتغلْ بالحديث إنْ كنتَ ذا فَهْـ ... ـمٍ، ففيهِ المرادُ والايثارُ وهوَ العلمُ للمَلا وبهِ بَيْـ ... ـنَ ذوي الدين تحسُنُ الآثارُ إنما الرأيُ والقياسُ ظلامٌ ... والأحاديثُ للوَرَى أنوارُ وإذا كنتَ عاملاً وعليمًا .... بالأحاديثَ، لم تمسَّكَ نارُ 162 - عبد المؤمن بن خلف بنِ شرفٍ، يعرف بالدمياطيِّ الإمامُ، البارعُ، الحافظُ، النسابةُ، المجوِّدُ، علم المحدثين، عمدة النقاد. ولد سنة 613، ووفاته في سنة 705. طلب الحديث، وسمع من أصحاب السِّلَفي، وعُني بهذا الشأن روايةً ودرايةً، ولازم الحافظَ زكيَّ الدين، وسمع بالحرمين، وارتحل إلى الشام والجزيرة والعراق، وكتب العالي والنازل، وحدَّث وصنَّف، وأملى في حياة كبار مشايخه. وكان مليحَ الهيئة، جميل الصورة، وكتب عنه طائفة، منهم: أبو حيان، وفتح الدين بن سيد الناس، والمزي، والتقي السبكي، والنووي، وما زال يسمع الحديث إلى أن مات فجاءة، وصُلِّي عليه بدمشق غائبًا - رحمه الله -.

163 - القاسم بن محمد بن يوسف، يعرف بابن العدل، الإمام، الحافظ، المحدث، المؤرخ، علم الدين البرزالي، الدمشقي

163 - القاسمُ بنُ محمدِ بنِ يوسفَ، يعرف بابن العدل، الإمامُ، الحافظُ، المحدث، المؤرخ، علم الدين البرزاليُّ، الدمشقيُّ. ولد سنة 665. ولما سمع "صحيح البخاري" - من الأيلي - بعثه والده فسمع بنفسه سبعًا، وأحب الحديث، ونسخ الأجزاء، ودار على الشيوخ، وسمع من جماعة كثيرة، وبلغ عدد مشايخه بالسماع أكثر من الألفين، وبالإجازة أكثر من ألف. قال الشوكاني في "البدر الطالع": أجاز له ابنُ عبد البر، وابن عدلان. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: نقلُ البرزاليِّ نقرٌ في حجر. ولي تدريسَ الحديث في مواضع. قال الذهبي: إنه كان رأسًا في صدق اللهجة والأمانة، وكان صاحبَ سنة واتباع ولزوم للفرائض. وله ود في القلوب، وحبٌّ في الصدور، حتى قال: وهو الذي حَبَّب إليَّ طلبَ الحديث، قال في: خطك يشبه خطَّ المحدَّثين، فأثَّر قوله لي، وسمعت، وتخرجت في أشياء توفي ذاهبًا إلى مكة غريبًا في سنة 739، عن أربع وسبعين سنة ونصف، وتأسف الناس عليه. 164 - محمد بنُ محمدِ بنِ علي بن عربيّ الطائيُّ، الحاتميُّ، سعدُ الدين، الأديبُ الشاعرُ. سمع الحديث، ودرس، وقال الشعر، وكان شاعرًا مجيدًا، له ديوان مشهور. ولد في سنة 618، وتوفي بدمشق سنة 686 - وهي السنة التي دخل فيها هولاكو ملكُ التتار بغدادَ، وقتل الخليفة المستعصم. ودفن المذكور عند والده الشيخ الأكبر صاحب "الفتوحات المكية" بسفح قاسيون، وأخوه عماد الدين أبو عبد الله محمد توفي بالصالحية سنة 667، ودفن عند والده أيضًا، قال المَقَّرِيُّ في "نفح الطيب": ومن نظم سعد الدين: سَهَري منَ المحبوبِ أصبحَ مُرْسَلاً ... وأراه متصلاً بفَيْضِ مَدامِعي قالَ الحبيبُ بأنَّ ريقيَ نافعٌ ... فاسمعْ روايةَ مالكٍ عن نافعِ

165 - محمد بن عبد الله بن مالك، جمال الدين، الطائي، الجياني، الشافعي، النحوي

ومن نظمه: ورُبَّ قاضٍ لنا مَليح ... يُعْرِبُ عن منطقٍ لذيذِ إذا رَمانا بسهمِ لَحْظ ... قلنا لهُ دائم النفوذِ وله، رح: علقتُ صوفيًا كبدرِ الدُّجى ... لكنَّه في وَصْلِيَ الزاهدُ يشهدُ وجدي بغرامي له ... فَدَيْتُ صوفيًا له شاهِدُ وله: سائَلْتَني عن لفظةٍ لُغويةٍ ... فأجبتُ مبتدئًا بغير تفكُّرِ خاطبتنَي متبسِّمًا فرأيتُها ... من نظمِ ثغرِكَ في "صِحاحِ الجوهري" إلى غير ذلك مما لا يحصى. 165 - محمد بنُ عبد الله بن مالك، جمالُ الدين، الطائيُّ، الجيانيُّ، الشافعيُّ، النحويُّ. نزيل دمشق، الإمامُ العلامةُ الأوحدُ، ولد سنة 600. سمع بدمشق، وصرف همته إلى اتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغايةَ، وأَربى على المتقدمين، وكان إليه المنتهى في اللغة، يشيعه ابن خلكان إلى بيته تعظيمًا له. وكان في الصرف والنحو بحرًا لا يُشق لُججه، وأما اطلاعه على أشعار العرب التي يَستشهد بها على النحو، فكان أمرًا عجيبًا، وكان الأئمة الأعلام يتحيرون في أمره، وأما الاطلاع على الحديث، فكان فيه غاية، وكان أكثرَ ما يستشهد بالقرآن، فإن كان ما فيه شاهد، عدلَ إلى الحديث، فإن لم يكن فيه شيء، عدل إلى أشعار العرب، هذا مع ما هو عليه من الدين والعبادة، وكثرة النوافل، وحسن السمت، وكمال العقل. وكان نظمُ الشعر عليه سهلاً، وله "إعراب مشكل البخاري"، توفي سنة 672.

166 - محمد بن عبد المنعم بن محمد، الخيمي، اليمني الأصل، المصري الدار

166 - محمد بن عبد المنعم بنِ محمدٍ، الخيميُّ، اليمنيُّ الأصل، المصريُّ الدار. حدث بجامع الترمذي عن ابن البناء المكي، وحدث بكثير من مروياته، روى عنه الصقلي، وابن منير وابن الطاهري، وكان مقدَّمًا على شعراء عصره، مع المشاركة في كثير من العلوم، وشعره في الذروة الأعلى، ذكر له الصلاح الكتبي قصائد بديعة. عاش اثنتين وثمانين سنة، وتوفي سنة 685 بالقاهرة. 167 - محمد بن عبد الواحد بنِ أحمدَ، الحافظُ، الحجةُ، الإمام، ضياءُ الدين السعديُّ، الدمشقيُّ الصالحيُّ. ولد سنة 569، ولزم الحافظ عبد الغني، وحفظ القرآن، ورحل إلى بغداد، وسمع من ابن الجوزي وغيره، وسمع بمكة، وأجازه السلفي وخلقٌ كثير. قال المزي: هو أعلم من الحافظ عبد الغني، ومن مؤلفاته: "الأحاديث المختارة"، و"مناقب أصحاب الحديث"، و"النهي عن سب الصحابة"، وبنى مدرسة، وجعلها دارَ حديث، ووقف عليها كتبه، توفي سنة 643. 168 - محمد بن علي بن محمد بنِ أحمدَ بنِ عبدِ الله، الطائيُّ، الحاتميُّ، الأندلسيُّ. من ولد عبد الله بن حاتم - أخي عدي بن حاتم -، يكنى: أبا بكر، يعرف: بابن عربي - بدون ألف ولام -، صاحبُ التصانيف في التصوف. ولد سنة 560، قرأ القرآن بالسبع، وسمع من أبي القاسم بن بشكوال، ومحمد بن أبي جمرة، وسمع ببغداد ومكة ودمشق، وسكن الروم. قال ابن مسدي في جملة ترجمته: كان جميل الجملة والتفصيل، محصِّلاً لفنون العلم أخص تحصيل، وله في الأدب الشأوُ الذي لا يُلحق، والتقدم الذي لا يُسبق. قال: وكان ظاهريَّ المذهب في العبادات، باطنيَّ النظر في الاعتقادات، خاضَ بحارَ تلك العبادات، وتحقق بمحيا تلك الإشارات، وتصانيفُه تشهد له عند أولي البصر بالتقدم والإقدام، ومواقف النهايات في مزالق

الأقدام، ولهذا ما ارتبتُ في أمره، والله تعالى أعلمُ بسره، انتهى. وسمع الحديث أيضًا من عبد الحق الإشبيلي، وقال: حدثني بجميع مصنفاته في الحديث، وحدثني بكتب الإمام علي بن أحمد بن حزم. وسمع "صحيح مسلم" من أبي نصر، وكان يروي عن السِّلَفي بالاجازة العامة، وبرع في علم التصوف. قال الشيخ شمس الدين الذهبي: إن له توسعًا في الكلام، وذكاءً وقوةَ خاطرٍ حافظةً، وتدقيقًا في التصوف، وتآليف جمة في العرفان معتبرة، ولولا شطحة في الكلام، لم يكن به بأس، ولعل ذلك وقع منه حالَ سُكْرِه وغيبته، فيرجى له الخير، انتهى. ولما صنف "الفتوحات"، كان يكتب كل يوم ثلاث كراريس، توفي سنة 638. ومن تصانيفه: "الفتوحات" المذكورة، "وفُصوص الحِكَم"، وعليه شرحٌ لابن سويدكين سماه: "نقش الفصوص". قال: رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فقلت: يا رسول الله! أيُّما أفضلُ المَلَكُ أو النبيُّ؟ قال: الملكُ، قلت: أريد على هذا برهان دليل، إذا ذكرتُه عنك، أصدقُ فيه، فقال: أما جاء عن الله تعالى: أنه قال: "من ذكرَني في ملأ، ذكرتُه في ملأ خير منه؟ ". انتهى. وفيه نظر واضح. قال الصلاح الكتبي: وعلى الجملة، فكان رجلاً صالحًا عظيمًا، والذي نفهمه من كلامه حسنٌ، والمشكلُ علينا نَكِلُ أمرَه إلى الله تعالى، وما كلفنا اتباعه، ولا العمل بما قاله، وقد عظمه ابن الزملكاني، فقال: قال الشيخ محيي الدين بن عربي البحرُ الزاخر في المعارف الإلهية. وذكر من كلامه جملة، وذكر له في "الفوات" شعرًا رائقًا كثيرًا، واختصر كتابه "الفتوحات" الشيخُ عبدُ الوهاب بنُ أحمدَ الشعراني، المتوفَّى سنة 973، وسمى ذلك المختصر: "لواقح الأنوار القدسية المنتقاة من الفتوحات المكية"، ثم اختصر هذا المختصر، وسماه: "الكبريت الأحمر من علوم الشيخ الأكبر"، ومن تصانيفه: "كتاب الأحاديث القدسية" يشتمل على واحد ومئة من أحاديث إلهية، وأجازه جماعة، منهم: ابن عساكر، وابن الجوزي، ودخل مصر، وأقام بالحجاز مدة، ودخل

بغداد والموصل وبلاد الروم، وله قدم في الرياضة والمجاهدة، وكلامٌ على لسان أهل التصوف، والغالب عليه طريق أهل الحقيقة، وله أصحاب وأَتباع، ومن مؤلفاته مجموع ضمنها منامات رأى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما سمع منه، ومنامات قد حدَّث بها عمن رآه - صلى الله عليه وسلم -. حكى سبطُ ابن الجوزي عنه: أنه كان يقول: إنه يحفظ الاسم الأعظم، ويعرف الكيمياء والسيمياء بطريق التنزل، لا بطريق التكسُّب. قال ابن النجار في حقه: وكان قد صحب الصوفيةَ وأربابَ القلوب، وسلك طريق الفقراء، وحج وجاور، وكتب في علم القوم، وفي أخبار مشايخ المغرب وزهادها، وله أشعار حسنة، وكلام مليح، اجتمعتُ به في دمشق في رحلتي إليها، وكتبت عنه شيئًا من شعره، ونعمَ الشيخُ هو، وأنشدني لنفسه: أَيا حائِرًا ما بينَ علم وشهوةٍ ... لِيَتَّصِلا، ما بينَ ضِدَّين من وَصْلِ ومَنْ لم يكنْ يستنشقُ الريحَ لم يَكُنْ ... يرى الفَضلَ للمسكِ الفَتيق على الزبلِ انتهى. ومن شعره: بينَ التَّذَلُّل والتَّدَلُّلِ نُقْطَةٌ ... فيها يتيهُ العالِمُ النَّحْريرُ هي نقطةُ الأكوانِ، إن جاوَزْتَها ... كنتَ الحكيمَ، وعلمُك الإكسيرُ وله - رحمه الله -: يا دُرَّةً بيضاءَ لاهُوتِيَّةً ... قد رُكِّبَتْ صَدَفاً من الناسوتِ جَهِلَ الخليقةُ قدرَها لِشَقائِهم ... وتَنَافَسوا في الدُّرَّ والياقوتِ قال في "آثار الأدهار": أفرد له ابن خاتمة في كتابه "مزية المزية" ترجمةً، وأثنى عليه، وذكر من مؤلفاته كتبًا كثيرة سمّاها بأسمائها، منها: كتاب "جامع الأحكام في معرفة الحلال والحرام"، وهو على أبواب كلها في الأحاديث المسندة، وكتاب "الفتوحات" وهو من أعظم كتبه، وآخرُها تأليفًا، وكتاب "فصوص الحكم"، وقد اختلف الناس في هذا الكتاب - ردًا وقبولًا -، فبعضهم

اعتنى به، وتلقاه بحسن القبول، وشرحه؛ كابن الزملكاني، وغيره، وقال بعضهم: إن مصنفاته بلغت نيفًا وأربع مئة مصنف، وكان يقول بالقدم، وذهب في ذلك مذهبَ بعض المتصوفة، فكفَّره بعضُهم، ورموه بضعف المعتقَد، وأنكر عليه قومٌ لأجل كلمات وألفاظ وقعتْ في كتبه، قد قصرت أفهامُهم عن إدراك معانيها، أما المحققون، فقد أجمعوا على جلالته في سائر العلوم، وأنكروا على من يطالع كلامه من غير سلوك طريق الرياضة؛ خوفًا من حصول شبهة في معتقده وكراماته، ومناقبُه كثيرة لا تحصى، انتهى حاصل ما في "آثار الأدهار". وقد تأول بعضُ العلماء قولَ الشيخ بإيمان فرعون: أن مراده بفرعون: النفس. وبالجملة: فما لَهُ مِنَ المنامات والكرامات لا تحصرُه مجلدات، وهو حجة الله الظاهرة، وآيته الباهرة، وقد تصدى للانتصار له، والإذعان لفضله من فحول العلماء الجَمُّ الغفير، منهم شيخ الإسلام قاضي القضاة مجدُ الدين الفيروز آبادي صاحبُ "القاموس" قد ألف كتابه المسمى بـ: "الاغتباط بمعالجة ابن الخياط"، وأجاب على سؤال عنه وعن مطالعة كتبه بما حاصله: الذي أَعتقده في حال المسؤول عنه، وأدين الله تعالى به: أنه كان شيخ الطريقة - حالا وعلمًا -، وإمام الحقيقة - حقيقة ورسمًا -، ومحا رسومَ المعارف - فعلا واسمًا -، عبابٌ لا تكدره الدِّلاء، وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء، كانت دعواته تخترق السبعَ الطباق، وتفترق بركاته فتملأ الآفاق، وإني أصفه وهو يقينًا فوقَ ما وصفته، وناطق بما كتبته، وغالب ظني أني ما أنصفته. وأما كتبه ومصنفاته، فالبحورُ الزواخر، التي - لكثرتها وجواهرها - لا يُعرف لها أولٌ ولا آخِر، ما وضع الواضعون مثلَها، وإنما خصَّ الله بمعرفة قدرِها أهلها، ومن خواص كتبه: أن من واظبَ على مطالعتها والنظر فيها، وتأمل ما في مبانيها، انشرح صدره لحل المشكلات، وفك المعضلات، وهذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس مَنْ خصه الله بالعلوم اللدنية الربانية. وعدَّ من مصنفاته نيفًا وأربع مئة مصنف. وربما بلغ بهم الجهلُ إلى حد التكفير، وما ذاك إلا لقصور أفهامهم عن

إدراك مقاصد أقواله وأفعاله ومعانيها، ولم تصل أيديهم - لقصرها - إلى اقتطاف مجانيها، هذا الذي نعلم ونعتقد، وندين الله تعالى به في حقه، والله سبحانه أعلم، كتبه محمد الصديقي الملتجىء إلى حرم الله، انتهى حاصله. وممن انتصر له أيضًا الشيخُ كمال الدين بن الزملكاني من أجل مشايخ الشام، وقال: وجدتُه بحرًا زاخرًا لا ساحلَ له. والشيخ عز الدين بن عبد السلام، وقال: إنه قطب زمانه. وقد أذعن له سعدُ الدين الحموي، وشهد له بالفضل الباهر. وترجم له الصلاح الصفدي في "تاريخه" ترجمة عظيمة، وكذلك الحافظ السيوطي ألف في شأنه كتابًا سَمَّاه "تنبيه الغبي على تنزيه ابن عربي"، لكن رد عليه الشيخ إبراهيم بن محمد الحلبي في رسالة سماها: "تسفير الغبي في تكفير ابن عربي"، وقال الحافظ الذهبي - وهو من أعظم المنكرين وأشدهم على طائفة الصوفية -: ما أظن محيي الدين يتعمد الكذب أصلاً. وكان قاضي القضاة أحمد الحوبي يخدمه خدمةَ العبيد، وزوَّجه قاضي القضاة المالكية بنتَه، وترك القضاءَ بنظرة وقعت عليه منه. وقال صاحب "عنوان الدراية": كان الشيخ الأكبر يُعرف بالأندلس بابن سُراقة، وقد نقم عليه أهل الديار المصرية، وسعوا في إراقة دمه، فخلصه الله تعالى على يد الشيخ أبي الحسن البجائي؛ فإنه سعى في خلاصه، وتأول كلامه، ولما وصل إليه بعد خلاصه، قال له الشيخ: كيف يجلس من حل منه اللاهوت في الناسوت؟ فقال له: يا سيدي! تلك شطحات في محل سكر، ولا عَتْبَ على سكران. قال اليافعي: وقد مدحه طائفة؛ كالنجم الأصبهاني، والتاج ابن عطاء الله، وغيرُهما، وتوقف فيه طائفة، وطعن فيه آخرون، وما نسب إليهم - أي: المشايخ -؛ كابن عربي، وغيره، له محامل: الأول: لم تصح نسبته إليهم. الثاني: بعد الصحة يلتمس له تأويل موافق، فإن لم يوجد له تأويل في الظاهر، فله تأويل في الباطن لم نعلمه، وإنما يعرفه العارفون، الثالث: أن يكون صدور

ذلك منهم في حال السكر والغيبة، والسكران سُكرًا مباحًا غيرُ مؤاخَذ، ولا مكلَّف، انتهى حاصله وله ببلاد اليمن والروم صيتٌ عظيم، وهو من عجائب الزمان، وأثنى عليه الشيخ محمد بن سعد الكشني، قال المَقَّرِيُّ في "نفح الطيب": الشيخ الأكبر، ذو المحاسن التي تبهر، الصوفي، الفقيه المشهور، الظاهريّ، ثم أَطنب في ترجمته والثناء عليه من أهل العلم، وذكر نبذة من أشعاره الرائقة، منها قوله: ما فازَ بالتَّوبةِ إلا الذي ... قد تابَ قِدْمًا والوَرَى نُوَّمُ فمنْ يتبْ أدركَ مطلوبَه ... من توبةِ الناسِ ولا يعلَمُ قال: وله من المحاسن ما لا يستوفى. وبالجملة: فهو حجة الله الظاهرة، وآيته الباهرة، أما كراماته، فلا تحصرها مجلدات. قال الشعراني: وقولُ المنكرين في حقه مثلُ غُثاء وهباء لا يُعبأ به. وبنى السلطان سليم خان على قبره مدرسة عظيمة، ورتب له الأوقاف. قال المَقَّرِي: وقد زرتُ قبره، وتبركت به مرارًا، رأيتُ لوائح الأنوار عليه ظاهرة، ولا يجد منصف محيدًا إلى إنكار ما يشاهد عند قبره من الأحوال الباهرة. وكان يحدِّث بالإجازة العامة عن الحافظ السَّلفي، وأثنى عليه الإمام الصفي بن ظافر الأزدي في "رسالته"، وذكر له النعمان أفندي في "الروضة الغناء" ترجمة جميلة موجزة، وقال: إمام الصوفية، ورب طريقهم. ولد بمرسية سنة 560، وكان مسكنه في دمشق، وظهوره فيها، وبها نشر علومه، توفي في دمشق سنة 638، ألف في مناقبه ومواهبه الشيخ عبد الغني النابلسي مؤلفًا حسنًا سماه: "السر المختبي في ضريح ابن عربي"، وألف فيه أيضًا كتابًا جليلاً سماه: "الرد المتين على منتقص العارف محيي الدين"، والقوم لا ينقطعون عن زيارة الشيخ، يعتبرونه من أعظم أولياء، وفي كل يوم جمعة ترى مئاتٍ من الناس حول ضريحه للصلاة والزيارة، انتهى. قلتُ: والمذهب الراجح فيه على ما ذهب إليه العلماء المحققون الجامعون بين العلم والعمل والشرع والسلوكِ: السكوتُ في شأنه، وصرفُ كلامه

المخالف لظاهر الشرع إلى محامل حسنة، وكف اللسان عن تكفيره وتكفير غيره من المشايخ الذين ثبت تقواهم في الدين، وظهر علمهم في الدنيا بين المسلمين، وكانوا في ذروة عليا من العمل الصالح، ومن ثم رأيتُ شيخَنا الإمام العلامة الشوكانيَّ في "الفتح الرباني" مال إلى ذلك، وقال: لكلامه محامل، ورجع عما كتبه في أول عمره بعد أربعين سنة. وأما شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وتلميذه الحافظ ابن القيم، وأمثالُهما، فهم إنما يذبون عن الشرع المطهر، وهذا منصبهم، وليس إنكارهم عليه من قِبَل الخصومة النفسانية، ولا على طريق الحسد الجاري بين أكثر أهل العلم من علماء الدنيا لكل وجهة هو موليها، ومع ذلك، لا شبهة ولا شك في أن جمعًا جَمًّا ذهبوا إلى تكفيره، وحطوا عليه بما لم يكن في حساب؛ كما أشرت إلى ذلك في كتابي "أبجد العلوم". وأقول في هذا الكتاب: إن الصواب: ما ذهب إليه الشيخ أحمد السرهندي - مجددُ الألف الثاني -، والشيخ الأجلُّ مسنِدُ الوقت أحمدُ وليُّ الله - المحدَّث الدهلويُّ -، والإمام المجتهد الكبير محمد الشوكاني؛ من قبول كلامه الموافق لظاهر الكتاب والسنة، وتأويل كلامه الذي يخالف ظاهرهما، تأويله بما يُستحسن من المحامل الحسنة، وعدم التفوه فيه بما لا يليق بأهل العلم والهدى، واللهُ أعلم بسرائر الخلق وضمائرهم، وإنما الشأنُ في العلم المؤسَّس على الحديث والقرآن والتقوى في العمل الذي عليه مدار صحة الإسلام والإيمان والإحسان، وهذان الأمران قد كانا فيه على الوجه الأتم لا يختلف فيه اثنان، وكان من اتباع السنة، وترك التقليد، وإيثار الاجتهاد، ورفض القال والقيل، وردّ الآراء بمكانٍ لا يمكن أن يُفصح عنه لسان القلم، وهذه فضيلةٌ لا يساويها فضيلة، ومنقبة لا يوازيها منقبة، وكلامُه في العمل بالدليل، وطرح التقليد الضئيل فوق كلام الناس، وشغفه بذلك يفوت عن حصر البيان، فجزاه الله عنا وعن سائر المسلمين جزاء حسنًا، وأفاض علينا من أنواره، وكسانا من حلل أسراره، وسقانا من حُمَيَّا شرابه، وحشرنا في زمرة أحبابه، بجاه سيد أصفيائه،

169 - محمد بن علي بن عبد الواحد، قاضي القضاة، جمال الإسلام، كمال الدين ابن الزملكاني الدمشقي، كبير الشافعية في عصره

وخاتم أنبيائه - صلى الله عليه، عليهم وسلم، وشرف وكرم وعظم -. 169 - محمد بن علي بن عبد الواحد، قاضي القضاة، جمالُ الإسلام، كمالُ الدين ابن الزملكاني الدمشقيُّ، كبيرُ الشافعية في عصره. سمع من ابن علان، وابن الواسطي، وطلب الحديث، وقرأه، وأفتى وله نيف وعشرون سنة، وكان يضرب بذكائه المثل، وقرأ على الصفي الهندي. وكان شكلُه حسنًا، ومنظره رائعًا، وتجمله في بِزَّته وهيئته غاية، وشيبته منورة بنور الإسلام، يكاد الورد يُقتطف من وجنتيه، وعقيدتُه صحيحة متمكنة أشعرية، وفضائله عديدة. صنف أشياء: منها: "رسالة في الرد على ابن تيمية في مسألة الطلاق"، و"رسالة في الرد عليه في مسألة الزيارة"، ولكن الحق فيهما مع ابن تيمية؛ نظرًا إلى الدليل، وقد أثنى على شيخ الإسلام ثناء حسنًا كثيرًا كبيرًا. ولد سنة 667، وتوفي سنة 727، قيل إنه سُمّ في الطريق، وأدركه الأجل في بلبيس، وعودي، وحُسد، وعُمل عليه، ولطف الله تعالى به، وله قصيدة يذكر فيها الكعبة المعظمة، ويمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكرها في "الفوات". 170 - محمد بن محمودِ بنِ الحسنِ بنِ هبةِ اللهِ، الحافظُ الكبيرُ، محبُّ الدين، ابنُ النجار، البغداديُّ، صاحبُ "التاريخ". ولد سنة 578، سمع من ابن الجوزي وجماعة، وله رحلة واسعة إلى الشام ومصر والحجاز وأصبهان وخراسان ومرو وهراة ونيسابور، وسمع الكثير، وحصل الأصول والمسانيد، واستدرك في "التاريخ" على الخطيب دلَّ على تبحره في هذا الشأن، وسعة حفظه، اشتملت مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ، ورحل سبعًا وعشرين سنة. يقال: إن السلطان سأله عن وفاة الشافعي، متى كانت؟ فبهت، هذا من التعجيز لمثل هذا الحافظ الكبير، فسبحان من له الكمال! وله كتاب "القمر المنير في المسند الكبير"، ذكر كل صحابي، وما له من الحديث. ومن شعره: وقائل قالَ يومَ العيدِ لي ورأى ... تَمَلُّلي ودموعَ العينِ تَنْهَمِرُ

171 - أبو محمد، عبد الله البرداني، الزاهد

ما لي أراكَ حزينًا باكِيًا أسفًا ... كأنَّ قلبَكَ فيه النارُ تستعرُ فقلت: إنِّي بعيدُ الدار عن وطني ... ومُمْلِقُ الكَفِّ والأحبابُ قد هَجَروا قلتُ: ومن هذا الوادي قول آفرين اللاهوري في الأبيات القسمية: لعريان يتيمى تمنا نورد ... كه عيد آمد وجامه كلكون نكرد 171 - أبو محمد، عبد الله البردانيُّ، الزاهدُ. قال الإمام العالم المقرىء زينُ الدين أبو الفرج عبدُ الرحمن بن شهاب الدين أبو العباس أحمدُ بن حسن بن رجب الحنبليُّ - رحمه الله تعالى - في كتابه "الطبقات" في ذكر المترجَم له: كان منقطعًا في بيت بجامع المنصور يتعبد فيه خمسين سنة. [لا رهبانية في الإسلام] روى عنه أبو بكر المرزوقي الفرضيُّ: أنه قال: رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال لي: يا عبد الله! من تمسك بمذهب أحمد في الأصول، سامحته فيما اجترح، أو فيما فرط في الفروع، توفي رح. سنة 461، ودفن في مقبرة الإمام أحمد، رح. 172 - علي بن الحسين بنِ أحمدَ، العكبريُّ، يعرف بابن جداء. كان فاضلاً خيرًا ثقة، شديدًا في السُّنَّة، على مذهب أحمد، كثيرَ الصلاة، حسنَ التلاوة للقرآن، ذا لَسَن وفصاحة في المجالس، ذكره ابن الجوزي. توفي سنة 468، ودفن في مقبرة أحمد. روى عنه الخطيب: أنه قال: رأيت هبة الله الطبريَّ في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: بماذا؟ قال: كلمة خفية: بالسنَّة. وحكى عن أحمد البجلي الحافظ أنه قال: دخل ابنُ فَوْرك على السلطان محمود، فتناظرا، فقال ابن فورك لمحمود: لا يجوز أن تصف الله بالفوقية؛ لأنه يلزمك أن تصفه بالتحتية؛ لأنه من يكون له فوق، جاز أن يكون له تحت، فقال محمود: ليس أنا وصفته بالفوقية، فيلزمني أن أصفه بالتحتية، وإنما هو وصف نفسه بذلك، قال: فبهت.

173 - عبد الله بن محمد بن القاضي أبي يعلى الفراء

وذكر أن فتى من أصحاب الحديث أنشد في مجلس أبي زرعة الرازي هذه الأبيات، فاستحسنت منه: دينَ النبيِّ محمدٍ أَختارُ ... نِعْمَ المطيَّةُ للفتى الآثارُ لا تعدلَنَّ عن الحديثِ وأهلِه ... فالرأيُ ليلٌ، والحديثُ نهارُ ولربَّما غلطَ الفتى إثْرَ الهدى ... والشمسُ بازغةٌ لها أنوارُ 173 - عبد الله بن محمد بن القاضي أبي يعلى الفراء. ولد سنة 443، سمع الحديث من والده وجدَّه لأمه ورحل في طلب الحديث والعلم إلى الأمصار الكثيرة، له معرفة بعلومه، وبالجرح والتعديل. وكان ذا عفة وديانة وصيانة وسُنة، وحسنَ التلاوة للقرآن، كثيرَ الدرس له. توفي سنة 469 - رحمه الله وعوضه الجنة -، وله ست وعشرون سنة. 174 - محمد بن أحمد أبو الحسن أحمد البرداني الفرضي. ولد سنة 388، صحب الوالد، وسمع الحديث، قال ابن النجار: كان رجلاً صالحًا صدوقًا، حافظًا لكتاب الله، عالمًا بالفرائض، خرَّج تخاريج، وجمع فنونًا من الأحاديث وغيرها. قال: أنبأنا ابن مخلد، قال: أنبأنا إسماعيل الصفار، قال ابن عرفة، قال: أنبأنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عاصم الأحول يقول: حدثني شرحبيل: أنه سمع أبا سعيد، وأبا هريرة، وابن عمر - رضي الله عنهم - يحدثون: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الذهب بالذهب، وزنًا بوزن، مثلاً بمثل، من زاد وازداد، فقد أربى". 175 - عبد الخالق بنُ عيسى بنِ أحمدَ العباسيُّ، الشريفُ، أبو جعفر. ولد سنة 411. قال ابن الجوزي: كان عالمًا فقيهًا، ورعًا زاهدًا قوالاً بالحق لا يحابي، ولا تأخذه في الله لومة لائم، يقصده جماعة من الفقهاء المخالفين، وكان شديد القول واللسان على أهل البدع، ولم تزل كلمته عالية عليهم، ولا يرد يده عنهم أحد، وانتهت إليه في وقته الرحلةُ لطلب مذهب الإمام أحمد، ذكره ابن

176 - الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء، البغدادي، الإمام، المحدث، الواعظ

سمعان، وقال: إمام الحنابلة في عصره بلا مدافعة، وكان عند الخليفة معظمًا، حتى إنه وصَّى عند موته بأن يغسله تبركًا به، وله تصانيف عدة. توفي سنة 470. ورآه بعضهم في المنام، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: لما وُضعت في قبري، رأيتُ قبةً من درة بيضاء لها ثلاثة أبواب، وقائل يقول: هذه لك، ادخلْ من أيَّ أبوابها شئت. ورآه آخر في المنام، قال: ما فعل الله بك؟ قال: التقيتُ بأحمدَ بن حنبل، فقال لي: يا أبا جعفر! لقد جاهدتَ في الله حق جهاده، وقد أعطاك الله الرضاء. قال ابن رجب: ووقع في جملة من حديث الشريف أبي جعفر بالسماع، ثم ذكرها، وذكر ثباته في فتنة ابن القشيري وغيرها. 176 - الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء، البغداديُّ، الإمامُ، المحدِّثُ، الواعظُ. ولد سنة 396. سمع الحديث عن جماعة، ودرس وأفتى زمانًا طويلاً. وكان شديدًا على أهل الأهواء، يفيد المسلمين بالأحاديث، ويبعد غالبًا أن يجتمع في شخص من التفنن في العلوم ما اجتمع فيه، قال ابن الجوزي: ذكر عنه أنه قال: صنفت خمس مئة مصنف. توفي سنة 471. قال ابن رجب: وقد وقع لي الكثير من حديثه عاليًا، ثم ذكره، له جزء في "شرف أصحاب الحديث". 177 - علي بن محمد بن الفرح البزاز، ويعرف بابن اخي نصر، العكبريُّ. كان له تقدم في القرآن والحديث، والفقه والفرائض، وجمع إلى ذلك النسك والورع، وتوفي سنة 473. وحدث بشيء يسير، روى عنه جماعة، ومما أنشده لنفسه، رح: اعجَبْ لمحتكرِ الدنيا وبانيها ... وعن قليلٍ على كُره يُخَلِّيها دارٌ عواقبُ مفروحاتِها حَزَنٌ ... إذا أعارَتْ أساءتْ في تَقاضيها قِفْ في منازلِ أهلِ العزِّ معتبرًا ... وانظرْ إلى أيِّ شيءٍ صارَ أهلوها صاروا إلى جَدَثٍ قَفْرٍ، محاسِنُهم ... على الثرى، ودويُّ الدودِ يعلوها ياامن يُسَرُّ بأيامٍ تسير به ... إلى الفناء وأيامٍ يُقضِّيها

178 - طاهر بن الحسين بن أحمد [أبو الوفاء] البغدادي

178 - طاهر بن الحسين بنِ أحمدَ [أبو الوفاء] البغداديُّ. ذكره ابنُ السمعاني، وقال: كان من أعيان الحنابلة وزُهادِهم، واعتكف في بيت الله خمسين سنة. قال ابن البناء: إنه حدث في زمانه مسألة، وهي: هل يجوز أن يقرأ على المحدث الثقة كتاب، ذكر أنه سماعه، وليس هناك خط يشهد به من شيخ ولا غيره، وأن فقهاء عصرهم اتفقوا على جواز ذلك، وذكر أجوبة كثيرة، بها: جواب ابن القواس، ولفظه: الظاهرُ العدالة يقتنع بمجرد قوله، ولا يطالب بخط من أسند عنه من شيوخه، وذكر مثل ذلك عن ابن الدامغاني، وابن الصباغ، وأبي بكر الشامي، وغيرهم، وذكر أن مثل هذه المسألة وقع مرتين، وأن الفقهاء والمحدثين اتفقوا على السماع بذلك، منهم: الحافظ الصوري، قال: وامتنع من السماع بذلك نفر لا يُعتد بخلافهم، قال: ولا أعلم أحدًا يخالف في هذه المسألة من فقهاء العصر والمتقدمين قبلهم من أئمة أصحاب الحديث. قال ابن رجب: قلت: وقد وقع في المئة السابعة مثل هذه المسألة في "صحيح مسلم" لما قال القاسم الأربلي: سمعته من المؤيد الطوسي، فقبُل ذلك منه، وسمع عليه الكتاب غير مرة، وسمعه منه الحُفَّاظُ والفقهاء، وأفتى بالسماع عليه جماعة، منهم: قاضي القضاة شمس الدين بنُ أبي عمر المقدسي. 179 - عبد الوهاب بن أحمدَ بنِ جلبة، البغداديُّ، ثم الحرانيُّ. سمع الحديث من البرقاني، واستوطن حران، وتولى بها القضاء، وكان واعظًا فصيحًا. ذكر أبو العباس بن تيمية في أول "شرح العدة": أن ابن جلبة كان يختار استحباب مسح الأذنين بماء جديد بعد مسحهما بماء الرأس، وكان غريبًا جدًا. وذكر ابن حمدان عنه: أنه قال: الحق أن الحروف كلها قديمة، وتركيبها في غير القرآن محدَث، إن قلنا: إن اللغة اصطلاح، وإن قلنا: توقيف، فقديمة.

180 - عبد الله بن محمد بن أحمد، الهروي، الأنصاري، الحافظ، الصوفي، الواعظ، شيخ الإسلام أبو إسماعيل

180 - عبد الله بن محمد بنِ أحمدَ، الهرويُّ، الأنصاريُّ، الحافظُ، الصوفيُّ، الواعظُ، شيخُ الإسلام أبو إسماعيل. ولد في شعبان سنة 396، سمع الحديث بهراة، وصحب الشيوخ، وتأدب بهم، وأملى الحديث سنين، وصنف التصانيف، منها: كتاب "ذم الكلام"، وكتاب "منازل السائرين"، و"تفسير القرآن" بالفارسية. وكان ذا أحوال وكرامات ومجاهدات، شديدَ القيام في نصر السنة والذبِّ عنها، والقمعِ لمن خالفها، وجرى له بسبب ذلك محن عظيمة. وكان شديد الانتصار والتعظيم لمذهب الإمام أحمد، يقول: مذهب أحمد أحمدُ مذهب. وأنشد على المنبر بهراة في يوم مجلسه: أَنا حنبليٌّ ما حَييتُ وإنْ أَمُتْ ... فوَصِيَّتِي للناسِ أن يتحنبلوا وقال: عرضت على السيف خمسَ مرات، لا يقال لي: ارجع عن مذهبك، لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت. واجتمع أئمة الفريقين من أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة، وطلبوا المناظرة معًا، فقال: أناظر على ما في كمي، فقالوا: وما في كمك؟ قال: كتاب الله - وأشار إلى كمه اليمين -، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشار إلى كمه اليسار -، وكان فيه الصحيحان، فنظر السلطان إلى القوم كالمستفهم لهم، فلم يكن فيهم من يمكنه أن يناظره من هذا الطريق. قال ابن رجب: وكان شيخ الإسلام الهرويُّ مشهورًا في الآفاق بالحنبلية، والشدة في السنة؛ وكان آية في التفسير، وحفظ الحديث، ومعرفة اللغة والأدب، وخلع على الشيخ من جهة الإمام القائم بأمر الله خلعة شريفة، وأخرى فاخرة من جهة الإمام المقتدي بالله مع الخطاب واللقب بشيخ الإسلام "شيخ الشيوخ زين العلماء"، وخلعة أخرى لابنه عبد الهادي، وكان السبب في هذا الخلع الوزير نظام الملك شفقةً منه على أصحاب الحديث، وصيانةً عن لحوق شَيْنٍ بهم.

وكان يقول: "ما صحَّ في رجبٍ وفي صيامه شيءٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال: كتاب أبي عيسى الترمذي عندنا أفيدُ من كتاب البخاري، ومسلم، قيل: ولم ذلك؟ قال: لأن كتابيهما لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من يكون من أهل المعرفة التامة، وهذا الكتاب قد شرح حديثه، وبينهما، فيصل إلى فائدته كلُّ أحد من الناس؛ من الفقهاء والمحدثين وغيرهما، وقال: المحدث يجب أن يكون سريعَ المشي، سريعَ الكتابة، سريعَ القراءة. وقال ابن طاهر: سألته عن الحاكم - يعني: صاحب "المستدرك" -، فقال: ثقة في الحديث، رافضيٌّ خبيث، قال المؤتمن الساجي: كان يدخل عليه الجبابرة والأمراء، فما كان يبالي بهم، ويرى بعض أصحاب الحديث من الغرباء، فيكرمه إكرامًا يتعجب منه الخاص والعام، وكان يقول: إلهي! عصمة أو مغفرة، فقد ضاقت بنا طريق المعذرة، وقد أثنى عليه شيوخه وأقرانه، ومَنْ دونه من الفقهاء والمحدثين والصوفية والأدباء، ولما أُخرج من هراة، ووصل إلى مرو، قصده البغوي صاحب "التفسير"، فلما حضر عنده، قال لشيخ الإسلام: إن الله قد جمع لك الفضائل كلها، وكانت بقيت فضيلة واحدة، فأراد أن يكملها لك، وهي الإخراجُ من الوطن أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان من عادة إسحق القراب الحافظ الحثُّ على الاختلاف إليه، والبعث على القراءة عليه، واستماع الأحاديث بقراءته، والاستفادة منه والمواظبة على مجلسه، والاختيار له على غيره، وكان يقول: لا يمكن أن يكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - كاذبٌ من الناس وهذا الرجلُ في الأحياء. قال القاضي ابن عبد الجبار في "تاريخ هراة": كان صورة الإقبال في فنون الفضائل وأنواع المحاسن، منها: نصرة الدين والسنة، والصلابة في قهر أعداء الملة، والمنتحلين بالبدعة، حي على ذلك عمره من غير مداهنة ومراقبة لسلطان ولا وزير، ولا ملاينة مع كبير ولا صغير، وقد قاسى بذلك السبب قصد الحساد في كل وقت وزمان، وسعوا في روحه مرارًا، وعمدوا إلى إهلاكه أطوارًا، فوقاه الله شرهم، وأحاط بهم مكرهم، وجعل قصدهم أقوى سبب لارتفاع أمره

وعلو شأنه، وليس ذلك من فضل الله ببديع ولا عجب {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، ولقد هذب أحوال هذه الناحية عن البدع بأسرها، ونقح أمورهم عما اعتادوا منها في أمرها، وحملهم على الاعتقاد الذي لا مطعن لمسلم عليه، ولا سبيل لمبتدع إلى القدح إليه، انتهى حاصله. ومن جملة ما أخذه أهلُ هراة عنه من محاسن سيره: التبكيرُ بصلاة الصبح، وأداءُ الفرائض في أوائل أوقاتها، واستعمالُ السنن والآداب فيها، ومن ذلك تسمية الأولاد في الأغلب بالعبد - المضاف إلى أسماء الله تعالى -؛ كعبد الخالق، وعبد الهادي، وعبد العزيز، وعبد السلام، وإلى غير ذلك، فما زال يحثهم ويدعوهم إلى ذلك، فتعودوا الجري على تلك السنة وغير ذلك من آثاره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "الأجوبة المصرية": شيخُ الإسلام الهرويُّ مشهورٌ معظم عند الناس، هو إمام في الحديث والتصوف والتفسير، وهو في الفقه على مذهب أهل الحديث، والغالب عليه اتباع الحديث على طريقة ابن المبارك ونحوه، انتهى. وله شعر كثير حسن جدًا، ولأجل هذا ذكره الباخرزي في كتابه "دمية القصر في شعراء العصر"، وقد اعتنى بشرح كتابه "منازل السائرين" جماعةٌ، وهو كثيرُ الإشارة إلى مقام الفناء في توحيد الربوبيّة، واضمحلال ما سوى الله في الشهود لا في الوجود، فيتوهم فيه أنه يشير إلى الاتحاد حتى انتحله قوم من الاتحادية، وعظموه لذلك، وذمه قوم من أهل السنة، وقدحوا فيه بذلك، وقد برأه الله من الاتحاد. قال ابن رجب في "الطبقات": وقد انتصر له شيخنا ابن القيم في كتابه الذي شرح (¬1) فيه "المنازل"، وبين أن حمل كلامه على قواعد الاتحاد زورٌ وباطل. توفي شيخ الإسلام في مكة المكرمة يوم الجمعة بعد العصر، ودفن بهراة - رحمه الله -. ¬

_ (¬1) الحافظ ابن القيم شرح الكتاب المسمى "منازل السائرين"، وسماه "مدارج السالكين" في ثلاث مجلدات، وطبع بمطبعة المنار بمصر، ثم أعيد طبعه أيضًا بمصر في مطبعة السنة المحمدية سنة (1375 هـ 1955 م)، وقد تحقق أن هذا الشرح يفوق على الشروح كلها.

181 - عبد الواحد بن محمد بن علي، أبو الفرج، الأنصاري، الدمشقي

181 - عبدُ الواحد بنُ محمد بنِ علي، أبو الفَرَج، الأنصاريُّ، الدمشقيُّ. شيخ الشام في وقته، سكن بيت المقدس، فنشر مذهب الإمام أحمد فيما حوله، ثم أقام بدمشق، فنشر المذهب، وتخرج به الأصحاب، وسمع بها من أبي عثمان الصابوني، وكان شديدًا في السنة، وكانت له وقعات مع الأشاعرة، ظهر عليهم بالحجة في مجالس السلاطين ببلاد الشام، وتكلم في مجلس وعظه فصاح رجل متواجد، فمات في المجلس، وكان يومًا مشهودًا، وله تصانيف عدة في أصول الدين، وأصول الفقه، وكتاب "الجواهر" في التفسير في ثلاثين مجلدًا. توفي سنة 486. وذُكر عنه: أن الوضوء في أواني النحاس مكروه، وأن التسمية على الوضوء يصحُّ الإتيان بها بعد غسل الأعضاء، ولا يشترط تقدمُها على غسلها، وقد نسب هذا ابن منجا في كتابه "النهاية" إلى أبي الفرج ابن الجوزي، وهو وهم. وله غرائب كثيرة، منها: أن مس الأمرد بشهوة ينقض الوضوء، ومنها: أن الجنب يُكره له أن يأخذ من شعره وأظفاره، وهو مخالف لمنصوص أحمد في رواية جماعة، ومنها: أنه يعتبر لوجوب الزكاة في جميع الأموال إمكانُ الأداء، إلى غير ذلك مما حكاه ابن رجب في "طبقاته". 182 - يعقوب بن إبراهيم بن أحمد القاضي، أبو يعلى. سمع الحديث، وولي القضاء ثم عزل نفسه عنه، ذكره السمعاني، وقال: كانت له يدٌ قويةٌ في القرآن والحديث والفقه والمحاضرة. قال ابن الجوزي: حدث، وروى عنه أشياخنا، انتهى. وكان مباركَ التعليم، لم يدرس عليه أحد إلا أفلح، وصار فقيهًا. وله المقامات المشهورة بالديوان حتى يقال: إنه كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة من الصحابة في قوة الرأي، له تصانيف ممتعة. واختار جواز أخذ الزكاة لبني هاشم - إذا مُنعوا حقَّهم - من الخمس. توفي سنة 486، وقيل سنة 480.

183 - رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز، التميمي، البغدادي، المقرىء المحدث، الفقيه الواعظ

183 - رزق الله بنُ عبد الوهاب بن عبد العزيز، التميميُّ، البغداديُّ، المقرىءُ المحدثُ، الفقيهُ الواعظُ. شيخ أهل العراق في زمانه. ولد سنة 401، وقيل: سنة 404. وقال هو: مولدي سنة 396. سمع الحديث من جماعة، وأجاز له السلميّ الصوفي، وكان جميل الصورة، وكانت له المعرفة الحسنة بالقرآن، والحديث والأصول، والتفسير، والعربية، وكان أحلى الناس عبارة في النظر، وأجرأهم قلمًا في الفتيا، وأحسنهم وعظًا، له شعر حسن، ذكره في "طبقاته"، وذكر في ترجمته بعض فتاوه، وقال: ذكر ابن الجوزي في "تاريخه": أن جلال الدولة أمره أن يكتب "بشاهنشاه الأعظم ملك الملوك"، وخطب له بذلك، فنفر العامة، ورجموا الخطباء ووقعت فتنة سنة 429، فاستفتى الفقهاء، فكتب الصيمري أن هذه الأسماء يعتبر فيها القصد والنية، وكتب أبو الطيب الطبري: أن إطلاق "ملك الملوك" جائز، ويكون معناه: ملك ملوك الأرض، وإذا جاز أن يقال: قاضي القضاة، وكافي الكفاة، جاز أن يقال: ملك الملوك، وكتب التميمي نحو ذلك، وأن القاضي الماوردي منع ذلك. قال ابن الجوزي: والذي ذكره الأكثرون هو القياس إذا قصد به ملوك الدنيا، إلا أني لا أرى إلا ما رآه الماوردي؛ لأنه قد صح في الحديث ما يدل على المنع، لكنهم عن النقل بمعزل، ثم ساق حديث أبي هريرة في "الصحيحين". قال ابن رجب: وابن الجوزي وافق على جواز التسمية بقاضي القضاة ونحوه، وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله بن القيم، قال، وقال بعض العلماء: وفي معنى ذلك - يعني: ملك الملوك - كراهيةُ التسمية بقاضي القضاة، وحاكم الحكماء، فإن حاكم الحكماء في الحقيقة هو الله تعالى، وقد كان جماعة من أهل الدين والفضل يتورعون عن إطلاق قاضي القضاة. وحاكم الحكماء؛ قياسًا على ما يبغضه الله ورسوله من التسمية بملك الأملاك، وهذ حض القياس. قلت: وكان شيخنا أبو عمرو عبدُ العزيز بنُ محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني الشافعي قاضي الديار المصرية وابن قاضيها؛ يمنع الناسَ أن يخاطبوه

184 - علي بن المبارك أبو الحسن، الكرخي النهري

بقاضي القضاة، أو يكتبوا له ذلك، وأمرهم أن يبدلوا ذلك بقاضي المسلمين، وقال: إن هذ لفظ مأثور عن علي - رضي الله عنه - يوضح ذلك أن التلقيب بملك الملوك، إنما كان من شعار ملوك الفرس من الأعاجم المجوس ونحوهم، وكذلك أن المجوس يسمون قاضيهم: موبذ موبذان، يعنون بذلك: قاضي القضاة، فالكلمتان من شعائرهم، ولا ينبغي التسميةُ بهم، انتهى. 184 - علي بن المبارك أبو الحسن، الكرخيُّ النهريُّ. كان كثير الذكاء، سمع الحديث الكثير، وتوفي سنة 489. قال القاضي أبو الحسين: تفقه على الوالد، وقال لي: كنت في بعض الأيام أمشي مع القاضي الإمام والدك، فالتفت، فقال لي: لا تلتفت إذا مشيت؛ فإنه يُنسب فاعل ذلك إلى الحمق، قال: وقال لي يومًا آخر وأنا أمشي معه: إذا مشيت مع من تعظمه، أين تمشي منه؟ قلت: لا أدري، قال: عن يمينه، تقيمه مقام الإمام في الصلاة، وتخلي الجانب الأيسر، فإذا أراد أن يستنثر أو يزيل أذى، جعله في الجانب الأيسر. 185 - محمد بن الحسين بن جعفرٍ الراذانيُّ، الزاهدُ. سمع الحديث من جماعة، وحدث باليسير، وقال السمعاني: كان صاحب كرامات، مجاب الدعوة، وذكر ابن النجار بإسناده: أن رجلاً حلف بالطلاق أنه رآه بعرفة، ولم يكن الشيخ حج تلك السنة، فأخبر الشيخ بذلك، فأطرق، ثم رفع رأسه وقال: أجمعت الأمةُ قاطبةً على أن إبليس عدو الله يسير من المشرق إلى المغرب في افتنان مسلم أو مسلمة في لحظة واحدة، فلا ينكر لعبد من عبيد الله أن يمضي في طاعة الله بإذن الله في ليلة إلى مكة ويعود، ثم التفت إلى الحالف، وقال: طبْ نفساً؛ فإن زوجتك معك حلال. قال ابن الجوزي: كان الراذاني كثير التهجد، ملازمًا للصيام، توفي سنة 494. 186 - جعفر بن أحمد بنِ الحسين، السراجُ المقرىءُ، المحدِّثُ الأديبُ. ولد سنة 417، ذكره السَّلَفي عنه، وقال شجاع الذهلي: سنة 416، سمع

187 - جعفر بن الحسن، الأذربيجاني

خلقًا كثيرًا، وسافر إلى مكة، وسمع بها، ودخل الشام، وسمع بدمشق، وتوجه إلى الديار المصرية، وصنف كتبًا حسانًا، منها: كتاب "مصارع العشاق". قال ابن الجوزي: حدث عنه أشياخُنا، وآخر من حدَّث عنه شهدة بنت الأبري، قال: وقرأت عليها كتابه المسمى بمصارع العشاق بسماعها منه، قال: ومن أشعاره: بانَ الخَليطُ فأَدْمُعي ... وَجْدًا عليهمْ تَسْتَهِلُّ وَحَدا بهم حادِي الفرا ... قِ عَنِ المنازِلِ فاستقلُّوا قُلْ للذين تَرَحَّلوا ... عَنْ ناظِري والقلبَ حَلُّوا وَدَمِي بلا جُرْمٍ أَتيتُ ... غداةَ بَيْنِهِمُ استَحَلُّوا ما ضَرَّهُمْ لو أَنْهَلوا ... مِنْ ماءِ وَصْلِهِمُ وعَلُّوا قال السِّلفي: وكان ممن يُفتخر برؤيته وروايته؛ لديانته ودرايته، كانت له معرفة بالحديث والأدب، وحدَّث بالكثير على استقامة وسَداد، وسمع منه الأئمةُ الكبار والحفاظ، ومن شعره: للهِ دَرُّ عصابَةٍ ... يَسْعَوْنَ في طَلَبِ الفوائِدْ يُدعَوْنَ أصحابَ الحديثِ ... بهمُ تَجَمَّلَتِ المشَاهِدْ طَوْرًا تَرَاهُم بِالصَّعيـ ... ـدِ وتَارَةً في ثَغْرِ آمِدْ يَتَتَبَّعونَ من العلو .... مِ بكلِّ أرضٍ كلَّ شارِدْ فَهُمُ النُّجومُ المُهْتَدَى ... بِهِمُ إِلى سُبُلِ المَقاصِدْ قال ابن الجوزي: كان جعفر السراج صحيح البدن، لم يعتوره في عمره مرض يُذكر، فمرض أيامًا، وتوفي سنة 500. 187 - جعفر بن الحسن، الأذربيجانيُّ. سمع الحديث من ابن البناء. كان أَمّارًا بالمعروف، نَهّاءً عن المنكر، قوالاً للحق، مَهيبًا وقورًا عندَ الملوك، لا يتجاسر أحد أن يقدم عليه إذا أنكر منكرًا، توفي - في الصلاة ساجدًا - في سنة 506.

188 - علي بن محمد بن علي القاضي، أبو منصور، الأنباري

قال عبد الوهاب الشعراني: رأيته جاء إلى بغداد، فالتقى به أبو الحسن، فقال له: كيف تركت الصبيان؟ فقال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]، تقوى الله لنا ولهم. 188 - علي بن محمد بنِ عليٍّ القاضي، أبو منصور، الأنباريُّ. ولد سنة 425. قرأ القرآن، وسمع الحديث، وبرع في الفقه، وأفتى ووعظ، وكان مظهرًا للسنة في مجالسه، وولي القضاء، توفي سنة 507، وتبعه من الخلق ما لا يحصى كثرةً، ولا يعدُّهم إلا أسرعُ الحاسبين. 189 - محفوظ بنُ أحمدَ بنِ الحسنِ الكلوذاني، أبو الخطاب، البغداديُّ. أحد الأئمة، ولد في سنة 423، وسمع الحديث على جماعة، وكتب بخطه كثيرًا من مسموعاته، وبرع في المذهب والخلاف، ودرَّس وأفتى، وصنف كتبًا حسانًا في الأصول وغيرها، وحدَّث بالكثير على صدق واستقامة، وهو من أئمة أصحاب أحمد، وكان الكياهراسي إذا رآه مقبلاً، قال: قد جاء الفقهُ. وذكر ابن السمعاني: أن أبا الخطاب جاءته فتوى في بيتين من شعر، وهما: قلْ للامامِ أبي الخَطَّاب مسألةٌ ... جاءتْ إليك وما يُرجى سِواكَ لَها ماذا على رجلٍ رام الصلاةَ فمذ ... لاحَتْ لناظرِه ذاتُ الجمال لَها فكتب عليها في الحال: قلْ للأديبِ الذي وافى بمسألةٍ ... سَرَّتْ فؤادي لَمَّا أَنْ أَصخْتُ لَها إنَّ الذي فتنتْهُ عن عبادتِهِ ... خريدةٌ ذاتُ حسنٍ فانثنى وَلَها إنْ تابَ ثمَّ قضى عنه عبادَتَهُ ... فرحمةُ اللهِ تَغْشى مَنْ عَصَى وَلَها توفي سنة 510، ودفن إلى جانب قبر الإمام أحمد. قال ابن رجب: رأيت بخط أبي العباس بن تيمية - رحمه الله - في تعاليقه القديمة، رُئي الإمام أبو الخطاب في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فأنشد - رحمه الله -:

190 - طلحة بن أحمد بن طلحة، القاضي أبو البركات

أتيتُ رَبِّي بمثلِ هَذَا ... فقالَ ذا المذهبُ الرشيدُ محفوظ! نم في الجِنان حتى ... ينقلَكَ السائِقُ الشَّهيدُ وله مسائل ينفرد بها عن الأصحاب، منها: أن للعصر سنةً راتية قبلَها أربع ركعات، ومنها: أن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر، وإنما ترد إلى من أُخذت منه من المسلمين على كل حال، ولو قسمت في المغنم إذا أسلم الكافر وهي في يده، ومنها: أن الأضحية يزول الملك فيها بمجرد الإيجاب، ولا يملك صاحبُها أبدًا لها بحال، ومنها: أن الزافة حرام. قال السامري: هو سهو منه، ومنها: أن القرآن إذا كُتب بالذهب تجب فيه الزكاة إن بلغ نصابًا، ويجوز له حكه وأخذه، ووافقه ابن الزاغوني، وزاد: أن كتابته بالذهب حرام، ويؤمر بحكه، ولا يجوز للرجل اتخاذه. 190 - طلحة بن أحمد بنِ طلحةَ، القاضي أبو البركات. ولد سنة 432. سمع من جماعة، قال ابن شافع: سماعه صحيح، وكان ثقة أمينًا، مضى على السلامة والستر، سمع منه ابن كامل وغيره. قال: كان لي صديق اسمه ثابت، رأيته في المنام، وقلت له: كيف أنت بقرب أحمد بن حنبل؟ - لأنه دفن هناك -، فقال: ليس في قرب أحمد أحدٌ يعذب بالنار. توفي سنة 512. 191 - علي بن عقيل بنِ محمدِ، أبو الوفاء. أحد الأعلام وشيخ الإسلام، ولد سنة 431، حفظ القرآن، وسمع الحديث، وتعلم الفرائض والأصول، وبرع في العلوم كلها. ذكره أبو إسحق الشيرازي، وقال: إمام الدنيا وزاهدها، وفارس المناظرة وواحدها. قال ابن الجوزي: درَّس وناظرَ الفحولَ وصنَّف، وكان دائمَ التشاغل بالعلم، حتى إني رأيت بخطه: لا يحلُّ في أن أُضيع ساعة من عمري، وإني لأجد من حرصي على العلم - وأنا في عمر الثمانين - أشدَّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين. فلما كانت سنة 475 جرت فيها فتن بين الحنابلة والأشاعرة، فترك الوعظ، واقتصر على التدريس، ومتعه الله بسمعه وبصره وجميع جوارحه.

قال السِّلفي: ما رأتْ عيناي مثلَه، ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه؛ لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حجته، وله في ذم الكلام وأهله شيء كثير، قال: أنا أقطعُ أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، قال: ولقد بالغتُ في الأصول طول عمري، ثم رجعت القهقرى إلى مذهب المكتب، وله من الكلام في السنة، والانتصارِ لها، والردِّ على المتكلمين شيءٌ كثير، وقد صنف في ذلك مصنفًا. وكتب بعضهم إليه يقول له: صف لي أصحابَ أحمدَ على ما عرفتَ من الإنصاف، فكتب إليه يقول: هم قوم خشن، تقلصت أخلاقهم عن المخالطة، وغلُظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجد، وقلَّ عندهم الهزل، وعَرِيَتْ نفوسهم عن ذلَّ المرايات، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرجًا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة، بل دققوا في الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، ولم أحفظ على أحد منهم تشبيهًا، إنما غلب عليهم الشناعة؛ لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار، والله يعلم أنني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة خاليةً من البدع سوى مَنْ سلكَ هذا الطريق، والسلام. ومن كلامه: ومن عجيب ما أسمعه من هؤلاء الأحداث الجهال: أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنه محدِّث، وهذا غاية الجهل؛ لأنه قد خرَّجَ اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرُهم، وخرَّج من دقيق الفقه ما لا تراه لأحد منهم وذكر مسائل من كلام أحمد، وقال: إن أكثر العلماء يقولون: أصلي: أصلُ أحمد، وفرعي: فرع فلان، فحسبُك بمن ترضى به الأصول قدوة. وكان يقول: هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه؛ لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع واحد منهم في العلم، تولى القضاء وغيرَه من الولايات، فكانت الولاية سببًا لتدريسه واشتغاله بالعلم، وأما أصحاب أحمد، فإنه قلَّ فيهم من يعلق بطرف من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد؛ لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم.

192 - محمد بن عبد الباقي بن محمد، أبو بكر الكعبي

وكان مع ذلك يتكلم كثيرًا بلسان الاجتهاد والترجيح واتباع الدليل الذي ظهر له، ويقول: الواجب اتباعُ الدليل، لا اتباعُ أحمدَ. ولابن عقيل مسائلُ كثيرة ينفرد بها، ويخالف فيها المذهب، فإن نظره كثيرًا يختلف، واجتهاده يتنوع. وكان يقول: عندي أن من أكبر فضائل المجتهد أن يتردَّد في الحكم عند تردُّد الحجة. ومن مسائله: أن النساء لا يجوز لهن استعمال الحرير إلا في اللبس دون الافتراش والاستناد. ومنها: أن صلاة الفذ تصح في الجنازة الخاصة. ومنها: أن الربا لا يجري إلا في الأعيان الستة المنصوص عليها، ومنها: أن الوقف لا يجوز بيعُه وإن خرب وتعطل نفعُه، ومنها: أن المشروعِ في عطية الأولاد التسويةُ بين الذكور والإناث، ومنها: أنه لا يجوز وطء المكاتبة، وإن اشتُرط وطئها في عقد الكتابة، ومنها: أن الزروع والثمار التي تسقى بماء نجس طاهرة مباحة، وإن لم تُسق بعده بماء طاهر. ومن غرائبه: أنه اختار وجوب الرضاء بقضاء الله في الأمراض والمصائب، واختار: أن النهار أفضل من الليل. وقيل له: ما تقول في عزلة الجاهل؟ فقال: خبال ووبال، تضرُّه ولا تنفعه، فقيل له: فعزلة العالم؟ قال: مالكَ ولَها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وترعى الشجر إلى أن تلقى ربَّها، وله شعر رائق. توفي سنة 513. ترجم له ابن رجب ترجمة حسنة إلى أوراق في طبقاته. 192 - محمد بن عبد الباقي بنِ محمدٍ، أبو بكر الكعبيُّ. من نسل كعب بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه -. ولد سنة 442. حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحضر على جماعة من العلماء، وكانت له إجازة عن التنوخي، وقرأ الفرائض والحساب والهندسة، وبرع في ذلك، وتفنن في علوم كثيرة، قال ابن السمعاني: عارفٌ بالعلوم، متفنن، حسنُ الكلام، حلوُ المناظرة، مليحُ المحاورة، وما رأيت أجمعَ للفنون منه، نظر في كل علم، وسمعته يقول: تُبْتُ من كل علم تعلمته إلا الحديثَ وعلمَه. وكان سريعَ النسخ، حسنَ القراءة للحديث، يقول: ما ضيعتُ ساعة من

193 - موهوب بن أحمد بن محمد، يعرف بابن الجواليقي

عمري في لهو ولعب. تفرَّد في الدنيا بعلوَّ الإسناد، ورحل إليه المحدِّثون من البلاد. قال ابن الجوزي: وقع في أيدي الروم، فبقي في أسرهم سنة ونصفًا، وقيدوه، وجعلوا الغُلَّ في عنقه، والسلاسلَ على يديه ورجليه، وأرادوا منه أن ينطق بكلمة الكفر - يعني: المسيح ابن الله -، فلم يفعل، قال: وسمعته يقول: يجب على المعلم ألا يعنف، وعلى المتعلم ألا يأنف، ومن خدم المحابر، خدمتْه المنابر، وذكر أن منجمين حضرا حين ولد، فأجمعا أن عمره اثنتان وخمسون سنة، وها أنا قد جاوزت التسعين، توفي سنة 535. أطال ابن رجب في ترجمته - رحمه الله تعالى -. 193 - موهوب بن أحمد بنِ محمد، يعرف بابن الجواليقي. شيخ أهل اللغة في عصره، ولد سنة 465. سمع الحديث الكثير، وقرأ الأدب، ودرَّس، وكان من أهل السنة المحامين عليها. قال ابن الجوزي: كان غزيرَ العقل، طويلَ الصمت، لا يقول الشيء إلا بعد التحقيق والفكر الطويل، وكثيرًا ما كان يقول: لا أدري، سمعتُ منه كثيرًا من الأحاديث وغريبه، وقرأت عليه كتابه "المغرب"، وله كتاب "أدب الكاتب". وكان يصلي بالمقتفي بالله فدخل عليه، وهو أول من دخل، فما زاد على أن قال: السلام على أمير المؤمنين، فقال له ابن التلميذ النصراني - وكان قائمًا، وله إدلال الخدمة والطب -: ما هكذا يُسلَّم على أمير المؤمنين يا شيخ، فلم يلتفت إليه، وقال: يا أمير المؤمنين! سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية - وروى الحديث -، ثم قال: يا أمير المؤمنين! لو حلف حالف أن نصرانيًا أو يهوديًا لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه، ما لزمته كفارة؛ لأن الله ختم على قلوبهم، ولن يفك ختمَ الله إلا الإيمان، فقال: صدقت وأحسنت، وكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر، مع فضله وغزارة أدبه، رح.

194 - عبد الله بن علي بن أحمد، سبط أبي منصور الخياط

194 - عبد الله بن علي بنِ أحمدَ، سبطُ أبي منصور الخياط. سمع الحديث الكثير، وأقرأَ الأدب، وبرع في العربية واللغة، وسمع منه الحديث خلق كثير من الحفاظ وغيرهم، منهم: ابن ناصر، وابن السمعاني، وابن الجوزي، وكان قويًا في السنة، رأس أصحاب أحمد، ولد سنة 464، وتوفي سنة 541. 195 - دعوان بن علي بن حماد الجبي. ولد سنة 463، تفقه وتأدب ودرَّس، وأقرأ القرآن، وحدث، وانتفع به الناس، قرأ عليه جماعة، وحدث عنه آخرون، منهم: ابن السمعاني، قال ابن الجوزي: كان خيرًا دينًا، ذا ستر وصيانة وعفاف، وطرائق محمودة على سبيل السلف الصالح. توفي سنة 542، رآه بعضهم في المنام - وكان عليه ثياب بيض وعمامة بيضاء -، فقال له إيش لقيت؟ قال: عُرضت على الله خمسين مرة، وقال لي: إيش عملت؟ فقلت: أي رب! قرأت القرآن وأقرأته، فقال لي: أنا أتولاك. 196 - عبد الله بن عبد الوهاب القاضي، بهاءُ الدين، الدمشقيُّ، شرفُ الإسلام. تفقه ودرَّس وأفتى وناظر، وكان إمامًا فاضلاً مستقلاً، مفتيًا على مذهب الإمام أحمد، وكان يعرف اللسان الفارسي مع العربي، وهو حسن الحديث في الجد والهزل، توفي سنة 545، وكثر الباكون حول سريره، والمتأسفون عليه، وكان يومًا مشهودًا. 197 - أحمد بن معالي. ذكره ابن الجوزي في عدة مواضع من كتبه، وقال: سمعت درسه، وكان قد انتقل إلى مذهب الشافعي، ثم عاد إلى مذهب أحمد، ووعظ، له معاشرة بالصوفية، توفي سنة 554، وكان مرضه يومين أو ثلاثة.

198 - أحمد بن نصر بن أحمد، الحافظ الفقيه الأديب، أبو العلاء، المعروف بأعمش الهمداني، ولد سنة 431

198 - أحمد بن نصر بنِ أحمدَ، الحافظُ الفقيهُ الأديب، أبو العلاء، المعروفُ بأعمش الهمداني، ولد سنة 431. سمع من عبد الله بن منده، وأبي مسلم النهاوندي، وروى عنه السلفي، وذكره الذهبي في "تذكرة الحفاظ" وقال: شيخ، حافظ، ثقة مكثر، مع بصيرة بهذا الشأن، وكان عارفًا بفقه أحمد بن حنبل، ناصرًا للسنة، أملى عدة مجالس من حفظه. قال السمعاني: أجاز في مروياته، وكان عارفًا بالحديث، حافظًا، ثقة، سمع الكثير بنفسه، وأملى وحدَّث، توفي سنة 521. 199 - حسن بن محمد الراذانيُّ، الفقيهُ، الواعظُ. سمع ببغداد من جماعة، سمع منه أبو الحسن الحراني جزءًا فيه أجوبة عن مسائل وردت من الموصل تتضمن عدة مسائل من أصول الدين، أجاب عنها في كراس بجواب حسن موافق لمذهب أهل الحديث، توفي سنة 546، وكان موته فجاءة. 200 - محمد بن ناصر بنِ محمد، السلاميُّ، الحافظُ، الأديبُ، اللغويُّ. ولد سنة 467، سمع الحديث، وتفقه على مذهب الشافعي، ثم جد في طلب الحديث وسماعه، وعني بهذا الفن، وكانت له إجازات قديمة من ابن ماكولا وغيره، وخالط الحنابلة، ومال إليهم، وانتقل إلى مذهبهم؛ لمنام رأى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن النجار: وقف كتبه على أصحاب الحديث، رأيت بخطه وصيته أوصى بها ذكر فيها صفة ما يخلفه من التركة، وهو: ثياب بدنه، وكلها خَلَق مغسولة، وأثاث منزله، وكان مختصرًا جدًا، وثلاثة دنانير من العين لم يذكر سوى ذلك، مات ولم يعقب. ومن غرائبه: أنه كان يذهب إلى أن السلام على الموتى يقدم فيه لفظة: عليكم، فيقال: عليكم السلام؛ لظاهر حديث أبي جري الجهيمي، وذكر في

201 - يحيى بن محمد بن هبيرة، الوزير، العالم، العادل، صدر الوزراء عون الدين، أبو المظفر

بعض تصانيفه: أن الإحداد على الميت بترك الطيب والزينة لا يجوز بحال، ويجوز للنساء على أقاربهن ثلاثة أيام، دون زيادة عليها، وعلى زوجها المتوفَّى عنها أربعة أشهر وعشرًا، انتهى. 201 - يحيى بن محمد بنِ هُبيرة، الوزيرُ، العالمُ، العادلُ، صدرُ الوزراء عونُ الدين، أبو المظفر. ولد سنة 499، دخل بغداد شابًا، وقرأ القرآن بالروايات على جماعة، وسمع الحديث الكثير من جماعة. قال ابن الجوزي: وكان متشددًا في اتباع السنة وسير السلف، قال ابن رجب صنف الوزير كتاب "الإفصاح في معاني الصحاح" في عدة مجلدات، وهو شرح "صحيح البخاري" و"مسلم"، ولما بلغ فيه إلى حديث: "من يُردِ الله به خيرًا، يُفقهه في الدين" شرح الحديث وتكلم على معاني الفقه، وآل به الأمر إلى أن ذكر مسائل الفقه؛ المتفَق عليها، والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين، وقد أفرده الناس من الكتاب، وسموه بكتاب الإنصاح، وهو قطعة منه، وهذا الكتاب صنفه في ولايته الوزارة، واعتنى به، وجمع عليه أئمة المذاهب، وأوفدهم من البلدان إليه لأجله، بحيث إنه أنفق على ذلك مئة ألف دينار، وثلاثة عشر ألف دينار، فاجتمع الخلق العظيم لسماعه عليه، وكتب به نسخة لخزانة المستنجد، وبعث ملوك الأطراف ووزراؤها وعلماؤها، فاستنسخوا لهم نسخًا، ونقلوها إليهم، حتى السلطان نور الدين الشهيد، واشتغل به الفقهاء في ذلك الزمان على اختلاف مذاهبهم، يدرِّسون منه في المدارس والمساجد، ويعيده المعيدون، ويحفظ منه الفقهاء. وله مؤلفات كثيرة غير ذلك، وصنف كتاب "العبادات الخمس" على مذهب الإمام أحمد، وحدث به بحضرة من أئمة المذاهب. وكان في أول أمره فقيرًا، فاحتاج إلى أن دخل في الخدم السلطانية إلى أن استدعاه المقتفي بالله، وقلده الوزارة، وخلع عليه، وخرج في أبهة عظيمة، ومشى أرباب الدولة وأصحاب المناصب كلهم بين يديه، وهو راكب إلى الإيوان في الديوان، وحضر القراء والشعراء، وكان يومًا مشهودًا، وخوطب: بالوزير

العالم العادل عون الدين جلال الإسلام الصفي الإمام شرف الأنام معز الدولة مجير الملة عماد الأمة مصطفى الخلافة تاج الملوك والسلاطين صدر الشرق والغرب سيد الوزراء ظهير أمير المؤمنين، انتهى. قال محرر هذه السطور: وحالي صارت كحاله في هذه الحال، فإني كنت إمرأً فقيرًا في أول أمري، واحدًا من الخدم الرياسية [الدولة] منسلكًا في زمرة الإنشاء، ثم في نظارة المدارس إلى أن اقتنت الرئيسة إياي من بينهم لهذا الشأن الذي تراه، وعملت في هذه الحالة تفسيرًا في أربع مجلدات، وأنفقت عليه من المعلوم ما بلغ خمسًا وعشرين ألفًا [ربية]، ولله الحمد. قال ابن رجب: ولما ولي الوزارة، بالغ في تقريب خيار الناس من المحدِّثين والفقهاء والصالحين، واجتهد في إكرامهم، وإيصال النفع إليهم، وارتفع به أهل السنة غاية الإرتفاع. قال ابن الجوزي: وكان إذا استفاد شيئًا، قال: أفادنيه فلان. وكان بعض الفقراء يقرأ القرآن في داره كثيرًا، فأعجبه، فقال لزوجته: أريد أن أزوجه ابنتي، فغضبت الأم من ذلك. وكان يقرأ عنده الحديث كل يوم بعد العصر، وكان يكثر مجالسة العلماء والفقراء، وقال: ما وجبت عليَّ زكاة قط. قلت: وفي ذلك يقول بعض الشعراء: يقولون يحيى لا زكاةَ لمالِه ... وكيفَ يزكِّي المالَ مَنْ هو باذِلُهْ إذا دار حولٌ لا يُرى في بيوته ... من المال إلا ذكرُه وفضائلُهْ وكان يتحدث بنعم الله تعالى عليه، ويذكر في منصبه شدة فقره القديم، ويجتهد في اتباع الحق، ويحذر من الظلم، ولا يلبس الحرير، وكان مبالغًا في تحصيل التعظيم للدولة العباسية، قامعًا للمخالفين بأنواع من الحيل. قال صاحب سيرته: وكان لا يلبس ثوبًا يزيد فيه الإبريسم على القطن، فإن شك في ذلك، سل من طاقاته، ونظر هل القطن فيه أكثر أم الإبريسم؟ فإن استويا، لم يلبسه، قال له بعض الفقهاء: يا مولانا! إذا استويا، جاز لبسُه في أحد الوجهين لأصحابنا، فقال: إني لا آخذ إلا بالأحوط. وذكر يومًا بين يديه أنه

كان للصاحب ابن عباد دست من ديباج، فقال: قبيحٌ والله بالصاحب أن يكون له دستٌ من ديباج؛ فإنه وإن كان زينة، فهو معصية ومحنة. وقال ابن الدبيتي في "تاريخه": كان فاضلاً عالمًا عاملًا، ذا رأي صائب، وسريرة صالحة، وكان يقرأ عنده الحديث عليه وعلى الشيوخ بحضوره، ويجري من البحث والفوائد ما يكثر ذكره وكان مقربًا لأهل العلم والدين. وقال ابن القطيعي: كان جميل المذهب، شديد التظاهر بالسنة، ومن كثرة ميله إلى العمل بالسنة، كان كلما اجتاز في سوق بغداد، قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". وللوزير من الكلام الحسن، والفوائد المستحسنة، والاستنباطات الدقيقة من كلام الله ورسوله ما هو كثير جدًا، وله في أصول السنة وذم مَنْ خالفها شيء كثير. قال ابن الجوزي في "المقتبس": سمعته يقول في قوله تعالى {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر: 37] ليس هذا بإجابة سؤاله، وإنما سأل الإنظار، فقيل له: كذا قدر، لا أنه جواب سؤالك، لكنه ما فهم، وسمعته يقول في قوله تعالى {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] أهل التفسير يقولون: ساترًا، والصواب حمله على ظاهره، وأن يكون الحجاب مستورًا عن العيون فلا يرى، وذلك أبلغ. قال: وقد تدبرت قوله تعالى {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه} [الكهف: 39] فرأيت ثلاثة أوجه: أحدها: أن قائلها يتبرأ من حوله وقوته، ويسلم الأمر إلى الله، والثاني: أن يعلم أنه لا قوة للمخلوقين إلا بالله، فلا يخاف منهم؛ إذ قواهم لا تكون إلا بالله، وذلك يوجب الخوف من الله وحده، والثالث: أنه رد على الفلاسفة والطبائعين الذين يدعون القوى في الأشياء بطبعها؛ فإن هذه الكلمة بينت أن القوى لا تكون إلا بالله، وسمعته يقول في قوله تعالى {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97] قال: التاء من حروف الشدة، تقول في الشيء القريب: ما اسطعته، وفي الشديد: ما استطعته، فالمعنى: ما أطاقوا ظهوره لضعفهم، وما قدروا على نقبه لقوته وشدته. قال ابن الجوزي: كان الوزير يتأسف على ما مضى من زمانه، ويندم على

202 - سعد الله بن نصر بن سعيد المعروف بابن الدجاجي، وبابن الحيواني، الفقيه، الواعظ، المقرىء، الصوفي، الأديب، أبو الحسن، ويلقب: مهذب الدين

ما دخل فيه، ثم صار يسأل الله - عز وجل - الشهادة، ويتعرض لأسبابها، وكان ليس به بأس، فنام ليلة في عافية، فلما كان وقت السحر، قاء، فحضر طبيب كان يخدمه، فسقاه شيئًا، فيقال: إنه سَمَّه، فمات، وسُقي الطبيبُ بعده بنحو ستة أشهر سُمّاً، فكان يقول: كما سَقَيت سُقيت، فمات سنة 560. ومن إنشاده: وكَمْ شامِتِ بي بعدَ موتي جاهل ... بظلم يسلُّ السيفَ بعدَ وفاتي ولو علمَ المسكينُ ماذا ينالُه ... من الضُّرَّ بعدي ماتَ قبل مماتي قال ابن زفر: رأيت بالمنام - وأنا بأرض جزيرة ابن عمر - كأن جماعة من الملائكة يقولون لي: قد مات في هذه الليلة ببغداد وليٌّ من الأولياء، فاستيقظت منزعجًا، وحدثت بالمنام الجماعة الذين كانوا معي وأرَّخنا تلك الليلة، فلما قدمت بغداد، سألت: من مات في تلك الليلة؟ فقيل لي: مات بها الوزير عونُ الدين بنُ هبيرة. قال مصنف السيرة: ولو استقصيت ما ذكر له من المنامات الصالحة، لجاءت بمفردها كتابًا ضخمًا. وقد أطال ابن رجب في ترجمته الشريفة إلى أوراق، وختمها بذكر حديث أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزدادُ الأمرُ إلا شدة، ولا يزداد الناسُ إلا شُحّاً، ولا تقوم الساعة إلا على شِرار الناس"، رواه بسنده، وقال: وفي هذا الإسناد سلسلة عجيبة بالحفاظ والملوك. 202 - سعد الله بن نصر بنِ سعيدٍ المعروفِ بابن الدجاجي، وبابن الحيواني، الفقيهُ، الواعظُ، المقرىء، الصوفي، الأديب، أبو الحسن، ويلقب: مهذب الدين. ولد سنة 482. روى عن ابن عقيل كتاب "الإنتصار لأهل السنة والحديث". قال ابن الجوزي: تفقه وناظر ودرس ووعظ، وكان لطيف الكلام، حلو الإيراد، ملازمًا لمطالعة العلم إلى أن مات. وقال ابن نقطة: شيخ فاضل، صحيح السماع، حدَّث، وحدَّث عنه جماعة من شيوخنا، وقال صدقة في "تاريخه": كان من أصحاب أبي بكر الدينوري، وكان يعظ ويقرىء القرآن ويسمع الحديث، أثنى عليه ابن النجار، وابن قدامة، قال ابن الجوزي: وسئل

203 - عثمان بن مرزوق بن حميد، القرشي، الفقيه، العارف، الزاهد، أبو عمرو، نزيل مصر

في مجلس وعظه - وأنا أسمع - عن أخبار الصفات، فنهى عن التعرض لها، وأمر بالتسليم. قال ابن القطيعي: بلغني أنه حضر بالديوان العزيز وجماعة من الفقهاء، فاستدل شخص بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن البغدادي الحنفي: هذا الحديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال الخصم: قد أخرجه البخاري ومسلم، فقال ابن البغدادي: قد طعن فيهما أبو حنيفة، فقال ابن الدجاجي: هل كان مع أبي حنيفة ملحمة؟ توفي صاحب الترجمة سنة 564. 203 - عثمان بن مرزوق بنِ حميد، القرشيُّ، الفقيهُ، العارفُ، الزاهدُ، أبو عمرو، نزيلُ مصر. صحب شرف الإسلام عبد الوهاب بن الحنبلي بدمشق. أفتى ودرَّس وناظر وتكلم على المعارف والحقائق، وانتهى إليه خلق كثير من الصلحاء، وأثنى عليه المشائخ، وحصل له قبول تام من الخاص والعام، وكان يعظم الشيخ عبد القادر، ويقال: إنه اجتمع به هو وأبوه مدين بعرفات، ولبسا منه الخرق، وسمعا منه جزءًا من مروياته، وسمع الحديث، ورواه، وحدَّث عنه جماعة، وله كرامات وأحوال ومقامات، وكلام حسن على لسان أهل الطريقة، فمن ذلك قوله: الطريق إلى معرفة الله وصفاته الذكرُ والاعتبارُ بحكمه وآياته، ولا سبيل للألباب إلى معرفة كنه ذاته، ولو تناهت الحكمة الإلهية في حد العقول، وانحصرت القدرة الربانية في درك العلوم لكان ذلك تقصيرًا في الحكمة ونقصًا في القدرة، لكن احتجبت أسرار الأزل عن العقول، كما احتجبت سبحات الجلال عن الأبصار، فقد رجع معنى الوصف في الوصف، وعمي الفهم عن الدرك، ودار الملك في الملك، وانتهى المخلوق إلى مثله، واستند الطلب إلى شكله، {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108]، فجميع المخلوقات من الذرة إلى العرش متصل إلى معرفته، وحجج بالغة على أزليته، والكون جميعه ألسن ناطقة بوحدانيته، والعالم كله كتاب يقرأ حروف أشخاصه المتبصرون على قدر بصائرهم. ومن كلامه أيضًا: من لم يجد في قلبه زاجرًا، فهو خراب، ومن عرف نفسه،

204 - عبد الله بن أحمد بن عبد الله، يعرف بابن الخشاب، البغدادي، المحدث، اللغوي، النحوي، الإمام أبو محمد بن أبي الكرم

لم يغتر بثناء الناس عليه، ومن لم يصبر على صحبة مولاه، ابتلاه بصحبة العبيد، ومن انقطعت آماله إلا من مولاه، فهو عبد حقيقة، والدعوى من رعونة النفس واستلذاذ البلاء تحقق بالرضاء، وحلية العارف: الخشية والهيبة، إياكم ومحاكاة أصحاب الأحوال قبل أحكام الطريق وتمكن الأقدام. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: وثم جماعات ينسبون إليه، ويقولون أشياء مخالفة لما كان عليه الشيخ، وهذا الشيخ كان ينسب إلى مذهب الإمام أحمد، توفي سنة 564. 204 - عبد الله بن أحمدَ بنِ عبدِ الله، يعرف بابن الخشاب، البغداديُّ، المحدثُ، اللغويُّ، النحويُّ، الإمامُ أبو محمد بنُ أبي الكرم. قرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث، وقرأ على أبي القاسم الحريري، وقد عده ابن نقطة في أول "استدراكه" من الحفاظ الذين يعتمد على ضبطهم، وقرنه مع السَّلفي، وأبي العلاء، وابن عساكر. وأثنى عليه الشيخ فخر الدين بن تيمية، وابن النجار، وقال: سمع الحديث الكثير، وعرف صحيحه من سقيمه، وبحث عن أحكامه، وتبحر في علومه. وذكره ابن السمعاني، وقال: له معرفة تامة بالحديث، ويقرأ الحديث قراءة سريعة حسنة صحيحة مفهومة، وجمع الأصول الحسان. وذكره ابن القطيعي وجماعة ووصفوه: بأنه كان عالمًا بالتفسير والحديث مع تشدُّدٍ في السنة، وتظاهُرٍ بها في محافل علومه ومجالس تلاميذه وأصحابه، يتبجل بمذهب الإمام أحمد، ويتبصر به على غيره من المذاهب، ويصرح ببراهينه وحججه على ذلك. وذكر ياقوت الحموي، قال: كان الحافظ ابن ناصر ابن عمة أم ابن الخشاب، قالت لي أمي: يا بني! ما لي لا أراك تصلي صلاة الرغائب على عادة الناس؟ فقلت: يا أمي! أنا أوثر ما ورد من الصلوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهذه الصلاة لم ترد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من أصحابه، فقالت: لا أسمع ذلك منك، فاسأل لي ابن عمي، فاتفق أني لقيته، فقلت: الوالدة تسلم عليك، وتسألك عن صلاة الرغائب، هل وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه؟

205 - حسن بن أحمد بن حسن، المحدث المقرىء، الحافظ، الأديب، اللغوي، الزاهد، أبو العلاء، المعروف بالعطار، شيخ همدان

فقال لي: فهلاَّ أخبرتها بحقيقة ذلك، فقلت: قد أبت إلا أن أخبرها عنك، فقال: سلم عليها، وقل لها: أنا أسنّ منها، فإنها أُحدثت في زمني وعصري، وقد مضت برهة ولا أحد يصليها، وإنما وردت من الشام، وتداولها الناس حتى أجروها مجرى ما ورد من الصلوات المأثورة. قال ابن رجب: ولابن الخشاب تصانيف، منها: كتاب "أغلاط الحريري في مقاماته". وقرأ عليه الخلق الكثيرُ الحديثَ والأدب، وروى عنه خلق من الحفاظ، وكان ثقة في الحديث والنقل، صدوقًا حجة نبيلاً، ومن شعره في القصيدة، شعر: واسْتَنَّ بالسَّلَف الصُّلحاء وكُنْ رجلاً ... مُبَرأً عن دواعي الغَيَّ والفِتَنِ ودعْ مذاهبَ قومٍ أحدثَتْ أَثَمًا ... فيها خلافٌ على الآثارِ والسُّنَنِ ولد سنة 492، وتوفي يوم الجمعة ثالث رمضان سنة 567، ودفن بمقبرة الإمام أحمد قريبًا من بِشْر الحافي. قال ابن الجوزي: مرض نحوًا من عشرين يومًا، دخلت عليه قبل موته بيوم ويومين - وقد يئس نفسه -، فقال لي: عند الله أحتسبُ نفسي. وحدثني عبد الله الجبائي العبد الصالح، قال: رأيته في المنام بعد موته بأيام ووجهُه يضيء، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر في، قلت: وأدخلك الجنة؟ قال: وأدخلني الجنة، إلا أنه أعرض عني، قلت: أعرض عنك؟ قال: نعم، وعن جماعة من العلماء تركوا العمل، انتهى. قال المؤلف - عفا الله عنه -: وإذا كان هذا بالخيار، فكيف بأمثالنا، لم نعمل بما علمنا، إلا أن يتغمدنا الله برحمته. 205 - حسن بن أحمد بنِ حسنٍ، المحدِّثُ المقرىء، الحافظُ، الأديبُ، اللغويُّ، الزاهدُ، أبو العلاء، المعروف بالعطار، شيخ همدان. ولد سنة 488. قرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث، وأكثر عنه، وحدَّث، وانقطع إلى إقراء القرآن، وروايةِ الحديث إلى آخر عمره، وحدث بأكثر مسموعاته، وسمع منه الكبار، والأئمة والحفاظ، وسمع منه خلق كثير. ذكره

206 - عبد الرحمن بن النفيس بن الأسعد المقرىء، يعرف بالأغر البغدادي

ابن السمعاني، وابن الجوزي، وعبد القادر الرهاوي، وأثنوا عليه ثناء حسنًا، وبرع على حُفَّاظ عصره في حفظ ما يتعلق بالحديث، والأنساب، والتواريخ والأسماء والكنى، والقصص والسير. وله التصانيف الكثيرة في أنواع من علوم الحديث، والزهد والرقائق، وغير ذلك، له "زاد المسافر" نحو من خمسين مجلدة، وكان لا يأكل من أموال الظَّلَمة، ولا قبل منهم مدرسة ولا رباطًا، وإنما كان يُقرىء في داره، وكان يقرىء نصف نهاره القرآن، ونصفه الحديث، وكان لا يخشى السلاطين، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يمكن أحدًا أن يعمل في محلته منكرًا ولا سماعًا، وكان يُنزل كلَّ إنسان منزلته حتى تآلفت القلوب على محبته، وحسنِ الذكر له في الآفاق البعيدة، حتى أهل خوارزم الذين هم معتزلة، مع شدته في الحنبلية. قال الرهاوي: وكان حسن الصلاة، لم أر أحدًا في مشايخنا أحسن صلاة منه، وكان مشددًا في أمر الطهارة، لا يدع أحدًا يمس مداسه. قلت: هذه زلة من عالم. قال: وكان ثيابه قصارى، وأكمامه قصارى، وعمامته نحو سبعة أذرع، وكانت السنة شعاره ودثاره اعتقادًا وفعلاً، ومن نوادره - رحمه الله تعالى - أنه كان يمشي في اليوم الواحد ثلاثين فرسخًا، توفي سنة 569. قال ابن الجوزي: وبلغني أنه رُئِي في المنام في مدينة جميعُ جدرانها من الكتب، وحوله كتب لا تحد، وهو مشتغل بمطالعتها، فقيل له: ما هذه الكتب؟ قال: سألت الله تعالى أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا، فأعطاني، انتهى. قلت: وهذه مسألتي من الله تعالى أيضًا في عالم البرزخ، فإن ولعي بالكتب الشريفة الحديثية والقرآنية، وشغفي بالعلم مما لا ينكر، وهو سبحانه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. 206 - عبد الرحمن بن النفيس بن الأسعد المقرىء، يعرف بالأغرِّ البغدادي. كان في ابتداء أمره يغني، وله صوت حسن، ثم تاب، وحسنت توبته، وقرأ القرآن في زمن يسير، وتعلم الحفظ في أيام قلائل، وكان ذكيًا جدًا، يحفظ في

207 - المبارك بن حسن، يعرف بابن القابلة

يوم واحد ما لا يحفظه غيره في شهر، سافر إلى الشام، وسكن دمشق، وأَمَّ بالحنابلة في جامعها. قال ابن اللتي: كان قويًا في دين الله، متمسكًا بالآثار، لا يرى منكرًا ولا يسمع به إلا غيَّره، ولا يحابي في قول الحق أحدًا، قال: صحبته، وسمعت عليه معتقدًا في السنة، خرج من بغداد سنة 560. 207 - المبارك بن حسن، يعرف بابن القابلة. ولد تقريبًا سنة 505. سمع من طلحة. ذكره ابن القطيعي، وقال: كان حنبلي المذهب، أَمَّارًا بالمعروف، شديدًا على أهل البدع، توفي سنة 571. 208 - علي بن عساكر بن المرجب بن عرام البطائحيُّ، المقرىءُ، النحويُّ. ولد سنة 489. قال الشيخ موفق الدين المقدسي: كان عالمًا بالعربية، إمامًا في السنة، قرأ عليه القرآن جماعة من الكبار، وحدَّث عنه جماعة من الحفاظ، منهم: عبد الغني المقدسي، وعبد القادر الرهاوي، وروى عنه بإجازة الخليفة الناصر العباسي، وقرأ عليه القرآن أيضًا الوزيرُ ابن هبيرة - ويدخل باطن دار الخلافة -، وكان ضريرًا يحفي شاربه، ووقف كتبه بمدرسة الحنابلة، توفي سنة 572. 209 - صدقة بن الحسين بنِ الحسنِ بنِ بختيار، البغداديُّ، الفقيهُ، الأديبُ الشاعرُ، المتكلمُ، الكاتبُ، المؤرخ، أبو الفرج. ولد سنة 497. قرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث من أبي السعادات المتوكلي، وتفقه على ابن عقيل، وحدَّث، وسمع منه جماعة، له جزء سماه: "ضوء الساري إلى معرفة الباري"، وله في التاريخ والأصول مصنفات، وكان قوته من أجرة نسخه ولم يطلب من أحد شيئًا. قال ابن القطيعي: كان بينه وبين ابن الجوزي مباينة شديدة، وكل واحد يقول في صاحبه مقالة - الله أعلم بها - مات - سامحه الله - سنة 573. وذكر ابن الجوزي عمن حدثه أنه رُئِي له منامات غير صالحة، وأنه عريان، وأنه أخبر عن نفسه أنه مسجون مضيق عليه، وأنه لم يغفر له، فالله يسامحه

210 - محمد بن أبي الأغالب بن أحمد، الضرير، المحدث، الحافظ، أبو بكر

ويتجاوز عنه. وذكر ابن النجار عن علي الفاخراني قال: رأيت صدقة في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بعد شدة، فسألته عن علم الأصول، فقال: لا تشتغل به، فما كان شيءٌ أضرَّ عليَّ منه، وما نفعني إلا خمس قسبات، أو قال: تميرات تصدقت بها على أرملة. قال ابن رجب: هذا المنام حق، وما كانت مصيبة إلا من علم الكلام، ولقد صدق القائل: ما ارتدى أحد في الكلام فأفلح، وبسبب شبهة المتكلمين والمتفلسفة كان يقع له أحيانًا حيرة وشك - يذكرها في أشعاره -، ويقع منه من الكلام والاعتراض ما يقع. وقد رأيت له مسألة في القرآن قرر فيها: أن ما في المصحف ليس بكلام الله حقيقة، وإنما هو عبارة عنه، ودلالة عليه، وإنما سمي: كلامَ الله، مجازًا، قال: ولا خلاف بيننا وبين المخالفين في ذلك إلا عندنا أن مدلوله: هو كلام الله الذي هو الحروف والأصوات، وعندهم مدلول الكلام: هو المعنى القائم بالذات، انتهى. قلت: والحق في هذه المسألة: أن لفظ القرآن الكريم ومعناه كلاهما من الرحمن الرحيم، وكلامه سبحانه حرف وصوت؛ كما نطقت به الأحاديث الصحيحة، والكلام النفسي - الذي أثبته الأشاعرة - لا رائحة له في الكتاب ولا في السنة، وكما أن كلامه ليس له مثل، فكذلك حرفه وصوته لا مثل لهما، وتنزيله على منازل الكلام البشر وسائر مخلوقاته وصفاتها لا يجوز، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]. 210 - محمد بن أبي الأغالب بنِ أحمدَ، الضريرُ، المحدثُ، الحافظُ، أبو بكر. ولد بباقدار - قرية من قرى بغداد -، تلا على جماعة، وسمع الحديث من سبط الخياط، وابن ناصر الحافظ، وحدَّث وسمع. ذكره ابن المديني، وقال: انتهى إليه معرفة رجال الحديث وحفظه، وعليه كان المعتمد فيه. وقال الحافظ الخضري: كان آخر من بقي من حفاظ الحديث الأئمة، أثنى عليه الدبيتي، والحافظ المنذري.

211 - عبد الله بن علي بن الحسين الطباخ، البغدادي، نزيل مكة المكرمة، إمام الحنابلة بالحرم الشريف، المحدث، الحافظ

له جزء في حديث ابن عباس: جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر من غير خوف ولا مطر، فقيل لابن العباس: لم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرجَ أمته. قلت: تحقيق المسألة: أن هذا الجمع كان صوريًا، والجمع بين الصلاتين بلا أعذار غير جائز، توفي الباقداري سنة 575 وهو في سن الكهولة، ودفن بتربة الجنيد - قدس سره -. 211 - عبد الله بن علي بنِ الحسين الطباخ، البغداديُّ، نزيلُ مكة المكرمة، إمامُ الحنابلة بالحرم الشريف، المحدثُ، الحافظُ. سمع الكثير ببغداد من جماعة الحفاظ، وعني بالطلب، وكتب بخطه، وكان حافظ الحديث بمكة في زمانه، وسمع منه جماعة، توفي سنة 575 بمكة، وكان يوم جنازته مشهودًا. 212 - عبد المغيث بنُ زهير بن علوي الحربي، المحدثُ، الزاهدُ. ولد سنة 500 تقريبًا، سمع من جماعة، وعني بهذا الشأن، وقرأ بنفسه على المشائخ، وكتب بخطه، وحصل الأصول، ولم يزل يسمع حتى سمع من أقرانه. وكان صالحًا متدينًا صدوقًا أمينًا، حسن الطريقة، جميل السيرة، حميد الأخلاق، مجتهدًا في اتباع السنة والآثار، منظورًا إليه بعين الديانة والأمانة، جمع وصنف وحدَّث، وبورك له حتى حدث بجميع مروياته، وسمع منه الكبار. قال الدبيتي: عني بطلب الحديث وبسمعه وجمعه من مظانه، فسمع الكثير، وقرأ عليه الشيوخ ونعم الشيخ كان. روى عنه ابن السمعاني في كتابه شعرًا، وقال عنه: رفيقنا. قال ناصح الدين بن حنبلي: كنت إذا رأيته، خيل إلي أنه أحمدُ بن حنبل، غير أنه كان قصيرًا. وقال الحافظ المنذري: اجتهد في طلب الحديث وجمعِه، وصنف وأفاد، وحدث بالكثير. قال ابن القطيعي: كان أحد المحدثين، مع صلابة في الدين، واشتهار بالسنة، وقراءة القرآن، وقع بينه وبين ابن الجوزي نفرة، كان سببها الطعن على يزيد بن معاوية، وكان عبد المغيث يمنع من سبه،

وصنف في ذلك كتابًا، وأسمعه، وصنف الآخر كتابًا سماه: "الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد"، وقرأته عليه، مات عبد المغيث وهما متهاجران. وقلت: هذه المسألة وقع بينهما بسببها فتنة، ويقال: إنه تبع أبا الحسين بن البناء؛ فإنه صنف في "منع ذم يزيد ولعنه"، وابن الجوزي صنف في جواز ذلك، وقد حكى فيه: أن القاضي أبا الحسين صنف كتابًا فيمن يستحق اللعن، وذكر فيهم يزيد، وذكر كلام أحمد في ذلك، وكلام أحمد، إنما فيه لعنُ الظالمين جملة، ليس فيه تصريح بجواز لعن يزيد معينًا، وقد ذكر القاضي في المعتمد نصوص الإمام أحمد في هذه المسألة، وأشار إلى أن فيها خلافًا عنه. حكى أن عبد المغيث كان يومًا في زيارة قبر الإمام أحمد، وأن الخليفة الناصر وافاه في ذلك اليوم عند قبر الإمام أحمد، فقال له: أنت عبد المغيث الذي صنف مناقب يزيد؟ فقال: معاذ الله أن أقول: إن له مناقب، ولكن من مذهبي أن الذي هو خليفة المسلمين إذا طرأ عليه فسق لا يوجب خلعه، فقال: أحسنت يا حنبلي! واستحسن منه هذا الكلام، وأعجبه غاية الإعجاب. قال ابن الصيرفي حاكيًا عن ابن الجوزي: أنه كان يقول: إني لأرجو من الله أن اجتمع أنا وعبد المغيث في الجنة، قال: وهذا يدل على أنه كان يعلم أن الشيخ عبد المغيث من عباد الله الصالحين، فرحمة الله عليهما، وصنف عبد المغيث: "الانتصار لمسند الإمام أحمد"، أظنه ذكر فيه أن أحاديث المسند كلها صحيحة، وقد صنف في ذلك قبله أبو موسى، وبذلك أفتى أبو العلاء الهمذاني، وخالفهم الشيخ ابن الجوزي. ولصاحب الترجمة كتاب "الدليل الواضح في النهي عن ارتكاب الهوى الفاضح" يشتمل على تحريم الغناء وآلات اللهو، وذكر فيه تحريم الدف بكل حال، في العرس وغيره، وأجاب عن حديث: "أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف" بأن معناه: أعلنوا إعلانًا يبلغ ما يبلغ صوت الدف - لو ضرب به - لتمحوا سنة الجاهلية من نكاح البغايا المستسر به، وأجاب عن حديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت عائشة - رضي الله عنها -: بأنهما لم تكونا مكلفتين

213 - عبد الوهاب بن الشيخ العارف عبد القادر الجيلاني - قدس سره -

لصغرهما، قال: وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر على تسميته: مزمور الشيطان، وربما أشار إلى أنه منسوخ، وهذا مذهب ضعيف، توفي - رحمه الله تعالى - سنة 583. وذكر ابن النجار في ترجمة داود بن أحمد الضرير: أنه سمعه يقول: سمعت يعقوب بن يوسف الحربي، يقول: رأيت عبد المغيث في المنام بعد موته فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: العلمُ يُحيي أُناسًا في قبورِهِمُ ... والجهلُ يُلْحِقُ أحياءً بأمواتِ 213 - عبد الوهاب بن الشيخ العارف عبدِ القادرِ الجيلاني - قدس سره -. ولد سنة 522، وأسمعه والده في صباه من ابن البناء، والقزاز، والأرموي، وأبي الوقت، وغيرهم، وقرأ الفقه على والده حتى برع فيه، ودرس نيابة عن والده بمدرسته وهو حي، وقد نيف على العشرين من عمره، وكان كَيَّسًا ظريفًا من ظرفاء أهل بغداد، متماجنًا، وله لسان فصيح في الوعظ، وإيراد مليح، مع عذوبة ألفاظ، وحدة خاطر، وكان لطيفًا مليح النادرة، ذا مزاح ودعابة، وكانت له مروءة وسخاء. قال أبو شامة: قيل له يومًا في مجلس وعظه: ما تقول في أهل البيت؟ قال: أعموني، وكان أعمش أجاب عن بيت نفسه. وقيل له يومًا: بأي شيء تعرف المُحِقَّ من المبطل؟ قال: بليمونة - أراد: من يخضب، يزول خضابُه بليمونةِ. وقال ابن البزوري: وعظ يومًا، فقال له شخص: ما سمعنا بمثل هذا، فقال: لا شك يكون هذيان. وكان له نوادر كثيرة. وسمع منه جماعة، منهم: ابن القطيعي، وروى عنه ابن الدبيتي. وتوفي سنة 593، ودفن عند عبد الدائم الواعظ - رحمهما الله تعالى رحمة واسعة -. 214 - طلحة بن مظفر بن غانم العلثيِّ، الفقيهُ، الخطيبُ، المحدِّثُ، الفَرَضيُّ، النظَّارُ، المفسرُ، الزاهدُ، الورعُ، العارفُ، تقيُّ الدين أبو محمد. حفظ الكتاب، وسمع الحديث الكثير، وقرأ "صحيح مسلم" في ثلاثة

215 - الحسن بن مسلم بن الحسن الجوزي، زاهد وقته

مجالس، وكان يقرىء الحديث فيبكي، ويتلو القرآن في الصلاة فيبكي، يرحم الفقراء، ولا يخالط الأغنياء. قال المنذري: تفقه ببغداد على ابن المَنَّي، وابن الجوزي، وابن بندار، وقرأ بلفظه على الشيوخ، وعني بالحديث، وكان أديبًا شاعرًا فصيحًا، وكثر أتباعه، وانتفع به الناس. قال ابن الجوزي: حدثني طلحة: أنه ولد عندهم بالعلث مولودٌ لستة أشهر، فخرج له أربعة أضراس. قال المنذري: توفي سنة 593، ودفن بالعلث - وهي قرية من قرى بغداد -، وخلف ثلاثة أولاد سمعوا الحديث، وحدَّثوا. 215 - الحسن بن مسلم بنِ الحسنِ الجوزي، زاهدُ وقته. ولد سنة 504، وقرأ القرآن، وسمع الحديث، وتفقه في المذهب، وصحب الشيخ عبد القادر. وكان كثير البكاء، دائمَ العبادة على منهج السلف، ذا كراماتٍ. ذكره ابن الدبيتي وقال: سمع الحديث، ولم يزل على طريقة محمودة، وروى عنه الكرخي، قال: أخبار الصفات صناديق مقفلة مفاتيحها بيد الرحمن. وذكره أبو شامة، فقال: كان من الأبدال، ملازمًا طريق السلف، وذكر من تسخير السباع له، وليس تحته كبير أمر. وذكر ابن القادسي، فقال: كان يصوم النهار، ويقوم الليل أربعين سنة، لم يكلم فيها أحدًا، كثير الاجتهاد في العبادة، كثير البكاء، غزير الدمعة، رقيق القلب، له الفراسة الصائبة، توفي سنة 594 - رحمه الله تعالى -. 216 - حماد بن هبة الله بن حماد، أبو الثناء، الحرانيُّ، التاجرُ، السَّفارُ، المحدِّثُ، المؤرخُ. ولد سنة 511، وتوفي سنة 598. سمع ببغداد من جماعة من الحفاظ، وبهَراةَ ومصر والإسكندرية من الحافظ السِّلفي، وجمع تاريخًا لحران، وحدث به فيها، وله شعر جيد، روى عنه: الحافظ الرهاوي، والعلم السخاوي، وغيرهما. أنشد ابن رجب بسنده عنه قول أبي نواس:

217 - عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور، الجماعيلي، المقدسي، الحافظ، الزاهد، أبو محمد، ويلقب: تقي الدين، حافظ الوقت، ومحدثه

ألا رُبَّ وجهٍ في التراب عتيقِ ... ألا ربَّ رامٍ في التراب رفيقِ أرى كلَّ حيٍّ هالكًا وابنَ هالك ... وذو حسب في الهالكين عريقِ فقل لمقيم الدار: إنك ظاعِنٌ ... إلى سفرٍ نائي المحلِّ سحيقِ إذا امتحنَ الدنيا لبيبٌ، تَكَشَّفَتْ ... له عن عدوٍّ في ثيابِ صديقِ 217 - عبد الغني بن عبد الواحد بنِ عليِّ بنِ سرورٍ، الجماعيليُّ، المقدسيُّ، الحافظُ، الزاهدُ، أبو محمدٍ، ويلقب: تقي الدين، حافظُ الوقت، ومحدِّثُه. ولد سنة 541، وقيل: سنة 543، وقيل: سنة 544، قدم دمشق، وسمع من حفاظها، ورحل إلى بغداد، وقرأ على الشيخ عبد القادر شيئًا من الحديث، ورجع إلى الإسكندرية، وسمع بها من الحافظ السلفي، وأكثر عنه - حتى قيل: لعله كتب عنه ألف جزء -، وسافر إلى أصبهان وهمدان وموصل، وسمع من حفاظها، وعاد إلى دمشق، ولم يزل ينسخ ويصنف ويفيد المسلمين، ويعبد الله. قال الحافظ الضياء: كان عبد الغني أميرَ المؤمنين في الحديث. قال: ورأيت فيما يرى النائم وأنا بمدينة مرو - كأن الحافظَ عبدَ الغني جالس، والإمام محمد بن إسمعيل البخاري بين يديه، يقرأ عليه جزءًا أو كتابًا، وكان الحافظ يرد عليه شيئًا، أو ما هذا معناه. قال: وجاء رجل إليه، فقال: رجل حلف بالطلاق إنك تحفظ مئة ألف حديث، فقال: لو قال أكثرَ لصدق. قال التاج الكندي: لم ير الحافظ مثلَ نفسه، وما رأيت أحفظَ منه. وأنشد ربيعة بن الحسن فيه شعر: يا أصدقَ الناسِ في بَدْوٍ وفي حَضَرٍ ... وأَحفظَ الناس فيما قالت الرسلُ إنْ يحسدوك فلا تَعْبَأْ بقائِلِهم ... هُمُ الغثاءُ وأنتَ السيدُ البَطَلُ وأنشدت فيه: إن قِيسَ علمُك في الورى بعلومِهم ... وجدوكَ سَحْبانا وغيرك باقِلُ ذكره ابن النجار في "تاريخه"، وقال: حدَّث بالكثير، وصنف التصانيف الحسنة في الحديث، وكان كثيرَ العبادة، ورعًا، متمسكًا بالسنة على قانون السلف، ولم يزل يحدث إلى أن تكلم في الصفات والقرآن بشيء أنكره عليه أهل

التأويل من الفقهاء، وسَعَوا به عليه، وعُقد له مجلس بدار السلطان حضرة القضاة، فأصر على قوله، وأباحوا إراقة دمه، فشفع فيه جماعة إلى السلطان من الأمراء والأكراد، وتوسطوا في أمره على أن يخرج من دمشق إلى مصر - فأُخرج إلى مصر، وأقام بها خاملاً إلى حين وفاته. قال يوسف بن خليل: دُعي إلى أن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فأبى، فمُنع من التحديث بدمشق، وسافر إلى مصر، فأقام بها إلى أن مات. وكان السلفيُّ لا يقول لأحد: الحافظ، إلا لعبد الغني، وكان مجتهدًا على طلب الحديث وسماعه للناس من قريب وغريب، فكان كل غريب يأتي يسمع عليه، أو يعرف أنه يطلب الحديث، يكرمه، ويبره، ويحسن إليه إحسانًا كثيرًا، وأحيا به الله حديث رسوله - عليه السلام -. قال الحافظ إبراهيم العراقي: ما رأيت الحديث كله في الشام إلا ببركته، وذكر أنه كان يفضل الرحلة للسماع على غزو، وعلى سائر النوافل، وكان يقرأ الحديث ويبكي ويُبكي الناس. قال بعض المصريين: ما كنا إلا مثل الأموات حتى جاء الحافظ، فأخرجنا من القبور. قال موفق الدين: كمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة، وعداوتِهم إياه، وقيامهم عليه، إلا أنه لم يُعَمَّر حتى يبلغ غرضه في رواية الأحاديث ونشرها - رحمه الله -. وكان لا يكاد يضيع شيئًا من زمانه بلا فائدة، وكان يقول: تعال! حتى نحافظ على الوضوء لكل صلاة، قال أيضًا: وكان يستعمل السواك كثيرًا حتى كأن أسنانه البَرَد، وكان لا يرى منكرًا إلا غيره بيده أو لسانه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، ولقد رأيته مرة يهريق خمرًا، فجبذ صاحبُه السيفَ، فلم يخف من ذلك، وأخذه من يده، وكان - رح - قويًا في بدنه، قويًا في أمر الله، وكثيرًا ما كان يكسر الطنابير والشبابات بدمشق، وكان قد وضع الله له الهيبة في قلوب الخلق، وأنه دخل يومًا على الملك العادل، فلما رآه، قام له، فقال الناس: آمنا بكرامتك يا حافظ. وذكروا أن العادل قال: ما خفتُ من أحد ما خفتُ من هذا، فقلنا: أيها الملك! هذا رجل فقيه، أيش خفت من هذا؟ قال: لما دخل، ما خُيل إليَّ إلا أنه سَبعُ: يريد أن يأكلني، فقلنا: هذه كرامة الحافظ.

قال: وما أعرف أحدًا من أهل السنة رأى الحافظَ إلا أحبه حبًا شديدًا، ومدحه مدحًا كثيرًا، وكان ليس بالأبيض الأمهق، بل يميل إلى السمرة، حسنَ الشعر، كثَّ اللحية، واسع الجبين، عظيم الخلق، تام القامة، كأَن النورَ يخرج من وجهه. وكان قد ضعف بصره من كثرة البكاء والنسخ والمطالعة، ويقول: إنه أبلغ ما يسأل العبد ربه - عز وجل - ثلاثة أشياء: 1 - رضوان الله - عز وجل -، 2 - والنظر إلى وجهه الكريم، 3 - والفردوس الأعلى. وقال: يقال: إن من العصمة ألا تجد. ثم قال: هي أعظم العصمة؛ فإنها عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وسئل: هؤلاء المشايخ يُحكى عنهم من الكرامات ما لا يحكى عن العلماء، أيش السبب في هذا؟ فقال: اشتغال العلماء بالعلم كرامة، أو قال: أتريد للعلماء كرامة أفضل من اشتغالهم بالعلم؟ وقد كان للحافظ كرامات كثيرة، ذكر بعضها ابن رجب في "الطبقات"، وذكر الضياء أشياء كثيرة منها. وقال الحافظ: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم يمشي وأنا أمشي خلفه، إلا أن بيني وبينه رجلاً. وعن رجل فقيه - وكان ضريرًا يبغض الحافظ -، فرأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في النوم ومعه الحافظ، ويده في يده في جامع عمرو بن العاص، وهما يمشيان، وهو يقول له: يا رسول الله! حدثت عنك بالحديث الفلاني، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: صحيح، حتى عدد مئة حديث، فأصبح، فتاب من بغضه. وقال آخر: رأيت الحافظ في النوم يمشي مستعجلاً، فقلت: إلى أين؟ قال: أزور النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: وأين هو؟ قال: في المسجد الأقصى، فإذا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعنده أصحابه، فلما رأى الحافظ، قام له النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأجلسه إلى جانبه، قال: فبقي الحافظ يشكو إليه ما لقي، ويبكي، ويقول: يا رسول الله! كذبت في الحديث الفلاني، والحديث الفلاني، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: صدقتَ يا عبد الغني. ومن مصنفاته كتاب "المصباح في عيون الأحاديث الصحاح" أربعون جزءًا، يشتمل على أحاديث "الصحيحين"، وكتاب "الصفات"، وكتاب "محنة الإمام أحمد"، وكتاب "العمدة في الأحكام" مما اتفق عليه البخاري ومسلم، وكتاب

"النصيحة في الأدعية الصحيحة"، وكتاب "الاقتصاد في الاعتقاد"، وكتاب "الكمال في معرفة الرجال" يشتمل على رجال "الصحيحين"، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في عشر مجلدات، وفيه إسناده وذكر الضياء محنَ الحافظ، منها: أن الحافظ قال: كنا بالموصل نسمع "الجرح والتعديل" للعقيلي، فأخذني أهل الموصل، وحبسوني في دار، وأرادوا قتلي من أجل ذكر أبي حنيفة فيه، وجاءني رجل طويل، ومعه سيف، فقلت: لعل هذا يقتلني وأستريح، فلم يصنع شيئًا، ثم إنهم أطلقوني. ثم ذكر الضياء طرفًا من فراسته وهي ملحقة بنوع من كراماته، توفي - رحمه الله - في سنة 600. ووقع لابن الحنبلي في وفاته وهم، فقال: سنة 595. ورثاه غير واحد، منهم: الإمام العلامة محمد بن سعيد المقدسي بقصيدة، أولها: هذا الذي كنتُ يومَ البينِ احتسبُ ... فليقْضِ دمعُك عني بعضَ ما يجبُ يا خيرَ من قالَ بعدَ الصحبِ حَدَّثنا ... ومن إليه التُّقى والدينُ ينتسبُ أحييتَ سُنَّتَه من بعدِ ما دُفنت ... وشِدْتَها وقد انهدَّتْ لها رُتَبُ وصُنْتَها عن أباطيلِ الرُّواةِ لها ... حتى استنارتْ فلا شَكٌّ ولا رِيَبُ ما زلتَ تمنحُها أهلاً وتمنَعُها ... من كانَ يُلهيه عنها الثغرُ والشَّنَبُ روى: أن النور يُرى على قبر الحافظ كل ليلة جمعة. ورأى رجل في النوم: أنه في أرض واسعة، وفيها قوم عليهم ثياب، وهم كثيرون، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل له: هؤلاء ملائكة السماء نزلوا لموت الحافظ عبد الغني. وقال الإمام أحمد بن محمد بن عبد الغني: رأيت البارحة الكمال - يعني: عبد الرحيم - في النوم، وعليه ثوب أبيض، فقلت له: يا فلان! أين أنت؟ قال: في جنة عدن، فقلت: أيما أفضل الحافظُ عبدُ الغني أو الشيخ أبو عمرو؟ فقال: ما أدري، وأما الحافظ، فكلَّ ليلة جمعة يُنصب له كرسي تحت العرش، ويُقرأ عليه الحديث، ويُنثر عليه الدر والجوهر، وهذا نصيبي منه، وكان في كمه شيء. وقد ذكروا له غير ذلك من المنامات المرئية له في حياته وبعد مماته، رح.

218 - عبد المنعم بن علي بن نصر، الحراني

218 - عبد المنعم بن عليٍّ بنِ نصرٍ، الحَرَّانيُّ. قال أبو المظفر سبطُ ابن الجوزي: كان صالحًا دينا نزهًا عفيفًا، كيسًا لطيفًا متواضعًا، كثيرَ الحياء، وكان يزور جدي، ويسمع معنا الحديث، حضرتُ مجالسه، وكان يقصد التجانسَ في كلامه، وسمعته ينشد: وأَشتاقُكم يا أهلَ وُدِّي وبينَنا ... كما زعمَ البينُ المُشِتُّ فَراسِخُ فأمَّا الكَرى عن ناظري فمُشَرَّدٌ ... وأَما هواكُم في فؤادي فَراسِخُ سمع من جماعة من الحفاظ، وأَسمع الكثيرَ، وكتب، وحصَّل، وناظر في مجالس الفقهاء، ودرَّس، وأفاد الطلبة، وله مصنفات حسنة، وكلام في الوعظ بديعٌ، استوطن بغداد لوحشة جرت بينه وبين خطيب حران ابن تيمية. قال ابن النجار، توفي سنة 601. 219 - محمد بن أحمد بن حامد الإرتاحي المصريُّ. ولد سنة 507 تخمينًا، وسمع بمصر، وحدث بها بشيء كثير، قال المنذري: كتب عنه جماعة من الحفاظ وغيرهم من أهل البلد، والواردين عليها، حدَّثوا عنه، وهو أول شيخ سمعتُ منه الحديث. ونعتَه أبو الثناء، فقال: هو من بيت القرآن والحديث والصلاح، توفي سنة 601. 220 - عبد الرزاق بن الشيخ عبدِ القادرِ الجيلي البغدادي، المحدثُ، الحافظُ. ولد سنة 528، وسمع الكثير بإفادة والده، وبنفسه من ابن صرما، والحافظ ابن ناصر، وابن البناء، وأبي الوقت، وطبقتهم، وعني بهذا الشأن، وكانت معرفته بالحديث غلبت على معرفته بالفقه. قال ابن نقطة: كان حافظًا ثقة مأمونًا، قال الحافظ الضياء: لم أر ببغداد في تيقظه وتحريه مثله. قال ابن النجار: كان حافظًا متقنًا صدوقًا، حسن المعرفة بالحديث، فقيهًا على مذهب الإمام أحمد، ثنى عليه أبو شامة، وذكره الذهبي، وقال: حدث عنه الدبيتي، وابن النجار، والضياء المقدسي، وآخرون، توفي سنة 603.

221 - عبد الرحمن بن عيسى، البزوري، المحدث، الواعظ

221 - عبد الرحمن بن عيسى، البزوريُّ، المحدث، الواعظ. ولد سنة 539. سمع من أبي الوقت، وابن الجوزي يذكر على الكرسي: أن الثعبان لم يلاع أبا بكر الصديق، ولم يصح ذلك، وذكر ذلك لابن الجوزي، فقال: إن هذا الحديث ذكره اللالكائي، وكان من سادة أهل الحديث. قال ابن النجار: تفقه على مذهب الإمام أحمد. 222 - محمد بن النفيس بن مسعود السلامي، الطحانُ، الفقيهُ، الأديبُ. ولد سنة 553، قرأ القرآن، وسمع الحديث من الأقران، قال المنذري: حدث بشيء من تآليفه، ومن شعره: رقَّ يا مَنْ قلبُه حجرٌ ... لجفونٍ حَشْوُها سَهَرُ ولجسمٍ ما لِناظره ... منهُ إلا الرسمُ والأَثَرُ فغرامي لو تَحَمَّلَه ... صخرُ رَصْوى كاد ينفطر إنَّ لومي في هواك لَمِنْ ... شَرِّ ما يأتي به القَدَرُ كم رأينا وجنةً فتنت ... فمحا أثارها الشَّعَرُ صِلْ ووجْهُ الدهرِ متبلٌ ... فزمانُ الوَصلِ مُخْتَصَرُ توفي سنة 604. 223 - عبد الله بن أبي الحسن بنِ أبي الفرج، الجَيَّانيُّ، الطَّرابُلُسيُّ، الفقيهُ، الزاهدُ. قال القطيعي: سألته عن مولده، فقال: سنة 521 تقريبًا. قرأ القرآن، وسمع الحديث، ورجع إلى بغداد، فسمع حديثها، ولقي مشايخها، وصحب الشيخ عبد القادر الجيلي مدةٍ مائلاً إلى الزهد والصلاح، والخير والانقطاع. قال ابن النجار: وكان يومًا يتكلم في الإخلاص والرياء والعجب، وأنا حاضر في المجلس، فخطر في نفسي: كيف الخلاصُ من العجب؟ فالتفت إليّ، وقال: إذا رأيت الأشياءَ من الله، وأنه قد وفقك لعمل الخير للخير، وأخرجت نفسك من

224 - أسعد، ويسمى: محمد بن المنجا بن بركات، التنوخي المعري، الدمشقي، القاضي، وجيه الدين، أبو المعالي

البين، سلمتَ من العُجْب، قال: حدثني الشيخ طلحة: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال: يا رسول الله! أيثاب الرجل على قراءة القرآن؟ فقال: نعم، فقلت: بفهم أو بغير فهم؟ قال: بفهم وبغير فهم، قلت: كلام الله بحرف وصوت؟ قال: وهل يكون كلامٌ بغير حرف وصوت؟ قاله ثلاثًا، قال: وهذا المنام عندي بخط الشيخ طلحة. وحدثني الجياني ببغداد وأصبهان، وروى عنه ابن الجوزي عدة منامات في كتبه. توفي سنة 605، ذكره ابن نقطة، والمنذري، والقطيعي. 224 - أسعد، ويسمى: محمد بن المنجا بنِ بركات، التنوخيُّ المعريُّ، الدمشقيُّ، القاضي، وجيهُ الدين، أبو المعالي. ولد سنة 519. سمع بدمشق، وتفقه على مذهب أحمد مدة، وروى عنه جماعة، منهم: الحافظ المنذري، وابن النجار. توفي سنة 606. قال الشيخ موفق الدين: حدثنا ابن المنجا، قال: كنت يومًا عند الشيخ أبي البيان، وقد جاءه ابن تميم، فقال: ويحك! الحنابلة إذا قيل لهم: من أين لكم أن القرآن بحرف وصوت؟ قالوا: قال الله تعالى: الم، حم، كهيعص، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا أقول: "الْمَ حرف، ألفٌ حرف، ولامٌ حرف، وميمٌ حرف"، أو كما قال، وأنتم إذا قيل لكم: من أين قلتم: إن القرآن معنى في النفس؟ قلتم: قال الأخطل: إنَّ الكلامَ لَفي الفؤادِ وإنَّما ... جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دَليلا فالحنابلة أتوا بالكتاب والسنة، وقالوا: قال الله، وقال رسوله، وأنتم قلتم: قال الأخطل - شاعر نصراني خبيث -، أما استحييتم من هذا القبيح؟! جعلتم دينكم مبنيًا على قول نصراني، وخالفتم قول الله وقولَ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو كما قال. قال ابن الخشاب: فتشت دواوين الأخطل، فلم أجد هذا البيتَ فيها، قال أبو النصر السجزيم: إنما قال الأخطل: "إن البيان من الفؤاد"، فحرفوه وقالوا: إن الكلام .......

225 - محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام، الجماعيلي، المقدسي الدمشقي، المحدث، الصالح، الزاهد والعابد، أبو عمر

225 - محمد بن أحمد بنِ محمدِ بنِ قدامةَ بنِ مقدام، الجماعيليُّ، المقدسيُّ الدمشقيُّ، المحدثُ، الصالح، الزاهد والعابد، أبو عمر. مولده سنة 528. حفظ القرآن، وسمع الحديث من جماعة من حفاظ الزمان، وحدث وسمع منه جماعات، منهم: الضياء، والمنذري، وكان سريع الكتابة، وربما كتب في اليوم كراسين بالقطع الكبير. قال الضياء: وكان لا يكاد يسمع دعاء إلا حفظه، وعمل به، مات وهو عاقد على أصبعه يسبح، وكان لا يكاد يسمع بجنازة إلا حضرها، ولا بمريض إلا عاده، ولا جهادٍ إلا خرج فيه، وكان يزور القبور كلَّ جمعة بعد العصر، ولا ينام إلا على وضوء، ويحافظ على سنن وأذكار عند نومه، ولا يترك غُسل الجمعة، ويلبس الخشن، وينام على الحصير، وكان ثوبه إلى نصف ساقه، وكُمُّه إلى رُسْغِه، وكان له هيبة عظيمة في القلوب، واستسقى، ودعا مرة، فجاء المطر حينئذ، وجرت الأودية، وله كرامات كثيرة يطول ذكرها. قال سبط ابن الجوزي في "مرآة الزمان": كان معتدل القامة، حسن الوجه، عليه أنوار العبادة، لم يَنْهَر أحدًا، ولم يوجع قلب أحد، وكان يقول: أنا زاهد، لكن في الحرام. بنى المدرسة والمصنع بعلو همته، وكان مجاب الدعوة، وما كتب لأحد ورقة للحُمَّى إلا وشفاه الله تعالى، وفضائله غزيرة. وقال غيره: له آثار جميلة. قال أبو المظفر: كان على مذهب السلف الصالح، حسنَ العقيدة، متمسكًا بالكتاب والسنة والآثار المروية، ويُمِرُّها كما جاءت، من غير طعن على أئمة الدين، وعلماء المسلمين، وينهى عن صحبة المبتدعين، ويأمر بصحبة الصالحين، وأنشد لنفسه: أَلَم يكُ ملهاةً عن اللهوِ أنني ... بدا في شيبُ الرأس والضعفُ والألمُ ولما كان - عشية الاثنين ثامن عشر ربيع الأول سنة 607، جمع أهله، واستقبل القبلة، ووصاهم بتقوى الله ومراقبته، وأمرهم بقراءة يس، وكان آخر كلامه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] وتوفي رح. ولما خرجوا بجنازته، وكان يومًا شديد الحر، أقبلت غمامة، فأظلت الناسَ

226 - إسمعيل بن علي بن حسين، البغدادي، الأزجي، المأموني، الفقيه، الأصولي المناظر، المتكلم، يعرف بابن الوفا، وبابن الماشطة

إلى قبره، وكان يُسمع منها دوي كدوي النحل، ولم يخلف دينارًا ولا درهمًا، لا قليلاً ولا كثيرًا، وحزر من حضر جنازته فكانوا عشرين ألفًا، وقرأ بعضهم عند قبره سورة الكهف، فسمع من القبر يقول: "لا إله إلا الله"، وذكر له عدة منامات، ورأى بعض الصلحاء الإمام الشافعي في المنام، فسأله: إلى أين تمضي؟ فقال أزور أحمدَ بن حنبل، فاتبعته أنظر ما يصنع، فدخل دارًا؛ فسألت: لمن هي؟ فقيل: للشيخ أبي عمر. ورثاه الأديب العلامة محمد بن سعد المقدسي بقصيدة منها: أَبَعْدَ أَن فقدت عيني أَبا عمرٍ ... يَضُمُّني في بقايا العُمر عُمرانُ ما للمساجدِ منه اليوم مقفرةً ... كأنها بعدَ ذاك الجمع قِيعانُ ما للمحاريبِ بعدَ الأُنس موحِشة ... كأن لم يُتْلَ فيها الدهرَ قرآنُ تبكي عليه عيونُ الناس قاطبةً ... إذ كان في كلَّ عينٍ منه إنسانُ وكان في كلِّ قلبٍ منه نورُ هُدًى ... فصار في كلِّ قلبٍ منه نِيرانُ لا زالَ يسقي ضريحًا أنت ساكنُهُ ... وكلُّ ميت رآه فهو فرحانُ وكلَّ حيّ رأينا فهو ذو أَسَفٍ ... سحائبٌ غيثُها عفوٌ وغفرانُ كم مَيَّتٍ ذكرُه حيٌّ، ومتصفٌ ... بالحيِّ مَيْتٌ، له الأثوابُ أكفانُ قال ابن الحنبلي: سمعت والدي يقول: لو كان نبي يُبعث في زمان الشيخ أحمد بن قدامة، كان هو. 226 - إسمعيل بن علي بنِ حسين، البغداديُّ، الأزجيُّ، المأمونيُّ، الفقيهُ، الأصوليُّ المناظرُ، المتكلمُ، يعرف بابن الوفا، وبابن الماشطة. ولد سنة 549. سمع الحديث من ابن المني، برع في الفقه والخلاف والأصلين، والنظر والجدل، ودرَّس وحدَّث، وسمع منه جماعة، وقد حطَّ عليه أبو شامة، ونسبه إلى الظلم في ولايته، قال ابن رجب: وأظنه أخذ ذلك من "مرآة الزمان"، وكذلك ابن النجار صنف كتابًا سماه: "نواميس الأنبياء"، يذكر فيه أنهم كانوا حكماء؛ كهرمس الهرامسة، وأرسطاطاليس، ونعوذ بالله من ذلك، وكان دائمًا يقع في الحديث، وفي رواته، ويقول: هم جهال لا يعرفون العلوم

227 - عبد السلام بن عبد الوهاب بن الشيخ عبد القادر الجيلاني، البغدادي

العقلية، ولا معاني الأحاديث الحقيقية، بل هم مع اللفظ الظاهر، ويذمهم، ويطعن عليهم، انتهى. وأقول: وهكذا شيمة أهل العقول قديمًا وحديثًا في طعنهم أصحاب المنقول وأرباب الحديث، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] ومن شعره: دليلٌ على حِرْصِ ابنِ آدمَ أنَّه ... ترى كَفَّه مضمومةً وقتَ وَضْعِهِ ويبسطُها عندَ المماتِ إشارةً ... إلى صفرِها مما حوى بعدَ جمعِهِ توفي - رحمه الله تعالى - سنة 610، كذا ذكره ابن القادسي، وأبو شامة، وغيرهما. 227 - عبد السلام بن عبد الوهاب بنِ الشيخ عبد القادر الجيلانيّ، البغداديّ. ولد سنة 548، وسمع الحديث من جده، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه - وخطه رديء -، وتفقه على أبيه، ودرَّس، وكان أديبًا كَيِّسًا مطبوعًا، عارفًا بالمنطق والفلسفة وغير ذلك من العلوم الرِدَّيَّة، وبسبب ذلك نسب إلى عقيدة الأوائل، وكان غيرَ ضابط للسانه، ولا مشكورًا في طريقته وسيرته، يُرمى بالفواحش والمنكرات، وقد جرت عليه محنة في أيام الوزير ابن يونس، وأُحرقت كتبه، وفي بعضها مخاطبة زحل: أيها الكوكب المضيء! أنت تدير الأفلاك، وتحيي وتميت، وأنت إلهنا، وفي حق المريخ من هذا الجنس، فقال ابن يونس: هذا خطك؟ قال: نعم، قال: لم كتبته؟ قال: لأرد على قائله ومن يعتقده، فأمر بإحراق كتبه، وأُودع في الحبس مدة، ولما أُفرج عنه، أخذ خطه: بأنه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الإسلام حق، وما كان فيه باطل، وأُطلق. توفي سنة 611. 228 - عبد العزيز بن محمود بنِ المباركِ، تقيُّ الدين، يعرف بابن الأخضر الجنابذي، البغداديُّ، البزازُ، المحدثُ، الحافظ، محدثُ العراق. ولد سنة 524. أول سماعه بإفادة أبيه وأستاذه ابن بكروس، وسمع هو بنفسه عن ابن البناء، وابن ناصر الحافظ، وأبي الوقت، وطبقِتهم، ومَنْ بعدهم. وبالغ

229 - عبد القادر بن عبد الله الفهمي، الرهاوي، ثم الحراني، المحدث، الحافظ، الرحال؛ محدث الجزيرة

في الطلب، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه، وحصَّل الأصول، وأخذ علم الحديث، ولم يزل يسمع ويقرأ على الشيوخ لإفادة الناس إلى آخر عمره. قال ابن النجار: لم يكن في أقرانه أكثر سماعًا منه، ولا أحسن أصولاً كأنها الشمس وضوحًا، وعليها أنوار الصدق، وبارك الله له بالرواية، حتى حدث بجميع مروياته، صحبتُه مدة طويلة، وقرأت عليه في حلقته، وكان ثقة نبيلاً. وقال ابن نقطة: منه تعلمنا واستفدنا، وما رأينا مثله. وقال ابن الدبيتي: جمع الحديث، وبوَّب، وخرَّج، وكان صدوقًا له معرفة بهذا الشأن، ونعمَ الشيخُ كان. قال أبو شامة: صنف الكتب الحسان، وتصانيفه تدل على فهمه وضبطه وحسن معرفته. قال المنذري: حدث نحوًا من ستين سنة، وانتفع به جماعة، ولنا منه إجازة، وكان حافظ العراق في وقته، له جزء تتبع فيه الأوهام التي ذكرها الخطيب للأئمة، وأجاب عنها، وفي بعض أجوبته تعسُّف شديد، وبعضها لا يوافق عليه البتة، ولا يحتمله اللفظ بحال، وفي بعضها فوائد حسنة. توفي سنة 611. 229 - عبد القادر بن عبد الله الفهميُّ، الرهاويُّ، ثم الحرانيُّ، المحدثُ، الحافظُ، الرحالُ؛ محدث الجزيرة. ولد سنة 536. سمع من جماعات الحفاظ في بلاد كثيرة، وسمع منه جماعات أيضًا ذكر ابن رجب أساميهم، وكان يمشي في أسفاره على قدميه، وكتبه محمولة مع الناس، وكتب بخطه الكثير من الكتب والأجزاء، وولي بالموصل مشيخة دار الحديث وحدث بها بأكثر مسموعاته، ثم انتقل منها إلى حران، وسكنها إلى حين وفاته، أثنى عليه ابن نقطة، وابن الدبيتي، وابن خليل، وقال: ختم به علم الحديث. وقال ابن النجار: كان على طريقة السلف الصالح، قال المنذري: لنا منه إجازة، وقال أبو شامة: له تصانيف في الحديث. قال الذهبي: له أوهام نبهتُ على مواضعَ منها في "الأربعين" له، وحدث بالإسكندرية في حياة السلفي، توفي - رحمه الله - سنة 612.

230 - عبد المنعم بن محمد بن الحسين

230 - عبد المنعم بنُ محمدِ بنِ الحسين. ولد سنة 550، برع في الفقه والأصول والخلاف والجدل، ودرَّس، وأم الناس في الصلاة. قال ابن النجار: سمع معنا أخيرًا من مشايخنا فأكثر، حدَّث بيسير، وأفتى، وقد روى عنه ابن الساعي بالإجازة، وقال: أنشدني هذين البيتين: إذا أفادَكَ إنسانٌ بفائدةٍ ... من العلوم فأظهرْ شكرَها أَبَدا وقلْ فلانٌ جزاه الله صالحةً ... أفادنيها وألقِ الكبرَ والحسدا وتوفي سنة 612. 231 - أبو الفتح محمد بنُ عبد الغني بنِ عبدِ الواحد، الحافظُ، ويلقب: عز الدين. ولد سنة 566 بدمشق، واسمعه بها والده في صغره من أبي المعالي، وارتحل إلى بغداد وأصبهان، وسمع بها من حفاظها، وسمع من ابن الجوزي "مسند الإمام أحمد"، وقرأ على أبي البقاء الفقه واللغة، وسمع بمصر من البوصيري. قال ابن النجار: سمعنا منه وبقراءته كثيرًا، وكتبَ بخطه كثيرًا، وحصَّل كثيرًا من الأصول شراء، واستنسخ كثيرًا، وكان من أئمة المسلمين، حافظًا للحديث متنًا وإسنادًا، عارفًا بمعانيه وغريبه ومشكله، مع صدق وأمانة وحسن طريقة. قال الحافظ الضياء: وكان غزير الدمعة عند القراءة، وكان يقرأ الحديث للناس كل ليلة جمعة، وخرَّج التخاريج، روى عنه: ابناه، والحافظ ضياء الدين، وابن النجار. توفي سنة 613. رُئي له منامات صالحة متعددة، منها: أنه رئي في المنام بعد موته - وكأن وجهَه البدر - قال الرائي: ما رأيت أحدًا في الدنيا على صورته، وله شعر باين من تحت عمامته، لم أر شعرًا مثل سواده، فقلت له: يا عز الدين! كيف أنت؟ قال: أنا وأنت من أهل الجنة. ورآه آخر، فقال له: بالله عليك! ماذا

232 - إبراهيم بن عبد الواحد أخو الحافظ عبد الغني الجماعيلي

لقيت من ربك؟ قال: كل خير جميل. رآه آخر، فقال له: جاء إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقضى لي كل حاجة، وفي حديث عبادة بن الصامت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رؤيا المؤمن جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة" رواه مسلم، وأبو داود الطيالسي، ورواه ابن رجب بسنده عن المترجَم له. 232 - إبراهيم بن عبد الواحد أخو الحافظ عبد الغني الجماعيلي. ولد سنة 543. وكان يقول: أخي عبد الغني أكبر مني بسنتين، برع وناظر وأفتى، وأقبل على نفع الناس، كان داعية إلى السنة وتعليم القرآن والدين، وكان يُقرىء الضعفاء القرآن، ويطعمهم، وكان من أكثر الناس تواضعًا، واحتقارًا لنفسه، وخوفًا من الله تعالى. وما أعلم أنني رأيت أحدًا أشدَّ خوفًا منه، وكان كثير الدعاء، ويطيل الركوع والسجود، ويقصد أن يقتدي بصلاة رسول - صلى الله عليه وسلم -، ونقلت له كرامات كثيرة، ولقد صحبه جماعة من أنواع المذاهب، فرجعوا عن مذاهبهم لما شاهدوا منه، وكان لا يكاد يفتر عن الأشتغال إما بالقرآن أو بالحديث، وما أعلم أنه أدخل نفسه في شيء من أمر الدنيا، ولا تعرض له، ولا نافس فيها. وكان كثير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكان داعية إلى اتباع السنة. ذكر له ابن رجب ترجمة حسنة طويلة مشتملة على سيره الجميلة. وذكره أبو المظفر سبطُ ابن الجوزي في "تاريخه"، وأثنى عليه ثناء كثيرًا، وقال: ما تحرك حركة ولا مشى خطوة ولا تكلم بكلمة إلا لله، وكان يحضر مجالسي، ويقول: صلاح الدين يوسف فتح الساحل، وأظهر الإسلام، أنت يوسف أحييت السنة بالشام - يشير إلى كلام جده في إمرار الصفات على ظاهرها، وإثباتها على ما جاءت. توفي سنة 614، ولما جاءه الموت، جعل يقول: يا حيُّ يا قيوم! قال الضياء: ما رأيت جنازة قط أكثرَ خلقًا منها. وقال سبط ابن الجوزي: وكان يومًا لم يُر في الإسلام مثله، ولما كان الليل، نمت - وأنا متفكر في جنازته -، وذكرت أبياتِ سفيان الثوري التي أنشدها في المنام:

233 - عبد الرحمن بن عمر بن أبي نصر البغدادي الواعظ، يلقب: شهاب الدين

نظرتُ إلى ربي كِفاحًا فقالَ لي ... هنيًا رضايَ عنك يا بنَ سعيدِ فقد كنتَ قَوَّامًا إذا أقبل الدجى ... بعبرةِ مشتاقٍ وقلبِ عَميدِ فدونَك فاختر أيَّ قصر أردتَه ... وزُرْني فإني منكَ غيرُ بعيدِ وقلت: أرجو أن العماد - يعني: إبراهيم المترجَم له - يرى ربه كما رآه سفيان عند نزول حفرته، فنمت، فرأيت العماد في النوم عليه حلة خضراء، وعمامة خضراء، وهو في مكان متسع كأنه روضة، وهو يرقى في درج مرتفعة، فقلت: يا عماد الدين! كيف بت؟ فإني والله متفكر فيك، فنظر إليّ وتبسم على عادته، وقال: رأيتُ إلهي حين أُنزلْتُ حفرتي ... وفارقتُ أصحابي وأَهلي وجِيرتي فقالَ جُزيتَ الخيرَ عنَّي فإنني ... رضيتُ، فها عفوي لديكَ ورحمتي وبتَّ زمانًا تامُلُ الفوزَ والرضا ... فَوُقَّيت نيراني ولُقَّيتَ جنتي قال: فانتبهت مرعوبًا، وكتبت الأبيات. وأيضًا رئي في النوم على حصان، فقيل له: إلى أين؟ فقال: أزور الجبار - عز وجل -. ورآه آخر، فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26، 27]، ورآه الإمام عثمان المقدسي يقول: رأيت الحق - عز وجل - في النوم، والشيخ عماد عن يمينه، ووجهُه مثل البدر، وعليه لباس ما رأيت مثله. وقال الإمام عبد الحميد المقدسي: شممت من قبره مرتين رائحة طيبة. وقد حدث بالكثير، وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة؛ كالضياء، والمنذري. 233 - عبد الرحمن بن عمر بنِ أبي نصر البغداديُّ الواعظُ، يلقب: شهاب الدين. ولد سنة 544، سمع الكثير بإفادة والده، وبنفسه من ابن البناء، وأبي الوقت، وأبي زرعة، وعني بهذا الشأن. قال ابن النجار: وسمعت بقراءته كثيرًا. وحدَّث، وسمع منه جماعة، وأجاز للمنذري. توفي سنة 615، ورأيته في المنام وعليه ثياب فاخرة، فسألته: ما فعل الله

234 - أحمد بن أحمد بن كرم، الحافظ المحدث، المعدل، يعرف بابن البنديجي

بك؟ قال: غفر لي، وقليل العمل ينفع عند الله، وسألته عن عذاب القبر، أحق هو؟ قال: لا، فقلت مرة ثانية: عذابُ القبر حقّ؟ وجبذته كالمنكِر عليه، فقال: أنا ما، فما رأيتُه، فقلت له: فمنكر نكير؟ قال: إي واللهِ حق، نزلا عليّ، وسألاني - رحمة الله عليه -. 234 - أحمد بن أحمد بنِ كرم، الحافظُ المحدِّثُ، المعدِّلُ، يعرف بابن البنديجي. ولد سنة 541، وتلقن القرآن من النهرواني، وقرأ بالروايات على البطائحي، وسمع الحديث الكثير من: أبي الوقت، وابن الشبلي، والشيخ عبد القادر الجبلي، وعُني بهذا الشأن، وكتب بخطه الكثير، وخرَّج، وأفاد، ووسمه جماعة بالحافظ، منهم: المنذري، وأثنى عليه الذهبي. توفي سنة 615، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشيطان قال: وعزتك يا رب! لا أبرحُ أُغوي عبادك ما دامت أرواحُهم في أجسادهم، قال الرب: وعزتي وجلالي! لا أزال أغفرُ لهم ما استغفروني" رواه ابن رجب بسنده عنه متصلاً. 235 - عبد الله بن الحسين العكبري، أبو البقاء، الفقيهُ، المفسِّرُ، الفرضيُّ، اللغويُّ، النحويُّ، الضريرُ. ولد سنة 538. قرأ القرآن، وسمع الحديث من أبي زرعة المقدسي، وابن هبيرة الوزير، وأخذ النحو عن ابن الخشاب، وبرع في فنون عديدة. وصنف التصانيف الكثيرة، ورحلت إليه الطلبة من النواحي، وكان معيدًا لابن الجوزي في المدرسة، وكان يفتي في تسعة علوم. قال الدبيتي، ونعم الشيخ كان. وقال ابن النجار: قرأت عليه كثيرًا من مصنفاته، وصحبته مدة طويلة، ذَكر لي: أنه بالليل تقرأ زوجته عليه في كتب الأدب وغيرها، وذَكر لي: أنه أضر في صباه في الجدري. وقال: جاء إليّ جماعة من الشافعية، فقالوا: انتقل إلى مذهبنا ونعطيك تدريسَ النحو واللغة بالنظامية، فأقسمت، وقلت: لو أقمتموني، وصببتم عليَّ الذهب حتى أتوارى، ما رجعت عن مذهبي. وله شعر رائق، أخذ عنه العربية

236 - محمد بن عبد الله بن الحسين السامري، يعرف بابن سنينة

والحديث خلق كثير، وروى عنه الدبيتي، وابن النجار، والضياء، وابن الصيرفي، وبالإجازة جماعة، منهم: الكمال البزار. توفي سنة 616. وعن ابن عمر قال، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من نزعَ يدًا من طاعة إمام، لقيَ الله - عزَّ وجلَّ - ليست له حجة، ومن ماتَ مفارقًا للجماعة، مات ميتةَ الجاهلية" رواه ابن رجب بسنده عنه متصلاً، وذكر عنه فوائد في "طبقاته". 236 - محمد بن عبد الله بنِ الحسين السامريُّ، يعرف بابن سنينة. ولد سنة 535، برع في الفقه والفرائض، وولي القضاء بسامرة. وتوفي سنة 616، وفي كتابه "المستوعب والفروق" فوائدُ جليلة، ومسائل غريبة. قال ابن رجب: رأيتُ لابن الوليد المحدث إليه رسالة يعاتبه فيها على قوله: إن أحاديث الصفات لا تقبل؛ لكونها أخبارًا آحادًا، وبسط القول في ذلك على طريقة أهل الحديث، وملأها بالأحاديث والآثار المسندة. 237 - نصر بن محمد بنِ علي، أبو الفتوح بن الخضري، الحافظُ، المحدثُ، الزاهدُ، الأديبُ، يلقب: برهان الدين، نزيلُ مكة، وأمام حطيم الحنابلة. ولد سنة 536. قرأ القرآن، وسمع الحديث الكثير من أبي الوقت وطبقته، وعني بهذا الشأن، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الكثير، ولم يزل يسمع ويقرأ ويفيد إلى أن علت سنه. أثنى عليه ابن الدبيتي، وابن نقطة، وقال ابن النجار: كان حافظًا حجة نبيلاً، جمَّ الفضائل، كثيرَ المحفوظ، من أعلام الدين، وأئمة المسلمين، قال أبو المظفر: سمعت منه بمكة - في المسجد الحرام -، وكان محدثًا حافظًا عابدًا، قال: إن سماعه ظهر، ولا أعلم أحدًا قال ذلك غيره، توفي سنة 619 - رحمه الله تعالى -. 238 - عبد الله بن محمد بنِ أحمدَ بنِ قدامةَ، المقدسيُّ، شيخُ الإسلام، وأحدُ الأعلام. ولد سنة 541. قرأ القرآن، واشتغل وسمع، وقرأ عليه جماعة، وانتفع بعلمه طائفة كثيرة.

وكان كثير الحياء، عزوفًا عن الدنيا وأهلها، هينًا بينًا متواضعًا، محبًا للمساكين، من رآه، كأنما رأى بعض الصحابة، وكان كامل العقل، شديد التثبت، دائمَ السكوت، نزهًا ورعًا، عابدًا على قانون السلف، على وجهه النورُ، وعليه الوقار والهيبة، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه. صنف التصانيف، قصده التلامذة والأصحاب، وسار اسمه في البلاد، واشتهر ذكره، وكان حسنَ المعرفة بالحديث، وله يدٌ في علم العربية. قال عمر بن الحاجب الحافظ في "معجمه": هو إمام الأئمة، ومفتي الأمة، خصه الله بالفضل الوافر، والخاطر الماطر، والعلم الكامل، فأما الحديث، فهو سابق فرسانه، وأما الفقه، فهو فارس ميدانه. وقال أبو شامة: كان شيخ الحنابلة، إمامًا من أئمة المسلمين، وعلمًا من أعلام الدين، سمعت عليه أشياء، ومن أظرف ما حُكي لي عنه: أنه كان يجعل في عمامته ورقة مصرورة فيها رمل يرمل به ما يكتبه للناس من الإجازات وغيرها، أثنى عليه الحافظ الضياء، وأفرد سيرته، وكذلك الذهبيُّ، وقال الضياء: كان إمامًا في القرآن وتفسيره، وفي الحديث ومشكلاته. قال إمام بن غنيمة: ما أعرف أحدًا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق - يعني: المترجم له -، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أنعم الله على عبد نعمةً أفضلَ من أن يُلهمه ذكره"، فقد ثبت بهذا أن إلهام الذكر أفضلُ من الكرامات، وأفضلُ الذكر ما يتعدى نفعُه إلى العباد، وهو تعليم العلم والسنة، وأعظمُ من ذلك ما كان جِبِلَّة وطبعًا؛ كالعلم والكرم والعقل والحياء. وكان لا يكاد يناظر أحدًا إلا وهو متبسم، حتى قال بعض الناس: هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسمه، ومن كراماته: ما حكاه سبط ابن الجوزي، قال: قلت في نفسي: لو كان لي قدرة، لبنيت للموفق مدرسة، وأعطيته كل يوم ألف درهم، قال: فجئت بعد أيام، فسلمت عليه، فنظر إليّ وتبسم، وقال: إذا نوى شخص نية، كُتب له أجرُها. وذكر له ابن رجب كرامات أخرى، ثم ذكر تصانيفه، وقال: تصانيفه في

أصول الدين في غاية الحسن، أكثرُها على طريقة أئمة المحدثين، مشحونة بالأحاديث والآثار بالأسانيد كما هي طريقة الإمام أحمد وأئمة الحديث، ولم يكن يرى الخوض مع المتكلمين في دقائق الكلام، ولو كان بالرد عليهم، وهذه طريقة أحمد والمتقدمين، وكان كثيرَ المتابعة للمنقول في باب الأصول وغيره، لا يرى إطلاق ما لم يؤثر من العبارات، ويأمر بالإقرار والإمرار لما جاء في الكتاب والسنة - من الصفات - من غير تفسير ولا تكييف، ولا تمثيل ولا تحريف، ولا تأويل ولا تعطيل. ومن تصانيفه: "البرهان في مسألة القرآن"، و"مسألة العلو"، و"ذم التأويل" و"رسالة إلى الشيخ العالم فخر الدين بن تيمية" في تخليد أهل البدع في النار، و"مسألة في تحريم النظر في كتب أهل الكلام"، و"مختصر العلل" في فن الحديث، و"المغني" في الفقه، و"ذم الوسواس"، و"الروضة" في أصول الفقه، و"كتاب المتحابين في الله". قال الشيخ عز الدين: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثلَ "المحلى" و"المجلى" من ابن العربي، وكتاب "المغني" للشيخ موفق الدين بن قدامة، في جودتهما، وتحقيق ما فيهما. وأيضًا قال: لم تطب نفسي في الفتيا حتى صار عندي نسخة "المغني" وقال ابن رجب: كتاب "المغني" عظم النفعُ به، وكثر الثناء عليه، وذكر من شعر ابن قدامة شيئًا كثيرًا، وقال: تفقه عليه خلق كثير، وسمع منه الحديث خلائقُ من الأئمة والحفاظ وغيرهم، وروى عنه الضياء والمنذري. توفي - رحمه الله - سنة 620. حكى إسماعيل الكاتب قال: رأيت ليلة عيد الفطر كأن مصحف عثمان قد رُفع من جامع دمشق إلى السماء، فلحقني غم شديد، فتوفي الموفق يوم العيد. ورأى آخر ملائكة ينزلون من السماء، فقال: ما هذا؟ قالوا: ينقلون الموفق لطيبه من الجسد الطيب. وقال آخر: رأيت كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات، فوصل الخبر بموت الموفق. وذكر ابن رجب نبذًا من فتاواه في "طبقاته".

239 - إبراهيم بن المظفر بن إبراهيم البرني، الحربي، الموصلي، الواعظ، المحدث، يلقب: برهان الدين

239 - إبراهيم بن المظفر بنِ إبراهيم البرني، الحربيُّ، الموصليُّ، الواعظُ، المحدِّثُ، يلقب: برهان الدين. ولد سنة 542 قرأ الوعظ على ابن الجوزي، وولي مشيخة دار الحديث بالموصل، وحدث بها، ووعظ. قال ابن الحنبلي: كان واعظًا فاضلاً من أهل السنة، لم يكن بالموصل أعرفُ بالحديث والوعظ منه. وقال المنذري: لنا منه إجازة. ومن شعره: كَمْ جاهلٍ متواضِعٍ ... سترَ التواضُعُ جهلَهُ ومميز في علمِهِ .. هدمَ التكبُّر فضلَهُ فالكبرُ عيبٌ للفتى ... أبدًا يُقَبِّحِ فِعْلَهُ توفي سنة 612. 240 - يعيش بن ريحان بنِ مالكٍ، البغداديُّ، الفقيهُ، المحدثُ، الزاهدُ. ولد سنة 541، وسمع كثيرًا من الحديث من صدقة، وأبي زرعة الدمشقي، وأبي حامد الغرناطي، وشهدة الكاتبة، وغيرهم. قال المنذري: لنا منه إجازة، وحدَّث، ومن شعره: ظعنَ الذين عهدتُمُ ... ولنظعنَنَّ كما ظعنْ يا غاسلاً لثيابِهِ ... اغسلْ هواك من الدَّرَنْ ما صَحَّ ظاهرُ مبطنٍ ... حتى يُصَحَّحَ ما بَطَنْ ولرَّبما احتلَبَتْ يدا ... كَ دمًا وتحسَبُه لَبَنْ وكان يتوسوس في طهارته وغسل ثيابه كثيرًا، توفي - رحمه الله - سنة 622. 241 - محمد بن أحمد بن صالح الجيلي ثم البغدادي. ولد سنة 564. قرأ القرآن والحديث الكثير بنفسه، وكان طيب النغمة في قراءتهما، مواظبًا على قراءة الحديث، ويفيد الناس إلى آخر عمره. أثنى عليه ابن النجار، وقال: اصطحبنا مدة في طلب الحديث، فما رأيت منه إلا الخير،

242 - عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب، الأنصاري، يعرف بابن الحنبلي

ووصفه ابن نقطة، والمنذري، وابن الساعي وصفًا حسنًا، وقالوا: هو من بيت العدالة والرواية، أجاز للمنذري، توفي سنة 627. 242 - عبد الرحمن بن نجم بنِ عبدِ الوهاب، الأنصاريُّ، يعرف بابن الحنبلي. ولد سنة 554، رحل إلى البلاد، وسمع من الحفاظ، وقدم مصر مرتين، وكان له حرمة عند الملوك، ووقع بينه وبين الشيخ الموفق في السماع اختلاف، فأجاب الموفق بإنكاره، وقال: ما من بدعة من البدع ولا قبيح من القبائح إلا قد سمعها المشايخ من الصوفية، وكتب هو: أن الغناء كالشعر فيه مذموم وممدوح؛ وذكر أحاديث في تغني جويريات الأنصار، وفي الغناء في الأعراس، وأحاديث في الحداء. وقال في اجتماع الرجال والنساء في مجلس: هو محرم إذا كان في غير معروف. فإن كان في صلاة جماعة أو جمعة، أو سماع خطبة أو موعظة، أو التقى في مجلس حكم، فذلك غير منكر، وله تصانيف، منها: كتاب "أسباب الحديث" في مجلدات، وكتاب "الإنجاد في الجهاد". توفي سنة 634. 243 - إسحاق بن أحمد بنِ محمدِ بنِ غانم، العلثيُّ. كان محدثًا فقيهًا عالمًا، زاهدًا، أمارًا بالمعروف، نهاء عن المنكر، لا يخاف أحدًا إلا الله، أنكر على الخليفة الناصر فمن دونه، وواجه الخليفة، وصدعه بالحق، وهو شيخ العراق، والقائم بالإنكار على الفقهاء والفقراء وغيرهم فيما ترخصوا فيه. قال المنذري: قيل: إنه لم يكن في زمانه أكثر إنكارًا للمنكر منه، وحبس على ذلك مدة، وأرسل رسالة إلى ابن الجوزي بالإنكار عليه فيما يقع من كلامه من الميل إلى أهل التأويل، يقول فيها: من فلان إلى فلان، حمانا الله وإياه من الاستكبار عن قبول النصائح، ووفقنا وإياه لاتباع السلف الصالح، وبصرنا بالسنة السنية، ولا حرمنا الاهتداء باللفظات النبوية، وأعاذنا من الابتداع في الشريعة المحمدية، فلا حاجة إلى ذلك، فقد تركنا على بيضاء نقية، وأكمل الله تعالى لنا

الدين، وأغنانا عن آراء المتنطعين، ففي كتاب الله وسنة رسوله مقنعٌ لكل من رغب أو رهب، رزقنا الله الاعتقاد السليم، ولا حرمنا التوفيق، فإذا حُرمه العبد، لم ينفع التعليم، وعرفنا أقدار نفوسنا، وهدانا الصراط المستقيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وفوق كل ذي علم عليم. وبعد حمد الله تعالى، والصلاة على رسوله، فلا يخفى أن الدين النصيحة، على الخصوص للمولى الكريم، والرب الرحيم، فكم قد زل قلم، وعثر قدم، وزلق متكلم، ولا يحيطون به علمًا، قال عز من قائل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِير} [الحج: 8] وأنت يا عبد الرحمن! فما يزال يبلغني عنك، ونشاهد في كتبك المسموعة عليك تذكر كثيرًا ممن كان قبلك من العلماء بالخطأ؛ اعتقادًا منك أنك تصدع بالحق من غير محاباة، ولا بد من الجريان في ميدان النصح، إما لتنتفع إن هداك الله، وإما لتركب حجة الله عليك، ويحذر الناس قولك الفاسد، ولا يغرك كثرة اطلاعك على العلوم، فربَّ مبلَّغٍ أوعى له من سامع، وربَّ حاملِ فقهٍ لأفقه منه، ورب بحر كدرٍ ونهر صاف. فلستَ أعلمَ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له عمر: أتصلَّي على ابن أُبَي؟! فنزل القرآن: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]، ولو كان لا ينكر من قل علمُه على من أكثر علمه، إذًا لتعطَّل الأمر بالمعروف، وصرنا كبني إسرائيل حيث قال الله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] بل ينكر المفضول على الفاضل، وينكر الفاجر على الولي على تقدير معرفة الولي، وإلا فأين العنقا لتطلب؟ وأين السَّمندل ليُجلب؟ ... إلى أن قال: واعلم أنه قد كثر النكير عليك من العلماء الفضلاء، والأخيار في الآفاق بمقالتك الفاسدة في الصفات، وقد أبانوا أوهام مقالتك، وحكوا عنك أنك أبيتَ النصيحة، فعندك من الأقوال التي لا تليق بالسنة ما يضيق الوقت عن ذكرها، فذُكر عنك: أنك ذكرت في الملائكة المقربين الكرام الكاتبين فصلاً - زعمت أنه مواعظ - وهو تشقيق وتفيهق، وتكلف بشيع، خلا أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلام السلف الصالح الذي لا يخالف سنة، فعمدتَ وجعلتها مناظرة معهم، فمن أذن لك في

ذلك، وهم يستغفرون للذين آمنوا، ولا يستكبرون عن عبادة الله، وقد قرن شهادتهم بشهادته قبل أولي العلم، وما كان علينا إن كان الآدمي أفضلَ منهم أم لا، فتلك مسألة أخرى ... إلى أن قال: ثم تعرضت لصفات الخالق تعالى كأنها صدرت لا من صدرِ سكن فيه احتشام العلي العظيم، ولا أملاها قلبٌ مليء بالهيبة والتعظيم، بل من وقعات النفوس المبهرجة الزيوف. وزعمت أن طائفة من أهل السنة والأخبار نقلوها وما فهموها، وحاشاهم من ذلك، بل كفوا عن الثرثرة والتشدق، لا عجزًا - بحمد الله - عن الجدل والخصام، ولا جهلاً بطريق الكلام، إنما أمسكوا عن الخوض في ذلك عن علم ودراية؛ لا عن جهل وعماية، والعجب ممن ينتحل مذهبَ السلف، ويرى الخوض في الكلام، ثم يقدم على تفسير ما لم يره أولاً، ويقول: إذا قلنا كذا، أدى إلى كذا ... إلى أن قال: فكيف يجوز أن تتبع المتكلمين في آرائهم، وتخوض مع الخائضين فيما خاضوا فيه، ولو أن مخلوقًا وصف مخلوقًا مثله بصفات من غير رؤية ولا خبر صادق، لكان كاذبًا في إخباره. فكيف تصفون الله تعالى بشيء ما وقفتم على صحته، بل بالظنون والواقعات؟! ثم لك في الكتاب الذي سميته: "الكشف لمشكل الصحيحين" مقالاتٌ عجيبة تحكيها عن الخطابي وغيره من المتأخرين، أطلع هؤلاء على الغيب، وأنتم تقولون: لا يجوز التقليد في هذا، ثم ذكره فلان ذكرت الكلام المحدث على الحديث، ثم قلت: والذي يقع لي، أفبهذا تقدم على الله - عز وجل -، وتقول: قال علماؤنا؟! ثم ما كفاك حتى قلت: هذا من تحريف بعض الرواة تحكما من غير دليل، وما رويت عن ثقة آخر أنه قال: غيّره الراوي، فلا ينبغي بالرواة العدول أنهم حرفوا، ولو جوزتم لهم الرواية بالمعنى، فهم أقرب إلى الإصابة منكم، وأهل البدع أيضًا كما رويتم حديثًا يتفرقون عنه يقولون: يحتمل أنه من تغيير بعض الرواة، فإذا كان المذكور في الصحيح المنقول من تحريف بعض الرواة، فقولكم ورأيكم في هذا: يحتمل أنه من رأي بعض الغواة. وتقول: قد انزعج الخطابي لهذه الألفاظ، فما الذي أزعجه دون غيره؟ ونراك

تبني شيئًا ثم تنقضه، وتقول: قد قال فلان وفلان، وتنسب ذلك إلى إمامنا أحمد - رضي الله عنه -، ومذهبُه معروف في السكوت عن مثل هذا، ولا يفسره، بل صحح الحديث، ومنع من تأويله، وكثير ممن أخذ عنك العلم إذا رجع إلى بيته، علم بما في عَيْبته من العيب، وذمَّ مقالتك، وأبطلها ... إلى قوله: فاتق الله، ولا تتكلم فيه برأيك، فهذا خبر غيب لا يسمع إلا من الرسول المعصوم، فقد انتصبتم حربًا للأحاديث الصحيحة، والذين نقلوها نقلوا شرائع الإسلام، قال: لقد آذيت عباد الله، وأضللتهم، فصار شغلك نقلَ الأقوال فحسب. وابن عقيل - رحمه الله - قد حكى أنه تاب بمحضر من علماء وقته من مثل هذه الأقوال بمدينة السلام - عمرها الله بالإسلام والسنة -، فهو بريءٌ على هذا التقدير مما يوجد بخطه، أو ينسب إليه من التأويلات والأقوال المخالفة للكتاب والسنة. وأنا وافد الناس والعلماء والحفاظ إليك، فإما أن تنتهي عن هذه المقالات، وتتوب التوبةَ النصوح كما تابَ غيرك، وإلا كشفوا للناس أمرك، وسيروا ذلك في البلاد، وبينوا وجه الأقوال الغثة، وهذا أمر تشوور فيه، وقضي بليل، وَالأرض لا تخلو من قائم لله بحجج، والجرحُ - لا شكَّ - مقدَّم على التعديل، والله على ما نقول وكيل، وقد أعذر من أنذر. قال: وما زال أصحابنا يجهرون بصريح الحق في كل وقت ولو ضُربوا بالسيف، ولا يخافون في الله لومة لائم، ولا يبالغون بشناعة مشنع، وكذب كاذب، ولهم من الاسم العذب الهني، وتركِهم الدنيا، وإعراضِهم عنها اشتغالاً بالآخرة، ما هو معلوم معروف، ولقد سودت وجوهنا بمقالتك الفاسدة، وانفرادك بنفسك كأنك جبار من الجبابرة، ولا كرامة لك ولا نعمة، ولا نمكنك من الجهر بمخالفة السنة، ولو استقبل الرأي ما استدبر، لم يحك عنك في السهل ولا في الجبل، ولكن قدر الله وما شاء فعل، فبيننا وبينك كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، ولم يقل: إلى ابن الجوزي ... إلى أن قال: فانتبه يا مسكين قبلَ الممات، وحسِّن

244 - محمد بن أحمد بن عمر، القطيعي، الأزجي، المؤرخ، المحدث

القولَ والعمل، فقد قرب الأجل، ولله الأمر من قبل ومن بعد. انتهى صفوة ما نقله ابن رجب من كتابه. وللشيخ إسحق أجزاء مجموعة حديثية، وحدَّث، وسمع منه جماعة، وذكر ابن الدبيتي أنه سمع منه، وتوفي سنة 634، أظنه بالعلث - رضي الله عنه -. 244 - محمد بن أحمد بنِ عمرَ، القطيعيُّ، الأزجيُّ، المؤرخُ، المحدثُ. ولد سنة 546. أسمعه والده من أبي الوقت "صحيح البخاري"، وهو آخر من حدث عنه ببغداد كاملاً عنه سماعًا، ثم طلب هو بنفسه، وسمع من جماعة، وقرأ على الشيوخ، وكتب بخطه، ورحل، وسمع بالموصل وبدمشق وبحران، وأخذ عن ابن الجوزي، وقرأ عليه كثيرًا من مروياته. وجمع تاريخًا في نحو خمسة أسفار، ذيل به على تاريخ السمعاني، سماه. "درة الإكليل في تتمة التذييل"، وفيه فوائد جمة مع أوهام وأغلاط، وقد بالغ ابن النجار في الحط على تاريخه - مع أنه أخذ عنه -، ونقل منه في تاريخه أشياء كثيرة، بل نقله كله، ولما عمر المستنصر مدرسته، جعل القطيعيًّ شيخَ دار الحديث بها، وكان ابن النجار بها مفيدًا للطلبة، وهذا من جملة الأسباب التي أوجبت تحاملَه عليه، وقد وصفه غير واحد من الحفاظ وغيرهم بالحافظ، وأثنى عليه عمر بن الحاجب في "تاريخه"، وروى عنه جماعة كثيرون، منهم: الأبرقوهي، والعراقي، قال ابن رجب: قد نقلت عنه في هذا الكتاب - يعني: "طبقاته" - كثيرًا، توفي - رحمه الله تعالى - سنة 634. وفي حديث سلمة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من يقلْ عليَّ ما لم أقلْ، فليتبوأ مقعدَه من النار" رواه ابن رجب بسنده متصلاً عن القطيعي. ومن شعره: أهديتُ قلبي إليكم خُذوه ... وقتلي حرامٌ فلا تقربوهُ وها هو ذا عندَكُم واقفٌ ... يَرومُ الوِصال فلا تحرموهُ ومنه أيضًا: أَفي كلِّ يوم نُقْلَةٌ ورَحيل ... وشوقٌ لقلبي مزعجٌ ومزيلُ

245 - عبد العزيز بن خلف، المقرىء، الناسخ، الخازن، أبو محمد، يلقب: عفيف الدين

245 - عبد العزيز بن خلف، المقرىء، الناسخُ، الخازن، أبو محمد، يلقب: عفيف الدين. ولد سنة 552. قرأ القرآن بالروايات الكثيرة، وقرأ عليه كثير، وسمع الحديث، وقرأ بنفسه الكثير، وكتب الكثير بخطه الحسن لنفسه وللناس، وحصل له بالخليفة الناصر أنس، فلما أفضت إليه الخلافة، ولاه النظرَ في ديوان التركات الحشرية، فسار فيها أحسن سيرة، ورد تركات كثيرة على الناس. أثنى عليه ابن الحنبلي، وابن النجار، وابن الساعي، وابن نقطة، والضياء، ووصفوه بخيرات غزيرة، وحسنات كثيرة من عبادة وعلم وفضيلة. توفي سنة 637، وكان لا يمل من الشفاعة، وقضاء حوائج الناس، حتى لو قيل: إنه لم يبق ببغداد من غني ولا فقير إلا قضى حاجته، لكان حقًا - رحمه الله -. 246 - عمر بن أسعد بن المنجا، التنوخيُّ المقرىء الحرانيُّ. ولد سنة 557. تفقه على والده، وسمع بدمشق، ورحل إلى العراق وخراسان، وأفتى ودرَّس، وولي القضاء بحران، وحدَّث، وروى عنه البرزالي، ووزيرة ابنته، وهي خاتمة من روى عنه بالسماع، وأنه ذكر عن والده: أنه قال: مراد الأصحاب بقولهم: يؤجَّل العنين سنة: السنةَ الشمسية، لا الهلالية؛ لأن الشمسية تجمع الفصول الأربعة التي تختلف فيها الفصول، وتتغير فيها الأمزجة، فيحصل فيها مقصود الاختبار دون الهلالية، قال ابن رجب: وهذا غريب. توفي سنة 641. 247 - إبراهيم بن محمد بنِ الأزهرِ الصريفينيُّ، الفقيهُ، المحدِّثُ، الحافظ، يلقب: تقي الدين. ولد سنة 581. قرأ القرآن، وسمع الحديث. قال عمر بن الحاجب: كان أحدَ حفاظ الحديث، وأحدَ أوعية العلم، إمامًا فاضلاً، دينًا صدوقًا خيرًا، ثبتًا ثقة حجة، واسعَ الرواية، كتب الكثير، وقرأ وأفاد، وكان شيخًا لدار حديث منبج، ثم تركها، واستوطن مدينةَ حلب، وولي بها دارَ الحديث، وكان يحدث بها، ويتكلم على الأحاديث وفقهها ومعانيها،

248 - عبد الله بن محمد بن الوكيل، البغدادي، الحافظ، المحدث

وكان من العارفين بهذا الشأن. قال أبو شامة: كان عالمًا بالحديث، وكان للقاضي ابن شداد له غلو في إعلاء مذهب الشافعي، فرأى في منامه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فسألته: أي المذاهب خير؟ ثم كتم جوابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الناصح: الظاهر أنه أشار إلى مذهب أحمد، ولو كان الجواب: مذهب الشافعي، لأظهره؛ لأنه كان داعية إليه. مال إلى الحنابلة، وأجلس الصريفينيَّ في دار الحديث، وقال: ندمت إذ وسمتُها بالشافعية. توفي سنة 641. 248 - عبد الله بن محمد بن الوكيل، البغداديُّ، الحافظُ، المحدثُ. أحدُ من عُني بالحديث، وسمع الكثير من الرهاوي وغيره. وكان حافظًا مفيدًا مشهورًا بسرعة القراءة وجودتها، جمع وحدَّث وأجاز، له رسالة إلى السامري - صاحب "المستوعب" - ينكر عليه فيها تأويله لبعض الصفات، وقوله: إن الأخبار الآحاد لا تثبتُ بها الصفات. توفي رح سنة 643، ودفن خلف بشر الحافي. 249 - عبد الله بن محمد بنِ أحمدَ بنِ قدامةَ المقدسيّ. ولد سنة 578 بدمشق، وسمع بها من جماعة؛ وببغداد من ابن الجوزي، وحدَّث، أثنى عليه جماعة من الحفاظ والفقهاء، توفي سنة 643. ذكر ابن رجب في ترجمته: أن القاضي نجم الدين قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام - في صورة أخي موسى -، قال: وكان أثر ذلك أن تحول إلى حالة عظيمة في الخير والزهد وترك الدنيا، انتهى. قلت: ورأيت: - أنا - رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة رجل صالح عامل بالحديث، فكان هذا المنام سببَ اشتغالي بعلم الحديث ومحبته - ولله الحمد -، حتى آل الأمر الآن إلى ما آل، والله أعلم بحقيقة الحال. 250 - محمد بن عبد الواحد بنِ أحمدَ، المقدسيُّ، الحافظُ، الكبيرُ، ضياءُ الدين، محدِّثُ عصره، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكرها، والاسهاب في أمره. ولد سنة 569، سمع ببغداد الكثير من ابن الجوزي وطبقته، ورحل مرتين

إلى أصبهان، وسمع بها ما لا يوصف كثرة؛ وكتب بخطه الكثير من الكتب الكبار وغيرها، ويقال: إنه كتب [عن] أزيدَ من خمس مئة شيخ، وحصَّل أصولاً كثيرة، وأقام بهراةَ ومرو مدةً، وله إجازة من السِّلفي. قال ابن النجار: كتبتُ عنه، وهو حافظ متقن ثبت ثقة صدوق، نبيل حجة، عالم بالحديث وأحوال الرجال، له مجموعات وتخريجات، وهو محتاط في أكل الحلال، مجاهد في سبيل الله، ولَعمري! ما رأت عيناي مثله. أثنى عليه جمع جم من الحفاظ، منهم: عمر بن الحاجب، قال: رأيت جماعة من المحدثين ذكروه، فأطنبوا في حقه، ومدحوه بالحفظ والزهد، ومنهم: البرزالي، وابن النابلسي، والصريفيني. ونقل الذهبي عن المزي: أنه قال: كان أعلم بالحديث والرجال من الحافظ عبد الغني، ولم يكن في وقته مثله. وقال الذهبي: الإمامُ العالمُ الحافظُ، محدث الشام، شيخ السنة، ضياءُ الدين، صنف وصحَّح، ولَيَّنَ ورجَّح وعدَّل، وكان الرجوع إليه في هذا الشأن. وقال الشريف أبو العباس: كان أحدَ أئمة هذا الشأن، عارفًا بالرجال وأحوالهم، والحديث صحيحِه وسقيمِه، انتهى. بنى مدرسة للمحدِّثين، والغرباء الواردين مع الفقر والقلة، ويعمل فيها بنفسه، ولم يقبل من أحد فيها شيئًا، ومناقبه أكثر من أن تحصر. ومن مؤلفاته: كتاب "الأحاديث المختارة". قال ابن رجب: وهي الأحاديث التي يصلح أن يحتج بها سوى ما في "الصحيحين"، خرجها من مسموعاته، كتب منها تسعين جزءًا ولم تكمل. قال بعض الأئمة: هي خير من "صحيح الحاكم"، وله كتاب "مناقب أصحاب الحديث" أربعة أجزاء، وأطراف الموضوعات لابن الجوزي، وجزء في الاستدراك على الحافظ عبد الغني، وجزء "الأمر باتباع السنن واجتناب البدع"، إلى غير ذلك مما لا يحصى، توفي - رحمه الله - سنة 643، ودفن بسفح قاسيون.

251 - أحمد بن عيسى بن عبد الله بن قدامة المقدسي، المحدث، الحافظ، سيف الدين بن شيخ الإسلام موفق الدين

251 - أحمد بن عيسى بنِ عبدِ الله بنِ قدامةَ المقدسي، المحدثُ، الحافظُ، سيفُ الدين بنِ شيخ الإسلام موفق الدين. ولد سنة 605. سمع من جده الكثير، وكتب بخطه الكثير؛ وخرَّج وألف وحدَّث، وكتب العالي والنازل وجمع وصنف. قال الذهبي: كان ثقة حافظًا ذكيًا متيقظًا، مليحَ الخط، عارفًا بهذا الشأن، عالمًا بالأثر، صاحبَ عبادة وإنابة، قوالاً بالحق، ولو طال عمره، لساد أهلَ زمانه علمًا وعملاً، ومحاسنُه جَمَّة، له مصنفات حسنة، توفي سنة 643، وله ثمان وثلاثون سنة، رح. 252 - أحمد بن سلامة الحرانيُّ، المحدثُ، الزاهدُ، الصالحُ، القدوةُ. سمع الكثير، وكتب بخطه الأجزاء والطبقات، وصحب الحافظ عبد الغني، والحافظ الرهاوي، والشيخ موفق الدين المقدسي، وسمع منهم، وحدَّث، وسمع منه جماعة. قال ابن حمدان: سمعت عليه كثيرًا، وكان من دعاة أهل السنة وولاتهم بصدر منشرح وقلب طيب، توفي - رحمه الله - بحران سنة 646. 253 - يوسف بن خليل بن قراجا، الدمشقيُّ، المحدث، الحافظ، ذو الرحمة الواسعة، أبو الحجاج الأرميُّ. ولد سنة 555 بدمشق، وتشاغل بالكسب إلى الثلاثين من عمره، ثم طلب الحديث، وتخرج بالحافظ عبد الغني، واستفرغ فيه وُسعْهَ، وكتب ما لا يوصف بخطه المليح المتقن، ورحل إلى الأقطار، وسمع ببغداد. وكان إمامًا حافظًا ثقة، ثبتًا متقنًا عالمًا؛ واسعَ الرواية، جميلَ السيرة، متسعَ الرحلة، تفرد في وقته بأشياء كثيرة، وخرج، وسمع لنفسه معجمًا عن أزيدَ من خمس مئة شيخ، واستوطن آخر عمره بحلب، وصار حافظَها، والمشارَ إليه بعلم الحديث بها، حدَّث بالكثير. قال الذهبي: يدخل في شرط الصحيح، روى عنه

254 - عبد اللطيف بن علي بن النفيس، المحدث، المعدل، ويلقب: نور الدين

الدمياطي، والعراقي، والآمدي، وآخر من روى عنه إجازة زينبُ بنتُ الكمال، توفي سنة 648 - رحمه الله -. 254 - عبد اللطيف بن علي بنِ النفيس، المحدثُ، المعدلُ، ويلقب: نور الدين. ولد سنة 589، وسمع من أبيه، وأجاز له ذاكر بن كامل، وعني بهذا الشأن، وقرأ الكتب، وكتب الكثير بخطه، وامتُحن بقراءته شيئًا من أحاديث الصفات، وسعى به بعض المتجهمة، وحبس مدة، ثم أفرج عنه. توفي سنة 649، وكان له جمع عظيم، وشُدَّ تابوتُه بالحبال، وأكثرَ العوام الصياح في الجنازة، قال ابن رجب: هذه غايات الصالحين. قال ابن الساعي: ولم أر ممن كان على قاعدته فعلَ في جنازته مثلَ ذلك؛ فإنه كان كهلاً يتصرف في أعمال السلطان، ويركب الخيل، ويحلي فرسه بالفضة على عادة أعيان المتصرفين. قال ابن رجب: قلت: حصل له ذلك ببركة السنة. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: بيننا وبينهم الجنائز. 255 - عبد السلام بن عبد الله بنِ القاسمِ بنِ الخضرِ بنِ محمدِ بنِ عليِّ ابن تيمية الحراني، الفقيهُ، الإمامُ، المقرىءُ، المحدثُ، المفسرُ، الأصوليُّ، النحويُّ، مجدُ الدين، أبو البركات، شيخُ الإسلام، وفقيهُ الوقت، وأحدُ الأعلام، ابنُ أخي الشيخ فخرِ الدينِ محمد بنِ أبي القاسم السابقِ ذكرُه. ولد سنة 590 تقريبًا بحران، وحفظ بها القرآن، وسمع من عمه المذكور، والحافظ عبد القادر الرهاوي، وحنبل الرصافي، ثم ارتحل إلى بغداد مع ابن عمه سيف الدين عبد الغني، فسمع بها من ابن سكينة، والحافظ ابن الأخضر، وابن طَبَرْزَد، وغيرهم، وأتقن العربية والحساب، والجبر والمقابلة والفرائض على أبي البقاء العكبري، وبرع في هذه العلوم وغيرها. قال الذهبي: كان الشيخ جمال الدين بنُ مالك يقول: أُلين للشيخ المجد الفقهُ كما أُلين لداودَ، الحديد. ولما حجَّ من بغداد في آخر عمره، اجتمع به العلامة ابن الجوزي، فابتهر له، وقال: هذا الرجل ما عندنا ببغداد مثلُه. أثنى عليه ابن حمدان، وقد سمع عليه.

قال عز الدين الشريف: حدث المجد بالحجاز والعراق والشام، وبلده حران، وصنَّف ودرَّس، وكان من أعيان العلماء، وأكابر الفضلاء ببلده، وبيتُه مشهور بالعلم والدين والحديث، وكان عجبًا في حفظ الأحاديث وسردِها، وحفظِ مذاهبِ الناس بلا كلفة. حكى البرهان المراغي: أنه اجتمع به، فأورد نكتة عليه، فقال المجد: الجواب عليها من ستين وجهًا: الأول كذا، والثاني كذا، وسردها إلى آخرها، ثم قال للبرهان: قد رضينا منك بإعادة الأجوبة، فخضع وابتهر. قال الذهبي: كان معدومَ النظير في زمانه، رأسًا في الفقه وأصوله، بارعًا في الحديث ومعانيه، له اليدُ الطولى في معرفة القرآن والتفسير، صنف التصانيف، واشتهر اسمه، وبعد صيته، فكان فرد زمانه في معرفة المذهب، مفرط الذكاء، متين الديانة، كبير الشأن. وقال عبد الرحمن بن عبد الحليم: كان المجد إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأ هذا الكتاب وارفعْ صوتك حتى أسمعَ. قال ابن القيم: يشير بذلك إلى قوة حرصه على العلم وحفظه لأوقاته. وللصرصري قصيدة في مدح الإمام أحمد وأصحابه، أثنى فيها عليه كثيرًا، وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني في "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار": هو الشيخ الإمام، علامة عصره، المجتهد المطلق، المعروف بابن تيمية، سمع من جماعة، وتفقه وبرع، واشتغل وصنف، وانتهت إليه الإمامة في الفقه، ودرس القراءات، وابتهر علماء بغداد لذكائه وفضائله، والتمس منه أستاذ دار الخلافة محيي الدين بن الجوزي الإقامة عندهم، فتعلل بالأهل والوطن، وصنف مع الدين والتقوى وحسن الاتباع، قال: وقد يلتبس على من لا معرفة له بأحوال الناس صاحب الترجمة هذا بحفيده شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم - شيخ ابن القيم - الذي له المقالات التي طال بينه وبين أهل عصره فيها الخصام، وأُخرج من مصر بسببها، وليس الأمر كذلك. قال في "تذكرة الحفاظ" في ترجمة شيخ الإسلام: هو أحمد بن المفتي عبد الحليم بن الشيخ الإمام المجتهد عبد السلام الحراني، انتهى. قال ابن رجب: ومن تصانيفه: المنتقى في أحاديث الأحكام"، وهو الكتاب المشهور، انتقاه من "الأحكام الكبرى" له في عدة مجلدات، ويقال: إن

256 - محمد بن أحمد بن أحمد، الموصلي، المقرىء، الفقيه، الأديب، يعرف بشعلة

القاضي بهاء الدين بن شداد هو الذي طلب ذلك منه بحلب، انتهى. قلت: وله شرح من شيخنا الشوكاني سماه "نيل الأوطار في شرح منتقى الأخبار"، أجاد فيه وأفاد، وأتى بما لم يأت به العلماء الأفراد. قال ابن رجب: قرأ على الشيخ مجد الدين القرآنَ جماعةٌ، وسمع منه خلق، وروى عنه ابنُه شهاب الدين، والحافظ عبد المؤمن الدمياطي، وابن الظاهري، ومحمد بن أحمد القزاز، وأحمد الدستي، وإسحق الآمدي، وغيرهم. وأجاز لابن حمزة الحاكم، ولزينب بنت الكمال، وأحمد بن علي الجزري - وهما خاتمة من روى عنه - وقد أجازا لي. وتوفي يوم عيد الفطر بعد صلاة الجمعة سنة 652 بحران. وقال شيخ الإسلام بن تيمية: سنة 653، ولم يبق في البلد من لم يشهد جنازته إلا معذور، وكان الخلق كثيرًا جدًا. وكان أحيانًا يفتي "أن الطلاق الثلاث المجموعة إنما يقع منها واحدة فقط"، وأنه كان يفتي بذلك سرًا، ولما حجَّ في آخر عمره، كان يفتي: أن المحرم لهُ لبسُ سرموجه ونحوها من الجمجم والخف المقطوع، وإن كان واجدًا للنعل، وهو وجه، حكاه القاضي في "شرح المذهب". وكان يقول: إذا حلف بالالتزامات؛ كالكفر واليمين بالحج والصيام ونحو ذلك، وكانت يمينه غموسًا: أنه يلزمه ما حلف عليه. وسئل عن ابن السبيل، إذا كان يقدر على القرض، يجوز له أن يأخذ من الزكاة؟ فقال: يلزمه أن يقترض إن قدر على ذلك، ولا يجوز له الأخذو ولا تبرأ ذمة من يعطيه إذا علم بقدرته على القرض، خلافًا لابن أخيه الشيخ عبد الرحمن. 256 - محمد بن أحمد بن أحمد، الموصليُّ، المقرىء، الفقيهُ، الأديب، يعرف بشعلة. قرأ القرآن والعربية، وبرع في الأدب والقراءات، ونظم الشعر الحسن. كان المفضالي يصف شمائله وفضائله، ويثني عليه، وقال: كان هو نائمًا،

فاستيقظ، فقال لي: رأيت الساعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطلبت منه العلم، فأطعمني تمرات، قال: ومن ذلك الوقت فتح الله عليه، وتكلم، له كتاب "الناسخ والمنسوخ"، وكلامه فيه يدل على تحقيقه وعلمه ومن نظمه قوله: دَعْ عنكَ ذكرَ فلانةٍ وفُلانِ ... واجتنبْ ما يُلهي عن الرحمانِ واعلمْ بأنَّ الموتَ يأتي بغتةً ... وجميعُ ما فوق البسيطةِ فانِ فإلى متى تلهو وقلبُك غافلٌ ... عن ذكرِ يومِ الحشرِ والميزانِ أتراك لم تكُ سامعًا ما قد أتى ... في النصِّ للآياتِ والقرآنِ فانظرْ بعينِ الإعتبارِ ولا تكنْ ... ذا غفلةٍ من طاعةِ الدَّيَّانِ واقصدْ لمذهبِ أحمدِ بنِ محمدٍ ... أعني: ابنَ حنبلٍ الفتى الشيباني فهو الإمامُ مقيمُ دينِ المصطفى ... من بعدِ درسِ معالم الإيمانِ أَحيا الهدى وأقام في إحيائه ... متجردًا للضرب غيرَ جبانِ كنْ حنبليًا ما حييتَ، فإنني ... أُوصيك خيرَ وصيةِ الإخوانِ ولقد نصحتُكَ إن قبلتَ، فأحمدٌ ... زينُ التقاة وسيدُ الفِتيانِ من ذا أقامَ كما أقامَ إمامُنا ... متجردًا من غيرِ ما أَعْوان مستعذِبًا للمُرِّ في نصرِ الهُدى ... متجرِّعًا لِمَضاضَةِ السلطانِ وسَخا بمهجتهِ وبايعَ ربَّهُ ... أَن لا يطيعَ أئمَّةَ العُدوانِ فعلى ابنِ حنبل السلامُ وصحبِه ... ما ناحَتِ الوَرْقاء في الأغصانِ إني لأرجو أن أفوزَ بحبِّه ... وأنالَ في بعثي رِضا الرَّحمنِ حَمدًا لربي إذْ هداني دينَه ... وعلى شريعةِ أحمدٍ أنشاني واختارَ مذهبَ أحمدٍ في مذهَبًا ... ومن الهوى والغَيِّ قد نجاني من ذا يقومُ من العبادِ بشكرِ ما ... أوَلاه سيدُه من الإِحسانِ توفي سنة 656، وله ثلاث وثلاثون سنة، قال ابن رجب: وقرأت على بعض شيوخنا ببغداد: أنه توفي سنة 650 الهجرية.

257 - يوسف بن عبد الرحمن بن محمد بن علي، القرشي، التيمي، البكري، البغدادي، الأصولي، الواعظ، الشهيد، محيي الدين، أبو محمد بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي - المتقدم ذكره - أستاذ دار الخلافة المستعصمية

257 - يوسف بن عبد الرحمن بنِ محمدِ بنِ عليٍّ، القرشيُّ، التيميُّ، البكريُّ، البغداديُّ، الأصوليُّ، الواعظُ، الشهيدُ، محيي الدين، أبو محمد بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي - المتقدمِ ذكرُه - أستاذ دار الخلافة المستعصمية. ولد في سنة 580 ببغداد، وسمع بها من أبيه، وقرأ القرآن، ولبس الخرقة من الشيخ ضياء الدين بن سكينة، واشتغل بالفقه، والخلاف، والأصول، وبرع في ذلك، وكان أمهر فيه من أبيه، ووعظ في صغره على قاعدة أبيه، وعلى أمره، وعظم شأنه، وولي الولايات الجليلة، ثم انقطع في داره يعظ ويفتي ويدرس، وهو من العلماء الأفاضل، والكبراء الأماثل، أحد أعلام العلم، ومشاهير الفضل، ظهرت عليه آثار العناية الإلهية مذ كان طفلاً، فعني به والده، وأسمعه الحديث، ودربه من صغره في الوعظ، وبورك له في ذلك، وصار له قبول تام، وبانت عليه آثار السعادة. وتوفي والده وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة، وأنشأ مدرسة، ولم يزل كذلك إلى أن قتل صبرًا شهيدًا بسيف الكفار عند دخول هلاكو ملك التتار إلى بغداد، فقتل الخليفة المستعصم وأكثر أولاده، وقتل معه أعيان الدولة والأمراء، وشيخ الشيوخ، وأكابر العلماء، وقتل أستاذ الدار محيي الدين، وكان المستنصر له شباك على إيوان الحنابلة يسمع الدرس منهم - دون غيرهم -، وأثره باق، حدث ببغداد ومصر وغيرهما من البلاد. قال الذهبي: كل أحد يعوز زيادة عقل، إلا محيي الدين بن الجوزي؛ فإنه يعوز نقص عقل؛ ويحكي في هذا عجائب، منها: أنه مر في سويقة باب البريد، والناس بين يديه، وهو راكب البغلة؛ فسقط حانوت، فضج الناس، وصاحوا، وسقطت خشبة فأصابت كفل بغلته، فلم يلتفت، ولا تغير عن هيئته. وحكى أنه كان يناظر ولا يحرك له جارحة، وكانت خاتمة سعادته الشهادة، روي عن الشيخ محمد بن سكران الزاهد: أنه قال: رأيت أستاذ الدار ابن الجوزي في النوم، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: كَفَّرت ذنوبَنا سيوفُهم. له تصانيف عدة، منها: "معادن الإبريز في تفسير الكتاب العزيز"، ومنها: "المذهب الأحمد في مذهب

258 - يحيى بن يوسف بن يحيى، الأنصاري، الصرصري، الضرير، الفقيه، الأديب، اللغوي، الشاعر الزاهد

أحمد". سمع منه خلق ببغداد ودمشق ومصر، وروى عنه ابن أبي الجيش، والحافظ الدمياطي، وابن الظاهري، وابن القوطي، وبالإجازةِ خلقٌ - آخرهم زينب بنة الكمال المقدسي. ومن نظمه: صَبٌّ له من أجفانه آماقِه غَرَقُ ... وفي حُشاشَتِه من وَجْدِه حُرَقُ فأعجبْ لِضدَّينِ في حالٍ قد اجتمعا ... غريقُ دمعٍ بنارِ الوجدِ يحترقُ لم أنسَ عيشًا على سَلْعٍ ولعلعِها ... والبانُ مفترقٌ وَجْدًا ومُعتَنِقُ ونفحةُ الشِّيحِ تأتينا بعَنْبَرِهِ ... وعَرْفها بمغاني المُنْحَنَى عَبِقُ والقلبُ طيرٌ له الأشواقُ أجنحةٌ ... إلى الحَبيب رياحَ الحبِّ تخترقُ قلْ للحِمى باللِّوَى واعن الحلولَ بها ... ما ضَرَّهم بجريحِ القلبِ لو رفقوا وقد بقي رَمَقٌ منهُ فإِنْ هجَروا ... مَضى كما ليسَ يبقى ذلكَ الرَّمَقُ وقد قُتل وقد جاوز خمسين سنة، وسمع منه الشرفُ المنذري، وأجاز للعلامة ابنِ حمدان الحراني، ولسليمان بن حمزة القاضي. ومن شعره في مدحه - صلى الله عليه وسلم -: فَضَلَ النَّبِيَّينَ الرسولُ محمدٌ ... شَرَفًا يزيدُ وزادَهم تَعْظيما يكفيه أَن الله جَلَّ جَلالُه ... آوى فقالَ {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} دُرٌّ يتيمٌ في الفَخار، وإنما ... خيرُ اللاَّلي، أن يكون يَتيما ولقد سما الرسلَ الكرامَ فكلُّهم ... قَدْ سلَّموا لجلالِه تسليما واللهُ قد صلَّى عليه كرامةً ... صَلُّوا عليه وسَلَّموا تَسليما 258 - يحيى بن يوسف بنِ يحيى، الأنصاريُّ، الصرصريُّ، الضريرُ، الفقيهُ، الأديب، اللغويُّ، الشاعرُ الزاهد. صاحبُ الديوان السائر في الناس في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان حسان وقته، ولد سنة 588. قرأ القرآن بالروايات على أصحاب ابن عساكر البطائحي، وسمع الحديث من الشيخ علي بن إدريس اليعقوبي، صاحبَ الشيخَ عبد القادر، وصحبه، تسلك به، ولبس منه الخرقة، وأجاز له الشيخ عبد المغيث الحربي وغيره، وحفظ الفقه

259 - عبد الرحمن بن عبد المنعم، النابلسي، الفقيه، المحدث، جمال الدين أبو الفرج

واللغة، ويقال: إنه كان يحفظ "صحاح الجوهري" بكمالها، وكان يتوقد ذكاء، ونظمه في الغاية؛ ويقال: إن مدائحه في النبي - صلى الله عليه وسلم - تبلغ عشرين مجلدًا. وكان شديدًا في السنة، متحرفًا على المخالفين لها، وشعره مملوء بذكر أصول السنة، ومدح أهلها، وذم مخالفها، وكان قد رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في منامه، وبشره بالموت على السنة، ونظم في ذلك قصيدة طويلة معروفة، وحدَّث، وسمع منه الحافظ الدمياطي، وذكره في "معجمه"، وقتل شهيدًا - رضي الله عنه - في سنة 656. 259 - عبد الرحمن بن عبد المنعم، النابلسيُّ، الفقيهُ، المحدثُ، جمال الدين أبو الفرج. ولد يوم عاشوراء سنة 594، وسمع بالقدس من ابن البناء، وحدث بنابلس. توفي سنة 656. ومن نظمه: يا طالبًا! علمَ خيرِ العلم مجتهدا ... علمُ الحديثِ يحوزُ اليمنَ والرشدا ما في العلوم له مِثْلٌ يماثِلُه ... فاطلبْه مقتصِدًا تَسُدْ به أبدًا فالفقُه يبنى عليه حيث كان إذ الـ ... أحكامُ مأخذُها منه إذا وُجِدا وكيف لا! وهو لولاه لما اتضحت ... سُبْلُ الرشادِ ولا بانَ الزمان هُدى وأهلُه خيرُ أهل العلمِ قاطبةً ... فكن محبًا لهم كيما تفوز غدا ترى سِواهُمْ إذا جاءَ الحديثُ لِما ... قالوه متبعًا ما يبسطنّ يَدا أو كانَ مِمَّن تراهم راجعينَ إلى ... أقوالِهم وكذا إن أسندوا سندا لولاهُمُ زادَ قومٌ في الشريعةِ ما ... شاؤوا ولكن حَمَوها كونهم أُسُدا هل يستوي مَنْ نأى عن أرضِه طلبًا ... له، وآخر عن تحصيلِه قَعَدا ومن ضرورةِ تفضيلِ الحديثِ على ... سِواه أن لا يرى شِبْهًا لهم أحدا شانيهمُ لا لقيتَ الدهرَ محمدةً ... ولا وُقيتَ مصابًا لا ولا فَنَدا 260 - عبد الله بن أحمد بنِ أبي بكر، السعديُّ، المقدسيُّ، الصالحيُّ، المحدِّثُ، الرحَّالُ، الحافظُ. سمع بدمشق، ورحل إلى بغداد، وعُني بالحديث أتمَّ عناية، وأكثرَ السماع والكتابة، وحدَّث، توفي سنة 658 وله أربعون سنة.

261 - محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال اليونيني

261 - محمد بن أحمد بنِ عبدِ الله بنِ عيسى بنِ أبي الرجال اليونيني. أحدُ الأعلام وشيوخ الإسلام، ولد سنة 572، ونشأ يتيمًا بدمشق. وحفظ القرآن، وسمع الحديث عن الحافظ عبد الغني، وبرع في الحفظ، ولبس خرقة التصوف عن البطائحي صاحب الشيخ عبد القادر الجيلاني، وبرع في الحديث، وحفظ فيه الكتب الكبار حفظًا متقنًا؛ كـ "الجمع بين الصحيحين" للحميدي، و"صحيح مسلم" و"مسند الإمام أحمد"، ذكره ابنُ الحاجب، فأطنب في وصفه وأسهب، وقال: اشتغل بالفقه والحديث إلى أن صار إمامًا حافظًا ... إلى أن قال: ولم يُر في زمانه مثلُ نفسه في كماله وبراعته، وجمع بين علمي الشريعة والحقيقة، وأثنى عليه الحافظ عز الدين، قال: وكان يحفظ كثيرًا من الأحاديث النبوية، مشهورًا بذلك، انتهى. وكان حريصًا على سماع الحديث وقراءته، على علو سنه وعظم شأنه، وكان ذا أحوال وكرامات، وأوراد وعبادات، لا يُخِلُّ بها، ولا يؤخرها عن وقتها لورود أحد عليه، ولو كان من الملوك. وكان لا يرى إظهار الكرامات، ويقول: كما أوجب الله على الأنبياء إظهار المعجزات، أوجب على الأولياء إخفاءَ الكرامات. توفي - رحمه الله - سنة 658 ببعلبك. 262 - عبد الرحمن بن سالم بنِ يحيى، الأنباريُّ، الدمشقيُّ، الفقيهُ. سمع من أبي اليمن الكندي، والحافظ الرهاوي، قال: كان يصلي بالمتأخرين صلاة الصبح بالجامع، ويُطيل بهم إطالة مفرطة خارجة عن المعتاد بكثير إلى أن تكاد تطلع الشمس، وهو في تطويله لا يتركه كل يوم. قال ابن رجب: تفقه وبرع، وأفتى ودرَّس وحدَّث، وسمع منه جماعة. توفي - رحمه الله - سنة 661.

263 - أحمد بن عبد الدائم بن أحمد، المقدسي، ثم الصالحي، الكاتب، المحدث، المعمر، الخطيب

263 - أحمد بن عبد الدائم بنِ أحمدَ، المقدسيُّ، ثم الصالحيُّ، الكاتبُ، المحدِّث، المعمَّرُ، الخطيبُ. ولد سنة 575، وسمع الكثير بدمشق، ودخل بغداد، وسمع بها من أبي الفرج، وقرأ بنفسه، وعني بالحديث، وخرج النفسه مشيخة؛ وجمع تاريخًا لنفسه، وله نظم، وكان يكتب خطًا حسنًا، ويكتب سريعًا ما لا يوصف كثرة لنفسه وبالأجرة، حتى كان يكتب في اليوم إذا تفرغ تسع كراريس فأكثر، ويكتب مع اشتغاله بمصالحه الكراسين والثلاثة، وذكر أنه كتب بيده ألفي مجلدة، فإنه لازم الكتابة أزيدَ من خمسين سنة، حدَّث بالكثير، وانتهى إليه علو الإسناد، وكانت الرحلة إليه من أقطار البلاد، روى عنه الأئمة الكبار، والحفاظ المتقدمون والمتأخرون، منهم: النووي، وابن دقيق العيد، وتقي الدين بن تيمية، وخلق كثير، وتوفي سنة 668. ورآه رجل ليلة موته في المنام كأن الناس في الجامع، وإذا ضجة، فسأل عنها، فقيل: مات هذه الليلة مالك بن أنس. 264 - يوسف بن علي بنِ البقال، البغداديُّ الصوفيُّ، أبو الحجاج. كان صالحًا عالمًا ورعًا زاهدًا، له تصانيف في السلوك، حكي عنه: أنه قال: كنت بمصر زمن وقعة بغداد، فبلغني أمرُها، فأنكرته بقلبي، وقلت: يا رب! كيف هذا وفيهم أطفال، ومن لا ذنب له؟! فرأيت في المنام رجلًا وفي يده كتاب، فأخذته، فإذا فيه: دعِ الإعتراضَ، فما الأمرُ لك ... ولا الحكمُ في حركات الفلك توفي سنة 668، وقيل: سنة 666، والله أعلم. 265 - محمد بن عبد المنعم بنِ عمار، الحرانيُّ، المحدثُ، الرحالُ. ولد سنة 603، وسمع ببغداد من القطيعي، قال الشريف عز الدين: كتب بخطه، وطلب بنفسه، وحدَّث، ولي منه إجازة، وقال الذهبي: عُني بالحديث عناية كلية، وكتب الكثير، وتعب وحصَّل، وأَسمع الحديث، وتألف الناس على

266 - علي بن محمد بن محمد بن وضاح، الشهرباني، الفقيه المحدث النحوي، الزاهد، الكاتب

روايته، ولديه فضيلة ومذاكرة جيدة. ووصفه الدمياطي بالإمام الحافظ، وسمع منه جماعة من الأكابر. توفي سنة 671. 266 - علي بن محمد بنِ محمدِ بنِ وضاحٍ، الشهربانيُّ، الفقيهُ المحدثُ النَّحْوِيُّ، الزاهُد، الكاتبُ. ولد في رجب سنة 591 في شهربان، سمع بها "صحيح مسلم". روى عنه ابن الجوزي، وعُني بالحديث، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه، وسمع الكتب الكبار، وتفقه، وبرع في العربية، وشارك في فنون من العلم، وصحب الصالحين، ولبس خرقة الصوفية، وهو أحد المُكْثِرين في الرواية، وخرَّجَ وصنَّف. ومن مصنفاته: كتاب: "الدليل الواضح في اقتفاء نهج السلف الصالح"، وكتاب "الرد على أهل الإلحاد"، وله إجازات من جماعة كثيرين، منهم: ابن قدامة، وله جزء في "مدح العلماء"، و"ذم الغناء"، و"الفرق بين أحوال الصالحين وأحوال المباحية أكَلة الدنيا والدين"، وله جزء في أن "الإيمان يزيد وينقص"، كتبه جوابًا عن سؤال فيمن حلف بالطلاق، على نفي ذلك، فأفتى بوقوع طلاقه، وبسط الكلام على المسألة، وذلك في زمن المستعصم، وقد أوذي بسبب ذلك هو والمحدثُ عبد العزيز القحيطي؛ فإنه وافق على هذا الجواب، وأخرج الشيخ من المدرسة التي كان مقيمًا بها، وأخرج القحيطي من بغداد. قال ابن رجب: وبذلك تحقق إيمانُهما وكونُهما - إن شاء الله تعالى - خلفاءَ الرسل في وقتهما، وحدَّث الشيخ بالكثير، وسمع منه خلق، وروى عنه الحافظ الدمياطي في "معجمه"، وأبو الثناء. توفي سنة 672 وقال الذهبي سنة 671، وأبعد من ذلك ما قاله الدمياطي سنة 673 أو سنة 674 - وهذا قاله بالظن والتقريب؛ لبعد البلاد، وعدم من يراجعه في تحقيق ذلك. قال شيخنا صفي الدين: وكانت جنازته إحدى الجنائز المشهودة، واجتمع لها عالم لا يحصى، وغلقت الأسواق يومئذ، وشُدَّ تابوته بالحبال، وحمله الناس على أيديهم ودفن بحضرة قبر الإمام أحمد بن حنبل مقابلَ رجليه - رحمه الله -.

267 - علي بن عثمان بن عبد القادر، الوجوهي، المقرىء، الصوفي، الزاهد

267 - علي بن عثمان بنِ عبدِ القادر، الوجوهيُّ، المقرىء، الصوفيُّ، الزاهدُ. ولد سنة 582، قرأ القرآن، وسمع الحديث، روى عنه الناس، توفي سنة 672، رآه رجل عالم في النوم بعد موته، فقال: ما فعل الله بك؟ قال: نزلا عليَّ، فأجلساني، وسألاني، فقلت: لمثل ابن الوجوهي يقال ذلك؟! فأضجعاني، ومضيا - رحمه الله تعالى -. 268 - عبد الصمد بن أحمد بنِ عبدِ القادرِ، القطفتيُّ، المقرىءُ، المحدثُ، النحويُّ، اللغويُّ؛ الخطيبُ، الواعظُ، الزاهدُ؛ شيخُ بغداد وخطيبُها. ولد سنة 593، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث، وقرأ بنفسه على الشيوخ، وجمع أسماء شيوخه بالسماع والإجازة، فكانوا فوق خمس مئة وخمسين شيخًا، وبعضهم بالإجازة العامة، وكثير منهم بالإجازة الخاصة من غير سماع. قال الشيخ صفي الدين: شيخ بغداد كلها، إليه انتهت رئاسة القراءة والحديث بها؛ وكان من العلماء العاملين، والأئمة الموصوفين بالعلم والفضل والزهد. صنف الخطبَ التي انفرد بفنها وأسلوبها وما فيها من الصنعة والفصاحة، وجمع منها شيئًا كثيرًا؛ ذهبت في واقعة بغداد مع كتب له أُخر بخطه وأصوله، حتى كان يقول: في قلبي حسرتان: ولدي، وكتبي، وكان ولده أحمد فاضلاً، حسنَ السمت، حسنَ الصورة، حسنَ القراءة، حدَّث بالكثير، وسمع منه خلائق، وكان شيوخ بغداد يقرؤون عليه كتب الحديث، حكى عنه ابن النجار في تاريخه، توفي سنة 676. 269 - يحيى بن أبي منصور بنِ أبي الفتح، الحيرانيُّ الصيرفيُّ، يعرف بابن الجيشي. نزيلُ دمشق، ولد سنة 583، وسمع بها من الرهاوي، والخطيب فخر الدين، ورحل إلى بغداد، وسمع بها، وأخذ العربية عن أبي البقاء، وكتب الكثير

270 - عبد الساتر بن عبد الحميد بن محمد، المقدسي

بخطه، وجمع، وصنف، وعلق فوائد وغرائب حسنة، وأفتى وناظر ودرس. وله مناقب جمة، منها: قيام الليل في معظم عمره، كان يقوم في وقت يعجز الشاب عن ملازمته، وهو جوف الليل، ومنها: التعصب في السنة، والمغالاة فيها، وقمع أهل البدعة، ومجانبتهم ومنابذتهم، ومنها: قول الحق، وإنكار المنكر على من كان، ولم يكن عنده من المداهنة والمراءاة شيء أصلاً، يقول الحق ويصدع به، حدَّث بجامع الترمذي وأشياء كثيرة. توفي سنة 678، قال اليونيني: كانت جنازته حافلة مشهودة جدًا. 270 - عبد الساتر بنِ عبد الحميد بنِ محمدٍ، المقدسيُّ. سمع وتفقه ومهر في المذهب، وعُني بالسنة، وجمع منها، وناظر الخصوم وكفرهم، وكان صاحب حرقة وتحرق على الأشعرية، فرموه بالتجسيم. قال الذهبي: رأيت له مصنفات في الصفات، فلم أر به باسًا، وفيه شراسة أخلاق مع صلاح ودين يابس. توفي سنة 679 عن نيف وسبعين سنة. 271 - عبد الرحمن بن محمد بنِ أحمدَ بنِ محمدِ بنِ قدامةَ، المقدسيُّ، الجماعيليُّ، الإمامُ، الزاهدُ، الخطيبُ، قاضي القضاة، شيخُ الإسلام. ولد سنة 597. سمع من أبيه وعمه موفقِ الدين، وجماعة، وأجاز له الصيدلاني، وابن الجوزي، وجماعة؛ ثم سمع بنفسه من أصحاب السلفي، وقرأ للناس على ابن الزبيدي وجماعة، وعني بالحديث. وعرض على عمه كتاب "المقنع (¬1) "، وشرح عليه، وأذن له في إقرائه. درَّس وأفتى، وأقرأ العلم زمانًا طويلاً، وانتفع به الناس، وانتهت إليه رئاسة العلم في زمانه، وكان معظمًا عند الخاص والعام، عظيمَ الهيبة عند الملوك. ¬

_ (¬1) لعله حصل اشتباه في عبارة الكاتب، والصحيح - والله أعلم -: أن عبد الرحمن صاحب الترجمة المذكورة لم يؤلف "كتاب المقنع"، بل هو الذي شرحه، والصحيح أن مؤلف كتاب "المقنع" هو الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة، المتقدم ذكره في صفحة (229) رقم (238).

272 - عبد الحليم بن عبد السلام، الحراني، نزيل دمشق، وهو والد شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية

قال النووي: هو أجلُّ شيوخي. حج ثلاث مرات؛ وكان آخرها قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام يطلبه الحج ذلك العام؛ وكان رقيق القلب، سريع الدمعة؛ وكان مجلسه عامرًا بالمحدثين والفقهاء. قال الذهبي: ما رأيت سير عالم أطول من سيره؛ حدث نحوًا من ستين سنة؛ كان شيخ الإسلام، وقدوة الأنام، وحسنة الأيام، ممن تفتخر به دمشق على سائر البلدان، بل هو يزهو به عصره على سائر متقدم العصور والأزمان. أثنى عليه البرزالي، واليونيني، وكان على قدم السلف الصالح على معظم أحواله، وممن أخذ عنه العلم: شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية، وأبو الحسن الحراني، وكان يقول: ما رأيت بعيني مثله، وحدَّث بالكثير، وروى عنه خلق كثير من الأئمة والحفاظ؛ مثل: الحارثي، والمزي والبرزالي. توفي سنة 682، وكانت جنازته مشهودة، حضرها أمم لا يحصون، ويقال: إنه لم يسمع بمثلها من دهر طويل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بكت عليه العيون بأسرها، وعم مصابه جميع الطوائف وسائر الفرق، فأي دمع ما سجم؟ وأي أصل ما جذم؟ وأي ركن ما هدم؟ وأي فضل ما عدم؟ يا له من خطب ما أعظمه، وأجلَّ قدره! ومصاب ما أفخمه، وأكبر ذكره! انتهى. وقد رثاه نحو ثلاثين شاعرًا، ذكر له ابن رجب ترجمة حسنة حافلة. 272 - عبدُ الحليم بنُ عبدِ السلام، الحرانيُّ، نزيلُ دمشق، وهو والد شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية. ولد سنة 627. سمع من والده، ورحل إلى حلب، وسمع بها من الحفاظ، وتفنن في الفضائل. قال الذهبي: درَّس وأفتى وصنف، وصار شيخ البلد بعد أبيه، وخطيبَه وحاكمَه، وكان إمامًا محققًا لما ينقله، كثيرَ الفوائد، جيدَ المشاركة في العلوم، له يد طولى في الفرائض والحساب والهيئة، باشر بدمشق مشيخة دار الحديث؛ وكان له كرسي بالجامع يتكلم عليه أيام الجمع من حفظه، توفي سنة 682.

273 - عبيد الله بن محمد بن أحمد بن قدامة، المقدسي، الفقيه، المحدث

273 - عبيد الله بنُ محمد بنِ أحمدَ بنِ قدامةَ، المقدسيُّ، الفقيهُ، المحدثُ. ولد سنة 635، سمع من كريمة القرشية وغيرها، وتفقه وبرع، وأفتى ودرَّس. قال البرزالي: سمع الكثير، وكتب بخطه، وشرع في تأليف كتاب في الحديث مرتبًا على أبواب الفقه، ولو تم، لكان نافعًا، رأى بعضُ الصالحين النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وقد جاء إلى الجبل، فقال له الرائي: يا رسول الله! فيم جئت إلى ها هنا؟ فقال: جئنا يقتبس عبيدُ الله من نورنا، توفي سنة 684. 274 - عبد الرحمن بنِ عمرَ بنِ أبي القاسم البصريُّ، الضريرُ، الفقيه، الإمامُ، نور الدين. ولد سنة 624. حفظ القرآن ببغداد من ابن الجوزي، ومجد الدين بن تيمية. وله معرفة بالحديث، له تصانيف منها كتاب "جامع العلوم في تفسير كتاب الحي القيوم". وكان من العلماء المجتهدين، والفقهاء المنفردين، روى عنه جماعة من الشيوخ، وكانت له فطانة عظيمة، ونادرة عجيبة. اتفق جلوسه إلى جانب بهاء الدين في ديوان الإنشاء، فقال له: من أين الشيخ؟ قال: من البصرة، قال: والمذهب؟ قال: حنبلي، فقال: عجب بصري حنبلي! فقال: هنا أعجب من هذا؛ كردي رافضي! فخجل وسكت، وكان كرديًا رافضيًا، والرفض في الأكراد معدوم أو نادر. توفي سنة 684، ومن فوائده: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وإن كان قليلاً، وأن الترتيب يجب في التيمم إن تيمم بضربتين، ولا يجب إذا تيمم بواحدة، وأن الريق يطهر أفواه الحيوان والولدان، وأنه حكى لجواز التيمم لصلاة العيد إذا خيف فواتها روايتين، وأن بني هاشم يجوز لهم أخذ الزكاة إذا مُنعوا حقَّهم من الخمس. 275 - عبد الرحيم بن محمد بنِ أحمدَ بنِ فارسٍ، العلثيُّ، البغداديُّ، الفقيهُ، المحدثُ، الأثريُّ الزاهدُ. أحد مشايخ العراق، ولد سنة 612. وسمع من عبد السلام، وأحمد بن

276 - خليل بن أبي بكر بن صديق المراغي، أبو الصفا، نزيل مصر

صرما، والقطيعي، وابن المَنِّي، وغيرهم. وأجاز لهم من دمشق: أبو القاسم الحرستاني، والافتخار الهاشمي، وجماعة. وعُني بالحديث أتم عناية، وقرأ بنفسه الكثير، والعالي والنازل، وسمع الناس بقراءته، وكتب بخطه الكثير، قال أبو العلاء الفرضي: كان شيخنا عالمًا فقيهًا، محدثًا مكثرًا مفيدًا، زاهدًا عابدًا، من بيت الحديث، متبعًا للسنة، شديدًا على المبتدعين، أثنى عليه محب الدين خطيب غرناطة، وقال صفي الدين شيخ ابن رجب كان من أجل شيوخ الحديث، ملتزمًا للسنة. وقال البرزالي: محدث بغداد في وقته، موصوف باتباع السنة ونصرها والذب عنها. قال الذهبي: له أَتباع وأصحاب يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حدَّث بالكثير، وسمع منه الكبار؛ كالمزي، والبرزالي، وشيخ الإسلام ابن تيمية. وتوفي في طريق مكة سنة 685. 276 - خليل بن أبي بكر بنِ صديق المراغي، أبو الصفا، نزيلُ مصرَ. ولد سنة بضع وتسعين وخمس مئة، قرأ القرآن، وسمع الحديث من الحرستاني، وبرع في الأصول وجميع العلوم. قال الفرضي: كان ثقة عدلا مسندًا، من بيت الحديث والزهد، وعظ في شبابه ثم ترك، سمع منه جماعة، توفي سنة 685. 277 - عبد الرحمن بن يوسف بنِ محمدٍ البعليُّ، الفقيهُ، المحدثُ، الزاهدُ، فخرُ الدين. ولد سنة 611. قرأ القرآن، وسمع الحديث من الأعيان، وقرأ الأصول وشيئًا من الخلاف على السيف الآمدي، والقاضي نجم الدين اللذين انتقلا إلى مذهب الشافعي، وصحب اليونيني البطائحي، والنووي، وولي مشيخة دار الحديث بمشهد، وبدار الحديث النورية والصدرية. قال في صحته وعافيته: أنا أعيش عمر الإمام أحمد، لكن شتان ما بيني وبينه! فكان كما قال. حدَّث بالكثير، وسمع منه جماعة من الأئمة الحفاظ، توفي سنة 688.

278 - محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد السعدي المقدسي، الصالحي، المحدث الزاهد، القدوة، ابن أخ الحافظ الضياء المقدسي

278 - محمد بن إبراهيم بنِ عبدِ الواحد السعديُّ المقدسيُّ، الصالحيُّ، المحدثُ الزاهدُ، القدوةُ، ابنُ أخ الحافظ الضياء المقدسي. ولد سنة 607. سمع من جماعة ببغداد وغيرها، ولازم الحافظ الضياء، وتخرج به، وكتب الكثير بخطه، وقرأ على الشيوخ، وعني بالحديث، وأتم تصنيف "الأحكام" الذي جمعه عمه المذكور، درَّس بدار الحديث الأشرفية، وكان للطلبة عليه مواعيد يعلمهم قراءة الحديث، ويفيدهم ويرد عليهم الغلط، انتفع به جماعة. قال الذهبي: كان إمامًا فقيهًا محدثًا، زاهدًا عابدًا، له قدم رساخ في التقوى، ووقعٌ في النفوس، حدث نحوًا من أربعين سنة؛ سمع منه خلق كثير؛ وروى عنه جماعة من الأكابر، توفي سنة 688 - رحمه الله تعالى -. 279 - علي بن أحمد بن عبدِ الواحدِ السعديُّ، الصالحيُّ، الفقيهُ، المحدثُ، المعمَّرُ، سيدُ الوقت، فخرُ الدين بنُ الشيخ شمس الدين البخاري. ولد في آخر سنة 595، وسمع بدمشق من ابن طبرزد، وأبي المحاسن، وأبي اليمن، وبالقدس ومصر والإسكندرية وحمص وبغداد، وتفرد بالرواية عن جماعة، وقرأ بنفسه، وسمع كثيرًا من الكتب الكبار والأجزاء، واستجاز له عمه الضياء الحافظ من خلق منهم: ابن الجوزي، وتفرد في الدنيا بالرواية العالية، وصار محدثَ الإسلام؛ روى الحديث فوق ستين سنة، وسمع منه الأئمة الحفاظ المتقدمون، وقد ماتوا قبله بدهر. قال الفرضي في "معجمه": كان شيخًا مسندًا، وقورًا صبورًا على قراءة الحديث، مكرمًا للطلبة، مواظبًا على العبادة، ألحق الأحفاد بالأجداد. قال الشيخ تاج الدين الفزاري: انتهت إليه الرئاسة في الرواية، وقصده المحدثون من الأقطار، وقال البرزالي: كان يحفظ كثيرًا من الأحاديث وألفاظها المشكلة، رجحوه على ابن الدائم. وقال المزي: أحد المشايخ الأكابر، والأعيان الأماثل، من بيت العلم والحديث. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ينشرح صدري إذا دخل ابن البخاري بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث. وسمع منه عمر بن الحاجب، والحافظ المنذري، وحدث ببلاد كثيرة. ذكر له ابن رجب ترجمة حسنة، وقال: وممن سمع منه من

الحفاظ والأكابر: الدمياطي، وابن دقيق العيد، وابن جماعة، وابن تيمية، ورحل إليه ابن سيد الناس، فوجده قد مات قبل وصوله بيومين، فتألم لذلك. قال الذهبي: وهو آخر من كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية رجال ثقات. قلت: يريد: السماع المتصل. قال: وإن كان للدنيا بقاء، فليتأخرنَّ أصحابُه - إن شاء الله تعالى - إلى بعد السبعين والسبع مئة - يريد كثرتهم -، وكذا وقع. ومن نظمه: تكرَّرت السنونَ عليّ حتى ... بُليت وصرت من سَقَطِ المتاعِ وقَلَّ النفعُ عندي غيرَ أني ... أعلل للروايةِ والسماعِ فإنْ يكُ خالصًا فله جزاءٌ ... وإنْ يكُ مائقًا فإلى ضَياعِ وله رح: إليكَ اعتذاري من صلاتيَ قاعدًا ... وعَجْزِيَ عن سَعيي إلى الجُمُعاتِ وتركي صلاةَ الفرضِ في كلِّ مسجدٍ ... يجمع فيه الناس للصلواتِ فيا ربِّ لا تمقُتْ صلاتي ونَجِّني ... من النار واصفحْ لي عن الهَفَواتِ وله رح: أتتْكَ مقدماتُ الموتِ تسعى ... وقلبُكَ غافلٌ عنها وساهي فجدَّ فقد دنَتْ منك المنايا ... ودعْ عنكَ التشاغلَ بالملاهي ولا تأمنْ لمكر الله واحذرْ ... وكنْ متقاصرًا عندَ التناهي فكمْ ممَّنْ يُساق إلى جحيمٍ ... صحائفُه مسوَّدَة كما هي وليسَ كمنْ يُساق إلى نعيمٍ ... وجناتٍ مزخرَفةٍ زَواهي فلا تظننْ بربِّكَ ظنَّ سوءٍ ... فحسنُ الظنِّ جدًا غير واهي توفي سنة 690، وكانت جنازته مشهودة، شهدها القضاة والأمراء والأعيان وخلق كثير، رح.

280 - أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم، المقدسي، النابلسي، العابر، الفقيه، المحدث

280 - أحمد بن عبد الرحمن بنِ عبدِ المنعمِ، المقدسيُّ، النابلسيُّ، العابرُ، الفقيهُ، المحدثُ. ولد سنة 648. سمع من جماعة، وأجاز له محمود بن منده، والمديني، وتفقه في المذهب، وبرع في معرفة تعبير الرؤيا، وانفرد بذلك بحيث لم يشارك فيه، ولم يدرك شأوه، وكان الناس يتحيرون منه إذا عبر الرؤيا لما يخبر الرائي بأمور جرت له، وربما أخبره باسمه وولده ومنزله، ويكون من بلد ناءٍ. وله في ذلك حكايات كثيرة غريبة، وهي من أعجب العجب، وكان جماعة من العلماء يقولون: إن له رئيًا من الجن، وكان مع ذلك كثير العبادة. قال ابن رجب: وقد رأيت لأبي العباس القرافي كلامًا حسنًا في التعبير، رأيت أن أذكره ها هنا، قال: اعلم أن تفسير المنامات قد اتسعت تقيداته، وتشعبت تخصيصاته، وتنوعت تفريعاته؛ بحيث صار لا يقدر الإنسان يعتمد فيه على مجرد المنقولات؛ لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين، بخلاف تفسير القرآن الكريم، والتحدث في الكتاب والسنة والفقه وغير ذلك من العلوم؛ فإن ضوابطها محصورة أو قريبة من الحصر، وعلمُ المنامات منتشر انتشارًا شديدًا لا يدخل تحت الضبط، لا جرم احتاج الناظر فيه مع ضوابطه وقوانينه إلى قوة من قوى النفس المعينة على الفراسة والاطلاع على المغيبات؛ بحيث إذا توجه الحزر إلى شيء لا يكاد يخطىء بسبب ما يخلقه الله تعالى في تلكم النفوس من القوة الغيبية على تقريب المغيب أو تحقيقه؛ فمن الناس من هو كذلك، وقد يكون ذلك عامًا في جميع الأنواع، وقد يهبه الله ذلك باعتبار المنامات فقط، أو بحسب علم الرمل فقط؛ فلا يفتح له صحة القول والمنطق في غيره، ومن ليس له قوة في نفس هذا النوع صالحة في ذلك لعلم تعبير الرؤيا، لا يكاد يصيب إلا على الندور، فلا ينبغي له التوجه إلى علم التعبير، ومن كانت له قوة نفس هو الذي ينتفع بتعبيره؛ وقد رأيت من له قوة نفس مع القواعد، فكان يتحدث بالعجائب والغرائب في المنام اللطيف، ويخرج منه الأشياء الكثيرة، والأحوال المتباينة، ويخبر فيه عن الماضيات والحاضرات والمستقبلات، وينتهي في المنام اليسير

281 - أحمد بن محمد بن أنجب بن الكسار، الواسطي الأصل، البغدادي، المحدث، الحافظ

إلى نحو مئة من الأحكام، حتى يقول من لا يعلم أحوال قوى النفس: إن هذا من الجان والمكاشفة، وليس كما قال، بل قوة نفس يجد بسببها هذه الأحوال عند توجهه بالمنام، ورأيت أنا جماعة من هذا النوع، واختبرتهم، انتهى كلامه، وأظنه يشير إلى الشيخ المذكور؛ فإنه معاصره. قال الذهبي: كان إمامًا فاضلاً، وليَ مشيخة دار الحديث الأشرفية؛ وأسمع بها الحديث، وذكر مرة لقضاء الحنابلة، وحدث بدمشق ومصر وغيرهما؛ وسمع منه خلق من الحفاظ وغيرهم؛ كالمزي والبرزالي، والذهبي، وشيخنا ابن القيم، توفي سنة 697، وكانت جنازته حافلة، خرج نائب السلطنة للصلاة عليه والقضاةُ والأكابر - رحمه الله -. 281 - أحمد بن محمد بن أنجب بن الكسار، الواسطيُّ الأصل، البغداديُّ، المحدثُ، الحافظُ. ولد سنة 426 سمع ببغداد من القطيعي، وابن اللتي، واكثرَ عن المتأخرين، وقرأ الكثير من الكتب والأجزاء، وعُني بالحديث، وكانت له معرفة حسنة به، قال الشيخ صفي الدين: تفرد في زمانه بمعرفة الحديث وأسماء الرواة، وكان ضنينًا بالفوائد. قال الفرضي: كان فقيهًا محدثًا حافظًا، وهو متماسك، وله عمل كثير في الحديث وشهرة، وكان قارئًا بدار الحديث المستنصرية، مفيدًا بها، وكان بعض الشيوخ ينسبه إلى التهاون في الصلاة، وقال بعضهم: إنهم كانوا يحسدونه لما كان برز عليهم في الكلام والمجالس، توفي سنة 698. قال ابن رجب: بلغني أن رجلاً من أهل سامرة أشكل عليه الجمع بين الحديثين؛ وهما: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من همَّ بسيئةٍ فلم يعملْها، كتبت له حسنة"، وقوله في الذي رأى ذا مال ينفقه في المعاصي: لو أن لي - مثل ما لفلان - لفعلت ما فعل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هما في الوزر سواء"، فقدم بغداد، فلم يجبه أحد بجواب شافٍ حتى دل على ابن الكسار، فقال له على الفور ما معناه: إن المعفو عنه إنما هو الهَمُّ المجرَّدُ، فأما إن اقترن به القول أو العمل، لم يكن معفوًا عنه، وذكر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لأمتي ما حَدَّثت به، ما لم تتكلمْ به، أو تعملْ".

282 - محمد بن عبد القوي بن بدران المقدسي، الفقيه، المحدث، النحوي

282 - محمد بن عبد القوي بن بدران المقدسيُّ، الفقيهُ، المحدثُ، النحويُّ. ولد سنة 630، وسمع الحديث، وطلب وقرأ وتفقه، وبرع في العربية واللغة، واشتغل ودرَّس وأفتى وصنَّف، وكان يحضر دار الحديث ويشغل بها. قال الذهبي: لي منه إجازة؛ وممن قرأ عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية. توفي سنة 699. 283 - علي بن محمد بنِ أحمدَ اليونيني، الفقيهُ، المحدثُ، الزاهدُ. ولد سنة 621 ارتحل بعد الأربعين إلى مصر لطلب العلم والحديث، فسمع بها، ولازم الحافظ عبد العظيم المنذري، وتخرج به، وعُني بالحديث، واستنسخ "صحيح البخاري"، واعتنى بأمره كثيرًا. قال الذهبي: قرأ بنفسه, وكتب بخطه, وأفتى ودرس، وعني باللغة. وقال البرزالي: يحفظ كثيرًا من الأحاديث بلفظها وبفهم معانيها، وكان فصيح العبارة، حسن الكلام، وكان له قبول من الناس، مُديمًا للمطالعة، كثيرَ المحاسن، منوَّرَ الشيبة، عظيمَ الهيبة. توفي سنة 701 ببعلبك، وصلِّي عليه يوم الجمعة بجامع دمشق صلاة الغائب، وكان موته شهادة في رمضان. 284 - موسى بن إبراهيم بنِ يحيى بن علوان، الأزديُّ، الشقراويُّ، الفقيهُ، المحدثُ، النحويُّ المعدِّلُ. ولد سنة 624، وسمع من أبيه، والضياء المقدسي، ويوسف ابن سبط الجوزي، وعُني بالحديث، وقرأ بنفسه، وكتب بخطة ما لا يوصف، وتفقه وأفتى، وولي مشيخة دار الحديث العالية بالسفح، ودار الحديث العزيَّة بالشرف الأعلى. قال الذهبي: كان إمامًا مفتيًا، له معرفة بالحديث واللغة والعربية، كثير المحفوظ، حدَّث، وروى عنه الذهبي، توفي سنة 702 - رحمه الله تعالى -.

285 - إبراهيم بن أحمد بن محمد الرقي، الزاهد، المحدث

285 - إبراهيم بن أحمد بنِ محمدٍ الرقيّ، الزاهد، المحدثُ. ولد سنة 647 قرأ ببغداد، وسمع بها الحديث بعد الستين، قال الذهبي: عُني بتفسير القرآن، وتقدم في علم الطب، وشارك في علوم الإسلام، له المواعظ، والنظم العذب، والعناية بالآثار النبوية، وكان كلمة إجماع، وربما حضر السماع وتواجد. قال البرزالي: كان عارفًا بالتفسير والحديث والفقه والأصلين. قال ابن رجب: سمع منه الذهبي، والبرزالي، وغيرهما، قال الذهبي: له النظم الرائق يستحق أن تطوى إلى لقيه مراحل. توفي سنة 703. 286 - علي بن مسعود بن نفيس، الحلبيُّ، الصوفيُّ، المحدثُ، الحافظُ، الزاهدُ، نزيلُ دمشق. ولد سنة 634. سمع بحلب من ابن رواحة، وجماعة بمصر؛ وقرأ كتبًا مطولة مرارًا وعُني بالحديث عناية تامة، وكانت قراءته مفسرة حسنة. وكان يجوع ويشتري الأجزاء، ويتعفف، ويقنع بكسرة، وكان فقيهًا على مذهب أحمد؛ سمع منه الذهبي وجماعة، توفي سنة 704، وشيعه شيخ الإسلام ابن تيمية، رح. 287 - محمد بن إسماعيل بن أبي سعد، الآمديُّ، ثم المصريُّ، الأميرُ الكبيرُ، الأديب. ولد سنة 637، سمع بمصر ودمشق من جماعة، وسمع الحديث ورواه، وكان محدثًا فاضلاً متقنًا، وزيرًا للملك السعيد الأرتقي صاحب ماردين. سمع منه جماعة، منهم: ابن تيمية شيخ الإسلام، توفي سنة 704، وكان سبب موته أنه سقط عن فرسه، فتكسرت أعضاؤه، وبقي أيامًا ثم مات - رحمه الله -. 288 - محمد بن عبد الله بنِ عمر، البغداديُّ، المقرىءُ، المحدثُ، الصوفيُّ، الكاتبُ. ولد سنة 623. سمع الكثير من ابن روزبه، وابن الخازن، وابن اللتي، وعُني

289 - محمد بن عبد الرحمن بن شامة بن كوكب الطابي، الينبسي، المحدث، الحافظ، الزاهد، العابد

بالحديث، وسمع الكتب الكبار والأجزاء، وكتب بخطه - وخطُّه في غاية الحسن -، ولي مشيخة دار الحديث المستنصرية، ولبس خرقة التصوف؛ وانتهى إليه علوُّ الإسناد، وسمع منه خلق كثير من أهل بغداد والرحالين إليه، وحدَّث بالكثير، توفي سنة 707، ودفن بمقبرة الإمام أحمد - رضي الله عنه -. 289 - محمد بن عبد الرحمن بن شامة بن كوكب الطابيُّ، الينبسيُّ، المحدثُ، الحافظُ، الزاهدُ، العابدُ. ولد سنة 662 طلب بنفسه، وسمع من جماعة، منهم: ابن البخاري، ورحل إلى مصر، وسمع بها وبالإسكندرية من أعيانها، ورحل إلى بغداد وأصبهان وحلب وواسط، وعُني بهذا الفن، وحصَّل الأصول، وكتب العالي والنازل، وخرَّج لنفسه. قال الحافظ عبد الكريم الحلبي: طاف البلاد، وقرأ الكثير، وسمع من صغره إلى حين وفاته. قال البرزالي: قراءته حسنة صحيحة معربة؛ خالطه الفقر، وصارت له أوراد وكثرة تلاوة، وحظوة وشهرة بالحديث وقراءته، وكان ملازمًا للتلاوة في مشيه، مواظبًا على الكتابة والنسخ وقراءة الحديث؛ ونسخَ "الصحيحين" بخطه، وقابلهما وقرأهما، وبيعا في تركته بألف درهم رغبةً فيه وفي تصحيحه. قال الذهبي: أحد الرحالين والحفاظ المكثرين، وكان ثقة صحيح النقل عارفًا بالأسماء، مفيدًا للطلبة، على طريقة السلف في لبسه وتواضعه وترك التكلف، حدَّث، وسمع منه البرزالي، والذهبي، وغيرهما. توفي سنة 708 بمصر - رحمه الله -. 290 - محمد بن أبي الفتح بنِ أبي الفضلِ، البعليُّ، الفقيهُ، المحدثُ، النحويُّ، اللغويُّ. ولد سنة 645، وقيل: سنة 644، سمع من الحفاظ الكبار، وعُني بالحديث، وطلبَ، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه، وبرع، وأفتى، وصنف تصانيف، له تخاريج كثيرة في الحديث يروي فيها الحديث بأسانيده، وتكلم على المتون من جهة الإعراب والفقه وغير ذلك، ودرَّس الحديث بالمدارس، وأفتى

291 - أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، الواسطي، الحزامي، الزاهد، القدوة، العارف، المحدث

زمانًا طويلًا. قال الذهبي: كان إمامًا في الحديث والعربية والمذهب، غزيرَ الفوائد، وكان ثقة صالحًا على طريقة السلف، حدثنا بدمشق وبعلبك وطرابلس، وتوفي سنة 709. 291 - أحمد بن إبراهيم بنِ عبد الرحمنِ، الواسطيُّ، الحزاميُّ، الزاهدُ، القدوةُ، العارفُ، المحدثُ. ولد سنة 657. ألهمه الله من صغره طلب الحق ومحبته، والنفورَ عن البدع وأهلها، اجتمع بالفقهاء الشافعية، وخالط طوائف الفقراء، ولم يسكن قلبه إلى شيء من الطوائف المحدثة، واجتمع بالإسكندرية بالطوائف الشاذلية، فوجد عندهم ما يطلبه من لوائح المحبة والمعرفة والسلوك - فأخذ عنهم، وانتفع بهم، واقتفى طريقتهم وهديَهم، ثم قدم دمشق، فرأى الشيخ تقي الدين بن تيمية، وصاحبه، فدله على مطالعة السيرة النبوية، فأقبل على مطالعة كتب الحديث والسنة والآثار، وتخلى من جميع طرائقه وأذواقه وسكونه، واقتفى آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهديه وطرائقه المأثورة عنه في كتب السنن والآثار، واعتنى بأمر السنة أصولاً وفروعًا، وشرع في الرد على الطوائف المبتدعة الذين خالطهم وعرفهم من الاتحادية وغيرهم، وبَيَّنَ عوراتِهم، وكشف أستارَهم، وانتقل إلى مذهب الإمام أحمد، وألف تآليف كثيرة في الطريقة النبوية، والسلوك الأثري، والفقر المحمدي، وهي من أنفع كتب الصوفية للمريدين، انتفع بها خلق كثير من متصوفة أهل الحديث ومتعبديهم. وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يعظمه ويُجله، ويقول: هو جنيد وقته، وكتب إليه كتاباً من مصر أوله: إلى شيخنا العارفِ الإمامِ القدوةِ السالكِ ... قال البرزالي: له كلام متين في التصوف الصحيح، وهو داعية إلى طريق الله، وقلمه أبسطُ من عبارته، واختصر "السيرة النبوية"، وكان يتقوت من النسخ، ولا يكتب إلا مقدار ما يدفع به الضرورة، وكان محبًا لأهل الحديث، معظمًا لهم، وأوقاته محفوظة. قال الذهبي: وكان داعية إلى السنة، ومذهبه مذهب السلف في الصفات

292 - محمد بن أحمد بن نصر الدياهي

يُمِرُّها كما جاءت؛ وقد انتفع به جماعة صحبوه، ولا أعلم خلف بدمشق في طريقته مثله. قال ابن رجب: ومن تصانيفه "شرح منازل السائرين"، وله نظم حسن في السلوك؛ كتب عنه البرزالي، والذهبي، وسمع منه جماعة، وكان له مشاركة جيدة، وخطه في غاية الحسن، وكان معمور الأوقات بالعبادات والتصنيف والمطالعة والذكر والفكر؛ مصروفَ العناية إلى المراقبة والمحبة والأنسِ بالله، وقطع الشواغل والعوائق عنه، حثيثَ السير إلى وادي الفناء بالله والبقاء به؛ كثيرَ اللهج بالأذواق والتجليات والأنوار القلبية، منزويًا عن الناس، لا يجتمع إلا بمن يحبه ويحصل له باجتماعه منفعة دينية، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في سنة 711، وصلِّي عليه من الغد - رحمه الله تعالى -. 292 - محمد بن أحمد بن نصر الدياهيُّ. ولد سنة 637، جاور بمكة عشر سنين، ودخل الروم والجزيرة ومصر والشام، ثم استوطن دمشق، وبها توفي. قال ابن الزملكاني: لديه فضل، وعنده مشاركات جيدة في علوم، وله عبارة حسنة فيما يكتبه، لا يُرى خاليًا من أعمال الخير والبر، ويلازم الجماعات في الجامع، ولا يخشى السلاطين ولا الولاة ولا أهل الدنيا، وكان يحب سلوك طريق السلف الصالح، وله جمع وتأليف، عديم التكلف، وافر الإخلاص، متبع السنة، سيد من السادات. قال الذهبي: وكان حسنَ المجالسة، متبعًا للسنة، محذرًا من البدعة، كثيرَ الطلب، يصحب بقايا الصوفية، ويقتفي آثارهم، وقرأ الفقه في شبيبته على مذهب أحمد، ولما لمعت له أنوار شيخ الإسلام ابن تيمية، ظفر بأضعاف تطلبه، سمع منه البرزالي، والذهبي، وانتقل إلى رحمة الله تعالى في سنة 711، وأنشد لبعضهم: الدهرُ ساوَمَني عُمري فقلتُ له ... لا بعتُ عُمريَ بالدنيا وما فيها ثمَّ اشتراه تَفاريقًا بلا ثمنٍ ... تَبَّتْ يدا صفقةٍ قد خابَ شاريها

293 - مسعود بن أحمد بن مسعود، الحارثي، المصري، الفقيه، المحدث، الحافظ، قاضي القضاة، سعد الدين

293 - مسعود بن أحمد بنِ مسعودٍ، الحارثيُّ، المصريُّ، الفقيهُ، المحدثُ، الحافظُ، قاضي القضاة، سعدُ الدين. ولد سنة 652. سمع بمصر من جماعة، وبدمشق من خلق من هذه الطبقة؛ وعني بالحديث، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الكثير، وخرَّج لجماعة من الشيوخ معاجم، وصنف "شرح سنن أبي داود"، وخرَّج لنفسه أمالي، وتكلم فيها على الحديث ورجاله، وعلى التراجم، فاحسن وشفى، وكلامه في الحديث أجودُ من كلامه في الفقه؛ فإنه كان أجودَ فنونه؛ وكان يكتب خطًا حسنًا؛ وحجَّ غير مرة، ودرَّس، وكان سُنيًا أثريًا متمسكًا بالحديث. قال الذهبي: كان عالمًا بالحديث وفنونه، حسنَ الكلام عليه، وعلى الأسماع، روى عنه أبو الحجاج المزي، وأبو محمد البرزالي، وذكره الذهبي أيضًا في "طبقات الحفاظ". قال ابن رجب: روى عنه جماعة من شيوخنا. توفي سنة 711. 294 - سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم، الطوفيُّ الصرصريُّ، الأصوليُّ الفقيهُ. ولد سنة بضع وسبعين وست مئة، وبرع في العلوم، وسمع الحديث، وسافر إلى الصعيد، ولقي بها جماعة، وحج وجاور الحرمين الشريفين، وسمع بهما. له تصانيف، منها: "دفع التعارض عما يوهم التناقض في الكتاب والسنة"، ولم يكن له يد فيه؛ وفي كلامه تخبيط كثير، له قصائد في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومدح الإمام أحمد؛ وكان مع ذلك كله شيعيًا منحرفًا في الاعتقاد عن السنة، حتى إنه قال: في نفسه حنبلي رافضي أشعري هذه إحدى العبر، وصنف كتابًا سماه: "العذاب الواصب على أرواح النواصب"، ومن دسائسه الخبيثة أنه قال في "شرح الأربعين" للنووي: اعلم أن من أسباب الخلاف الواقع بين العلماء تعارضَ الروايات والنصوص، وبعضُ الناس يزعم أن السبب في ذلك عمر بن الخطاب، وذلك أن الصحابة استأذنوه في تدوين السنة من ذلك الزمان، فمنعهم ذلك، وقال: لا أكتب مع القرآن غيرَه، مع علمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اكتبوا لأبي شاه"

295 - عبدالله بن أحمد بن تمام، البلي، الصالحي، الأديب، الزاهد

خطبةَ الوداع، وقال: "قيدوا العلم بالكتاب"، قال: فلو ترك الصحابة وتدوين كل واحد منهم ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لانضبطت السنة، ولم يبق بين آخر الأمة وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل حديث إلا الصحابي الذي دون روايته؛ لأن تلك الدواوين كانت تواترت عنهم إلينا كما تواتر البخاري ومسلم وغيرهما. قال ابن رجب: فانظر إلى هذا الكلام الخبيث المتضمن أن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - هو الذي أضلَّ الأمة قصدًا منه وتعمدًا، ولقد كذب في ذلك وفجر، ثم إن تدوين السنة اكثر ما يفيد صحتها وتواترها، وقد صحت - بحمد الله تعالى -، وحصل العلم بكثير من الأحاديث الصحيحة المتفق عليها أو اكثرها لأهل الحديث العارفين به من طرق كثيرة، دونَ من أعمى الله بصيرته؛ لاشتغاله عنها بشُبه أهل البدع والضلال؛ والاختلاف لم يقع لعدم تواترها، بل وقع من تفاوت فهم معانيها؛ وهذا موجود، سواء دونت وتواترت أو لا، وفي كلامه إشارة إلى أن حقها اختلط بباطلها، ولم يتميز، وهذا جهل عظيم. وقد كان الطوفي أقام بالمدينة المنورة مدة يصحب شيخ الرافضة السكاكيني المعتزلي، ويجتمعان على ضلالتهما، وقد هتكه الله وعجل الانتقام منه بالديار المصرية. قال تاج الدين القيسي في حقه: قدم علينا بمصر في زي أهل الفقر، واشتهر عنه الرفض والوقوع في أبي بكر وابنته عائشة، فرفع أمر ذلك إلى القاضي الحنبلي، وقامت عليه بذلك البينة، فتقدم إلى بعض نوابه بضربه وتعزيره واسهابه، وطيف به، ونودي عليه بذلك، وحبس أيامًا. قال ابن رجب: وقد ذكر بعض شيوخنا عمن حدثه عن آخر أنه أظهر له التوبة - وهو محبوس - وهذا من تقيته ونفاقه، توفي سنة 716. 295 - عبدالله بن أحمد بنِ تمامٍ، البليُّ، الصالحيُّ، الأديبُ، الزاهدُ. ولد سنة 635، وسمع الحديث من ابن قميرة، والمرسي، وجماعة، وقرأ النحو والأدب، وأقام بمصر مدة صحب الفقراء والفضلاء، وكان شيخًا زاهدًا متقللاً من الدنيا؛ لم يكن له أثاث ولا طاسة ولا فراش ولا سراج، بل كان بيته

296 - محمد بن عمر بن عبد المحمود، الحراني، الفقيه، الزاهد

خاليًا من ذلك كله. توفي سنة 718، له نظم كثير حسن رائق، أنشد لنفسه: أشاهِدُ من محاسنِكم مَنارًا ... يكادُ البدرُ يُشبهه شقيقا وأصحبُ من جَمالكم خليلاً ... فأنَّى سرتُ يرشدني الطريقا أرى نجمَ الزمان بكم سعيدًا ... ومعنى حسنكم معنى دقيقا وبدرُ التَّمِّ يزهى من سناكُم ... وشمسُ جمالكم برزت شُروقا وروضُ عبير أرضكم نهارًا ... جَرى ذهبُ الأصيل به خَلوقا حديثي والغرامُ بكم قديمٌ ... وشوقي يزعج القلبَ المَشوقا وأنفاسٌ بعثتُ بها إليكم ... سلوا عنها النسيمَ أو البُروقا ولي صدقُ المودةِ في حِماكم ... سقى الله الحمى ورعى الصديقا وله أيضًا: أكرر فيكمُ أبدًا حديثي ... فيحلو والحديثُ بكم شُجونُ وأَنظمه عُقودًا من دموعي ... فتنثرهُ المحاجرُ والجُفونُ وأَبتكر المعاني في هواكم ... وفيكمْ كُلُّ قافيةٍ تهونُ وأَعتنق النسيمَ لأنَّ فيه ... شمائلَ من معاطِفِكم تَبينُ وأَسألُ عنكمُ النكباءَ سِرًّا ... وسرُّ هواكمُ سرٌّ مَصونُ 296 - محمد بن عمر بنِ عبدِ المحمود، الحرانيُّ، الفقيهُ، الزاهد. ولد سنة 637، وسمع بها من عيسى الحافظ، والشيخ مجد الدين بن تيمية، وبدمشق من ابن عبد الدائم، وعُني بسماع الحديث إلى آخر عمره. قال الذهبي: كان فقيهًا زاهدًا ناسكًا سلفيَّ الجملة، عارفًا بمذهب الإمام أحمد، حدَّث وسمع منه جماعة، منهم الذهبي. وسافر إلى مصر لزيارة الشيخ تقي الدين بن تيمية، فأسر، وبقي مدة في الأسر، ويقال: إن الفرنج لما رأوا ديانته وأمانته واجتهاده، اكرموه واحترموه، يقال: توفي سنة 718 - رحمه الله تعالى -.

297 - عبد الرزاق بن أحمد بن محمد، من نسل معن بن زائدة الشيباني، المروزي الأصل، البغدادي، الأخباري، المؤرخ، الكاتب، الأديب، يعرف بابن الفوطي

297 - عبد الرزاق بن أحمد بنِ محمدٍ، من نسل مَعْن بنِ زائدةَ الشيبانيِّ، المروزيُّ الأصل، البغداديُّ، الأخباريُّ، المؤرخُ، الكاتبُ، الأديبُ، يعرف بابن الفوطي. ولد سنة 642. سمع من الصاحب محيي الدين بن الجوزي، ثم أسر في وقعة بغداد، وخلصه النصير الطوسيُّ الفيلسوفُ - وزير الملاحدة -، فلازمه، وأخذ عنه علوم الأوائل، وبرع في الفلسفة وغيرها، وسمع من المبارك بن المستعصم بالله، وعُني بالحديث، وقرأ وكتب الكثير بخطه المليح، ذكره الذهبي في "طبقات الحفاظ"، وقال: له النظم والنثر، والباع الأطول في ترصيع تراجم الناس، وله ذكاء مفرط، سمع الكثير، وعُني بهذا الشأن، وجمع وأفاد، فلعل الحديث أن يكفر عنه، عمل تاريخًا في خمسين مجلدًا سماه: "مجمع الآداب في معجم الأسماء على معجم الألقاب"، وكتب حوادث المئة السابعة إلى أن مات. وخرَّج معجمًا لشيوخه بلغوا خمس مئة شيخ. قال ابن رجب: حدَّث؛ وسمع منه جماعة، وأصابه فالج في آخر عمره، وتوفي سنة 723 - سامحه الله تعالى -. 298 - محمد بن سعد بنِ عبدِ الأحد، الحرانيُّ، الإمامُ شرفُ االدين. سمع من ابن البخاري وغيره، وطلب الحديث، وقرأ بنفسه وتفقه وأفتى، وصحب الشيخ تقي الدين بن تيمية ولازمه. وكان صحيح الذهن، جيد المشاركة في العلوم، من خيار الناس وعقلائهم وعلمائهم، دفن بالبقيع سنة 723،- وفي تلك السنة توفي الشيخ الإمام محمد بن محمود الجيلي نزيل بغداد -، وكان فاضلاً، له مصنف في الفقه سماه: "الكفاية"، ذكر فيه أن أحمد نصَّ على أن من وصى بقضاء الصلاة المفروضة عنه، نفذت وصيته. 299 - محمد بن مسلم بنِ مالكِ بنِ مزروع، الزينيُّ. ولد سنة 662. سمع من ابن البخاري وطبقته، وأكثر عن ابن الكمال، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه، وعُني بالحديث، وتفقه وبرع وأفتى، وتصدى للاشتغال والإفادة، واشتهر اسمه.

300 - عبد الله بن عبد الحليم بن عبد السلام، الحراني - أخو الشيخ ابن تيمية - رح

وكان من قضاة العدل، مصممًا الحق، لا يخاف في الله لومة لائم، وهو الذي حكم على ابن تيمية بمنعه من الفتيا بمسائل الطلاق وغيرها مما يخالف المذهب، وقد حدث وسمع منه جماعة، توفي سنة 726، ودفن بالبقيع، ذكر ذلك ابن رجب. قلت: وفتواه بمسألة الطلاق معتمدة على الأدلة النيرة الصحيحة، ليس فيها شيء يخالف المذهب الحق، وما تعقب به ابن رجب على شيخ الإسلام في بعض أقواله، فقد أجاب عليه صاحبنا السيد العلامة خير الدين البغدادي نعمان آلوسي زاده، - حماه الله تعالى - في كتابه "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين". 300 - عبد الله بن عبد الحليم بنِ عبدِ السلام، الحرانيُّ - أخو الشيخ ابن تيمية - رح. ولد في سنة 666. سمع من ابن علان، والصيرفي، وابن أبي الخير، وخلقٍ من هذه الطبقة، وسمع "المسند"، و"الصحيحين"، وكتب السنن، وتفقه وبرع، وأفتى في الفرائض والحساب والهيئة، وله مشاركة قوية في الحديث، وكان كثير العبادة والمراقبة والخوف من الله تعالى، ذا كرامات وكشوف، وحجَّ مرات متعددة، وكان له يد طولى في معرفة تراجم السلف ووفياتهم، وحُبس مع أخيه في الديار المصرية مدة، وقد استدعي غير مرة إلى المناظرة، فناظر وأفحم الخصوم. وذكره الذهبي في "معجمه المختص"، فقال: كان بصيرًا بكثير من علل الحديث ورجاله، فصيحَ العبارة، عارفًا بالعربية، وقال غيره: له مشاركة جيدة في الحديث، توفي - رح - سنة 627، صلى عليه أخوه ابن تيمية، وزين الدين - وهما محبوسان بالقلعة - وخلقٌ معهما من داخل القلعة، وكان التكبير يبلغهم، وكثر البكاء تلك الساعة، وكان وقتًا مشهودًا، ثم صُلِّي عليه مرة ثالثة ورابعة، وحُمل على الرؤوس والأصابع إلى مقابر الصوفية، وحضر جنازته جمع كثير، وعالم عظيم، وكثر الثناء والتأسف عليه - رحمه الله تعالى -. 301 - محمد بن عبد المحسن بنِ أبي الحسن، القطيعيُّ، الأزجيُّ، المحدثُ، الواعظُ، يعرف بابن الدواليبي. ولد سنة 634، وقيل غير ذلك.

302 - إسماعيل بن محمد بن إسماعيل، الحراني، الدمشقي، الإمام، الزاهد، مجد الدين، أبو الفداء

سمع "صحيح مسلم"، وأجاز له جماعة كثيرة، وسمع "المسند" من جماعة، وشارك في العلوم، وصار مسنِدَ أهلِ العراق في وقته، وحدث بالكثير. قال الشيخ صفي الدين: شيخ جليل، كثيرُ المسموعات، توفي سنة 728، وشيعه خلق كثير. 302 - إسماعيل بن محمد بن إسماعيل، الحرانيُّ، الدمشقيُّ، الإمامُ، الزاهدُ، مجدُ الدين، أبو الفداء. ولد سنة 645، أو سنة 646، سمع الكثير من ابن البخاري وغيره، وسمع "المسند"، والكتب الكبار، وبرع في الفقه، وله معرفة بالحديث والأصول، وتصدَّى للاشتغال والفتوى مدة طويلة. قال الطوفي: كان عالمًا بالفقه والحديث وأصول الفقه والفرائض. وقال الذهبي: كان شيخ الحنابلة وكان حافظًا لأحاديث الأحكام. قال ابن رجب: وكان سريع الدمعة، ولا يَذكر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في درسه إلا ودموعه جارية، ولا سيما إن ذكرَ شيئًا من الرقاق وأحاديث الوعيد، قرأ عليه عامةُ شيوخنا ومن قبلهم، توفي سنة 729. وقد رأيت له جزءًا فيه مسألتان - قيل: إنهما من كلامه - إحداهما: في طلاق الغضبان، وأنه لا يقع، والثانية: في مسألة الظفر، ونصر جواز الأكل مطلقًا، قال: والظاهر من حاله وورعه وشدة تمسكه يشهد بعدم صحة ذلك، والله أعلم. 303 - عبد الرحمن بن محمد، البعليُّ، الدمشقيُّ، الفقيهُ، المحدثُ. ولد سنة 685. وعني بالحديث وارتحل فيه مرات، وكتب العالي والنازل، وهلم جرًا، وخرج لغير واحد من الشيوخ، وأفاد وتفقه وأفتى، وفسر بعض القرآن، وحدَّث، سمع منه الذهبي وجماعة، حجَّ مرات، وأقام بمكة أشهرًا، وله مواعيد كثيرة لقراءة الحديث والرقائق، ولما حبس الجماعة الذين كتبوا على مسألة الزيارة - موافقة للشيخ تقي الدين بن تيمية - لم يتعرضوا إليه هيبة له واحترامًا، وحبس سائرهم وأوذوا، وله شعر كثير جيد، لعله ديوان تام. قال القاضي برهان الدين الزرعي: هو إمامنا، لو أمكنني الرحلة إليه، لرحلت إليه،

304 - عبادة بن عبد الغني بن منصور، الحراني

وكان قد رأى الشيخ ابن تيمية بدمشق، واجتمع معه، وبالجملة: فقد كان من محاسن زمانه، توفي سنة 739. قال ابن رجب: له شعر، أكثر هجو الرافعي وغيره، حتى قال في نفسه: تلامذةُ المرتب كلُّ فَدْمٍ ... بعيدِ الذهنِ لا فضلٌ لَدَيْهِ لقد صدقَ الذي قد قالَ قِدْمًا ... شبَيهُ الشيءِ مُنْجَذِبٌ إليهِ 304 - عُبادة بن عبد الغني بن منصورٍ، الحرانيُّ. ولد سنة 671، وسمع من جماعة وطلب الحديث، وتفقه على شيخ الإسلام ابن تيمية. قال الذهبي: تقدم في الفقه، وناظر وتميز عنده "صحيح مسلم" عن القاسم الأربلي يسع الجماعة بالخدمة والإفضال والحلم، خرَّجت له جزءًا، وحدث بصحيح مسلم، انتهى. توفي سنة 705. سمع منه جماعة، رح. 305 - حسين بن بدران بنِ داودَ، الباصريُّ، الفقيهُ، المحدثُ، النحويُّ. ولد سنة 712. قال ابن رجب: سمع الحديث متأخرًا من جماعة من شيوخنا وغيرهم، وعُني بالحديث، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الكثير، وبرع في الأدب والعربية ونظم الشعر الحسن؛ وصنف في علوم الحديث وغيرها، واختصر "الإكمال" لابن ماكولا، وعلقته في حياته، وقرأت عليه بعضه، وسمعتُ بقراءته "صحيح البخاري"، وولي إفادة المحدثين بدار الحديث المستنصرية، فكان يقرأ بها علوم الحديث وغيرها، وحضرت له مجالسه كثيرًا؛ وكان له مشاركة حسنة في علوم الحديث والتواريخ، مع براعة في الأدب والصيانة والديانة، توفي مطعونًا شهيدًا في سنة 749 - رحمه الله تعالى -. 306 - عمر بن علي بن موسى الأزجيُّ البزاز، الفقيهُ، المحدثُ، سراجُ الدين أبو حفص. ولد سنة 688 تقريبًا. سمع من جماعة، وعني بالحديث، وقرأ الكثير، ورحل إلى دمشق، فقرأ بها "صحيح البخاري"، وحضر قراءته الشيخ ابن تيمية وخلقٌ كثير؛ وجالس الشيخ تقي الدين، وأخذ عنه؛ وكان حسنَ القراءة للقرآن

307 - أحمد بن علي بن محمد البابصري، البغدادي، الفقيه، الفرضي، الأديب

والحديث؛ ذا عبادة وتهجد، وصنف كثيرًا في الحديث، وحج، وتوفي سنة 749 - رحمه الله تعالى -. 307 - أحمد بن علي بن محمد البابصري، البغداديُّ، الفقيهُ، الفرضيُّ، الأديبُ. ولد سنة 707 تقريبًا، سمع الحديث متاخرًا على الشيخ صفي الدين، ونظم الشعر الحسن، وكتب بخطه الحسن كثيرًا. قال ابن رجب: سمعت بقراءته الحديث، وحضرت درسه وأشغاله غير مرة، توفي في طاعون سنة 750 ببغداد - بعد رجوعه من الحج -، وصُلِّي عليه صلاة الغائب بدمشق - رحمه الله تعالى رحمة واسعة -. قف: هذا وفي طبقات الحفاظ كتب كثيرة مختصة بهم، منها: كتاب الحافظ الذهبي، وكتاب ابن الدباغ، وكتاب ابن المفضل، وكتاب الحافظ ابن حجر، وكتاب ابن فهد المكي، وكتاب الشيخ جلال الدين السيوطي، وغيرهم. وقد وقفت على ملخص طبقات الذهبي في "تذكرة الحفاظ"، قال فيه: هذه تذكرة بأسماء معدلي حملة العلم النبوي، ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف والتصحيح والتعريف، وشرع فيه بذكر حفاظ الصحابة، وهم أهل الطبقة الأولى، وهلمَّ جرًّا، وبدأ بذكر أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. وقال تحت الطبقة الثانية: قال الذهبي: وقد كان في هذا القرن الفاضل خلق عظيم من أهل العلم وأئمة الاجتهاد، وأبطال الجهاد في أقطار البلاد، وسادة العباد والأبدال والأوتاد، ولعل فيمن تركناهم من هو أجل وأعلم، وكان الإسلام ظاهرًا غالبًا قد طبق الأرض، وافتتحت بلاد الترك وإقليم الأندلس بعد التسعين في دولة الوليد، وجميع الأمة تحت أوامره، بل بعض نوابه - وهو الحجاج الظالم - الذي كان في رتبة أعظم السلطان، وعمر إذ ذاك مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأكمل زخرفة، وأنشىء جامع دمشق. وكان خراج الدنيا لا يكاد ينحصر كثرة، فقد كان رتب بجزية على القبط في العام اثني عشر ألف ألف دينار، فما ظنك بجزية الروم؟! فما ظنك بجزية الفرس؟! ولقد كان الخليفة - من بني أمية - ولو شاء أن

يبعث بعوثه إلى أقصى الصين لفعل؛ لكثرة الجيوش والأموال، انتهى. وذكر في الطبقة الثالثة - وهي الوسطى - من التابعين: الحسن البصري، وقال: قال ابن سعد: وما أرسلَه ليس بحجة، وقال: هو مدلِّس، فلا يحتج بقوله فيمن لم يدركه، وقد دلس عمن لقيه، وقال تحت ترجمة أبي الشعثاء جابر بن زيد الأزدي: روي أنه لقي ابنُ عمر جابرًا المذكورَ في الطواف، فقال: يا جابر! إنك من فقهاء البصرة، وإنك تستفتى، فلا تفتين إلا بقرآن ناطق، أو سنة ماضية، فإن لم تفعل، هلكت وأهلكت، قال: وكان في هذا الوقت من علماء التابعين عدد كثير في مملكة الإسلام، وسَمَّاهم. ثم ذكر بعد تمام الطبقة الرابعة ما نصه: في هذه الطبقة تحولت دولة الإسلام من بني أمية إلى بني العباس في عام 132، فجرى بسبب ذلك التحول سيول من الدماء، وذهب تحت السيوف عالَم لا يحصيهم إلا الله - عز وجل - بخراسان وعراق والجزيرة والشام، ومات فلان وفلان، سمَّاهم، وهم علماء الوقت وحفاظه، قال: وفي هذا الزمان ظهر بالبصرة الاعتزالُ والقولُ بالقدر، وظهر بخراسان مُقاتل بنُ سليمان، وبالغ في إثبات الصفات حتى جَسَّم، وقام على هؤلاء علماء التابعين، وأئمة السلف، وحذروا من بدعهم، وشرع الكبار في تدوين السنن، وتأليف الفروع، وتصنيف العربية، ثم أكثر ذلك في أيام الرشيد، وكثرت التصانيف، وألفوا في اللغات، وأخذ حفظ العلماء ينقص. فلما دونت الكتب، اتكلوا عليها، وإنما كان قبل ذلك علم الصحابة والتابعين في الصدور، فهي كانت خزانة العلم لهم. ثم لوَّحَ بذكر الطبقة الخامسة، وذكر منها الإمام أبا حنيفة النعمان، وحكى عن ابن معين: أنه لا بأس به، وذكر آخرين، منهم: ابن جريج، قال: وكان يرى المتعة، فتزوج ستين امرأة، ومنهم: مقاتل بن حيان، قال: مات قبيل الخمسين بأرض الهند، ومنهم: سفيان الثوري، ومن قوله: والله إنَّ طلبَ الحديث شيءٌ غيرُ الحديث، فطلبُ الحديث اسمٌ عرفي لأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث؛ من تحصيل النسخ، وتكثير الشيوخ، والفرح بالألقاب، وتمني العمر

الطويل ليروي، وحب التفرد إلى أمور لازمة للأغراض النفسانية لا للأعمال الربانية، فإذا كان طلبك للحديث محفوفًا بهذه الآفات، فمتى خلاصك منها إلى الإخلاص؟ قال الذهبي: وإذا كان علم الآثار مدخولاً، فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان، وتورث الشكوك والحيرة التي لم تكن والله! من علم الصحابة، ولا من علم الأوزاعي والثوري، والأئمة الأربعة، ولا عرفها أصحاب الأمهات الستة وأمثالُهم، بل كانت علومهم القرآن والحديث والفقه والنحو وشبيه ذلك، قال الثوري: ما من علم أفضل من طلب الحديث إذا صحت النية؛ يعني: طلبه للعمل مع الإخلاص، لا لغيره. قال: وفي زمان هذه الطبقة كان الإسلام وأهله في عز تام، وعلم غزير، وأعلام الجهاد منشورة، والسنن مشهورة، والبدع مكبوبة، والقوالون بالحق كثير، والعباد متوافرون، والناس في بُلَهْنِيَة - أي: سعة من العيش - بالأمن، وكثرة الجيوش المحمدية من أقصى المغرب وجزيرة الأندلس إلى قرب مملكة الخطا، وبعض الهند، وإلى الحبشة، وخلفاء هذا الزمان: أبو جعفر المنصور، ثم ابنه المهدي، ثم هارون الرشيد، وكان محبًا للسنن، قال: وكان في هذا الوقت من الصالحين مثل إبراهيم بن أدهم، وفلان وفلان، ومن النحاة: الخليل، ومن القراء كحمزة، ومن الشعراء عدد كثير، قال: وإنما اقتصرت على هؤلاء - الذين هم نيف وسبعون إمامًا - طلبًا للتخفيف. ثم ذكر الطبقة السادسة، وهم تسعة وتسعون إمامًا، منهم: أبو يوسف القاضي - صاحب أبي حنيفة -، وحكى عنه: أنه قال: كل ما أفتيتُ به فقد رجعتُ عنه إلا ما وافق الكتاب والسنة، وفي لفظ: إلا ما وافق القرآن، واجتمع عليه المسلمون، ومنهم: يحيى بن القطان. قال: وكان له مسبحة يسبح بها، توفي سنة 198. ومنهم: عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري أحد الأعلام، قال: وكان ثقة حجة حافظًا مجتهدًا لا يقلد أحدًا، مات سنة 199. ومنهم: النضر بن شميل، قال أبو حاتم: هو صاحب سنة، وقال ابن المصعب: هو أول من أظهر

السنة بمرو وخراسان، ومن لطائفه: أنه قال: لا يجد الرجل لذة العلم حتى يجوع وينسى جوعه. ثم قال: وكان في زمان هؤلاء خلائق من أصحاب الحديث؛ كالترمذي، وأمثاله، ومن مشائخ القوم؛ كشقيق البلخي، ونظرائه، والدولة لهارون الرشيد والبرامكة، ثم بعدهم اضطربت الأمور، وضعف أمر الدولة بخلافة الأمين، فلما قتل، واستخلف المأمون على رأس مئتين، نجم التشيُّع، وأبدى صفحته، وبزغ فجر الكلام، وعُرِّبت حكمةُ الأوائل، ومنطقُ اليونان، وعمل رصد الكواكب، ونشأ للناس علم جديد لا يطابق أحكام النبوة، ولا يوافق توحيد المؤمنين، وكانت الأمة في عافية قبل ذلك، وقويت شوكة الرافضة والمعتزلة، وحمل المأمون المسلمين على القول بخلق القرآن، ودعاهم إليه، وامتحن العلماء. قال الذهبي: وإن من البلاء أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وتقدم عقول الفلاسفة، وتعتزل منقول اتباع الرسل، وتماري في القرآن، وتنبرم بالسنن والآثار، وتقع في الحيرة، فالفرارَ الفرارَ قبل حلول الدمار، وإياك ومضلات الأهواء ومجاراة العقول {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]. ثم ذكر الطبقة السابعة من حفاظ العلم النبوي، وقال: هم عدد كثير، واقتصرتُ منهم على الأعلام، وهم مئة نفس - رحمهم الله تعالى -، قال: ومنهم: الشعبي البصري، قيل له: رجع أبو حنيفة عن مسائل كثيرة، قال: إنما يرجع الفقيه إذا اتسع علمه، ومن كلامه: ليس الدين بالكلام، إنما الدين بالآثار، ومنهم: الإمام الشافعي، كان حافظًا للحديث، بصيرًا بعلله، ومنهم: حفصُ بن عبد الله، عالمُ نيسابور وقاضيها، وكان لا يقضي بالرأي ألبتة. روى الذهبي بسنده عنه إلى سالم: أنه سمع رجلًا من أهل الشام يسأل ابن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج؟ فقال: هي الحلال، قال السائل: إن أباك قد نهى عنها، قال: أرأيتَ إن كان أبي قد نهى عنها، وقد صنعها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، أتتبع أمرَ أبي، أم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: قد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم ذكر الطبقة الثامنة، وذكر منهم أحمدَ بن حبان الحافظَ الحجةَ صاحب "المسند"، وحكى عنه: أنه قال: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أصحاب الحديث، وإذا ابتدع الرجل بدعة، نزعت حلاوة الحديث من قلبه، مات سنة 256. قال الذهبي رح - بعد ترجمة أبي التقى -: فهؤلاء المسمَّوْن في هذه الطبقة هم نقاوة الحفاظ، ولعل قد أهملنا طائفة من نظرائهم، فإن المجلس الواحد - في هذا الوقت - كان يجتمع فيه أزيدُ من عشرة آلاف محبرة يكتبون الآثار النبوية، ويعتنون بهذا الشأن، وبينهم نحو من مئتي إمام قد برزوا وتأهلوا للفتيا، فلقد تقالَّ أصحاب الحديث وتلاشوا، وتبدل الناس بطلبة يهزأ بهم أعداء الحديث والسنة، ويسخرون منهم، وصار علماء العصر في الغالب عاكفين على التقليد في الفروع من غير تحرير لها، ومكبين على عقليات من حكمة الأوائل، وآراء المتكلمين، من غير أن يتعقلوا أكثرها، فعَمّ البلاء، واستحكمت الأهواء، ولاحت مبادي رفع العلم وقبضه من الناس، فرحم الله امرأً أقبل على شانه، وقصر من لسانه، وأقبل على تلاوة قرآنه، وبكى على زمانه، وأمعن النظر في "الصحيحين"، وعبدَ الله قبل أن يبعثه الأجل، اللهمَّ وفق وارحمْ واجعلنا منهم. ثم ذكر الطبقة التاسعة - وعدتهم مئة وستة أنفس -، ومنهم: الذهلي حافظ نيسابور، قال أبو عمرو: رأيته في النوم، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: فما فعل بحديثك؟ قال كُتب بماء الذهب، ورُفع في أعلى عليين، توفي الذهلي سنة 258. ومنهم: الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن عتاب الأعين، قال الذهبي: لما مات، وبلغ خبره أحمد بن حنبل، قال: إني لأغبطه، مات ولم يعرف غير الحديث، ومنهم: داود الظاهري الحافظ الفقيه المجتهد، قال أبو إسحاق: كان في مجلسه أربع مئة طيلسان، وقال ثعلب: كان عقل داود أكثرَ من علمه، مات سنة 270. ومنهم: أبو داود - صاحب "السنن" -، قال: كتبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس مئة ألف حديث، انتخبت منها هذه السنن، فيه أربعة آلاف وثمان مئة حديث، مات سنة 275. قال الذهبي في آخر هذه الطبقة: ولقد كان في هذا العصر وما قاربه من أئمة

الحديث النبوي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا خلق كثير، ما ذكرنا عشرهم ها هنا، وأكثرهم المذكورون في "تاريخي الكبير"، وكذلك كان في هذا الوقت خلق من أهل الرأي والفروع، وعدد من أساطين المعتزلة والشيعة، وأصحاب الكلام الذين مشوا وراء المعقول، وأعرضوا عما عليه السلف من التمسك بالآثار النبوية - صلى الله عليه وسلم -، وظهر في الفقهاء التقليد، وتناقص الاجتهاد، فسبحان من له الخلق والأمر! فبالله عليك يا شيخ! ارفق بنفسك، والزم الإنصاف، ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشزر، ولا ترمقنَّهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا هذا - حاشا وكلا -، فما فيمن سميت أحد - ولله الحمد - إلا وهو بصير بالدين، عالم بسبيل النجاة، وليس في كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة، وإني أحسبك؛ لفرط هواك، وسعة جهلك، تقول بلسان الحال، إن أعذرك المقال: من أحمد؟ وما ابن المديني؟ وأي شيء أبو زرعة، وداود؟ وهؤلاء المحدثون، ولا يدرون الفقه ولا أصوله، ولا يفقهون الرأي، ولا علم لهم بالبيان والمعاني، ولا بالدقائق، ولا خبرة لهم بالبرهان والمنطق، ولا يعرفون الله تعالى بالدليل، ولا هم من فقهاء الملة، فاسكتْ بحلم، أو انطقْ بعلم، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء، ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن، ولا أنت، وإنما يَعرف الفضلَ لأهل الفضل ذو الفضل، فمن اتقى، راقب الله، واعترف بنقصه، ومن تكلم بالجاه وبالجهل، أو بالشر والهوى، فأعرضْ عنه، وذرْه وغيَّه، فعقباه إلى وبال، نسأل الله العفو والسلامة. ثم عقد الطبقة العاشرة: وذكر فيها من أئمة أهل الحديث النبوي: تسعة وتسعين حافظًا، منهم: بقي بن مخلد القرطبي، قال: وكان إمامًا عَلَمًا قدوة مجتهدًا، لا يقلد أحدًا، محى (¬1) السنة، تعصبوا عليه؛ لإظهاره مذهب أهل الأثر، فدفعهم عنه أمير الأندلس محمد بن عبد الرحمن المرواني، واستنسخ كتبه، وقال لبقي: انشر علمك، وروي عن بقي، قال: لقد غرستُ للمسلمين ¬

_ (¬1) كذا في المطبوع والصواب محيي والله أعلم.

غرسًا بالأندلس لا يُقلع إلا بخروج الدجال، توفي سنة 276. ومنهم: الحافظ الكبير أحمد بن أبي عاصم قاضي أصبهان، قال: كان مذهبه القول بالظاهر وترك القياس، قال أبو نعيم الحافظ: كان ظاهريَّ المذهب، مات سنة 287. ومنهم: قاسم بن محمد الحافظ الأندلسي، قال: صار إمامًا مجتهدًا لا يقلد أحدًا، وهو مصنف كتاب "الإيضاح في الرد على المقلدين"، وكان مذهبه الحجة والنظر، ولم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر والبصر بالحجة، مات سنة 276. ومنهم: ابن خزيمة الحافظ المشهور، ومن كلامه: ليس لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول إذا صح الخبر، ومن لم يقر بأن الله قد استوى على عرشه فوق سبع سماواته، فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئًا، مات سنة 311. ومنهم: الإمام محمد بن إسحاق شيخ الحديث بخراسان، يعرف بالسراج، كان يضحي كل أسبوع أو أسبوعين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يجمع أصحاب الحديث ويطعمهم حتى قال: ختمت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف ختمة، وضحيت عنه اثني عشر ألف أضحية. ومنهم: ابن المنذر الحافظ شيخ الحرم - صاحب الكتب التي لم يصنف مثلها -. قال الذهبي: وكان مجتهدًا لا يقلد أحدًا، وكان غاية في معرفة الاختلاف والدليل، توفي سنة 318. ومنهم: الأرغياني الحافظ البارع محمد بن مسيب النيسابوري، قال الذهبي: كان من العباد المجتهدين، مات سنة 315. ومنهم: الحافظ البارع حسين بن محمد - يعرف بالسنجي -. قال ابن ماكولا: ما بخراسان أكثر حديثًا منه، وكان لا يحدث أهل الرأي إلا بعد الجهد. ومنهم: ابن شريح الإمام العلامة شيخ الإسلام أحمدُ بن عمر البغدادي، وكان صاحب سنة واتباع. ومنهم: عبد المؤمن بن خلف الحافظ الإمام أبو يعلى، كان من علماء الظاهرية، وكان شديد البحث للآثار، محطًا على أهل القياس، ناسكًا متبعًا، قال الحافظ المستغفري: شهدنا جنازته، فغشينا أصوات مثل ما يكون من العساكر،

حتى ظننا جميعًا أن جيشًا قد قدم، فكنا نقول: ليتنا صلينا عليه قبل أن يغشانا، فلما اجتمع الناس، وقاموا للصلاة، كأن الصوت لم يكن، ثم إني رأيت في النوم كأن إنسانًا واقف على رأس درب أبي يعلى وهو يقول: أيها الناس! من أراد منكم الطريق المستقيم. فعليه بطريق أبي يعلى، أو نحو هذا، مات سنة 346. قلت: وهذا من بركة اتباع السنة. ومنهم: الحافظ الكبير حسن بن سعيد القرطبي، قال الذهبي: وكان علامة مجتهدًا لا يقلد. ومنهم: ابن شاهين الحافظ الإمام المفيد - محدث العراق - عمر بن أحمد البغدادي، ذكر الذهبي عن الخطيب، عن الداودي: أنه كان لا يعرف الفقه، وكان إذا ذكر له مذهب أحد يقول: أنا محمدي المذهب. مات سنة 358. ثم عقد الذهبي الطبقة الحادية عشرة: وسمى منهم بضعًا وسبعين إمامًا. ثم ذكر في الطبقة الثانية عشرة: ثلاثين نفسًا من الأئمة، منهم: الحافظ الصوري محمد بن علي الساحلي، قال الخطيب: كان من أحرص الناس على الحديث، وأكثرَهم كتبًا، ومن كلامه: قلْ لمن عاتدَ الحديثَ وأضحى ... عائِبًا أهلَه ومَنْ يَدَّعيهِ أبِعِلْمٍ تقولُ هذا أَبِنْ لي ... أَمْ بجهلٍ فالجهلُ خُلْقُ السفيهِ أَيُعاب الذين حفظوا الديـ ... ـــــنَ من التُرَّهاتِ والتَّمويهِ وإلى قولِهم وما قَدْ رَوَوْهُ ... راجعٌ كلُّ عالِمٍ وفَقيهِ توفي سنة 441. ومنهم: شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي، قال الذهبي: كان مظهرًا للسنة، داعيًا إليها، رادًا على أهل الفلسفة والإلحاد، لا يخاف في الله لومة لائم، حافظًا للحديث، بارعًا في اللغة، قال أبو سعد السمعاني: كان مظهرًا للسنة، داعيًا إليها، محرضًا عليها، وكان سيفًا مسلولاً على المخالفين، وجذعًا في أعين المتكلمين، وطودًا في الحديث لا يتزلزل، وقد امتُحن، مات

سنة 481. ومنهم: الحافظ الحميدي - صاحب "الجمع بين الصحيحين" -، وكان إمامًا في الحديث وعلِله ورواتِه، محققًا على مذهب أصحاب الحديث بموافقة الكتاب والسنة، وكان ظاهريًا تلمذ لابن حزم، فدعاه، وكان يتعصب له، ويميل إلى قوله، وقد أصابته فيه فتنة، ولما سدوا على ابن حزم، خرج الحميدي إلى المشرق، مات سنة 488. ومنهم: ابن الخاضية حافظُ بغداد ومفيدُها، قال السمعاني: نسخ "صحيح مسلم" بالأجرة سبع مرات، مات سنة 489. ومنهم: الحافظ محمد بن طاهر المقدسي، قال ابن منده: كان لازمًا للأثر، داوديَّ المذهب، جمع أطراف الصحاح الستة، فأخطأ في مواضع. ومنهم: العبدريُّ الإمام الحافظ، كان من أعيان الحفاظ وفقهاء الظاهرية، وكان داودي المذهب، يحمل الآيات على ظواهرها، مات سنة 544. ثم عقد الطبقة الثالثة عشرة، وسمى منهم خمسة عشر إمامًا، منهم: كوتاه الحافظُ الإمامُ المفيدُ عبدُ الجليل الأصفهاني، قال الذهبي: هو من أولاد المحدثين، قال: ما أعلم طريقًا إلى الجنة أهدى ممن يسلك طريق الحديث، مات سنة 553. ثم ذكر في الطبقة الرابعة عشرة أربعة وعشرين حافظًا كانوا أثريين. وذكر في الطبقة الخامسة عشرة ستًا وعشرين نفسًا من الحفاظ العاملين بالسنة، التاركين للمذهب، الطارحين للتقليد، وقال في ترجمة الحافظ الناقد ابن الرومية الأندلسي: كان ظاهريًا متعصبًا لابن حزم بعد أن كان مالكيًا، مات سنة 637. وقال في ترجمة ابن الصلاح صاحب كتاب "علوم الحديث" الإمامِ المشهورِ: كان سلفيًا حسنَ الاعتقاد، كافًّا عن تأَويل المتكلمين، مؤمنًا بما ثبت من النصوص، غيرَ خائض ولا معمق، انتقل إلى الله تعالى سنة 643. ثم عقد الطبقة السادسة عشرة إلى الطبقة العشرين، وذكر في كل طبقة جمعًا جَمًّا من الحفاظ المحدثين الأثريين، ومنهم: ابن الظاهري، قال الذهبي: شيخنا الإمام المحدث الحافظ، قلّ من رأيت مثله، ما اشتغل بغير الحديث إلى أن توفي سنة 696. وذكر في ترجمة الحافظ ابن الزبير المتوفى سنة 708: قد قلّ من يقنع

308 - أبو بكر بن المعافري الإمام، القاضي

بالآثار ومعرفتها في هذا الوقت في مشارق الأرض ومغاربها على رأس السبع مئة، أما المشرق وأقاليمه، فقد غلقت الأبواب، وانقطع الخطاب، والله المستعان، وأما المغرب، وما بقي من جزيرة الأندلس، فيندر من يعتني بالرواية، فضلاً عن الدراية. ثم ذكر الطبقة الحادية والعشرين: وسمَّى من حفاظها: شيخ الإسلام بن تيمية، وقال: الشيخ الإمام العلامة، الحافظ الناقد المجتهد، المفسر البارع، شيخُ الإسلام، علم الزهاد، نادرة العصر،، أحد الأعلام، قال: وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، وأفراد الشجعان، أثنى عليه الموافق والمخالف، توفي سنة 728. ثم ذكر المزيَّ محدثَ الشام، وأثنى عليه كثيرًا، قال: يرافق هو وابن تيمية كثيرًا في سماع الحديث، وكان يقرر طريقة السلف من السنة، ويعضد ذلك بالمباحث النظرية، والقواعد الكلامية، وجرى بيننا مجادلات ومعارضات في ذلك، تركُها أسلمُ وأولى. 308 - أبو بكر بن المعافري (¬1) الإمامُ، القاضي. وهو فخر المغرب، إمام في الأصول والفروع، قال الشيخ العلامة أحمد بن محمد الشهير بالمَقَّري في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب": ومن شعره - وقد ركب مع أحد أمراء الملثمين - وكان ذلك الأمير صغيرًا، فهز عليه رمحًا - كان في يده - مداعبًا له، فقال: يَهُزَّ عَلَيَّ الرمحَ ظبيٌ مُهَفْهَفٌ ... لَعوبٌ بِأَلبابِ البريَّةِ عابثُ فلو كانَ رمحًا واحدًا لاتَّقيته ... ولكنَّه رمحٌ وثانٍ وثالِثُ وقد اختلف حذاق الأدباء فى قوله: ثان وثالث، ما هما؟ فقيل: القَدَّ واللَّحظ، وقيل غير ذلك، انتهى. ذكره الحجازي في "المسهب"، وابن الإمام في "سمط الجمان"، والشقندي في "الطرف". سمع - يعني: الحديث - ¬

_ (¬1) هو: أبو بكر بن العربي، محمد بن عبد الله بن محمد المعافري، (468 - 543 هـ)، مات بفاس.

بالأندلس ومصر والإسكندرية ودمشق من جماعة من الحفاظ، وكان ثاقب الذهن، ذكره ابن بشكوال في "الصلة"، وقال: الإمام الحافظُ، ختامُ علماء الأندلس، دخل الشام والعراق وبغداد، وسمع بها من كبار العلماء، ثم حج، ولما غرب، صنف "عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي"، وولي القضاء بإشبيلية، مولده سنة 468، وتوفي سنة 543، سمع ودرَّس الفقه والأصول، وجلس للوعظ والتفسير، وصنف في غير فن، والتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى أوذي في ذلك بذهاب كتبه وماله، فأحسن الصبر على ذلك كله، روى عنه خلق كثير، منهم: القاضي عياض، ترجم له المَقَّري ترجمةً حافلة حسنة، وقال: كنت نقلت من "المطمح" في حقه ما صورته: علمُ الأعلام، الطاهرُ الأثواب، الباهرُ الأبواب، الذي أنسى ذكاءَ إياس، وترك التقليد للقياس، وأنتج الفرع من الأصل، وغدا في الإسلام أمضى من النصل، ومن تصانيفه: كتاب "القبس في شرح موطأ ومالك بن أنس"، وكتاب "ترتيب المسالك في شرح موطأ مالك"، وكتاب "أحكام القرآن"، وكتاب "مشكل الكتاب والسنة"، وكتاب "النيرين في الصحيحين"، وكتاب "الرد على من خالف السنة من ذوي البدع والإلحاد". ومن فوائده: قوله: قال علماء الحديث: ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سمعَ مقالتي، فوعاها فأداها، كما سمعها" الحديث، قال: وهذا دعاء منه - صلى الله عليه وسلم - لحملة علمه، ولا بد - بفضل الله تعالى - من نيل بركته، انتهى. وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس العزفي بقوله: أهلُ الحديثِ عصابةُ الحق ... فازوا بدعوةِ سَيَّدِ الخَلْقِ فوجوهُهم زُهْرٌ مُنَضَّرَةٌ ... لألاؤُها كتألُّقِ البرقِ يا ليتني معهم! فيُدرِكَني ... ما أَدركوهُ بها من السَّبْقِ ومن فوائده: قوله: تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري حديثَ أبي ثعلبة (¬1) المرفوع: "إن من ورائكم أيامًا للعامل فيها أجرُ خمسين ¬

_ (¬1) روى الترمذي وابن ماجه هذا الحديث بهذا اللفظ: عن أبي ثعلبة في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ =

منكم"، فقالوا: مِنْهم؟ فقال: "بل منكم؛ لأنكم تجدونَ على الخير أعوانًا، وهم لا يجدون عليه أعوانًا"، وتفاوضنا: كيف يكون أجرُ من يأتي من الأمة أضعافَ أجر الصحابة، مع أنهم قد أسسوا الإسلام، وعضدوا الدين، وأقاموا المنار، واقتحموا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا المِلَّة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح (¬1): "لو أنفقَ أحدُكم كلَّ يومٍ مثلَ أُحدٍ ذهبًا، ما بلغَ مُدَّ أحدِهم، ولا نَصيفَهُ"، فتراجعنا القول، وتحصل ما أوضحناه في "شرح الصحيح"، وخلاصته: أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقُهم فيها أحد، ولا يدانيهم فيها بَشَر، وأعمالٌ سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلصها من شوائب البدع والرياء بعدهم، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر بابٌ عظيم هو ابتداء الدين، والإسلام هو أيضًا انتهاؤه، وقد كان قليلاً في ابتداء الإسلام، صعبَ المرام؛ لغلبة الكفار على الحق، وفي آخر الزمان أيضًا يعود كذلك، لوعد الصادق - صلى الله عليه وسلم - بفساد الزمان، وظهور الفتن، وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سَنَن من مضى من أهل الكتاب؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لتركبنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ، لدخلتُموه"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإسلامُ غريبًا، وسيعودُ غريبًا كما بدأ" [فطوبى للغرباء، رواه مسلم] فلا بد - والله تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق - أن يرجع الإسلام إلى واحد كما بدأ من واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى إذا قام به قائم، مع ¬

_ = أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، فقال: أما والله! لقد سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرًا لا بدَّ لك منه، فعليك نفسك، ودع أمر العوام، فإن وراءكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن، قبض على الجمرة، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قالوا يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم". (¬1) رواه البخاري، عن أبي سعيد الخدري بهذا اللفظ: قال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا أصحابي! فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مدَّ أحدهم، ولا نصيفه".

احتواشه بالمخاوف، وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه، كان له من الأجر أضعافُ ما كان لمن كان متمكنًا منه، معانًا عليه بكثرة الدعاة إلى الله تعالى، وذلك قولُه: "لأنكم تجدون على الخير أعوانًا، وهم لا يجدون عليه أعوانًا" حتى ينقطع ذلك انقطاعًا تامًا؛ لضعف الدين، وقلة اليقين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقومُ الساعةُ حتى لا يُقال في الأرض: الله، الله" [رواه مسلم]- يروى برفعِ الهاءِ ونصبها -، فالرفعُ على معنى: لا يبقى موحَّدٌ يذكر الله - عز وجل -، والنصب على معنى: لا يبقى آمرٌ بالمعروف، وناهٍ عن منكر يقول: أخاف الله، وحينئذ يتمنى العاقل الموت، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقومُ الساعةُ حتى يمرَّ الرجلُ بقبرِ الرجل، فيقول: يا ليتني كنتُ مكانَه"، انتهى. وأنشد - رحمه الله تعالى - لبعض الصوفية: امتحنَ اللهُ بذا خَلْقَهُ ... فالنارُ والجنَّةُ في قَبْضَته فهجرُهُ أعظمُ من نارِه ... ووصلُه أَطْيَبُ من جَنَّتِه ومن فوائده: أنه قال: كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور بن جهير، فقرأ القارىء {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44]، وكنت بظهر أبي الوفاء ابن عقيل إمام الحنبلية - بمدينة السلام -، وكان معتزلي الأصول، فلما سمعت الآية، قلت لصاحب لي كان يجلس على يساري: هذه الآية دليل على رؤية الله تعالى في الآخرة؛ فإن العرب لا تقول: لقيت فلانًا، إلا إذا رأته، فصرف أبو الوفاء وجهه مسرعًا إلينا، وقال: ينتصر لمذهب الاعتزال في أن الله لا يُرى في الآخرة، فقد قال الله تعالى {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]، وعندك أن المنافقين لا يرون الله تعالى في الآخرة، وقد شرحنا وجه الآية في "المشكلين"، وتقدير الآية: فأعقبهم هو نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه، فيحتمل ضمير - يلقونه - أن يعود إلى ضمير الفاعل في - أعقبهم - المقدر بقولنا: هو، ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازًا على تقدير الجزاء، انتهى. ومنها: قوله: إنه كان بمدينة السلام إمامٌ من الصوفية وأيُّ إمام، يعرف بابن عطاء، فتكلم يومًا على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه، فقام

رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة، فقال: يا شيخ يا سيدنا! فإذَنْ يوسفُ هَمَّ وما تَمّ، فقال: نعم؛ لأن العناية من ثَمّ، فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم، وفطنة العامي في سؤاله، والعالِم في اختصاره واستيفائه، ولذا قال علماؤنا الصوفية: إن فائدة قوله تعالى: {لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22] أن الله أعطاه العلم والحكمة أيام غلبة الشهوة؛ لتكون سببًا للعصمة، انتهى. ومنها: قوله: كنت بمكة مقيمًا في سنة 489، وكنت أشرب من ماء زمزم كثيرًا، وكلما شربته، نويت العلم والإيمان، ففتح الله تعالى لي ببركته في المقدار الذي يسره لي في العلم، ونسيت أن أشربه للعمل، ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله لي فيهما، ولم يقدر، فكان صفوي للعلم أكثر منه للعمل، وأسأل الله الحفظ والتوفيق برحمته، ومنها: قوله حكاية عن الجوهري: أنه كان يقول: إذا أمسكت علاقة الميزان بالإبهام والسبابة، وارتفعت سائر الأصابع، كان شكلها مقروءًا بقولك: "الله"، فكأنها إشارة منه سبحانه في تيسير الوزن إلى أن الله سبحانه مطلعٌ عليك، فاعدل في وزنك، انتهى. ومنها: قوله في تفسير قوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] قيل: إنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء، والناس يكرهون السفر يوم الأربعاء لأجل هذه الرواية، انتهى. قلت: وفي المغازي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا على الأحزاب من يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء - بين الظهر والعصر -، فاستجيب له، وهي ساعة فاضلة، فالآثار الصحاح تدل على فضل هذا اليوم، فكيف يدعى فيه التحذير والنحس بأحاديث لا أصل لها؟! وقد صور قوم أيامًا من الأشهر الشمسية ادّعوا فيها الكراهية، لا يحل لمسلم أن ينظر إليها، فحبسهم الله، انتهى. ومنها: وكان يقرأ معنا برباط أبي سعد على الإمام دانشمند من بلاد المغرب - خنثى ليس له لحية، وله ثديان (¬1) - وعنده جارية - فربُّك أعلمُ به، ومع طول الصحبة، عَقَلَني الحياء عن سؤاله، وبودي اليوم لو كاشفته حاله، انتهى. ومن شعره: ¬

_ (¬1) ذكر الأستاذ المحقق محب الدين الخطيب في مقدمة الكتاب "العواصم من القواصم" الخنثى المذكور "الخنثى له لحية وله ثديان"، والله أعلم.

309 - عبد الملك بن حبيب السلمي

ليتَ شعري هلْ دَرَوْا ... أَيَّ قلب مَلَكوا وفؤادي لو دَرَى ... أَيَّ شِعْبٍ سَلَكوا أَتُراهم سَلِموا ... أَمْ تُراهم هَلَكوا حارَ أربابُ الهوى .... في الهوى وارتبكوا انتهى من "نفح الطيب" ملخصًا، وذكر ترجمته أيضًا سليم الخوري في "آثار الأدهار"، وأثنى عليه، وذكر له مؤلفات كبارًا، وبعضَ الأشعار، وحفيدُه محمد بن عبد الله بن أحمد يعرف بابن العربي أيضًا، قال في "الآثار": حج، فسمع من السِّلفي، ثم رحل إلى الشام والعراق، وأخذ عن عبد الوهاب بن سكينة وطبقته، ورجع، فأخذوا عنه، ثم تصوف وتعبد، وتوفي بالإسكندرية سنة 617، قاله الذهبي في "تاريخه الكبير"، انتهى. وفيه شيء. 309 - عبد الملك بنُ حبيبٍ السلميُّ. عالم الأندلس، قد عرف به القاضي عياض في "المدارك"، وغير واحد، بلغت تواليفه ألفًا، وهو مشهور عند علماء المشرق، وقد نقل عنه الحافظ ابن حجر، وصاحب "المواهب"، وغيرهما: تصرفَ في فنون العلوم، وعرفَ كل معلوم. قال في "المطمح": ولم يكن له علم بالحديث، وكان عرضه الإجازة، قال المَقَّري: وأما عدمُ معرفته بالحديث، فهو غير مسلَّم، وقد نقل عنه غير واحد من جهابذة المحدثين، نعم لأهل الأندلس غرائبُ لم يعرفها كثير من المحدثين، حتى إن في "شفاء عياض" أحاديثَ لم يعرف أهل المشرق النقاد مخرجَها، مع اعترافهم بجلالة حفاظ الأندلس الذين نقلوها؛ كبقي بن مخلد، وابن حبيب، وغيرهما، على ما هو معلوم. 310 - إسماعيل بن محمد بنِ يوسفَ، الأنصاريُّ، الأندلسيُّ، الآبذي، يلقب: برهان الدين. سمع بمكة وغيرها من البلاد، وبدمشق من الحافظ ابن طبرزد، وكان فاضلاً صالحًا شاعرًا، توفي سنة 656.

311 - القاضي منذر بن سعيد البلوطي

311 - القاضي منذر بنُ سعيدٍ البلوطيُّ. قاضي الجماعة بقرطبة، وكان متفننًا في ضروب العلوم، وغلب عليه التفقه بمذهب داود بن علي الأصبهاني المعروف بالظاهري، فكان يؤثر مذهبه، ويجمع كتبه، ويحتج لمقالته، ويأخذ به في نفسه وذويه، توفي سنة 355. له كتاب "أحكام القرآن"، و"الناسخ والمنسوخ"، و"الرد على أهل المذاهب"، ذكر ابن أصبغ الهمداني: أنه خطب يومًا، وأراد التواضع، فكان من فصول خطبته أن قال: حتى متى وإلى متى أعظ ولا أتعظ، وأزجر ولا أنزجر، أدلُّ الطريق إلى المستدلين، وأبقى مقيمًا مع الحائرين؟! كلا {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] الآية. اللهم فَرِّغنْي لما خلقتني له، ولا تشغلني بما تكفَّلْت لي به، ولا تحرمني وأنا أسألك، ولا تعذبني وأنا أستغفرك يا أرحم الراحمين. 312 - قاسم بن أصبغ بن محمد البياني المالكي - وبنانة من أعمال قرطبة. سمع من بقي بن مخلد، وبمكة من محمد بن إسماعيل الصائغ، ودخل عراق وبغداد، وسمع بها من عبد الله بن الإمام أحمد، والحارث بن أسامة، وسمع بمصر وبالقيروان، وانصرف إلى الأندلس بعلم كثير، فمال الناس إليه، وكان بصيرًا بالحديث والرجال، نبيلاً في النحو والغريب والشعر، صنف على كتاب "السنن" لأبي داود كتابًا في الحديث، وفيه من الحديث المسند ألفان وأربع مئة وتسعون حديثًا في سبعة أجزاء، مولده سنة 447. حكى القرطبي في "تفسيره": أنه قال: أخذتُ عن بكر بن حماد حديثَ مسدد، فقرأت عليه: أنه قدم عليه قوم من مضر مجتابي النِّمار، فقال: إنما هو مجتابي الثمار، فقلت: إنما هو النِّمار، فسألت الشيخ، فقال كما قلتُ، وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة جيوبُهم أمامهم، فقال بكر - وأخذ بأنفه -: رغمَ أنفي للحق، قال المَقَّري: وهذه الحكاية دالة على عظيم قدر الرجلين.

313 - قاسم بن ثابت العوفي السرقسطي

313 - قاسم بن ثابت العوفيُّ السَّرَقُسْطِيُّ. سمع من النسائي، والبزار، وابن الجارود، واعتنى بجمع الحديث واللغة - هو وأبوه -، وألف في شرح الحديث كتابًا سماه: "الدلائل" بلغ فيه الغاية في الإتقان، ومات قبل إكماله، فأكمله ابنه ثابت بعده، وكان متقدمًا في معرفة الحديث والنحو والشعر، وكان مع ذلك ورعًا ناسكًا، وكان مجاب الدعوة، توفي السنة 303 الهجرية. 314 - قاسم بن محمد بنِ قاسم. إمام أهل قرطبة، وجدُّه مولى الوليد بن عبد الملك. سمع بمصر من المزني، والبرقي، وابن المنذر، وغيرهم. قال المَقَّري: وكان يذهب مذهب الحجة والنظر وترك التقليد، قال له ابنه - محمد بن القاسم -: يا أبت! أوصني، قال: أوصيك بكتاب الله، فلا تنس حظك منه، واقرأ منه كل يوم جزءًا، واجعل ذلك واجبًا عليك، وإن أردت أن تأخذ من هذا الأمر بحظ - يعني: الفقه -، فعليك برأي الشافعي؛ فإني رأيته أقل خطأ، قال الفرضي: لم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر والبصر بالحجة، توفي سنة 278. 315 - محمد بن إبراهيم بن حيون. من أهل وادي الحجارة قال ابن الفرضي: سمع من ابن وضاح، والخشني، ورحل إلى المشرق، وسمع بصنعاء ومكة وبغداد، ولقي جماعة من أصحاب الإمام أحمد، وكان إمامًا في الحديث، عالمًا حافظًا للعلل، بصيرًا بالطرق، ولم يكن بالأندلس قبله أبصر بالحديث منه، وهو ضابط متقن، حسن التوجه للحديث، صدوق، لم يذهب مذهب مالك، روى عنه ابن أيمن، وابن أصبغ، قال خالد بن سعيد: لو كان الصدق لسانًا، لكان ابن حيون، توفي سنة 305. 316 - محمد بن إبراهيم بنِ موسى، يعرف بابن شق الليل. من أهل طُلَيْطلة، سمع بمصر وغيرها من جماعة، وحدث عن جماعة من المحدثين كثيرة.

317 - أبو سلمة محمد بن علي، البياسي الغرناطي

قال ابن بشكوال: وكان حافظًا للحديث والفقه، قائمًا بهما، متقنًا لهما، إلا أن المعرفة بالحديث وأسماء رجاله والبصر بمعانيه وعلله كان أغلب عليه، وكان مليحَ الخط، جيد الضبط، من أهل الرواية والدراية، والمشاركة في العلوم، وكان أديبًا شاعرًا، كثير التصانيف والكلام على علم الحديث، توفي سنة 455. 317 - أبو سلمة محمد بنُ عليِّ، البياسيُّ الغرناطيُّ. روى عن الحافظ ابن الزبير، وقدم إلى القاهرة، واستوطنها بعد الحج حتى مات بها سنة 703. وكان عارفًا بالحديث، وكتب منه كثيرًا، ومال إلى مذهب الظاهرية، وانتفع به جماعة من طلبة الحديث، وكان ثقة - رحمه الله تعالى -. 318 - محمد بن الوليد بنِ محمدٍ الفهريُّ الطرطوشيُّ، يعرف بابن أبي رَندقة. كان عالمًا فقيهًا، شاعرًا فاضلاً جيدًا، أخذ عنه الحافظ ابن العربي وغيره، ومن نظمه قوله من رسالة: أُقَلِّبُ طَرْفي في السماءِ تَرَدُّدًا ... لَعَلَّي أَرى النجمَ الذي أنتَ تنظُرُ وأَستعرِضُ الركبانَ من كل وِجْهَةٍ ... لَعَلِّي بمن قد شَمَّ عَرْفَك أَظْفَرُ وأَستقبلُ الأرواحَ عندَ هُبوبها ... لعلَّ نسيمَ الريحِ عنك يُخَبِّرُ وأَمشي وما لي في الطريقِ مآربٌ ... عسى نغمةٌ باسم الحبيب سَتُذْكَرُ وأَلْمَحَ مَنْ ألقاه من غيرِ حاجةٍ ... عسى لمحة من نورِ وجهِك تسْفِرُ وكان يقول: إذا عرض لك أمر دنيا وأخرى، فبادر بأمر الأخرى، يحصل لك أمر الدنيا والأخرى، له كتاب "بدع الأمور ومحدثاتها"، ولد سنة 451 تقريبًا، وتوفي سنة 520. 319 - حسين بن محمد بنِ فيرةَ بنِ حَيُّون، يعرف بابن سُكره. روى عن الباجي، ورحل إلى المشرق، وحج، ثم سار إلى البصرة، ودخل بغداد وواسط، وسمع من جماعة من حفاظها، واستوطن الأندلس، وقعد

320 - الشيخ الفاضل، والأديب الكامل، شهاب الدين، محمود الخفاجي

يحدث الناس بجامعها، ورحل الناس من البلدان إليه، وكثر سماعهم عليه. وكان عالمًا بالحديث وطُرقه، عارفًا بعلله وأسماء رجاله ونَقَلَته، وكان حافظًا لمصنفات الحديث، قائمًا عليها، ذاكرًا لمتونها وأسانيدها ورواتها، وكتب منها "صحيح البخاري" في سفر، و"صحيح مسلم" في سفر، وكان قائمًا على الكتابين مع "سنن الترمذي"، وفُقد في فتنة كندة سنة 514، وذكر غيرُ واحد: أنه حدث ببغداد بحديث واحد، وهو من أبناء الستين. ذكر له سليم الخوري في "آثار الأدهار" والمَقَّري في "نفح الطيب" ترجمة توافق ما ذكرنا في هذا الموضع، مع زيادة يسيرة. 320 - الشيخ الفاضل، والأديب الكامل، شهابُ الدين، محمود الخفاجي. صاحب "ريحانة الألباء وزهرة الحيوة الدنيا"، حامل عَلَمِ العلم وناشرُه، وجالب متاع الفضل وتاجرُه. كان ممن شُدت إليه مسألة الكمال رحالَها؛ إذ ورث من سماء المعالي بدرها وهلالها، وحوى طارفها وتليدها، وأرضعَ من در الفنون كهلَها ووليدها، وسفرت له خرائد العلوم رافعة النُّقُب، وتزينت بمنظومه ومنثوره صدورُ المجالس والكُتب. حرر لنفسه ترجمة في كتابه "الريحانة"، وقال ما ملخصه: كنت بعد سن التمييز في مغرس طيبِ النبات، عزيزًا في حَجْر والدي، ممتعًا بذخائر طريفي وتالدي، مربًّى بغذاء على الظاهر والباطن، في النعيم المقيم بأرفع المساكن، فلما درجتُ من عُشِّي، قرأت على خالي علوم العربية، ثم ترقيت فقرأت المعاني والمنطق وبقية علوم الأدب الاثني عشر، ونظرت كتب المذهبين - مذهب أبي حنيفة والشافعي - مؤسسًا على الأصلين من مشايخ العصر، ومن أجل من أخذت عنه: شيخ الإسلام الشمس الرملي، حضرت دروسه الفرعية، وقرأت عليه شيئًا من "مسلم"، فأجازني بذلك، وبجميع مؤلفاته ومروياته بروايته عن شيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري، وعن والده، ومنهم: العارف بالله الشيخ نور الدين الزيادي - زاد الله حسناته -، حضرت دروسه زمانًا طويلاً، ومنهم: العلامة علي بن غانم المقدسي الحنفي، قرأت عليه الحديث، وكتبَ لي إجازة

بخطه، ومنهم: العلامة الفهامة خاتمةُ حفاظ المحدثين إبراهيمُ العلقمي، قرأت عليه "الشفاء" بتمامه، وأجازني به وبغيره، وشملني نظره وبركة دعائه، وممن أخذت عنه الأدب والشعر: شيخنا العلامة أحمد العلقمي، وممن أخذت عنه العروض: الشيخ محمد المغربي - المعروف بركروك -، وممن أخذت عنه الطب: الشيخ داود البصير، ثم ارتحلت مع والدي للحرمين الشريفين، وقرأت ثمة على الشيخ علي بن جاد الله، وعلى حفيد العصام، وغيره، ثم ارتحلت إلى قسطنطينية، واستفدت ممن بها؛ كابن عبد الغني، ومصطفى بن عربي، والحبر داود، وهو ممن أخذتُ عنه الرياضيات، وقرأت عليه إقليدس وغيره، وأجلهم إذ ذاك أستاذي سعدُ الدين بنُ حسن، وعدت إليها ثانيًا بعد ما توليت قضاء العساكر بمصر، فإن أردتَ ما لي من المآثر، فمن تآليفي: "الرسائل الأربعون"، و"حاشية تفسير البيضاوي" في مجلدات، و"حاشية شرح الفرائض"، و"شرح الدرة"، و"طراز المجالس"، و"حديقة السحر"، وكتاب "السوامج والرحلة"، و"حواشي الرضى والجامي"، و"شرح الشفاء"، وغير ذلك، ولي من النظم ما هو مسطور في ديواني، فلا حاجة لذكره. ومن المنثور رسائل ومكاتيب لم أجمعها، انتهى حاصله. ومن مؤلفاته: كتاب "الريحانة": وفيها مقاماته، يزري عَرْفُه عَرْفَ الجل والجادي، ويشدو بحداه الحادي، لم تر عين الزمان مثلَه في الكتب، ولا مثل أدبه وبلاغة كلامه في حسن البلاغة وتمام الفصاحة ومحاسن الخطب. وكان - رحمه الله - أديبًا علامة في العربية ولسان العرب، حاشيتُه على "تفسير البيضاوي" تدل على علو علمه، وسعة فضله، وكمال ذكائه، وغاية اطلاعه، ونهاية تحقيقه، لم يقم في الحنفية مثله في الزمان، ولم يساوه في فضائله ومناقبه إنسان، ذكر له مدير مطابع مصر ترجمة حافلة في أول تلك الحاشية، ويا لها من ترجمة أنوارها فاشية! قال الخفاجي في "الريحانة": وقد جعلوا خضرةَ العِمامة، علامةً للسيادة المستلزمة للتقدم والإمامة، وربما جعلوا فيها شطفة، تدل على أن فيهم من

النبوة والرسالة نطفة، وقد يفرقون بين أولاد البنين والبنات، ولم يفهموا مشاركة حطب الأغصان لهم والنبات. كأنَّ الله لم يخلُقْه إلا ... لتنعطفَ القلوبُ على يزيد وقد قال أصحاب التواريخ: إن أول حدوث هذه العلامة كان في سنة 773، لما أمر الملك الأشرف بمصر أن يميز الأشراف عن الناس بعصائب خضر على العمائم، وفي "الطبقات الكبرى" للسبكي: أن من أئمة الشافعية أحمدَ بن عيسى - شارح "التنبيه" - استنبط من قوله تعالِى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] أن ما يفعله علماء هذا الزمان، في ملابسهم من سعة الأكمام والعِمَّة ولبسِ الطيلسان، حسن وإن لم يفعله السلف؛ لأن فيه تمييزًا لهم، وبذلك يُعرفون، فيُلتفت إلى فتاواهم وأقوالهم، انتهى. ومنه يعلم أن تمييز الأشراف بعلامة أمر مشروع أيضًا لما سمعته آنفًا. أقول: فيه أمران: الأول: إن قولهم: كان ذلك أولاً بأمر الملك الأشرف يرد عليه ما نقله السخاوي في كتابه "مناقب العباس": أن عليًا الرضا بن موسى الكاظم عهد له الخليفة العباسي، وجعله وليَّ عهده بعده، وبويع، فغير لباس العباسيين - وهو السواد - بلبس الأخضر، فساء ذلك العباسيين، ولكنه عوجل؛ فإنه مات سنة 203 في حياة المأمون وعد ذلك من الألطاف؛ لما فيه من سد باب الفتنة، انتهى. الثاني: ما نقل من أن زِيَّ العلماء والأشراف سنة، رده ابن الحاج في "المدخل" بأنه مخالف لزيهم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزمن الخلفاء الراشدين ومَنْ بعدهم من خير القرون، فإن قيل: إنهم به يعرفون، قيل: إنهم لو بقوا على الزي الأول، عرفوا به أيضًا؛ لمخالفة ما عليه غيرهم الآن، وأطال في إنكار ما قالوه، وقد يجاب عنه، فتأمل فيه، انتهى. قال: لم يزل الناس على وضع الريحان - ونحوِه من الخضر - على القبور، وقد ورد هذا في الحديث وفي الأشعار، وعليه عملُ الناس إلى الآن، حتى وقفوا لذلك أوقافًا، وأنكره ابن الحاج في

"المدخل"، والخطابي، فقال: شقُّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له، وإلقاؤه على القبر، وقوله: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" - كما في البخاري وغيره، إنما هو ببركة مس يده له، وجعل بقاء الرطوبة حدًّا لما وقع به من المسألة من تخفيف العذاب؛ لأن في الجريد الرطب معنًى ليس في اليابس، والعامة يفرشون الخُوص على القبور، فكأنهم ذهبوا إلى [أن] هذا ليس له وجه، انتهى. ورده العلامة ابن حجر - في "شرح البخاري" -، فقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة إلى آخره، وأنكره الخطابي وغيره، ولا يلزم من كوننا لا نعلم تعذيبه وغيره أنا لا نتسبب في أمر يخفف عذابه كما ندعو له بالرحمة، ولم يصرح في الحديث بمسه له، وقد تأسى به بريدة الصحابي، فأوصى بوضع الجريدة على قبره، وهو أولى أن يتأسى به، انتهى. قلت - عفا الله عني -: الذي وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القبر هو الجريد، لا الريحانُ، ولا غيره، وهذا فعله - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة، ولا عموم للفعل، وفعلُ الصحابي لا يصلح للحجة، فالذي ذهب إليه ابن الحاج وغيره لعله هو الصواب - إن شاء الله تعالى -. قال: اعلم أن معجزة كل نبي على وفق زمانه وقومه، ولما كان أشرف الخلق العرب، وأعظم ما عندهم الشجاعة والفصاحة والكرم، كان أعظم معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - القرآن المعجز بفصاحته وبلاغته، ولما كان خاتم الرسل، ولا نبي بعده، جعل له معجزة باقية إلى القيامة لا تزال تتلى، وجديدةً على كثرة الترداد لا تَخْلَق ولا تَبْلى، انتهى. قلت: ومن هنا طالت يد سلف هذه الأمة وأئمتها إلى تعلم العربية حتى ملكوا ناصيتها، وبلغوا قاصيتها، وهذا اللسان العربي المبين هو لغة شريعتنا الحقة، فكان من الواجب علينا أخذه على وجهه، ولكن تقاعدت همم الخلف عن بلوغ ذروته حتى بقوا غير عارفين به وبمحاورته وصلاته، وحيث عاد بهم الحال إلى هذا المقام، فمن أين رجاءُ فهم معاني الكتاب والسنة لهم؟ قال: وعلى ذكر الهدية، نهدي إليك فائدة سنية: كان - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة، وأهدى إليه أعرابي هدية، فقبلها، فجاءه، وقال: يا رسول الله! إني كنت أهديت هدية، فأعطاه

321 - السيد العلامة، والشريف الفهامة، أبو أحمد، حسن بن علي، الحسيني، البخاري، القنوجي - والد محرر السطور -

عطية، فذهب، ثم أتاه مرة أخرى فأعطاه، ثم أتى مرة أخرى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني عزمتُ ألا أقبلَ هديةً إلا من قرشيٍّ أو ثقفيٍّ"، فقال حسان: إِنَّ الهدايا تجاراتُ اللئامِ، وما ... يرجو الكرامُ لِما يهُدون من ثَمَنِ وكان عمر - رضي الله عنه - لا يقبل هدية العمال، وإذا قبلها، وضعها في بيت المال، فقيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل الهدية، فقال: إنها كانت هدية، وهي الآن رشوة، ولذا قال الزاهد ابن عمران: تَوَقَّ وحاذِرْ من قَبولِ هديَّةٍ ... وإنْ جاءنا فيه حديثٌ مُرَغِّبُ فقد حدثَتْ بعدَ الرسولِ حوادثٌ ... تحذَّرُنا عنها وعَنْها تُرَغَّبُ وكانَتْ هدايا في الأوائلِ قبلَنا ... تؤلِّفُ فيما بينَهم وتُحَبِّبُ فعادَتْ بلايا يسرعُ المَنُّ بعدَها ... تُفَرَّقُ فيما بينَنا وتُجَنِّبُ 321 - السيد العلامة، والشريف الفهامة، أبو أحمد، حسنُ بنُ عليٍّ، الحسينيُّ، البخاريُّ، القنوجيُّ - والدُ محرر السطور -. فرعٌ من ذوابة هاشم، ونبعة من وشيج تلك المكارم، من آل السيد جلال الدين البخاري. وهم مشايخ سادة مكرمون، لا يمس صحفَ مجدِهم إلا المطهرون من حدث البشرية، ودنس الهيولى الدنية، من كل من قضى للعلياء وطرَها، وتلا آيات الكرامة وسُوَرَها، تعبق منهم أنفاسُ النبوة، وتجر لهم على وجه البسيطة أذيالُ الفتوة، ولم تُمْحَ محاسنُهم من صحائف الليالي والأيام، ولا تثمر بمثلها أغصانُ اليراع والأقلام. ولد - رضي الله عنه - في سنة 1210، وتوفي - رحمه الله تعالى - في سنة 1253. قرأ القرآن، وتعلم الفنون الآلية، وحصل الأدب، وسافر إلى البلاد، ودار على المشايخ الأمجاد، من أجلَّهم: أبناءُ الشيخ الأجل أحمد وليَّ الله المحدَّثِ الدهلوي، وهم: الشيخ عبد العزيز، والشيخ رفيع الدين، والشيخ عبد القادر - رحمهم الله تعالى -. وكان له محبة أكيدة مع الشيخ إسماعيل الشهيد، والشيخ عبد الحي المرحوم، وكانت بيعته على يد السيد العارف أحمد

322 - السيد العلامة الأديب النحوي الأصولي الفقيه المناظر، المتخلص بالعرشي: أحمد بن حسن بن علي - رحمه الله تعالى -

البريلوي، سافر معه إلى خراسان، وجاهد في الله باللسان والجنان، والبيان والصارم والسنان، ثم عاد إلى موطنه قنوج، وألقى به عصا التسيار، واشتغل بالتأليف والتذكير، وهدى الناس إلى دين الله الجبار، فبلغ عدد من باع على يده الشريفة واهتدوا بهديه عشرة آلاف إنسان تقريبًا، وكان آية بينة من آيات الله في التقوى والعمل، وتأثير الوعظ وقلة الأمل، وإيثار القناعة في المشرب والمأكل، ذا أبهة عظيمة، وهيبة فخيمة، يخافه الأمراء والعلماء، لسانه أمضى من السيف البتار، وسوطه على المبتدعين والمشركين يثير عنهم قتار الدمار، لم يزل مواظبًا للطاعات والعبادات، قائمًا لله تعالى بالحجج البينات، عاملاً بالدليل، تاركًا للتقليد، متمسكًا بالسنة المطهرة في كل حقير وجليل، معتصمًا بكتاب الله العزيز، لا يبالي بعده [...] ولا خليل، مات شابًا ولم يخلف شيئًا غير الكتب التفسيرية والحديثية، تأسف الناس على فقده فوق الوصف، ومنذ توفي ذهب رونقُ الإسلام وعلو شعائر الدين من ذلك البلد. وكان قد نوى الهجرة من ديار الهند إلى الحرمين الشريفين، فاخترمته المنية، قبلَ بلوغ هذه الأُمنيَّة، وإنما الأعمال بالنيات. كتب بخطه الشريف الحسن المليح كتبًا كثيرة، بعضُها موجود عندنا الآن، وضاع بعضها في زمن غدر هندستان، لا يزال يُرى النور على قبره الشريف، والناس يتبركون به. له مؤلفات ممتعة نافعة، غالبها باللسان الهندي - نظمًا ونثرًا -، أقل منها باللسان الفارسي، وأقل قليل منها باللسان العربي، وهي معروفة شائعة في أهل الإسلام، وكلها مملوءة بتوحيد الله سبحانه، وردَّ الإشراك والبدع، والحطَّ على أهلها، أرخ وفاته بعضُ العلماء من أحبابه وأصحابه بكلمة: "مات بخير" [أي 1253 هـ]- رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجعل الجنة مثواه ومنزله -. 322 - السيد العلامة الأديب النحوي الأصولي الفقيه المناظر، المتخلص بالعرشي: أحمد بن حسن بنِ عليٍّ - رحمه الله تعالى -. شبلُ ذاك الأسد، وأخو هذا العبد، كان أكبر مني بسنتين، نشأ في موطنه، وقرأ وروى، وحدَّث، وبرع في الفنون كلها جملة وتفصيلاً، وكان يتوقد ذكاء

323 - ابن باجه، هو أبو محمد بن يحيى التجيبي، الأندلسي، السرقسطي، ويعرف بابن الصائغ، الفيلسوف، الشاعر

وفطنة، وشجاعة وسيادة وفخامة، طاف البلاد، ولقي العلماء، وصحب المشايخ، وأخذ عنهم العلوم، وألف في رد التقليد رسائل ومسائل باللسان العربي المبين، وأتى فيها بالعجب العجاب، وأفحَمَ المقلدين، وأدخل عليهم العجزَ من كل باب، جاهد في الله جهادًا، وارتحل في آخر عمره إلى الحرمين الشريفين، فتوفي - رحمه الله - في الطريق في بلدة بزوده من أضلاع [أي: مقاطعات] كجرات، وقبره هناك - {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "موت الغربة شهادة"، وكانت وفاته في سنة 1277. له اليد الطولى في الشعر العربي والفارسي، كان ينظم - في ساعة نجومية - قصيدة طويلة فصيحةَ المبنى، بليغةَ المعنى، قلَّ من يقدر على إنشاء مثلها في أسبوع، بل في شهر كامل، كتب إلى علماء عصره وأدباء مصره كتبًا ورسائل لم يجمعها، وقد أوردت له أشعارًا في "إتحاف النبلاء"، وظني أن لحمه وعظمه وعصبه كلها كانت علومًا وذكاء، لم تر عيني مثلَه في جودة ذهنه، ووسعة اطلاعه، وحفظه للعلوم ومسائلها، وحضور خاطره، وبداهة طبعه، ولقد كان - والله - عديمَ النظر، وفقيد المثيل في أقرانه وأمثاله، بارعًا متقنًا في جميع أقواله وأحواله وأفعاله، بل كان تاجًا على رأس الزمن، و [هو] كاسمه أحمد وحسن، لم يلتفت إلى كتب الفروع والرأي وأهلها قط، ولم يعمل في خاصة نفسه إلا بالدليل من الكتاب والسنة، وكان له همة سامية في ذلك، وحمية نامية فيما هنالك - رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وغفر لي وله ومنحه الحسنى وزيادة -. 323 - ابن باجه، هو أبو محمد بنُ يحيى التُّجيبيُّ، الأندلسيُّ، السرقسطيُّ، ويعرف بابن الصائغ، الفيلسوفُ، الشاعر. ذكره الفتح بن خاقان في "قلائد العقيان"، ونسبه إلى انحلال العقيدة؛ لعداوة كانت بينهما، وجعله آخر ترجمة في كتابه، فقال: هو رَمَدُ عينِ الدين، وكَمَدُ نفوس المهتدين، اشتهر سخفًا وجنونًا، وهجر مفروضًا ومسنونًا، فما يتشرع ولا يأخذ في غير الأضاليل، ولا يشرع نظر في تلك التعاليم، وفكر في

324 - ابن بطال: هو أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، الإمام، الحافظ المالكي البكري

أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، رفضَ كتابَ الله الحكيم العليم، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن تكون له إلى الله فَيْئَةَ، قال: فهو يعتقد أن الزمان دَوْر، وأن الإنسان نبات أو نَوْر، ثمامه واختطافه قطافه، قد محا الإيمانَ من قلبه، فما له فيه رسم، ونسي الرحمن لسانه، فما يمر له عليه اسم. إلى آخر ما قال. وأثنى عليه المَقَّري في "نفح الطيب"، وسبب العداوة بينه وبين الفتح ذكره لسانُ الدين بن الخطيب في "الإحاطة"، وحكاه سليم الخوري في "آثار الأدهار". توفي بفاس عام 544، وقيل: إن جماعة من أطبائها سَمُّوه حسدًا وعدوانًا، وذكره ابن أبي أُصَيْبِعَة في كتاب "عيون الأنباء"، وذكره ابن الطفيل، وهما متعاصران. 324 - ابن بَطَّال: هو أبو الحسن عليُّ بنُ خلف بنِ عبدِ الملك بنِ بطال، الإمامُ، الحافظُ المالكيُّ البكريُّ. أصله من قرطبة، وأخرجته الفتنة إلى بَلَنْسِيَة، وكان عالمًا فقيهًا، عني بالحديث، وله شرح على "صحيح البخاري"، وولي قضاء لُورْقَة، وروى عنه جماعة، وله كتاب "الاعتصام" في الحديث، وكانت وفاته سنة 444، أو سنة 449. 325 - ابن جماعة: هو محمدُ بنُ إبراهيمَ بنِ سعدِ الله، الكنانيُّ، الشافعيُّ، قاضي القضاة. سمع من جماعة، وحدث، وكان له مشاركة جيدة في الفقه والأصول والحديث والتفسير، وكان خطيبًا دينًا، ولي الخطابة بالقدس، ثم القضاء بمصر، ثم بالشام، وحصلت له دنيا واسعة، ثم ولي بعد ذلك مناصب عديدة. ولد سنة 649 بحماة، وتوفي سنة 744، وكان يقرض الشعر، وله تصانيفُ جيدة منها: كتاب "التبيان في مبهمات القرآن"، ورد على المشبهة في الآية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وكتاب "المنهل الروي في الحديث النبوي"، وهو مختصر في الحديث، جمع فيه خلاصة المحصول من علوم الحديث لابن الصلاح، وزاد عليه.

326 - ابن حبان: هو أبو حاتم، محمد بن حبان أحمد، البستي، التميمي

وله كتاب "المسالك في علوم المناسك"، ذكر أنه جمع فيه من مهمات الدقائق وإشارات الحقائق ما لا يعلم أن أحدًا سبقه إلى وضعه، ذكره في "آثار الأدهار". 326 - ابن حِبّان: هو أبو حاتم، محمدُ بنُ حبان أحمد، البستيُّ، التميميُّ. كان إمامًا فاضلاً رحالة، مكثرًا من الحديث، عالمًا بالمتون والأسانيد، أدرك كثيرًا من العلماء، وأخذ عنهم، وروى عنه جماعة كثيرة، وولي القضاء بسمرقند، مدة طويلة، وكان من حفاظ الآثار المشهورين في الأقطار، عالمًا بالطب والنجوم وفنون العلم. وكان من عقلاء الرجال، وله التصانيف الكثيرة، منها: كتاب "الصحابة" (¬1)، و"كتاب التابعين"، وكتاب "أتباع التابعين"، وكتاب "تبع الأتباع"، وكتاب "تباع التبع"، وكتاب "علل مناقب أبي حنيفة ومثالبه" عشرة أجزاء، وكتاب "علل ما استند إليه أبو حنيفة"، وكتاب "مناقب الشافعي"، وكتاب "الهداية إلى العلم السنن"، وهو من أنبل كتبه وأعزها، قصد فيه إظهار صناعة الحديث والفقه، ومن أجل كتبه: كتاب "التقاسيم والأنواع (¬2) " المعروف "بصحيح ابن حبان"، وكتاب "الجرح والتعديل"، وكتاب "شعب الإيمان"، وغير ذلك. وكان آية في الحفظ واللغة والفقه، أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره، وسبَّل كتبه ووقفها، وذهب أكثرُها بتطاول الزمان، واستيلاء ذوي العيث والفساد على تلك البلاد، توفي سنة (¬3) 454، ذكره في "الآثار". 327 - ابن الخراز: هو يحيى بن عبد العزيز القرطبيُّ. سمع من العتبي، وعبد الله بن خالد، ونظائرهما من رجال الأندلس، ورحل ¬

_ (¬1) "الصحابة" في خمسة أجزاء. "التابعين" 12 جزءًا، و"غرائب الأخبار" 20 جزءًا، و"أسامي من يعرف بالكنى". (¬2) لعل اسم الكتاب "الأنواع والتقاسيم" وهو سنده في الحديث، وله المسند، هو "صحيح ابن حبان". (¬3) ولد في بُسْت من بلاد سجستان، وتوفي في سمرقند سنة (354 هـ 965 م).

328 - ابن خزيمة: هو محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، الفقيه، الإمام، الحافظ

إلى مصر ومكة، وسمع فيها من جماعة، وسمع منه الناس، وكان يميل في فقهه إلى مذهب الشافعي، وحدَّث عنه من أهل الأندلس غير واحد، توفي سنة 295. 328 - ابن خزيمة: هو محمدُ بنُ إسحاقَ بنِ خزيمة (¬1) النيسابوريُّ، الفقيهُ، الإمامُ، الحافظُ. كان قوي البادرة، كثير الاطلاع، غزير المادة، صنف كثيرًا، وأفاد وكان ينعت بإمام الأئمة، وذكر له حجي خليفة كتاب "الصحيح"، منسوبًا إليه، وكتابًا في التوحيد وإثبات الصفات. وكان مولده (¬2) سنة 424، وتوفي سنة 511، ذكر ترجمته الخوري في "الآثار"، وكان عالمًا بالدليل، تاركًا للتقليد، صاحبَ السنة والاتباع، شديدَ العداوة للابتداع. 329 - ابن الراوندي: أحمد بن يحيى بن إسحاق، العالمُ - الملحدُ المشهورُ -. من أهل مرد الروذ، سكن بغداد، وكان من الفضلاء في عصره، ومن متكلمي المعتزلة، ثم فارقهم، وصار ملحدًا زنديقًا، له نحو من مئة وأربعة عشر كتابًا، وله مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب، وكان يلازم أهل الإلحاد، فإذا عوتب في ذلك، قال: إنما أريد أن أعرف مذاهبهم، ثم إنه كاشف وناظر. وذكر الطبري: أنه كان لا يستقر على مذهب، ولا يثبت على حال، وقيل: إنه تاب عند موته مما كان منه، وأظهر الندم، واختُلف في زمان وفاته، قال ابن خلكان: سنة 245 - وعمره أربعون سنة -، وقال ابن النجار: سنة 298، وفي "كشف الظنون": سنة 401. ومن شعره: ¬

_ (¬1) ابن خزيمة السلمي، أبو بكر. (¬2) مولده ووفاته بنيسابور، الولادة (223 هـ 838 م)، والوفاة (311 هـ 924 م)، ومصنفاته تزيد على 140 كتابًا.

330 - ابن رشد: هو القاضي أبو الوليد، محمد بن أحمد بن رشد، المالكي، الأندلسي، القرطبي، العالم، الفيلسوف، الطبيب المشهور

أليسَ عجيبًا بأَنَّ امْرَأً ... لطيفَ الخِصام رقيقَ الكَلِمْ يموتُ وما حَصَّلَتْ نفسُه ... سِوى علمِه أَنَّه ما عَلِمْ وقوله: سبحانَ مَنْ وضعَ الأشياءَ موضِعَها ... وفَرَّقَ العِزَّ والإذلالَ تَفْريقا كَمْ عاقِلٍ عاقِلٍ أَعْيَتْ مَذاهِبُهُ ... وجاهِلٍ جاهِلٍ تَلْقاهُ مَرْزوقا هذا الذي تركَ الأفكارَ حائرةً ... وصَيَّرَ العالِمَ النِّحْريرَ زِنْديقا 330 - ابن رشد: هو القاضي أبو الوليد، محمدُ بن أحمدَ بنِ رُشْد، المالكيُّ، الأندلسيُّ، القرطبيُّ، العالمُ، الفيلسوفُ، الطبيبُ المشهورُ. واحد آحادِ عصره ذكاءً وعلمًا واجتهادًا. ولد (¬1) سنة 514 في بيت فقه وقضاء قديم، أخذ الأدبَ عن جماعة، واشتغل بالفقه والعربية، ودأبَ، ثم رأى من نفسه ارتياحًا إلى الحكمة، فطلبها، واشتغل بها، ولزم ابنَ العربي وغيرَه، ولم يزل مُجِدًا في الاشتغال بها حتى صار ابنَ بَجْدَتها، وأبا عذرَتِها. وكان كثيرَ الدرس والمطالعة، لا يشغلُه عن البحث والنظر شاغل، وتشهد بذلك كثرةُ مؤلفاته. قال ابن الأبار: إنه لم يصرف ليلةً من عمره بلا درس أو تصنيف إلا ليلةَ عرسه وليلةَ وفاة أبيه، وكان أكثر تلامذته من اليهود والنصارى، وقلَّ من كان يقرأ عليه من المسلمين؛ لأنه كان يرمي بضعف المعتقد، ولم يزل يزداد شهرة ورفعة قدر حتى أكثر حساده، واتهموه بتفضيل فلسفة القدماء على الإسلام. ذكر ترجمته سليم الخوري في "الآثار" حافلة طويلة جدًا، وقيل: كان يهوديَّ الأصل يُظهر الإسلام، ويكتم اليهودية مع تمسكه بها. وله تصانيف كثيرة، منها: كتاب "التحصيل" جمع فيه اختلاف أهل العلم من ¬

_ (¬1) قد حققنا سن ولادته (520 هـ - 1126 م)، ووفاته (595 هـ - 1198 م).

331 - ابن سعود: هو محمد بن سعود النجدي

الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكتاب "نهاية المجتهد" (¬1) في الفقه، وكتاب "التهافت" رد به "تهافت" الغزالي، ذكر فيه أن ما ذكره الغزالي بمعزل عن مرتبة اليقين والبرهان، وقال في آخره: لا شك أن هذا الرجل أخطأ على الشريعة كما أخطأ على الحكمة، وقد أوصل ابن رشد الفلسفةَ العربية إلى غاية بعيدة، ولم يأتِ في الإسلام من بعده مَنْ يضاهيه في الفلسفة. وصار لمذهبه شهرة وقبول في المدارس النصرانية واليهودية، وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كثير من مقالاته، فليعلم. 331 - ابن سعود: هو محمد بن سعود النجديُّ. هو: الأمير محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان ابن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع العنزي، سلم زمام الحكم إليه (1139 هـ 1726 م) إلى أن مات سنة (1179 هـ 1765 م)، ومدة حكمه أربعون سنة تقريبًا. قال في "الآثار": أحد مشايخ عرب عنزة، كان فيهم شيخ قبيلة المساليخ، وله قرابة بعرب وائل وتغلب وشمر، كان شهمًا كريمَ الأخلاق، وقورًا جوادًا متعقلاً، وجدُّه سعود رأس بيته، نزل الدرعية بقبيلته، وكان من عمال ابن عمار صاحب عيانة (¬2). ولما ظهر [الإمام شيخ الإسلام] محمد بن عبد الوهاب بالدعوة الوهابية، وانقبض عنه القرامطة، لجأ إليه ابن سعود هذا، فصدق دعوته، وقام بتأييدها، وقد غره منه وعده أن يسلطه على بلاد نجد، وكان ذلك نحو سنة (¬3) 1760 ¬

_ (¬1) اسم الكتاب الحقيقي "بداية المجتهد ونهاية المقتصد". (¬2) أخطأ المؤلف في الأسماء لعله يريد: ابن معمر، وهو عثمان بن معمر، والبلدة هي العيينة، وهي كانت في إمارة ابن معمر. (¬3) لعل مؤلف "التاج" وصف عن مبايعة الشيخ، وفد كانت تلك المبايعة التاريخية في سنة (1157 هـ 1744 م).

للميلاد، وتزوج (¬1) بابنة عبد الوهاب، وانحاز إلى تصديق الدعوة مع ابن سعود رجالُ قبيلته، ففشت الدعوة الوهابية في البلاد، وتكاثرت أتباعها من عرب تلك الجهات، وشرع حينئذ [الأمير محمد] ابن سعود في التغلب على قبائل اليمن، فخدمه حظه، وكثرت أنصاره وأخلافه. وانتشب بينه وبين ابن دعاس [هو دهام بن دواس] صاحب اليمامة حربٌ تفاقمت خطوبُها، أفضت إلى انتصار ابن سعود، وأفلت بن دهاس، فلحق بالقطيف؛ حيث قضى نحبه، فاستتب [للأمير محمد] ابن سعود الولايةُ على جميع بلاد نجد الجنوبية، وعظم أمره، ورأى أن يستأثر بالأمر على سائر بلاد نجد، فعمل على ذلك، وانتصر على عرار القرمطي، فأنزل به الويل، ثم قصد بلاد القصيم والأحساء وعسير، فدانت له، ودخلت تحت لوائه. ومات وقد خلف لبنيه مملكة كبيرة أقام في تشييدها عدة سنين بين حروب وخطوب. وقد تم له ما وعد (¬2) به ابن (¬3) عبد الوهاب من نفوذ الكلمة، فهابته البلاد المجاورة، وخشيت بأسه. وكان عاليَ الهمة، ثابتَ العزم، حزومًا، ذا خبرة بتقلبات الأيام، بصيرًا بعواقب الأمور، حسنَ الخلق، عذب الفكاهة، أديبًا متفننًا، زاد في عمارة "الدرعية"، وبنى فيها المساجد والقصور، وجعلها حاضرة إمارته، وكان الناس ¬

_ (¬1) بناء على ما ذكره المؤلف، ففد وجدنا روايات مختلفة في هذا الشأن، 1 - تزوج بابنة عبد الوهاب. 2 - تزوج بابنة الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب 3 - تزوج الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود بابنة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 4 - تزوج الشيخ محمد بن عبد الوهاب بابنة الأمير محمد بن سعود، والله أعلم بالصواب. 5 - شيخ الإسلام كان تزوج بجوهرة بنت عبد الله بن معمر في عيينة قبل بيعة الأمير محمد بن سعود. (¬2) أنا أبشرك بالعز والتمكن، وهذه كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" من تمسك بها، وعمل بموجبها، ونصرها، ملك بها العباد والبلاد. (¬3) هو: الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن يزيد بن مشرف، ولد سنة (1115 هـ 1703 م)، وتوفي سنة (1206 هـ 1791 م)، - رحمة الله تعالى عليه -.

332 - الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود

يميلون إليه، ويرغبون التقرب منه؛ لكثرة حلمه، واتضاع جانبه، وكان يأبى سفك الدماء، وفي أيامه لم يجر شيء من مذابح وبلاء في البلاد التي دانت لسطوته، بل عامل أهلها بالرفق والحلم، مع القيام على الدعوة الوهابية، وتلقب بالأمير، وأقبل على السياسة والأحكام، مع إبقاء زمام الدين في يد ابن عبد الوهاب، وكانت وفاته (¬1) بعد سنة 1790 للميلاد تقديرًا، انتهى. 332 - الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود. قال في "آثار الأدهار": خلف أباه محمدًا، وجرى على سننه في السياسة والأحكام، أظهر الحرصَ على انتشار الشِّيْعة الوهابية، وتشييد سطوتها، وتمادى في الغزو والفتوح، مع تجشم الحروب والأتعاب، وكان من أكابر العلماء وأعيانهم، شديدَ البأس، عاليَ الهمة، مقدامًا، امتدت كلمته في جميع البلاد من الخليج [العربي] العجمي إلى الحجاز، ودانت له المدن والأنصار، وقد واصل الغزو بنفسه وبابنه سعود مرات، ولم تهزم له بها راية، ولا فُلَّ له جيش. ولما تمكن من الملك، صرف عنايته إلى التغلب على قبائل العرب الحجازية، فأنكر عليه ذلك غالِبٌ الشريفُ صاحب مكة، فوقع بينهما مغاضبة أفضت إلى الحرب، وذلك في نحو سنة 1792، أو سنة 1794 ميلادية، واستمرت الحرب بينهما على ساق وقدم شهورًا وأيامًا إلى أن تغلب الوهابية على مدينة مكة المكرمة. وقصد [الأمير] عبد العزيز القطيف، فدهمها على عجل، فتمكن منها، وذبح أهلها، واكتسحها، ثم قصد البحرين، فافتتحها والجزائر القريبة منها في الخليج [العربي] الفارسي، وانقض على البلاد الواقعة على ساحل الخليج الشرقي، فدانت له وطأتها، وكانت لملك العجم، ثم سرح جيشه إلى عمان، وعقد قيادته ¬

_ (¬1) توفي الأمير محمد بن سعود - رحمه الله - سنة (1179 هـ 1765 م)، وتولى الأمر الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود.

لابنه سعود، فدوخ البلاد، وعاث في خلال ديارها، وتعقب السلطان سعيد إلى مسقط، فنازله بها، وشدد عليه الحصار، فضاقت على السلطان المسالك، فأرسل يستأمن إلى ابن سعود، فأمنه، وأشرط عليه أن ينفذ إليه الجزية في كل عام، وأن يكون للوهابية خَفَرٌ في معاقل البلدان، وأن يكون لهم حقٌّ في بناء المساجد في مسقط وغيرها من مدن عمان. وفي خلال ذلك، كان الوهابية يثخنون في ديار البصرة، ويوقعون بقبائل العرب فيها، فيعودون عنهم بالغنيمة - ودامت الحال هذه إلى سنة 1797، وفيها سير سليمان باشا - والي بغداد - جيشًا انحاز إليه كثير من عرب ظفر، وبني شمر، والمنتفج، وسار الجيش قاصدًا الدرعيَّة، وتحول في طريقه إلى الأحساء، وأقام على حصار قلعتها نحوًا من شهر، فأنفذ حاميتها الخبر إلى عبد العزيز، فأسرع إلى نجدتهم، فالتزم سليمان باشا برفع الحصار عن القلعة، واتفقا على المهادنة مدة ست سنين، فانقلب سليمان باشا راجعًا إلى بغداد. وفي سنة 1801 عمد "عبد العزيز" إلى غزو مشهد الحسين رضي الله عنه، فجهز جيشًا كثيفًا وخرج في مقدمته وسار على ضفة الفرات، وخشيت إذ ذاك قويط وطأته فاستسلمت إليه وبذلت له الخدم الوافرة والتحف السنية، فكف عنها ووجه [الأمير] "عبد العزيز" سربا من جيشه لفتح مدن "زبير" وسوق الشيويح وسماوه وسار متقدمًا إلى أن بلغ مشهد علي - رضي الله عنه -، فحاصرها للحال، وشدد عليها الحصار، فنازله أهلها، وأوقعوا به، فرحل عنها، وسار إلى كربلاء فنازلها، ودخلها عنوة، وبذل السيف في أهلها، وأطلقها للنهب، واستباح أموال مشهد قبر الحسين - رضي الله عنه -، وخَرَّبه، ودوخ تلك البلاد، ثم عاد إلى الدرعية، وتجهز للقاء جيش من العثمانيين أنفذه إليه والي بغداد، فلقيه على مسافة من الدرعية، وأوقع به فمزق شمله. وفي هذه السنة أيضًا عاود القتال مع غالبٍ الشريف - صاحب مكة -، ثم أرسل في السنة التالية جيشًا إلى الطائف، فامتلكها عنوة، ومكَّن السيف من

أهلها كما فعل في كربلاء، واستباح أموالهم، ولم ينج أحد منهم، وفيها استولى على "قنفذة"، وهي على سبعة أيام من جدة إلى جنوب منها. وفي سنة 1804 أرسل عبد العزيز جيشًا من الوهابية قدم عليه ابنه سعود؛ ليغزو "مكة"، فسار حتى وطئها، ونزل عليها، وقعد على حصارها ثلاثة أشهر، ولم يكن فيها من الرجال عدد يدفعه عنها، وضاقت المسالك على أهل مكة، ونفد الزاد والميرة، فعمدوا إلى التسليم، فنجا غالبٌ الشريف، ولحق بجدة، ودخل سعود بن عبد العزيز مكة (¬1) في نيسان أو أيار - من السنة المذكورة -، فرعى ذِمةَ أهلها، وحرمةَ المقام، وقال (¬2) بعضهم: بل قتل حَاميتها وأشرافَها، وجرد الكعبة من متاعها، وألزمَ أهلَها الدخول في الدعوة الوهابية، ثم زحف إلى جدة، وأقام على حصارها أحد عشر يومًا، فتعذر عليه فتحها، فبذل له غالب الشريف الأموال، فرفع عنها الحصار. وفي هذه الأثناء قُضي على عبد العزيز؛ فإنه مات قتيلاً في منتصف السنة المذكورة سنة 1218 الهجرية، [الموافق 1803 م]، وذلك أنه وثب عليه - وهو يصلي في المسجد - رجل شيعي فارسي من جيلان اسمه (¬3) عبد القادر، وعاجله بضربة بين كتفيه ألقاه بها على الأرض يخبط بدمه، فاضطرب لذلك الحاضرون، وألقوا القبض على القاتل، وبادروه بأسنتهم، فنهشت جسمه، أما سبب قتله، فهو: أن ملك فارس نقم على ابن سعود؛ لتمليصه بلاد القطيف وجزائر البحرين من ولايته وتخريبه مشهد الحسين - رضي الله عنه -، ولما لم يكن له طاقة في محاربته، والتوصُّل إليه، عمد إلى الإيقاع به بالحيلة، فأنفذ إليه عبد القادر المذكور، فأتى الدرعيةَ، وتظاهر بالتديُّن والعبادة، ولازمَ العبادةَ والمساجد حتى ¬

_ (¬1) كان دخوله بمكة في محرم (1218 هـ 1803 م). (¬2) لم يصح ما قيل من هذه الأخبار، بل هي دعاية سياسية من قبل الدول التي كانت تخاف من ازدياد قوة آل سعود. (¬3) ابن بشر ذكر اسمه: عثمان، وهو من قرية العمارية من قرى موصل.

333 - أبو عبد الله، سعود بن عبد العزيز

ظفر بمبتغاه، وكان ابن سعود يلازم الصلوات في أوقاتها، وذلك شأن غيره من أمراء الوهابية، وقيل: بل قتله عبد القادر المذكور آخذًا بثأر عياله، وقد هلكت بحد السيف حين أخذ عبد العزيز كربلاء. وخلف عبد العزيز ابنه سعود الآتي ذكره، انتهى ما في "الآثار"، وسيأتي له ذكر في غير هذا الموضع من هذا الكتاب، وإنما فرقناه، وإن كان الجمع مناسبًا؛ حفظًا لأخباره عن مؤرخي حاله على حالها. 333 - أبو عبد الله، سعود بن عبد العزيز (¬1). خلف أباه سنة 1803 للميلاد. قال في "آثار الأدهار": وكان شهمًا، كريمَ النفس، ثابتَ العزم، عاليَ الهمة، وسيمًا، حسنَ البِزَّة، غايةً في الذكاء والاستقامة، أديبًا وقورًا عالمًا، متفننًا، خبيرًا بتقلبات الأيام، شجاعًا مقدامًا، يتجشم صعاب الأمور، ويتحمل هولَ المشاق. وكان له عند أبيه مكانة أرفعُ من مكانة إخوته، وعقدَ له غيرَ مرة على قيادة للجيش الوهابي، وأنفذه به إلى داني البلاد وقاصيها، فخدمه الحظ، وساعدته الأيام على بلوغ غايته، وكان فيه من التدين والحلم والعدل ما استمال إليه الخاصة والعامة من الناس، فارتفع مقامُه عندهم، وكان صارمًا في إنفاذ الأحكام، يعاقب المجرمين أشدَّ العقاب، وقد جهد وسعَه [على] إبطال الطلاق، وشدد في حفظ فريضة رمضان، ولقي منه مغايرو ذلك عظيم عناء، [و] ظل السعد خادمًا له أيام إمارته، مرافقًا له في دولته إلى أن توفي، فحل البلاء في أهل بيته، وتفرقت كلمتهم. وكان ذا نعم وافرة، وبيت واسع كثير الحشم، وكان جثيلَ شعر العِذار ¬

_ (¬1) هو الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، خلف أباه، وبدأ حكمه (1218 هـ 1803 م) إلى (1229 هـ 1813 م).

والشارب، سماه أهل الدرعية بأبي الشوارب، ولد له من امرأته الأولى ثمانية بنين، ومن الثانية ثلاثة. ولما توفي والده عبد العزيز، كان سعود هذا في الحجاز مشتغلاً بمحاربة غالبٍ الشريف، فضيق عليه المسالك، وألزمه التسليم، وكان غالبٌ قد عاد إلى مكة على حين غفلة، وقد حدثته نفسه أن يستأثر بها على رغم من الوهابية، فأحسن سعود معاملته، وقربه منه، ثم غزا بني حرب، وأثخن في بلادهم، ونزل على بلد ينبع، فسلمت له، ثم قصد المدينة المنورة، ونازلها أيامًا، فدخلها، وألزم أهلها الجزية، وجرَّد ضريح النبي - صلى الله عليه وسلم - مما في خزائنه وذخائره، ونقلها إلى الدرعية، قيل: بلغت مقدار ستين وقر جمل، هكذا فعل أيضًا بضريحي أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -. وعقد على المدينة لمزين شيخ بني حرب، وألزم أهلَها الدخول في الدعوة الوهابية، وهمّ سعود بتخريب قبة الضريح النبوي، ولم يفعل، وأمر ألا يحج إلى البيت إلا من كان وهابيًا، وشدَّد بمنع العثمانيين من دخولها، فانقطع الحج بضعة سنين، وتوقف حجاج الشام والعجم عن إتمام فريضتهم؛ مخافةَ إضرار الوهابية بهم (¬1). وفي أواخر سنة 1804 أنفذ سعود أبا نقطة شيخَ العسيريين برجالته إلى بلاد صنعاء اليمن، فعاثوا في خلال ديارها، واستباحوا مدينتي "لحيا"، و"حديدة"، ثم عادوا إلى بلادهم، فالتزم حمود - صاحب صنعاء - الدخولَ في الدعوة الوهابية؛ ليأمن شرهم، ودانت لسعود بلاد الحجاز، فنفذ أمره فيها، وانبسطت سطوته على جميع بلاد العرب، إلا حضرموتَ وقسمًا من اليمن، فاتسع نطاق ولايته، وامتدت أرجاؤها. ثم أنفذ سعود رجالته غيرَ مرة إلى البصرة وما بين النهرين، فأثخنوا في ¬

_ (¬1) هذه الأخبار بعيدة عن الصحة، وليست هي إلا من دعابة الأعداء، الّتي أذيعت ضد الموحدين؛ كي ينفر منهم الناس.

البلاد، ونزلوا البصرة، فامتنعت عليهم، ثم سير حرك غلامه إلى صحراء الشام، فأوقع فيها بالعرب، وتعقبهم إلى "حلب"، فعبر بعض رجاله الفرات، ووطئوا الأرض، والنهرين، ودوخوا ديارها، وما بقي بينهم وبين بغداد إلا مسافة قليلة، بأثناء ذلك كانت الحرب منتشبة بين أبي نقطة العسيري، وحمود صاحبِ صنعاء. وفي سنة 1809 ولي الشام يوسف باشا، فجهد نفسه في محاربة الوهابية، ولم ينجح، وفي هذه السنة أيضًا أتى الخليج العجمي أسطولٌ للإنكليز، ورمى بلد "رأس الخيمة (¬1) " بالقنابل، فخربها، وكان أهلها، لصوصًا (¬2) - يقطعون البحر على التجار الإنكليز. وفي سنة 1810 قصد سعود بلاد الشام بستة آلاف فارس، فأثخن فيها، وخرب 45 بلدًا من حوران، وتوغل في البلاد إلى أن بقي بينه وبين دمشق مسيرة يومين، فخشي أهلُها قدومه، ولم يكن ليوسف باشا - واليها - طاقةٌ في ردعه، إلا أنه ارتد قبل وصوله إليهم غانمًا ظافرًا، وقد بلغه أن بعض مشايخ بلاد حارك تواطؤوا على نبذ طاعته وإثارة الفتن، فعاجلهم الحال ببعض جنده، ودخل بلادهم، واكتسحها، وخرب مدنها وقراها، ودخل بلد حتوة عنوةً، فمكَّن السيف من أهلها كابر وصاغر، وكان عددهم عشرة آلاف نسمة، فلم يسلم منهم أحد. ولما استفحل أمر الوهابية في أيامه، وتفاقم خطبُهم على البلاد، عمد السلطان محمود خان [العثماني] إلى تنكيلهم، وكف شرهم، فأنفذ أمره إلى محمد علي باشا - خديو مصر - أن يكرههم على إخلاء البلاد الحجازية، ويرفع ولايتهم عنها، فأذعن، وادخر الميرة والعدد، وجهز جيشًا، عقد قيادته لابنه طوسون باشا، وأرسله في أسطول من 28 سفينة من السويس إلى ينبع، فنزلها ¬

_ (¬1) هي أخصب منطقة في الساحل المائي، حاكمها الشيخ صفر بن محمد القاسمي 50، وعدد سكانها 40 ألف نسمة تقريبًا. (¬2) الذين يأتون من الخارج هم اللصوص، والحقيقة أن أهلها حاولوا الدفاع عن وطنهم ضد الغزاة المستعمرين الغربيين.

334 - [الأمير] عبد الله بن سعود" - المتقدم ذكره -

الجيش في تشرين الأول من سنة 1811 [الموافق 1226 هـ]، ثم خرج الجيش من ينبع قاصدًا المدينة المنورة، وفي طريقها استولى على بدر، والصفراء، ثم دهم عبد الله بن سعود وأخوه فيصل هذا الجيش في مضيق الحديدة على نحو مرحلة من المدينة، فأوقعا به، وأكثرا القتل فيه، فانهزم إلى بدر. وقد غنم الوهابيون العُدَد والميرةَ، وأربعة مدافع، ثم أتى طوسون باشا نجدة، فجدد السير إلى المدينة، ونزل عليها في تشرين الأول سنة 1812، وشدد عليها الحصار، ودخلها عنوة في تشرين الثاني من السنة المذكورة، ومكن السيف من الوهابيين، وأطلق المدينة للنهب، وامتنع بعض الجند في قلعتها، فضيق عليهم، ولما نفد زادهم، استأمنوا إليه، فأمنهم، فخرجوا من القلعة، حتى إذا صاروا على بعد من المدينة، طاردتهم العساكر، وأوقعت بهم، فلم يسلم منهم إلا من ساعده الفرار. وفي كانون الثاني من سنة 1814 تمكن طوسون باشا من فتح مكة المكرمة، واستولى على جدة والطائف، وجرى بينه وبين الوهابيين مناوشات ومحاربات، انجلى أكثرها عن ظفر الوهابيين، وفي آذار من سنة 1814 استولى المصريون على قنفذة، ولم يلبثوا أن دهمهم فيها الوهابيون، فأجفلوا، وأركنوا إلى الفرار، ودخل الوهابيون البلد، وأعملوا السيف فيها. وبأثناء ذلك قضي على سعود بن عبد العزيز - المترجَم له - بإثر حمى أصابته، وذلك في الثامن من جمادى الأولى سنة (1229 للهجرة - 28 نيسان سنة 1814 للميلاد)، وله من العمر ثمانٍ وستون سنة. 334 - [الأمير] عبد الله (¬1) بن سعود" - المتقدم ذكرُه -. خلف أباه سنة 1814، وكان شهمًا شجاعًا - اعتمده أبوه في أيامه، وعول ¬

_ (¬1) هو الأمير عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، خلف أباه، وفي معركة الدرعية التاريخية انهزم، وأخذ إلى مصر، ثم إلى إستانبول، وقُتل هناك عند باب همايون، وأتباعه أيضًا قتلوا في نواح أخرى سنة (1233 هـ 1817 م)، وهذه الفاجعة حدثت في دور حكومة السلطان محمود خان الثاني.

عليه في صعاب الأمور، وقد فاق أباه في علو الهمة وشدة البأس، إلا أنه كان أقل عزمًا ونظرًا منه، انشبك في محاربة محمد علي باشا - عزيز مصر -، وكان قد قدم الحجاز يتفقد حالة جيشه، ويأخذ بنصرته، فأثخن في بلاد الحجاز الجنوبية، وتغلب على الوهابية، وأمن الناس من شرهم، ثم عاد العزيز إلى مكة في آذار سنة 1818، عرض على ابن سعود الصلح مشترطًا عليه رد أسلاب الضريح النبوي الشريف، وإن لم يفعل، قصده في جيشه إلى الدرعية، فلم يجبه ابن سعود، بل سار في عرب نجد للقاء طوسون باشا، فإنه كان نازلاً في "خبرة" من القصيم. فنزل هو في شنانة على بعد ساعات من "خبرة"، وقطع المسالك على المصريين، وأحاط بهم، فخشُوا كثرة العدد، ورغبوا في المسالمة، ودسوا إلى ابن سعود في ذلك، فصغى لهم؛ لأنه كان قد أعجزه أمرهم، وانحاز إليهم كثير من قبائل الحجاز ونجد؛ لما بذلوه لهم من المال، فأبرم ابن سعود صلحًا مع طوسون باشا على شروط تقررت بينهما، منها: إخلاء [مكة] من الوهابية، وإباحة الحج لهم بدون معارضة، وإخلاء القصيم من المصريين، ورد مشايخ العرب الذين كانوا قد نبذوا عهده، وانحازوا إلى المصريين، والإقرار بسلطنة السلطان، وغير ذلك، وعاد طوسون باشا بجيشه من "خبرة" إلى الرص، ثم إلى المدينة، فدخلها في أواخر حزيران سنة 1815، ولم يجد أباه فيها، فإنه كان قد عاد إلى مصر لشاغل بدا له فيها، فسار رسولا ابن سعود إلى مصر، ولحقا بالعزيز فيها، وطالبا إليه التوقيع على صك المصالحة، فأبى إلا إعطاء "الأحساء" إلى الدولة، وكانت أجود بلاد الوهابية تربةً، وأوفرها خصبًا، فعاد الرسولان إلى ابن سعود، وأخبراه بما كان، فأنكر على المصريين فعلَهم، وتجهز ثانية لقتالهم، ودامت الحال هذه إلى سنة 1816. وفي شهر آب من السنة المذكورة: سار إبراهيم باشا بن محمد علي باشا في مقدمة الجيش إلى الحجاز، وبذل وسعه في محاربة ابن سعود، والتغلب على بلاده، فآتاه الله بالفتح، وجرى بين ابن سعود، وإبراهيم باشا عدةُ وقعات انجلت عن انهزام الوهابيين، ومنها وقعة الماوية، حصلت في 12 أيار من سنة 1817،

335 - [الإمام شيخ الإسلام] محمد بن عبد الوهاب [رحمه الله]

ووقعة عنيزة، والشقراء في 14 كانون الثاني من سنة 1818، ثم ضرمة، ثم الدرعية، وتدخر ابن سعود الميرة والعدد في الدرعية، وتحصن بها، فنزل عليها إبراهيم باشا، وأقام على حصارها مدة إلى أن تم له فتحها، فدخلها، وقبض على ابن سعود، وأهل بيته، فلم يفلت منهم سوى ابنه تركي. وقال بعضهم: إن ابن سعود لما يئس من النجاة، وقد دهم الدرعية الخراب، من قنابر وكرات المصريين مدةَ الحصار، أرسل يستأمن إلى إبراهيم باشا، فأمنه، وكان ذلك في الثامن من ذي القعدة سنة (1244 هجرية - 19 أيلول سنة 1818 ميلادية)، فأتى ابن سعود إبراهيم باشا، وسلم عليه، وطلب منه أن يمهله إلى الغد، فأمهله، وأحسن معاملته، وبالغ في إكرامه، وفي الغد عاد إليه قيامًا بحق كلمته، ورضي بالمسير إلى مصر إجابة لأمر السلطان، فسار ابن سعود إلى مصر في خفر من الجند في 14 ذي القعدة، ووصلها في 18 من المحرم، فأكرمه محمد علي باشا عزيزُ مصر، وألبسه خلعة، ثم أنفذه إلى الآستانة العلية، فبلغها في 17 صفر 16 كانون الأول من السنة المذكورة، فشوهر، وأميت صبرًا، هو وسري خزنداره، وعبد العزيز بن سلمان كاتبه، انتهى. 335 - [الإمام شيخ الإسلام] محمد بن عبد الوهاب (¬1) [رحمه الله]. قال كرنيل يوسف قنديك الأميركاني في كتابه "المرآة الوضية في الكرة الأرضية" في الفصل الرابع - في بلاد العرب - في صفحة 226، ما لفظه: ¬

_ (¬1) الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن مشرف، ولد سنة (1115 هـ 1703 م)، ببلدة العيينة، قاعدة إمارة آل معمر، الذين كانوا تحت نفوذ حاكم "الأحساء" سليمان بن محمد بن عزيز الحميدي، والشيخ عبد الوهاب - أبو الشيخ محمد - كان قاضي البلدة. الشيخ محمد نشأ هناك. وبدأ يتعلم على أبيه، وحفظ القرآن قبل السنة العاشرة، ومن جملة أشياخه الشيخ محمد حياة السندي، درس عليه أيامه في الفترة التي كان إقامته بالمدينة المنورة سنة (1165 هـ 1751 م)

وفي أوائل هذا القرن قويت الطائفة الوهابية، وهي منسوبة إلى رجل من تميم، يقال له: محمد بن عبد الوهاب سكن في الدرعية بنجد. وكان يومئذ سعود (¬1) بن عبد العزيز العنزي - من ربيعة الفرس - شيخَ البلد، ومحمد بن عبد الوهاب من المساليخ، من ولد علي (¬2)، ولهذه القبيلة بواقي في نواحي زبيد على خليج المعجم، فاتفق سعود مع ابن عبد الوهاب على إذاعة تعاليمه، وكان ذلك (¬3) نحو سنة 1760 مسيحية، وقام بعده عبد العزيز بن سعود (¬4)، واستظهر على كتيبتين أرسلهما إليه وزير بغداد، وظفر بجيش عظيم تحت راية زيد بن مساعد شريف مكة سنة 1794، وقوي هذا الحزب في العراق، واستولى على مسجد علي، وأخربه. وفي سنة 1804 بعث عبد العزيز بابنه سعود، ومعه 12000 رجل، فاستملك الطائف ومكة، ثم تقدم إلى جدة، وحاصرها، وهناك بلغه خبر وفاة أبيه، فرجع إلى الدرعية، وفي سنة 1804 رجع إلى الحجاز، وأخذ المدينة المنورة، وتسلط على تلك الأطراف إلى سنة 1815، فنهض لطرده إبراهيم باشا - صاحب مصر -، وانتصر عليه في وقائع عديدة إلى أن أخرجه من الحجاز. ومات (¬5) سعود في الدرعية بمرض الحمى - وقد ناهز الخمسين من عمره -، ولم يزل نسله متسلطًا على نجد وما يليها إلى الآن، وقصبتهم مدينة "الرياض" ¬

_ (¬1) هو الأمير محمد بن سعود، وليس كما ذكره المؤلف. (¬2) أبو جد الشيخ محمد، اسمه: علي بن محمد. (¬3) بايع الأمير محمد بن سعود، الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، على نصرة الدين والجهاد في سبيله، وإقامة الشريعة الإسلامية، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سنة (1158 هـ 1745 م). (¬4) تولى الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود بعد وفاة أبيه سنة 1179 هـ 1765 م. (¬5) توفي الإمام، "سعود" بن عبد العزيز بن سعود بن محمد بن سعود سنة (1229 هـ 1814 م).

336 - ابن الطبري: هو أحمد بن الحسين بن علي، المروزي، يعرف بابن الطبري

وهم من الوهابيين، انتهى. وتاريخ تأليف هذا الكتاب سنة 1852، وعام مراجعته سنة 1871. وسيأتي ذكر نجد وأميرها (¬1)، وذكر "محمد بن عبد الوهاب" نقلاً من كتاب "البدر الطالع" - إن شاء الله تعالى -، قال: وأما نجد، فهي ما يتصل بالشام شمالاً، والعراق شرقًا، والحجاز غربًا، واليمامة جنوبًا، وهي أطيب أرض في بلاد العرب، وقد لهجت به الشعراء كثيرًا، قال قيس بن المُلَوَّح: تَمَتَّعْ من شَميمِ عَرارِ نَجْدٍ ... فَما بعدَ العَشِيَّةِ من عَرارِ وقال الآخر: سقى اللهُ نجدًا والسلامُ على نجدِ ... ويا حَبَّذا نجدٌ على القربِ والبُعْدِ وفيها الأرض العالية، التي حماها كُلَيب بنُ وائل بنِ ربيعة، وأفضى ذلك إلى قتله، وانتشاب حرب البسوس (¬2) التي يُضرب بها المثل، وجبل عكاد الذي لم تثبت العربية الفصيحة - بعد تمادي الأجيال - إلا بين أهله، انتهى. 336 - ابن الطبري: هو أحمدُ بنُ الحسين بنِ عليٍّ، المروزيُّ، يعرف بابن الطبري. سمع على جماعة، قال الخطيب: كان أحد العباد المجتهدين، والعلماء المتقنين، حافظًا للحديث، بصيرًا بالأثر، ورد بغداد، وعاد إلى خراسان، فولي بها قضاء القضاة، وصنف الكتب وروى، ثم دخل بغداد - وقد علت سنه -، فحدث بها، وكتب الناس عنه، وكان من الفقهاء الكبار لأهل الري، كتب الحديث الكثير، وخرج وصنف التاريخ، وسكن بخارى، ومات بها سنة 477. 337 - ابنُ شاهين عمرُ بنُ عثمانَ، الحافظُ، الواعظُ، البغداديُّ. كان ثقة في الحديث، مكثرًا منه، وروى وحدَّث عن جماعة، وسمع منه غير ¬

_ (¬1) تحت رقم 366، الإمام سعود بن عبد العزيز. (¬2) انتشبت حرب البسوس بين بني تغلب وبني بكر، وقد دامت أربعين سنة، وهي تقريبًا في سنة 490 ملادية، أي: مئة وأربعون سنة قبل الإسلام، تقريبًا.

338 - ابن طباطبا محمد بن إبراهيم بن إسماعيل العلوي

واحد، ولد سنة 391، وتوفي سنة 485. وله تآليف مفيدة، منها: "جزء في الحديث"، وكتاب "ناسخ الحديث ومنسوخه"، اختصره إبراهيم بن علي، المعروفُ بابن عبد الحق. 338 - ابن طباطبا محمدُ بنُ إبراهيمَ بنِ إسماعيلَ العلويُّ. ظهر سنة 199 بالكوفة، يدعو إلى الرضا، من آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، والعمل بالكتاب والسنة. وكان القيم بأمره في الحرب أبو السرايا، السري ابن منصور، وبايعه أهل الكوفة. 339 - ابن العفيف التلمسانيُّ شمسُ الدين محمدُ بنُ سليمانَ. كان شاعرًا أديبًا لطيفًا، حسن البادرة والذكاء، ترجمه القاضى شهاب الدين بن فضل الله، وأثنى عليه، ومما قاله فيه: وكان لأهل عصره ومَنْ جاء على آثارهم افتنانٌ بشعره وخاصة أهل دمشق، فإنه بين غمائم حياضهم رَبا، وفي كَمائم رِياضهم حَبا، حتى تدفَّق نهرُه، وأينعَ زهرُه، وأكثرُ شعره لا بل كلُّه، رشيقُ الَألفاظ، سهلٌ على الحفاظ، لا يخلو من الألفاظ العامية، وما تحلو به المذاهب الكلامية، وله أشعار كثيرة، منها قوله: ما بينَ هجرِكَ والنوى ... قد ذبتُ فيك من الجَوى وحَياةِ وجهِك لا سلا ... عنكَ المحبُّ ولا نَوى يا فاتني بمعاطِفٍ ... سجدَتْ لها قضب اللوى يا مَن حكى بقَوامِه ... قدَّ القَضيب إذا الْتَوى ما أنتَ عندي والقضيـ ... ـــبُ اللَّدْن في حال سوى هَذَاك حَرَّكَه الهوى ... وأنتَ حَرَّكْتَ الهَوى ولد بالقاهرة سنة 661، وتوفي في شرخ شبابة سنة 688 بدمشق، ذكرَ له حجي خليفة "مقامات العشاق" في ورقتين، وديوان شعر، انتهى ما في "الآثار".

340 - ابن الفارض: هو أبو حفص، عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي، الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة، المعروف بابن الفارض المنعوت بأشرف

340 - ابن الفارض: هو أبو حفص، عمرُ بن أبي الحسن عليِّ بنِ المرشد بنِ عليّ، الحمويُّ الأصل، المصريُّ المولدِ والدارِ والوفاة، المعروفُ بابن الفارض المنعوت بأشرف. ولد سنة 560، وقيل غير ذلك. كان رجلاً صالحًا، كثيرَ الخير، على قدم التجرُّد، جاور [في] مكة المشرفة زمانًا، وكان حسنَ الصحبة، محمودَ العشرة، له ديوان شعر لطيف، وأسلوبه فيه رائق ظريف ينحو منحى طريقة الفقراء، له قصيدة - مقدار ست مئة بيت - على اصطلاحهم ومنهجهم في التصوف، وهي المعروفة بالتائية الكبرى، أو بنظم السلوك، أولها: سَقَتْني حُمَيَّا الحُبِّ راحةُ مقلتي ... وكأسي محيا مَنْ عنِ الحُسْن جلَّتِ فأَوْهَمت صَحبي أَنَّ شربَ شرابهم ... به سِرُّ سِرِّي في انتشاري بِنَظْرَةِ توفي بالقاهرة سنة 642 هجرية، ورثاه بعضهم. وقال ولده: كان أبي معتدلَ القامة، وجههُ جميلٌ مشرَب بحمرة ظاهرة، وإذا استمع وتواجد، وغلب عليه الحال، يزداد وجهه جمالا ونورًا، وينحدر العرق من كل جسده حتى يسيل تحت قدميه على الأرض، ومن فهم معاني كلامه، دلته معرفته على مقامه، وكان إذا مشى في المدينة، تزدحم الناس، يلتمسون منه البركة والدعاء، ويقصدون تقبيل يده، فلا يمكَّن أحدًا من ذلك، بل يصافحه، وكان إذا حضر في مجلس، يظهر على ذلك المجلس سكونٌ وهيبة ووقار، وإذا خاطبوه، فكأنهم يخاطبون ملكًا عظيمًا، وكان ينفق على من يرد عليه نفقة متسعة، ويعطي من يده عطاء جزيلاً، ولم يكن يتسبب في تحصيل شيء من الدنيا، ولا يقبل من أحد شيئًا، وبعث إليه السلطان محمد الملك الكامل ألفَ دينار، فردها إليه. وله كرامات كثيرة، ودخل مكة المكرمة حاجًا، وأقام بها خمس عشرة سنة، وطاف أوديتها وجبالها، وكان يستأنس فيها بالوحوش ليلاً ونهارًا، وأشار إليه في قصيدته "التائية"، ثم عاد إلى القاهرة، وأقام بها إلى أن توفي.

341 - ابن الفصيح: هو فخر الدين، أبو طالب أحمد بن علي بن أحمد، الهمداني، يعرف بابن الفصيح الكوفي

وكان في غالب أوقاته دهشًا، وبصره شاخصًا، لا يسمع مَنْ يكلمه ولا يراه، فتارة يكون واقفًا، وتارة يكون قاعدًا، وتارة يكون مضطجعًا على جنبه، وتارة يكون مستلقيًا على ظهره مغطًّى كالميت، ويمر عليه عشرة أيام متواصلة - وأقل من ذلك وأكثر - وهو على هذه الحالة، لا يأكل ولا يشرب، ولا يتكلم ولا يتحرك، ثم يستفيق وينبعث من هذه الغيبة، ويكون أول كلامه أنه يملي من القصيدة ما فتح الله عليه، فجاءت قصيدة غراء، وفريدة زهراء، لم ينسج على منوالها، ولا سمح خاطر بمثلها، وهي مذكورة في ديوانه، المسمى "بالبحر الفائض في ديوان ابن الفارض"، وهو الذي شخصت إليه الأعين، وانبهرت به الأفكار؛ لسمو معانيه، وحسن أسلوبه، وقال جماعة: إنه لم ينظمها على حد نظم الشعراء أشعارهم، بل كانت تحصل له جذبات يغيب فيها عن حواسه نحو الأسبوع والعشرة أيام، فإذا أفاق، أملى ما فتح الله عليه منها، ثم يدع حتى يعاود ذلك الحال. طبع ديوانه في بيروت، وفي الديار المصرية، وعليه شروحات كثيرة، وكَفَّرَ ابن الفارض برهانُ الدين إبراهيم بن عمر البقاعي، في كتاب سماه: "تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض"، فرد عليه بعضهم مبرئًا ابن الفارض مما اتهم به. 341 - ابن الفصيح: هو فخر الدين، أبو طالب أحمد بن علي بن أحمد، الهمدانيُّ، يعرف بابن الفصيح الكوفيُّ. كان إماما عالمًا علامة معظمًا معيدًا مدرسًا، له صيت في بلاد العراق، ثم قدم دمشق، فأكرمه الطنبغا نائب الشام، ودرَّس، وكان من فقهاء الحنفية، له مؤلفات. أرخ الذهبي مولده سنة 679 تقديرًا. وأرخ الصفدي وجزم به سنة 685. قال الذهبي: أفتى ودرَّس وناظر، وظهرت فضائله. وقال الكمال جعفر: نظم الكثير، وأجاز له إسماعيل بن الكيال، وتقدم في العربية والقراءات والفرائض وغيرها، كان كثيرَ التودد، لطيفَ المحاضرة، تصدَّر ببغداد لإقراء العربية، وهو القائل:

342 - الشيخ شهاب الدين بن محمد بن داود المنزلاوي - رضي الله عنه -

ما العلمُ إلَّا في الكتا ... ب وفي أحاديث الرسول وسواهما عند المحقـ ... ـق خرافات الفضول وكانت وفاته بدمشق سنة 755، كذا في "طبقات التميمي" - رحمه الله تعالى -. 342 - الشيخ شهابُ الدين بنُ محمدِ بنِ داود المنزلاويُّ - رضي الله عنه -. قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في "طبقاته الكبرى" في حقه: الشيخ الصالح السني المحمدي، كان ملازمًا للعمل بالكتاب والسنة، ما رأت عيني بعد الشيخ محمد بن عثمان (¬1) أضبطَ للسنة منه، وكان يقول: من أراد حفظ السنة، فليعمل بها؛ فإنها تتقيد عنده، ولا ينساها، وكان يدرس العلم، ويقرأ كتب التصوف في زاويته على بحيرة دمياط. وكان موردًا للضيوف الواردين من دمياط والصادرين، صحبته - رضي الله عنه - نحوًا من أربعين سنة، ما رأيته قط زاغ عن السنة في شيء من أحواله، انتهى. مات سنة 951 عن نيف وثمانين سنة. وقال في ترجمة والده: محمد بن داود وولده الشيخ شهاب الدين، كان يُضرب به المثل في اتباع الكتاب والسنة، وما رأيت في عصري هذا أضبطَ منه للسنة، ولا من الشيخ يوسف الحريثي، انتهى. أَهِيمُ بِلَيْلَى ما حَيِيتُ وَإِنْ أَمُتْ ... أُوَكِّلْ بِلَيْلَى مَنْ يَهيمُ بِها بَعْدي 343 - الشيخُ العالمُ الصالحُ، محمد بن أحمد الطوسي. قال الشعراني في "الطبقات": وكان يقول: عليكم باتباع السواد الأعظم، قالوا له: من السواد الأعظم؟ قال: هو الرجل العالم، أو الرجلان المتمسكان بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطريقته، وليس المراد به مطلق المسلمين، فمن كان مع ¬

_ (¬1) وجدنا في طبقات الشعراني: محمد بن عنان، وليس ابن عثمان، (ج 2 ص 187).

344 - أبو محمد سهل بن عبد الله التستري

هذين الرجلين، أو الرجل، وتبعه، فهو الجماعة، ومن خالفه، فقد خالف أهل الجماعة، وتوفي - رحمه الله - سنة 226. 344 - أبو محمد سهلُ بنُ عبدِ الله التستريُّ. ذكر له الشعراني ترجمة حسنة حافلة في "طبقاته"، وقال: هو أحد أئمة القوم، ومن أكابر علمائهم المتكلمين في علوم الإخلاص والرياضات وغيوب الأفعال، وكان - رضي الله عنه - يقول: الفتنة على ثلاثة أقسام: فتنة العامة: دخلَتْ عليهم من صناعة العلم، وفتنة الخاصة: دخلَتْ عليهم من الرخص والتأويلات، وفتنة العارفين: دخلَتْ عليهم من تأخير الحق الواجب إلى وقت آخر. وكان يقول: أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكلُ الحلال، وكفتُّ الأذى، واجتناب المعاصي، والتوبةُ، وأداءُ الحقوق. وكان يقول: لقد أيس العلماء في زماننا هذا من هذه الثلاث خصال: ملازمة التوبة، ومتابعة السنة، وترك أذى الخلق. وكان يقول: ما عمل عبدٌ بما أمره الله تعالى عند فساد الأمور، وتشويش الزمان، واختلاف الناس في الرأي، إلا جعله الله تعالى إمامًا يُقتدى به، هاديًا مهديا، وكان غريبًا في زمانه. وكان يقول: يأتي على الناس زمان يذهب الحلال من أيدي أغنيائهم، وتكون الأموال من غير حلها، فيسلط الله بعضهم على بعض - يعني بالأذى والمرافعات عند الحكام -، فتذهب لذة عيشهم، ويلزم قلوبهم خوف فقر الدنيا، وخوف شماتة الأعداء، ولا يجد لذةَ العيش إلا عبيدُهم ومماليكهم، وتكون ساداتهم في بلاء وشقاء وعناء وخوف من الظالمين، ولايستلذ بعيش يومئذ إلا منافقٌ، لا يبالي من أين أخذ، ولا فيما أنفق، ولا كيف أهلك نفسه، وحينئذ تكون رتبة القراء رتبة الجهال، وعيشهم عيش الفجار، وموتهم موت أهل الحيرة والضلال، انتهى. 345 - الأستاذ علي بن محمد وفا. ذكر له الشعراني ترجمة كاملة في "طبقاته"، وقال: كان في غاية الظرف والجمال، لم ير في مصر أجمل منه وجهًا ولا ثيابًا، وله نظم شائع، وعدة

346 - أبو حفص عمر بن حسن الهوزني، الحسيب، العالم، المحدث

مؤلفات شريفة، وكان يقول: علماء السوء أضرُّ على الناس من إبليس، يلبسون الحقَّ بالباطل، ويزيدون الأحكام على وفق الأغراض والأهواء بزيغهم وجدالهم، فمن أطاعهم، ضلَّ سعيهُ، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، فاستعذ بالله منهم، واجتنبهم، وكن مع العلماء الصادقين. وكان يقول: من المتفقهين تستفيد دعوى العلم بأحكام الدين، ومن العلماء العاملين تستفيد العمل بأحكام الدين، فانظر أيُّ الفائدتين أقربُ قُربى عند رب العالمين، فاستمسكْ بها. وكان يقول: لا تطلب ألا يكون لك حاسد، ولا ألا يحسدك حاسد؛ فإن الحكم الوجودي اقتضى مقابلة النعم بالحسد، فمن طلب ألا يكون له حاسد، فقد طلب ألا تكون له نعمة، ومن طلب الوقاية من شر الحاسد المتحققِ الحسد، فقد طلب ظهور النعمة عليه مع الأمان من التشويش ومن فيها، فافهم. فلذلك قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 - 5] وأتى: بإذا، ولم يقل: إن حسد، فافهم! انتهى. قلت: هُمْ يُحْسَدون وشَرُّ الناسِ كُلَّهِمِ ... مَنْ عاشَ في الناس يومًا غيرَ محسودِ اللهمَّ لك الحمدُ على ما جعلتني محسودًا لأعدائي، ولم تجعلْني حاسدًا، فقِني شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك. 346 - أبو حفص عمرُ بنُ حسن الهوزنيُّ، الحسيبُ، العالمُ، المحدثُ. رحل إلى مصر، ثم مكة، وسمع "صحيح البخاري"، وعنه أخذ أهل الأندلس، ورجع وسكن إشبيلية، وخدم المعتضد، فقتله سنة 460، له شعر يحرض فيه على الجهاد. 347 - خلف بن القاسم بنِ سهلِ بن الدباغ، الحافظُ، الأندلسيُّ. رحل إلى المشرق، وكان حافظًا فهمًا عارفًا بالرجال، حدث حديث مالك وشعبة، وأشياء في الزهد، وسمع بمصر ودمشق ومكة وقرطبة، وتوفي سنة 393.

348 - الحافظ، المقرىء الإمام أبو عمر، الداني، عثمان بن سعيد الأموي - مولاهم - القرطبي

348 - الحافظُ، المقرىء الإمامُ أبو عمر، الداني، عثمانُ بنُ سعيدٍ الأمويّ - مولاهم - القرطبيُّ. عرف بالداني؛ لسكناه دانية. ولد سنة 371. رحل إلى المشرق، ومكث بالقيروان، ودخل مصر، وحج ورجع إلى الأندلس، وقرأ بالروايات بقرطبة، وسمع من البزار وغيرِ واحد؛ كالقابسي، وتلا عليه خلق، وحدث عنه جمع كثير، لم يكن في عصره ولا بعده مَنْ يدانيه في حفظه وتحقيقه. وكان أحدَ الأئمة في علم القرآن والحديث، وله معرفة بطرق الحديث وإعرابه وأسماء رجاله، وكان حسنَ الخط والضبط والذكاء واليقين، وكان دَيَّنًا فاضلاً ورعًا سُنيًا، وقال بعضهم: كان مجابَ الدعوة، مالكيَّ المذهب، له مئة وعشرون مصنفًا. وكانت وفاته سنة 444 - رحمه الله تعالى رحمة واسعة -. 349 - الحافظ أبو عامر محمدُ بنُ سعدون بن مرجي القرشيُّ، العبدريَّ. من أهل ميورقة من بلاد الأندلس، سكن بغداد، وسمع بها من ابن خيرون، والحميدي، وجماعة، ولم يزل يسمع إلى حين وفاته، وكتب بخطه كثيرًا، وجمع وخرَّج. وكان صحيح العقل، معتمَدَ الضبط، وكفاه فخرًا وشرفًا أن روى عنه الحافظ السِّلفي، وابنُ ناصر، وكان فهامة علامة، ذا معرفة بالحديث، متعففًا مع فقره، وكان يذهب إلى أن المناولة والعرض كالسماع، قال السلفي: إنه من أعيان علماء الإسلام بمدينة السلام، وكان داودي المذهب، وقد كتبَ عني وكتبت عنه، وسمعنا معًا على كثير من شيوخ بغداد، وقال ابن عساكر: كان أحفظَ شيخٍ لقيته، توفي سنة 524. 350 - محمد بن سعدون، الباجيُّ. سمع بمصر من: ابن الورد، وابن السكن، وابن رشيق، وبمكة: من الآجري، وكان حافظًا فاضلاً.

351 - محمد بن سعدون، التميمي الجزيري

حدَّث ومات سنة 392، ومولده سنة 322 - رحمه الله تعالى رحمة كاملة واسعة -. 351 - محمد بن سعدون، التميميُّ الجزيريُّ. كانت آدابه كثيرة حج غير مرة، ورابط ببلاد المغرب، وكان حسنَ الصوت بالقرآن، سمع الحديث بمصر من الجماعة وبمكة. صحب الفقراء، وطاف بالشام، وغزا غزوات، وتعرض للجهاد، وحَرَّض عليه، ذكر أنه صلى بمصر الضحى اثنتي عشرة ركعة، ثم نام، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إن مالكًا والليث اختلفا في الضحى، فمالك يقول: ثنتا عشرة ركعة، والليث يقول: ثمانية، فضرب عليه بين وركيه! وقال: رأي مالك هو الصواب، ثلاث مرات. قال: وكان في وركي وجع، فمن تلك الليلة زال عني. وكان له براهين من نور، يضيء عليه إذا صلى ونحوه، وأنشد شعر: سجنُ اللسانِ هو السلامةُ للفتى ... من كلِّ لازمةٍ لها استئصالُ إنَّ اللسانَ إذا حَلَلْتَ عِقالَه ... ألقاكَ في شنعاءَ ليس تُقالُ توفي سنة 344. رح. 352 - محمد بن طاهر بنِ عليٍّ، الخزرجيُّ. من أهل دانية سمع من ابن عبد البر، ولقي أبا الحسن الحصري، وقال أنشدني لنفسه: يموتُ مَنْ في الأنام طُرًّا ... مِنْ طَيِّبٍ كانَ ومن خَبيثِ فَمُستريحٌ ومُستَراحٌ ... منه، كما جاءَ في الحديثِ وكان شديد الوسوسة في الوضوء، ذكره ابن عساكر، حج، فقدم دمشق سنة 504، رح. 353 - محمد بن الحسين، يعرف بالميورقي. روى عن الصدفي، ورحل حاجًا، فسمع بمكة وبالإسكندرية، وحدث في غير ما بلدٍ؛ لتجوله. وكان فقيهًا ظاهريًا، عارفًا بالحديث وأسماء الرجال، غلب

354 - محمد بن علي الجياني

عليه الزهد والصلاح، وصار أخيرًا إلى بجاية، وحدَّث هنالك، وسمع منه في سنة 537 - رحمه الله عليه -. 354 - محمد بن علي الجَيّاني. وكان يعلم بالقرآن، ويسمع الحديث طاف البلاد، وسمع ببلخ جماعة منهم، ووقف كتبَه على أصحاب الحديث، وله عوال مخرجة من حديثه، ساوى بعضَ شيوخه، البخاريَّ، ومسلمًا، وأبا داود، والترمذي، والنسائي، مات سنة 563 - رحمه الله تعالى -. 355 - محمد بن عبد الرحمن التُّجيبيُّ. نزيلُ تلمسان، وسمع في الرواية، وكتبَ العلم عن جماعة كثيرة - أزيدَ من مئة وثلاثين -، من أعيانهم: أبو الطاهر السلفي، صحبَه، واختصَّ به، وأكثر عنه، وقال له: تكون محدَث المغرب - إن شاء الله تعالى -، ودعا له بطول العمر، وله أربعون حديثًا في المواعظ، مولده في نحو سنة 540، وتوفي سنة 610. 356 - أبو العباس المرسيُّ. كان من أكابر الأولياء صحب أبا الحسن الشاذلي - قبره بالإسكندرية مشهور -، ذكره ابنُ عطاء الله في كتابه "لطائف المنن"، والصفدي في "الوافي"، وله كلام بديع في تفسير القرآن، كلامه يدل على عظيم ما منحه الله من علوم لَدُنَّيَّة، قال: الفتوة: الإيمان، قال سبحانه {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف: 13]، وقال في قوله تعالى حاكيًا عن الشيطان الرجيم: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف: 17] الآية، قال: ولم يقل: من فوقهم، ولا من تحتهم؛ لأن فوقهم التوحيد، وتحتهم الإسلام، وقال في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم، ولا فخر"؛ أي: لا أفتخر بالسيادة، وإنما الفخر لي بالعبودية، وقال في قول سمنون المحب: وليسَ لي في سواكَ حَظٌّ ... فكيفما شِئْتَ فاخْتَبِرْني

357 - محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرج القرطبي

قال: الأَولى أن يقول: فكيفما شئت فاعف عني، إذ طلبُ العفو أولى من طلب الاختبار، وقال: الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا، توفي سنة 686 - رحمة الله تعالى عليه -. 357 - محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرج القرطبيُّ. ولد سنة 328. سمع بقرطبة من قاسم بن أصبغ كثيرًا، وسمع بمكة من ابن الأعرابي، ولزمه حتى مات، وسمع بها من جماعة غيره، وسمع بجدة والمدينة، ودخل صنعاء وزَبيد وعدن، وسمع بها من جماعة، وسمع بمصر من البرقي، وسمع من السيرافي، وبغزة وعسقلان وطبرية، ودمشق وطرابلس، وبيروت وصيدا، والرملة وصور، وقيسارية والقلزم، والفرما والإسكندرية، فبلغت شيوخه إلى مئتين وثلاثين شيخًا، وروى عنه جماعة، ومات سنة 348. قال الحميدي: وهو محدث جليل، صنف كتابًا في فقه الحديث، وفي فقه التابعين، وقال ابن الفرضي: كان عالمًا بالحديث، بصيرًا برجاله، صحيح النقل، حافظًا جيد الكتابة على كثرة ما جمع. وقال ابن عفيف في حقه: كان من أغنى الناس بالعلم، وأحفظهم للحديث، وأبصرهم بالرجال، ما رأيت مثله في هذا الفن، وكان من أوثق المحدثين بالأندلس، وأصحهم كتبًا، وأشدهم تعبًا لروايته، وأجودهم ضبطًا لكتبه، وأكثرهم تصحيحًا لها، لم يدع فيها شبهة - رحمه الله تعالى -. 358 - موسى بن سعادة. من أهل مرسية، سمع من صهره ابن سكرة الصدفي، ولازمه، وأكثر عنه، وروى عن الشاطبي، وابن شفيع، قرأ عليهما "الموطأ" ورحل، وحج وسمع السنن، وعُني بالرواية، وانتسخ "الصحيحين" للبخاري ومسلم بخطه، وسمعهما على صهره نحو ستين مرة. حدَّث عنه جماعة، فُقد في سنة 514. 359 - محمد بن عبد الله السلميُّ المرسيُّ. قال ابن النجار: ولد سنة 570، وقال غيره: في التي قبلها، دخل مصر،

360 - علي بن موسى بن سعيد، العنسي، متمم كتاب "المغرب في أخبار المغرب"

وسار إلى الحجاز، وعاد إلى بغداد، وأقام بها يسمع ويقرأ، وسافر إلى خراسان ونيسابور وهراة، وحدث بكتاب "السنن الكبرى" للبيهقي، وبكتاب: "غريب الحديث" للخطابي، وكان من الأئمة الفضلاء في جميع فنون العلوم من علم القراءات والحديث والفقه والنحو واللغة، وله فهم ثاقب. قال ابن النجار: ما رأيت مثله في فنه، وكان شافعي المذهب، وله تفسير سماه: "ري الظمآن" كبير جدًا، وتعليق على "الموطأ"، له نظم بليغ، ومن شعره: مَنْ كانَ يرغبُ في النجاة، فما لَهُ ... غيرُ اتِّباعِ المُصْطَفى فيما أَتَى ذاكَ السبيلُ المستقيمُ، وغيره ... سبلُ الغوايةِ والضلالةِ والرَّدَى فاتبعْ كتابَ الله والسننَ التي ... صَحَّتْ فذاك إذا اتَّبَعْتَ هو الهُدى ودَع السؤالَ بكَمْ وكيف، فإنه ... بابٌ يَجُرُّ ذوي البصيرة للعَمى الدَّينُ: ما قال النبيُّ وصَحْبُه ... والتابعون ومن مَناهِجهم قفا توفي - رحمه الله - سنة 655. 360 - علي بن موسى بن سعيد، العنسيُّ، متممُ كتاب "المُغْرب في أخبار المَغْرب". ذكر له المَقَّري في "نفح الطيب" ترجمة حافلة إلى كراسة، وذكر من أشعاره كثيرًا. قال في "المغرب": وأنا أعتذر في إيراد ترجمتي هنا بما اعتذر به ابن الإمام في كتاب "سمط الجُمان"، وبما اعتذر به الحجازي في كتاب "المسهب"، وابن القطاع في "الدرة"، وغيرهم من العلماء، انتهى. قال المَقَّري تحت ترجمته: وكان وصولُه بالإسكندرية في سنة 639، وحكي أنه قال: أخذتُ مع والدي يومًا في اختلاف مذاهب الناس، وأنهم لا يسلِّمون لأحد في اختياره، فقال متى أردتَ أن يسلم لك أحدٌ في هذا التأليف - أعني: "المغرب" -، ولا يعترض، أتعبتَ نفسك باطلاً، وطلبت غايةً لا تُدرك، وأنا أضرب لك مثلاً ... إلى قوله: يا بني! سمعتُ كلامهم، وعلمتُ أن أحدًا لا يسلم من اعتراض الناس على أي حالة كان اعتراضهم، انتهى. ثم ذكر المَقَّري قصائد كثيرة أنشدها علماء دمشق وأدباؤها في مدح المَقَّري،

361 - أحمد بن محمد بن مفرج الأموي، يعرف بابن الرومية

واعتذر عن إيرادها، وقال: قلت: وذكري لكلام أعيان دمشق - حفظهم الله تعالى - ومديحِهم لي ليس - عَلِمَ الله - لاعتقادي في نفسي فضلاً، بل أتيت به دلالة على فضلهم الباهر؛ حيث عاملوا مثلي من القاصرين بهذه المعاملة، وكَسَوه حُللَ تلك المجاملة، مع كوني لست في الحقيقة له بأهل؛ لما أنا عليه من الخطأ والخطل والجهل، انتهى. قلت - عفا الله عني -: وأنا أيضًا أتفوه بهذه المقالة في إيرادي لمدائح الناس لي في كتبي، وتحرير تقاريظهم في آخر مؤلفاتي، وجمعي لمكاتيبهم ونمائقهم في ثنائي في مصنفاتي؛ فإني إنما أتيت بذلك إبانةً لعلمهم وفضلهم في الأقران في بلاغة النثير، وفصاحة النظيم؛ ليعرف العارفون أن الزمان ليس خاليًا عن أهل العلم في حين من الأحيان، وإن كان الدهر عاد في هذا الوقت طريدًا غريبًا، ولا ترى فيه واحدًا من المئتين عالمًا كاملاً، ولا شاعرًا أديبًا، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] "وإنما الأعمال بالنيات"، وإنما العبرة بالخواتيم، ختم الله لي بالحسنى وزيادة. 361 - أحمد بن محمد بن مفرج الأمويُّ، يعرف بابن الرومية. كان عارفًا بالعشب والنبات، ورحل إلى البلاد، ودخل حلب، وسمع الحديث بالأندلس وغيرها، وحج في رحلته، ولقي كثيرًا، له مختصر كتاب "الكامل" لأحمد بن عدي في رجال الحديث، وله كتاب "المُعْلِم بما زاده البخاري على كتاب مسلم"، مولده سنة 561، وتوفي سنة 637. وسمع ببغداد من جماعة، وحدث بمصر أحاديث من حفظه، ويقال له الحَزمي: بفتح الحاء؛ نسبة إلى مذهب ابن حزم؛ لأنه كان ظاهريَّ المذهب، وكان زاهدًا صالحًا، وكان متعصبًا لابن حزم بعد أن تفقه في المذهب المالكي، وكان بصيرًا بالحديث ورجاله، كثير العناية، واختصر كتاب الدارقطني في "غريب حديث مالك"، رح. 362 - أحمد بن مَعَدِّ بنِ عيسى، يعرف بابن الإقليشي. أخذ العربية والآداب، وسمع الحديث من الحافظ أبي بكر بن العربي،

363 - الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد، المقري التلمساني المولد، المالكي المذهب، نزيل القاهرة

وجاور بمكة. وكان عالمًا عاملاً متصوفًا شاعرًا مجردًا، له تصانيف، منها: كتاب "الغرر من كلام سيد البشر". كان الناس يدخلون عليه بيته والكتب عن يمينه وشماله، ومن شعره: أَسيرُ الخطايا عندَ بابِكَ واقفٌ ... له عن طريقِ الحقِّ قلبٌ مخالِفُ قديمًا عصى عَمْدًا وجَهْلاً وغِرَّةً ... ولم يَنْهَهُ قلَبٌ من الله خائِفُ تزيدُ سِنوه وهو يزدادُ ضِلَّةً ... فها هو في ليلِ الضلالةِ عاكِفُ تَطَلَّعَ صبحُ الشيبِ والقلبُ مظلِمٌ ... فما طافَ منه من سنى الحقَّ طائِفُ ثلاثون عامًا قد تَوَلَّتْ كأنها ... حلومٌ تَقَضَّتْ أو بُروقُ خواطِفُ وجاءَ المَشيبُ المُنْذِرُ المرءَ أنه ... إذا رحلتْ هذي الشبيبةُ تالِفُ فيا أحمدَ الخوان! قد أدبرَ الصِّبا ... وناداكَ من سِنَّ الكُهولة هاتِفُ فهل أَرَّقَ الطرفَ الزمانُ الذي مضى ... وأبكاه ذنبٌ قد تقدَّمَ سالِفُ فَجُدْ بالدموعِ الحُمرِ حُزنًا وحسرةً ... فدمعُك يُنْبِي أَنَّ قلبَك آسِفُ قال المقري في "نفح الطيب": وقد وافق في أول هذه القطعة قول أبي الوليد بن الفرضي، أو أخذه منه نقلاً. توفي سنة 550، وقيل: سنة 551 - رحمة الله عليه -. 363 - الشيخ أحمد بن محمد بنِ أحمدَ، المَقَّرِيُّ التلمسانيُّ المولد، المالكيُّ المذهب، نزيلُ القاهرة. قال في "خلاصة الأثر": حافظ المغرب، جاحظ البيان، ومن لم ير نظيره في جودة القريحة، وصفاء الذهن وقوة البديهة. وكان آية باهرة في علم التفسير والحديث، ومعجزًا باهرًا في الأدب والمحاضرات، له المؤلفات الشائعة، منها: "عَرْف الطيب في أخبار ابن الخطيب"، انتهى. قلت: وذكر في "كشف الظنون" أنه سماه بعد ذلك: "نفح الطيب عن غصن الأندلس الرطيب"، انتهى. وله "إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة". ولد بتلمسان، ونشأ بها، وحفظ القرآن، وقرأ على عمه سعيد بن أحمد المقري -

مفتي تلمسان ستين سنة -، ومن جملة ما قرأ عليه "صحيح البخاري" سبع مرات، وروى عنه الكتب الستة، وأن الفتوى صارت إليه في زمنه، ارتحل تاركًا للمنصب والوطن إلى حج بيت الله الحرام سنة 1027، ثم ورد إلى مصر، وتزوج بها من السادة الوفائية سنة 1028 ثم زار بيت المقدس سنة 1029، وكرر الذهاب إلى مكة، وأملى بها دروسًا، وفد على "طيبة" سبع مرات، وأملى الحديث النبوي بمرأى منه - صلى الله عليه وسلم - ومسمع، ثم رجع إلى مصر سنة 1039، ثم ورد إلى دمشق، وأملى "صحيح البخاري"، وحضره غالب أعيان دمشق من العلماء، وأما الطلبة، فلم يتخلف منهم أحد، وكان يوم ختمه حافلاً جدًا، اجتمع فيه الألوف من الناس، وعلت الأصوات بالبكاء، وأُتي له بكرسي الوعظ، فصعد عليه، وتكلم بكلام في العقائد والحديث لم يسمع نظيره أبدًا، وتكلم على ترجمة البخاري، وأنشد له بيتين، وأفاد أن ليس للبخاري غيرهما، وهما: اغتنمْ في الفراغِ فَضْلَ رُكوعٍ ... فعسى أن يكونَ موتُك بَغْتَهْ كَمْ صَحيحٍ قدْ ماتَ قبلَ سقيمٍ ... ذهبتْ نفسُه النفيسةُ فَلْتَهْ وكانت الجلسة من طلوع الشمس إلى قرب الظهر، ثم ختم الدرس بأبيات قالها حين ودَّع المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وهي قوله: يا شفيعَ العُصاةِ أنتَ رجائي ... كيف يخشى الرجاءُ عندَك خَيْبَهْ وإذا كنتَ حاضرًا بفؤادي ... غيبةُ الجسمِ عنكَ ليسَ بِغَيْبَهْ ليسَ بالعيشِ في البلادِ انقطاعٌ ... أطيبُ العيشِ ما يكونُ بِطَيْبَهْ ونزل عن الكرسي، فازدحم الناس على تقبيل يده، وكان ذلك نهار الأربعاء سابع عشر رمضان سنة 1039، ولم يتفق لغيره من العلماء الواردين إلى دمشق ما اتفق له من الحظوة وإقبال الناس، وكان بعد ما رأى من أهلها ما رأى، كثر الاهتمام بمدحها، وقد عقد في كتابه "نفح الطيب" فصلاً يتعلق بها وبأهلها، وأورد في مدحها أشعارًا، وجرى بينه وبين أدبائها وعلمائها مطارحات شتى، ودخل مصر، واستقرَّ بها مدة يسيرة، ثم طلق زوجته الوفائية، وأراد العودة إلى

364 - العلامة زين الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن بن شهاب الدين أبي العباس أحمد بن حسن بن رجب، شيخ الحنابلة والمحدثين

دمشق للتوطن بها، ففاجأه الحِمام قبل نيل المرام، وكانت وفاته سنة 1041 - رحمه الله تعالى -. ذكره الخفاجي في "ريحانة الألباء"، وامتدحه بعبارة ابتهر لها العلماء، وأنشد له أشعارًا، وقال: رأيت له نظمًا ونثرًا، ومحاسن تملأ الأفواه والأسماع دُرًّا، ومن تأليفه: "أزهار الرياض في أخبار عياض"، انتهى. 364 - العلامة زين الدين، أبو الفرج، عبدُ الرحمن بنُ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن حسن بن رجب، شيخ الحنابلة والمحدثين. قال نعمان أفندي قساطلي في كتابه "الروضة الغناء في تاريخ دمشق الفيحاء": هو الإمامُ الأصوليُّ المحدِّث الفقيهُ الواعظُ الشهيرُ، كان إمامًا في العلوم، له مصنفات كثيرة، منها "شرح البخاري"، و"شرح الأربعين النووية"، و"طبقات الحنابلة"، و"القواعد"، و"رياض الأنس"، وغيرها، مات بدمشق، ودفن بباب الصغير عند قبر معاوية، انتهى. قلت: وهذه الروضة مؤلفها نصراني، قد عقد فصلاً في كتابه المذكور لذكر من مات واشتُهر ضريحُه بدمشق من الأولياء المقربين، والعلماء العاملين، وذكر فيها جمعًا من حفاظ الحديث، منهم: ابنُ عساكر بن حسين بن هبة الله، وقال: هو الفخر الحافظ الكبير، أبو القاسم، إمام أهل الحديث، ألف "تاريخ الشام" في ثمانين مجلدًا، وله تآليف - غير التاريخ - بلغت ثمانية وعشرين مصنفًا، توفي سنة 571، ودفن بالحجرة التي فيها معاوية، انتهى. ومنهم: إبراهيم الناجي شيخ المحدثين بدمشق، كان إمامًا ورعًا، عارفًا بالصحابة ورجال الحديث، مات بدمشق، وقبره على الطريق. ومنهم: الشيخ عمر بن حسن الخرقي من تابعي أصحاب الإمام أحمد، ومن علماء مذهبه المعتبرين، ومن المعوَّل عليهم بالفقه، وكان زاهدًا عالمًا قانعًا بالقليل، رحل من بغداد، وسكن بدمشق، فرأى يومًا منكرًا، فأنكره، ونهى عنه، فقُتل لأجل ذلك. ومنهم: تقي الدين بن الصلاح، وهو عثمان بن عبد الرحمن الكردي الشهرزوري، كان إمامًا في التفسير والحديث والفقه، متبحرًا في الأصول، مات بدمشق سنة 544.

365 - الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم، الدمشقي، الأنصاري، يعرف بابن عربشاه - طيب الله ثراه -

365 - الشيخ شهاب الدين أحمدُ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الله بنِ إبراهيم، الدمشقيُّ، الأنصاريُّ، يعرف بابن عربشاه - طيب الله ثراه -. كذا نسب نسبه في شرح قصيدته التي سماها: عقود النصيحة، ذكره السيوطي في "أعيان الأعيان"، فقال: الدمشقي، الحنفي، كان عالمًا أديبًا ناظمًا، جال في البلاد، وأخذ عن الأكابر. ولد سنة 791، ومات سنة 854. وذكر في شرح القصيدة من شرح حاله ما ملخصه: أنه جَوَّدَ القرآن بمدينة سمرقند، وقرأ بها النحو والصرف على تلامذة السيد الشريف الجرجاني، وكان يحضر أيضًا مجلس السيد، ويسمع دروسه، ثم إنه طاف بلاد ما وراء النهر والمغل إلى حدود الخطا، وقطع سيحون، واجتمع بمشايخ لا يحصون، من أعظمهم: الخواجة عبد الأول، وابن عمه عصام الدين، وغيرهما، وأسمع البخاري على عالمها الرباني الخواجة محمد زاهد، ومكث بما وراء النهر نحوًا من ثمان سنين، واجتمع بخوارزم بعالمها نور الله، وحافظ الدين البزاري، وأقام عنده نحو أربع سنوات، وقرأ عليه الفقه وأصوله، والمعاني والبيان، ثم قدم الديار الرومية، وأقام بها نحو عشر سنين، واجتمع بعلمائها، وقرأ على بعضهم العلوم العقلية والنقلية، وتنقلت به الأحوال إلى أن اتصل بخدمة السلطان غياث الدين أبي الفتح محمد بن عثمان، وأقرأ أولادَه، ومنهم: السلطان مراد خان، وكان يكتب عند السلطان غياث الدين إلى سائر الأطراف عربيًا وفارسيًا وتركيًا وغير ذلك، ثم قال: والحاصل: أني لم أخل برؤية أحد ممن يشار إليه من ملك وسلطان، ولا عالم ولا شيخ، ولا كبير على حسب ما يتفق، ولم يبق من العلوم فن إلا وكان في فيه حظ وافر، ولا منصبٌ إلا وكان لي فيه نصيب من التدريس والخطابة والإمامة، والكتابة والوعظ والتصنيف والترجمة، وغير ذلك، ومن شعره: فعشْ ما شئتَ في الدنيا وأدرِكْ ... بها ما شئتَ من صِيتٍ وصَوْتِ فحبلُ العيشِ موصولٌ بقَطْعٍ ... وخيطُ العمرِ معقودٌ بمَوْتِ

وقد ذكر له في "الضوء اللامع" ترجمة واسعة، وأثنى عليه، وذكر له من التأليف: "العقد الفريد" في التوحيد، و"فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء"، و"خطاب الإهاب الناقب وجواب الشهاب الثاقب"، وكان آخر ما ألفه كتابًا على لسان الحيوانات، فيه العجائب والغرائب، وأثنى عليه الأئمة؛ كابن حجر، والمقريزي، وغيرهما، حتى وصفه بعضهم بقوله: الإمام العلامة، أحد أفراد الدهر في النثر والنظم وعلم المعاني والبديع، وترجم كتابه "عجائب المقدور"، وطبع في هولاندة، وطبع الأصل العربي بمصر، وكذلك طبع أيضًا كتابه "فاكهة الخلفاء" بمصر، وفي ألمانيا سنة 1852، انتهى ما في "آثار الأدهار". وكتاباه هذان عندنا وقفنا عليهما، وهما فريدان في بابهما، خطيبان في محرابهما، قلَّ نظيرُهما في كتب التواريخ والأدب والعربية، والله أعلم. وبالجملة: فقد كان فاضلاً جيدًا أديبًا، كاملاً لبيبًا أريبًا، وحيدَ عصره في العربية واللسان، فريدَ دهره في الأدب والبيان، شهرته تغني عن الإطناب في ذكره، والإسهابِ في أمره. كتابه "عجائب المقدور في أخبار تيمور" يدل على سَعَة علمه واطلاعه، وقوة دركه وفهمه وبراعة يراعه، عقد فيه فصلاً فيمن حصل في أيام استيلاء تيمور - بسمرقند - من الفقهاء. قال: ومن المحققين: مولانا سعد الدين التفتازاني، توفي سنة 791 بسمرقند، والسيد الشريف محمد الجرجاني، توفي بشيراز، ومن المحدثين: الشيخ شمس الدين محمد بن الجوزي، كان أخذه من الروم، وكان قد هرب إليها من مصر بعد توجهه من بلاد الشام قبل الفتنة، توفي بشيراز. والمفسر الحافظ المحدث محمد الزاهد البخاري، فسر القرآن الكريم في مئة مجلد توفي بمدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة 822. ومن حفاظ القرآن المجودين قراءة وصوتًا: عبد اللطيف الدامغاني، ومولانا أسد الدين الحافظ الحسيني، ومحمود المحرق الخوارزمي، وعبد القادر المراغي الأستاذ في علم الأدوار. ومن الوعاظ المتكلمين: مولانا أحمد بن شمس الأئمة السرائي، كان يقال له: ملك الكلام عربيًا وفارسيًا وتركيًا، وكان أعجوبة الزمان، ومولانا أحمد الترمذي،

366 - [الأمير] سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود

ومولانا منصور القاغاني. ومن الكتاب الموجودين: السيد الخطاط ابن بندكير، وتاج الدين السلماني وغيرهما، إلى آخر ما قال. قال: وكان في سمرقند إنسان يسمى بالشيخ العريان فقيرًا دهمى بشكل بهي وعزم سمي، قيل: إن عمره - على ما هو فيهم شائع، وبين أكابرهم وأفاضلهم ذائع - ثلاث مئة وخمسون سنة، مع أن قامته مستوية، وهيئته حسنة، كان المشايخ الهرمون، والأكابر المعمَّرون يقولون: لقد كنا ونحن أطفال نرى هذا الرجل على هذا الحال، وكذلك نروي عن آبائنا الأكرمين، ومشائخنا الأقدمين ناقلين ذلك عن آبائهم، والمعمرين من كبرائهم، وكان أطلس، وله قوة ناهضة وحِدَّة، من رآه يتصور أنه لم يبلغ أشدَّه، ولم يكن للكبر بوجهه تجعيد ولا أثر، وكان الأمراء والكبراء والأعيان والصلحاء والفضلاء والرؤساء يترددون إلى زاويته، ويتبركون بطلعته، ويلتمسون بركة دعوته، انتهى حاصله. 366 - [الأمير] سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود. قال في "البدر الطالع": ولد تقريبًا سنة 1160، أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل في وطنه، ووطن أهله القرية المعروفة بالدرعية من البلاد النجدية، وكان قائد جيوش أبيه عبد العزيز. وكان جده محمد شيخًا لقريته التي هو فيها، فوصل إليه الشيخ العلامة محمد بن عبد الوهاب الداعي إلى التوحيد، المنكر على المعتقدين في الأموات، فأجابه، وقام بنصره، وما زال يجاهد من يخالفه، وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها الأمور الجاهلية، وصار الإسلام فيها غريبًا، ثم مات محمد بن سعود، وقد دخل في الدين بعض البلاد النجدية، وقام ولده عبد العزيز مقامه، فافتتح جميع الديار النجدية، والبلاد العارضية، والأحساء والقطيف، وجاوزها إلى فتح كثير من البلاد الحجازية، ثم استولى على الطائف ومكة والمدينة، وغالب جزيرة العرب. وغالب هذه الفتوح على يد ولده سعود، ثم قام بعده ولده سعود، فتكاثرت جنوده، واتسعت فتوحه، ووصلت جنوده إلى اليمن، فافتتحوا بلاد أبي عريش،

وما يتصل بها، ثم تابعهم الشريف حمود بن محمد شريفُ أبي عريش، وأمدوه بالجنود، ففتح البلاد التهامية كاللحية، والحديدة، وبيت الفقيه، وزبيد، وما يتصل بهذه البلاد، وما زال الوافدون من سعود يفدون إلينا - إلى صنعاء - إلى حضرة الإمام المنصور وولده الإمام المتوكل بمكاتيب إليهما بالدعوة إلى التوحيد، وهدم القبور المشيدة، والقباب المرتفعة، ويكتب إلي أيضًا ما يصل من الكتب إلى الإمامين، ثم وقع الهدم للقباب والقبور المشيدة في صنعاء، وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها، وفي جهة ذمار، وما يتصل بها، ثم خرج باشا (¬1) مصر إلى مكة بعد إرساله بجنود افتتحوا مكة والمدينة والطائف، وغلبوا عليها، وكان استيلاؤه على مكة والمدينة سنة 1228، وخروجه إلى مكة سنة 1227، والحرب مستمرة، ومات سعود في هذه السنة 1229. وقام بالأمر ولده عبد الله بن سعود. وقد أفردت هذه الحوادث العظيمة بمصنف مستقل. وسيأتي في ترجمة الشريف غالب - شريف مكة - إشارةٌ إلى طرف من هذه الحوادث - إن شاء الله تعالى -، ثم خرجت جيوش الروم ومصر على عبد الله بن سعود، وما زال الحرب بينهم سجالاً، وتكاثرت جنود الروم حتى حصروا عبد الله بن سعود ومن معه من الجند في قريته الدرعية، وطال الحصر. وأخربت المدافع الرومية كثيرًا من الأبنية، وبعد هذا استسلم عبد الله بن سعود، وكان ذلك في سنة 1233، وأدخلوه أسيرًا إلى حضرة سلطان الروم، والله أعلم ما انتهى إليه حاله (¬2)، ثم خرج بعض الجنود الرومية صحبة الباشا ¬

_ (¬1) هو محمد علي باشا سنة (1228 هـ 1812 م) حينما هو وصل إلى مكة، فأكرمه الشريف غالب، وبعدما استتبت له الأمور، قبض على الشريف غالب وأولاده، وأرسلهم إلى مصر، ومنها إلى سلانيك. (¬2) لما خافت الحكومة العثمانية على نفسها بسبب امتداد الحكم السعودي في أنحاء البلاد العربية، وأيضًا خوفًا من محمد علي باشا أن يمتد حكمه في تلك البلاد، ابتكرت سياسة جديدة لتحقيق مصلحتها، فأسندت الأمر إلى الباشا المذكور.

367 - الشريف حمود بن محمد، الحسني، صاحب أبي عريش

خليل إلى تهامة اليمن التي كانت بيد الشريف حمود، وكان خروجهم بعد موته وقيام ولدِه أحمد بالأمر مع معاضدة الشريف حسن بن خالد الحازمي للشريف أحمد، فاستولت الجند الرومية على ما كان بيد الشريف أحمد بن حمود، واستلم إلى أيديهم، وأدخلوا إلى حضرة السلطان (¬1)، وكان هذا في سنة 1234، وأما الشريف حسن بن خالد الحازمي، ففر بمن معه إلى بلاد عسير، وتحصَّن بمكان يقال له: المناظر، فخرجت عليه الجنود الرومية، ووقع بينهم حروب، آخرها قُتل فيها الشريف حسن بن خالد، والأمر لله سبحانه، انتهى. 367 - الشريف حمود بنُ محمد، الحسنيُّ، صاحبُ أبي عريش. قال في "البدر الطالع": ولد بعد سنة 1160 تقريبًا، ثم استقل بولاية أبي عريش، وسائر الولاية الراجعة إلى أبي عريش؛ كصبيا، وضمد، والمخلاف السليماني، وكان متوليًا، لذلك من طريق مولانا الإمام المنصور - رحمه الله -، ثم حدث ما حدث من قيام صاحب نجد، واستيلائه على البلاد التي بينه وبين بلاد أبي عريش، فأمر عبد الوهاب بن عامر العسيري - المعروف بأبي نقطة - بأن يتقدم في جيشه على بلاد الشريف حمود، فتقدم في نحو عشرين ألفًا، والشريف حمود استقر في أبي عريش؛ لقلة جيشه، فتقدم عليه أبو نقطة إلى أبي عريش، فدخلها في شهر رمضان سنة 1217، وقُتل من الفريقين فوق الألف، ثم استسلم الشريف حمود، ودخل في الدعوة النجدية. ثم خرج على البلاد الأمامية، فاستولى على بندر اللحية، وعلى بندر الحديدة، وعلى زبيد، وما يرجع إلى هذه الولايات، واختط مدينة الزهراء، وصار ملكًا مستقلاً، ثم أفسد ما بينه وبين النجدي، فأمر أبا نقطة المذكور أن يغزوه فغزاه، والتقيا بأطراف البلاد، فقُتل أبو نقطة، وانهزم جيش الشريف حمود، وقتل منهم نحو ألفين، وكان جيشه من يام، وبكيل، وقبائل تهامة زهاء سبعة عشر ألفًا. ¬

_ (¬1) لما أخذوه إلى إستانبول، طافوا به البلدة، ثم قتلوه، وقتلوا من معه سنة 1817.

368 - [الشريف] غالب بن مساعد، شريف مكة

وكان جيش أبي نقطة - كما قيل - نحو مئة ألف؛ لأنه أمده النجدي بجماعة من أمرائه؛ كابن شكبان، والمضائفي، ثم إن جيش صاحب نجد بعد قتل أبي نقطة وهزيمة الشريف تقدموا على أبي عريش، وجرت بينهم ملاحم كبيرة، وانحصر الشريف في أبي عريش، وشحن سائر البلاد أبي عريش بالمقاتلة، ثم رجع سائر الأمراء النجدية، وبقي بقية من الجيش في بلاد أبي عريش، والحرب بينهم سجال، وكان هذا الحرب الذي قتل فيه أبو نقطة في سنة 1224، وفي سنة 1228 وقع الصلح بينه وبين مولانا الإمام المتوكل على الله قبل دعوته، وكان ذلك باطلاعي، وحاصله: أنه يثبت الشريف (¬1) على ما قد صار تحت يده من البلاد، ثم بعد هذا انتقض الصلح بينه وبين الإمام المذكور، ولم يزل الحرب ثائرًا بينه وبين الإمام إلى هذا التاريخ - وهو سنة 1229 - وهو مستمر على الانتماء إلى صاحب نجد، ثم مات في سنة 1233، انتهى. 368 - [الشريف] غالب بن مساعد، شريف مكة. قال في "البدر الطالع": له شغلة عظيمة بصاحب نجد عبد العزيز بن محمد بن سعود المستولي الآن على البلاد النجدية وغيرها مما هو مجاور لها، وكثيرًا ما يجمع الشريف غالب الجيوش، ثم يغزو أرض نجد، فيصل إلى أطرافها، فيبلغنا أنها تقوم لحربه طائفة يسيرة من أطراف البلاد، فيهزمونه، ¬

_ (¬1) المتوكل على الله: هو الإمام أحمد (1170 - 1231 هـ، 1756 - 1816 م) بن المنصور بالله، علي - م 1224 - بن عباس الهادي، ثم تولى الإمامة محمد بن يحيى حميد الدين بن محمد (1255 - 1322 هـ، 1839 - 1904 م)، ثم وَلِيَ الإمامة بعده ابنه الإمام يحيى (1286 - 1367 هـ، 1869 - 1948 م) بن محمد بن يحيى حميد الدين بن محمد، الذي مات قتيلاً، وآل الأمر من بعد المعارك إلى ولي عهده الإمام أحمد المتوفى سنة (1382 هـ 18 سبتمبر 1962 م) - رحمه الله - بن يحيى بن محمد بن يحيى حميد الدين بن محمد. ثم وَلِي الأمر ولي عهده سيف الإسلام الأمير محمد البدر بن أحمد بن يحيى، ولم تدم سلطته إلا ثمانية أيام.

ويعود إلى مكة، وآخر ما وقع منه ذلك في سنة 1212، فإنه جمع جيشًا كبيرًا، وغزا نجدًا، وأوقع ببعض البلاد الراجعة إلى سلطان نجد المذكور، فلم يشعر إلا وقد دهمه جيش لا طاقة له به، أرسله صاحب نجد، فهزمه، واستولى على غالب جيشه قتلاً وأسرًا، بل جاءت الأخبار بأنه لم يسلم من جيش الشريف إلا طائفة يسيرة، وقتل جماعة من أشراف مكة في المعركة، وتمت الهزيمة إلى مكة، ولو ترك ذلك، واشتغل بغيره، لكان أولى له، شعر: فإنَّ مَنْ حاربَ مَنْ لا يقوى ... لحربِهِ جَرَّ إليه البلوى فإن صاحبَ نجد تبلغ عنه قوة عظيمة، لا يقوم لمثلها صاحب الترجمة - يعني: شريف مكة -، فقد سمعنا أنه قد استولى على بلاد الحسا، والقطيف، وبلاد الدواسر، وغالب بلاد الحجاز، ومن دخل تحت حوزته، أقام الصلاة، والزكاة، والصيام، وسائر شعائر الإسلام، ودخل في طاعته من عرب الشام الساكنين ما بين الحجاز وصعدة غالبُهم، إما رغبةً، وإما رهبةً، وصاروا مقيمين لفرائض الدين بعد أن كانوا لا يعرفون من الإسلام شيئًا، ولا يقومون بشيء من واجباته إلا مجرد التكلم بلفظ الشهادتين، على ما في لفظهم بهما [من] عوج. وبالجملة: فكانوا جاهلية جهلاء كما تواتر بذلك الأخبار إلينا، ثم صاروا الآن يصلون الصلوات لأوقاتها، ويأتون بسائر الأركان الإسلامية على أبلغ صفاتها، ولكنهم يرون أن من لم يكن داخلاً تحت دولة صاحب نجد، وممتثلاً لأوامره، خارجٌ عن الإسلام، ولقد أخبرني أمير حجاج اليمن - السيد محمد بن حسين المراجل الكبسي -: أن جماعة منهم خاطبوه هو ومن معه من حجاج اليمن، بأنهم كفار، وأنهم غير معذورين عن الوصول إليه لينظر في إسلامهم، فما تخلصوا منهم إلا بجهد جهيد، وقد صارت جيوش صاحب نجد في بلاد يام، وفي بلاد السراة المجاورة لبلاد أبي عريش ومن تبعه من هذه الأجناس، اغتبط بمتابعته، وقاتل من يجاوره من الخارجين عن طاعته. فبهذا السبب صار معظم تلك البلاد راجعة إليه، وتبلغنا عنهم أخبار، الله

أعلم بصحتها، من ذلك: أنه يستحلُّ دمَ من استغاث بغير الله؛ من نبيًّ أو وليٍّ أو غير ذلك. ولا ريب أن ذلك - عن اعتقاد تأثير المستغاث به كتأثير الله - كُفْرٌ، يصير به صاحبه مرتدًا؛ كما يقع من كثير [من] هؤلاء المعتقدين للأموات الذين يسألونهم قضاء حوائجهم، ويعولون عليهم زيادة على تعويلهم على الله - سبحانه وتعالى -، ولا ينادون الله - جل وعلا - إلا مقترنًا بأسمائهم، ويخصونهم بالنداء منفردين عن الرب، فهذا كفر لا شك فيه ولا شبهة، وصاحبُه إذا لم يتب، كان حلالَ الدم والمال كسائر المرتدين. ومن جملة ما يبلغنا عن - صاحب نجد -: أنه يستحلُّ سفكَ دم من لم يحضر الصلاة في جماعة، وهذا - إن صح - غيرُ مناسب لقانون الشرع، نعم، من ترك صلاة فلم يفعلها منفردًا، ولا في جماعة، فقد دلت أدلة صحيحة على كفره، وعورضت بأخرى، فلا جرح على من ذهب إلى القول بالكفر، إنما الشأن في استحلال دم من ترك مجرد الجماعة، ولم يتركها منفردًا، وتبلغ أمورٌ غيرُ هذه، الله أعلمُ بصحتها. وبعض الناس يزعم أنه يعتقد اعتقادَ الخوارج، وما أظن أن ذلك صحيح. فإن صاحبَ نجد وجميعَ أتباعه يعملون بما يعلمون من [الإمام شيخ الإسلام] محمد بن عبد الوهاب، وكان حنبليًا، ثم طلب الحديث بالمدينة المشرفة، فعاد إلى نجد، وصار يعمل باجتهادات جماعة من متأخري الحنابلة؛ كابن تيمية، وابن القيم، وأضرابهما، وهم من أشد الناس على معتقدي الأموات، وقد رأيت كتابًا من صاحب نجد الذي هو الآن صاحب تلك الجهات، أجاب به على بعض أهل العلم، وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده. فرأيت جوابه مشتملاً على اعتقاد حسن موافق الكتاب والسنة، والله أعلم بحقيقة الحال، وأما أهل مكة، فصاروا يكفِّرونه، ويطلقون عليه اسم: الكافر.

وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد (¬1) لقصد المناظرة، فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه في الدين. وفي سنة 1215 وصل من صاحب نجد المذكور مجلدان لطيفان، أرسل بهما إلى حضرة مولانا الإمام - حفظه الله -، أحدهما يشتمل على رسائل لمحمد بن عبد الوهاب، كلها في الإرشاد إلى إخلاص التوحيد، والتنفير من الشرك الذي يفعله المعتقدون في القبور، وهي رسائل جيدة مشحونة بأدلة الكتاب والسنة، والمجلد الآخر: يتضمن الرد على جماعة من الفقهاء المقصرين من فقهاء "صنعاء"، و"صعدة"، ذاكروه في مسائل متعلقة بأصول الدين، وبجماعة من الصحابة، فأجاب عليهم جوابات محررة مقررة محققة، تدل على [أن] المجيب من العلماء المحققين العارفين بالكتاب والسنة، وقد هدم عليهم جميع ما بنوه، وأبطل جميع ما دونوه؛ لأنهم مقصرون متعصبون، فصار ما فعلوه خزيًا عليهم، وعلى أهل "صنعاء" و"صعدة"، وهكذا من تصدر ولم يعرف مقدار نفسه، وأرسل صاحب نجد مع الكتابين المذكورين بمكاتبة منه إلى سيدي المولى - حفظه الله -، فدفع - حفظه الله - جميعَ ذلك إليَّ، فأجبت عن كتابه الذي كتبه إلى مولانا الإمام على لسانه - حفظه الله - بما معناه: إن الجماعة الذين أرسلوا إليه بالمذاكرة لا ندري من هم، وكلامهم يدل على أنهم جهال، والأصل والجواب موجودان في مجموعي. وفي سنة 1217 دخلت بلاد "أبي عريش"، وأشرافُها في طاعة صاحب نجد، ثم تزلزلت الديار اليمنية بذلك، واستولى أصحابه على بعض ديار "تهامة"، وجرت أمور يطول شرحها، وهي الآن في سريان، وقد أفردت ما بلغنا من ذلك ¬

_ (¬1) أرسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، والأمير عبد العزيز بن الأمير محمد بن سعود - رحمه الله - وفدًا أول مرة سنة (1185 هـ 1771 م) إلى مكة المكرمة برئاسة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن الحصين المتوفى سنة (1237 هـ 1821 م) وهو من أجل تلامذة الشيخ، ومرة أخرى سنة (1204 هـ 1789 م)، ولن تنسى فظائع إبراهيم باشا، في نجد سنة (1234 هـ 1818 م)، ومن مظالمه أن الشيخ عبد العزيز طلبه الباشا المذكور عنده، وهو بسبب كبر سنه لم يتمكن الحضور لديه، فجيء به محمولاً، وحينما حضر لديه، أهانه.

في مصنف مستقل؛ لأن هذه الحادثة قد عَمَّت وطَمَّت، وارتجفت لها أقطار الديار الشامية والمصرية، والعراقية والرومية، بل وسائر الديار، لا سيما بعد دخول أصحاب النجد "مكة المشرفة"، وطرد أشرافها عنها، ولله أمر هو بالغه. ثم في سنة 1222 وصل إلينا جماعة من صاحب نجد سعود بن عبد العزيز، لبعضهم معرفة في العلم، ومعهم مكاتيب عن "سعود" إلى الإمام المنصور - رحمه الله تعالى - وإليَّ أيضًا، ثم وصل جماعة آخرون كذلك في سنة 1227، ثم وصل جماعة آخرون كذلك في سنة 1228، ودار مع هؤلاء الآخرين ومع غيرهم من المكاتبة ما لا يتسع المقام لبسطه، ثم بعد هذا في سنة 1229 خرج باشا مصر - محمد علي - بجنود السلطان، ووصل إلى مكة، وأسر الشريف غالب، وجهزه إلى الروم، ثم بلغ موته هنالك، انتهى. ثم ذكر غلبة أفرنج من قوم فرانسيس (¬1) على مصر وإسكندرية وسائر أعمالها، وقال: كتب في ذلك الشريف غالب كتابًا إلى إمام اليمن، واستمد منه، ومن طرفه أجيب على كتابه، ونقل هذه الخطوط بعينها، وقال: قد جاءت في هذا الباب مكاتيب كثيرة، ولم يعلم ما جرى من طرف السلطنة إلى تحرير هذه الأحرف في خواتم شهر شوال سنة 1213، ولعل وراء الغيب أمرًا يسرنا، اللهم انصر الإسلام والمسلمين. ثم قال: وفي سنة 1213 خرج أفرنج من مصر - ولله الحمد، - وأما الشريف غالب، فلما استولى صاحب نجد على مكة والمدينة، تابعه، ودخل تحت أمره ونهيه، واستمر نائبًا له منذ دخول جيوشه مكة، وكان القادم بالجيوش سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، ثم مات عبد العزيز، وصار الأمر بعده إلى ولده سعود، وما زال يأتي للحج في كل عام إلى سنة 1228، فخرج باشا مصر - محمد علي - بجنود متكاثرة، واستولى على مكة والمدينة، على مواطأة بينه وبين الشريف غالب، ثم لما استقر بمكة، قبض على الشريف غالب، واستولى على جميع أملاكه وذخائره - وهي كثيرة جدًا -، وأرسله في سفينة هو وخواص أهله ¬

_ (¬1) هو نابوليون الذي دخل مصر، واستولى عليها سنة (1798 م 1213 هـ)، ثم تقهقر.

إلى الروم، والله أعلم ما كان آخر أمره، فإنه لم يبلغنا إلى الآن خبر صحيح عما كان من أمره بعد إخراجه من مكة، وإدخاله إلى تلك الديار، والباشا محمد علي مستقر بمكة وجنده إلى الآن، وهي سنة 1229، والحرب بينه وبين أهل نجد مستمر. ومات في هذه السنة أمير العرب - صاحبُ نجد -، وهو سعود بن عبد العزيز، وقام مقامه ولده عبد الله بن سعود، وما زال يجهز الجند إلى مكة ومن بها، والحرب بينهم سجال، وقد تقدم ما انتهى إليه حال هذا الحرب في ترجمة سعود، انتهى. وقال في ترجمة محمد علي باشا متولي الديار المصرية: ما زال أمره يرتفع حتى صار إليه ولاية الحرمين، ثم وصل إلى مكة، وأسر الشريف غالب، ثم حارب صاحب نجد، وقدم عليه الجيوش مع ابنه إبراهيم، ومع غيره، وما زال يغلب جيوش صاحب نجد جيشًا بعد جيش، حتى وصل جيشه إلى الدرعية، وطرح عليها حتى أخربها، وخرج صاحبها إذ ذاك، وهو عبد الله بن سعود إلى يد جيوش صاحب الترجمة، وسلم نفسه هو وأعيان ذلك المحل من أولاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأوصلوهم إلى مصر، والله أعلم ما كان من أمرهم (¬1)، وصاحب الترجمة هو الآن - في سنة 1239 - باقيًا على الباشوية بمصر، وله مجاهدات وغزوات وإقدامات، انتهى. قال القاضي العلامة عبد الرحمن بن أحمد البهكلي في كتاب "نفح العود في أيام الشريف حمود": ومن كتب عبد العزيز بن سعود: هذا الكتاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عبد العزيز بن سعود إلى من يراه من أهل المخلاف السليماني، خصوصًا أولاد الشريف حمود، وناصر، ويحيى، وسائر إخوانهم، وأولاد إخوانهم، وكذلك أشراف بني النعمى، وكافة أشراف تهامة، وفقنا الله وإياهم إلى سبيل ¬

_ (¬1) تقدم ذكره في التعليق في صفحة (308)، وفي المتن (ص 309).

الحق والهداية، وجنبنا وإياهم طريق الشرك والغواية، وأرشدنا وإياهم إلى اقتفاء آثار أهل العناية. أما بعد: فالموجب لهذه الرسالة أن الشريف أحمد بن حسين الفلقي قدم إلينا، فرأى ما نحن عليه، وتحقيق صحة ذلك لديه، فبعد ذلك التمس منا أن نكتب لكم ما يزول به الاشتباه، فتعرفوا دين الإسلام الذي لا يقبل من أحد سواه. فاعلموا - رحمكم الله تعالى -: أن الله سبحانه أرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على فترة من الرسل، فهدى به إلى الدين الكامل، والشرع التام، وأعظمُ ذلك وأكبرُه وزبدتُه إخلاصُ العبادة لله لا شريك له، والنهيُ عن الشرك، وذلك هو الذي خلق الله تعالى الخلق لأجله، ودل الكتاب على فضله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وإخلاص الدين: هو صرف جميع العبادة لله تعالى وحده لا شريك له، وذلك أن لا يُدعى إلا الله، ولا يُستغاث إلا به، ولا يُذبح إلا له، ولا يُخشى ولا يُرجى سواه، ولا يُرهب ولا يُرغب إلا فيما لديه، ولا يُتوكل في جميع الأمور إلا عليه، وأن كل ما هنالك لله تعالى، لا يصلح شيء منه لملَكٍ مقرَّب، ولا نبي مرسل، ولا شيء غيرهما، وهذا هو بعينه توحيد الألوهية الذي أُسس الإسلام عليه، وانفرد به المسلم عن الكافر، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فلما مَنَّ الله تعالى علينا بمعرفة ذلك، علمْنا أنه دين الرسل، اتبعناه، ودعونا الناس إليه، وإلا، فنحن قبل ذلك ما عليه غالب الناس؛ من الشرك بالله تعالى من عبادة أهل القبور، والاستغاثة بهم، والاستعانة منهم، والتقرُّبِ بالذبح لهم، وطلبِ الحاجات منهم، مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات، وارتكاب الأمور المحرمات، وترك الصلاة وترك شعائر الإسلام، حتى أظهر الله الحق بعد خفائه، وأحيا أثره بعد عفائه على يد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -

أحسن الله تعالى إليه في آخرته والمآب -، فأبرز لنا ما هو الحق والصواب من كتاب الله المجيد الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد} [فصلت: 42]. فبين الذي نحن عليه، وهو دين غالب الناس من الاعتقادات في الصالحين وغيرهم، ودعوتهم عند الشدائد، والتقرب بالذبح لهم، والنذر لهم، والاستغاثة بهم، وطلب الحاجات منهم، وأنه الشرك الأكبر الذي نهى الله عنه، وتهدَّد بالوعيد الشديد عليه، وأخبر في كتابه أنه لا يغفره إلا بالتوبة منه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14]، والآيات - في أن دعوة غيره شرك أكبر - كثيرة واضحة شهيرة. فحين كشف لنا الأمر، وعرفنا ما نحن عليه من الشرك والكفر بالنصوص القطعية والأدلة الساطعة من كتاب الله، وسنة رسوله، وكلام الأئمة الأعلام الذين أجمعت الأمة على روايتهم، عرفنا أن ما نحن عليه، وما كنا ندين به أولاً أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه وحذر، وأن الله إنما أمرنا أن ندعوه وحده، وذلك كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6]. إذا عرفتم هذا، فاعلموا - رحمكم الله - أن الذي ندين الله به هو إخلاص العبادة لله وحده، ونفي الشرك، وإقام الصلاة في الجماعة، وغير ذلك من أركان الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يخفى على ذوي البصائر والأفهام، والمتدبرين من الأنام، أن هذا هو الدين، جاءنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال-

369 - السيد محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل بن المنصور، صاحب "العواصم والقواصم"

جل وعلا -: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فمن قبل هذا، وألزم العمل به، فهو حظه في الدنيا والآخرة - ونعم الحظ دين الإسلام -، ومن أتى غيره، واستكبر، فلم يقبل هدى الله لما تبين له نوره، وثناه وأعرض عن ذلك، قاتلناه، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]. وقصدُنا بهذه النصيحة إليكم القيامُ بواجب الدعوة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين} [يوسف: 108]. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، انتهى. قال: وكتب الشريف منصور إلى ابن عمه علي بن حيدر - القائم بأبي عريش - يستحثه على الخروج على خالعي الطاعة، وهو يعده بذلك حتى خرج ووصل إليه الشريف حمود بن محمد، وتقدم كل منهم إلى غربي وادي صبيا في محل يسمى: "الحجرين"، واجتمع الجعفريون ومَنْ والاهم من أهل ذلك المخلاف إلى حدود الجارة من قرى وادي بيش الشامية، وفيها الأشراف العماريون، فاجتمع الجميع بمحل يسمى: "البطح"، والتحم القتال، وكانت الدائرة على الجعافرة، وانجلت المعركة عن قتل كثير، وأسر كثير، وقُتل فيها مسعود - أخو الشريف حمود -، وعاد الشريف إلى أبي عريش. وكان الشيخ محمد بن أحمد، ووالده الشيخ العلامة أحمد بن عبد القادر ممن خالطت قلوبَهم بشاشةُ الدعوة النجدية، وناصروا دعاتها بأشعار الحماسة، والأقوال في الرسائل إلى أهل الرياسة، وذلك في سنة 1217، انتهى. 369 - السيد محمدُ بنُ إبراهيم بنِ عليِّ بنِ المرتَضَى بنِ المفضَّل بنِ المنصور، صاحب "العواصم والقواصم". كان من كبار حفاظ الحديث، وعلماء المجتهدين اليمانيين، غلط السخاوي في ترجمة نسبه كما يلوح من كتاب "البدر الطالع".

قال الشوكاني: هو الإمام الكبير، المجتهدُ المطلَقُ المعروف بابن الوزير، ولد في شهر رجب سنة 775. وقال السخاوي: إنه ولد تقريبًا سنة 765، وهذا التقريب بعيد، والصواب الأول. تبحَّر في جميع العلوم، وفاقَ الأقران، واشتُهر صيتُه، وبَعُدَ ذكرُه، وطار علمُه في الأقطار. قال صاحب "مطالع البدور": ترجم له ابن حجر العسقلاني في "الدرر الكامنة"، انتهى. وهذا لا أصل له؛ فإنه لم يترجم له فيها أصلاً، بل ترجم له في "أنباء الغمر"، وترجم له التقي بن فهد في "معجمه"، وصنف في الردِّ على الزيدية: "العواصم والقواصم"، واختصره في "الروض الباسم"، وأنشد له في معجمه: العلمُ ميراثُ النبيِّ كذا أَتَى ... في النَّصَّ، والعلماء هم وُرَّاثُهُ فإذا أردتَ حقيقةً تدري بها ... وُرَّاثَه وعرفْتَ ما ميراثُهُ ما وَرَّثَ المختارُ غيرَ حديثِهِ ... فينا وذاكَ متاعُهُ وأَثاثُهُ قلنا: الحديثُ وراثةٌ نبويَّةٌ ... ولِكُلِّ مُحْدِثِ بدعةٍ إحداثُهُ وذكره ابن حجر في "أنباء الغمر" في ترجمة أخيه الهادي، فقال: وله أخ يقال له: محمد، مقبلٌ على الاشتغال بالحديث، شديدُ الميل إلى السنة، بخلاف أهل بيته، انتهى. ولو لقيه الحافظ ابن حجر بعد أن تبحر في العلوم، لأطال عنانَ قلمه في الثناء عليه، وكذلك السخاويُّ لو وقف على "العواصم والقواصم"، لرأى فيها ما يملأ عينه وقلبه، ولكن لعله بلغه الاسمُ دون المسمى. ولا ريب أن علماء الطوائف لا يُكثرون العناية بأهل هذه الديار؛ لاعتقادهم في الزيدية ما لا مقتضى له إلا مجرد التقليد لمن لم يطلع على الأحوال؛ فإن في ديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عددًا يجاوز الوصف، يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة، ويعتمدون على ما صح في الأمهات الستة الحديثية، وما يلتحق بها من دواوين الإسلام، المشتملةِ على سنة سيد الأنام، ولا يرفعون إلى التقليد رأسًا، ولا يشوبون دينَهم بشيء من البدع التي لا يخلو أهلُ مذهب من المذاهب من شيء منها، بل هم على نمط السلف الصالح في العمل بما يدل عليه كتاب الله، وما صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع كثرة اشتغالهم بالعلوم التي هي آلاتُ عِلم

الكتاب والسنة؛ من نحو وصرف، ومعان وبيان، وأصول ولغة، وعدم إخلالهم بما عدا ذلك من العلوم العقلية، ولو لم يكن من المزية إلاّ التقييد بنصوص الكتاب والسنة، وطرح التقليد، فإن هذه خصيصة خصَّ الله بها أهلَ الديار في هذه الأزمنة الأخيرة، ولا توجد في غيرهم إلا نادرًا، ولا ريبَ أن في سائر الديار - لا سيما المصرية والشامية - من العلماء الكبار من لا يبلغ غالبُ أهل ديارنا هذه إلى رتبته، ولكنهم لا يفارقون التقليد الذي هو دأبُ من لا يعقِلُ حججَ الله ورسوله، ومن لم يفارق التقليد، لم يكن لعلمه كثير فائدة، وإن وجد منهم من يعمل بالأدلة، ويدع التعويل على التقليد، فهو القليل النادر؛ كابن تيمية، وأمثاله. وإني لأُكثر التعجبَ من جماعة من أكابر العلماء المتأخرين الموجودين في القرن الرابع وما بعده، كيف يقفون على تقليد عالم من العلماء، ويقدمونه على كتاب الله، وسنة رسوله، مع كونهم قد عرفوا من علم اللسان ما يكفي في فهم الكتاب والسنة بعضُه؛ فإن الرجل إذا عرف من لغة العرب ما يكون به فاهمًا لما يسمعه منها، صار كأحد الصحابة الذين كانوا في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، ومن صار كذلك، وجب عليه التمسكُ بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك التعويل على محض الآراء. فكيف بمن وقف على دقائق اللغة وجلائلها إفرادًا وتركيبًا وإعرابًا وبناء، وصار في الدقائق النحوية والصرفية والأسرار البيانية والحقائق الأصولية بمقام لا يخفى عليه من لسان العرب خافية، ولا يشذ عنه منها شاذَّةٌ ولا فاذَّة، وصار عارفًا بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير كتاب الله، وما صح عن علماء الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم إلى زمنه، وأتعبَ نفسه في سماع دواوين السنة التي صنفها أئمةُ هذه الشأن في قديم الأزمان وفيما بعده، فمن كان بهذه المثابة، فكيف يسوغ له أن يعدل عن آية صريحة، أو حديث صحيح إلى رأي رآه بعضُ المجتهدين حتى كأنه بعضُ العوام الأغتام الذين لا يعرفون من رسوم الشريعة إلا اسمًا. فيا لله العجب! إذا كانت نهايةُ العالم كبدايته، وآخرُ أمره كأوله، فقل لي: أَيُّ

فائدة لتضييع الأوقات في المعارف العلمية؟ فإن قول إمامه - الذي يقلد هو - كان يفهمه قبل أن يشتغل بشيء من العلوم سواه، كما نشاهده في المقتصرين على علم الفقه، فإنهم يفهمونه، بل يصيرون فيه من التحقيق إلى غاية لا يخفى عليهم منه شيء، ويدرسون فيه، ويفتون به، وهم لا يعرفون سواه، بل لا يميزون بين الفاعل والمفعول، والذي أدين الله به: أنه لا رخصة لمن علم من لغة العرب ما يفهم به كتاب الله - بعدَ أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف، وشطر من مهمات كليات أصول الفقه - في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز، ثم إذا انضم إلى ذلك الاطلاع على كتب السنة المطهرة التي جمعها الأئمة المعتبرون، وعملَ بها المتقدمون والمتأخرون، كـ"ـالصحيحين" وما يلتحق بهما مما التزم فيه مؤلفوه الصحة، أو جمعوا فيه بين الصحيح وغيره، مع البيان لما هو صحيح، ولِما هو حسن، ولما هو ضعيف، وجب العمل بما هو كذلك، ولا يحل التمسك بما يخالفه من الرأي، سواء كان قائله واحدًا، أو جماعة، أو الجمهور، فلم يأت في هذه الشريعة الغراء ما يدل على وجوب التمسك بالآراء المتجردة عن معارضة الكتاب والسنة، فكيف بما كان منها كذلك؟ بل الذي جاءنا في كتاب الله على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، إلى غير ذلك، وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كل أمر ليس عليه أمرنا، فهو رَدّ". فالحاصل: أن من بلغ في العلم إلى رتبة يفهم بها تراكيب كتاب الله، ويرجح بها ما ورد مختلفًا من تفسير السلف الصالح، ويهتدي بها إلى كتب السنة التي يعرف بها ما هو صحيح وما ليس بصحيح، فهو مجتهد، لا يحل له أن يقلد غيره - كائنًا مَنْ كان - في مسألة من مسائل الدين، بل يستروي النصوص من أهل الرواية، ويتمرن في علم الدراية، ويقتصر من كل فن على مقدار الحاجة، والمقدارُ الكافي من تلك الفنون هو ما يُتوصل به إلى الفهم والتمييز، ولا شك أن التبحر في المعارف، وتطويلَ الباع في أنواعها، هو خير كله، لا سيما

الاستكثار من علم السنة، وحفظ المتون، ومعرفة أحوال رجال الأسانيد، والكشف عن كلام الأئمة في هذا الشأن؛ فإن ذلك مما يوجب تفاوتَ المراتب بين المجتهدين، لا أنه يتوقف الاجتهادُ عليه. فإن قلت: ربما يقف على هذا الكلام من هو متهيئٌ لطلب العلم، فلا يدري بما ذاك يشتغل، ولا يعرف ما هو الذي إذا اقتصر عليه في كل فن بلغَ إلى رتبة الاجتهاد الذي يجب عليه عنده العملُ بالكتاب والسنة. قلت: لا يخفى عليك أن القرائح مختلفة، والفطن متفاوتة، والأفهام متباينة، فمن الناس من يرتفع بالقليل إلى رتبة علية، ومن الناس من لا يرتفع من حضيض التقصير بالكثير، وهذا معلوم بالوجدان، ولكني أذكر ها هنا ما يكتفي به مَنْ كان متوسطًا بين الغايتين، فأقول: يكفيه من علم مفردات اللغة مثل "القاموس"، وليس المراد: إحاطتُه به حفظًا، بل المراد: الممارسةُ لمثل هذا الكتاب، أو ما يشابهه على وجه يهتدي به إلى وجدان ما يطلبه منه عند الحاجة، ويكفيه في النحو مثل "الكافية" لابن الحاجب، أو "الألفية"، وشرح مختصر من شروحهما، وفي الصرف مثل "الشافية"، وشرح من شروحها المختصرة، مع أن فيها ما لا تدعو إليه حاجة، وفي أصول الفقه مثل "جمع الجوامع"، أو "التنقيح" لابن صدر الشريعة، أو "المنار" للنسفي، أو "مختصر المنتهى" لابن الحاجب، أو "غاية السول" لابن الإمام، وشرح من شروح هذه المختصرات المذكورة، مع أن فيها جميعِها ما لا تدعو إليه الحاجة، بل غالبها كذلك، ولا سيما تلك التدقيقات التي في شروحها وحواشيها؛ فإنها من علم الكتاب والسنة بمَعْزِل، ولكنه جاء في المتأخرين مَن اشتغل بعلوم أخرى خارجة عن العلوم الشرعية، ثم استعملها في العلوم الشرعية، فجاء من بعده فظنَّ أنها من علوم الشريعة، فبعدت عليه المسافة، وطالت عليه الطريق، فربما بات دون المنزل، ولم يبلغ إلى مقصده، فإن وصل إليه، وصل بذهن كليل، وفهم عليل؛ لأنه قد استفرغ قوته في مقدماته، وهذا مشاهد معلوم؛ فإن غالب طلحة علوم الاجتهاد تنقضي أعمارهم في تحقيق الآلات وتدقيقها، ومنهم من لا يفتح كتابًا من كتب السنة،

ولا سفرًا من أسفار التفسير، فحالُ هذا كحال من حصل الكاغد والحبر، وبرى أقلامه، ولاك دواته، ولم يكتب حرفًا، فلم يفعل المقصود؛ إذ لا ريب أن المقصود من هذه الآلات هو الكتابة. كذلك حالُ من قبله، ومن عرف ما ذكرناه سابقًا، لم يحتج إلى قراءة كتب التفسير على الشيوخ؛ لأنه قد حصل ما يفهم به الكتاب العزيز، وإذا أشكل عليه شيء من مفردات القرآن، رجع إلى ما قدمنا أنه يكفيه من علم اللغة، وإذا أشكل عليه إعراب، فعنده من علم النحو ما يكفيه، وكذلك إذا كان الإشكال يرجع إلى علم الصرف، وإذا وجد اختلافًا في تفاسير السلف التي يقف عليها مطالعته، فالقرآن عربي والمرجع لغة العرب، فما كان أقرب إليها، فهو أحقُّ مما كان أبعدَ، وما كان من تفاسير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو - مع كونه شيئًا يسيرًا - موجود في كتب السنة. ثم هذا المقدار الذي قدمنا يكفي في معرفة معاني متون الحديث، وأما ما يكفيه في معرفة كون الحديث صحيحًا أو غير صحيح، فقد قدمنا الإشارة إلى ذلك، ونزيده إيضاحًا، فنقول: إذا قال إمامٌ من أئمة الحديث المشهورين بالحفظ، والعدالة، وحسن المعرفة، والضبط: إنه لم يذكر في كتابه إلا ما كان صحيحًا، وكان ممن مارس هذا الشأن ممارسة كلية؛ كصاحبي "الصحيحين"، وبعدهما "صحيح ابن حبان"، و"صحيح ابن خزيمة"، ونحوهما، فهذا القول مسوغ للعمل بما وجد في تلك الكتب، وموجب لتقديمه على التقليد، وليس هذا من التقليد؛ لأنه عملٌ برواية الثقة، والتقليد: عملٌ برأيه، وهذا الفرق أوضحُ من الشمس، وإن التبس على كثير من الناس، وأما ما يدندن حوله أربابُ علم المعاني والبيان من اشتراط ذلك، وعدم الوقوف على حقيقة معاني الكتاب والسنة بدونه. فأقول: ليس الأمر كما قالوا؛ لأن ما تمس الحاجة إليه في معرفة الأحكام الشرعية قد أغنى عنه ما قدمنا ذكرَه من اللغة والنحو والصرف والأصول، والزائدُ عليه - وإن كان من دقائق العربية وأسرارها، ومما له مزيد التأثير في معرفة بلاغة الكتاب العزيز - لكن ذلك أمرٌ وراءَ ما نحن بصدده، وربما يقول قائل: بأن هذه

المقالة مقالةُ من لم يعرف ذلك الفن حقَّ معرفته، وليس الأمرُ كما يقول؛ فإني قد شُغلت برهةً من العمر في هذا الفن، فمنه: ما قعدت فيه بين أيدي الشيوخ؛ كشرح التلخيص المختصر وحواشيه، وشرحه المطول وحواشيه، وشرحه الأطول، ومنه: ما طالعته مطالعة متعقب، وهو ما عدا ما قدمته، وقد كنت أظن في مبادىء طلب هذا الفن ما يظنه هذا القائل، ثم قلتُ ما قلتُ عن خبرة وممارسة وتجريب، والزمخشري وأمثاله - وإن رغبوا في هذا الفن - فذلك من حيث كونه مدخلاً في معرفة البلاغة؛ كما قدمنا، وهذا الجواب الذي ذكرته ها هنا هو الجواب على المعترض في سائر ما أهملته ما يظن أنه معتبر في الاجتهاد، ومع هذا كله، فلسنا بصدد بيان القدر الذي يجب عنده العمل بالكتاب والسنة، وإلا، فنحن ممن يرغِّب الطلبةَ في الاستكثار من المعارف العلمية، على اختلاف أنواعها؛ كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، ومن رام الوقوف على ما يحتاج إليه طالبُ العلم من العلوم على التفصيل والتحقيق، فليرجع إلى الكتاب الذي جمعتُه في هذا الشأن، وسميته: "أدب الطلب ومنتهى الأرب"، وهو كتاب [لا] يستغني عنه طالب الحق، على أني أقول بعد هذا: إن من كان عاطلاً عن العلوم، الواجبُ عليه أن يسأل مَنْ يثق بدينه وعلمه عن نصوص الكتاب والسنة في الأمور التي تجب عليه؛ من عبادة، أو معاملة، وسائر ما يحدث له، فيقول لمن يسأله: عَلِّمني أصحَّ ما ثبتَ في ذلك من الأدلة حتى أعملَ به، وليس هذا من التقليد في شيء؛ لأنه لم يسأله عن رأيه، بل عن روايته، ولكنه لما كان - لجهله - لا يفطن ألفاظ الكتاب والسنة، وجب عليه أن يسأل من يفطن ذلك، فهو عاملٌ بالكتاب والسنة بواسطة المسؤول، ومن أحرز ما قدمنا من العلوم عامل بهما بلا واسطة في التفهم، وهذا يقال له: مجتهد، والعامي المعتمد على السؤال ليس بمقلد، ولا مجتهد، بل عامل بالدليل بواسطة مجتهد يُفهمه معانيه، وقد كان غالب السلف - من الصحابة والتابعين، وتابعيهم الذين هم خيرُ القرون من هذه الطبقة - كذلك، ولا ريب أن العلماء بالنسبة إلى غير العلماء أقلُّ قليل. فمن قال: إنه لا واسطة بين المقلد والمجتهد. قلنا له: قد كان غالب السلف الصالح ليسوا بمقلدين ولا مجتهدين، أما

370 - محمد بن يوسف، الغرناطي، المعروف بأثير الدين، أبي حيان الأندلسي

كونهم ليسوا بمقلدين، فلأنه لم يُسمع عن أحد من مقصري الصحابة: أنه قلد عالمًا من علماء الصحابة المشاهير، بل كان جميع المقصرين منهم يستروون علماؤهم نصوصَ الأدلة، ويعملون بها، وكذلك مَنْ بعدهم من التابعين وتابعيهم، من قال: إن جميع الصحابة مجتهدون، وجميعَ التابعين وتابعيهم كذلك، فقد أعظم الفرية، وجاء بما لا يقبله عارف. وهذه المذاهب والتقليدات التي معناها قبولُ قول الغير دون حجته لم تحدثْ إلا بعد انقراض "خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وخيرُ الأمورِ السالفاتُ على الهُدَى ... وشَرُّ الأمورِ المُحْدَثاتُ البدائِعُ وإذا لم يسع غيرَ العالم في عصور الخَلَف ما وسعه في عصور السلف، فلا وَسَّعَ الله عليه. قال: وهذا عارضٌ من القول اقتضاه ما قدمناه، فلنرجع إلى ما نحن بصدده من ترجمة هذا السيد الإمام، انتهى. اقبلْ نصيحةَ واعظٍ ... وَلَو أنَّه فِيها مُراءِ فلرُبَّما نفعَ الطبيبُ ... وكانَ أحوجَ للدواءِ 370 - محمد بن يوسف، الغرناطيُّ، المعروفُ بأثير الدين، أبي حيانَ الأندلسيُّ. إمامُ العربية والتفسير، ذكر له المُقَّرِيُّ ترجمة حسنة طويلة، وقال ابن مرزوق في حقه: شيخ النحاة بالديار المصرية، وشيخ المحدثين بالمدرسة المنصورية، سمعت عليه، وقرأت، وحدثني بسنن أبي داود، والنسائي، والموطأ عن جماعة من الحفاظ، قال: شكوت إليه يومًا ما يلقاه الغريبُ من اذاية العداة، فأنشدني لنفسه: عُداتي لهم فضلٌ عَلَيَّ ومِنَّةٌ .... فلا أذهبَ الرَّحمنُ عَنِّي الأعاديا هُمُ بحثوا عن زَلَّتي فاجْتَنَبْتُها ... وهُمْ نافَسوني فاكتسبتُ المَعاليا ذكر الصفدي ترجمته، وأثنى عليه، وبالغ فيه، وقال، خدم هذا العلم مدةً

تقارب الثمانين، وسلك من غرائبه وغوامضه طرقًا متشعبةَ الأَفانين، ولم يزل على حاله إلى أن دخل في خبر كان، وتبدلت حركاته بالإسكان، توفي سنة 745، وصُلِّي عليه بدمشق صلاة الغائب، وكان مولده سنة 654، وله اليدُ الطولى في التفسير والحديث، وتراجم الناس وطبقاتهم، وله التصانيف التي سارت وطارت، وانتشرت وما انتثرت، وقرئت ودريت، ونسخت وما فسخت، أخملت كتب المتقدمين، وقرأ الناس عليه، وصاروا أئمة وأشياخًا في حياته. وكان حسنَ العِمَّة، مليحَ الوجه، ظاهرَ اللون، مُشرب الحمرة، مُنَوَّرَ الشيبة، كبيرَ اللحية، مسترسلَ الشعر، وكان فيه خشوع، يبكي إذا سمع القرآن، ويجري دمعُه عند سماع الأشعار الغزلية. قال الأدفوي، قال لي: إذا قرأتُ أشعارَ العتق، أميل إليها، وكان أولاً يرى رأيَ الظاهرية، ثم إنه تمذهب للشافعي، وكان أولاً يعتقد في الشيخ ابن تيمية، وامتدحه بقصيدة، ثم إنه انحرف عنه لما وقف على كتاب "العرش" له. قلت: وليس الأمر كذلك، قال في "البدر الطالع": وكان ظاهريًا، وبعد ذلك انتمى إلى الشافعي، وكان أبو البقا يقول: إنه لم يزل ظاهريًا، قال ابن حجر: كان أبو حيان يقول: محال أن يرجع عن مذهب الظاهر مَنْ علقَ بذهنه، انتهى. ولقد صدق في مقاله، فمذهب الظاهر هو أول الفكر، وآخر العمل عندَ مَنْ منُح الإنصاف، ولم يَرِدْ على فطرته ما يغيرها عند أهلها، وليس هو مذهب داود الظاهري وأتباعه فقط، بل هو مذهب أكابر العلماء المقيدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن - وداود واحد منهم -، وإنما اشتهر عنه الجمود في مسائل وقفَ فيها على الظاهر حيث لا ينبغي الوقوف، وأهمل أنواع القياس ما لا ينبغي لمنصف إهماله. وبالجملة: فمذهب الظاهر: هو العمل بظاهر الكتاب والسنة بجميع الدلالات، وطرح التعويل على محض الرأي الذي لا يرجع إليهما بوجه من وجوه الدلالة، وأنت إذا أمعنت النظر في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة، وجدتَها مذهبَ الظاهر بعينه، بل إذا رُزقت الانصافَ، وعرفت العلومَ

الاجتهادية كما ينبغي، ونظرت في علوم الكتاب والسنة حقَّ النظر، كنت ظاهريًا؛ أي: عاملاً بظاهر الشرع، منسوبًا إليه، لا إلى داود الظاهري، فإن نسبتك ونسبته إلى الظاهر متفقة، وهذه النسبة هي مساوية النسبة إلى الإيمان والإسلام، وإلى خاتم الرسل - عليه أفضل الصلاة والتسليم -، وإلى مذهب الظاهر بالمعنى الذي أشار إليه ابنُ حزم، بقوله: وما أَنا إلا ظاهِرِيٌّ وإِنَّني ... على ما بَدا حتى يقومَ دليلُ انتهى. قال الصلاح الكتبي: الشيخ الإمام الحافظ العلامة، فريد العصر، وشيخ الزمان، وإمام النحاة، أثيرُ الدين أبو حيان، قرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث ببلاد الأندلس، وجزيرة إفريقية، وثغر الإسكندرية وبلاد مصر والحجاز، وحصل الإجازات من الشام، وغير ذلك، وطلب وحصل، وكتب واجتهد، وله أشعار رائقة، وأبيات فائقة، أورد جملة منها في "الفوات". وكذا ذكر المَقَّري في "نفح الطيب" نبذة من أشعاره الرائقة، وقد مدحه كثير من الشعراء والكبار الفضلاء، وذكر أشعارهم في مدائحه. وقال: الإمامُ العلامة، لسانُ العرب، وترجمان الأدب، وجامعُ الفضائل، عمدة وسائل السائل، حجة المقلدين، زين المجتهدين، أفضل الآخرين، وارث علوم الأولين، وكان سبب انحرافه عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه قال يومًا عنده: كذا قال سيبويه، فقال شيخ الإسلام: يكذب سيبويه، واعترض عليه في غير موضع. وإلا، فأبو حيان هو الذي أنشأ في المجلس ارتجالاً في مدح شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى رحمة واسعة -: لما أتينا تقيَّ الدين لاح لنا ... داعٍ إلى الله فردٌ ما له وَزَرُ على مُحَيَّاه من سيما الألى صحبوا ... خيرَ البريةِ نورٌ دونه القمرُ حِبْرٌ تسربلَ منه دهرُه حِبَرًا ... بحرٌ تقاذفُ من أمواجه الدُّرَرُ قامَ ابن تَيْمِيَّةٍ في نَصرِ شِرْعَتنا ... مَقامَ سيدِ تَيْمٍ إذ عَصَتْ مُضَرُ

371 - جلال الدين، عبد الرحمن السيوطي

فأظهرَ الحسنَ إذ آثارُه دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشرَّ إذ طارت له الشَّرَرُ كُنا نحدثُ عن حبرٍ يجيء، فها ... أنتَ الإمامُ الذي قد كانَ يُنتظَرُ 371 - جلال الدين، عبد الرحمن السيوطيُّ. قال في "البدر الطالع" في ترجمته: الإمام الكبير، صاحب التصانيف، أجاز له أكابر علماء عصره من سائر الأمصار، وبرز في جميع الفنون، وفاق الأقران، واشتهر ذكره، وبَعُدَ صيتُه، وتصانيفُه من الفنون مقبولة، قد سارت في الأقطار مسيرَ النهار، ولكن لم يسلَمْ من حاسد لفضله، وجاحد لمناقبه؛ فإن السخاوي في "الضوء اللامع" - وهو من أقرانه - ترجمه ترجمة مظلمة، غالبها ثَلْبٌ فظيع، وسَبٌّ شنيع، وانتقاصٌ وغمط لمناقبه، تصريحًا وتلويحًا. ولا جرم، فذلك دأبه في جميع الفضلاء من أقرانه، وقد تنافس هو وصاحب الترجمة منافسة أوجبتْ تأليفَ صاحب الترجمة لرسالة سماها: "الكاوي لدماغ السخاوي" فليْعرفِ المطلعُ على ترجمة هذا الفاضل في: "الضوء اللامع": أنها صدرت من خصم له غير مقبول عليه، انتهى. ثم نقل العبارةَ من السخاوي في ذمه، وقال: أقول: لا يخفى على المصنف ما في هذا المنقول من التحامل على هذا الإمام، فإن ما اعترف به من صعوبة علم الحساب عليه لا يدل على ما ذكره من عدم الذكاء؛ فإن هذا الفن لا يفتح فيه على ذكي إلا نادرًا؛ كما نشاهده الآن في أهل عصرنا، وكذلك سكوته عند قول القائل له: نجمع لك أهلَ كل فن من فنون الاجتهاد؛ فإن هذا الكلام خارج عن الإنصاف؛ لأن رب الفنون الكثيرة لا يبلغ في تحقيق كل واحد منها ما يبلغه من هو مشتغل به على انفراده، وهذا معلوم لكل أحد، وكذلك قوله: إنه نسخ كذا وأخذ كذا ليس بعيب؛ فإن هذا ما زال دأبَ المصنفين، يأتي الآخِر، فيأخذ مِنْ كتب مَنْ قبله، فيختصر، أو يوضح، أو يعترض، أو نحو ذلك من الأغراض التي هي الباعثة على التصانيف، ومن ذلك الذي يعمد إلى فن قد صنف فيه من قبله، فلا يأخذ من كلامه، وقوله: إنه رأى بعضها في ورقة، لا يخالف ما حكاه صاحب الترجمة من ذكر عدد مصنفاته، فإنه لم يقل: إنها زادت على ثلاث مئة مجلد، بل قال: إنها زادت

372 - وفي "البدر الطالع" في ترجمة، القاضي حسين بن محمد بن سعيد اللاعي، المعروف بالمغربي، صاحب "البدر التمام في شرح بلوغ المرام"

على ثلاث مئة كتاب، وهذا الاسم يصدق على الورقة فما فوقها. وقوله: إنه كثير التصحيف والتحريف، دعوى مجردةٌ عاطلة عن البرهان، فهذه مؤلفاته على ظهر البسيطة محررة أحسنَ تحرير، ومتقنة أبلغَ إتقان، وعلى كل حال، فهو غير مقبول عليه؛ لما عرفت من قول أئمة الجرح والتعديل بعدم قبول قول الأقران في بعضهم بعضًا مع ظهور أدنى منافسة، فكيف بمثل المنافسة بين هذين الرجلين التي أفضت إلى تأليف بعضهم في بعض؟! فإنَّ أقلَّ من هذا يوجب عدم القبول. والسخاوي - رحمه الله - وإن كان إمامًا غيرَ مدفوع، لكنه كثيرُ التحامل على أكابر أقرانه، كما يعرف ذلك من طالعَ كتابه "الضوء اللامع"؛ فإنه لا يقيم لهم وزنًا، بل لا يسلم غالبُهم من الحطِّ منه عليه، وإنما يعظم مشايخه وتلامذته ومن لم يعرفه ممن مات في أول القرن التاسع قبل مولده، أو مَنْ كان في غير مصره، أو يرجو خيره، أو يخاف شره، أو ما نقله من أقوال مَنْ ذكره من العلماء مما يؤذن بالحطِّ على صاحب الترجمة، فسبب ذلك دعواه الاجتهاد كما صرح به، وما زال هذا دأب الناس مع من بلغ إلى تلك الرتبة، ولكن قد عَرَّفناك في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية: أنها جرت عادة الله سبحانه كما يدل عليه الاستقراء برفع شأن من عودي بسبب علمه وتصريحه بالحق، وانتشار محاسنه بعد موته، وارتفاع ذكره، وانتفاع الناس بعلمه. وهذا كان أمر صاحب الترجمة؛ فإن مؤلفاته انتشرت في الأقطار، وسارت بها الركبان إلى الأنجاد والأغوار، ورفع الله له من الذكر الحسن والثناء الجميل ما لم يكن لأحد من معاصريه، والعاقبةُ للمتقين، تجاوز الله عنهما جميعًا وعنا بفضله وكرمه. ولد السيوطي في سنة 849، وتوفي سنة 911، انتهى. - رحمه الله تعالى رحمة واسعة -. 372 - وفي "البدر الطالع" في ترجمة، القاضي حسين بن محمد بنِ سعيدٍ اللاعي، المعروف بالمغربي، صاحبِ "البدر التمام في شرح بلوغ المرام". قاضي صنعاءَ وعالمُها ومحدثُها، جدُّ شيخنا الحسن بن إسماعيل بن الحسين.

373 - ابن خلدون: هو عبد الرحمن بن محمد الحضرمي، الإشبيلي، المغربي، الفقيه، الإمام، الكاتب، البليغ، المؤرخ، الحكيم المشهور

ولد سنة 1048، وهو مصنف "شرح بلوغ المرام"، وهو شرح حافل، نقل فيه ما في "التلخيص" من الكلام على متون الأحاديث وأسانيدها، ثم إذا كان الحديث في البخاري، نقل شرحه من "فتح الباري"، وإذا كان في "صحيح مسلم"، نقل شرحه من "شرح النووي"، وتارة ينقل من "شرح السنن" لابن رسلان، ولكنه لا ينسب هذه النقول إلى أهلها غالبًا، مع كونه يسوقها باللفظ، وينقل الخلافات من "البحر الزخار" للإمام المهدي أحمد بن يحيى، وفي بعض الأحوال من "نهاية ابن رشد"، ويترك التعرض للترجيح في غالب الحالات، وهو ثمرة الاجتهاد، وعلى كل حال، فهو شرح مفيد، وقد اختصره السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، وسمى المختصر "سبل السلام"، وله رسالة في حديث: "أخرجوا اليهودَ من جزيرة العرب"، رجَّح فيها أنه إنما يجب إخراجُهم من الحجاز فقط، محتجًا بما في رواية بلفظ: "أخرجوا اليهود من الحجاز"، توفي - رحمه الله - في سنة 1116، وقيل: سنة 1115، ترجم له الحليمي في "طيب السمر"، وذكر له شعرًا كشعر العلماء. 373 - ابن خلدون: هو عبدُ الرحمن بنُ محمدٍ الحضرميُّ، الإشبيليُّ، المغربيُّ، الفقيهُ، الإمامُ، الكاتبُ، البليغُ، المؤرخُ، الحكيمُ المشهورُ. قال لسان الدين بن الخطيب: ينسب سلفه إلى وائل بن حجر، تناسلوا على حشمة وسراوة ورسوم حسنة، وأما هو، فرجل فاضل، حسن الخلق، جم الفضائل، باهر الخصال، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس، خاصي الزي، عالي الهمة، عَزوف عن الضيم، صعب المقادة، قوي الجأش، طامح لقنن الرئاسة، خاطب للحظ، متقدم في فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور، بارع الخط، مغري بالخلة، جواد، حسن العشرة، مبذول المشاركة، مقيم لرسم التعين، عاكف على رعي خلال الأصالة، مفخر من مفاخر التخوم المغربية. قرأ القرآن، وتأدب بأبيه، وأخذ عن المحدث ابن جابر، وحضر مجلس القاضي ابن عبد السلام، وروى عن الحافظ السيطي، وأخذ المنطق وسائر

الفنون الحكمية، وكان يشهد له بالتبريز في جميع ذلك، ودخل مكة، وأدى فريضة الحج، وأكب على التدريس والتصنيف، ومن مؤلفاته رحلة كثيرة الفائدة، وشرح البردة شرحًا بديعًا، ولخص محصل الرازي، ونظمُه جيد أتى فيه بكل غريبة، وأما تاريخه الكبير الموسوم بكتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر"، فهو تاريخ حافل، كثير الفوائد، كبير الحجم، دل به على اطلاع كثير، وهذا الكتاب فذ بما تضمنه من شوارد الفوائد، ونوابغ الكلم، وهو جديد النزعة، غريب الوضع، أجاد في تصنيفه، وألبسه رونق البلاغة، ودل به على غزارة مادته، ومشاركته في كثير من العلوم، وتضلعه من الأدب، وخبرته بالسياسة والأحكام الشرعية، مع ضبط التجديد، وحسن الأسلوب، وقد لعبت أيدي النساخ بكتابه، فأحدثت خللاً كثيرًا في ضبط الأعلام والتواريخ، ولا تحسن نسبة ذلك إلى المؤلف؛ لما علمت من سعة علمه وتحقيقه واطلاعه، وتقلبه في مراتب العلم والأحكام، ولا يصح الظن بأنه لم يتهيأ له مراجعته وتهذيبه، فبقي فيه ما ذكر من الخلل. ذكر له الخوري في "الآثار" ترجمة حافلة، وأبان حال هذا التاريخ، طبع بجملته في مصر سنة 1284 في سبع مجلدات. قال: وبالجملة: إن تاريخه من أجل التواريخ القديمة، وأحواها للفوائد، وهو من الآثار العربية، وقد ختمه بالتعريف بنفسه، انتهى. قلت: وهو عندي موجود، وقفت عليه، وانتفعت به كثيرًا في مؤلفاتي، ولله الحمد. وفي "البدر الطالع" في ترجمة عبد الرحمن بن خلدون: صاحب كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر"، ولد في أول رمضان سنة 732 بتونس، قال ابن الخطيب: إنه رجل فاضل، جم الفضائل، رفيع القدر، أصيل المجد، وقور المجلس، عالي الهمة، قوي الجأش، مقدم في فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، شديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور، بارع الخط، حسن العشرة، أثنى عليه المقريزي، وكان الحافظ أبو الحسن الهيثمي يبالغ في الحط منه.

374 - وفي "البدر الطالع" في ترجمة أحمد بن علي المعروف بابن المقريزي صاحب "الخطط والآثار للقاهرة"

قال الحافظ ابن حجر، فلما سألته عن سبب ذلك؟ ذكر في أنه بلغه أنه قال في الحسين السبط - رضي الله عنه -: إنه قتل بسيف جده، ثم أردف ذلك بلعن ابن خلدون وسبه، وهو يبكي، قال ابن حجر: لم توجد هذه الكلمة في التاريخ الموجود الآن، وكأنه كان ذكرها في النسخة التي رجع عنها، قال: والعجب أن صاحبنا المقريزي كان يفرط في تعظيم ابن خلدون؛ لكونه كان يجزم بصحة نسب بني عبيد الذين كانوا خلفاء بمصر، ويخالف غيره في ذلك، ويدفع ما نقل عن الأئمة من الطعن في نسبهم. ويقول: إنما كتبوا ذلك المحضر مراعاة للخليفة العباسي، وكان المقريزي ينتمي إلى الفاطميين، فأحب ابنَ خلدون؛ لكونه أثبتَ نسبهم، وجهل مرادَ ابن خلدون؛ فإنه كان لانحرافه عن العلوية يثبت نسب العبيديين إليهم؛ لما اشتهر من سوء معتقدهم، وكون بعضهم نسب إلى الزندقة، وادعى الإلهية؛ كالحاكم، فكأنه أراد أن يجعل ذلك ذريعة إلى الطعن، هكذا حكاه السخاوي عن ابن حجر، والله أعلم بالحقيقة. وإذا صح صدور تلك الكلمة عن صاحب الترجمة، فهو ممن أضله الله على علم، وختم على سمعه وبصره، انتهى. 374 - وفي "البدر الطالع" في ترجمة أحمد بن علي المعروف بابن المقريزي صاحب "الخطط والآثار للقاهرة": قال السخاوي: كان مولده - حسبما كان يخبر به ويكتبه - بعدَ الستين يعني: وسبع مائة، لقي الكبار، وجالس الأئمة، وتفقه حنفيًا على مذهب جده لأمه، ثم تحول شافعيًا. قال السخاوي: ولكن كان مائلاً إلى الظاهر، وكذا قال ابن حجر: إنه أحب الحديث، فواظب عليه، حتى كان يتهم بمذهب ابن حزم، انتهى. وكان قد اتصل بالطاهر برقوق، ودخل دمشق مع ولده الناصر، وعُرض عليه قضاؤها مرارًا، فأبى، وحج غير مرة، وجاور، ثم أعرض عن جميع ذلك، وأقام ببلده عاكفًا على الاشتغال بالتاريخ حتى اشتهر به ذكره وبعد صيته، ومن جملة تصانيفه "الخطط"، وهو من أحسن الكتب وأنفعها، وفيه عجائب ومواعظ، وكان فيه نشر محاسن العبيدية ويفخم شأنهم، ويشيد ذكر مناقبهم، وكنت - قبل

375 - وفي "البدر الطالع" في ترجمة أحمد بن محمد بن المصري المعروف بابن الرفعة

أن أعرف انتسابه - أعجبُ من ذلك؛ لكونه على غير مذهبهم، فلما وقفت على نسبه، علمت أنه استروح إلى ذكر مناقب سلفه. ووُجد بخطه أن تصانيفه زادت على مئتي مجلد. وكان متبحرًا في التاريخ على اختلاف أنواعه، ومؤلفاته تشهد له بذلك - كان جحده السخاوي - فذلك دأبه في غالب أعيان معاصريه، مات في سنة 845، انتهى. 375 - وفي "البدر الطالع" في ترجمة أحمد بن محمد بن المصري المعروف بابن الرفعة: ولد في سنة 645، وتوفي في سنة 710. وكان قد ندب لمناظرة ابن تيمية، فسئل ابن تيمية عنه بعد ذلك، فقال: رأيت شيخًا تتقاطر فروع الشافعية من لحيته، هكذا ذكر ابن حجر في "الدرر الكامنة"، وندبُ مثلِ صاحب الترجمة لمناظرة ابن تيمية لا يفعله إلا من لا يفهم ولا يدري مقادير العلماء؛ فابن تيمية هو ذاك الإمام المتبحر في جميع المعارف على اختلاف أنواعها، وأين يقع صاحبُ الترجمة منه؟ وماذا عساه يفعل في مناظرته؟ اللهم، إلا أن تكون المناظرة بينهما في فقه الشافعية، فصاحبُ الترجمة أهلٌ للمناظرة، وأما فيما عدا ذلك، فلا يقابل ابن تيمية بمثله إلا من لا يفهم، ولعل النادب له بعضُ أولئك الأمراء الذين كانوا يشتغلون بما لا يعنيهم من أمر العلماء؛ كسالار، وبيبرس، وأضرابهما، ولا ريب أن صاحب الترجمة غير مدفوع عن تقدمه في معرفة فقه الشافعية، ولكن لا مدخل للمناظرة بين مجتهد ومقلد، انتهى. 376 - قال في "البدر الطالع" في ترجمة الفناري محمد بن محمد، أو محمد بن حمزة بن محمد. ولد في صفر سنة 751، وهو مصنف "فصول البدائع في أصول الشرائع"، جمع فيه "المنار"، و"اليزدوي"، و"محصل الإمام الرازي"، و"مختصر ابن الحاجب"، وغير ذلك، وأقام في عمله ثلاثين سنة، وهو من أجلِّ الكتب

الأصولية، وأنفعِها، وأكثرِها فوائد، وله رسالة أتى فيها بمسائل من مئة فن، وتكلم فيها على مسائل مشكلة، وسماها: "أنموذج العلوم (¬1) " انتهى. قال: وقد انتفع بعلمه الطلبة في بلاد الروم، مع اشتغاله بالقضاء، وكان له جلالة وأبهة؛ بحيث إن عبيده لا يكادون يحصون، منهم اثنا عشر، يلبسون الثياب الفاخرة النفيسة، وله جوارٍ عدة، منهن أربعون يلبسن القلانس الذهبية، ومع ذلك كان متزهدًا في ملبوسه على زي الصوفية، وكان يقول إذا عوتب في ذلك: إن ثيابي وطعامي من كسب يدي، ولا يفي كسبي بأحسن من ذلك، وخلَّفَ ثروة عظيمة فيها من الكتب نحو عشرة آلاف، ومن تصلُّبه في الدين وتثبته في القضاء: أنه رد شهادة سلطان الروم في قضية، فسأله السلطان عن سبب ذلك، فقال: إنك تارك للجماعة، فبنى السلطان قدام قصره جامعًا، وعين لنفسه فيه موضعًا، ولم يترك الجماعة بعد ذلك، فلله درُّ هذا العالم الصادع بالحق، مع ما هو فيه من التقلب في نعمة سلطانه، وربَّ عالمٍ لا يقدر على الكلمة الواحدة في الحق لمن عليه أدنى نعمة مخافة من زوالها، بل ربَّ عالمٍ يمنعه رجاءُ العطية ونيل الرتبة السنية عن تكلم بالحق، ولم يكن بيده إلا مجرد الأماني الأشعبية، ورحم الله هذا السلطان! الذي سمع الحق، فاتبع، ولم تصده سَوْرَة الملك، وما هو فيه من السلطان الذي كاد يطبق الأرض، وهذا السلطان المرحوم هو: السلطان با يزيد بن مراد. وقد كان ضعف بصره - يعني: بصر الفناري -، فشفي، فحج شكرًا لله - الحجة الأخرى - ويروى في سبب عمى المترجَم له: أنه لما سمع أن الأرض لا تأكل لحوم العلماء العاملين، نبش قبر أستاذه علاء الدين الأسود؛ ليتحقق ذلك، فوجده كما وضع، مع أنه قد مر عليه زمان طويل، فسمع عند ذلك صوتًا يقول: هل صدقتَ أعمى الله بصرك؟ وقد ترجمه السخاوي ترجمة مختصرة، وكان يستحق التطويل، ولعل عذره في ذلك بعد الديار - والله أعلم - انتهى. توفي في سنة 822. ¬

_ (¬1) لمؤلف "التاج المكلل" كتاب سماه: "أبجد العلوم" هو في علوم شتى يحتوي على أربع مئة وستة عشر علمًا.

377 - محمد بن مصلح الدين الرومي، المعروف بشيخ زادة

377 - محمد بن مصلح الدين الرومي، المعروف بشيخ زادة. قال في "البدر الطالع": برع في العلوم، ودرس بمدارس الروم، ثم رغب عن ذلك، ولزم بيته، وعين له السلطان بعد ترك التدريس كلَّ يوم خمسة عشر درهمًا، وكان يقول: إنه يكفيه عشرة دراهم، وهو مؤلف "حاشية البيضاوي" - في ستة مجلدات - بعبارات واضحة جليلة. ويحكى عنه أنه قال: إذا أشكلت عليه آية من آيات كتاب الله، توجه إلى الله، فيتسع صدره حتى يكون قدر الدنيا، فيطلع فيه قمران، لا يدري أي شيء هما، ثم يظهر نور، فيكون دليلاً إلى اللوح المحفوظ، فيستخرج منه معنى الآية. حكى ذلك عنه صاحب "الشقائق النعمانية"، وحكى عنه أنه قال: إذا عملت بالعزيمة، لا أريد النوم إلا وأنا في الجنة، وإذا عملت بالرخصة، لا يحصل في هذا الحال، وحكى عنه أيضًا صاحب "الشقائق". أنه تولى القضاء، وكان يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل أسبوع مرة، فترك القضاء طمعًا في كثرة رؤيته في المنام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يره بعد تركه للقضاء، فدخل في القضاء ثانيًا، فرآه، فقال: يا رسول الله! إني تركت القضاء لمزيد قربي منك، فلم يقع كما رجوتُ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المناسبةَ بيني وبينك عندَ القضاء أزيدُ من المناسبة عند الترك؛ لأنك عند القضاء تشتغل بإصلاح نفسك، وإصلاح أمتي، وعند الترك لا تشتغل إلا بإصلاح نفسك، ومتى زدت في الإصلاح، زدت تقربًا مني. مات في سنة 951 رح. 378 - محمد بن موسى بنِ عيسى بنِ عليٍّ كمالُ الدين الدميريُّ. قال في "البدر الطالع": نشأ بالقاهرة، فتكسب بالخياطة، ثم أقبل على العلم، فقرأ على التقي السبكي، والنويري، والأسنوي، والبلقيني، وبرع في التفسير والحديث والفقه، والعربية والأدب، وغير ذلك، وتصدى للإقراء والإفتاء، وصنف مصنفات جيدة، منها: شرح سنن ابن ماجه في نحو خمس مجلدات، سماه: "الديباجة"، وله تذكرة حسنة، ومن مصنفاته "حياة الحيوان" الكتاب المشهور، الكثير الفوائد، مع ما فيه من المناكير. أفتى بمكة، ودرس بها في أيام مجاورته، قال ابن حجر: اشتهر عنه كرامات وأخبار بأمور مغيبات

379 - محمد بن عبد الله بن أحمد، الدمشقي، الشافعي، المعروف بابن [ناصر] الدين

يسندها إلى المنامات تارة، وإلى بعض الشيوخ أخرى، وغالبُ الناس يعتقد أنه يقصد بذلك التستر، مات في سنة 808، ومن نظمه - رحمه الله -: بمكارم الأخلاق كُنْ مُتَخَلِّقًا ... ليفوحَ نَدُّ شذائِكَ العَطِرِ النَّدِي واصدُقْ صديقكَ إنْ صدقتَ صداقةً ... وادفعْ عدوَّك بالتي، فإذا الذي 379 - محمد بن عبد الله بنِ أحمدَ، الدمشقيُّ، الشافعيُّ، المعروف بابن [ناصر] الدين. قال في "البدر الطالع": ولد في سنة 777، أتقن فن الحديث، واشتهر به حتى صار المشار إليه فيه ببلده وما حوله، واستفاد منه الناس، وصنف التصانيف، وقد قام عليه العلاء البخاري، لكونه صنف "الرد الوافر على من زعم أن من أطلق على ابن تيمية أنه - شيخ الإسلام - كافر"، وكان ذلك كالرد على العلاء البخاري، لكونه كان من أعظم المنكرين على ابن تيمية، ثم جاوز في ذلك الحد حتى أفتى بكفر ابن تيمية - صانه الله عن ذلك -، واتفقت بسبب ذلك حوادث شنيعة. وبالجملة: فكان صاحب الترجمة إمامًا حافظًا مفيدًا للطلبة، وقد أثنى عليه جماعة من معاصريه؛ كابن حجر، والبرهان الحلبي، والمقريزي، ومات في ربيع الثاني سنة 842. ومن نظمه - رحمه الله تعالى -: لعبتُ بالشطرنجِ مَعْ شادِنِ ... رِمى بقلبي من سناهُ سِهامْ وجدتُ شاماتٍ على خَدِّه ... فَمِتُّ من وجدي به والسلامْ 380 - إبراهيم بن عمر بنِ حسنٍ البقاعيُّ (¬1). قال في "البدر الطالع": برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، لا كما قال السخاوي: إنه ما بلغ رتبة العلماء، بل قصارى أمره إدراجه في الفضلاء، وأنه ما أتقن فنًا، قال: وتصانيفه شاهدة بما قلته. قلت: بل تصانيفه شاهدة بخلاف ما قال، وإنه من الأئمة المتقنين المتبحرين في جميع المعارف، ولكن هذا من كلام الأقران في بعضهم بعضًا بما يخالف الإنصاف؛ لما يجري بينهم من المناقشات تارة على العلم، وتارة على الدنيا، وقد ¬

_ (¬1) مولده البقاع في سوريا سنة (809 هـ 1409 م).

كان المترجَم له منحرفًا عن السخاوي، وجرى بينهما - من المناقضة والمراسلة والمخالفة - ما يوجب عدم قبول [قول] أحدهما على الآخر، ومن أمعن النظر في كتاب المترجَم له في التفسير الذي جعله في المناسبة بين الآي والسور (¬1)، علم أنه من أوعية العلم المفرطين في الذكاء، الجامعين بين علمي المعقول والمنقول، وكثيرًا ما يشكل عليّ شيء في الكتاب العزيز، فأرجع إلى مطولات التفسير ومختصراتها، فلا أجد ما يشفي، وأرجع إلى هذا الكتاب، فأجد ما يفيد في الغالب. وقد نال منه علماء عصره بسبب تصنيف هذا الكتاب، وأنكروا عليه النقل من التوراة والإنجيل، وترسلوا عليه، وأغروا به الرؤساء، ورأيت له رسالة يجيب بها عليهم، وينقل الأدلة على جواز النقل من الكتابين، وفيها ما يشفي، ولما تنكَّر له الناس، وبالغوا في أذاه، لمَّ أطرافه، وتوجه إلى دمشق، وقد كان بلغ جماعة من أهل العلم في التعرض له بكل ما يكره إلى حد التكفير، حتى رتبوا عليه دعوى عند القاضي المالكي، وقد كان رام المالكيُّ الحكمَ بكفره وإراقة دمه، وقد امتحن الله أهلَ تلك الديار بقضاة من المالكية يتجرؤون على سفك الدماء بما لا يحل به أدنى تعزير، فأراقوا دماء جماعة من أهل العلم جهالةً وضلالة على الله، ومخالفة لشريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتلاعبًا بدينه، بمجرد نصوص فقهية، واستنباطات فروعية ليس عليها أثارة من علم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولم يزل المترجَم له - رحمه الله - يكابد الشدائد، ويناهد العظائم قبل رحلته من مصر، وبعد رحلته إلى دمشق، حتى توفاه الله في سنة 885، وقد ترجم له السخاوي ترجمة مظلِمة، كلها سب وانتقاص، وطوَّلها بالمثالب، بل ما زال يحطُّ عليه في جميع كتابه المسمى بالضوء اللامع؛ لأن المترجَم له كتب لأهل عصره تراجم، ونال من أعراض جماعة منهم، لا سيما الأكابر الذين أنكروا عليه، فكان السخاوي ينقل قوله في ترجمة أولئك الأكابر، ويناقضه، وينتقصه، ولشعراء عصره فيه أمداح وأهاجي، وما زالتِ الأشرافُ تُهجى وتُمْدَحُ. ¬

_ (¬1) له تفسير سماه: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" في سبعة أجزاء، لم يطبع، قلت: بل طبع عدة طبعات، أهمها طبعة حيدر آباد الدكن في نيف وعشرين جزءًا. (ن).

381 - السيد أحمد الفهدي المعروف بالزنمة، الشاعر المشهور

ومن محاسنه التي جعلها السخاوي من جملة عيوبه: ما نقله عنه: أنه قال في وصف نفسه: إنه لا يخرج نفسه عن الكتاب والسنة، بل هو منطبع بطباع الصحابة، وهذه منقبة شريفة، ومرتبة منيفة - رحمهم الله جميعًا، ورحمنا -، انتهى. 381 - السيد أحمد الفهدي المعروف بالزنمة، الشاعرُ المشهور. نشأ بصنعاء، قال في "البدر الطالع": وحكم الخفاجي له بالسبق، فحسدوه، وتعصبوا عليه، ففارق مكة، وعاد إلى حضرة المهدي - صاحب المواهب -، ومدحه بغرر القصائد، ونال منه دنيا عريضة، ومن قصائده الفائقة التي مطلعها: أَفي أوجِ المواهبِ أصفهانُ .... أم التختُ الرفيعُ وشاهجهانُ توفي في سنة 1119. 382 - قال في "البدر الطالع" في ترجمة أحمد بن إسماعيل الكورانيِّ عالمِ بلادِ الروم: قال السخاوي: وظهر لما ترفع حاله ما كان كامنًا عليه من اعتقاد نفسه الذي جر إليه الطيش والخفة، ولم يلبث أن وقع بينه وبين حميد الدين النعماني - المنسوب إلى أبي حنيفة - رحمه الله -، والمحكي أنه من ذريته - مباحث، فسطا فيها عليه، وتشاتما بحيث تعدى هذا إلى آبائه، ووصل علمُ ذلك إلى السلطان، فأمر بالقبض عليه، وبسجنه بالبرج، ثم ادعى عليه عند قاضي الحنفية ابن الديري، وأقيمت البينة بالشتم، وبكون المشتوم من ذرية الإمام أبي حنيفة، فَعَزَّرَهُ بحضرة السلطان نحو ثمانين ضربة، وأمر بنفيه، وأُخرج عن تدريس الفقه بالبرقونية، فاستقر في الجلال المَحَلَّي، انتهى. قلت: وقد لطف الله بالمترجَم له بمرافعته إلى حاكم حنفي، فلو رُفع إلى مالكي، لحكم بضرب عنقه، وقبح الله هذه المجازفات، والاستحلال للدماء والأعراض بمجرد أشياء لم يوجب الله فيها إراقةَ دم، ولا هتكَ عرض، فإن ضربَ هذا العالم الكبير، ثم نفيَه وتمزيقَ عرضه، والوضعَ من شأنه بمجرد كونه

383 - وفي "البدر الطالع" في ترجمة أحمد بن حسين بن حسن، المعروف بابن رسلان

شاتَمَ مَنْ شاتمه ظلمٌ بَيَّن، وعسفٌ ظاهر، ولا سيما إذا كان لا يدري بانتساب من ذكر إلى ذلك الإمام، لا جرم قد أبدله الله بسلطان خير من سلطانه، وجيران أفضل من جيرانه، ورزق أوسعَ مما منعوه منه، وجاهٍ أرفعَ مما حسدوه عليه، فإنه لما خرج، توجه إلى مملكة الروم، وما زال يترقى حتى استقر في قضاء العسكر وغيره، وقد ترجم له صاحب "الشقائق النعمانية" ترجمة حافلة، وذكر فيها: أن سلطان الروم عرضَ عليه الوزارةَ فلم يقبلْها، وأنه أتاه مرة مرسومٌ من السلطان فيه مخالفةٌ للوجه الشرعي، فمزقه، وأنه كان يخاطب السلطان باسمه ولا ينحني له ولا يقبل يده بل يصافحه مصافحة، وإنه كان لا يأتي إلى السلطان إلا إذا أرسل إليه، وكان يقول له: مطعمُك حرام، وملبسُك حرام، فعليك بالاحتياط، وذكر له مناقبَ جمة تدل على أنه من العلماء العاملين، لا كما قال السخاوي، انتهى. 383 - وفي "البدر الطالع" في ترجمة أحمد بن حسين بنِ حسنٍ، المعروف بابن رسلان: كان معرضًا عن الدنيا وبنيها جملة، تاركًا لقبول ما يعرض عليه من الدنيا ووظائفها، بل كان يمتنع من أخذ ما يرسَل إليه من المال، وسمع من جَماعة في الحديث وغيره، مع حرصه على سائر أنواع الطاعات، قال السخاوي: هو في الزهد والورع والتقشف واتباع السنة وصحة العقيدة كلمة إجماع، بحيث لا أعلم في وقته من يدانيه في ذلك، وانتشر ذكره، وبَعُدَ صيتُه، وشهد بخيره كلُّ من رآه، انتهى. له مصنفات، منها: في "التفسير"، و"شرح لسنن أبي داود". مات في سنة 844، وحكى السخاوي في "الضوء اللامع": أنه قيل لما أُلحد، سمعه الحفار يقول: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29]، ورآه حسين الكردي أحدُ الصالحين بعد موته، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال: يا أحمد! أعطيتك [العلمَ]، فما عملت به؟ قال: علمته، فقال: وعملتَ به، صدقتَ يا أحمد! تَمَنَّ عليّ، فقلت: تغفر لمن صلَّى عليَّ، فقال: قد غفرتُ

384 - الحافظ ابن حجر العسقلاني: هو أحمد بن علي بن محمد، شهاب الدين، المصري، الشافعي

لمن صلَّى عليك وحضرَ جنازتك، ولم يلبث الرائي أن مات، وفي "شرح المناوي" في ترجمت ما لفظه: ابنُ رسلان رأس الصوفية المتشرعة في وقته. ولد برملة فلسطين سنة 773، ونشأ بها، ثم رحل لأخذ العلوم، فسمع الحديث على جمع، وسلك طريق الصوفية القديم، وجدَّ واجتهد حتى صار منارًا يهتدي به السالكون، وإمامًا يقتدي به الناسكون، غُرِسَتْ محبته في أفئدة الناس، فأثمر له ذلك الغراس، وكان أعظم أهل عصره اتَّباعًا للسنة النبوية، واقتفاء الآثار المصطفوية، فكان يراعي ذلك حسب الأمكان في دقيق الأمور وجليلها، يؤاخذ نفسه بفاضل الأقوال والأعمال دون مفضولها، أوقاته موزَّعة على أنواع العبادة؛ ما بين قيام وصيام وتأليف وإفادة، فمن تآليفه: "نظم أنواع علوم القرآن"، و"شرح البخاري"، و"شرح سنن أبي داود"، و"شرح أذكار النووي"، و"شرح جمع الجوامع"، و"شرح ألفية العراقي"، وانتقل لبيت المقدس إلى أن مات به في سنة 844، وله كرامات ظاهرة حصلت عند أهل الرملة والقدس وما حولهما، وتواترت - رحمه الله تعالى -، انتهى. 384 - الحافظ ابن حجر العسقلاني: هو أحمدُ بنُ عليَّ بنِ محمدٍ، شهابُ الدين، المصريُّ، الشافعيُّ. قال سليم الخوري في "آثار الأدهار": وينعت بشيخ الإسلام، ولد بمصر سنة 774، ونشأ بها يتيمًا، وحفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، وتفقه على الأنباسي، والبلقيني، ولازمهما مدة، واشتغل بالعلم وحصَّل، وارتحل إلى الشام والحجاز، فأخذ عن جماعة، ثم اقتصر على الحديث، وصنف كثيرًا، وله نظم جيدة، وخطب بليغة، انتهى. وذكر من تصانيفه شيئًا كثيرًا سمَّاها بأسمائها، قال: وتوفي بمصر سنة 852. وقد ترجمه تلميذه السخاوي في كتاب سماه: "الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر"، وترجمه البلقيني أيضًا في كتاب وقف عليه في حياته. وقال المعلم بطرس البستاني في "دائرة المعارف": جدَّ في الفنون حتى بلغ الغاية، وعكف على الزين العراقي، وانتفع به، وأخذ عن الشيوخ، وأُذن له في

الإفتاء والتدريس، وتصدى لنشر الحديث، وقصر نفسه عليه مطالعةً وقراءة وإقراءً وتصنيفًا، وشهد له أعيان شيوخه بالحفظ، وزادت تصانيفه التي انتهى معظمها في فنون الحديث، وفنون الأدب، والفقه، وغير ذلك على مئة وخمسين تصنيفًا، ورزق فيها السعد والقبول، خصوصًا "فتح الباري في شرح البخاري" الذي لم يسبق لنظيره، وقد بيع بثلاث مئة دينار، وله النظم (¬1) البليغ الذي أفحم الشعراء، والخطب البليغة، انتهى. قال الشوكاني في "البدر الطالع" في ترجمته: نقل عنه: أنه قال: لست راضيًا عن شيء من تصانيفي؛ لأني عملتها في ابتداء الأمر، ثم لم يتهيأ لي من يحررها معي سوى "شرح البخاري"، ومقدمته، و"المشتبه"، و"التهذيب"، و"لسان الميزان. وروي عنه في موضع آخر: أنه أثنى على "شرح البخاري"، و"التعليق" و"النخبة"، ولا ريب أن أجل مصنفاته "فتح الباري"، وكان تصنيفه على طريق الإملاء، ثم صار يكتب من خطه مداولة بين الطلبة شيئًا فشيئًا، والاجتماع في يوم من الأسبوع للمقابلة والمباحثة إلى أن انتهى في سنة 842، سوى ما ألحق فيه بعد ذلك، وقد سبقه إلى هذه التسمية شيخه صاحبُ "القاموس"؛ فإنه وجد له في أسماء مصنفاته أن من جملتها "فتح الباري في شرح صحيح البخاري"، وأنه كمل ربعه في عشرين مجلدًا، انتهى. ثم قال في "البدر الطالع": ولما كمل "شرح البخاري" تصنيفًا وقراءة، عمل مصنفُه - رحمه الله تعالى - وليمةً عظيمة، وقرأ المجلس الأخير، وجلس المصنف على الكرسي. قال تلميذه السخاوي: وكان يومًا مشهودًا لم يعهد أهل العصر مثله بمحضر من العلماء والقضاة والرؤساء والفضلاء، وقال الشعراء في ذلك فأكثروا، وفرق عليهم الذهب، ¬

_ (¬1) له ديوان شعر، أبرزه الدكتور السيد أبو الفضل أستاذ اللغة العربية بالجامعة العثمانية، وسماه: "ديوان ابن حجر العسقلاني"، ونال شهادة الدكتوراه بحيدر أباد الهند، وطبعه بالطباعة العادية الحجرية سنة (1381 هـ 1962 م). والديوان المذكور يحتوي على 141، والملحقات 18 ص، وترجمة صاحب الديوان 6 ص، وأيضًا ترجمته باللغة الإنكليزية تحتوي على 46 ص.

385 - قال في "البدر الطالع" في ترجمة أحمد بن محمد قاطن

وكان المستغرق في الوليمة خمس مئة دينار، ووقعت في ذلك اليوم مطارحة أدبية ... إلى آخر ما قال، انتهى. قلت: ولما وقفتُ على هذه الحكاية، عملتُ وليمةً عظيمة على تفسيري "فتح البيان في مقاصد القرآن" عند ما ختم - طبعه بمصر - بهو بال المحمية، وجمعتُ علماء البلد وطلبته، وحضرتِ الرئيسةُ المعظمة تاج الهند صاحبةُ القران الثاني "نواب شاهجهان بيكم" - أنعم الله عليها، وأكرم فيها - بنفسِها الكريمة الفياضة، وفرقت على الجماعة الحاضرة مبالغ من الفضة كثيرة، وكان جملة المصروف في أمر هذا التفسير خمسًا وعشرين ألف ربية، ولله الحمد، فكانت تلك الوليمة على شرح الحديث، وهذه على تفسير الكتاب العزيز، وإنما عملتُ هذا كلَّه تشبُّهًا بالأئمة الكبار، وقدوةً بأهل الحديث الأبرار. وتَشَبَّهوا إنْ لم تكونوا مثلَهم ... إن التشبُّهَ بالكرامِ فَلاحُ 385 - قال في "البدر الطالع" في ترجمة أحمد بن محمد قاطن: وكان له شغف بالعلم، وله عرفان تام بفنون الاجتهاد، على اختلاف، أنواعها، وكان له عناية كاملة بعلم السنة، ويد قوية في حفظها، وهو عامل باجتهاد نفسه، لا يقلد أحدًا، واستمر مشتغلاً بنشر العلم مجتهدًا في الطاعات حتى توفاه الله في سنة 1199، وله أولاد أعلمُهم عبدُ الحميد بنُ أحمد، وله عرفان كامل في علوم الاجتهاد، مع حسن سمت، ووفور عقل، وجودة فهم، وقوة إدراك، وهو على طريقة والده في العمل بالأدلة، وله قراءة في بعض مؤلفاتي، مولده سنة 1175، وتوفي - رح - في سنة 1250. وقال في ترجمة السيد إسماعيل بن الحسن الشامي: بيني وبينه مودة صادقة ومحبة خالصة ولنا اجتماعات نفيسة، وله يد في المعارف العلمية، وعمل بما يقتضيه الدليل، وإنصاف في جميع مسائل الخلاف، توفي - رح - في سنة 1234. قال في "النفس اليماني" في ترجمة "أحمد قاطن": ومنهم: شيخنا العلامة المسند وحيدُ عصره صفي الإسلام أحمد قاطن، كان من أجل الأعلام الأعيان، كبير المقدار عظيم، ومن مشايخه السيد الإمام محمد بن إسماعيل

386 - وفي "البدر الطالع" في ترجمة الحافظ ابن كثير عماد الدين بن إسماعيل بن عمر

الأمير، والسيد المحقق هاشم بن يحيى الشامي، وسيدي الجد يحيى بن عمر مقبول الأهدل، ثم ذكر له قصائد رائقة لا يتسع المقام لذكرها. 386 - وفي "البدر الطالع" في ترجمة الحافظ ابن كثير عمادِ الدين بن إسماعيل بن عمر. برع في الفقه والتفسير والنحو، وأمعن النظر في الرجال والعلل. ومن جملة مشايخه: شيخ الإسلام ابن تيمية، ولازمه، وأحبه حبًا عظيمًا كما ذكر معنى ذلك ابن حجر في "الدرر"، وأفتى ودرَّس، وله تصانيف مفيدة، منها: التفسير المشهور، وهو في مجلدات، وقد جمع فيه فأوعى، ونقل المذاهب والأخبار والآثار، وتكلم بأحسن كلام وأنفسه، وهو من أحسن التفاسير، مات في سنة 774 - رحمه الله تعالى -. 387 - قال في "البدر الطالع" في ترجمة إسماعيل بن يحيى بنِ حسنٍ الصديقِ الصعديِّ، ثم الذماريِّ: ولد بعد سنة 1130، وكان صدرًا من الصدور، عظيم الهمة، شريف النفس، كبير القدر، نافذ الكلمة، له دنيا واسعة، وأملاك جليلة، وقد دعاني في أيام طلبي للعلم إلى بيته مرات، و [كان] يظهر من التعظيم والإجلال ما لا يوصف، وآخر ذلك قبيل موته بنحو نصف سنة؛ فإنه أضافني منفردًا، وقد كان اشتغل جماعة في تلك الأيام بالحط عليَّ بما يقتضيه اجتهادي في كثير من المسائل؛ كما هو دأب اليمن وأهله، بل دأب جميع المقصرين مع من يمشي مع الدليل من العلماء، فقال - رح - ما مضمونه: أن في التظهر بذلك فتنة، وذكر لي قضايا اتفقت مع السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير شاهدَها وعرفَها، وما زال يضرب في الأمثال بكلام رصين، وخطاب متين، من جملته: أن السيد محمد الأمير قد عرفت ما ناله من الناس من الأذى بالقول والفعل، ومع ذلك فمعه الوزير فلان، والأمير فلان وفلان وفلان يقومون بنصره، ويدفعون عنه ما يكره، وأنت يا ولدي قد انقبضتَ عن الناس، وعكفت على العلم، وانحجمت عن الأكابر، ثم إن السيد قد كان عند مخالفته للناس في سن عالية في

388 - وفي "البدر الطالع": أيمن بن محمد بن محمد - أربعة عشر أبا في نسق واحد -

أواخر عمره، وأنت في عنفوان الشباب، فقد لا يحتمل الناس منك ما كانوا يحتملونه منه. وأطال معي في هذا الشأن - رح -، وما زال على حاله الجميل حتى مات في تاسع شهر صفر سنة 1209، انتهى. 388 - وفي "البدر الطالع": أيمن بن محمد بن محمد - أربعة عشر أبًا في نسق واحد -. قال ابن حجر في "الدرر": لم يوجد له نظير في ذلك، إن كان ثابتًا. ولد بتونس، ثم قدم القاهرة، وكان كثير الهجاء والوقيعة، ثم قدم المدينة النبوية، وجاور بها، وتاب، والتزم أن يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة إلى أن يموت، فوفى بذلك، وأراد الرحلة عن المدينة، فذكر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فقال: يا أبا البركات! كيف ترضى بفراقنا؟ فترك الرحيل، وأقام المدينة إلى أن مات، وسمى نفسه: عاشقَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وذكر: أن صاحب تونس بعث إليه يطلب منه العود إلى بلده، ويرغبه فيه، فأجاب: إني لو أُعطيت ملكَ المشرق والمغرب، لم أرغب عن جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأطعمه ثلاث لقمات، قال: وقال لي كلامًا لا أقوله لأحد، غير أن في آخره: واعلم أني عنك راض. فعمل قصيدة، منها شعر: فَرَرْتُ من الدنيا إلى ساكنِ الحِمى ... فِرارَ مُحِبٍّ عائذ بِحَبيبِهِ لجأتُ إلى هذا الجنابِ وإنما ... لجأتُ إلى سامي العِمادِ رَحيبِهِ قال ابن فضل الله: وذكر أبو البركات: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنشد هذا البيت: لولاك لم أدر الهوى ... لولاك لم أدرِ الطريق قلت: وفي معناه البيت: فلولاكمُ ما عَرَفنا الهوى ... ولولا الهوى ما عرفناكُمُ 389 - قال في "البدر الطالع" في ترجمة الأمير تيمور (¬1) كوركان، بذيل "فتح حلب": ¬

_ (¬1) من جملة ملوك المسلمين الأسرة التيمورية التي سيطرت على كثير من البلاد الهندية، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأولهم صاحب الترجمة تيمور لنك جغتائي بن الأمير طرخان (736 - 807 هـ 1336 - 1405 م)، وآخرهم ملك الهند "في دهلي" أبو الظفر سراج الدين محمد بهادر شاه الغازي جغتائي (1189 - 1279 هـ 1775 - 1862 م)، ولي الأمير 1837 وهو ابن أبي النصر معين الدين محمد أكبر شاه بادشاه الثاني جغتائي (1173 - 1253 هـ 1759 - 1837 م) "دهلي" ابن أبي المظفر جلال الدين سلطان عالي جوهر "شاه عالم" بادشاه جغتائي (1140 - 1221 هـ 1727 - 1806 م) "إله آباد" ابن عبد عزيز الدين عالم كير الثاني بادشاه غازي جغتائي (1099 - 1173 هـ 1667 - 1759 م) "شالا مار دهلي" ابن محمد معز الدين جهاندار شاه جغتائي (1073 - 1125 هـ 1662 - 1713 م) "لاهور" ابن محمد معظم شاه عالم بهادر شاه جغتائي (1053 - 1124 هـ 1643 - 1712 م) "لاهور" ابن أبي المظفر محيي الدين محمد "أورنك زيب" عالم كبير بادشاه جغتائي (1028 - 1118 هـ 1618 - 1706 م)، "اعز آباد" بن شهاب الدين محمد "شاه جهان" بادشاه جغتائي (1000 - 1076 هـ 1591 - 1665 م) "لاهور" بن أبي المظفر نور الدين محمد "جهانكير" بادشاه جغتائي (977 - 1036 هـ 1579 - 1626 م) "أكبر آباد" بن أبي الفتح جلال الدين محمد "أكبر بادشاه" جغتائي (949 - 1014 هـ 1542 - 1605 م) "كلا نور" بن نصير الدين محمد "همايون" بادشاه جغتائي (914 - 964 هـ 1508 - 1556 م) "دهلي" بن ظهير الدين محمد "بابر" بادشاه (887 - 937 هـ 1482 - 1530 م) "اندوجان سمر قند" ابن عمر شيخ ميرزا. كيف احتلت بريطانية الهند؟ وكيف حكمتها؟ وكيف تخلت عنها؟ في القرن الميلادي سنة 1600، ذهب بعض تجار إنجلترا، وأخذوا الوثائق التجارية من ملكهم، وبدأت أحزابهم تسافر إلى أرض الهند للتجارة، سنة 1612 استأذنوا من الملك أبي المظفر نور الدين "جهانكير" في فتح محل تجاري، وهو آنذاك ملك الهند، ومقره العاصمة دهلي، ثم فتحوا محالهم التجارية في أنحاء الهند مثل سورت، وبمباي، وأحمد آباد، ثم أدرك أصحاب الشركات أن سر نجاحهم ليس إلا في الوحدة، فتوحدت باسم الشركات الإنجليزية، وتجمعت كتلة واحدة، وأُسست "الشركة الشرقية الهندية المتحدة"، وباشتراكهم تغلبوا على منافسيهم من التجار البرتغاليين والفرنساويين، وتارة يشتد الخلاف بينهم وبين منافسيهم من الفرنساويين إلى حد تقع فيه حرب بين الطرفين في أرض الهند، وفي النهاية يكون النصر حليف البريطاني. وعام 1714 دخل وفد الشركة على الملك جلال الدين محمد فرخ سير جغتائي (1089 - 1131 هـ 1686 - 1718) متولى الأمر سنة (1122 - 1710) في دهلي، وقصده تقوية العلاقات التجارية، ومن جملة الوفد الدكتور هملتن الإنجليزي الذي كان معهم، ولحسن حظ الوفد أن الملك إذ ذاك أصيب بمرض،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وعجز أطباء الهنود عن شفائه، فحاول الدكتور المذكور معالجته، فقبل الملك عرضه، فداواه. ومن حسن حظ البريطانيين أن الملك شفي، وأراد الملك أن يكافيء الدكتور، ولكنه لم يأخذ منه شيئًا إزاء ذلك، إلا أنه طلب من الملك عوض مكافأته أن يسمح للشركة الشرقية الهندية المتحدة بالتصرف في الأراضي، والشركة تتخذ حرسًا على أراضيها، وتعفى من الرسوم والضرائب على بضاعتها التي تستوردها من الخارج، فالملك لبّى طلباته بصرف النظر عما سيحدث في المستقبل من جراء ذلك، فالشركة بَنَتْ "قلعة وليم" في كلكتا، فنجحت الشركة، وازدهرت تجارتها، وازدادت قوتها وشوكتها، وتغلغلت في شتى نواحي البلاد سياسيًا واقتصاديًا، وقضت على حياة الشعب الهندي، وآل الأمر إلى انحطاطه، وبدت حالة الحكام تتضاءل وتضعف، وبذلك قوي النفوذ البريطاني في الهند، وبالمكايد وبالحيل تغلبوا على البلاد تدريجيًا. أما معاملتهم مع العسكر الهنود والأهالي، فهي قاسية جدًا، ومن جرائها قامت في الهند ثورة كبرى، وباعثها "الغدر" سنة 1857، فبدأت المعارك العنيفة بين الطرفين، فهزمت القوة البريطانية في جهة، وتغلبت في جهة أخرى، ومن ذلك الآن ساد التغلب البريطاني على جميع المواطنين، وقبض على الملك، وقتلت أولاده شر قتلة، وأيضًا قتل عدد من عسكر حكومة الهند، وعدد من الجنود المستخدمين عند الحكومة البريطانية. وقبضت على الملك أبي الظفر بهادر شاه جغتائي، وأصدر المجلس العسكري البريطاني بيانًا في تقرير مصير الملك، فأرسلوه وزوجته وابنه جوان بخت، وعمره 17 سنة إلى رنكون، وظل هناك سجينًا للاستعمار طيلة حياته إلى أن قضى نحبه في 7 نوفمبر 1862 م، وابنه "جوان بخت" أيضًا توفي في رنكون سنة 1884 م، وزوجة الملك "زينت محل" توفيت هنالك أيضًا سنة 1886 م، والفظائع البريطانية لا تنسى أبدًا. وهزيمة المواطنين لم تحل دون أملهم في السعي وراء الحرية، فاستمرت المناوشات والمعارك ضد الاستعمار، والمسلمون في طليعة صفوف الوطنيين الذين استمروا في كفاحهم للحرية إلى أن باءت بريطانيا بالفشل خلال الثورة، وانسحبت قواتها من الهند سنة 1947 م، ومن ذلك الحين نالت البلاد استقلالها، وانقسمت إلى قسمين: "هندوستان"، "وباكستان". تشكلت الجمهورية الهندية 15 أغسطس سنة 1947 م، وعين لها رئيسًا، ورئيس الوزراء هو البنديت جواهر لال نهرو، ولحسن حظه أنه بقي على منصبه حتى اليوم سنة 1962 م. وللجمهورية الهندية دستور ذكرت فيه كفالة الحقوق السياسية لجميع المواطنين دون تمييز بينهم بسبب الدين أو العنصر، ولكن معاملة الجمهورية للمسلمين غير عادلة، فكأن الحقوق المذكورة في الدستور الهندي لم توضع إلا لتزيين الصفحات الدستورية؛ لأن المسلم الهندي محروم من المناصب العالية، مثل وزارة المالية، والرئاسة الوزارية، والخدمات العسكرية، ومعاملة الجمهورية لمسلمي الهند غير شريفة، مع أن عدد المسلمين في الهند خمسون

جلس في إيوانها، وطلب القضاة والعلماء للسلام عليه، فامتثلوا أمره، وجاؤوا إليه فلم يكرمهم، وجعل يتعنتهم بالسؤال، وكان آخر ما سألهم عنه أنه قال: ما تقولون في معاوية ويزيد؟ هل يجوز لعنُهما أم لا؟ وعن قتال علي ومعاوية؟ فأجابه القاضي علم الدين القفصي المالكي: بأن عليًا اجتهد فأصاب فله أجران، ومعاوية اجتهد فأخطأ فله أجر، فتغيظ من ذلك، ثم أجاب الشرف أبو البركات الأنصاري الشافعي: بأن معاوية لا يجوز لعنهُ؛ لأنه صحابي، فقال تيمور: ما حد الصحابي؟ فأجاب القاضي أنه من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال تيمور: فاليهودُ والنصارى رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأجاب بأن ذلك بشرط كون الرائي مسلمًا، وأنه رأى في حاشية على بعض الكتب أنه يجوز لعن يزيد، فتغيَّظَ لذلك، ولا عتب عليه إذ تغيظ، فالتعويلُ في مثل هذا الموقف العظيم في مناظرة هذا الطاغية الكبير، في ذلك الأمر الذي ما زالت المراجعة به بين أهل العلم في قديم الزمان وحديثه على حاشيةٍ وجدها على بعض الكتب مما يوجب الغيظ، سواء كان محقًا، أو مبطلاً. وقد سألهم في هذا الموقف، أو في موقف آخر بمسألة عجيبة، فقال ما مضمونه: أنه قد قتل مِنَّا ومنكم من قُتل، فمن في الجنة، ومن في النار؟ هل قتلانا أو قتلاكم؟ فقال بعض العلماء الحاضرين وهو عالم بلاد الروم: هذا سؤال قد سُئل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستنكر "تيمور" ذلك، وقال: كيف قلت؟ قال: ثبت في الحديث الصحيح: أن قائلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! الرجلُ يُقاتل حَمِيَّةً، ويقاتلُ شجاعة، ويقاتلُ ليرى مكانُه، فقال: "من قاتل لتكونَ كلمةُ الله هي العليا، فهو في الجنة"، أو كما قال، فلما سمع تيمور هذا الجواب، أعجبه وأطربه - ولله در هذا المجيب؛ فلقد وفقه الله في هذا الجواب، وهكذا فلتكن جوابات العلماء، لا كما قال القاضي شرف الدين: إنه رأى في حاشية! ومن رام الاطلاع على أحواله، فليرجع إلى كتاب سيرته، انتهى ¬

_ = مليونًا تقريبًا، وهذا العدد ثمن مجموع سكان الهند. وفي عصرنا هذا؛ أي: عام 1962 م نشبت حرب بين الهند والصين، فأوقعت الذعر في قلوب أرباب الحكم مما جعلتهم أن يعطفوا على المسلمين بعض العطف في الظاهر، والله عزيز ذو انتقام.

390 - جلال بن أحمد التباني

- يعني: كتاب "عجائب المقدور في أحوال تيمور" لابن عرب شاه، وكان مُغْزًى بغزو المسلمين دون الكفار، واستولى على غالب البلاد الإسلامية، وجميع ما وراء النهر والشام والعراق والروم والهند، وما بين هذه الممالك، وله فكر صائب، ومكائد في الحرب عجيبة، وفراسة قلَّ أن تخطىء مع كونه أمّيًا لا يحسن الكتابة ولا القراءة، ويعتمد قواعد جنكيز خان، ويجعلها أصلاً. قال السخاوي: ولعله قارب الثمانين، انتهى. ولقد كان شيخًا طويلاً مَهولاً، طويلَ اللحية، حسنَ الوجه، أعرجَ، شديد العرج، ومع ذلك يصلي من قيام، مهابًا بطلًا شجاعًا، جبارًا ظلومًا سفاكًا للدماء مقدامًا على ذلك، أفنى في مدة سلطنته من الأمم ما لا يحصيهم إلا الله، وخرب بلادًا كثيرة تفوت الحصر، انتهى. 390 - جلال بن أحمد التباني. كان عالمًا كبيرًا، قال في "البدر الطالع": انتهت إليه رئاسة الحنفية، وعرض عليه القضاء غير مرة، فأصر على الامتناع، وقال: هذا أمر يحتاج إلى دراية ومعرفة اصطلاح، ولا يكفي فيه مجرد الاتساع في العلم. له مصنف في منع تعدد الجمعة، وآخر في أن الإيمان يزيد وينقص، وكان محبًا للحديث، حسنَ الاعتقاد، شديدًا على الاتحادية والمبتدعة، مات في سنة 793 بالقاهرة عن بضع وستين سنة. 391 - السيد حسن بنُ أحمدَ بنِ محمد، المعروفُ بجلال. كان علامة كبيرًا من أئمة اليمن، ذكر له في "البدر الطالع" ترجمة حسنة، وقال: صنف التصانيف الجليلة، منها "ضوء النهار"، جعله شرحًا للأزهار للإمام المهدي، وحرر اجتهاداته على مقتضى الدليل، ولم يعبأ بمن وافقه من العلماء أو خالفه، وفيه ما هو مقبول، وما هو غير مقبول، وهذا شأن البشر، فكل أحد يؤخذ من قوله ويُترك، إلا المعصوم. وما أظن سبب كثرة الوهم في ذلك الكتاب إلا أن هذا السيد كالبحر الزخار، وذهنه كشعلة نار، فيبادر إلى تحرير ما يظهر له واثقًا بكثرة علمه وسعة دائرته

392 - حسن بن إسماعيل بن حسين، المغربي، حفيد صاحب "البدر التمام شرح بلوغ المرام"

وقوة ذهنه، ولا أقول كما قال بعضهم: إنه عظام لا لحمَ عليها، بل أقول: هو بحر عجاج، متلاطم الأمواج، وله القصيدة التي سماها: فيض الشعاع، أولها: العلمُ علمُ محمدٍ وصِحابِهِ ... يا هائمًا بقياسِهِ وكتابِهِ ولي كثير من المناقشات في ترجيحاته التي حررها في مؤلفاته، ولكن مع اعترافي بعظيم قدره، وطول باعه، وتبريزه في جميع أنواع المعارف، ومن رام الوقوف على ما وقع بيني وبينه من الخلاف، فلينظر في شرحه على الأزهار، وفي حاشيتي التي سميتها: "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار"، وكان له مع أبناء دهره قلاقل وزلازل، كما جرت به عادة أهل القطر اليمني من وضع جانب أكابر علمائهم المؤثرين لنصوص الأدلة على أقوال الرجال، مات - رحمه الله تعالى - في سنة 1084، انتهى. 392 - حسن بن إسماعيل بنِ حسينٍ، المغربيُّ، حفيدُ صاحبِ "البدر التمام شرح بلوغ المرام". كان بارعًا في جميع العلوم والمعارف، شيخ مشايخ عصره. قال في "البدر الطالع" بعد بيان مناقبه: والحاصل: أنه من العلماء الذين إذا رأيتهم، ذكرتَ الله - عز وجل - وكل شؤونه جارية على نمط السلف الصالح، وكان إذا سأله سائل، أحاله في الجواب على أحد تلامذته، وإذا أشكل عليه شيء في الدرس، أو فيما يتعلق بالعمل، سأل عنه غيرَ مبال، سواء كان المسؤول عنه خفيًا، أو جليًا؛ لأنه جبل على التواضع، ومع هذا ففي تلامذته القاعدين بين يديه نحو عشرة مجتهدين، والبعض منهم يصنف إذ ذاك في أنواع العلوم، وهو لا يزداد إلا تواضعًا. قرأت عليه في "المطول" وحواشيه، و"العضد"، و"الكشاف" وحواشيه، و"الرسالة الشمسية" وشرحها للقطب، وحاشيتها للشريف، وبعض "تنقيح الأنظار" في علوم الحديث، و"شرح بلوغ المرام" لجده، توفي - رح - في سنة 1208، انتهى. وترجمته حافلة حسنة طويلة ليس هذا محل ذكرها بالتمام.

393 - الشريف حسن بن خالد الحازمي العريشي

393 - الشريف حسن بن خالد الحازمي العريشي. كان عالمًا كبيرًا. ولد تقريبًا بعد سنة 1170، قال في "البدر الطالع": صار لمزيد ذكائه وحسن حفظه وقوة إدراكه من العلماء الأعلام، ثم لما استولى أهل نجد على بلاد أبي عريش، ودخل الشريف حمود في طاعتهم، صار هذا عنده هو المرجوع إليه في الأمور الشرعية، وكان حمود يطيعه، ويأتم به، ولا يخالفه، ثم ارتفعت درجته حتى صار يقود الجيوش، ويتولى الحروب، ويقيم الحدود مستقلاً، وحمل الناس على العمل بالسنة، ومنعهم عن التدريس في فقه المذاهب بأسرها، فعظم ذلك على المقلَّدَة، ولم يزل على هذه الطريقة حتى قُتل في المعركة في سنة 1234 - رحمه الله تعالى -. 394 - السيد حسن بن زيد بن حسن الشامي. من علماء القرن الثاني عشر، حصل العلم بصنعاء، قال في "البدر الطالع": برع في علم الحديث، وشارك في غيره من الفنون مشاركة قوية، ونشر العلم، وأتعب نفسه في الإرشاد إلى الحق من العمل بالدليل، وأقبل إليه الخاص والعام، وأخذوا عنه، وتخلقوا بأخلاقه، ومشوا على طريقته، وكان لا يمل من ذلك في جميع الأوقات، فظهرت بركته، وعَمَّ النفعُ به؛ فإنه سكن في صنعاء، فصار له أتباع لا يعملون إلا بالأدلة، وكان مقبولَ الكلمة عند الإمام المهدي، مع قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، انتهى ملخصًا. 395 - حسن بن عليَّ بنِ حسن. من كبار علماء الديار اليمنية، ذكر له في "البدر الطالع" ترجمة حسنة طويلة، وقال: له كمال الشغلة والعناية بعلم الحديث والتفسير، يعمل بما تقتضيه الأدلة، ولا يبالي بما عدا ذلك، ولديه من الكتب النفيسة [ما] لا يوجد عند غيره، وبيني وبينه من خالص الوداد ما لا أقدر على التعبير عن بعضه، والحاصل: أنه للدولة جمال، ولأهل العلم جلال، وللفقراء ذخيرة إفضال، توفي - رح - في سنة 1245, انتهى.

396 - حسين بن محمد بن عبد الله الطيبي، صاحب "شرح المشكاة"

396 - حسين بن محمد بن عبد الله الطيبي، صاحب "شرح المشكاة". إمام مشهور، وعالم مبرور، وكان في مبادىء عمره صاحبَ ثروة عظيمة، بذل المال في وجوه الخيرات حتى صار فقيرًا في آخر عمره، قال في "البدر الطالع": كان حسنَ المعتقدَ، شديدَ الرد على الفلاسفة والمبتدعة، مظهرًا فضائحهم، مع استيلائهم على بلاد المسلمين في عصره، شديدَ المحبة لله ورسوله، كثيرَ الحياء، ملازمًا للجمعة والجماعة، ملازمًا لتدريس الطلبة في العلوم الإسلامية، له إقبال على استخراج الدقائق من الكتاب والسنة، وحاشيتُه على "الكشاف" هي أنفس حواشيه على الإطلاق، مع ما فيها من الكلام على الأحاديث في بعض الحالات إذا اقتضى الحال ذلك على طريقة المحدثين؛ مما يدل على ارتفاع طبقته في علمَي المعقول والمنقول، شرع في جمع كتاب في التفسير، وعقد مجلسًا عظيمًا لقراءة كتاب البخاري، فكان يقرأ في التفسير من بكرة إلى ظُهر، ومن ثَمَّ إلى العصر لإسماع البخاري، إلى أن كان يوم وفاته، فرغ عن قراءة التفسير، وتوجه إلى مجلس الحديث، فدخل مسجدًا عند بيته، فصلى قاعدًا، وجلس ينتظر الإقامة للفريضة، فقضى نحبه متوجهًا إلى القبلة في شعبان سنة 743، انتهى - رحمه الله تعالى -. 397 - السيد حسين بن يحيى بن إبراهيم، الديلميُّ، الذماريُّ. قال في "البدر الطالع": ولد في سنة 1149، وبيني وبينه من المودة ما لا يعبر عنه، وهو من جملة مَنْ رغَّبني في "شرح المنتقى"، فلما أعان الله على تمامه، صار يراسلني في الإرسال إليه بنسخة منه، ولم يكن قد تيسر ذلك، ولما ألفت الرسالة التي سميتها: "إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي"، ونقلت إجماعهم من ثلاث عشرة طريقة على عدم ذكر الصحابة بسبِّ وما يقاربه، وقعَتْ هده الرسالة بأيدي جماعة من الروافض، فجالوا وصالوا، وتعصبوا وتحزبوا، وأجابوا بأجوبة ليس فيها إلا محضُ السباب والمشاتمة، وكتبوا أبحاثًا نقلوها من كتب الإمامية، وزاد الشر، وعظم الفتنة، وأعانهم على ذلك جماعة ممن له صولة ودولة، وتعصب أهل العلم لها وعليها، وكل مَنْ له

398 - قال في "البدر الطالع" في ترجمة خليل بن ميران شاه بن تيمورلنك

أدنى معرفة بعلم يعلم أني لم أذكر فيها إلا مجردَ الذبِّ عن أعراض الصحابة الذين هم خيرُ القرون، قال: والمترجَم له - عافاه الله - ناشرٌ للعلم في مدنية ذمار، مع احتمال لما يلاقيه من الجفاء الزائد من أهل بلده بسبب نشره لعلم الحديث بينهم، وميلُه إلى الإنصاف في بعض المسائل، مع مبالغته في التكتم، وشدة احترازه حتى توفاه الله في سنة 1249، ويكون عمره مئة، انتهى - رحمه الله -. 398 - قال في "البدر الطالع" في ترجمة خليل بن ميران شاه بنِ تيمورلنك: فيه جمال صورة، مات بالري مسمومًا في سنة 809. ونحرت زوجته - المسماة بشاه ملك - نفسَها بخنجر من قَفاها، فهلكت من ساعتها. وقد وصف مؤلف سيرة تيمور من مزيد عشقه لزوجته هذه، وإفراط محبته لها ما يقضى منه العجب، حتى قال: إنه كان يقف معها في قميص واحد يدخلان [فيه] جميعًا؛ لمزيد شغفِ كلِّ واحدٍ منهما بالآخر، فلهذا قتلت نفسها بعدَ موته، ووصف من جماله ما تُعذر معه زوجته، وكذلك وصفَ من جمالها ما يخففُ عنهُ الملامةَ فيما تهتك به من عشقها؛ حتى كان ذلك سبب ذهاب ملكه ونفسه، والأمر لله، انتهى. 399 - قال في "البدر الطالع": السلطان حيدر الغازي، الهندي سلطان الولاية التي يقال لها "لكهنؤ": وقفنا على كتاب مشتمل على وصف حاله، صنفه أحمد الشرواني الراحل إلى بلاد الهند، وتاريخ هذا الكتاب سنة 1235، ذكر فيه أنه شاهد فيلاً ينوح على الحسين السبط - رضي الله عنه - في الشهر المحرم بشعر موزون ... إلى قوله:- وهذا مستبعَد جدًا، والظاهر: أن اللَّيل يُهَمْهِم همهمةً تحصل وزن الشعر، فإن كان صدور ذلك بلسان فصيح كنطق الإنسان، فما أظن الناطق من حنجرته إلا شيطان، وقد ينطق من الأصنام - وهي جمادات -، وهو ينطق من رؤوس من يدعي أنه قد صار له قرين من الشياطين؛ كما ذلك معروف، انتهى.

400 - أبو السعود أفندي

400 - أبو السعود أفندي. إمام كبير، عالم الروم، بارع في جميع الفنون، فائق على الأقران، قال في "البدر الطالع": مولده سنة 900، أخذ عن أكابر علمائها، ودرَّس بمدارسها، وصار قاضيًا بمدينة بروس، ثم صار مفتيًا بقسطنطينية، وعينَ له السلطان كل يوم مئتين وخمسين درهمًا. وله تصانيف، منها: التفسير المشهور عند الناس بأبي السعود في مجلدين ضخمين، سماه: "إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم"، وهو من أجل التفاسير وأحسنِها واكثرِها تحقيقًا وتدقيقًا، وأهداه للسلطان سليمان خان، فأنعم عليه بنعم عظيمة، وزاد في معلومه اليومي زيادة واسعة، وكان قد تناهت عظمته في الممالك الرومية، وصار المرجع فيما يتعلق بالعلم، مات سنة 982، انتهى. 401 - سعيد بن محمد المقدسيُّ، المعروف بابن الديري. كان علامة وقته، ذكره في "البدر الطالع"، وقال: ولد في سنة 868، وتولى قضاء الحنفية وصار معظَّمًا عند الملوك والوزراء والأمراء، وقد عرض القضاء على ابن الهمام والأمين الاقصرائي، فامتنعا، وقالا: لا يقدران على ذلك مع وجوده. أخذ عنه أهل كل مذهب، له تصانيف، منها: "الكواكب النيرات في وصول ثواب الطاعات إلى الأموات"، و"رسالة في نوم الملائكة، هل هو كائن أم لا"، و"هل منع الشعر مخصوص بنبينا - صلى الله عليه وسلم - أم هو عام لكل الأنبياء؟ "، وله نظم. مات في سنة 967، وأكرمه الله قبل موته بشهر بانفصاله عن القضاء، انتهى. 402 - سليمان بن إبراهيم بنِ عمرَ، نفيسُ الدين، الزبيديُّ. ولد سنة 745، أجازه البلقيني، وابن الملقن، والعراقي، والهيثمي، والمناوي، قال في "البدر الطالع": برع في الحديث، وصار شيخ المحدثين ببلاد اليمن، وحافظَهم، وأخذ عنه الناس طبقة بعد طبقة، وارتحلوا إليه من الآفاق، وتلمذ له من لا يحيط به الحصر.

403 - صالح بن مهدي بن علي، المعروف بالمقبلي، الصنعاني، ثم المكي

حدث عن نفسه: أنه قرأ "البخاري" أكثر من خمسين مرة، ووصفه شيخه - صاحب "القاموس" -، فقال: إمام السنة، وأما ابن حجر، فقال في أنبائه: إنه مع محبته للحديث وإكبابه على الرواية غير ماهر فيه، انتهى. مات في سنة 835، رح. 403 - صالح بن مهدي بن علي، المعروفُ بالمُقْبِلي، الصنعانيُّ، ثم المكيُّ. ولد سنة 1047، تلمذ على ابن الوزير، قال في "البدر الطالع": جرت بينه وبين علمائها - يعني: صنعاء - مناظرات أوجبت المنافرة؛ لما فيه من الحدة والتصميم على ما يقتضيه الدليل، وعدم الالتفات إلى التقليد، ثم ارتحل إلى مكة، ووقعت له امتحانات هنالك، واستقر بها حتى مات في سنة 1108، وهو ممن برع في جميع علوم الكتاب والسنة، وحقق الأصول العربية، والمعاني والبيان، والحديث والتفسير، وفاق في جميع ذلك، وله مؤلفات كلها مقبولة عند العلماء، محبوبة إليهم، يتنافسون فيها، ويحتجون بترجيحاته وهو حقيق بذلك، وفي عباراته قوة وفصاحة وسلامة تعشقها الأسماع، وتلتذ بها القلوب، ولكلامه وقع في الأذهان، قلَّ أن يمعن في مطالعته مَنْ له فَهم، فيبقى على التقليد بعد ذلك، وإذا رأى كلامًا متهافتًا، زيفه، ومزقه بعبارات عذبة حلوة، وقد أكثر الحطَّ على المعتزلة في بعض المسائل، وعلى الأشعرية في بعض آخر، وعلى الصوفية في غالب مسائلهم، وعلى الفقهاء في كثير من تفريعاتهم، وعلى المحدِّثين في بعض علوهم، ولا يبالي إذا تمسك بالدليل بمن يخالفه، كائنًا من كان، وله مؤلفات منها: "الإتحاف لطلبة الكشاف"، انتقد فيه على الزمخشري كثيرًا من المباحث، وذكر ما هو راجح لديه، ومنها: "الأبحاث المسددة" - جمع فيه مباحث تفسيرية وحديثية وفقهية وأصولية، وكان قد ألزم نفسه السلوك في مسلك الصحابة، وعدم التعويل على التقليد لأهل العلم في جميع فنون. ولما سكن مكة، وقف عالمُها البرزنجي محمد بن عبد الرسول المدني على "العلم الشامخ في الرد على الآباء والمشايخ"، فكتب عليه اعتراضات، فرده عليه

404 - صديق بن علي، المزجاجي، الزبيدي

بمؤلف سماه: "الأرواح النوافخ"، فكان ذلك سبب الإنكار عليه من علماء مكة، ونسبوه إلى الزندقة بسبب عدم التقليد، والاعتراض على أسلافهم، ثم رفعوا الأمر إلى سلطان الروم، فأرسل بعض علماء حضرته لاختباره، فلم ير منه إلا الجميل، وسلك مسلكه، وأخذ عنه بعضُ أهل داغستان، ونقلوا بعض مؤلفاته، والمترجمَ له - مع اتساع دائرته في العلوم - ليس له التفات إلى اصطلاحات المحدَّثين في الحديث، ولكنه يعمل بما حصل له عنده ظن صحته؛ كما هو المعتبر عند أهل الأصول، مع أنه لا ينقل الأحاديث إلا من كتبها المعتبرة كالأمهات، وما يلحق بها، وإذا وجد الحديث قد خرِّج من طرق، وإن كان فيها من الوهي ما لا ينتهض معه للاحتجاج، ولا يبلغ به إلى رتبة الحسن لغيره، عمل به، وكذلك يعمل بما كانت له علل خفية، فينبغي للطالب أن يثبت في مثل هذه المواطن، وقد ذكر: أنه أخذ في مكة عن الشيخ إبراهيم الكردي - رحمهما الله تعالى -، انتهى. 404 - صديق بن علي، المزجاجيُّ، الزبيديُّ. ولد سنة 1159 تقريبًا، أتقن كتب الأحاديث والفقه الحنفي، وسافر للدرس والتدريس إلى مخاثم، ثم رجع إلى صنعاء. قال في "البدر الطالع": ووصل إليَّ، ولم أكن قد عرفته قبلَ ذلك، ولا عرفني، وجرت بيني وبينه مذاكرات في عدة فنون، ثم خطر ببالي أن أطلب عنه الإجازة، فعند ذلك المخاطر طلب مني هو الإجازة، فكان ذلك من المكاشفة، فأجزت له، وأجاز في، وكان إذ ذاك سنُّه فوق خمسين سنة، وعمري دون الثلاثين، ثم ما زال يتردد إليّ، وفي بعض المواقف بمحضر جماعة وقعت بيني وبينه مراجعة في مسائل، واكثرت الاعتراض على مسائل من فقه الحنفية، وأوردت الدليل، وما زال يتطلب المحامل لما يقوله الحنفية، فلما خلوت به، قلت له: اصدُقْني، هل ما تبديه في المراجعة تعتقده اعتقادًا جازمًا؟ فإن مِثْلَك في علمك بالسنة لا يُظن به أنه يؤثر مذهبه الذي هو محض الرأي في بعض المسائل على ما يعلمه صحيحًا ثابتًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لا أعتقد صحة

405 - السيد صلاح بن الجلال، صاحب "تتمة شفاء الأوام" للأمير حسين

ما يخالف الدليل، وإن قال به من قال، ولا أدينُ اللهَ بما يقوله أبو حنيفة وأصحابه إذا خالف الحديث الصحيح، ولكن المرء يدافع عن مذهبه، انتهى. 405 - السيد صلاح بن الجلال، صاحبُ "تتمة شفاء الأوام" للأمير حسين. ولد بهجرة رغافة سنة 744. قال في "البدر الطالع": وقد كنت أرجو أن أجعل على هذا الكتاب حاشية، أُبين فيها ما لعلَّه يحكُّ في المخاطر في مواضع منه، فأعان الله - وله الحمد والمنة - على ذلك، وكتبت عليه حاشية تأتي في مقدار حجمه أو أقل، وسميتها: "وبل الغمام على شفاء الأوام"، وكان الفراغ منها في شهر رجب سنة 1213، وهو العام الذي شرعت فيه في تحرير هذه التراجم، وقد سلكت في تلك الحاشية مسلك الإنصاف كما هو دأب من كان فرضه الاجتهاد، ومن نظر إليها بعين الإنصاف، مع كمال أهليته، عرف مقدارها، انتهى. مات سنة 805. 406 - قال في "البدر الطالع" في ترجمة الضياء العجمي: كان حسنَ الأخلاق، لكنه كان مغرمًا بمشاهدة الحِسان من المُرْدان، لا ينفك عن هوى واحدٍ يتهتك فيه، ويخرج عن طور العقل مع العفة، وكان يمشي وفي يده حزمة من الرياحين، فمن لقيه من المرد، أدناها إلى أنفه، فيُشِمُّها إياه، فإن التمس منه ذلك ذو لحية، قلبها، وضربه على أنفه، واتفق أنه دخل مصر، فرأى نصرانيًا نازعه في أمر من الأمور، فضربه بعكاز في يده ضربة قضى منها في الحال، فتعصب عليه بعض الرؤساء إلى أن أمر السلطان بقتله، فقتل - رحمه الله تعالى - وهو مظلوم لا محالة؛ لأن القائل بقتل المسلم بالكافر - وهم الحنفية - لا يوجبون القصاص في القتل بالمثقَّل، وسائر العلماء لا يقولون: إنه يُقتل مسلم بكافر، وكان وجودُ صاحب الترجمة في القرن الثامن. 407 - عبد الرحمن بن أحمد، البهكليُّ، الضمديُّ، ثم الصنعانيُّ. ولد سنة 1180 تقريبًا، كان من أكابر العلماء، وأخذ عن أكابرهم، وكان فائقًا في جملة العلوم؛ من الصرف والنحو، والمنطق والمعاني والبيان، والأصول والتفسير والحديث.

408 - القاضي عضد الدين الإيجي

قال في "البدر الطالع": وقد أجزته بكل ما تجوز في روايته، وهو مشارك لي في السماع من أكابر شيوخي، له قدرةٌ على النظم والنثر، ومَلَكَة كاملة في جميع العلوم عقلاً ونقلاً، ولا يقلد أحدًا، بل يجتهد رأيه، وهو حقيق بذلك، انتهى. قال في "الديباج الخسرواني": مولده بمدينة صبيا سنة 1182، ولازم شيخنا البدر الشوكاني. له شرح على "المجتبى" للنسائي، سماه: "تيسير اليسرى بشرح المجتبي من السنن الكبرى"، وبلغ فيه إلى قريب الحج، وعاقه عن إتمامه الحِمام، وله رسالة جمة، وفوائد مهمة، وتولى القضاء في "بيت الفقيه" من طريق إمام صنعاء - المنصور بالله - عام سنة 1212، واستمر على ذلك إلى أن مات، ولعمري! إنه جَمَّل منصبَ القضاء، ولم يتجمل به، انتهى. 408 - القاضي عضد الدين الإيجي. ولد بعد سنة 700، عَلاَّمة المعقول والمنقول، وفهامة الفروع والأصول. قال في "البدر الطالع": له "المواقف" في الكلام ومقدماته، وهو كتاب يقصر عنه الوصف، لا يستغني عنه من رام تحقيق الفن، وله السؤال المشهور الذي حرره إلى المحقق الجاربردي في كلام - صاحب "الكشاف" - على قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، وأجابه بجواب فيه بعض خشونة، فاعترضه صاحب الترجمة باعتراضات، وتلاعب به وبكلامه، وهو شيخه، ولكنه لم ينصفه في الجواب حتى يستحق التأدب معه، وقد أجاب عن اعتراضات صاحب الترجمة ابن الجاربردي، وأودع ذلك مؤلفًا مستقلاً، وجرت له محنة مع صاحب كرمان، فحبسه بالقلعة، ومات مسجونًا في سنة 756، انتهى. 409 - عبد الرحمن بن أحمد الجامي. قال في "البدر الطالع": ولد بـ "جام" من قصبات خراسان، واشتغل بالعلوم اكمل اشتغال حتى برع في جميع المعارف، ثم صحب مشايخ الصوفية، فنال من ذلك حظًا وافرًا، وكان له شهرة بالعلم في خراسان وغيرها من الديار، حتى إنه

410 - عبد الرحمن بن حسن الريمي الذماري - رحمه الله تعالى -

استدعاه سلطان الروم بايزيد خان إلى مملكته، وأرسل إليه بجوائز سنية، فسافر إلى جهات الروم، فلما انتهى إلى همدان، قال للذي أرسله السلطان إليه: إني قد امتثلت أمر السلطان حتى وصلت إلى هنا، وبعد ذلك تشبثت بذيل الاعتذار؛ لأني لا أقدر على الدخول إلى بلاد الروم؛ لما أسمع فيها من مرض الطاعون، وكان غرض السلطان في استدعائه أنه خطر له في بعض الأوقات الاختلاف فيما بين الصوفية وعلماء الكلام والحكماء، فأراد أن يجعل صاحب الترجمة حكمًا بين هذه الطوائف، فما تم، وله مصنفات، منها: "شرح الكافية"، وشرع في تفسير القرآن. وله "شواهد النبوة" بالفارسية، و"نفحات الإنس" بالفارسية أيضًا، ونظم بالفارسية يتنافس في حفظه أهل تلك اللسان، توفي بهراة سنة 897، انتهى. 410 - عبد الرحمن بن حسن الريمي الذماري - رحمه الله تعالى -. ولد تقريبًا سنة 1207، أو بعدها بقليل. قال الشوكاني في "البدر الطالع": له قراءة عليّ، وهو من عباد الله الصالحين ومن [العلماء] العاملين بالأدلة، الراغبين في الحق، المتمسكين بالإنصاف، وله ميل إلى مؤلفاتي، واشتغال بها، وعمل بما فيها، وهو الآن من أعيان مدينة ذمار، جمل الله بوجوده تلك الأقطار. 411 - السيد عبد القادر بنُ أحمدَ بنِ عبدِ القادر، الكوكبانيُّ. قال في "البدر الطالع": هو شيخنا، الإمام المحدث الحافظ المسند، المجتهدُ المطلق، ولد - كما نقلته من خطه - في سنة 1135، نشأ بكوكبان، ثم ارتحل إلى صنعاء، فأخذ عن أكابر علمائها؛ كالعلامة السيد محمد بن إسماعيل الأمير، وإني أذكر وأنا في المكتب مع الصبيان، سألت والدي - رحمه الله -: من أعلمُ الناسِ بالديار اليمنية؟ فقال: فلان - يعني: صاحب الترجمة -، وبالجملة: فلم تر عيني مثله في كمالاته، ولم أجد أحدًا يساويه في مجموع علومه، ولم يكن بالديار اليمنية في آخر مدته له نظير.

وهو - رحمه الله تعالى - من جملة من رغبني في تأليف "شرح المنتقى"، فشرعت فيه في حياته، وعرضت عليه كراريس من أوله، فقال: إذا كمل على هذه الكيفية، كان في نحو عشرين مجلدًا، وأهل العصر لا يرغبون فيما بلغ من التطويل إلى دون هذا المقدار، ثم أرشدني إلى الاختصار، ففعلت، فكمل بحمد الله، وبَيَّضْتُه في أربع مجلدات، ولم يكمل إلا بعد موته بنحو ثلاث سنين، وقد أجازني إجازة عامة كتبها لي، ولم تكن له كثرةُ اشتغال بتأليف، ولو أراد ذلك، لكان له في كل فن ما لا يقدر عليه غيره. وله رسائل حافلة، ومباحث مطولة، وله "فلك القاموس" في كراريس، توفي - رحمه الله تعالى - سنة 1207، وتأسف الناس على فقده، ورثاه الشعراء بمراثٍ حسنات هي مجموعة في كراريس، وأنا من جملة من رثاه بقصيدة، مطلعها: تَهَدَّمَ من رَبْعِ المعارفِ جانِبُهْ ... وأصبحَ في شُغْلٍ عن العلمِ طالبُهْ وذكر له في "النفس اليماني والروح الريحاني" ترجمة حافلة، حاصلها قوله: السيد الإمام، إنسان عين الأعلام، صدرُ العلماء المعتمدين، بدر الأئمة المجتهدين، له العلوم الزاخرة، والأحوال الشريفة الفاخرة، والأخلاق النبوية، والسيرة المحمدية. ومن مشايخه الشيخان العلامتان: عبد الخالق بن أبي بكر، ومحمد بن علاء الدين المزجاجيان، ومن أهل الحرمين: السيدُ الإمام العلامة محمدُ بنُ الطيب المغربي الفاسي، وله من الأساتذة الكملة: نيف وثمانون شيخًا. ومن المؤلفات ما يزيد على الأربعين مؤلفًا، منها: "حاشية القسطلاني"، و"حاشية الجلالين"، و"حاشية المطول" و"مختصره"، و"شرح كفاية المتحفظ". ومن مشايخه الشيخ المسنِدُ محمد حياة السنديُّ المدنيُّ، وقد ترجمه وامتدحه عدة من العلماء الأعلام، منهم: القاضي العلامة، قال في جملة ترجمته: تسامى له السندُ العالي مع النسب الغالي، مظهرًا للسنة النبوية على

412 - عبد القادر بن علي البدري

رؤوس الأشهاد، مبكتًا لأهل البدعة في الحاضر والباد، ولقد قام بهذا الواجب أتمَّ القيام، وذبَّ عن سنة جدِّه بين الأنام، وأدخلها إلى أذهان الفقهاء المقلِّدين، وقبلَها من له الفهمُ المكين، والذهن السمين، وسلك طريق المتقين، ومال عن الاعتساف، وآض إلى الانصاف، فلله دَرُّه من عالم هُدَى، وأمال عن طريق الردَى، امتدحه السيد العلامة علي بن محمد بن علي بن أحمد اليمني بقصيدة أبان فيها أوصافَه الجميلة، وأياديَه الجزيلة، وقد استجاز منه لأولاده شيخُنا الوالد، فكتب الإجازة، انتهى. 412 - عبد القادر بن علي البدري. ولد سنة 1070 قال في "البدر الطالع": وهو العلامة المجتهد في جميع العلوم، أخذ العلم عن جماعة من أكابر العلماء؛ كالعلامة المقبلي، وله رسائل ومسائل يسلك فيها مسالك المجتهدين، ويحررها تحريرًا متقنًا، ويمشي مع الدليل، ولا يبالي بما يخالفه من القال والقيل، وكان قاضيًا بمدينة "ثلا"، مات سنة 1160 - رحمه الله تعالى رحمة واسعة -. 413 - عبد الله بن أحمد بن إسحاق. أحد العلماء المبرزين بصنعاء. قال الشوكاني: أخذ عنه جماعة من شيوخنا، وقرأ الكتب الحديثية، وعمل بما فيها، ومن شيوخه: أحمد بن محمد قاطن، وكان قوالاً بالحق، صادقَ اللهجة، له شعر رائق، منه: ماذا يفيدُكَ ندبُ الأَرْبُعِ الدُّرُسِ ... وشرحُ سالفِ عيش بالعُذَيْبِ نُسي فشَنِّفِ السمعَ من ذكرى معتقةٍ ... جَلَوْتُها كشموسٍ في دُجَى الغَلَسِ ولوالده "شرح العمدة في الحديث"، مات سنة 1191، انتهى. 414 - السيد عبد الله بن لطف الله الكيسي ثم الصنعاني. هو أحد علماء صنعاء المبرزين في علم القرآن والحديث والتفسير، وكان يُقرىء في جميع هذه العلوم، وله تلامذة صاروا علماء نبلاء، وكان مقبولَ

415 - عبد الله بن محسن الحيمي الصنعاني

الكلمة عند الإمام المهدي، وسائرُ أرباب الدولة كانوا يُجلُّونه ويهابونه، وكان يعمل بالأدلة، ويرشد الناس إليها، وينفر عن التقليد، وله في النهي عن المنكر عناية عظيمة، وكان لا يسمع بمنكر إلا أتعب نفسه في القيام على صاحبه حتى يزيله، وإذا أُصيب رجل بمظلمة فر إليه، فيقوم معه قومة صادقة حتى ينتصف له - فرحمه الله، وكافاه بالحسنى -، فلقد كان من محاسن الدهر، وما زال كذلك حتى توفاه الله في سنة 1173، انتهى. 415 - عبد الله بن محسن الحيمي الصنعاني. ولد تقريبًا سنة 1170. قال الشوكاني: قرأ عليَّ في الأصول، وسمع مني "تيسير الوصول" للدَّيْبَع، واستفاد في عدة فنون، ودرَّس في كثير منها، ونقل كثيرًا من رسائلي، وما زال ملازمًا لي في كثير من الأوقات، وبيني وبينه صداقة خالصة، ومحبة صحيحة، ولم يسلم من التعصبات عليه من جماعة الجهال، حتى جرت له بسبب ذلك محن، وهو صابر محتسب، وهذا شأن هذه الديار وأهلها، فالعالمُ المنصفُ بينهم في غربة، لا يزال يكابد شدائد، ويجاهد واحدًا بعد واحد، و {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وهو الآن حي، نفع الله به، انتهى. 416 - السيد عبد الله بن محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني. قال في "البدر الطالع": ولد سنة 1160، وبرع في جميع العلوم، وهو أحد علماء العصر العاملين بالأدلة، الراغبين عن التقليد، مع قوة ذهن، وجودة فهم، ووفور ذكاء، وحسن تعبير، وخبرة بمسالك الاستدلال، ومتانة دين، واشتغال بالعبادة، ودراية كاملة بمؤلفات والده ورسائله وأشعاره، وهو الذي جمع شعره في مجلد، وبلغني أنه نظم (¬1) بلوغ المرام وأنه الآن يشرحه، ولا شغل له بغير العلم والإكباب على كتب الحديث وتحرير مسائله وتقرير دلائله، وله نظم منه قصيدة، مطلعها: ¬

_ (¬1) لوالده الأمير نظم لبلوغ المرام من بحر الرجز مفيد جدًا، فصاحب الترجمة نظمه كوالده، إن ثبت ذلك.

للهِ دَرُّكَ أَيُّها البَدْرُ الذي ... يَهْدي إلى نَهْجِ الصوابِ الظاهِرِ أبرزتَ من تَيَّارِ عِلْمِكَ دُرَّةً ... في سِلْكِ تِبْرِ قعْرِ بحرٍ زاخِرِ وهو الآن حي ينتفع به الناس، وله إلي أشعار كثيرة، قال: ثم توفي سنة 1244، رأى الفقيه الفاضل عبد الله بن حسين الأنسي ليلة يوم موته: أنه رأى جبلاً انهدم، فكان جبل العلم هذا: هوَى يا لَعَمْري طودُ علمٍ تَضَعْضَعَتْ ... معالِمُ آثارٍ لَهُ ومَدارِسُ قال في "النفس اليماني": ومنهم ولد شيخنا السيد الجليل، العالم النبيل، فخر الإسلام وزينة الليالي والأيام، السيد عبد الله، ذكرته في "تحفة الإخوان" أيام طلبه، وقد صار الآن بحمد الله من العلماء الأعلام، النبلاء الفخام، أحد أئمة العصر وحامل لواء الفخر، له اليد الطولى في العلوم العقلية والنقلية، وجودةُ النظر النقادة في الأحاديث النبوية، مشتغلاً بذلك غاية الاشتغال، حتى نال من هذا العلم الشريف كُلَّ منال، مواظبًا على الإفادة في جميع أوقاته، مقبلاً على الآخذين منه بالتعليم والتفهيم في حركاته وسكناته، تاركًا للتعصبات المذهبية، يدور مع الحديث حيث دار، لا يعتريه ملل، ولا يميل إلى الراحة والكسل، فاكهتُه النظرُ في الزبر والأسفار، وغذاؤه من المعاني سمان الأفكار، ولذته منها افتضاضُ الأَبكار، جعل العلم النفيس النبوي له جليسًا، وعند الخلوة أنيسًا، يعرف الرمزة وإن خفي مكانها، واللمحة وإن عظم شأنها، فهو المجلِّي في حَلْبَة العلوم، والحائزُ قصبَ السبقِ إن تأخرت الفُهوم، مع أخلاق شريفة، وشيم لطيفة، ثمراتُها دانية قطيفة، يسمح بها للمتعلمين، ويعدها للطالبين، فهم لها عاشقون، وإليها ناظرون، وعليها مُعَوَّلون، مع حسن نية، وسلامة طوية، وهمة علية، يحلو منها الإطناب والإيجاز، وهما لديهم في رتبة الإعجاز مع طاعة لأوامر الله ونواهيه، تسر الودود، وتسوء كلَّ هَمَّازٍ حسود، حاز من الرتب الشريفة أعلاها، ومن الأوصاف السنية أغلاها وأجلاها، ومن رآه أحبه بمجرد النظر، فكيف إذا خالطه واختبر، تالله لقد أقر الله به عين الوالد، وتَيَّمَ به قلبَ الوارد والوافد، وكَبَتَ بطلعته البهية عينَ العدو والمعاند والحاسد، وأطلع

417 - السيد إبراهيم بن السيد محمد بن إسماعيل الأمير، صاحب "سبل السلام"

شمس معرفته على كل جاحد، فَغَطِّ بكفك على الشمس أيها الحسود، ولم نفسك [أيها] المعاند لأنها لام الجحود. هيهاتَ لا يأتي الزمانُ بمثلِهِ ... إن الزمانَ بمثلِهِ لَبَخيلُ قال: وله شعر، قال: واستجزت منه، وهذه صورته .. إلى آخر ما قال. 417 - السيد إبراهيم بنُ السيدِ محمدِ بنِ إسماعيلَ الأميرِ، صاحبُ "سبل السلام". نقل في "النفس اليماني" عن الشيخ العلامة أحمد قاطن: أنه قال: ومنهم: ولدُ شيخنا السيد السند، والجليل المعتمد، صارم الدين إبراهيم، ذو الذهن الوقاد، والفكر المستقل النقاد، الحاوي لخصال الكمال بأكمل الخصال، الراقي إلى أوج البلاغة في جميع الأحوال، إن وَعَظَ، خِلْتَهُ الحَسَن، وإن خطبَ، أعلنَ السُّنن، وأيقظَ الوسن، وقلَّد المِنَن، وبَغَّضَ السِّمَن، وحبب الخشن، وضيق العَطَن، ووَسَّع الحزن، وشَجَّعَ الجَبان، وشبع الجنان، وزين الجنان، وشيد الإيمان، يخلط الترهيب بالترغيب، والتبعيد بالتقريب، والوعيد بالوعد، والمطر بالرعد، وإن فاكه الإخوان، فجنةٌ قطوفٌ آدابها دان، وثمراتها أفنان، ذات خلق وألوان، طعمُها شهي، ونظرها بهي، تلتذ بها الأسماع، قبل وصولها إلى الرقاع، كلها زهور، وأنوارها سرور، وإن هزل، خلت الحصى دُرًّا، والشعيرَ بُرًّا، والقمريَّ هِرًّا، والجهرَ سرًا، والحلو مرًا، والصبر جَزَعًا، والوقارَ هلَعًا، والمعالي في رتبة القصور، ولذعَ الذباب كالزنبور، وإن تصوَّفَ، أراكَ محبة الاتِّباع، مزريةً بمحبة الابتداع، وسلك بالطريقة، إلى بحر الحقيقة، فالتقطت بسفينة النجاة در الإحسان، ووصلت إلى المحبوب بكمال الإيمان. غيبت ذاتك في بحر الأحدية، وأسقطت السوى عن جوهرة قلبك السوية، وأفضت عليها الأنوار المصطفوية، الواصلة من المنن الإلهية، المستولية على الذات القدسية، فتلاشى عنك السِّوَى، وكان كل شيء كالهوى، معدودًا في العلم، عند مَزَلَّة القدم، ووقفت على طاعة الحبيب بالحبيب، ونالتك المحبة منه إن كنت أريب، ناظرًا لنفسك بعين الذل والافتقار، والعبودية المحققة

418 - زين الدين محمد الأنصاري، الخزرجي، الحنبلي

والاحتقار، قد خلصت عن الشوائب، واطمأننت إلى الرغائب، عزلت عنها حبَّ الدنية، وألبستها القناعة القوية، ووثقت منها بالتوكل، وربطت عِنانَها بالتأمل، وزهدتَ فيما عند الناس، ورغبتَ فيما عند ربِّ الناس، وإن سافر، فنعم الأنيسُ للمسافر، كالبدر السافر، والخبير المساير، والحبيب المسامر، يؤثر على نفسه الرفيق، ويَهديه إلى أوضح طريق، ويقضي له ما يريد، ويُبدي له البِشْر ويعيد، ولقد عاود البيتَ العتيق أعوامًا، ولم يشف له أوامًا، وسكن فيه مرارًا متعددة، ونال ببركته أنوارًا مترددة، ونال القِدْحَ المعلَّى، وسبقَ في ميدان المصلَّى، انتهى. وبالجملة: كان السيد واحدًا من الفحول الأعلام، وشيخًا عظيمًا من شيوخ الإسلام، وإمامًا من أئمة السنة المطهرة، وعالمًا بالأحاديث عاملاً بها بالطبيعة المنورة، طارحًا للتقليد والآراء، مجانبًا عن أهل البدع والأهواء، ترجمَ له جمعٌ من العلماء جَمّ، بما يذهب معه كل غم وهم، قدس الله سره، ورفع في العالمين ذكره. 418 - زين الدين محمدٌ الأنصاريُّ، الخزرجيُّ، الحنبليُّ. زين زمانه، وعين أعيانه، درة تاجه، وعقيلة نتاجه، قال الخفاجي في "الريحانة": كان في عصره بيتَ القصيدة، وعنوانَ الأدب وأول الجريدة، لم تُعقد على مثله الخناصر، ولم تحمل بتوءم له بطونُ الدفاتر، تفقه على مذهب أحمد بن حنبل، فكان لطلابه سهلَ المورد عذبَ المنهل. ع * وللناس فيما يعشقون مذاهب * وهم في كل عصر أقل من القليل، وهكذا الكرام كما قيل: يقولون لي قد قَلَّ مذهبُ أحمدٍ ... وكلُّ قليلٍ في الأنامِ ضئيلُ فقلتُ لهم مهلاً! غَلِطْتُم بزعمِكُم ... أَلَمْ تعلموا أَنَّ الكرامَ قليلُ وما ضَرَّنا أَنا قليلٌ، وجارُنا ... عزيزٌ، وجارُ الأكثرينَ ذليلُ وهو جواد لم يهب إن وهب، فالذهبُ عنده كاسمه ذهب، انتهى. ثم ذكر شيئًا من أشعاره.

419 - عبد الله بن محمد العنسي

419 - عبد الله بن محمدٍ العنسيُّ. من علماء صنعاء، ولد تقريبًا في سنة 1190، أو بعده بقليل، أخذ الكتب الحديثية عن العلامة الشوكاني مرتبة، كان في حسن الإدراك وجودة الفهم وقوة التصور فريدَ عصره، أسند "شرح المنتقى"، و"السيل والجرار"، و"فتح القدير" عن أستاذه، قال في "البدر الطالع": له في الصلاح والعبادة والعمل بالأدلة مسلك حسن، وله في حسن الخلق التودد وحفظ اللسان ما لا يقدر عليه إلا مثله. ولي القضاء بمدينة تعز وما إليها حتى مات في سنة 1214، والله يرحمه، انتهى. 420 - عبد الله بن يوسف، المعروفُ بابن هشام، صاحبُ "مغني اللبيب" في النحو. قال الشوكاني في ترجمته: وكان كثير المخالفة لأبي حيان، شديد الانحراف عنه، ولعل [ذلك]- والله أعلم - لكون أبي حيان كان منفردًا بهذا الفن في ذلك العصر، غيرَ مدافَع عن السبق فيه، ثم كان المنفردُ بعدَه هو صاحب الترجمة، وكثيرًا ما ينافسُ الرجل مَنْ كان قبله في رتبته التي صار إليها؛ إظهارًا لفضل نفسه بالاقتدار على مزاحمته لمن كان قبله، أو بالتمكن بالبلوغ إلى ما لم يبلغ إليه، وإلا، فأبو حيان هو من التمكُّن من هذا الفن بمكان، ولم يكن للمتأخرين مثله ومثل صاحب الترجمة، وهكذا نافس أبو حيان الزمخشريَّ، فأكثر من الاعتراض عليه في "البحر"، و"النهر الماد"؛ لكون الزمخشري ممن تفرد بهذا الشأن، وإن لم يكن عصره متصلاً بعصره، وهذه وقيعة ينبغي لمن أراد إخلاص العمل أن يتنبه لها؛ فإنها كثيرة اللقوع، بعيدة عن الإخلاص، وقد تصدَّر صاحبُ الترجمة للتدريس، وتفرد بهذا الفن، وأحاط بدقائقه وحقائقه، وصار له من الملكة ما لم يكن لغيره، واشتهر صيته في الأقطار، وطارت مصنفاته في غالب الديار، حتى قال ابن خلدون: ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه قد ظهر بمصر عالم يقال له: ابن هشام أَنْحَى من سيبويه. ولد سنة 708، ومات سنة 761، وله نظم، انتهى.

421 - الإمام، العلامة، الزاهد، العابد، أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، الطوسي

421 - الإمامُ، العلامةُ، الزاهدُ، العابدُ، أبو حامدٍ محمدُ بنُ محمدِ بنِ أحمدَ الغزالُّي، الطوسيُّ. قال الخفاجي في "نسيم الرياض شرح شفاء القاضي عياض" في ترجمته ما نصه: صاحب المؤلفات الجليلة الذي على كاهله فقه الشافعي والأصلان. ولد بطوس سنة 450، واشتغل بها، ثم جال البلاد لأخذ العلم، ودخل بغداد، فصار مدِّرسًا بالنظامية، وأقام بدمشق عشرَ سنين بعد ما أخذَ العلم عن إمام الحرمين، وعن النصر المقدسي، ثم انتقل لمصر والإسكندرية، ثم رجع لبغداد، وعقد بها مجلس وعظ. وتوفي سنة 505 عن خمس وخمسين سنة، ودفن بطوس، وقيل: بقصبة طائران. قال ابن تيمية - رح -: بضاعته في الحديث مُزْجاة، ولذا أكثرَ من إيراد الموضوعات في كتبه، وأكثرَ فيها من مقالات الفلاسفة، حتى قال صاحبه أبو بكر بن العربي - مع شدة تعظيمه له -: شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلسفة، ثم أراد أن يخرج منها، فما قدر. قلت: كتابُ "التهافت"، و"الإحياء" يناديان على خلافه. قال ابن العربي: لقيته في الطواف وعليه مُرَقَّعة، فقلت له: أَوْلى لك من هذا غير هذا، فأنت صدرٌ بكَ يُقتدى، وبنورك إلى معالم المعارف يُهتدى، فقال: هيهات: لما طلع قمرُ السعادة في تلك الإرادة، أشرقت شموس الأفول، على مصابيح الأصول، فتبين الخالق لأرباب الألباب والبصائر، إذ كل لما طُبع عليه راجع وصائر، وأنشد يقول: تركتُ هوى ليلى وسُعْدَى بِمَعْزِلِ ... وصرتُ إلى مصحوبِ أولِ منزلِ ونادَتْنِيَ الأكوانُ حتى أجبتُها ... ألا أيها الساري! رُويدَكَ فانْزِلِ فعَرَّسْتُ في دار النَّدَى بعزيمةٍ ... قلوبُ ذوي التعريفِ عنها بمعزِلِ غزلتُ لهم غزلاً رقيقًا، فلم أجدْ ... لغزلي نساجًا، فكسَّرتُ مِغْزَلي

422 - الحسين بن منصور الحلاج

وإذا سمعت هكذا، فكيف يظن [به] اتباع خرافات الفلاسفة، وقد رأى بعضُ المشايخ الغزاليَّ بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكو من شخص طعن فيه، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضربه بالسياط، فانتبه، وبه أثر الضرب وألمُه، انتهى كلام الخفاجي. قلت: وقد حكى عليٌّ القاري: أن الغزالي مات وكتاب "الصحيح" للبخاري على صدره، وهذا يرشدك إلى أنه رجع آخرًا عما ذهب إليه أولاً، ولله الحمد. وفي كتابه "الإحياء" بعضُ الأخبار الضعيفة والأفكار الفلسفية، وظني أنه تاب عنه وأناب، فما أحقها بأن تغتفر مع صحة الأصل، والله أعلم بالصواب. 422 - الحسينُ بنُ منصورٍ الحَلاَّجُ. قال الخفاجي في "نسيم الرياض": قيل: كان أبوه من مجوس فارس، والحلاج في أول أمره صحبَ الجنيدَ والسَّرِيَّ والمشايخ مع الزهد ولزوم العبادة التامة ببغداد، واختُلف في أمره. ومن خرافات بعض الناس: أنه ذهب في سياحته للهند وخراسان، وتعلم السحر، وأظهره في صورة الكرامات، وأضلَّ به الناس، وصار يدعو الناسَ حتى شاع أمره، فوقع بينه وبين الشِّبلي، وداودَ الظاهري، والوزير علي بن عيسى مطارحة - لما شاع عنه الإخبار بالمغيبات، وإظهار الأمور الخارقة، فقيل: إنه ساحر شعبذة ومخرفة، وله معرفة بالطب والكيمياء، وغير ذلك من علوم الحكماء، فقيل: إنه ادعى الألوهية، وأظهر الزندقة، وكُتب عليه محضر بذلك، فُقتل، وأُحرقت جثته في سنة 807 بأمر المقتدر بالله. قال: وذهب كثير من المشايخ إلى أنه من أولياء الله، منهم الغزالي، واعتذر عما صدر منه في كتاب "مشكاة الأنوار"، وأفرد ابن الجوزي ترجمته بتأليف مستقل، وصح عن الشبلي أنه قال: كنت أنا والحلاج شيئًا واحدًا، إلا أنه أظهرَ وكتمتُ. وقد شهد بولايته كثير من كبار المشايخ، وقالوا: إنه عالم رباني، منهم: الشيخ عبد القادر الجيلاني، وقال: عثر الحلاج، ولم يكن له من يأخذ بيده، ولو أدركتُ زمانه، لأخذتُ بيده، وقال: إن قوله: أنا الحق، إنما قال لما

423 - إبراهيم بن جعمان

غلب عليه شوقُه، وسكر من كأس محبته، حتى عاين قدرته في كل شيء. فكلُّ شيءٍ رآه ظَنَّهُ قَدَحًا ... وكلُّ شخصٍ رآه ظنَّه السَّاقِي وهو مقام الجمع عندهم، لكن أهل الشرع حفظوا حمى الشريعة، ولهذا سكت عن حاله بعضهم، وقال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134]، والاعتقاد خير من الانتقاد، والكف أسلم، انتهى. قال عياض في "الشفاء": وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية، وقاضي قضاتها أبو عمرو المالكي محمد بن يوسف بن يعقوب على قتل الحلاج وصلبه؛ لدعواه الألوهية، ودعواه الحلول، وقوله: أنا الحق، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته - يعني: لتكرر ذلك منه - انتهى. وأقول: إن ثبت أنه تاب، ثم رجع، ثم أناب، ثم قُتل ولم يقبلوا توبته، فهذا فعلٌ لا يتأتى الإقدامُ عليه إلا ممن لم يدرك مداركَ السنة الصحيحة على وجهها - عفا الله عنا وعنهم أجمعين - "والتائبُ من الذنب كمن لا ذنب له"، وإن تكرر منه الذنب مرارًا، فالتوبة تمحو الحوبة، وإن كثرت النوبة، والله أعلم. 423 - إبراهيم بن جعمان. مفتي زَبيد، كان عالمًا مدرسًا حافظًا محدثًا، وكانت إليه رئاسة مدينة زبيد، وكان مسموعَ الكلمة، مقبولَ الشفاعة، كثيرَ الشيوخ، أخذ عنه الكثير، وانتفعوا به، قال المحبي: كان إمامًا عالمًا خاشعًا، كثيرَ الذكر والخير، ملازمًا للمسجد، أُخذ الفقه والحديث، له فتاوى كثيرة، ورسالة في العروض سماها: "آية الحائر إلى الفلك من أحرف الدوائر"، أخذ عنه جماعة، منهم: الغزي، وكان يحسن إلى الطلبة، ويجيز من قرأ عليه، وكان ينظم شعرًا، ومن شعره في الإلهيات قولُه من أبيات: قَصْدي رِضاكَ بكلِّ وجهٍ أمكنا ... فامْنُنْ عليَّ بذاكَ من قبل الفَنَا ولَئِنْ رَضيتَ فذاكَ غايةُ مطلَبي ... والقصدُ كلُّ القصدِ بلْ كُلُّ المُنَى لو أبذلَنْ رُوحي فِدًى لَرَأَيْتُها ... أمرًا حقيرًا في جَنابكَ هَيِّنَا

424 - إبراهيم بن محمد الحلبي، ويعرف بابن الحنبلي

وكانت وفاته سنة 1084 - رحمه الله تعالى -. 424 - إبراهيم بن محمد الحلبي، ويعرف بابن الحنبلي. قال في "آثار الأدهار": هو الإمامُ الفقيهُ العلامةُ المجتهدُ، صاحب التآليف، ولد في حلب، ورحل إلى دار السعادة، وولي ثَمَّةَ الخطابة في جامع السلطان محمد خان، ومن تآليفه: "شرح ألفية العراقي" في أصول الحديث، وله كتاب سماه: "تسفيه الغبي في تكفير ابن عربي" ردًا على السيوطي، وكتاب سماه: "الرهص والوقص لمستحل الرقص"، كتبه ردًا على رسالة الشيخ سنبل، وله كتاب "ملتقى الأبحر" في فروع الحنفية قدم فيه الراجح من أقوالهم، مشيرًا إلى الأصح والأقوى، وقد وقع الاتفاق على قبوله بين الحنفية، فرغ منه في سنة 924، عُمَّر حتى بلغ من العمر تسعين عامًا، وكانت وفاته في سنة 956 - رحمه الله تعالى -. 425 - إبراهيم بن مصطفى، الحلبيُّ الحنفيُّ. رحل إلى القاهرة، وأقام بها سبع سنين، وكان عالمًا فاضلاً، مكبًا على المطالعة مجتهدًا. قدم دمشق، فأخذ بها عن جماعة، ثم عاد إلى القاهرة، وأثرى ثراء واسعًا، ثم نُكب، فرحل إلى قسطنطينية، وتخرج به كثير من علماء الروم، منهم: راغب باشا صاحب "السفينة"، توفي سنة 1190، ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري - رحمه الله تعالى -. 426 - إبراهيم بن معقل، النَّسَفيُّ، الحنفيُّ. كان من أكابر العلماء، وأصحاب الحديث الثقات، رحل في طلب العلم إلى الحجاز والعراق والشام ومصر، وكتب الكثير، وجمع السنة والتفسير، روى عنه جماعة كثيرة، وولي قضاء نسف، وتوفي سنة 995 عن 85 سنة، قاله ياقوت. وله كتاب "التفسير"، قال حجي خليفة: إنه ممن سمع "البخاري"، وفاته قطعةٌ من آخرها رواها بالإجازة.

427 - إبراهيم الأحسائي، الحنفي

427 - إبراهيم الأحسائي، الحنفيُّ (¬1). من أكابر العلماء، كان نَحْويًا متفننًا في علوم كثيرة، قرأ ببلاده على شيوخ كثيرين، وأخذ بمكة عن مفتيها عبد الرحمن بن عيسى المرشدي، له مؤلفات، منها: "دفع الأسى في أذكار الصبح والمسا"، وله أشعار كثيرة، منها: ولا تَكُ في الدُّنيا مُضافًا، وكُنْ بها ... مُضافًا إليه إن قَدَرْتَ عليهِ فكلُّ مُضافٍ للعواملِ عُرْضَةٌ ... وقد خُصَّ بالخفضِ المضافُ إليهِ توفي سنة 1048 بمدينة أحساء، قاله المحبي - رحمه الله تعالى -. 428 - إبراهيم حنيف أفندي. ذكره في "آثار الأدهار"، وقال: هو المولى الإمامُ الفاضلُ المجتهدُ الحافظُ عالمُ الروم، نبغ في المئة الثانية عشرة للهجرة، وولي التفتيش في الحرمين الشريفين، ومن مؤلفاته الجليلة: "أسامي أصحاب بدر"، و"تخريج الأحاديث لشرعة الإسلام"، و"شرح حديث: أم رزع"، وآخر في حديث الأربعين، ورسالة سماها: "الراسخ في المنسوخ والناسخ"، ورسالة في تفسير الآية: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، ألفه في سنة 1150، وقد ولي عدة مناصب، وهو والد أحمد حنيف زاده متمم كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" قاله حجي خليفة. 429 - إبراهيم القزاز بنُ تيمور خان بنِ حمزةَ، الروميُّ الحنفيُّ، شيخُ الطائفة البيرامية. له رسائل في علوم القوم، منها: "محرقة القلوب في الشوق لعلام الغيوب"، ¬

_ (¬1) هو الشيخ إبراهيم الأحسائي المالكي، وطبع تأليفه "دفع الأسى في أذكار الصباح والمسا" مع الرسالة جملة، أولها: "سبيل النجاح والفلاح في أذكار المساء والصباح" للشيخ عبد الرحمن بن حسن الحنبلي، و"دعاء ختم القرآن" لشيخ الإسلام ابن تيمية، و"فروض الوضوء"، و"شروط لا إله إلا الله"، وطبعت مجموعة الأذكار على نفقة صاحب السمو الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني حاكم قطر، بالمطبعة الهندية العربية بمباي، وآخر طبعها طبعة ملونة سنة (1379 هـ 1959 م)، وكتبت في صدر الكتاب كلمة تحت عنوان: الإهداء. (منه).

430 - إبراهيم اللقاني، المالكي

أصله من بوسنه، ولد بها، ونشأ متعبدًا، ثم طاف البلاد، ولقي الأولياء الأمجاد. وجد واجتهد، وصار له في كل بلد اسم يعرف به، فاسمه في بلاد الروم "علي" وفي مكة "حسن" وفي المدينة "محمد" وفي مصر "إبراهيم" وأقام بالحرمين مدة، ثم قدم مصر، فأقام بها، وكان في أكثر أوقاته يأوي إلى المقابر، وقد نعت بالأستاذ الكبير. وكانت وفاته في سنة 1026، كذا في "آثار الأدهار". 430 - إبراهيم اللقاني، المالكيُّ. أحد الأعلام المشار إليهم بسعة الاطلاع في علم الحديث، والتبحر في الكلام، وكان إليه المرجع في المشكلات والفتاوى في وقته بالقاهرة، وكان قوي النفس، عظيم الهيبة، مقبول الشفاعة، جامعًا بين الشريعة والحقيقة، ألف التآليف النافعة، منها: "جوهرة التوحيد" - منظومة في علم العقائد، أخذ عنه كثير من الأجلاء، وله شعر جيد في الابتهال لعزته تعالى، توفي وهو راجع من الحج سنة 1041. له حاشية على "شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، وهو متن متين في علم الحديث، هكذا في "الآثار"، وكان ينكر على أهل المواليد عقدهم مجلس الميلاد، ويجتنب الدخان، وألف في ذلك رسالة سماها: "نصيحة الإخوان في اجتناب الدخان". والراجحُ أن شربَ الدخان مباح على البراءة الأصلية، وكون الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي الدليل بكراهيته، ولا دليل (¬1) في هذا الباب، والله أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) التبغ من العقاقير المضرة، وتدخينه يؤثر على صحة الإنسان تأثيرًا سميًا. وأجمع أطباء العصر على أنه ينشأ من استعماله السرطان الرئوي، ويسبب أيضًا أمراضًا مختلفة، منها: الفالج، واللقوة، والشلل، والسل، وضيق النفس، والسعال، وسوء الهضم، وضعف البصر، وفساد الأسنان، ولا حاجة إلى الإكثار من ذكر مضراته، فليجتنبه كل من أراد المحافظة على صحته وصلاح ذهنه وسلامة جسمه.

431 - ابن أبي جمرة: هو الإمام الحافظ المحدث، أبو محمد، عبد الله بن سعيد، وقيل: سعد، الأزدي الأندلسي

431 - ابن أبي جمرة: هو الإمامُ الحافظُ المحدثُ، أبو محمد، عبدُ الله بن سعيد، وقيل: سعد، الأزديُّ الأندلسيُّ. عالم مفسر، له تصانيف عديدة، منها التفسير المعروف، وكتاب "بهجة النفوس في الحديث" اختصره من البخاري، وهو خمس مئة حديث، وكان شيخًا قدوة، توفي سنة 525 للهجرة، وقيل: سنة 695، كذا في "الآثار". 432 - ابن أبي حاتم: هو أبو بكر، محمدُ بنُ حمدون، النيسابوريُّ، البيليُّ. كان من أعيان المحدثين الثقات الجوالين في الأقطار، سمع بخراسان والعراق والشام والجزيرة، وروى عنه عليُّ بن جمثاد، وأبو علي الحافظ، وغيرهما. وكانت وفاته في سنة 420، قاله ياقوت. 433 - ابن أبي ليلى: هو محمدُ بنُ عبد الرحمن. قال في "الآثار": كان من أصحاب الرأي، وولي قضاء الكوفة، وأقام حاكمًا ثلاثًا وثلاثين سنة، ولي لبني أمية، ثم لبني العباس، وكان فقيهًا مفتيًا، وكانت بينه وبين أبى حنيفة وحشة يسيرة، ومعارضة في الأحكام، صنف في الفرائض، توفي بالكوفة - وهو على القضاء - سنة 148. 434 - السيد عبد الوهاب بنُ محمدٍ الموصليُّ. قال الشوكاني في "البدر الطالع": كتب إليَّ من شعره بنظم فائق، ومن جملة ما أخبرنا به خبر عجيب، ونبأ غريب، وهو أنه وجد في جبل قاسيون من جبال الشام رجل من الجن، يقال له: قاضي الجن، واسمه شمهورش، وأنه أدرك الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وأخذ عنه، فأخبرنا صاحب الترجمة، قال: أخبرنا السيد إسماعيلُ بنُ عبد الله الايدي جكلي نسبة إلى قرية بالروم، قال: أخبرنا أحمد بن محمد المنيني نزيلُ دمشق الشام، قال: أخبرنا عبد الغني بن إسماعيل النابلسي، عن القاضي شمهورش - قاضي الجن - بصحيح البخاري، عن البخاري، ومما أخبرنا به صاحب الترجمة: أن اعتماد حنفية هذا الزمان في

435 - الإمام الهادي عز الدين بن الحسن

جميع ديار الروم والشام ومصر وغيرها في الفقه على المؤلفين: أحدهما: مؤلف الملا خسرو الرومي المسمى "بالدرر والغرر" متنًا وشرحًا، والمؤلف الآخر لمحمد أفندي مفتي دمشق المسمى "بالدر المختار"، وأخبرنا أن هذا محمد أفندي هو من أهل القرن الحادي عشر. وقد طلب مني صاجا الترجمة بعض مؤلفاتي، فأعطيته "الدرر"، وشرحه "الدراري"، وقد تلقيت منه الذكر على الطريقة النقشبندية، انتهى حاصله. 435 - الإمام الهادي عز الدين بن الحسن. كان من ملوك اليمن الميمون، عالمًا بجميع العلوم، تلمذ على العامري صاحب "البهجة". قال في "البدر الطالع": سمع منه "سنن أبي داود"، وأجازه في سائر كتب الحديث، وبرع في جميع العلوم، وصنف - وهو دون العشرين -، وشرحه للبحر شرح مفيد، سلك فيه طريقة الإنصاف، وهو يدل على تبحره في عدة علوم، دعا الناس إلى مبايعته، فبايعوه في سنة 879، وهو من أكابر أئمة الآل في العلم والعمل، ولديه من التسليم للحق واتباع الدليل ما لم يكن لغيره، حتى رأيته قد حرر بحثًا في مسألة انحصار الإمامة في بعض بطون قريش، وتكلم بالصواب - مع كونه إذ ذاك إمامًا -، واستمرت إمامته إلى أن مات في سنة 900، ومدة خلافته إحدى وعشرون سنة، انتهى. 436 - قال في "البدر الطالع" في ترجمة السيد علي بن إبراهيم الإمام: لا أعلم أنه غضب قَطُّ، أو خاصم في شيء منذُ عرفته إلى أن مات سنة 1207، وليس له نظير في حفظ الأشعار لأهل الجاهلية والإسلام، وكتب من نفائس الكتب بخطه شيئًا كثيرًا، وكنت أعجب من سرعة ما يتحصل له من ذلك، مع شغلته بالتدريس، فسألته بعض الأيام عن ذلك، فقال: إنه لا يترك النسخ يومًا واحدًا، وإذا عرض له ما يمنع، فعل من النسخ شيئًا يسيرًا، ولو سطرًا واحدًا، أو سطرين، فلزمتُ قاعدته هذه، فرأيت في ذلك منفعة عظيمة، انتهى.

437 - علي بن إبراهيم، حفيد صاحب "سبل السلام"

437 - علي بن إبراهيم، حفيدُ صاحب "سُبل السلام". ذكر له الشوكاني ترجمة حسنة، وقال له: مصنفات، منها: "السر المصون من نكتة الإظهار والإضمار في أكثر الناس وأكثرهم لا يعلمون"، قال: والده من أعيان العلماء، وأكابر الفضلاء، جامع بين الشريعة والطريقة، عارف بفنون العلم، لا سيما التفسير والحديث، وله في التصوف والسلوك والوعظ يد طولى، مات سنة 1213، ومولده سنة 1141، وولده هذا الآن ما بين الأربعين والخمسين من عمره - دامت فوائده، ومدت موائده -، انتهى. قلت: ثم مات - رحمه الله تعالى - سنة 1216. 438 - القاضي علي بن أحمد بن عطية. من علماء ذمار، ولد سنة 1208، أو بعده بقليل، قال الشوكاني: له ميل إلى العمل بالأدلة، وفهم ثاقب، وإدراك تام، وله عناية بمؤلفاتي، وعملٌ بما فيها - زاد الله أهلَ العلم بأمثاله -، انتهى. أقول: مات في ذمار سنة 1252 - رحمه الله تعالى -. 439 - علي بن أحمد علاءُ الدين الحنفيُّ الروميُّ. كان عالمًا كبيرًا جليلاً، حرر له الشوكاني ترجمة حسنة، وحكى أنه كان مفتيًا في زمن السلطان سليم خان، فاتفق أن السلطان حكم أن يضربوا أعناق مئة وخمسين رجلاً من حفظة الخزائن، فذهب إلى السلطان، وقال: وظيفة أرباب الفتوى أن يحفظوا آخرة السلطان، وقد سمعتُ أنك أمرت بقتل مئة وخمسين رجلاً، لا يجوز قتلُهم شرعًا، فغضب السلطان، وقال: إنك تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك، قال: بل أتعرض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي، فإن عفوت، فلك النجاة، وإلا، كانت عليك العقوبة العظيمة، فسكن غضب السلطان، وعفا عن جميعهم، وله حكايات كثيرة من هذا الجنس، وماجرياتٌ مع السلطان، له كتاب "المختارات"، مات سنة 932 - رحمه الله تعالى -.

440 - علي بن إسماعيل النهمي

440 - علي بن إسماعيل النهميُّ. كان من علماء صنعاء من تلامذة أحمد قاطن وغيره، بارع الذكاء، فائق الذهن، جيد الإدراك، حسن الأخلاق، كريم الصحبة، استفاد بذهنه الوقاد غرائبَ من المسائل. قال الشوكاني: له ميل إلى الأدلة، وعمل بما يصح منها، وعدم الالتفات إلى محض الرأي، وله قوة في المباحثة، والتصرفات الذهنية، والاستنباطات العجيبة، وإقبال على معالي الأمور، ورغبة في الشرف، ولد سنة 1170، مات سنة 1232، انتهى. 441 - السيد علي بن إسماعيل. من نسل الإمام المتوكل على الله، كان من أئمة اليمن، وأكابر علماء الزمن، قال الشوكاني: وفد إلى صنعاء، وسمع مني رسالتي المسماة: "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد"، وكذلك حضر معنا في قراءة مؤلفي المسمى "إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر"، وحصل كلا المؤلفين بخطه. وبالجملة: فقد دار بيني وبينه من المساجلات الأدبية والمكاتبات الشعرية ما يكثر سردُ بعضه، وقد رقمتُ بعضَ ذلك في مجموع شعري، ثم مات في سنة 1229، انتهى. 442 - علي بن يوسف القونويُّ، علاءُ الدين الشافعيُّ. ولد في قونية من بلاد الروم في سنة 668، تلمذ على الحافظ ابن القيم، وابن دقيق العيد، وابن عساكر، وغيرهم من أكابر العلماء، وبرع في جميع العلوم والفنون. قال في "البدر الطالع": وكان السلطان ناصر يعظمه، ويثني عليه، ثم ولاه قضاء دمشق، ولم تكن له في الحكم تهمة. وكان كثير الفنون، كثير الإنصاف، كثير الكتب. وكان يعظم الشيخ تقي الدين بن تيمية، ويذب عنه، ويقال: إن الناصر قال له: إذا وصلتَ إلى دمشق،

443 - علي بن أبي بكر بن سليمان، الهيثمي، الشافعي، الحافظ

قل للنائب يفرج عن ابن تيمية، قال: يا خاوند! لأي معنى سجن؟ قال: لأجل الفتاوى، قال: فإن كان رجع عنها، أفرجنا عنه، فيقال: كان هذا الجواب سببًا لاستمرار ابن تيمية في السجن إلى أن مات؛ لأنه كان لا يذعن للرجوع، ولما خرج ابن القيم من القلعة، وأتاه، بَشَّ به، وأكرمه، ووصله، وكان يثني على أبحاثه، ومن شعره: غَمَرَتْني المكارمُ الغُرُّ منكَ ... إذْ توالَتْ عَلَيَّ منها فُنونُ شَرْطُ إحسانِكُمْ تَحَقَّقَ عندي ... ليتَ شعري الجزاءُ كيفَ يكونُ مات بدمشق سنة 739، وتأسف الناس على فقده، انتهى - رحمه الله تعالى -. 443 - علي بن أبي بكر بنِ سليمانَ، الهيثميُّ، الشافعيُّ، الحافظ. ولد في رجب سنة 735 بالقاهرة، ونشأ بها، وهو مكثر سماعًا وشيوخًا، ولم يكن الزين يعتمد في شيء من أموره إلا عليه، وزوجه ابنته، ورزق منها أولادًا عدة. وكان عجيبًا في الدين والتقوى والزهد، والإقبال على العلم والعبادة، والمحبة للحديث وأهله، وحدث بالكثير، أخذ الناس عنه وأكثروا، مات في سنة 807. قال ابن حجر: إنه تتبع أوهامه في "مجمع الزوائد"، فبلغه، فعاتبه، فترك التتبع. 444 - الملا علي القاري الهرويُّ. هاجر إلى مكة المكرمة، وتلمذ على ابن حجر المكي - فقيه حنفي -. له "المرقاة في شرح المشكاة"، و"شرح الشفا" للقاضي عياض، و"الحزب الأعظم في الأدعية"، و"الناموس في مختصر القاموس". بالغ العصامي في مديحه، لكن قال: امتُحن بالاعتراض على الأئمة، لا سيما الشافعي وأصحابه، واعترض على الإمام مالك بن أنس في إرساله يديه، ولهذا تجد مؤلفاته ليس عليها نور العلم، ولهذا نهى عن مطالعتها كثيرٌ من العلماء والأولياء، انتهى. قال الشوكاني - رح -: وأقول: هذا دليل على علو

445 - قال الشوكاني - رحمه الله تعالى - في "البدر الطالع": مولانا الإمام خليفة العصر، أمير المؤمنين المنصور بالله رب العالمين، علي بن الإمام المهدي العباس بن المنصور الحسين بن المتوكل القاسم بن الحسين

منزلته؛ فإن المجتهدَ شأنهُ أن يبين ما يخالف الأدلة الصحيحة ويعترضه، سواء كان قائله عظيمًا، أو حقيرًا، ع * فتلك شكاة ظاهر عنك عارها *، وكانت وفاة صاحب الترجمة سنة 1014 - رحمه الله تعالى -. 445 - قال الشوكاني - رحمه الله تعالى - في "البدر الطالع": مولانا الإمامُ خليفةُ العصر، أميرُ المؤمنين المنصورُ بالله ربِّ العالمين، عليُّ بنُ الإمام المهديِّ العباسِ بنِ المنصورِ الحسين بنِ المتوكل القاسم بنِ الحسين. وأطال في ترجمة إخوانه وأولاده إطالة حسنة، وقال في ضمنها: ولي القضاء الأكبر عند مبايعته القاضي العلامة يحيى بن صالح السحولي، فلما مات، وكنت إذ ذاك مشتغلاً بالتدريس في علوم الاجتهاد والإفتاء والتصنيف، منجمعًا عن الناس، لا سيما أهل الأمر وأرباب الدولة، فإني لا أتصل بأحد منهم كائنًا من كان، ولم تكن لي رغبة في سوى العلوم، كنت أدرس الطلبة في اليوم الواحد نحو ثلاثة عشر درسًا، منها: ما هو في التفسير؛ كالكشاف وحواشيه، ومنها: ما هو في الأصول؛ كالعضد وحواشيه، والغاية وحاشيتها، وجمع الجوامع وشرحه، ومنها: ما هو في المعاني والبيان؛ كالمطول، والمختصر، وحواشيهما، ومنها: ما هو في النحو؛ كشرح الرضي، والمغني، ومنها: ما هو في الفقه؛ كالبحر، وضوء النهار، ومنها: ما هو في الحديث؛ كالصحيحين، وغيرهما - مع ما يعرض من تحرير الفتاوى، ويمكن من التصنيف، فلم أشعر إلا بطلاب من الخليفة - حفظه الله - بعد وفاة القاضي السحولي بنحو أسبوع، فعزمت إلى مقامه العالي، فذكر لي أنه قد رجح قيامي مقام القاضي المذكور، فاعتذرت إليه بما كنت فيه من الاشتغال بالعلم، فقال: القيام بالأمرين ممكن، وليس المراد إلا القيام بفصل ما يصل من الخصومات إلى ديوانه العالي في يومي اجتماع الحكام فيه، فقلت: ستقع مني الاستخارة لله، والاستشارة لأهل الفضل، وما اختاره الله فالخير فيه، فلما فارقته، ما زلت مترددًا نحو أسبوع. ولكنه رفد إلي كلَّ من ينتسب إلى العلم في مدينة صنعاء، وأجمعوا على أن الإجابة واجبة، وأنهم يخشون أن يدخل في هذا المنصب الذي إليه مرجع

الأحكام الشرعية في جميع الأقطار اليمنية مَنْ لا يوثق بدينه وعلمه، وأكثروا من هذا، وأرسلوا إليّ بالرسائل المطولة، فقبلت مستعينًا بالله، ومتكلاً عليه، ولم يقع التوقف على مباشرة الخصومات في اليومين فقط، بل انثار الناس من كل محل، فاستغرقت في ذلك جميع الأوقات إلا لحظات يسيرة قد أفرغها للنظر في شيء من كتب العلم، أو لشيء من التحصيل في تتميم ما قد كنت شرعت فيه، واشتغل الذهن شغلة كبيرة، وتكدر الخاطر تكدرًا زائدًا، ولا سيما وأنا لا أعرف الأمور الاصطلاحية في هذا الشأن، ولم أحضر عند قاطن في خصومة، ولا في غيرها، بل كنت لا أحضر في مجالس الخصومة عند والدي - رحمه الله تعالى - من أيام الصغر فما بعدها. ولكن شرح الله الصدر، وأعان على القيام بذلك الشأن، ومولانا الخليفة - حفظه الله - ما ترك شيئًا من التعظيم إلا وفعله، وكان يجلني إجلالاً عظيمًا، وينفذ الشريعة على قرابته وأعوانه، بل على نفسه، وأنا حالَ تحرير هذه الأحرف في سنة 1213 مستمر على مباشرة تلك الوظيفة مؤثرًا التدريس للطلبة في بعض الأوقات في مصنفاتي وغيرها، وأسأل الله بحوله وطَوْله أن يرشدني إلى مراضيه، ويحولَ بيني وبين معاصيه، وييسر لي الخير حيث كان، ويدفع عني الشر، ويقيمني في مقام العدل، ويختار لي ما علم فيه الخير في الدين والدنيا. وفي رمضان سنة 1224 توفي مولانا الإمام بداره المسماة بدار الإسعاد، وكان الذي صلى عليه في جمع جَمٍّ راقمُ هذه الأحرف. ووقعت البيعة لولده مولانا الإمام المتوكل على الله، أحمد بن المنصور في الليلة التي مات فيها الإمام، وكنت أول من بايعه، ثم كنت المتولي لأخذ البيعة له من إخوته وأعمامه وسائر آل الإمام القاسم، وجميع أعيان العلماء والرؤساء، وكانت البيعة منهم في أوقات، والله المسؤول أن يجعل فيه للمسلمين صلاحًا وفلاحًا، انتهى، كلامه. أقول: وما جرى لحضرة الأستاذ - رضي الله عنه - من ولاية القضاء، جرى لنا أيضًا مثله من ولاية فصل الخصومات في منزلنا هذا، من جهة واليته - أصلح الله حالها ومآلها - وكان ذلك على إكراه منا، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

446 - السيد علي بن عبد الله بن أحمد، جلال الصنعاني

إنَّ الولايةَ ليس فيها راحةٌ ... إلا ثلاثٌ يبتغيها العاقلُ حكمٌ بحقًّ أو إزالةُ باطل ... أو نفعُ محتاجٍ، سواها باطلُ ثم أقول والحالة هذه: لعمرُكَ إنَّ لي نفسًا تَسامَى ... إلى ما نيل دار ابنِ دارا فمِنْ هذا أرى الدنيا هباءً ... ولا أرضى سوى الفردوسِ دارا اللهمَّ يا مالك الملك! اجعلني في حل مما أنا فيه، واجعل باقي عمري خيرًا من ماضيه، ولا تجعلْني ممن قلت فيهم: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]، وإن كانت والية هذه الحوزة الإسلامية في محاسن صفاتها ومكارم ذاتها - حفظها الله تعالى - سيدة الرؤساء الحاضرين وتاجهم، ولا أقدر على أن أبوح بما تفضلَتْ به عليَّ من عطاياها؛ فإنها لا تحملها إلا مطاياها، جعلها الله تعالى وإيانا من إمائه وعبيده الصلحاء، وختم لها ولنا بالحسنى. 446 - السيد علي بنُ عبدِ الله بنِ أحمدَ، جلالُ الصنعانيُّ. ولد في سنة 1169، وقرأ على علماء صنعاء؛ كصاحب "البدر التمام"، والسيد عبد القادر الكوكباني. قال الشوكاني - رح -: برع في الحديث والتفسير، وشارك في الفروع مشاركة قوية، وتتبع الأدلة، فعمل بها، ولم يقلد أحدًا، وانتفع به الطلبة في جميع الفنون، وأخذوا عنه في جميع علوم الاجتهاد، وفيهم من النبلاء جماعة كثيرة، وهو من محاسن العصر، وأفراد الدهر، مُكِبٌّ على العلوم في جميع الأوقات، قويُّ الحفظ، سريعُ الفهم، صحيحُ الذهن، جعله مولانا الإمام من جملة قضاة صنعاء، وعظمه بما يستحقه بعد أن عرفته بجلالة مقداره، وأشرت إليه بنصبه، وقد دار بيني وبينه مباحثات نافعة، ومراجعات جيدة، ومطارحات أدبية، وترافقنا في القراءة على شيخنا المغربي في "الكشاف"، وفي "شرح بلوغ المرام". توفي - رح - في سنة 1240، انتهى.

447 - علي بن قاسم حنش، وزير الإمام المهدي

447 - علي بن قاسم حنش، وزيرُ الإمام المهدي. ولد سنة 1143، سكن بصنعاء، وهو من نوادر الدهر في جميع أوصافه، وله في العلم حظ وافر، وفي الأدب سهم قامر، وقد رأى نفسه أميرًا، كما رآها فقيرًا، تارة في اليفاع، وتارة في أخفى البقاع، وهو الآن في قيد الحياة قد جاوز السبعين. ومن محاسن كلامه الذي سمعته منه قوله: الناس على طبقات ثلاث: فالطبقة العليا: العلماءُ الأكابر، وهم يعرفون الحق من الباطل، وإن اختلفوا، لم تنشأ عن اختلافهم الفتن؛ لعلمهم بما عند بعضهم بعضًا، والطبقة السافلة: العامة، وهم على الفطرة، لا ينفرون عن الحق، وهم أتباع من يقتدون به، إن كان محقًا، كانوا مثله، وإن كان مبطلاً، كانوا كذلك، والطبقة المتوسطة: هي منشأ الشر، وأصل الفتن الناشبة في الدين، وهم الذين لم يُمْعِنوا في العلم حتى يرتقوا إلى رتبة الطبقة العليا، ولا تركوه حتى يكونوا من أهل الطبقة السافلة، فإنهم إذا رأوا أحدًا من أهل الطبقة العليا يقول بقول لا يعرفونه؛ مما يخالف عقائدهم التي أوقعهم فيها القصور، فَوَّقوا إليه سهامَ التقريع، ونسبوه إلى كل قول شنيع، وغيروا فطرة أهل الطبقة السفلى على قبول الحق تمويهات باطلة، فعند ذلك تقوم الفتن الدينية على ساق. هذا معنى كلامه الذي سمعناه منه، وقد صدق، فإن من تأمل ذلك، وجده كذلك. مات - رحمه الله تعالى - سنة 1219، انتهى كلام الشوكاني - رضي الله عنه -. 448 - علي بن محمد الشوكاني. هو والد قاضي القضاة شيخنا وبركتنا محمد بن علي الشوكاني، ذكر له في "البدر الطالع" ترجمة حافلة حسنة نافعة، وأوصل نسبه الشريف بعد التنقيح الكامل والتصحيح الشامل أبا عن جد إلى هود - عليه السلام -، وبين ما فيه من الاختلاف إلى أبي البشر آدم - عليه السلام -. وقال: إن شوكان اسمُ موضع، وبعدما بسط في تحقيق ذلك، قال: إنه من قرية هجرة شوكان، وهذه الهجرة قرية معمورة بأهل فضل وصلاح ودين من قديم الزمان، ولم تَخْلُ قط من وجود عالم كامل، مرة في بطن، وأخرى في بطن، ولهم عند سلف الأئمة جلالة

449 - علي بن محمد بن علي الشوكاني - ولد شيخنا العلامة الشوكاني

عظيمة، وفيهم رؤساء كبار ناصروا الأئمة، ولا سيما في حروب الأتراك؛ فإن لهم في ذلك اليد البيضاء، وقد اشتهر جماعة من أهل المحل المذكور - أعني: هجرة شوكان - بالعلم والفضل، فمنهم: العلامة الحسين بن علي الشوكاني، وأحمد بن سعيد الهبل، ومحمد بن أحمد الهبل - عم أم شيخنا الشوكاني -، ومنهم: حسن بن صالح الشوكاني، ومنهم: والد الإمام الشوكاني المترجَم له، برع في علم الفقه والفرائض، وكان بقيةَ السلف في التفسير والحديث، ودرَّس وأفتى، وولاه الإمامُ المهدي العباسُ بن الحسين القضاءَ بالجهات الخولانية - خولان صنعاء -، ثم اعتذر عنه، فولاه القضاء بصنعاء، قال في "البدر الطالع": ولقد كان - تغشاه الله برحمته ورضوانه - من عجائب الزمن، ومَنْ عرفه حقَّ المعرفة، تيقن أنه من أولياء الله. ولقد بلغ بي إلى حد من البر والشفقة والإعانة على طلب العلم وقيام بما احتاج إليه مبلغًا عظيمًا؛ بحيث لم يكن لي شغلة بغير الطلب، فجزاه الله خيرًا، وكافاه بالحسنى، وهو في آخر أيامه قرأ علي في "صحيح البخاري"، ولم يزل مستمرًا على حاله الجميل، معرضًا عن القال والقيل، ماشيًا على أهدى سبيل حتى توفاه الله سنة 1211. ولم يباشر شيئًا مما يتعلق بالقضاء قبل موته بنحو سنتين، بل تجرد للاشتغال بالطاعة، والمواظبة على الجُمَع والجماعة، ولم يكن له التفات إلى غير أعمال الآخرة - رح -. وترك ولدين: أكبرهما محمد، وهو جامع هذا الكتاب، ويحيى، وهو الآن مشتغل بقراءة علوم الاجتهاد، وقد انتفع في أنواع منها، مع كمال اشتغاله بعلم الفروع، انتهى. 449 - علي بن محمد بنِ عليِّ الشوكاني - ولدُ شيخنا العلامة الشوكاني. ولد يوم عاشوراء من محرم سنة 1217، وتلمذ على القاضي عبد الله العنسي، ويحيى الرومي، وأحمد الكبسي، وعلي الطفري، قال في "البدر الطالع": هو حسن الفهم، جيد التصور، قوي الإدراك، وهو الآن في حال الطلب في علوم الاجتهاد، مع عناية تامة، وحرص كامل، وله سماع في الكتب

450 - السيد علي بن محمد بن أبي القاسم، مؤلف "تجريد الكشاف"

الحديثية عليَّ، وفي شرحي للمنتقى، وفي مؤلفي "السيل الجرار"، وفي تفسيري، وغير ذلك مع الطلبة، فتح الله عليه أبواب معارفه، وجعله من العلماء العاملين، ورفع شأنه، وبارك فيه، وجعله لي قرة عين بحوله وطوله، وهو في كل مدة يسيرة يزداد عرفانًا، ويكتسب علمًا وتحقيقًا، حتى صار الآن من أعيان أهل العلم بصنعاء، انتهى. ومن مؤلفاته كتاب "الدرر الفاخرة الشاملة على سعادة الدنيا والآخرة"، وهو عندي، انتفعت به، وقد جمع فتاوى والده في مجلدين، وسماه: "الفتح الرباني في فتاوى الشوكاني"، وهو مشتمل على أبحاث شريفة، ورسائل مجموعة لطيفة، ومسائل نظيفة، تتعلق بعلم التفسير، والحديث والفقه، والأصول واللغة وغيرها، وقد استفدت منها في كتابي "دليل الطالب على أرجح المطالب"، وهو كتاب نافع جدًا. 450 - السيد علي بن محمد بن أبي القاسم، مؤلف "تجريد الكشاف". له تفسير في ثمانية مجلدات، تلمذ عليه الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير، ولما ترك ابن الوزير التقليد وصار متبحرًا في المعارف والعلوم، قام عليه صاحب الترجمة بالإنكار، وأرسل إليه برسالة تدل على عدم الإنصاف ومزيد التعصب، فحرر ابن الوزير في جوابه كتابه "العواصم والقواصم"، قال في "البدر الطالع"، وهو الكتاب الذي لم يؤلف في هذه الديار اليمنية مثله، انتهى. وهذا الكتاب ومختصره المسمى "بالروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم" موجودان عند راقم هذه الأحرف. 451 - السيد علي بن محمد بن علي، عالم الشرق، المعروف بالسيد الشريف الجرجاني. من أولاد محمد بن زيد الداعي، ولد سنة 740، كان علامة مشهورًا في الآفاق، ذكر الشوكاني مؤلفاته، وقال: كان مقريًا مفتيًا، أخذ عنه الأكابر، وهو والسعد التفتازاني حجتان في العلوم، عند علماء المعجم ونبلاء الروم، وجرى بينهما مباحثات في مجلس تيمور الأعرج، ثم اختلف الناس في أن أيهما محق،

452 - فرج بن برقوق الجركسي، الملقب بناصر

وهذا الاختلاف دائر بين أهل العلم في جميع الأزمنة، ومال علماء الروم إلى ترجيح جانب الشريف، وافتخر الناس بأخذ العلوم منه. توفي - رح - سنة 814، أو سنة 816 في شيراز. 452 - فرج (¬1) بن برقوق الجركسي، الملقب بناصر. ولد سنة 751. قال في "البدر الطالع": وكان سلطانًا مهيبًا، فارسًا كريمًا، فتاكًا ظالمًا جبارًا، منهمكًا على الخمر واللذات، طامعًا في أموال الناس، والعجب أن هذا السلطان المشتمل على هذه الأوصاف، هو المحدث للمقامات في بيت الله الحرام، التي كانت سببًا لتفريق الجماعات، واختلاف القلوب، والتباين الكلي في أشرف بقاع الأرض، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وليس العجب من صاحب الترجمة، فإنها إحدى مساويه وجهالاته. ولكن العجب من تقرير مَنْ بعده لذلك، وسكوت العلماء إلى الآن، وقد ذكر قطب الدين الحنفي في الأعلام ما يدل على أنه أنكر هذه الجماعات علماءُ ذلك العصر، فقال في ترجمة السلطان سليم خان - سلطان الروم - ما لفظه: أن تعدد الجماعات في مسجد واحد لاستقلال كل مذهب بإمام، ما أجازه كثير من العلماء، وأنكروه غاية الإنكار في ذلك العهد، ولهم في ذلك العصر رسالات متعددة بأيدي الناس إلى الآن، وإن علماء مصر أفتوا بعدم جواز ذلك، وخطؤوا من قال بجواز ذلك، انتهى. ¬

_ (¬1) الملك الناصر فرج، يُكْنى بأبي السعادات (749 - 815 هـ 1348 - 1412 م) ابن الملك الظاهر برقوق سلطان مصر، وهو من المماليك البرجيين، اعتلى العرش مرتين (802 - 808 هـ 1399 - 1405 م) و (1405 - 1412)، ومات قتيلاً. وهو الذي أحدث تعدد الجماعات المعروفة بالأربع المقامات في المسجد الحرام، وأنكر ذلك العلماء الأعلام؛ حيث إنه لم يوجد نص يقتضي جواز ذلك، وهذا مما يدعو إلى التعصب والتفرقة بين الملة الإسلامية. ولم يتمكن أحد من الملوك السابقين من إزالة ذلك ما عدا الحكومة السعودية، وبذلك قضت على التعصب الموجود سابقًا، وفي الوقت الحاضر ملك الحجاز ونجد وملحقاتها هو صاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود (1382 هـ - 1963 م).

453 - السيد قاسم بن أحمد بن عبد الله

453 - السيد قاسم بن أحمد بن عبد الله. من نسل الإمام المهدي، ولد سنة 1166. عالم عارف شاعر أديب فقيه، حرر له في البدر الطالع ترجمة حسنة، وقال: قد استمر الاتصال بيني وبينه زيادة على خمس عشرة سنة، قلَّ أن يمضي يوم من الأيام لا نجتمع فيه، ثم ذكر بعض المطارحات الأدبية التي جرت معه، وذكر أبياته وأشعاره، وفي تلك الأبيات حطَّ على الصوفية، قال: فأجبته برسالة، وقد أوضحت في تلك الرسالة حال كل واحد من هؤلاء، وأوردت نصوص كتبهم، وبينت أقوال العلماء في شأنهم، وكان تحرير هذا الجواب في عنفوان الشباب، وأنا الآن أتوقف في حال هؤلاء، وأتبرأ من كل ما كان من أقوالهم مخالفًا لهذه الشريعة البيضاء الواضحة التي ليلُها كنهارها، ولم يتعبدني الله بتكفير من صار في ظاهر أمره من أهل الإسلام، وهَبْ أن المراد بما في كتبهم، وما نُقل عنهم من الكلمات المستنكرة المعنى الظاهر المدلول العربي، وأنه قاض على قائله بالكفر البواح، والضلال الصراح، فمن أين لنا أن قائله لم يتب عنه؟ ونحن لو كنا في عصره، بل في مصره الذي يعالج فيه سكرات الموت، لم يكن لنا إلى القطع بعدم التوبة سبيل؛ لأنها تقع من العبد بمجرد عقد القلب ما لم يغرغر بالموت، فكيف وبيننا وبينهم من السنين عدة مئين؟ ولا يصح الاعتراض على هذا بالكفار، فيقال: هذا التجويز ممكن في الكفار على اختلاف أنواعهم؛ لأنا نقول: فرقٌ بين مَنْ أصله الإسلام، ومن أصلُه الكفر؛ فإن الحمل على الأصل مع اللبس هو الواجب، لا سيما والخروج من الكفر إلى الإسلام لا يكون إلا بأقوال وأفعال، لا بمجرد عقد القلب والتوجه بالنية المشتملة على الندم والعزم على عدم المعاودة، فإن ذلك يكفي في التوبة، ولا يكفي في مصير الكافر مسلمًا، وأيضًا فرق بين كفر التأويل، وكفر التصريح، على أني لا أثبت كفرًا لتأويل كما حققته في غير هذا الموطن، وفي هذه الإشارة كفاية لمن له هداية، وفي ذنوبنا التي قد أثقلت ظهورنا لقلوبنا أعظم شغلة، وطوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب غيره، و"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، فالراحلة التي قد حملت ما لا تكاد تنوء به إذا وضع عليها زيادة عليه،

انقطع ظهرها، وقعدت على الطريق قبل وصول المنزل، وبلا شك أن التوثب على ثلب أعراض المشكوك في إسلامهم - فضلاً عن المقطوع بإسلامهم - جرأة عظيمة غير محمودة، فربما كذب الظن، وبطل الحديث، وتقشعت سحائب الشكوك، وتجلت ظلمات الظنون، وطاحت الدقائق، وحقت الحقائق، كان يومًا يفر المرء فيه من أبيه، ويَشِحُّ بما معه من الحسنات عن أحبابه وذويه، لحقيق بأن يحافظ فيه على الحسنات، ولا يدعها يوم القيامة نهبًا بين قوم قد صاروا تحت أطباق الثرى قبل أن يخرج إلى هذا العالم بدهور، وهو غير محمود على ذلك ولا مأجور، فهذا ما لا يفعله بنفسه العاقل، وأشد من ذلك أن ينثر جراب طاعاته، وينثل كنانة حسناته على أعدائه غير مشكور بل مقهور، وهكذا يُفعل عند الجُثُوَّ للحساب بين أيدي الجبار بالمغتابين والهمَّازين والنمَّامين واللمَّازين، فإنه علم بالضرورة الدينية: أن مظلمة العرض كمظلمة المال والدم، ومجرد التفاوت في مقدار المظلمة لا يوجب عدم اتصاف ذلك الشيء المتفاوت أو بعضه بكونه مظلمة، فكل واحدة من هذه الثلاث مظلمة لآدمي، وكل مظلمة لا تسقط إلا بعفوه، وما لم يعف عنه باقٍ على فاعله يوافي عرصات القيامة. فقل لي! كيف يرجو من ظلم ميتًا بثلب عرضه أن يعفو عنه، ومن ذاك الذي يعفو في هذا الموقف، وهو أحوجُ ما كان إلى ما يقيه من النار، وإذا التبس عليك هذا، فانظر ما نجده من الطباع البشرية في هذه الدار، فإنه لو ألقي الواحد من هذا النوع الإنساني إلى نار من نيران هذه الدنيا، وأمكنه أن يتقيها بأبيه، أو بأمه، أو بابنه، أو بحبيبه، لفعل، فكيف بنار الآخرة التي ليست نار هذه الدنيا بالنسبة إليها شيئًا. ومن هذه الحيثية قال بعض من نظر بعين الحقيقة: لو كنت مغتابًا أحدًا، لاغتبت أبي وأمي؛ لأنهما أحق بحسناتي التي تؤخذ مني قصرًا، وما أحسنَ هذا الكلام! ولا ريب أن أشد أنواع الغيبة وأضرَّها وأشرَّها وأكثرَها بلاءً وعقابًا ما بلغ منها إلى حد التكفير واللعن، فإنه قد صح أن تكفير المؤمن كفر، ولعنه راجع على فاعله، وسبابه فسوق، وهذه عقوبة من جهة الله سبحانه، وأما من وقع له

454 - السيد قاسم بن أمير المؤمنين المتوكل على الله، من نسل الإمام المهدي عباس بن منصور

التكفير واللعن والسب، فمَظْلَمَتُه باقية على ظهر المكفِّر واللاعن والسابِّ، فانظر كيف صار المكفر كافرًا، واللاعن ملعونًا، والسابُّ فاسقًا، ولم يكن ذلك حد عقوبته، بل غريمه ينتظره بعرصات المحشر ليأخذ من حسناته، أو يضع عليه من سيئاته بمقدار تلك المظلمة ومع ذلك فلا بد من شيء غير ذلك، وهو العقوبة على مخالفة النهي؛ لأن الله تعالى قد نهى في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الغيبة بجميع أقسامها، ومخالفُ النهي فاعلُ محرَّم، وفاعل المحرم معاقَبٌ عليه. وهذا عارضٌ من القول جرى به القلم، ثم أحجم عن الكلام، سائلاً من الله حسن الختام، انتهى. 454 - السيد قاسم بنُ أمير المؤمنين المتوكل على الله، من نسل الإمام المهدي عباس بن منصور. قال في "البدر الطالع": ولد سنة 1211، ونشأ في حجر الخلافة نَشْئًا طاهرًا، فلما قارب سن البلوغ، قرأ "بلوغ المرام" على محمد بن عابد السندي، ثم حفظه عن ظهر قلب، ووصل إليّ، وأسمعه عليَّ مِنْ حفظِه من أوله إلى آخره، والكتاب بيدي، فسبحان الفاتح المانح، وهو الآن يسمع علي "صحيح البخاري" و"مسلم"، ويواظب على ذلك مواظبة عظيمة، ويفهم فهمًا جيدًا، ويحفظ حفظًا صالحًا، مع اشتغاله بقراءة علم الآلة، وإكبابه على مطالعة الكتب الحديثية، وله بالسنة المطهرة شغف عظيم، ومحبة زائدة، ويعمل بكل ما صح منها، ولا يبالي أطارَ لومُ مَنْ يلومه أو وقع، ولا يلتفت إلى من يريد صده عن ذلك؛ لأنه قد عرف أن هذا هو الحق الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه، ووالده مولانا الإمام يرغبه في ذلك، ويقوي عزمه عليه، ويُعْجِبه ما يرى منه، والحمد لله الذي أخرج من هذا البيت الشريف مثلَ هذا الفاضل - زاده الله علمًا وكمالاً، وعملاً بالحق، وانقيادًا له، وجعله من أنصار السنة المطهرة -. وعمره عند تحرير هذه الترجمة نحو تسع عشرة سنة، انتهى. 455 - السيد قاسم بنُ عبد البر بنِ محمدٍ الكوكبانيُّ. ولد سنة 1173. قال الشوكاني في "البدر الطالع": وهو الآن بدر طالع

456 - لطف الباري بن أحمد، خطيب صنعاء

بكوكبان، قد حمل خافقة لواء الآداب، وسلم له السبق أبناءُ هذا الشأن، وله في العلم باع وساع واطلاع أي اطلاع، وله تقريظ لشرحي على "المنتقى" في غاية الحسن والجودة. مات فجاءة في شهر محرم سنة 1216، انتهى - رحمه الله تعالى -. 456 - لطف الباري بنُ أحمدَ، خطيبُ صنعاء. تلمذ على العلامة قاسم الكبسي، وأحمد القاطن، قال في "البدر الطالع": برع في جميع العلوم لا سيما علم الحديث والتفسير، فإنه فيهما من المبرزين، ولا ينطق لسانه إلا بذكر الله، أو بالموعظة والتذكير، أو بإملاء أو تفسير كتاب الله، وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولوعظه في القلوب وَقْع، ولكلامه في النفوس تأثير، مع فصاحة زائدة، وحسن سَمْت، ورجاحة عقل، وجمال هيئة، وله أتمُ عناية، وأكملُ رغبة بالعمل بما جاءت السنة، والمشي على نمط السلف الصالح، وعدم التقيد بالرأي، وأنا سمعت مجالس تفسيرهَ للقرآن، ومواقفَ إملائِه للحديث، ولكن كان ذلك حضورًا فقط، انتهى. 457 - محمد بن أحمد بنِ سعدٍ، السوديُّ، الصنعانيُّ. ولد سنة 1178. قال في "البدر الطالع": حفظ القرآن، ثم لازمني منذ ابتداء طلبه إلى انتهائه، وهو الآن يقرأ عليّ في شرحي للمنتقى، وفي مؤلفي المسمى بالدرر، وشرحه المسمى بالدراري، وغير ذلك من مصنفاتي، وقد برعَ في جميع الفنون، وفاقَ الأقران، ودرَّس الطلبة بالجامع المقدس، وهو الآن من أعيان علماء صنعاء، ومن أعظم المفيدين للطلبة، وله عمل بما يرجحه من الأدلة، وطرح للتقليد، ومحبة للحق، والقياد للصواب، وقوة عارضة، وقدرة على المناظرة، وحسن تطبيق للأدلة على القواعد الأصولية، مع علو همة، وشهامة نفس، وتعفف وقنوع وانجماع، لا سيما عن بني الدنيا، وله أشعار فائقة، وقد صار الآن قاضيًا من قضاة صنعاء، وللناس إليه رغوب، ثم مات - رحمه الله - في سنة 1236 الهجرية، وتأسف عليه الناس؛ لانتفاع الطلبة به، وانتفاع العامة بقضائه.

458 - محمد بن أحمد بن سليمان، الشافعي، المعروف بابن خطيب داريا

458 - محمد بنِ أحمد بنِ سليمان، الشافعيُّ، المعروف بابن خطيب داريا. ولد سنة 745، واشتهر بوفور الذكاء، حتى إنه كان يقتدر على تصوير الباطل حقًا، والحق باطلاً، والغالب عليه المُجون والهزل، مع تقدمه في فنون الأدب، حتى صار شاعر الشام في وقته بلا مدافع، وسلك آخِرَ مدته طريقة مثلى في التصوف والتعفف. له مصنفات جليلة، منها: أرجوزة نحو ثلاث مئة بيت، ذكر فيها من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة، وعدد ما روى كل واحد من الحديث، "ونهاية الأمنيات في الكلام على حديث: إنما الأعمال بالنيات"، وكان قد صاهر المجد اللغوي، فلازمه وسمع معه على جماعة، [مات سنة 811، انتهى]. وهو القائل: يا عينُ إن بَعُدَ الحبيبُ ودارُه ... ونَأَتْ مَرابعُه وشَطَّ مَزارُهُ فلقد حظيتِ من الزمانِ بطائلٍ ... إن لم تَرَيه فهذهِ آثارُهُ له - رح -: لعمرُك ما في الأرض من يُسْتَحَى له ... ولا مَنْ يُدارى أو يُخافُ له عَتْبا فَعِشْ مُلقِيًا عنكَ التكلُّفَ جانبًا ... ولا تَرْضَ بينَ الناسِ من أحدٍ قُرْبا 459 - محمد بن أحمدَ بنِ عبد الهادي، المقدسي، شمس الدين، بن قدامة المقدسي. الفقيه المحدث الحافظ، الناقد النحوي المتفنن، ولد في رجب سنة 705 أو سنة 704، سمع من التقي سليمان، وابن سعد، وطبقتهم، وتفقه بابن مسلم، وتردد إلى ابن تيمية، ومهر في الحديث، قال الصفدي: لو عاش، لكان آية، كنت إذا سألته عن مسائل أدبية، وفوائد عربية، ينحدر كالسيل، وكنت أراه يَرُدُّ على المِزَّي في أسماء الرجال، فيقبل منه. وقال الذهبي في "معجمه المختص": الفقيه البارع، المقرىء المجود، الحافظ، النحوي، الحاذق في الفنون، كتب عليَّ، واستفدت منه. وقال ابن كثير: كان حافظًا علامة ناقدًا، حصل من العلوم

460 - محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، الحافظ الكبير

ما لا يبلغه الشيوخ الكبار، وبرع في الفنون، وكان جبلاً في العلل والطرق والرجال، حسنَ الفهم جدًا، صحيحَ الذهن، له كتاب "الأحكام" في ثمان مجلدات، والردّ على السبكي في رده على ابن تيمية، و"المحرر" في الحديث، وشرع في كتاب "العلل"، ولم يكمل، قال الذهبي: ما اجتمعت به قط إلا واستفدت منه، مات سنة 744، وكان عمره دون أربعين سنة، وتأسف الناس عليه، هكذا في "البدر الطالع". قال ابن رجب: سمع الكثير، وعُني بالحديث وفنونه، وتفقه في المذهب، وأفتى، وقرأ الأصلين، والعربية، وبرع فيها، ولازم الشيخ تقي الدين بن تيمية مدة، ولازم المزي الحافظ حتى برع في الرجال، وأخذ عن الذهبي وغيره، وقد ذكره الذهبي في "طبقات الحفاظ"، فقال: ولد سنة خمس أو ست وسبع مئة، وله توسع في العلوم، وذهن سيال، تصدى للإفادة والاشتغال بالقرآن والحديث، وذكره في "معجمه المختص"، وقال: عني بفنون الحديث، ومعرفة رجاله، وله عدة محفوظات وتعاليق وتواليف مفيدة، كتب عني، واستفدت منه، درَّس بالحديث وبغيره بالسفح، وكتب بخطه الحسن المتقن الكثير، فمن تصانيفه: "الأحكام الكبرى"، وكتاب "العمدة في الحفاظ"، والكلام على أحاديث كثيرة فيها ضعف من "المستدرك" للحاكم وغيره، و"الإعلام في ذكر مشايخ الأئمة الأعلام"، و"ترجمة الشيخ تقي الدين بن تيمية" مجلد، و"منتقى من تهذيب الكلام" للمزي، و"منتخب من سنن البيهقي وسنن أبي داود"، وقد عد ابن رجب من مؤلفاته ما يزيد على خمسين كتابًا، وقال: حدث بشيء من مسموعاته، وسمع منه غير واحد، وقد سمعت من ابنه، فإنه عاش بعده نحو عشر سنين، قال: وتوفي سنة 744، ودفن بسفح قاسيون، وشيعه، خلق كثير، وتأسفوا عليه، ورئيت له منامات حسنة - رحمه الله تعالى رحمة واسعة -. 460 - محمد بن أحمد بنِ عثمانَ بنِ قايماز الذهبيُّ، الحافظُ الكبير. ولد سنة 673. قال في "البدر الطالع": وأجاز له في سنة مولده جماعة بعناية أخيه من الرضاع، أخذ عن الدمياطي، وابن الصواف، ومهر في فن الحديث،

وجمع فيه المجاميع المفيدة الكثيرة. قال ابن حجر: حتى كان أكثرَ أهل عصره تصنيفًا، وجمع "تاريخ الإسلام"، فأربى فيه على مَنْ تقدمه بتحرير أخبار المحدِّثين خصوصًا، انتهى، ولعل "تاريخ الإسلام" في زيادة على عشرين مجلدًا، وقفت منه على أجزاء، وله "الميزان" في نقد الرجال جعله مختصًا بالضعفاء الذين قد تكلم فيهم متكلم، وإن كانوا غير ضعفاء في الواقع، ولهذا ذكر فيه مثل ابن معين، وعلي بن المديني؛ باعتبار أنه قد تكلم فيهما متكلم، وهو كتاب مفيد، وجميع مصنفاته مقبولة مرغوب فيها، رحل إليه الناس لأجلها، وأخذوها عنه وتداولوها، وقرؤوها وكتبوها في حياته، وطارت في جميع بقاع الأرض. وله فيها تعبيرات رائقة، وألفاظ رشيقة غالبًا، لم يسلك فيها مسلك أهل عصره، ولا مَنْ قبلهم، ولا مَنْ بعدهم، وقد أكثر التشنيع عليه تلميذُه السبكي، وذكر في مواضع من "طبقاته" ولم يأت بطائل، بل غاية ما قال: إنه كان إذا ترجم الظاهرية والحنابلة، أطال في تقريظهم، وإذا ترجم غيرهم من شافعي أو حنفي، لم يستوف ما يستحقه، وعندي: أن هذا مثل ما قال الأول: ع * تلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها *. فإن الرجل قد ملىء حبًا للحديث، وغلب عليه، فصار الناس عنده هم أهله، وأكثر محققيهم وأكابرهم هم من كان يطيل الثناء عليه، لا من غلب عليه التقليد، وقطع عمره في الاشتغال بما لا يفيد. ومن جملة ما قاله السبكي: إنه كان إذا أخذ القلم، غضب حتى لا يدري ما فيقول. وهذا باطل؛ فإن مصنفاته تشهد بخلاف هذه المقالة، وغالبُها الإنصاف والذبُّ عن الأفاضل، وإذا جرى قلمه بالوقيعة في أحد، فإن لم يكن من معاصريه، فهو إنما روى ذلك عن غيره، وإن كان من معاصريه، فالغالب أنه لا يفعل ذلك إلا مع من يستحقه، وإن وقع ما يخالف ذلك نادرًا، فهذا شأن البشر، وكل أحد يؤخذ منه ويُترك إلا المعصوم، والأهوية تختلف، والمقاصد تتباين، وربك يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. قال الصفدي: لم يكن عنده

461 - محمد بن أحمد بن محمد، يعرف بالجلال المحلي

جمود المحدثين، بل كان فقيه النفس، له دراية بأقوال الناس، مات - رحمه الله تعالى - في سنة 748. قال الصلاح الكتبي: أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأبان الإيهام في تواريخهم والإلباس، جمع الكثير، ونفع الجمَّ الغفير، وأكثر التصنيف، ووقر بالاختصار معرفة التطويل في التأليف، وقف ابن الزملكاني على "تاريخ الإسلام"، وقال: هذا كتاب جليل. ومن شعره: إذا قرأ الحديثَ عليَّ شخصٌ ... وأخلى موضعًا لوفاة مثلي فما جازى بإحسان لأني ... أريدُ حياتَه ويريدُ قتلي وقال أيضًا: العلمُ قالَ اللهُ قالَ رسولُه ... إنْ صحَّ بالإجماع، فاجهدْ فيه وحَذار من نصبِ الخلافِ جهالةً ... بينَ الرسولِ وبينَ رأيِ فقيه انتهى. 461 - محمد بن أحمد بنِ محمد، يُعرف بالجلال المحلي. ولد في سنة 791 بالقاهرة، وأخذ عن البلقيني، والعراقي، والعز بن جماعة، والحافظ ابن حجر، وتفنن في العلوم النقلية والعقلية، وعمل لنفسه منسكًا وتفسيرًا لم يكمل، وإذا ظهر له الصواب على يد من كان رجع إليه. قال السخاوي: وترجمتُه تحتمل كراريس، وقد حج مرارًا، مات سنة 864، وتأسف الناس على فقده، ولم يخلف بعده في مجموعة مثله، كذا في "البدر الطالع". 462 - محمد بن أحمد مشحم، الصعديُّ الأصل، الصَّنعانيُّ المولد. قال في "البدر الطالع": ولد سنة 1186، وقرأ في سائر العلوم، وشارك في سائر الفنون، له ذهن قويم، وفهم جيد، وذكاء متوقد، وحسن تصور باهر، وقوة إدراك مفرط، وهو ممن لا يعول على التقليد، بل يعمل بما ترجحه الأدلة، ولاه مولانا الإمام المنصور بالله القضاءَ بصنعاء من جملة قضاتها، ثم حج، ثم نُقل إلى قضاء الحديدة، وهو الآن هنالك مستمر على القضاء، بيني وبينه مودة أكيدة، ومحبة زائدة، ثم رغب عن القضاء لأجل ما حصل من الفتن بتهامة،

463 - محمد بن أحمد، الشاطبي، الصنعاني

ووصل إلى صنعاء، وأخذ عني في فنون الحديث، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى في رجب سنة 1223، انتهى. 463 - محمد بن أحمد، الشاطبيُّ، الصنعانيُّ. ولد تقريبًا سنة 1210، وقرأ على المشايخ في الآلات والحديث، وله قراءة عليَّ في "السيل الجرار". وهو قوي الفهم، صحيح التصور، من عباد الله الصالحين، ومن العاملين بالأدلة، الماشين على الطريقة النبوية، المؤثرين لها على الرأي، وكذلك والده العالم الفاضل الزاهد العابد - أكثر الله في أهل العلم من أمثالهما -. وقرأ عليّ أيضًا في مؤلفي "نيل الأوطار"، و"فتح القدير"، و"إرشاد الفحول"، وفي غير ذلك، وحصلها بخطه، وفي كثير من مجاميع الحديث من الأمهات وغيرها، وهو الآن من أكابر العلماء، ومحاسن الفضلاء، وله سماع عليَّ في دواوين الإسلام سماعًا محققًا، مع معرفة تامة بعلم السنة، وحفظ لها، ومعرفة حالها، والحاصل: أنه الآن من أفراد علماء صنعاء ومحققيهم. 464 - السيد محمد بنُ إسماعيلَ بنِ صلاح، الأميرُ الكحلانيُّ، ثم الصنعانيُّ. قال في "البدر الطالع": الإمام الكبير، المجتهد المطلق، ولد سنة 1099 بكحلان، ثم انتقل مع والده إلى مدينة صنعاء، وأخذ عن علمائها، ورحل إلى مكة، وقرأ الحديث على أكابر علمائها، وعلماء المدينة، وبرع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، وتظهر بالاجتهاد، وعمل بالأدلة، ونفر عن التقليد، وزيف ما لا دليل عليه من الآراء الفقهية، وجرت له مع أهل عصره خطوب ومحن، وحفظه الله من كيدهم ومكرهم، وكفاه شَرَّهم، وولاه الإمام المنصور الخطابة بجامع صنعاء، واستمر ناشرًا للعلم تدريسًا وإفتاء وتصنيفًا، وكانت العامة ترميه بالنصب، مستدلين على ذلك بكونه عاكفًا على الأمهات، وسائر كتب الحديث، عاملاً بما فيها، ومن صنع هذا الصنعَ، رمته العامة بذلك، ولا سيما إذا تظهر بفعل شيء من سنن الصلاة؛ كرفع اليدين وضمهما، ونحو ذلك؛ فإنهم ينفرون عنه، ويعادونه، ولا يقيمون له وزنًا،

وليس الذنب معاداة لمن كان كذلك للعامة الذين لا تعلق لهم بشيء من المعارف العلمية، فإنهم أتباع كل ناعق، إذا قال لهم مَنْ له هيئةُ أهلِ العلم: إن هذا الأمر حق، قالوا: حق، وإن قال: باطل، قالوا: باطل، إنما الذنب لجماعة قرؤوا شيئًا من كتب الفقه، ولم يمعنوا فيها، ولا عرفوا غيرها، فظنوا - لقصورهم - أن المخالفة لشيء منها مخالفة للشريعة، بل لقطعي من قطعياتها، مع أنهم يقرؤون في تلك الكتب مخالفة أكابر الأئمة وأصاغرهم لما هو مختار لمصنفها، ولكن لا يعقلون حقيقة، ولا يهتدون إلى طريقة، بل إذا بلغ بعض معاصريهم إلى رتبة الاجتهاد، وخالف شيئًا باجتهاده، جعلوه خارجًا عن الدين، والغالب عليهم أن ذلك ليس لمقاصد دينية، بل لمنافع دنيوية تظهر لمن تأملها، وهي أن يشيع في الناس أن من أنكر على أكابر العلماء ما خالف المذهب من اجتهاداتهم، كان من خلص الشيعة، أو تكون تلك الشهرة مفيدة في الغالب لشيء من منافع الدنيا وفوائدها، فلا يزالون قائمين وثائرين في تخطئة أكابر العلماء، ورميهم بالنصب، ومخالفة أهل البيت، فتسمع ذلك العامة، فتظنه حقًا، وتعظم ذلك المنكر؛ لأنه قد نفق على عقولها صدقُ قوله، وظنوه من المحامين عن مذاهب الأئمة، ولو كشفوا عن الحقيقة، لوجدوا ذلك المنكر هو المخالف لمذهب الأئمة من أهل البيت، بل الخارج عن إجماعهم؛ لأنهم جميعًا حرموا التقليد على من بلغ رتبة الاجتهاد، وأوجبوا عليه أن يجتهد رأي نفسه، ولم يخصوا ذلك بمسألة دون مسألة، ولكن المتعصب أعمى، والمقصر لا يهتدي إلى الصواب، ولا يخرج عن معتقده إلا إذا كان من ذوي الألباب، مع أن مسألة تحريم التقليد على المجتهد هي محررة في الكتب التي هي [في] مدارس صغار الطلبة، فضلاً عن كبارهم. قال: وقد كان كثيرٌ [من] أتباع صاحب الترجمة من الخاصة والعامة، وعملوا باجتهاده، وتظهروا بذلك، وقرؤوا عليه كتب الحديث، وما زال ناشرًا لذلك في الخاصة والعامة، غيرَ مُبال بما يتوعده به المخالفون له، ووقعت في خلال أثناء ذلك فتن كبار وقاه الله شرها، وله مصنفات حافلة جليلة، منها: "سبل السلام" اختصره من "البدر التمام" للمغربي، ومنها: "منحة الغفار" جعلها حاشية على

"ضوء النهار" للجلال، ومنها: "العدة" جعلها حاشية على "شرح العمدة" لابن دقيق العيد، ومنها: شرح التنقيح في علوم الحديث". قال: وله مصنفات غير هذا، وقد أفرد كثيرًا من المسائل بالتصنيف بما يكون جمعه في مجلدات، وله شعر فصيح منسجم، وغالبه في المباحث العلمية، والتوجع من أبناء عصره والردود عليهم. وبالجملة: فهو من الأئمة المجددين لمعالم الدين. وقد رأيته في المنام في سنة 1206 وهو يمشي راجلا وأنا راكب في جماعة معي، فلما رأيته، نزلت فسلمت عليه، فدار بيني وبينه كلام حفظت منه، قال لي: دقق الإسناد، وتأنق في تفسير كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخطر ببالي عند ذلك أنه يشير إلى ما أصنعه في قراءة "البخاري" في الجامع، وكان يحضر تلك القراءة جماعة من العلماء، ويجتمع من العوام عالَم لا يُحْصَون، فكنت في بعض الأوقات أفسر الألفاظ الحديثية بما يفهمه أولئك العوام الحاضرون. فاردت أن أقول: إنه يحضر جماعة لا يفهمون بعض الألفاظ العربية، فبادرني، وقال قبل أن أتكلم: قد علمتُ أنه يقرأ عليك جماعة، وفيهم عامة، ولكن دقق الإسناد، وتأنق في تفسير كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سألته عند ذلك عن أهل الحديث ما حالهم في الآخرة؟ فقال: بلغوا بحديثهم الجنة، أو بلغوا بحديثهم بين يدي الرحمن، - الشك مني -، ثم بكى بكاء عاليًا، وضمني إليه، وفارقني، فقصصت ذلك على بعض من له يدٌ في التعبير، وسألت عن تعبير البكاء والضم؟ فقال: لا بد أن يجري لك شيء مما جرى له من الامتحان، فوقع من بعد ذلك بعد تلك الرؤيا عجائبٌ وغرائب - كفى الله شرها -. وتوفي - رحمه الله تعالى - ثالث شعبان سنة 1182، ونظم بعضهم فكان هكذا: ع * محمدٌ في جِنانِ الخلد قد نَزَلا *، ورثاه شعراء العصر، وتأسفوا عليه. وله تلامذة نبلاء علماء مجتهدون، منهم: السيد العلامة عبد القادر الكوكباني، والقاضي أحمد قاطن، والعلامة أحمد بن أبي الرجال، وغيرهم ممن لا يحيط به الحصر، ووالدُه كان من الفضلاء الزاهدين في الدنيا، الراغبين في العمل، وله عرفان وشعر جيد، مات سنة 1142، وكان ولده هذا - صاحب الترجمة - إذ ذاك بشهارة، انتهى حاصله.

465 - محمد بن أبي بكر بن أيوب، الدرعي، الدمشقي، شمس الدين، ابن القيم

465 - محمد بن أبي بكر بنِ أيوبَ، الدرعيُّ، الدمشقيُّ، شمسُ الدين، ابنُ القَيِّم. قال ابن رجب: الفقيه الأصولي النحوي المفسر العارف، شمس الدين، أبو عبد الله، شيخُنا، سمع من الشهاب النابلسي، وفاطمة بنت جوهر، وأبي بكر بن عبد الدائم، وجماعة، وتفقه في المذهب، وبرع وأفتى، ولازم الشيخ تقي الدين بن تيمية، وأخذ عنه، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفًا بالتفسير لا يجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيها المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية، وله فيها اليد الطولى، وبعلم الكلام، وغير ذلك، وكان عالمًا بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم، له في كل فن من هذه الفنون اليد الطولى. وكان ذا عبادة وتهجُّد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتألُّهٌ ولهجٌ بذكر، وشغف بالمحبة والإنابة، والافتقار إلى الله تعالى، والانكسار له، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثلَه في ذلك، ولا رأيت أوسعَ منه علمًا، ولا أعرفَ بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله. وقد امتحن وأُوذي مرات، وحُبس مع الشيخِ تقي الدين في المرة الأخيرة منفردًا عنه، ولم يُفرج عنه إلا بعد موت الشيخ، وكان مدةَ حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر، ففُتح عليه من ذلك خيرٌ كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف، والدخول في غوامضهم، وتصانيفه ممتلئة بذلك، وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة. قال: ولازمتُ مجالسه قبل موته سنة، وسمعتُ عليه قصيدته النونية الطويلة في السنة، وأشياء من تصانيفه، وغيرها، وأخذ عنه العلمَ خلقٌ كثير من حياة شيخه وإلى أن مات، وانتفعوا به، وكان الفضلاء يعظمونه، ويتلمذون له؛ كابن عبد الهادي، وغيره.

قال القاضي برهان الدين الزرعي: ما تحتَ أديم السماء أوسعُ علمًا منه، صنف في أنواع العلم، وكان شديد المحبة للعلم، وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتناء كتبه، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره، ثم ذكر تصانيفه زيادة على ثلاثين كتابًا، منها: "شرح منازل السائرين" (¬1)، وكتاب "زاد المعاد"، وكتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، وكتاب "حادي الأرواح"، وكتاب "مفتاح دار السعادة" وكتاب "تفضيل مكة على المدينة"، وكتاب "الصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم"، وكتاب "رفع اليدين في الصلاة"، وكتاب "نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول"، قال: توفي - رحمه الله - ليلة الخميس ثالث عشرين رجب سنة 751، وشيعه خلق كثير، ورئيت له منامات كثيرة حسنة، قال ابن رجب: قرأ عليَّ شيخُنا الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، وأنا أسمع هذه القصيدة من نظمه في أول كتابه "صفة الجنة": وما ذاكَ إلا غيرةً أن ينالَها ... سوى كُفْوِها والربُّ بالخلقِ أعلمُ إلى آخرها، قلت: ولقد لخصت كتابه هذا في صفة الجنة، وفيه هذه القصيدة بتمامها، سميته: "مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام". والشيخ العلامة ابن رجب ختم كتابه "الطبقات" على ترجمة شيخه ابن القيم، وعلى هذه القصيدة له - رحمه الله تعالى -، وقد أورد في "الطبقات" جماعة عظيمة من أهل الحديث والسنة البالغين إلى درجة الإمامة والاجتهاد، ويعبر عنهم تارة بقوله: كان أثري المذهب، وتارة بقوله: كان على طريقة السلف، وتارة بما في معنى هذه الألفاظ، أخذت منه في هذا المختصر تراجم جمع من المحدثين بالإيجاز، وتركت كثيرًا منهم خشية الإطالة، وبالله التوفيق. قال العلامة الشوكاني في "البدر الطالع" في ترجمة الحافظ ابن القيم - رحمه الله تعالى -: العلامة الكبير، المجتهد المطلق، ولد سنة 691، قرأ على المجد الحراني، وابن تيمية، ودرَّس بالصدرية، وأمَّ بالجوزية، وأخذ الأصول ¬

_ (¬1) الشرح المذكور سماه "مدارج السالكين" وهذا الشرح يفوق على الشروح كلها.

عن الصفي الهندي، وابن تيمية أيضًا، وبرع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف، وغلب عليه حب ابن تيمية؛ حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي نشر علمه بما صنفه من التصانيف الحسنة المقبولة، واعتُقل مع ابن تيمية، وأُهين، وطيف به على جمل مضروبًا بالدرة. فلما مات ابن تيمية، أُفرج عنه، وامتحُن محنة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية، وكان ينال من علماء عصره، وينالون منه. قال الذهبي في "المعجم المختص": حُبس مدةً لإنكار شد الرحل لزيارة الخليل، ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم، ولكنه معجب برأيه جرى على أمور، انتهى. قلت: بل كان يتقيد بالأدلة الصحيحة، معجبًا بالعمل بها، غيرَ معوِّل على الرأي، صادعًا بالحق، لا يحابي فيه أحدًا، ونعمَتْ تلك الجرأة، وكان مغرًى بجمع الكتب، فحصل منها ما لا يحصى، وله من التصانيف: "الهدي"، و"إعلام الموقعين"، و"بدائع الفوائد"، و"جلاء الأفهام"، و"مصائد الشيطان"، و"الداء والدواء"، و"كتاب الصلاة"، و"كتاب تحفة النازلين بجوار رب العالمين"، و"الصواعق المرسَلَة على الجهمية والمعطلة" في مجلدات، وكتاب "نزهة المشتاقين وروضة المحبين"، وكتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزوة الفرقة الجهمية"، و"عدة الصابرين"، و"الفتح القدسي"، و"أقسام القرآن"، و"أيمان القرآن"، وكتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان". ذكر له نعمان ترجمته في "الروضة الغناء"، وقال: الأصولي النحوي المفسر، المفنن في علوم كثيرة، دفن تجاه المدرسة الصابونية، وبني على قبره قبة، انتهى. وقال السخاوي: العلامة الحجة، المتقدم في سعة العلم، ومعرفة الخلاف، وقوة الجنان، ورئيس أصحاب ابن تيمية الإمام، بل هو حسنة من حسناته، والمجمع عليه بين المخالف والموافق، وصاحب التصانيف السائرة، والمحاسن الجمة، انتفع به الأئمة، ودرَّس بأماكن، ثم سرد تصانيفه، فذكر منها اثنين وخمسين

466 - [شيخ الإسلام] أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، ابن تيمية، الحراني، الدمشقي، الحنبلي، تقي الدين، أبو العباس

كتابًا، قال: وله نظم كثير، ثم ذكر منه شيئًا، قال: ورئيت له منامات صالحة كثيرة، انتهى. وغالب هذه الكتب عندي موجود، وله تصانيف كثيرة سوى ذلك، مثل: "قضاء وقدر"، و"طرق السعادتين"، و"مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - "، و"نونية"، وغير ذلك. قال الشوكاني: وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وله من حسن التصرف في الكلام، مع العذوبة الزائدة، وحسن السياق، ما لا يقدر عليه غالبُ المصنفين؛ بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبه القلوب، وليس له على غير الدليل معوَّل في الغالب، وقد يميل نادرًا إلى مذهبه الذي نشأ عليه، ولكنه لا يتجاسر على الدفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة؛ كما يفعله غيره من المتمذهبين، بل لا بد له من مستند في ذلك، وغالب أبحاثه الإنصاف، والميلُ مع الدليل حيث مال، وعدمُ التعويل على القيل والقال، وإذا استوعب الكلام في بحث، وطول ذيوله، أتى بما لم يأت به غيره، وساق ما تنشرح له صدور الراغبين في أخذ مذاهبهم عن الدليل، وأظنه سرت بركة ملازمته لشيخه ابن تيمية في السراء والضراء، والقيام معه في محنه ومواساة بنفسه، وطول تردده إليه، فإنه ما زال ملازمًا له من سنة 712 إلى تاريخ وفاته. وبالجملة: فهو واحدُ مَنْ قام بنشره السنة، وجعلها بينه وبين الآراء المحدثة أعظمَ جُنة، فرحمه الله، وجزاه عن المسلمين خيرًا. وحكي عنه قبل موته بمدة: أنه رأى شيخه ابن تيمية في المنام، وأنه سأله عن منزلته - أي منزله -؟ فقال: إنه أنزل فوق فلان - وسمى بعض الأكابر -، وقال له: أنت تلحق به، ولكن أنت في طبقة ابن خزيمة، ومات في ثالث شهر رجب سنة 751، انتهى - رحمه الله تعالى -. 466 - [شيخ الإسلام] أحمدُ بنُ عبد الحليم بنِ عبدِ السلام، ابن تيمية، الحرانيُّ، الدمشقيُّ، الحنبليُّ، تقيُّ الدين، أبو العباس. قال الشوكاني في كتاب "شرح الصدور في تحريم رفع القبور": هو الإمام المحيط بمذاهب سلف هذه الأمة وخلفها، انتهى. وقال ابن فضل الله العمري

في "مسالك الأبصار": هو العلامة الحافظ المجتهد الحجة، المفسر، شيخ الإسلام، نادرة العصر، عَلَم الزهاد. وقال ابن رجب: هو الإمام الفقيه المجتهد، المحدث المفسر الأصولي. وقال الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي في "تذكرة الحفاظ": هو شيخنا الإمام الرباني، إمامُ الأئمة، ومفتي الأمة، بحرُ العلوم، سيدُ الحفاظ، فارسُ المعاني والألفاظ، فريدُ العصر، قريعُ الدهر، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علامة الزمان، ترجمة القرآن، علم الزهاد، أوحد العباد، قامع المبتدعين، علامة المجتهدين. وقال في "البدر الطالع": شيخ الإسلام، إمام الأئمة، المجتهد المطلق، ولد سنة 661. قال ابن حجر في "الدرر": نظر في الرجال والعلل، وتفقه، وتمهر، وتقدم وصنف، ودرَّس وأفتى، وفاق الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجَنان، والتوسُّع في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف، انتهى. وأقول أنا: لا أعلم بعدَ ابن حزم مثلَه، وما أظنُّ سمحَ الزمان ما بين عصرَي الرجلين بمن يشابههما أو يقاربهما. قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضى منه العجب، إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، استدل ورجح، وكان يحق له الاجتهاد؛ لاجتماع شروطه، وما رأيت أسرعَ انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشدَّ استحضارًا للمتون وعزوها منه. كانت السنة نصبَ عينيه، وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، قال: ولعل فتاواه في الفنون تبلغ ثلاث مئة مجلد بل أكثر، وكان قوالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان أبيضَ، أسودَ الرأس واللحية، قليلَ الثيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، ربعةَ من الرجال، بعيدَ ما بين المنكبين، جهوريَّ الصوت، فصيحًا، سريعَ القراءة، تعتريه حدة، لكن يقهرها بالحلم. قال: ولم أر مثله في ابتهاله واستعانته بالله،

وكثرة توجهه إليه، وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية؛ فإنه كان بشرًا من البشر، تعتريه حدة في البحث، وغضب وصدمة للخصوم، تزرع له عداوة في النفوس، ولولا ذلك، لكان كلمةَ إجماع، فإنَّ كبارَهم خاضعون لعلمه، معترفون بأنه بكر لا ساحلَ له، وكنز ليس له نظير، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالاً، وكلُّ أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الذهبي: وما كان متلاعبًا بالدين، ولا يتفرد بمسائل بالتشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس، ويبرهن ويناظر أسوة لمن تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطئه، وأجران على إصابته، انتهى. قال الشوكاني: ومع هذا، فقد وقع له مع أهل عصره قلائل وزلازل، وامتُحن مرة بعد أخرى، وحُبس حبسًا بَعد حبس، وجرت فتن عديدة، والناس قسمان في شأنه: فبعضٌ منهم مقصر به عن المقدار الذي يستحقه، بل يرميه بالعظائم، وبعض آخر يبالغ في وصفه، ويجاوز به الحدَّ، ويتعصب له كما يتعصب أهل القسم الأول عليه، وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية، ويفوق أهل عصره، ويدين بالكتاب والسنة؛ فإنه لا بد أن يستنكره المقصرون، ويقع له معهم محنة، ثم يكون أمره الأعلى وقوله الأولى، ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين، ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره، وهكذا كان حال هذا الإمام؛ فإنه بعد موته عرف الناس مقداره، واتفقت الألسن بالثناء عليه، إلا من لا يُعتد به، وطارت مصنفاته، واشتهرت مقالاته، انتهى. وقد ترجم له جماعات، منهم: الشهاب ابن فضل الله العمري في "مسالك الأبصار"، وكتب ترجمة حسنة طويلة عريضة كاملة، ومنهم: العلامة ابن رجب الحنبلي في "طبقاته"، وأثنى عليه ثناء كثيرًا، ومنهم: ابن شاكر صاحب "فوات الوفيات"، ومنهم: الشيخ مرعي، وسماها: "الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية"، ومنهم: الحافظ ابن عبد الهادي، ترجم له في مجلد مفرد،

ومنهم: أبو حفص عمر بن علي البزار البغدادي، كتب كراريس في ترجمته، ومنهم: العلامة صفي الدين أحمد البخاري نزيل نابلس، وسماها: "القول الجلي"، وقرض عليه العلامة مفتي القدس محمد الباقلاني، ومحدث الشام محمد الكربزي الشافعي، ومنهم: العلامة نجم الدين أبو الفضل، أنشد قصيدة حسنة طويلة في مدحه وثنائه. قال ابن رجب - رحمه الله تعالى - في حقه: شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره، عُني بالحديث، وسمع "المسند" مرات، والكتب الستة، ومعجم الطبراني "الكبير"، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره، وبرع في ذلك، وقرأ في العربية، وأقبل على تفسير القرآن الكريم، فبرز فيه، وأحكمَ أصول الفقه والفرائض والحساب، ونظر في علم الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس وله دون عشرين سنة، وأفتى من قبل عشرين أيضًا، وأمد بكثرة الكتب وسرعة الحفظ وقوة الإدراك والفهم وبطوء النسيان، حتى قال غير واحد أنه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه. وحصر عنده قاضي القضاة بهاء الدين، والشيخ تاج الدين الفزاري، وزين المرجل، وابن المنجا وجماعة، وذكر درسًا عظيمًا في البسملة - وهو مشهور بين الناس، وعظَّمه الجماعة والحاضرون وأثنوا عليه ثناء كثيرًا. قال الذهبي: وكان الفزاري يبالغ في تعظيمه، وذكر على الكرسي يوم الجمعة شيئًا من الصفات، فقام بعض المخالفين وسعوا في منعه من الجلوس فلم يمكنهم ذلك، وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخوي: أنا على اعتقاد الشيخ تقي الدين فعوتب في ذلك، فقال لأن ذهنه صحيح ومواده كثيرة فهو لا يقول إلا الصحيح. وقال الشيخ شرف الدين المقدسي: أنا أرجو بركته ودعائه وهو صاحبي وأخي، ذكر ذلك البزار إلي في تاريخه، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره، قال الذهبي: شيخنا وشيخ الإسلام فريد الزمان

علمًا ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويرًا إلهيًا وكرمًا ونصحًا للأمة وآمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، وسمع الحديث وأكثر بنفسه في طلبه، وكتب ونظر في الرجال والطبقات وحصل ما لم يحصل غيره، برع في تفسير القرآن وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ مَنْ يحفظ ما يحفظه من الحديث، معزوا إلى أصوله مع شدة استحضار له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث أنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده، وأتقن العربية أصولاً وفروعًا وتعليلاً واختلافًا، ونظر في العقليات وعرف أقوال المتكلمين، ورد عليهم ونبَّه على خطئهم وحذر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبره براهين، وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنة المحصنة حتى أعلن الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكتب أعدائه وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا وعلى طاعته، ويضيء به الشام بل الإسلام بعد أن كاد يتثلم بتشبيه الأمر لما أقبل حرب "التتر" والبغي في خيلائهم، وظننت بالله الظنون وزلزل المؤمنون واشرأب النفاق وأبدى صفحته ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام وبالطلاق ألف طلقة أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثلَ نفسه، ما حنثتُ، وقد قرأت بخط الشيخ العلامة شيخِنا كمالِ الدين بنِ الزملكاني ما كتبه سنة بضع وسبعين تحت اسم: "ابن تيمية": كان إذا سُئل عن فن من العلم، ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غيرَ ذلك، وحكم أن أحدًا لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا، استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يُعرف أنه ناظرًا أحدًا، فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع، أو غيرها - إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. قال ابن رجب: قلت: وقد عُرض عليه قضاءُ القضاة، ومشيخةُ الشيوخ، فلم يقبل شيئًا من ذلك، أثنى عليه ابنُ سيد الناس ثناء بالغًا حسنًا، وكتب الذهبي في

"تاريخه الكبير" ترجمة مطولة له، قال فيها: لا يبلغ أحدٌ في العصر رتبتَه، ولا يقاربه، وهو عجب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة، و"المسند" بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية، فليس بحديث. قال: فلقد كان عجبًا في معرفة علم الحديث، ولقد كتب "الحموية" في قعدة واحدة، وهي أزيد من ذلك، وله يد طولى في الكلام على المعارف والأحوال والتمييز بين صحيح ذلك وسقيمه، ومعوجه وقويمه. وقد ترجم له ابن الزملكاني ترجمة عظيمة، وأثنى عليه ثناء عظيمًا. ومدحه أبو حيان الأندلسي نظمًا حسنًا. وقال له ابن دقيق العيد عند اجتماعه به وسماعه لكلامه: ما كنت أظن أن الله فيما بقي يخلق مثلك. قال ابن رجب: ومما وجد في كتاب كتبه العلامة أبو الحسن السبكي إلى الحافظ الذهبي في أمره: أما قول سيدي في الشيخ، فالمملوك يتحقق كبر قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدرُه في نفسه أكبرُ من ذلك وأجلُّ، مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع، والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل من أزمان، انتهى. قلت: وأبو الحسن السبكي - هو السبكي الكبير - كما صرح بذلك ابن مفلح في "طبقاته"، وقد قال بعض السفهاء: إن علمه كان زائدًا على عقله؛ يشير بذلك إلى قلة فهمه، كأن القائل بهذا القول لم يقف على ما أثنى به عليه جمعٌ جَمٌّ من الأئمة الكبار بالذكاء وقوة الدرك، وبلوغه في المعقولات مبلغًا عظيمًا، والزهد، فأين هذا يقع من ذاك؟ ولكن من أعمى الله بصر بصيرته، فهو يرى الشمس مظلمة، هذا السبكي عدوُّه، والرادُّ عليه قد أقر له في كتابه هذا بما أقر، ولنعم ما قيل:

وإذا أتتكَ مَذَمَّتي من ناقِص ... فهيَ الشهادةُ لي بأنِّي كامِلُ وكان الحافظ المزي يبالغ [في] تعظيم الشيخ، والثناء عليه، حتى كان يقول: لم ير مثله منذ أربع مئة سنة، وقال ابن رجب: بلغني من طريق صحيح عن ابن الزملكاني: أنه سئل عن الشيخ، فقال: لم نر من خمس مئة سنة أو أربع مئة سنة - الشك من الناقل، وغالب ظنه أنه قال: من خمس مئة سنة - أحفظَ منه. وكذلك المشايخ العارفون؛ كالقدوة محمد بن قوام. ويحكى أنه كان يقول: ما أسلمت معارفنا إلا على يد ابن تيمية، والشيخ عماد الدين الواسطي كان يعظمه جدًا، ويتلمذ له، مع أنه كان أسنَّ منه، وكان يقول: قد شارف مقام الأئمة الكبار، ويناسب قيامُه في بعض الأمور مقامَ الصديقين. وكتب رسالة إلى خواص أصحاب الشيخ يوصيهم بتعظيمه واحترامه، ويعرفهم حقوقه، ويذكر فيها أنه طاف أعيان بلاد الإسلام، ولم ير فيها مثل الشيخ عملاً وعلمًا، وحالاً وخلقًا واتباعًا وكرمًا وحلمًا في حق نفسه، وقيامًا في حق الله عند انتهاك حرماته، وأقسم على ذلك بالله ثلاث مرات، ثم قال: أصدقُ الناس عقلاً، وأصحهم علمًا وعزمًا، وأنفذُهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه، وأسخاهم كفًا، وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما رأينا في عصرنا هذا من يستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل؛ بحيث يشهد القلب الصحيح - أن هذا هو الاتباعُ حقيقة. قال: وطوائفُ من أئمة الحديث، حُفَّاظُهم وفقهاؤهم كانوا يحبون الشيخ، ويعظمونه، ولم يكونوا يحبون له التوغلَ مع أهل الكلام ولا الفلاسفة كما هو طريقة أئمة الحديث المتقدمين؛ مثل الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، ونحوهم، وكذلك كثير من الفقهاء وغيرهم كرهوا له التفرد ببعض شذوذ المسائل التي أنكرها السلف على من شذ بها. أقول: وهذا الإنكار منهم عليه إنكار جاهل على عالم، والمرء عدو لما جهل، والذي تفرد به شيخ الإسلام من بعض المسائل قد أثبته جماعةٌ من أهل العلم بالأدلة الصحيحة المحكمة الثابتة، وذبوا جنابه الرفيع عن تلك الإيرادات،

ولهذا قال الذهبي: غالبُ حَطَّه على الفضلاء والمتزهدة حقٌّ، وفي بعضه هو مجتهد، ولا يُكفر أحدٌ إلا بعد قيام الحجة عليه، قال: ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج ببراهينَ ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجَسُر هو عليها حتى قام عليه خلقٌ من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيدَ عليه، وبَدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن بحال، ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده، وحدة ذهنه، وقوة عقله وفهمه، وسعة دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكرة، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله، فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فينجيه الله؛ فإنه دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش، وله من الشطر الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائرُ العامة تحبه؛ لأنه منتصف لنفعهم ليلاً ونهارًا بلسانه وقلمه. وأما شجاعته، فبها تُضرب الأمثال، وببعضها يتشبه الأكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نوبة غازان، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد، وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين، وكان شقحب يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول، وله حدة قوية تعتريه في البحث حتى كأنه ليث حرب، وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته. وله نظم قليل وسط، ولم يتزوج، ولا تسرَّى، ولا له من المعلوم إلا شيء قليل، وأخوه يقوم بمصالحه، ولا يطلب منهم غداء ولا عشاء في غالب الوقت، وما رأيت في العالم أكرمَ منه، ولا أفرغَ منه عن الدينار والدرهم، لا يذكره، ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيامٌ مع أصحابه، وسعي في مصالحهم، وهو فقير لا مالَ له، وملبوسه كآحاد الفقهاء، ولم يحن [رأسه] لأحد قط، وإنما يسلِّم، ويصافح، ويتبسم. وأما محنه، فكثيرة، وشرحها يطول جدًا، منها: أنه امتحن - في سنة 705 -

بالسؤال عن معتقده - بأمر السلطان -، فجمع نائبُه القضاة والعلماء بالقصر، وأحضر من داره "العقيدة الواسطية" فقرؤوها في ثلاثة مجالس، وحاققوه، وبحثوا معه، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أن هذه عقيدة سنية سلفية، ومنهم من قال ذلك طوعًا، ومنهم من قاله كرهًا، وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه: إنما قصدنا براءة ساحة الشيخ، وتبين لنا أنه على عقيدة السلف. وفي آخر الأمر دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذلك بالتنقص بالأنبياء، وذلك كفر، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء، وهم ثمانية عشر نفسًا - رأسهم القاضي الأحنائي المالكي -، وحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهرًا، وبها مات - رحمه الله تعالى -. ووافقه جماعة من علماء بغداد، وكذلك أبناء أبي الوليد - شيخ المالكية بدمشق - أفتيا: أنه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلاً، وأنه نقل خلف العلماء في المسألة، ورجح أحد القولين، قال الحافظ ابن القيم: سمعت ابن تيمية - قدس الله روحه ونَوَّرَ ضريحه - يقول في الحبس: إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها، لم يدخل جنة الآخر. قال: وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي في قلبي، وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. وكان في حبسه يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا، ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي من الخير، ونحو هذا. وقال مرة: المحبوس مَنْ حُبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه. ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها، نظر إليه، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]، انتهى حاصله. قال ابن رجب: وأما تصانيفه، فهي أشهر من أن تذكر، وأعرفُ من أن تنكر، سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار، قد جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن أحدًا حصرُها، ولا يتسع هذا المكان لعد المعروف منها، ولا ذكرها، ثم ذكر نبذة من أعيان مصنفاته الكبار، ثم ذكر طرفًا من مفرداته

وغرائبه، منها: أنه اختار ارتفاع الحدث بالمياه المُعْتَصَرة؛ كالورد ونحوه. واختار جواز المسح على النعلين والقدمين، وكل ما يحتاج في نزعه من الرَّجل إلى معالجته باليد، أو بالرجل الأخرى؛ فإنه يجوز عنده المسحُ عليه مع القدمين. واختار أن المسح على الخفين لا يتوقت على الحاجة كالمسافرة على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خير البريد، ويتوقت مع إمكان النزع وتيسره، واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها. واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت في حق غير المعذور؛ كمن أخر الصلاة عمدًا حتى تضايقَ وقتُها، وكمن خشي فوات الجمعة والعيدين وهو محِدث، فأما من استيقظ، أو ذكر في آخر وقت الصلاة، فإنه يتطهر بالماء، ويصلي؛ لأن الوقت متسع في حقه، واختار أن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت، وشق عليها النزول إلى الحمام وتكرره، فإنها تتيمم وتصلي. واختار أن لا حدَّ لأقلَّ الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين، ولا لسن الإياس من الحيض، وأن ذلك يرجع إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها. واختار أن تارك الصلاة عمدًا لا يجب عليه القضاء، ولا يشرع له، بل يكثر من النوافل، وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله، وأن سجود التلاوة لا يشترط له الطهارة. قلت: وهذه المسائل غالبُها مبرهنة في مواضعها بالأدلة الصحيحة الدالة عليها، وقد ذهب إليها ذاهبون من أهل العلم قديمًا وحديثًا. ثم ذكر ابن رجب وفاته - رحمه الله -، وقال: مرض الشيخ في القلعة بضعة وعشرين يومًا، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه، ولم يفجأهم إلا موته، وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشرين ذي القعدة سنة 728، ذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلم به الحرس على الأبرجة، فتسامع الناس في ذلك، وبعضُهم أُعلم به في منامه، وأصبح الناس، واجتمعوا حول القلعة، حتى أهل الغوطة، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئًا، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أول النهار، وفتح باب القلعة، واجتمع خلق كثير من أصحابه

يبكون ويثنون، وأخبر أخوه أنه منذ دخل القلعة ختم ثمانين ختمة، وانتهى إلى قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55]. صلى عليه الزاهدُ القدوة محمدُ بن تمام، وأُخرج إلى جامع دمشق، وكان الجمع أجمع من جمع الجمع، ثم ساروا به والناس في بكاء وثناء وتهليل وتأسف، والنساء فوق الأسطحة، وكان يومًا مشهودًا لم يُعهد بدمشق مثلُه، ولم يتخلف من أهل البلد وحواضره إلا الضعفاءُ والمخدَّرات، وصرخَ صارخ: هكذا يكون جنائزُ أهل السنة، فبكى الناس بكاء كثيرًا عند ذلك، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وصار النعش على الرؤوس، يتقدم تارة، ويتأخر أخرى، وخرج الناس من أبواب المدينة كلها، ودُفن وقت العصر، وحُزر الرجال بستين ألفًا إلى مئة ألف وأكثر، والنساء بخمسة عشر ألفًا. ظهر بذلك قول الإمام أحمد: بيننا وبينَ أهل البِدع يومُ الجنائز، وخُتم له ختماتٌ كثيرة بالصالحية والمدينة، وتردد الناس إلىَ زيارة قبره أيامًا كثيرة ليلاً ونهارًا. ورئيت له منامات كثيرة صالحة، ورثاه خلق من العلماء والشعراء بقصائد كثيرة من بلدان شتى، وأقطار متباعدة، وتأسف المسلمون لفقده، وصلى عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام - القريبة والبعيدة -، حتى في اليمن والصين، وأخبر المسافرون أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم الجمعة: الصلاة على ترجمان القرآن!. قال ابن رجب: وقد أفرد الحافظ محمدُ بنُ عبد الهادي له ترجمة في مجلدة، وكذلك أبو حفص عمرُ بنُ علي البغدادي البزار في كراريس، وإنما ذكرنا ها هنا على وجه الاختصار، وقد حدث الشيخ كثيرًا، وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة من الحديث، وخرج له ابن الواني أربعين حديثًا حدث بها، انتهى. قلت: وقد اختصرت هذه الترجمة من الترجمة المختصرة التي ذكرها ابن رجب مع زيادة بعض ألفاظ عليها، فإن شئت أن تطلع على جملتها، فعليك بالمجلدات الكبار، والتراجم الحوافل التي كتبها الأئمة الكبار مستقلة مفردة، والله يختص برحمته من يشاء، ويدخل من يشاء في رحمته.

467 - محمد بن أبي بكر المراغي، القاهري، المدني

قال في "الروضة الغناء": ولد سنة 661، وأفتى ودرَّس، وصنف التصانيف البديعة الكثيرة، وجرت له محن كثيرة إلى أن توفي، ودفن بمقبرة الصوفية، انتهى. وقال المعلم بطرس البستاني، في "دائرة المعارف": وكان - رحمه الله - سيفًا مسلولاً على المخالفين، وشجًى في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، وله تصانيف ومؤلفات، وقواعد وفتاوى، وأجوبة ورسائل، وتعاليق كثيرة، انتهى. وذكر منها نبذة، ثم قال: فلما رأى أهل بلاده ما كان له من الشهرة ورفعة الشأن، دبَّ في قلوبهم الحسد، وأكبَّ أهل النظر منهم بما ينتقد عليه من أمور المعتقد، فحفظوا عليه في ذلك كلامًا، قد أوسعوا لثلبه ملامًا، وفَوَّقوا لتبديعه سهامًا، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازعه طائفة أخرى ينتسبون من الفقراء إلى طريقة، ويزعمون أنهم على طريق أدق باطنًا منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها مراغم موابق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضعف عليه من مقاتليه، فوصَّلوا إلى الأمراء أمرَه، وأعمل كل منهم في كفره فكرَه، فرتبوا الحاضر، وألبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، قال: فرد الله كيد كل في نحره ونجاه، والله غالب على أمره، انتهى حاصله. 467 - محمد بن أبي بكر المراغيُّ، القاهريُّ، المدنيُّ. ولد في أواخر سنة 775. وأخذ عن البلقيني، وابن الملقن، والزين العراقي، والهيثمي، ودخل اليمن مرات كثيرة. وسمع على المجد الشيرازي، وتفقه على الدميري. قال في "البدر الطالع": أجاز له أكابر من محلات مختلفة، وأتقن جملة من الحديث وغريب الرواية، واختصر "فتح الباري" لابن حجر، وسماه: "تلخيص أبي الفتح لمقاصد الفتح"، ودرَّس بمكة والمدينة، وحدَّث بالأمهات وغيرها حتى مات بمكة سنة 859، انتهى - رحمه الله تعالى -.

468 - محمد بن أبي بكر الهمداني، المعروف بالسكاكيني

468 - محمد بن أبي بكر الهمدانيُّ، المعروفُ بالسكاكيني. ولد سنة 635، قال في "البدر الطالع": طلب الحديث، وتأدب وقعد في صناعة السكاكين عند شيخ رافضي، فأفسد عقيدته، وأقام بالمدينة النبوية عند أميرها، ولم يُحفظ عنه سبُّ الصحابة، بل له نظمٌ في فضائلهم، إلا أنه كان كما قال ابن حجر: يناظر على القدر، وينكر الجبر. قال ابن تيمية: هو ممن يتسنن به الشيعي، ويتشيع به السني. ويقال: إنه رجع في آخر عمره، ونسخ "صحيح البخاري"، مات في سنة 821. 469 - السيد محمد بن الحسن بن عبد الله، الظفريُّ، الصنعانيُّ. ولد في سنة 1176. قال في "البدر الطالع": برع في العلوم الآلية، وشارك في غيرها. وله فهم جيد، وإدراك قوي، وسمت حسن، وعقل رصين، وهو ممن يعمل باجتهاده، ويتقيد بنصوص الأدلة، ولا يعول على غير ذلك، انتهى. 470 - السيد محمد بن حسن، المعروفُ بالمحتسب. ولد سنة 1170. أخذ العلوم عن جماعة من علماء صنعاء، واستفاد في العلوم الآلية، وشارك في علم السنة مشاركة قوية، وعمل بالأدلة، ولم يقلد أحدًا، وهو بمكان عظيم من اطراح الدعاوى التي يتعلق بها كثير من أهل العلم، وله قراءة علي في "الصحيحين"، وغيرهما، قاله في "البدر الطالع". توفي - رحمه الله تعالى - في سنة 1257. 471 - القاضي محمد بن حسن بنِ عليٍّ، الذماريُّ. مولده تقريبًا سنة 1200. قاله في "البدر الطالع" له ذهن قوي، وفهم سوي، وذكاء كأنه شعلة نار، وبلاغة بليغة إلى غاية، وشعر جيد، ونثر فائق، وترسُّل رائق، سمع عليَّ في "صحيح البخاري".

472 - السيد الإمام أحمد بن إدريس المغربي، الحسني نسبا، من ذرية الإمام إدريس بن عبد الله المحض

وقد جمع مؤلفًا في ترجمتي، وذكر فيه شيوخي وتلامذتي، وقد أوقفني على كراريس منه، كلُّ من وقف عليه من العلماء انبهر لبلاغته، وحسن مسلكه، وجودة فقره، وبلاغة كلامه، وسماه: "التقصار في جيد زمان علامة الأقاليم والأمصار". 472 - السيد الإمام أحمدُ بن إدريس المغربيُّ، الحسنيُّ نسبًا، من ذرية الإمام إدريس بن عبد الله المحض. قال العلامة السيد حسن بن أحمد البهلكي في "الديباج الخسرواني": هو شيخنا، إمام المفسرين، ومقدام المحدثين، جعل الكتابَ والسنةَ إماميه، وتقيد بهما حالاً وقالاً، ومشى على سنن السير المحمدية طريقة وفعالاً، له قوة فكر في أخذ الدليل من الكتاب والسنة استنباطًا وانتزاعًا، وهو لا مذهب له غير ما دل عليه الدليل من كتاب وسنة، وكان يكافح أولئك بتزييف هذه المذاهب، والعكوف على ما مضى عليه الناس من التقليد، ويعلن لهم بأن قصر الحق على هذه المذاهب المعروفة من البدع، وأن الجزم بتعذر الحكم من دليله لا مستند له، وأنه من تحجر الواسع؛ لأن فضل الله غير مقصور على شخص دون شخص، والفهم الذي هو شرط التكليف قد منحه الله تعالى كل أحد، ولو كان مختصًا به أحد دون أحد، أو زمان دون زمان، لما قامت الحجة على العباد بكتاب الله العزيز، والسنة البيضاء، وهذا لا يرتضيه أحد، وهذا الصنيع من كفران النعمة. وقد تكلم في هذه المسألة جماعة من أهل العلم، وأفردها الشيخ صالح الفلاني (¬1) بمؤلف، وأجاد في الكلام على هذه المسألة الإمام الحافظُ محمد بن ¬

_ (¬1) هو الشيخ صالح بن محمد بن نوح بن عبد الله بن عمر بن موسى العمري، الشهير بالفلاني، المتوفى سنة (1218 هـ 1803 م)، وتأليفه المسمى: "إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار، وتحذيرهم عن الابتداع الشائع في القرى والأمصار من تقليد المذاهب مع الحمية والعصبية بين فقهاء الأعصار". طبع هذا الكتاب طبعة حجرية، ثم طبع في مصر سنة 1354 هـ.

إبراهيم الوزير في "عواصمه"، نعم! انحرفَ عنه علماء مكة لهذا السبب، ولله در القائل: ألا قلْ لمنْ باتَ لي حاسدًا ... أَتَدري على مَنْ أسأتَ الأَدَبْ أسأتَ على الله في فعلِه ... لأنك لم ترضَ لي ما وَهَبْ ومع هذا، فهم إذا أشكلت عليهم مسألة، دَسُّوا إليه من يسأله، فيجلِّيها لهم، وقد نشر الله تعالى له من الصيت وحسن الذكر ما ملأ الآفاق، وما ضرُّه حسدُهم ولا تمالؤهم على غمط فضائله، والاتفاق على أنه طاهر السريرة، صافي القلب من داء الحسد والحقد، وكان عند ملوك مكة هو العين الناظرة منزولاً عندهم في أرفع المنازل، ملحوظًا بعين الإجلال في جميع المحافل، وفي آخر مدته خرج من مكة إلى اليمن، وكان وصوله إلى زَبيد سنة 1243، وتلقاه شيخنا الحافظ السيد عبدُ الرحمن بن سليمان الأهدل، وجعل نفسَه له مقام التلميذ، وأجَّله غاية الإجلال، ثم ترجح له المسير نحو الشام، وأنشد لسانُ حالهم قولَ بعض الأنام: أَيُّها السائرُ عَنَّا عَجِلاً ... إنَّما سِرْتَ فما عنكَ خَلَفْ إنما أنتَ سحابٌ هاطِلٌ ... حيثما صَرَّفَهُ اللهُ انصرَفْ ليتَ شعري أَيّ قومٍ أجدَبوا ... فأُغيثوا بكَ من بعدِ التَّلَفْ قلت: مات صاحب الترجمة - رح - سنة 1253، وهو عام وفاة والد محرر هذه السطور أيضًا، وقد كان - رحمه الله - على علم تام بحال المترجَم له، وأقواله وفعاله في اتباع الدليل، وطرح التقليد، وإيثار الحق على الخلق، واختيار التقوى على الفتوى، وكانت ولادته الشريفة سنة 1210، وقد ذكر صاحب "النفس اليماني" لصاحب الترجمة ترجمةً حافلة، هذا حاصله: قال شيخُنا: السيد العلامة الإمام، ذو المعارف الربانية، والمواهب الرحمانية، صفيُّ الإسلام، أحمد المغربي الحسينيُّ، وفد إلى مدينة زبيد سنة 1244، ناشرًا فيها ما منحه الله من علوم أسرار الكتاب والسنة، وكاشفًا عن إشاراتهما الباهرة، ولطائفهما الزاهرة، بعبارته الجلية المشرق عليها نور الإذن الرباني، واللائح عليها أثر القبول الرحماني.

كما قال ابن عطاء: من أذن له في التعبير، فهمت في مسامع الخلق عبارته، وجليت إليهم إشارته، ولقد أملى - عافاه الله - من تلك الدقائق والحقائق ما استنارت به قلوب سليمة، وتداوت من جراحات غفلاتها أفئدة أليمة، وازدحم الخاص والعام على الاستفادة من تلك العلوم، والاقتباس من نور مشكاة تلك الفهوم: جميعُ العلمِ في القرآنِ لكنْ ... تقاصر عنه أفهامُ الرجالِ وتلقى كلُّ أحد من تلك المعاني واللطائف على قدر الاستعداد، وعلى ما قدره الله من مسوق فيض الإمداد: على قدرِكَ الصهباءُ تُعطيكَ نشوةً .... ولستَ على قدرِ السُّلافِ تُصابُ قال ابن القيم - رحمه الله - في "شرح منازل السائرين": القوم يسمُّون أخبارهم عن المعارف والمطلوب: إشارات؛ لأن المعروف والمطلوب أجلُّ من أن يفصح عنه بعبارة تطابقه، وشانه فوق ذلك، فالكامل إشارتُه إلى الغاية، ولا يكون ذلك إلا لمن فني عن اسمه، وهوى حظه، وبقي بربه، وكلُّ أحد فإشارته بحسب معرفته وهمته، ومعارفُ القوم وهممُهم تؤخذ من إشارتهم، انتهى. وهذا السيد الجليل: طريقتُه السالكُ بها، والداعي إليها، الإقبالُ بالكلية على تدبر معاني كتاب الله، وإطالة التفكر في استجلاب أسرار معانيه، ولقد ذكر لي - عافاه الله - أنه مكث عدة سنين لا شغلَ له إلا تلاوة كتاب الله، والتعرضُ لنفحات أسرار علومه، ولطائف رقائقه وفهومه، حتى منح الله بما منح، وفتحَ بما فتح، وهذه الطريقة هي التي أشار إليها الإمام ابنُ القيم في "شرح منازل السائرين" حيث قال ما نصه: والطريقة المختصرة، القريبة السهلة الموصلة إلى الرفيق الأعلى، التي لا يلحق سالكَها خوفٌ ولا عطب، ولا فيها آفة من آفات سائر الطرق البتة، وعليه من اللهِ حارسٌ وحافظ، يكلأ السالكين فيها، ويحميهم ويدفع عنهم، هي: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا إلى وطن الآخرة، ثم به كله إلى معاني القرآن واستجلائها وتدبرها، وفهمِ ما يُراد منه، وما نزل لأجله، وأخذُ

نصيبك وحظك من كل آية من آياته، وتنزيلُها على أدواء قلبك، ولا يعرف قدرَ هذه الطريقة إلا من عرف طرق الناس وغوائلها وقطاعها، والله المستعان، انتهى كلامه. قال: ونزل السيد المذكور على العبد الحقير، وكان نزوله كنزول العافية على السقيم، والشفاء للجراح الأليم، والحمد لله على ذلك، ونسأله التوفيق لدوام الشكر على ما هنالك، ثم بدا له التوجهُ إلى جهة بندر "المخا"، ثم جهة موزع. فلما وصل إلى تلك الجهات، ازدحم عليه الخاص والعام، وانتفعوا به في أمر دينهم انتفاعًا عظيمًا؛ لأن السيد: هديُه في عباداته وعاداته الهديُ النبوي، سيما الصلاة؛ فإنه - نفع الله - به يُقيمها ويحسنها على الوجه التام الذي وردت به الأحاديث الصحاح والحسان، عن معلم الشريعة - صلى الله عليه وسلم -، لا يلتزم في إقامتها ولا إقامة غيرها مذهبًا من المذاهب، بل مذهبه ما صحَّ به الحديث؛ كما هي طريقة خلائق من العلماء الأعلام: ومذهبي: كلُّ ما صَحَّ الحديثُ به ... ولا أُبالي بلاحٍ فيه أو زاري وله فيَّ كلامٌ منظوم رائق عذب، ثم عاد بعد إقامته مدةً في تلك الجهات إلى زَبيد، والعود -، كما يقال في المثل السائر:- أحمدُ، ولم تزل الأيام والليالي زاهرة رياضُها بلطائف العلوم، ورقائق الفهوم، معمورة أوقاتُها بالعبادات، والأقلام تكتب من إملاء السيد من الفوائد العوائد، النوادرَ والشوارد، ما ملئت منه الدفاتر، وفي هذه المدة وقعت إجازات منه لكل من طلب ذلك، بل أجاز أهلَ زبيد خصوصًا، وأهل اليمن عمومًا، كما وقع نظير ذلك للحافظ ابن حجر العسقلاني عند قدومه زَبيد؛ فإني رأيت بخط الفقيه الولي الكبير العلامة المحدث عبد النور بن عبد الواحد الهائلي ما نصه: رأيت بخط غير خط الإمام شهاب الدين بن حجر العسقلاني - رحمه الله تعالى -: أجزت لأهل "زبيد" خصوصًا، ولأهل اليمن كافة عمومًا، أن يرووا عني هذه الكتب: "صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم"، و"الجمع بين الصحيحين" للحميدي، وكتاب "السنن" لأبي داود، وكتاب "السنن" للحافظ النسائي،

473 - الشيخ العلامة الفاضل إبراهيم بن أحمد، الزمزمي

و"المختار من السنن الكبرى"، وكتاب "الجامع" للإمام أبي عيسى الترمذي، وكتاب "العلل" له أيضًا، وكتاب "الموطأ" للإمام مالك بن أنس الأصبحي، وكتاب "التجريد" للقاضي عبد الرحمن البارزي، بأسانيدي التي ذكرتها إجازة معين لمعين، وكذلك ما يصح عندهم من مروياتي من الأجزاء الحديثية، والكتب المسندة، ومالي من قول ونظم ونثر، على اختلاف جميع ذلك، وتباين أنواعه وأجناسه، إجازةً تامة بشرطه المعتبر، عند أهل الأثر، قاله وكتبه أحمد بن علي بن محمد العسقلاني الشهير بابن حجر، انتهى. قال: وهو باق إلى هذا العام سنة 1248، يذكر الله، ويذكر بأيامه، ويملي من علوم السنة والكتاب ما يفيد ذوي العقول والألباب، أمتع الله للمسلمين في حياته، وبارك لنا ولهم في أوقاته. وامتدحه أهل تلك الجهات بقصائد فرائد، انتهى. 473 - الشيخُ العلامةُ الفاضلُ إبراهيمُ بن أحمد، الزمزميُّ. كان له ميلٌ إلى الأدب، وعمل بالدليل "عدم الالتفات إلى التقليد"، نظم متن "الدرر البهية" للبدر اليماني العلامة الشوكاني في فقه الحديث، توفي بمدينة أبي عريش في سنة 1263 - رح -. 474 - الإمام يحيى بنُ المطهر بن يِحيى. نشأ في مدينة صنعاء، ولازم العلامة الشوكاني، واستفاد من علومه، وقرأ جميع مؤلفاته عليه. وأكبَّ على علم الحديث، فبلغ فيه النهاية، وترك التقليد، له "شرح على سنن أبي داود" يخرج في أربعة مجلدات، وله رسائل متعددة، توفي - رح - سنة 1268. 475 - أحمد بن ناصر، الكبسيُّ. كان من أئمة العلم والعمل، من أخلص تلامذة البدر العلامة الشوكاني، قال صاحب "الديباج الخسرواني": قد أطلت ترجمته في "حدائق الزهر" وكان مولده عام 1209، وتوفي سنة 1271، وفيها كانت وفاة السيد العلامة عبد الله بن

476 - العلامة، الحافظ، المتأله، الرباني، القاسم بن محمد بن إسماعيل الأمير اليماني، أخو السيد عبد الله

عبد الباري الأهدل في قرية مراوعة، وكان فيه إنصاف في المراجعة، لا يتعصب ولا يكابر، وفيها وفاة القاضي عبد الرحمن بن محمد بمدينة زبيد، مولده سنة 1112 ببلدة ضمد، انتهى. وآخر كتاب "الديباج" إلى سنة 1272 الهجرية. 476 - العلامةُ، الحافظُ، المتألهُ، الربانيُّ، القاسمُ بنُ محمد بنِ إسماعيلَ الأميرُ اليماني، أخو السيد عبد الله. كان - رح - في العلوم كلها إمامَ أهل التحقيق، والمجلي من قصبات الإتقان والتدقيق، روحُ جسم العبادة، وحليفُ التقى والزهادة، نهاره صائم، وليله قائم. مولده تقريبًا سنة 1166، وتوفي سنة 1246، خلف عن والده شيخ الإسلام. وكان عاملاً بالدليل، تاركًا للتقليد، مجانبًا عن القال والقيل، ومع ذلك كان إذا تكلم في مسألة، لم يترك بعده مقالاً لقائل، أو خاض في ثبج المشكلات وإيضاحها، فمن ذا له يناضل، وكان مؤثرًا للخمول والعزلة، تاركًا لفضول العيش، مطرحًا للعادات التي عليها الناس في الملبوس وغيره. ولا يحب الشهرة في شيء من أمره، وكان كثيرًا ما ينشد قول الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى -: تَرَكْتُ هَوَى ليلَى وسُعْدَى بَمعزلِ ... وعُدْتُ إلى مصحوبِ أَوَّلِ منزلِ ونادَتْنِيَ الأشواقُ مهلاً فهذهِ ... منازلُ مَنْ تَهْوَى رُويدَكَ فانزلِ وهذا يشعر بأنه لا ملحظ له إلا ما فيه رضا مولاه، وأنه لا يشتغل بما سواه، وهكذا حالُ من علم أن المقام في الدنيا قليل ذو هوان، وأن من خالف هواه تكون عقباه الراحة في دار الحيوان: نَزَلْنا ها هنا ثم ارتَحَلْنا ... كَذَا الدنيا نزولٌ وارتحالُ يظنُّ المرءُ في الدنيا خلودًا ... خلودُ المرءِ في الدنيا مُحالُ هذا حاصل ما في "الديباج". وقد ترجمه جماعة من أهل العلم، وذكروا له فضائل لا يأتي عليها الحصر، ولله در القائل: أَذانُ المَرْءِ حينَ الطفلُ يأتي ... وتأخيرُ الصلاة إلى المَمَاتِ

477 - السيد محمد بن حسين حوثي الصنعاني

دليلٌ أن محياه يَسيرٌ ... كما بينَ الأذانِ إلى الصلاة وقال الآخر: لو قَنِعْنا لَكَفانا ... منكِ يا دارُ يسيرُ أنتِ نُعْماك قليلٌ ... وبَلاياكِ كثيرُ وقبورٌ تتلاشى حيثُ ... لا تمشي القبورُ يا مُبَهْرِجْ لا تُبهرج ... إنَّما الناقدْ بَصيرُ قال في "النفس اليماني": ومنهم سادتي القادةُ الأحبار الأخيار الأطهار، مَنْ منهجُهم القويمُ في جميع شؤونهم اقتفاءٌ بآثار النبيِّ الأمين الصادقِ المختار، صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى سائر النبيين والمرسلين، سيدي قاسم، وسيدي إبراهيم، وسيدي عبد الله: أولادُ أمير المؤمنين - في حديث سيد المرسلين - محمد بن إسماعيل الأمير، ومناقبُهم الزاهرة، وفضائلهم الفاخرة، أجلى من الشمس في رابعة النهار ... إلى آخر ما قال. 477 - السيد محمد بن حسين حوثي الصنعانيُّ. ولد تقريبًا سنة 1150، وأخذ العلم عن جماعة، منهم: السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، والقاضي أحمد قاطن، وغيرهما، وصار أحد علماء صنعاء المفيدين، ودرَّس في فنون، وكان مائلاً إلى العمل بالأدلة، مطرحًا للتقليد، له مباحث علمية جيدة، ولعل موته كان في سنة 1211 - رح -. 478 - محمد بن حسين دلامة، الذماريُّ. ولد تقريبًا سنة 1150. وكان حسن المحاضرة، رقيق الحاشية، كثير الميل إلى الصور الحسان، مع عفة ونزاهة بحيث ناهز الستين السنة، وهو كالشاب في الغرام، ويغلب على الظن أنه مات عشقًا، فإنه كان قبل موته يهيم ببعض المِلاح، وكنتُ أتعجب من تسلُّط الغرام عليه، مع ضعفِ البدن، وكثرةِ الأمراض، ومزيدِ الفقر، وعلوَّ السن، وهو لا يكره نسبة ما ذكرته إليه؛ فإني كنت أمازحه قبل تحرير هذه التراجم بزيادة على خمس سنين: أني سأكتب له

479 - محمد بن عبد الرحيم بن محمد الهندي، الشافعي، الأصولي

ترجمةً أذكر فيها ما صار فيه من مكابدة غرام بعد غرام، وهيام عقب هيام، وكان يأذن بذلك، ولو علمتُ أنه يكرهه، ما ذكرته؛ لأني صنفت هذا الكتاب عن ذكر المعايب، وطهرته عن نشر المثالب، لا كما يفعله كثير من المترجمين من الاستكثار من ذلك؛ فإن الغيبة قبيحة إذا كانت بفلتات اللسان لا تحفظ ولا يبقى أثرها، بل تُنسى في ساعتها، فكيف بها إذا حُررت بالأقلام، وبقيت أعوامًا بعد أعوام، ولا سيما إذا لم يتعلق بها غرض الجرح والتعديل، فإنها من حصائد الألسنة التي تكبُّ صاحبَها على منخره في نار جهنم - نسأل الله السلامة - مات في سنة 1209 - رحمه الله تعالى -. 479 - محمد بن عبد الرحيم بنِ محمدٍ الهنديُّ، الشافعيُّ، الأصوليُّ. ولد بالهند سنة 644، وقدم اليمن، فأكرمه المظفَّر، وأعطاه تسع مئة دينار، ثم حج، وأقام بمكة ثلاثة أشهر، ورأى بها ابن سبعين، وسمع كلامه، ثم دخل القاهرة، وقدم دمشق، فاستوطنها، وقعد في الجامع ودرَّس، وصنف في أصول الدين: "الفائق"، وفي أصول الفقه: "النهاية". ولما عقد بعض المجالس لابن تيمية، عين صاحب الترجمة لمناظرته، فقال لابن تيمية في أثناء البحث: أنت مثل العصفور، تزط من هنا إلى هنا، ولعله قال ذلك لما رأى من كثرة فنون ابن تيمية، وسَعَة دائرته في العلوم الإنسانية، والرجل ليس بكفءٍ لمناظرة ذلك الإمام إلا في فنونه التي يعرفها، وقد كان عُريًا عن سواها، ولهذا قيل: إنه ما كان يحفظ من القرآن إلا ربعَه، حتى نقل أنه قرأ {المص} [الأعراف: 1]: بفتح الميم وتشديد الصاد. وتوفي في آخر صفر سنة 715، انتهى. 480 - محمد بن عبد الرحمن بن محمدٍ، السخاويُّ. ولد في ربيع الأول سنة 831، قرأ على البلقيني، والمناوي، وابن الهمام، وابن حجر، ولازمه، وانتفع منه، وتخرج به في الحديث، وأقبل على هذا الشأن بكليته، وتدرب فيه، وسمع العاليَ والنازل، وأخذ عن مشايخ عصره بمصر ونواحيها، حتى بلغوا أربع مئة شيخ، ثم حج، وأخذ عن مشايخ مكة والمدينة،

481 - محمد بن عبد الله بن سعيد، التلمساني، القرطبي، واشتهر بلسان الدين ابن الخطيب

وارتحل إلى سائر جهات الشام، وبرع في هذا الشأن، وفاق الأقران، وحفظ من الحديث ما صار به منفردًا عن أهل عصره، ثم حج مرات، وجاور مجاورات، وخرَّج لجماعة من شيوخه أحاديث. وله: "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع"، في أربع مجلدات، ومصنف في ترجمة نفسه، و"القول المني في ذم ابن عربي". وبالجملة: فهو من الأئمة الأكابر، ترجم لنفسه ترجمة طويلة، قال تلميذه ابن فهد المكي: إن شيخنا صاحب الترجمة حقيق، بما ذكره لنفسه من الأوصاف الحسنة، ولقد والله العظيم! لم أر في الحفاظ المتأخرين مثله، ويعلم ذلك من اطلع على مؤلفاته، أو شاهده وهو عارف بفنه، وقال بعض العلماء: لم يأت بعد الحافظ الذهبي مثلُه، وبعدَه مات فنُّ الحديث، وأسفَ الناسُ على فقده، مات سنة 902. قال الشوكاني: ولو لم يكن لصاحب الترجمة من التصانيف إلا "الضوء اللامع"، لكان أعظمَ دليل على إمامته، ثم لم يتقيد في كتابه بمن مات في القرن التاسع، بل ترجم لجميع من وجد فيه ممن عاش إلى القرن العاشر، وليته صان ذلك الكتاب الفائق عن الوقيعة في أكابر العلماء من أقرانه، ولكن ربما كان له مقصد صالح، وقد غلبت عليه محبة شيخه الحافظ ابن حجر، فصار لا يخرج عن غالب أقواله، كما غلبت على ابن القيم محبة شيخه ابن تيمية، وعلى الهيثمي محبة شيخه العراقي، انتهى. وعليَّ محبة شيخي العلامة الشوكاني - رح -. وفي هذه الترجمة رجح الشوكاني "الضوء اللامع" على "الدرر الكامنة" وذكر أسماء مؤلفات السخاوي،- رحمه الله -. 481 - محمد بنُ عبد الله بنِ سعيدٍ، التلمسانيُّ، القرطبيُّ، واشتهر بلسانِ الدين ابنِ الخطيب. سمع من جماعة وتأدب. وأخذ الطلب والمنطق، وتولع بالشعر، فبرع فيه، وترسَّلَ فأجاد، ومن شعره: ما ضَرَّني إنْ لم أَجِىءْ مُتَقَدِّمًا ... السبق يعرفُ آخرَ المِضْمارِ ولَئِنْ غدا رَبْعُ البلاغة بَلْقَعًا ... فَلَرُبَّ كنزٍ في أَساسِ جِدارِ

482 - محمد بن عطاء الله، الرازي، الهروي

يا مَنْ بأكنافِ فؤادي قَدْ رَتَعْ ... قَدْ ضاقَ بي عن حبكَ المُتَّسَعْ ما فيكَ جدوى حيثُ لا تَرْعَوي ... شُحٌّ مطاعٌ وهَوًى مُتَّبَعْ قتل في سنة 776، وقتلُه من المجازفات التي صار يرتكبها قضاة المالكية، ويريقون بها دماء المسلمين بلا قران ولا برهان، وأما وجودُه على شفير القبر محرَّقًا، فلا ريبَ أن ذلك من صنيع أعدائه، وليس بجرم، ولا فيه دليل على صحة ما امتُحن به، فإن الأرضَ قد قبلتْ فرعونَ وهامانَ وسائرَ أساطين الكفران، انتهى. 482 - محمد بن عطاءِ الله، الرازيُّ، الهرويُّ. كان يقول: إنه من ذرية الفخر الرازي، ولد سنة 767، وكان حنفيًا، فصار شافعيًا. تلمذ على التفتازاني، ودخل الروم، وحجَّ ورحل إلى القدس، وأتباعُه قالوا بإمامته في المذهب الحنفي والشافعي، وسائر العلوم، وشهروه بذلك في الناس. قال الشوكاني: يعني: على جاري عادة العجم في التفخيم والتهويل، وله دعاوى عريضة طويلة، منها: أنه يحفظ "الصحيحين" عن ظهر قلب، ويحفظ اثني عشر ألف حديثا بأسانيدها، ولكن ظهر كذبه في مجلس السلطان، والمرء عند الامتحان يكرم أو يهان. قال السخاوي: سئل عن سنده لصحيح البخاري؟ فذكر شيوخًا لا يعرفون. وقال ابن حجر: لا وجودَ لأحد منهم، قال الشوكاني: انتقصَهُ الحافظ ابنُ حجر، ووصفَه بالكذب، وكذلك السخاويُّ، لكن وصفه ابنُ قاضي شهبة، والعيني: له شرح على مسلم، موسوم بـ "فضل المنهم"، وكان تيمور يكرمه، ويعظمه، وكان محترما في بلاد سمرقند، قال بعض مترجميه: إن الفقهاء تعصبوا عليه، وبالغوا في التشنيع حتى رموه بعظائم، الظنُّ براءته عن أكثرها، قال: وهذا غيرُ بعيد، لا سيما وقد صار معظمًا عند سلطانهم، مقدمًا في مناصبهم، مع كونه

483 - محمد بن علي بن حسين، العمراني، الصنعاني

ليس منهم؛ فإن ذلك مما يؤثر الطعن بدون السبب، مات في سنة 829، انتهى - رحمه الله تعالى -. 483 - محمد بن علي بن حسين، العمرانيُّ، الصنعانيُّ. ولد سنة 1194. اشتغل بطلب علوم الاجتهاد على جماعة من علماء العصر، فبرع فيها وصار في عداد من يعمل بالدليل، ولا يعرِّجُ على القال والقيل، وبلغ في المعارف إلى مكان جليل. قال الشوكاني: وقد أخذ عنِّي من جملة الطلبة، وهو قويُّ الذهن، سريعُ الفهم، جيدُ الإدراك، ثاقبُ النظر، يقلُّ وجودُ نظيرِه في هذا العصر - كثر الله فوائده -، ونفع بعلومه، وسمع مني أكثرَ مصنفاتي، وأكثرُ اشتغاله بعلم الحديث ورجاله، حتى صار الآن من أعظم رجال هذا الشأن، وله مصنف على سنن ابن ماجه، جعله أولاً كالتخريج، ثم جاوز ذلك إلى شرح الكتاب. وهو إلى الآن في عمله، انتهى. قال في "الديباج": توفي سنة 1263، لازم شيخَنا البدرَ الشوكانيَّ، وبه انتفع، وفي آخر المدة وقع منه وحشة من شيخنا الشوكاني؛ كما جرت به العادة بين الأقران، ومن اطلع على "سيرة النبلاء" للحافظ الذهبي، ورأى ما وقع بين الحافظ محمد بن يحيى الذهلي، وتلميذِه الإمامِ البخاري، هان عليه الأمر، وعلمَ أن العصمةَ لغير الأنبياء متعذرة، والمرجو من الله سبحانه أن يتجاوز عن الجميع؛ لسوابقهم في الإسلام، وعنايتهم بحفظ شريعة سيد الأنام، وبابُ التأويل للمؤمنين مفتوح، والأعمال بالنيات. وبعد الوحشة كان استقراره بزبيد ووصوله بها سنة 1250، وحين تكدرت عليه صور في الإقامة، ارتحل إلى مكة المشرفة، وجاور فيها نحو ثلاث سنين، ثم نزل بأبي عريش، ومكث نحو سنتين، ثم عاد إلى زبيد، واختار الله له الانتقال إلى رحمته. وكان له إلمام بعلم الحديث، فهو إمامُ محرابِه، والذي لا يدانيه قرينٌ من أهل زمنه وأترابه، فهو يستحضر رجال الكتب الستة بحيث لا يخفى عليه من

484 - شيخنا وبركتنا، قاضي القضاة، وإمام الأئمة الهداة، بقية السلف، وذخيرة الخلف، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله، الشوكاني، الصنعاني، مؤلف كتاب "البدر الطالع"

أحوالهم خافية تعديلاً وتضعيفًا، أطلعني على مؤلَّف له سماه: "التعريف بما ليس في التهذيب من قوي وضعيف"، فرأيت ما بهرني من الاستدراك، وهو يأتي في مجلد حافل، وله حاشية على ابن ماجه مفيدة جدًا، سماها: "عجالة ذوي الحاجه"، وقد جاء في تلك التعليقة بأسلوب مخترع، وله مؤلفات غير ذلك، اتفقت به - في رحلتي إلى صنعاء - عام ثلاثة وأربعين بعد المئتين والألف، ولازمتهُ مدة، وقرأت عليه شرح الغاية بتمامه، المسمى: بـ "الهداية"، وكنت أحضر القراءة في حلقة شيخنا البدر الشوكاني، وله به العناية التامة، والملاحظة الكلية، وبذلك ظهر صيتُه، وانتشر ذكرُه، وارتفع بين الناس قدرُه، وله إلمام بعلم المعقول، واطلاعٌ على مأخذ كل أمر، وتوضيح مشكلاته على وجه مقبول، انتهى حاصله. 484 - شيخُنا وبركتُنا، قاضي القضاة، وإمامُ الأئمة الهداة، بقيةُ السلف، وذخيرةُ الخلف، محمدُ بنُ عليِّ بنِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ، الشوكانيُّ، الصنعانيُّ، مؤلفُ كتاب "البدر الطالع". قال - رضي الله عنه -: قد جرت عادة كثير من المؤرخين، لا سيما من كان من المحدثين: أن يترجموا لأنفسهم في مصنفاتهم التاريخية، فاقتدى المصنف - غفر الله له - بهم، انتهى. (ولادت شريف وي - رضي الله عنه - در هجره "شوكان" در أيام خريف اِتفاق اُفتاد، ونشو نما صنعا يافت، قرآن كريم را بر معلمين خواند، وختم آن بر فقيه حسن هبل نمود، "ملحه" حريري، و"كافية" و"شافية" ابن رجب، و"تهذيب" تفتازاني، و"تلخيص" قزويني، و"غاية" ابن إمام، و"مختصر المنتهى" لابن حاجب، و"منظومة" جزري، و"جرار در" عروض، و"آداب بحث" للعضد، ورسائله وضع أز وي حفظ كرد، واين حفظ مختصرات بيش از شروع در طلب بود، وقبل از طلب كثير الاشتغال بود بمطالعة كتب تاريخ، ومجاميع اَدب اَز زمان نشتن در مكتب وكتب ومجاميع بسيار از نظر كزرانيد، وبر بدر شرح آزهار وشرح ناظري، وبر سيد علامه عبد الله بن حسين بن علي بن إمام متوكل على الله شرح جامي با حواشي، وشرح رضي

وشرح شافية از لطف الله غياث كزرانيد، جنانكة در ترجمة خود نام جملة كتب محصلة خويش از بدايت تا نهايت جه عقلية وجه نقلية با نام أساتذة علما برده، وذكر خواندن كتب صحاح ستة با شرح وحواشي آنها مع بلوغ المرام، وجزآن از مجاميع ومسانيد وكتب لغت - همجو صحاح وقاموس وغيرهما - نموده، وجملة مسموعات ومقر وات خودرا سرو فرموده وكفته). وأما ما يجوز لي رواية بما معه من الإجازات، فلا يدخل تحت الحصر، وقد درَّس في جميع ما تقدم ذكره. (وبنا بر اِعذار كه منجملة آنها يكي عدم اِذن والدين ست در طلب علم رحلت نكرده، ودر يك شبانه روز قريب سيزده درس مي كفت، ودر جميع علوم تعليم طلبه كرد، ودر حيات آكابر شيوخ خود مفتي بود در آقطار صنعا، واز عمر بست سال فتوى دادن كرفت، وبر فتوى وتدريس از هيج شيء نمى كرفت، وجون درين باب عتاب ميكردند مى فرمود). وأنا أخذت العلم بلا ثمن، فأريد إنفاقه كذلك. (در علم حكمت از رياضي وطبيعي واِلهي وعلم هيئت وعلم مناظره وعلم وضع درس داد، ومصنفاتِ مطولات ومختصرات تاليف نمود، آسما بعضى از آن در اِتحاف وآبجد العلوم، وجزآن در ترجمة شريفش نوشته ايم، از آنجملة شرح منتقى ست در هشت مجلد، كه درين نزديكي بسنة 1297 هجري ببذل همت رئيسه معظمه، صاحب قران تاج هند "نواب شاهجهان بيكم" واليه حوزهُ "بهوبال" محميه، در مصر قاهره بمطبع بولاق، هزار نسخه از آن بصرف بست وبنج هزار مبلغ مطبوع شده، وبر هامش آن، "عون البارى" لحل أدلة البخاري است، از آدنى تلامذة او، يعني أن جاني فإني عفا الله عنه، واز آنجمله، تفسير "فتح القدير"، و"سيل جرار" و"وبل الغمام" ست. وهمه مولفاتش مقبول ومرغب فيها ومعشوق علماي سنت ست، در بدر طالع بذكر بعض مصنفات وحقائق آن برداخته، ونام: اِرشاد الفحول در اُصول فقه برده وكفته).

وهو الآن في عمله، أعانه الله على تمامه، ثم تم بعد ذلك في مجلد. واِين كتاب را مخنصريست از كاتبِ حروف "حصول المأمول" نام، كه اَولا در هند وثانيًا در قسطنطينية طبع شده، وبجميع أقطار اَرض بريده، وشرمائة اَهل اِتباع كرديده، ولله الحمد - بعده كفته. وقد جمع من رسائله ثلاثة مجلدات كبار، ثم لحق بعد ذلك قدر مجلد، وسمى الجميع: "الفتح الرباني في فتاوى محمد الشوكاني"، وجميع ذلك رسائل مستقلة وأبحاث مطولة، وأما الفتاوى المختصرة، فلا تنحصر أبدًا. (واِين كتاب نزد اِين بنده شرمنده موجودست، واز آن در "دليل الطالب" وجزآن انتفاع كثير بدست آورده، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4]. قال: وهو الآن يشتغل بتصنيف الحاشية على الأزهار، وسماها: "السيل الجرار"، وهي مشتملة على تقرير ما دل عليه الدليل، ودفع ما خالفه، والتعرض لما ينبغي التعرض له، أو الاعتراض عليه من شرح الجلال وحاشيته، وهذا الكتاب - إن أعان الله على تمامه -، فسيعرف قدره من يعترف بالفضائل، ولا يجحد ما وهب الله لعباده من الخير، قال: ثم تم هذا الكتاب بمعونة الله تعالى. (اين كتاب نيز نزدِ محرر سطور موجودست، وآن را در فارسي باِختصار برده، و"بدور الأهلة من مسائل بالأدلة" نام كرده، ودر حين نكارش اين اَوراق از قالب مطبع شاهجهاني برآمده، تازكى بخشِ روح طالبان سنت كرديده، ودر سبك عبارات وحسن اِشارات نظير اَصل خودست، جز آنكه لسان هر دو جدا كانه بوده، آنجه حضرت مؤلف - رح - اين كتاب خود را بدان ستوده ذره از بيابان وقطره از عمان ست، ورنه در نفس الأمر فوق الوصف ست، معرفت فضلش موقوف بر تفاوت مقادير اَفهام ومدارك اَذهان علماء اَعلام باشد). قال: وقد تعقب هذه المصنفات مصنفات كثيرة يطول تعدادها، وهو الآن يجمع تفسيرًا لكتاب الله جامعًا بين الدراية والرواية، ويرجو الله أن يعين على

تمامه بمنه وفضله، ثم من الله، وله الحمد بتمامه في أربعة مجلدات كبار. (واِين تفسير را جامع اَوراق اَولا اِختصار كرد، بيشتر بر آن از ديكر تفاسير معتبره جيزها اَفزوده، تا آنكه كتابي مستقل كرديد، ومسمى شد "بفتح البيان في مقاصد القرآن"، ودر طبع واِشاعات آن بست هزار سكه كلدار تقريبا صرف اُفتاد، ونزديك ست كه از قالب "مطبعه جوائب" بارِ ديكر جلوه اَفروز شود، وبالله التوفيق). قال - رضي الله عنه -: وقد أخذ عنه أهل العلم كثيرًا من مصنفاته كلها - إلا النادر -، وكتبوها، ففي بعضها سمعه طائفة وطلبة بعد طلبة، وسارت في جميع المدائن اليمنية، بل انتشرت إلى الحرمين ومصر والشام، وإلى الهند، وشراها الطالبون لها من أهل الديار القاصية بأبلغ الأثمان، وهذا من التحدث بنعمة الله - عز وجل - {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] فليس هذا إلا من تفضُّل الرب - عز وجل - على عبده - أي: هذا الحقير -، وأنا عند نفسي لست بأهل لبعض ذلك، ولكن التفضلات الربانية تلحق العاجز بالقادر، وفضل الله واسع، وعطاؤه جم. (كويم وبركت وي - رضي الله عنه - در بعض تلامذة اُو نيز سرايت كرد، تا آنكه مؤلفات اُو در لسان عجم وعرب ودر فنون دين وعلم اَدب، ومصنفات مطولة ومختصرة أو در معارف كتاب ومدارك سنت عالمكير شد، واَقطار كيتي را از شرق وغرب ويمين وشمال فرا كرفت، ودلهاى اَهل علم از جميعَ امصارِ بعيده واقطار دور دست بسوى اُو متوجه كرديد، ومصنفين عصر مؤلفات خود را نزد اُو مى رسانيد، واز وى اِجازات مى ستانند، وجريان كتابت مى خواهند. جنانكه درين سال سيد علامة خير الدين نعمان، آلوسي زاده، مفتي دار السلام بغداد، كتاب "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" فرستاد، وفقيه فهامة شهاب الدين بن بهاء الدين مرجاني حنفي از "قازان" سه مؤلف خود اِهداء كرد، يكى "منتخب الوفيه در ضبط تواريخ ووفيات أكابر علماى اُمت" از عهد نبوت تا زمان والد خود، وكتاب "فوائد مهمه وموائد متمه" در علم قرآن ورسم مصاحف

عثمان، وكتاب "حق المعرفة وحسن الإدراك بما يلزم في وجوب الفطر والإمساك" واين هر سه نسخه در بلده "قازان" در سنه 1297 هجري طبع شد، وشيخ علامه برهان الدين بلغارى كتاب "ناظورة الحق" را اتحاف فرموده، إلى غير ذلك. وأما مكاتب علماى اَقطار صنعا ومدائن يمنيه وفضلاى حرمين شريفين ومصر وقدس وشام وبيروت وتونس واسلامبول وجزائر وجزآن بس در حصر نمى كنجد، تا آنكه مجموعى كبير از آن مجتمع شده، وكذلك تقريظاتِ علما وشعراى فرس وعرب بر كتب وَى در نظم ونثر بيش از آن ست كه در بيان حصر بذيرد. وتا آنكه مجلدى متوسط از آن سليم فارس افندي مدير "مطبع جوائب" در سنه 1297 در قسطنطينيه طبع كرده، ونامش "قرة الأعيان ومسرة الأذهان" كذاشته، وهنوز ذخائر از آن باقي ست، واَديب عالم مرحوم اَبو الفتح محمد عبد الرشيد بن محمد شاه، المرحوم، شوبياني كشميرى، ترجمة مستقلة اُو بعبارات بليغه وفقرات فصيحة نوشته. وآبزا "قطر الصيب في ترجمة الإمام أبي الطيب" نام نهاده، وكتب مؤلفه من عاجز به ره كذر صنعت طبع، تا الآن تقريبا زياده بر بست هزار نسخة در تقسيم اَهل علم از دور ونزديك رفته، واَموال بيشمار درين كاروبار مبذول كرديده، اَكر حق تعالى بقبول آن بنوازد دور از شانِ بنده برورى وغريب نوازى نيست، ورنه من آنم كه من دانم، وشك نيست كه اِين همه كرامات وبركات حضرت شيخ علامة "محمد شوكاني" رضي الله عنه ست، زيرا كه درين مؤلفات غالب اِستفاده واِستفاضه از مصنفات جناب رفيع اُوست، همان باعث برين قبول وشهرت كرديده، ورنه جه من وجه مؤلفات من: داغ غلاميت كرد بايه خسروا بلند ... مير ولايت شود بنده كه سلطان خريد) قال - رضي الله عنه -: وكان جميع ما تقدم من القراء على شيوخه في تلك الفنون وقراءة تلامذته لها عليه مع غيرها، وتصنيف بعض ما تقدم تحريره قبل أن يبلغ صاحب الترجمة أربعين سنة، بل درس في شرحه للمنتقى قبل ذلك، وترك

التقليد، واجتهد رأيه اجتهادًا مطلقًا غيرَ مقيد، وهو قبل الثلاثين، وكان منجمعًا عن بني الدنيا، لم يقف بباب أمير ولا قاض، ولا صحب أحدًا من أهل الدنيا، ولا خضع لمطلب من مطالبها، بل كان مشتغلاً في جميع أوقاته بالعلم درسًا وتدريسًا، وإفتاء وتصنيفًا، عائشًا في كنف والده - رح -، راغبًا في مجالسة أهل العلم والأدب، وملاقاتهم والاستفادة منهم وإفادتهم. وربما قال الشعر إذا دعت لذلك حاجة؛ كجواب ما يكتبه إليه بعض الشعراء من سؤال، أو مطارحة أدبية، أو نحو ذلك، وقد جمع ما كتبه من الأشغال لنفسه، وما كتب به إليه في نحو مجلد. (واز محاسن اِتفاقات ست كه زَمنِ مراهقت كه اَول عمر وآغار سن بلوغ بود، مشاركت درين اُمور مرا نيز دست بهم داد، جز اَفتاء وعيش در ظل بدر جه بنجساله بودم، كه والد مرحوم اِنتقال أبجوار رحمت اِلهي - فرمود، وبجاى افتا متصدر خطابت مسجد جامع در وطن ووعظ وتذكسر در بلاد هند شدم، وهيجده ساله بلكه كمتر از آن بودم، كه شوق تاليف وتحرير تراجم دامنكيرِ دل شد، تا اَنكه مؤلفات بسيار در هر سه زبان: فرس، واُردو، وتازى بهم رسيد، واكثرى از آن همان زمانِ تاليف در كانبور ودهلى وغيرهما مطبوع كرديد. اَما بعد از آنكه عبور بر دواوين سنت وصحف فقهِ حديث وكتبِ علوم اجتهاد صورت بست ساخته، وبراخته بيشين جون تقويم بارين بنظر آمد، بس مقدار كثيري را از آن مؤلفات از دائرة اعتبار بيرون انداخته شد، زيراكه بر هنجار اَهل تقليد بود، وطريقة حنفيه داشت در تحرير فروع، واكنون بعون الله تعالى وحسن توفيقه أنجه بقلم مى آيد، وتاليف وتصنيف مى يابد همخ معتمد بر دليل "وطرح تقليد" ست، ورائحه از تفريعات راى وتخريجات اَهل راى ندارد، ونخبة النخبة حقائق محررة أئمة اَعلام ست، وصفوة الصفوة سنن خير الأنام، شعر وآدب رفيق قديم من ست، وحسن سلوك شيوه مستقيم از جميع فنون ومعارف في الجملة آكاهى حاصل ست، ودر جمله مدارك وعلوم دخل كما هي، شعر: مِن كُلِّ شيءٍ لذيذٍ أَحْتَسي قَدَحًا ... وكُلُّ ناطقةٍ في الكونِ تطربُني

معهذا، ممكن نيست كه خروج از دائرة اِتباع دليل صورت بندد، يا راى واِجتهاد كسى از راه برد، ولله الحمد). قال - رضي الله عنه -: وابتُلي بالقضاء في مدينة صنعاء، وهو حال تحرير هذه الأحرف، مستمر على ذلك، ولم يدع الاشتغال بالعلم، وإن كان اشتغاله الآن بالنسبة إلى ما كان عليه ليس شيئًا، وكان دخوله في القضاء وهو ما بين الثلاثين والأربعين. (همجنين دخول محرر سطور در سن مذكور رد دولتكده فصل خصومات وسماع مرافعات رياست "بهوبال" شد، اَكرجه از ته دل اَزين ماجريات بيزارست، وبنا بر قصور در اشتغال بعلم با اَندوه همكنار). وهو الآن كما قال شيخه - رضي الله عنه - يسأل الله الذي لا إله إلا هو الحليم الكريم، رب العرش العظيم أن يحسن ختامه، وينيله من خيري الدارين مرامه، ويسدده في أقواله وأفعاله، وينزع حب الدنيا من قلبه حتى ينظر إلى الحقيقة، فيفوز بنيل دقائق الطريقة، اللهم اجذبه إلى جنابك العلي جذبة يصحى عندها من سكر غروره، وافتح له خوخة يتخلص بها عن حجابه المظلم إلى معارف الحقيقة، ولا تخرجه من هذه الدار إلا بعد أن يسبَحَ في بحار حبك، ويغسل أدران قلبه وقالبه بمياه قربك، فأنت إذا شئتَ، جعلتَ المريد مرادًا. إذا كان هذا الدمعُ يَجْري صَبابةً ... على غيرِ ليلى فهو دمعٌ مُضَيَّعُ وأقول كما قال الشاعر: ألا إن وادي الجِزْعِ أضحى ترابُه ... من المسك كافورًا وأعوادُه رَنْدا وما ذاكَ إلا أن هندًا عشيةً ... تَمَشَّتْ وجَرَّتْ في جوانبه بُرْدا (واز محاسن اِتفاقات آنست كه در حال تحرير اِين كتاب در ماه ربيع الأول سنة 1298 شبى كه صبح آن تاريخ شئم اَز ماه مذكور بود، حضرت اِيشان دا در خواب ديدم، وشرح منتقى را در حالتى كه كتاب در دست من ست بر اِيشان قراءات كردم، وبلا واسطه اِجازات حاصل نمودم، وتا ديركاه سخن درميان

رفت، وهكذا بيش ازين بدو سه سال در منام ديدم، كه اِيشان تشريف آورده اند، وبر مؤلفات من ثنا نموده. وعزيزى ديكر خواب ديده كه دختران اِيشان بخانه من اَز يمن قدوم آورده اند، تعبير رفت كه مراد بآمدن اِيشان اِتيان بنات - اَفكار اِيشان ست، كه عبارات ست از مؤلفات ممتعه شريفه نافعه اِيشان، وجلوه كر شدن تحقيقات عاليه اِيشان در مؤلفات محرر سطور در هر بيرايه عربي وعجمي، وشيوع يافتن آن بتوسط اِبن عاجز در اَمصار وبلدان دور ونزديك شرقا وغربا ويمينا وشمالا، ولله الحمد. وترجمة حافلة حضرت اِيشان در ديباج خسروانى وغيره مذكورست). وهذا عارض من القول، فلنرجع إلى ما نحن بصدده من بقية ترجمته الشريفة، ونقول: قال السيد العلامة حسن بن أحمد البهلكي، في كتابه "الديباج الخسرواني في أخبار أعيان المخلاف السليماني"، ما نصه: السنة الخمسون بعد المئتين والألف، وفيها في شهر جمادى الآخرة كانت وفاة شيخنا محمد بن علي الشوكاني، وهو قاضي الجماعة، شيخُ الإسلام، المحقق العلامة الإمام، سلطان العلماء، إمام الدنيا، خاتمة الحفاظ بلا مراء، الحجة النقاد، عالي الإسناد، السابق في ميدان الاجتهاد، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمداركها ومقاصدها. وعلى الجملة: فما رأى مثلَ نفسه، ولا رأى من رآه مثله عِلْمًا وورعًا وقيامًا بالحق بقوة جنان وسلاطة لسان، قد أفرد ترجمته تلميذه الأديب العلامة محمد بن حسن الشجني الذماري بمؤلف، سماه: "التقصار في جيد زمن عالم الأقاليم والأمصار"، قصره على ذكر مشايخه وتلامذته، وسيرته، وما انطوت عليه شمائله، وما قاله من شعر، وما قيل فيه من مدح وثناء بالنظم والنثر، جاء في مجلد ضخم، مولده يوم الاثنين الثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة اثنتين وسبعين بعد المئة والألف، كما أخبرني بذلك في بلده هجرة شوكان، ونشأ على العفاف والطهارة، وما زال يدرب ويدرج ويجمع النشأت ويحرز المكرمات، له قراءة على والده، ولازم القاضي إمامَ الفروع في زمانه أحمدَ بنَ

محمد الحرازي، وانتفع به في الفقه، وأخذ النحو والصرف عن السيد العلامة إسماعيل بن حسن، والعلامة عبد الله بن إسماعيل النهمي، والعلامة القاسم بن محمد الخولاني، وأخذ علم البيان والمعاني والمنطق والأصلين عن العلامة حسين بن محمد المغربي، والعلامة علي بن الهادي عرهب، ولازم في كثير من العلوم مجددَ زمانه السيد عبدَ القادر بن أحمد الكوكباني، وأخذ في علم الحديث عن الحافظ علي بن إبراهيم بن عامر، وغير هؤلاء من المشايخ الكملة في جميع العلوم العقلية والنقلية، حتى أحرز جميع المعارف، واتفق على تحقيقه المخالف والمؤالف، وصار المشارَ إليه في علوم الاجتهاد بالبنان، والمجلِّي في معرفة غوامض الشريعة عند الرهان. له المؤلفات الجليلة الممتعة المفيدة النافعة في أغلب العلوم، منها "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار" لابن تيمية - رح -، في أربعة مجلدات، لم تكتحل عينُ الزمان بمثله في التحقيق، ولم يسمح الدهر بنحوه في التدقيق، أعطى المسائل حقها في كل بحث على طريق الإنصاف، وعدم التقيد بالتقليد، ومذهب الأخلاف والأسلاف، وتناقله عنه مشايخه الكرام فمن دونهم من الأعلام، وطار في الآفاق في زمان حياته، وقرىء عليه مرارًا، وانتفع به العلماء، وكان يقول: إنه لم يرض، عن شيء من مؤلفاته سواه؛ لما هو عليه من التحرير بأرفع مكان، ومن التمسك بالدليل في أعلى شأن، وكان تأليفه في أيام مشايخه، فنبهوه على مواضع منه حتى تحرر، وله التفسير الكبير، المسمى: "فتح القدير" الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، وقد سبقه إلى التأليف في الجمع بين الرواية والدراية، العلامةُ محمدُ بن يحيى بن بهران، فله تفسير في ذلك عظيم، لكن تفسير شيخنا أبسطُ وأجمعُ وأحسنُ منه ترتيبًا وتصنيفًا، وأحرزُ لمعاني اللغات وشواهدها تحقيقًا وتأليفًا. وقد ذكر الحافظ السيوطي في "الإتقان": أنه جعله مقدمة لتفسير جامع لتحرير الرواية، وتقرير الدراية: وسماه: "مجمع البحرين ومطلع البدرين". وله مختصر في الفقه على مقتضى الدليل، سماه: "الدرر البهية"، وشرحه

شرحًا نافعًا، "المضية"، أورد فيه الأدلة التي بنى عليها ذلك المؤلف، وله "وَبْل الغمام" حاشية سماه "الدراري شفاء الأوام"، للأمير حسين بن محمد، وله "در السحابة في مناقب القرابة والصحابة"، وله "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول" يعز نظيره في جمعه وترصيفه، وحسن ترتيبه وتصنيفه، وله "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار"، كان تأليفه في آخر مدته، ولم يؤلف بعده شيئًا - فيما أعلم -. وقد تكلم فيه على عيون من المسائل، وصحح من المشروع ما هو مقيد بالدلائل، وزيّف ما لم يكن عليه دليل، وحَسَّن العبارة في الرد والتعليل، والسبب في ذلك أنه نشأ في زمنه جماعة من المقلدة الجامدين على التعصب في الأصول والفروع، ولم تزل المصاولة والمقاولة بينه وبينهم دائرة، ولم يزالوا ينددون عليه في المباحث من غير حجة ولا برهان من سنة وقرآن، فجعل كلامه في ذلك الشرح - في الحقيقة - موجهًا إليهم في التنفير عن التقليد المذموم، وإيقاظهم إلى النظر في الدليل؛ لأنه يرى تحريم التقليد الشوم، وقد ألف في ذلك رسالة سماها: "القول المفيد في حكم التقليد"، وقد تحاماه لما حواه جماعةٌ من علماء الوقت، وأرسل عليه أهلُ جهته بسببه سهامَ اللوم والمَقْت، وثارت من أجل ذلك فتنة في صنعاء بين مَنْ هو مقلد، وبين من هو متقيد بالدليل، توهمًا من المقلدين أنه ما أراد إلا هدم مذهب أهل البيت؛ لأن "الأزهار" هو عمدتهم في هذه الأعصار، وعليه في عبادتهم والمعاملة المدار، وحاشاه من التعصب على من أوجب الله تعالى محبتهم، وجعل أجرَ نبينا - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الرسالة مودتَهم؛ لأن له الولاء التام لهم، وقد نشر محاسنهم في مؤلفه "در السحابة" بما لم يخالج بعده ريبة لمرتاب، وله العناية التامة بحفظ مذهبهم؛ فإنه أفنى شبابه في الدرس والتدريس في ذلك. وعندي: أن من جملة العناية بهم هذا الشرحَ؛ فإن من تأمله حقَّ التأمل - بعين الإنصاف - عرف أنه بيان لما اقتضاه "متن الأزهار" من الأدلة الصحيحة؛ لأنه جاء فيه بأدلة لم توجد في غيره، وأوضح مأخذها من الكتاب والسنة على

أبدع أسلوب، وقد اطلعت على غالب "شروح الأزهار"، فلم أر في شروحه ما يدانيه في إيراد الأدلة، وإنما لم يرتض ما بُني في ذلك الكتاب من التفاريع على القياس الذي علتُه المناسبة، أو تخريج، وسبيل الإمام في ذلك [...] المفرعين من سائر المذاهب الإسلامية؛ فإن كتبهم الفروعية ممزوجة بذلك على أن كلامه مع الجميع من أهل المذاهب، لأن المأخذ واحد، والرد واحد، وإن كان في الحقيقة أن الخطب يسير، والخلاف في المسائل العلمية الظنية سهل؛ لأنها مطارح الأنظار، والاجتهادُ يدخلها، والمصيب من المجتهدين في ذلك له أجران، والمخطىء له أجر، وأن تنبيه العالم بالخطأ على ذلك الخطأ للمقلد لا بأس به، لئلا يقلد في الخطأ؛ فإنه مؤاخذ به، مع أن من قلده معفو عنه في ذلك. وهذه الطريقة ربما يُحمد عليها من قصد ذلك، ولا يخرج المجتهد ما اجتهد ونبه على فيه، الخطأ بحسب ما ظهر له عن توليه لأهل بيت النبوة - صلوات الله عليهم أجمعين -؛ لأن التولية في جانب، وبيان الخطأ في جانب، وربما يحمده ذلك المجتهد الذي قد أصَّل ما هو خطأ في كتبه؛ لئلا يتبعه في ذلك الخطأ من يتبع، وهذا شأن أهل العلم في كل زمان ومكان ما بين راد ومردود عليه، وكلٌّ مأخوذ من قوله ومتروك، إلا صاحب العصمة - عليه أفضل الصلاة والتحية -. وقد ذكر السيوطي في كتابه "الخصائص": أن من خصائص هذه الأمة: ألا يقر بعضهم بعضًا على الخطأ، ولو كان أحبَّ حبيب إليه، ومن طالع الكتب الإسلامية في الفروع والأصول على اختلاف أنواعها، عرف ذلك، وهان عليه سلوك هذه المسالك، ومن وزن الأمور بالإنصاف، لا تخفى عليه الحقيقة، ومن جمد على التقليد، وضاق عطنُه عن مدارك الاستدلال، فما له وللاعتراض على المجتهدين، ولا ينبغي له أن يضايق المجتهد في اجتهاده لأجل توقفه في موقفه الذي هو التقليد، وقد تفضل الله عليه بالاجتهاد والتجديد، ولكل منهم عرفت مقامًا شرحه في الكتاب مما يطول. والتقليد لا يجوز إلا لغير المجتهد، والاجتهاد عند أئمة أهل البيت -

رضي الله عنهم - غير متعذر، كما يقول غيرهم من مقلدة المذاهب، ومن اعترض على المجتهد فيما أدى إليه اجتهاده، فقد تَحَجَّرَ الواسع، وما جرى على نهج السلف له فيه من أهل العلم، نعم! أنا قد حبرت مقاصد "السيل الجرار" في مؤلف سميته: "نزهة الأبصار من السيل الجرار"، وهو واف بالمقصود من إيراد تلك الأدلة من غير تعرض لما يقع به بسط الألسنة من الناس، وللمترجَم له تاريخ حافل سماه: "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن التاسع"، جرى فيه من ذلك الوقت إلى زمانه، وابتدأ فيه بذكر عابد اليمن إبراهيم الكنعي الوليِّ المشهور، وله جملة رسائل من مطولات ومختصرات، وقد جُمعت فتاواه ورسائله فجاءت في مجلدات، وسماها ابنه العلامة علي بن محمد الشوكاني "بالفتح الرباني"، وله في الأدب اليد الطولى، وله أشعار كثيرة مدونة قد رتبها ابنه المذكور على حروف المعجم، فجاءت في ديوان، كتب إلى أديب عصره السيد محمد بن هاشم بن يحيى الشامي، ورفيقه العلامة حسين بن أحمد الصباغي، يسألهما على سبيل المطارحة عن الشوق، هل هو من قسم المشكك، أو من المتواطي المعروفين في علم المنطق بهذه الأبيات البديعة: يا نَيِّرَيْ فَلَكِ العلياءِ دامَ لنا ... من نورِ عِلْمِكما ما يَكْشِف الظُّلَمَا ماذا تقولانِ فيما قد تقرَّرَ بِالْ ... إجماع حققَ هذا مَنْ به حَكَما قالوا بأنَّ شهاداتِ القلوبِ إذا ... قاسَتْ بصدقِ ودادٍ صارَ مُلْتَزَما ومَنْ أَحَبَّ إذا صَحَّ القياسُ له ... قطعًا بأنهما في السلكِ قَدْ نُظِما وقد تضمَّنَ تصديقًا تصوره ... بنسبةٍ يتساوى الوُدُّ بينَهُما وإنما الشوقُ من قسمِ المشككِ هل ... فيه اعتراضُ قياسٍ في استوائهما وقد تردَّدْتُ في تقريرِهِ فأفيـ ... ـدا مُغْرَمًا صارَ مشتاقًا لوَصْلِكُما فأجاب المترجَم له وأجاد: يابنَ البَهاهيلِ والأطوادِ من مُضَرٍ ... والمُنْعِمين بِسَيْبٍ يُخْجِلُ الدِّيَما قد دلَّ نظمُك للدرِّ الثمينِ بلا ... شَكًّ بأنك بحرٌ للعلوم طَمَى ورُمتَ إبداءَ عطبٍ في ملاطفةٍ ... وقد أسأتُ ببعدي فاحتملْ كَرَما

فالشوقُ بالشوق منقاسٌ ومعتبرٌ ... قضى بذلكَ خير الرسل والحكما وإن تشكَّك بالتشكيك فهو على ... تواطُؤ باتحاد الجنس قد نظما وموجباتُ ودادي فيك ما سلبت ... ولا غدا عقدُ ودي عنكَ مُنْفَصِما محصلات ودادي ما رضيت لها ... عنك العدول ولا أوليتها عدما وقد تألَّفَ شملانا على نَمَطٍ ... لنا نتائج وُدٍّ تمنَعُ العَقَما وهذه القطعة من شعره تدل على أنه مفرد بليغ، ولا مفرد سواه يوصف بالبلاغة، وقد تم التوجيه بالقضايا المنطقية الموجبة والسالبة والمحصلة والمعدومة، ولله در القائل: الحُسْنُ يظهَرُ في شيئين رونَقُه ... بيتٌ من الشَّعْرِ أَوْ بيتٌ [من] الشَّعَرِ وقد أخذت عنه في كثير من الفنون العلمية، وأخذت عنه غالب مؤلفاته الشريفة، وبموته طفىء على اليمن مصباحُهم المنير، ولا أظن يرون مثله في تحقيقه للعلوم والتحرير، وقد جرت بيني وبينه مكاتبة أدبية، ومراسَلةٌ لمسائل علمية، هي عندي مثبتةٌ بخطه الشريف، وقلمه اللطيف، وكان قد توفي قبله بمدة يسيرة ابنُه العلامةُ عليُّ بن محمد، وهو أحد محققي العلماء، وممن لازم والده في جميع المعارف، حتى بلغ ذروة العلوم تحقيقًا وتدقيقًا، وقد شاركتُه في الأخذ على والده في كثير من مقروءاته - رحمهما الله تعالى -، وقد كنت قلتُ في والده مراثيَ، وأشركته فيها، لولا الإطالُة لذكرتُها، انتهى كلام "الديباج"، وهو أزينُ من الديباج على أجساد أهل التاج، وفي كتاب "النفس اليماني والروح الريحاني" للسيد الإمام والعلامة المحدِّث عبدِ الرحمن بن سليمان بن يحيى بن عمر مقبول الأهدل، وممن تخرج بسيدي الإمام عبد القادر بن أحمد الكوكباني، ونشرَ علومه الزاخرة، وحررَ لطائفَ فُهومه الباهرة، وانتسب إليه، وعوَّلَ في الاقتداء في سلوك منهاج الحق عليه، إمامُ عصرنا في سائر العلوم، وخطيبُ دهرنا في إيضاح دقائق المنطوق والمفهوم، الحافظُ المسنِدُ الحجة، الهادي في إيضاح السنن النبوية إلى المَحَجَّة، عزُّ الإسلام، قاضي القضاة، محمد بن علي الشوكاني، بلغه الله في الدارين أقصى الأماني.

إن هَزَّ أقلامَه يومًا لِيُعمِلَها ... أَنساكَ كُلَّ كَمِيًّ هَزَّ عامِلَهُ وإنْ أقرَّ على رَقًّ أنامِلَهُ ... أَقَرَّ بالرِّقِّ كُتَّابُ الأنامِ لَهُ فإن المذكور من أخص الآخذين عن شيخنا السيد الإمام عبد القادر، والمنتفعين به. ولقد كان أخذُ مثلِه، على مثلِ سيدي عبد القادر - من أعظم إحياء ربوع العلوم، وإقامة سوق تحقيقات المنطوق والمفهوم. ذكر الحافظ السخاوي في "الضوء اللامع" في أثناء ترجمة الحافظ ابن حجر ما نصه: قال ثعلب: إنما يتسع علم العالم بسبب حذق من يسأله، فيطالبه بحقائق الكلام، وبمواضيع النكت؛ لأنه إذا صار طالبه، احتاج إلى البحث والتنقير، والنظر والفكر، فيتجدد حفظه، ويتذكر ما تقدم، انتهى. ولقد منح رب العالمين سبحانه من بحر فضل كرمه الواسع هذا القاضي الإمام ثلاثة أمور، لا أعلم أنها في هذا الزمان الأخير جُمعت لغيره. 1 - الأول: سعة التبحر في العلوم على اختلاف أجناسها وأنواعها وأصنافها. 2 - الثاني: سعة التلاميذ المحققين، والنبلاء المدققين، أولي الأفهام الخارقة، والفضائل الفائقة، الحقيق أن يُنشد عند حضور جمعهم الغفير، ولمشاهدة غوصهم على جواهر المعاني التي استخراجُها من بحر الحقائق غير يسير. إِنَّي إذا حضرَتْني ألفُ محبرةٍ ... تقولُ أخبرَني هذا وحَدَّثني صاحَتْ بعقوتها الأقلامُ ناطقةً ... هذي المكارمُ لا قعبانُ من لَبَنِ 3 - الثالث: سعة التصانيف المحررة، والرسائل والجوابات المحبرة، التي تسامى في كثرتها الجهابذة الفحول، وبلغ من تنقيحها وتحقيقها كل غاية وسول. (كويم من نيزيكي از تلاميذه آن عالي مقام شيخ الإسلام، اكرجه بيك واسطه ودو واسطه بجناب رفيع اُو مي رسم، ودر تفنن علوم قدم بقدم وي - رحمه الله تعالى - مى روم، كو بالغ شأوِ اُو نشوم، وهمجنين در كثرت مؤلفات مانا باستاد خودم، هو جيد در نفس الأمر ريزه جين مائدة اِفادة دى - قدس سره - باشم، آرى زمانه مساعدت بكثرت تلاميذ نمى كند، وجه قسم مي تواند كرد كه دامن حسد

اَهل فروع بسيار درازست، وطلبه علم عصر حاضر با محبت تقليد وبدع آن باز آند. معذلك، رجال بلاد شاسعة وعلماء أقطار بعيده وفضلاء ونبلاء مدائن دور دست، از عرب وعجم باوي محبت مي دارند وراهِ حسن ظن في سيرند، وبمكاتيب وتقاريظ مؤلفاتش غائبانه بصدق نيت واِخلاص طويت مي بردازند، واين قدر از براي تاديه شكر حضرت حق سبحانه حق سبحانه وتعالى بسيارست. هنديانِ ظلمت شرست، وسكنه اِين اِقليم بدعت برست - اَكرسر نياز فرود نيارند مرا شكوه اَز اِيشان نيست، كه قدر شناسي اِيشان در واقع در خور اِزدَراست نه اِفتخار، معذلك اِبن حال جمله رجال اِين اَجيال نيست، بلكه ماجراي مشتى از فروعيان تقليد دوست بدعت بسند وجهله مستمد از مردم هندست، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]) قال: فمن مؤلفاته الجليلة: تفسيرُ كتاب الله، المسمى: "فتح القدير" جمع فيه بين علمي الرواية والدراية، ومنها: "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار"، لم يكن يوجد - في إقليم اليمن - شرح على هذا الكتاب المضطر إلى كشف ما فيه من الأحكام سوى هذا الشرح النفيس، ومنها: "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول"، جمع فيه زيد القواعد وبدائع الفوائد، ومنها: "السيل الجرار شرح الأزهار"، من أنفس الشروح على هذا الكتاب، وله غير ذلك من المؤلفات، وقد ذكر في بعض المعتمدين أن مؤلفاته الجليلة الحاصلة الآن المئة وأربعة عشر مؤلفًا عدد سور كتاب الله - عز وجل - مما قد شاع ووقع بها في الأمصار الشاسعة فضلاً عن القريبة غايةُ الانتفاع، والله - عز وجل - المسؤول أن يبارك للإسلام والمسلمين في أوقاته، وأن يمتع بحياته، آمين: كُلُّنا عالِمٌ بأَنَّك فينا ... نعمةٌ ساعدَتْ بها الأقدارُ فوَقَتْ نفسَكَ النفوسُ مِنَ الشَّر ... وزِيدَتْ في عُمْرِك الأعمارُ وقد اعتنى بشرح بعض مناقبه وفضائله عدةٌ من العلماء الأعلام، والجهابذة الفخام، منهم: السيد العلامة إبراهيمُ بنُ عيد الله الحوثيُّ، ومنهم: بعض علماء كوكبان، عظماء القدر كبراء الشأن، ومنهم: السيد العلامة محمد بن محمد

485 - الشيخ عبد الوهاب أحمد بن علي الشعراني، ويقال: الشعراوي

الديلمي، ومنهم: القاضي العلامة محمد بن حسن الشجني الذماريُّ في كتاب حافل سماه: "التقصار في جيد زمن علامة الأقاليم والأمصار"، ومنهم: الحبرُ العلامة، والبحرُ الفهامة لطفُ الله جحاف. وبالجملة: فمحل القول في هذا الإمام ذو سعة، فإن وجدت لسانًا قائلًا، فقل: زِدْ في العُلا مَهْما تَشاءُ رفعةً ... وليصنعِ الحاسدُ ما يصنعُ فالدهرُ نحوي كما ينبغي ... يَدْري الذي يَخْفِضُ أَوْ يَرْفَعُ (كويم! واِين اِنشاد يكى از كرامات صاحب "نفس يماني" ست، جه علاوه حساد آن زمانه كه بوجود با وجود علامه شوكاني نازش بر لمعات نيرات آسماني داشت، درين نزديكي نيز بعض شوريده سر آن بي مغز بر تحقيقات شريفش حسد مى برند وهزيان مى سرايند، واين نيست مكر تكميل مدارج عليه، واتمام نعم اِلهية در حق جناب رفيع اُو). ولولا الأعداء، لما ظهر فضلُ العلماء والأولياء، ولولا الجهلة السفهاء، لما تبين رتب الحفاظ الأصفياء، حملة الدين، ونقلة آثار النبيِّ الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وجنده من الحفاظ العاملين بسنته المطهرة، الرافضين للتقليد، والتاركين لآراء المشركين المبتدعين، الذابِّين عن الإسلام، الرادِّين على المبتدعة المقلدةِ الطغام، الطارحين للفروع التي لم تُؤَسَّس على أصل من أصول الإيمان، القابضين على أحكام الحديث والقرآن، زادهم الله إيمانًا، وأصلح لكل منا أُولاه وأُخراه منًا عنه سبحانه وإحسانًا. 485 - الشيخ عبد الوهاب أحمد بن علي الشعرانيُّ، ويقال: الشعراويُّ. كان عالمًا محدِّثًا صوفيًا، ذا كرامات كثيرة، وتأليفات (¬1) نفيسة، متبعًا للسنة، مجتنبًا عن البدعة، جامعًا بين الشريعة والطريقة، ومن كلامه في كتابه ¬

_ (¬1) هذا كله كذب، بل من طالع كتبه، مثل: "البحر المورود في الواثق والعهود"، و"الطبقات"، علم أنه رجل خُرافيٌّ مبتدع ضال، وكتبه مشحونة من الشرك والخرافات والأضاليل، وقد طالعت كثيرًا منها [محمد بن عبد العزيز المانع].

"تنبيه المغترين" (¬1) ما نصه، ومن أخلاق السلف الصالح - رضي الله عنهم -، ملازمةُ الكتاب والسنة كلزوم الظل للشاخص، ولا يتصدر أحدُهم للإرشاد إلا بعد تبحُّره في علوم السنة المطهرة؛ بحيث يطلع على جميع أدلة المذاهب المندرسة والمستعملة، ويصير يقطع العلماء في مجالس المناظرة بالحجج القاطعة الراجحة الواضحة، وكتب القوم مشحونة بذلك كما يظهر من أقوالهم وأفعالهم. وقد كان سيد الطائفة جُنيدٌ البغداديُّ، يقول: طريقتنا مشيدة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن، ويحفظ السنة، ويفهم معانيها، لا يصح الاقتداء به، انتهى. قال: وهذا الخلق قد صار غريبًا في فقراء هذا الزمان، فصار أحدهم يجتمع بمن ليس له قدم في الطريق، ويتلقف منه كلمات في البقاء والفناء، والشطح؛ مما لا يشهد له كتاب ولا سنة، ثم يلبس له جبة، ويرخي له عذبة، ثم يسافر إلى بلاد الروم مثلًا، ويظهر الصمت والجوع، فيطلب له مرتبًا أو مسموحًا، ويتوسل في ذلك بالوزراء والأمراء، فربما رتبوا له شيئًا، فيصير يأكله حرامًا في بطنه؛ لكونه أخذ بنوع تلبيس على الولاة واعتقادهم في الصلاح، وكان شيخنا عليٌّ الخواص يقول: إن طريق القوم - رضي الله عنهم - محررة على الكتاب والسنة، تحريرَ الذهب والجوهر، وذلك لأن لهم في كل حركة وسكون نية صالحة موزونة في ميزان السنة، ولا يعرف ذلك إلا من تبحر في علوم الشريعة، انتهى. قال: ومن أخلاقهم: توقفُهم عن كل قول أو فعل حتى يعرفوا ميزانه على الكتاب والسنة، فعلم أن القوم لا يكتفون في أقوالهم وأفعالهم بمجرد عمل الناس بها؛ لاحتمال أن يكون ذلك القول أو الفعل من جملة البِدع التي لا يشهد لها كتاب ولا سنة. وفي الحديث: "لا تقوم الساعة حتى تصير السنة بدعة": فإذا تُركت البدعة، يقول الناس: تركت السنة، وذلك لتوارث الفروع البدع عن أصولهم، فلما طال ¬

_ (¬1) هذا الكتاب فيه فوائد نفيسة؛ لأن أصله لغيره كما ذكره.

زمن العمل بالبدع، ظن الناس أنها سنة، مما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انتهى. قلت: ومما قيل في هذا المعنى، مصراع: هو كفر كه كهنه شد مسلماني شد؟ قال: ولقد كان السلف يحثون الناس - لا سيما أصحابهم - على التقييد بالكتاب والسنة، واجتناب البدع، ويشددون في ذلك، حتى إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ربما كان يهم بالأمر، ويعزم عليه، فيقول له بعض الناس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك، ولم يأمر به، فيرجع عما كان عليه، وهَمَّ مرة أن يأمر الناس بنزع ثياب كانوا يلبسونها، حين بلغه أنها تصبغ ببول العجائز، فقال له شخص: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد لبس منها، ولبسها الناس في عصره، فاستغفر الله تعالى، ورجع، وقال في نفسه: لو كان عدمُ لبسها من الورع، لما لبسها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، انتهى حاصله. قلت: وسئل أبو بكر العياض: متى يُعلم الرجلُ أنه على السنة والجماعة؟ قال: إذا رجع علمه إلى كتاب الله، وسنة رسوله، أو إلى ما قال السلف الصالح، فهو على مذهب السنة والجماعة، وأما إذا كان منسوبًا إلى الجبائي، والكعبي، ونحوهما، فإنه ليس من أهل السنة والجماعة، هكذا في "فتاوى جواهر". وقال الشعراني في كتابه "الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر"، في الباب العاشر والمئتين: من أراد أن يعرف بغض الحق أو محبته، فلينظر إلى حاله الذي هو عليه من اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والأئمة المهديين بعده، فإن وجد نفسه على هديهم وأخلاقهم؛ من فعلِ جميع المأمورات الشرعية، وتركِ جميع المنهيات البدعية، حتى صار يفرح بالبلايا والمحن وضيق العيش، وينشرح لتحويل الدنيا ومناصبها وشهوتها، فليعلم أن الله تعالى يحبه، وإلا، فليحكم بأن الله تعالى يبغضه، والإنسان على نفسه بصيرة، انتهى. ومن عينه نقلت. الحاصل: أن اتباع الكتاب والسنة هو المعيار لمعرفة الرجال، فإن الرجال تعرف بالحق، لا الحقُّ بالرجال، وهذه خصيصة شريفة خص الله تعالى

486 - محمد بن علي بن وهب، المعروف بابن دقيق العيد، الإمام الكبير

بها أهل الحديث وأهلَ السلوك، ولم يشاركهم فيها أحد من الفقهاء المقلدين، وإنك لا تجد عالمًا صوفيًا، وسالكًا فاضلًا، إلا وهو يتقيد بالكتاب والسنة، ولا يقلد أحدًا من الأئمة، ومن هنا قيل: إن الصوفي لا مذهبَ له، فخلاصة الأمة الأمية المرحومة هذان الصنفان من الناس، ولا عطرَ بعد عروس: ما لي إذا أَلْزَمْتُهُ حُجَّةً ... قابَلَني بالضِّحْكِ والقَهْقَهَهْ إن كانَ ضِحْكُ المَرْءِ من فِقْهِهِ ... فالدُّبُّ في الصحراءِ ما أَفْقَهَهْ 486 - محمد بن علي بن وهب، المعروف بابن دقيق العيد، الإمامُ الكبيرُ. ولد في شعبان سنة 625، بناحية ينبع في البحر، تبحر في جميع العلوم الشرعية، وخضع له أكابر الزمان، وطار صيته، واشتهر ذكره، وأخذ عنه الطلبة، وصنف التصانيف الفائقة، منها: "الإلمام في أحاديث الأحكام"، وشرع في شرحه، أتى فيهما - كما قال ابن حجر - بالعجائب الدالة على سعة دائرته في العلوم، خصوصًا في الاستنباط، وصنف "الاقتراح في علوم الحديث"، ومن مصنفاته "شرح العمدة"، قال الصلاح الكتبي: كان إمامًا متفننًا محدِّثًا مجوِّدًا فقيهًا مدققًا أصوليًا أديبًا شاعرًا نحويًا ذكيًا، غواصًا عَلى المعاني مجتهدًا، وافرَ العقل، كثيرَ السكينة، بخيلاً بالكلام، تامَّ الورع، شديدَ التدين، مُديمَ السهر، مُكِبًا على المطالعة والجمع، قلَّ أن ترى العيونُ مثله، وقد كان قهره الوسواس في أمر المياه، انتهى. قال في "آثار الأدهار": سمع جماعة، وسمع منه غير واحد، وعكف مكبًا على المطالعة، فجمع الكثير، ومن شعره: لم يَبْقَ لي أَمَلٌ سواكَ فإنْ يَفُتْ ... وَدَّعْتَ أيامَ الحياةِ وداعا لا أستلذُّ بغيرِ وجهِك منظَرًا ... وسِوى حديثِك لا أُريدُ سَماعا وله - رح -: تمنيتُ أن الشيبَ عاجَلَ لِمَّتي ... وقَرَّبَ مِنِّي في صِبايَ مَزَارَهُ فآخُذَ من عصرِ الشبابِ نشاطَهُ ... وآخذَ من عصرِ المشيبِ وقارَهُ انتهى.

487 - محمد بن محمد بن عبد الله، الخيضري

قال الذهبي: غلب عليه الوسواس في المياه والنجاسة، وله في ذلك حكايات وأخبار تخرج بها أئمة، وكان لا يسلك المراء في بحثه، بل يتكلم بكلمات يسيرة بسكينة، ولا يراجع. قال الحلبي: كان حافظًا للحديث وعلومه، يُضرب به المثل في ذلك، وكان آية في الإتقان. قال ابن الزملكاني: إمامُ الأئمة في فنه، وعلامةُ العلماء في عصره، بل ولم يكن من قبله من سنين مثلُه في العلم والدين، والزهد والورع، تفرد في علوم كثيرة، وكان يعرف التفسير والحديث، ويحقق المذهبين - يعني: مذهب مالك، والشافعي -، ويعرف الأصلَين، وكان السلطان لاجين ينزل له عن سريره، ويقبل يديه. قال ابن سيد الناس: له تخلق وبكرامات الصالحين تحقق، وبعلامات العارفين تعلق، ولو لم يدخل في القضاء، لكان ثوريَّ زمانه، وأوازعيَّ أوانه. قال ابن حجر: واستمر فيه إلى أن مات سنة 704 - رحمه الله تعالى -. 487 - محمد بن محمد بن عبدِ اللهِ، الخيضريُّ. ولد سنة 821 ببيت المقدس، ونشأ بدمشق، وأخذ عن جماعة، وسمع الحديث من مشايخ بلده، والقادمين إليها، وتدرب بالحافظ ابن ناصر، ثم ارتحل إلى القاهرة، فسمع من ابن حجر، له مصنفات، منها: "البرق اللموع لكشف الحديث الموضوع". ترجمه السخاوي ترجمة طويلة كلُّها ثلبٌ وشتم؛ كعادته في أقرانه، ومن أعجب ما رأيته فيها من التعصب: أنه قدح في مؤلفات الخيضري، ثم قال: إنه ما رآها، وهذا غريب. ولعل موته بعد كمال المئة التاسعة، انتهى ما في "البدر الطالع". 488 - محمد بنِ محمدِ بنِ محمدٍ، المعروفُ بابنِ سيد الناس، الإمامُ، العالمُ، الحافظُ، المحدِّثُ، فتحُ الدين، أبو الفتح اليعمريُّ. سمع وقرأ، وارتحل وكتب، وحدث وأجاز، قال في "آثار الأدهار" كان إمامًا محدثًا حافظًا فصيحًا، وهو من بيت علم، أجاز له جماعة من الشيوخ، له كتاب: "المنقح الشذي في شرح الترمذي"، وكان ينظم الشعر، وله فيه حسنات، انتهى. ولد في سنة 671، وهو من بيت رئاسة بإشبيلية، قال الذهبي:

لعل مشيخته يقاربون الألف. قال الصلاح الكتبي: وكان عنده كتب كبار، وأمهات جيدة، وشعره رقيق، سهلُ التركيب، منسجمُ الألفاظ، عذبُ النظم بلا كلفة، ومن شعره: عَهدي به والبينُ ليس يَروعُه ... صَبٌّ براهُ نُحولُه ودموعُه لا تطلبوا في الحبِّ ثأرَ مُتَيَّمٍ ... فالموتُ من شرعِ الغرامِ شروعُه عن ساكنِ الوادي سَقَتْه مدامعي ... حَدَّثْ حديثًا طابَ لي مسموعُه أفد الذي عَنَتِ الوجوهُ لحبِّهِ ... إذ حلَّ معنى الحسن فيه جميعُه البدرُ من كَلَفٍ بهِ كَلِفٌ به ... والغصنُ من عَطْفٍ عليه خضوعُه أَهواهُ معسولَ المراشِفِ واللَّمى ... حلُو الحديثِ ظريفُه مطبوعُه دارتْ رحيقُ لِحاظِه، فلنا بها ... سكرٌ يجلُّ عنِ المُدامِ صنيعُه يَجْني فاضم (¬1) عَتْبَهُ فإذا بَدَا ... فجمالُه مِمَّا جناهُ شفيعُه انتهى. قال البرزالي: كان أحدَ الأعيان إتقانًا وحِفظًا للحديث، وتفهمًا في عِلَله وأسانيده، عالمًا بصحيحه وسقيمه، مستحضرًا للسيرة، له الشعرُ الرائق، والنثرُ الفائق، وكان مُحِبًا لطلبة الحديث، ولم يخلف في مجموعه مثله، له تصانيف، منها: "السيرة النبوية" (¬2)، و"شرح الترمذي". قال الصفدي: أقمت عنده بالظاهرية قريبًا من سنتين، فكنت أراه يصلي كل صلاة مرات كثيرة، فسألته عن ذلك، فقال: خطر لي أن أصلي كل صلاة مرتين، ففعلت، ثم ثلاثًا، ففعلت، وسهل علي، ثم أربعًا ففعلت، قال: وأشك هل قال: خمسًا؟ انتهى. قال الشوكاني: وهذا وإن كان فيه الاستكثار من الصلاة التي هي خير موضوع، وأجر مرفوع، ولكن الأولى أن يتعود النوافل بعد الفرائض على غير ¬

_ (¬1) كذا في المطبوع. (¬2) طبعت السيرة باسم: "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير"، في جزأين، ص 668، بالقاهرة 1356 هـ.

489 - محمد بن محمد، الدمشقي، الشيرازي، الشافعي، المعروف بابن الجزري

صفة الفريضة، فإن حديث النهي عن أن تصلَّى صلاة في يوم مرتين، ربما كان شاملا لمثل صورة صلاة صاحب الترجمة، ولعله يجعله خاصًا بتكرير الفريضة بنية الافتراض. وكان موته في سنة 734، انتهى - رحمه الله تعالى -. 489 - محمد بن محمد، الدمشقيُّ، الشيرازيُّ، الشافعيُّ، المعروف بابن الجزري. كان أبوه تاجرًا، لم يولد له أربعين سنة، فلما حج، شرب ماء زمزم، ونوى حصول ولد، فأعطاه الله تعالى هذا الابن السعيد، قال في "البدر الطالع": جَدَّ في طلب الحديث بنفسه، وأخذَ الفقه والأصول والمعاني والبيان، وتصدَّر للإقراء بجامع بني أمية، ثم دخل بلاد الروم، واتصل بالسلطان بايزيد خان، فأكرمه وعظَّمه، فنشر هنالك علم القرآن والحديث، ولما مات تيمور في سنة 807، خرج من سمرقند إلى خراسان، ودخل هراة، ثم يزد، ثم أصبهان، ثم شيراز، ثم بصرة، ثم جاور بمكة، ثم قدم دمشق، ثم القاهرة، ودخل اليمن. وله تصانيف كثيرة نافعة (¬1)، منها: "الحصن الحصين"، و"جنة الحصن"، و"المسند الأحمد فيما يتعلق بمسند أحمد". ولد سنة 751، ومات بشيراز يوم الجمعة سنة 833 - رحمة الله تعالى عليه -. 490 - محمد بن محمد، المعروفُ بابن فهد. ولد سنة 787. قال في البدر الطالع: سمع بالمدينة عن أهلها، ودخل اليمن، فلقي أكابرها؛ كالمجد - صاحب القاموس -، وسمع منه ومن غيره، وبرع في الحديث، وفاق على الأقران، وصار المعوَّل عليه في هذا الشأن ببلاد الحجاز قاطبة، وانتفع به الناس. ¬

_ (¬1) منها: "النشر في القراءات العشر"، هو سفر جليل، ليس له نظير في هذا الفن، جزآن، ص 992، طبع بالشام وبمصر.

491 - محمد بن محمد العلاء، البخاري، العجمي، الحنفي

وألف مؤلفات، له "ذيل على طبقات الحفاظ"، مات سنة 871 - رحمه الله تعالى -. 491 - محمد بن محمد العلاءُ، البخاريُّ، العجميُّ، الحنفيُّ. ولد سنة 779 هو تلميذ التفتازاني، له اليد الطولى في المعقولات والمنقولات. قال في "البدر الطالع": ترقى في التصوف، ومهر في الأدبيات، وتوجه إلى بلاد الهند، ونشر العلم هنالك، ثم قدم مكة، ثم القاهرة، واتفق في بعض المجالس أنه جرى عنده ذكر ابن عربي، وكان يكَفِّره ويقبِّحه، وكل من يقول بمقالته، فشرع العلاء في تقرير ذلك، ووافقه أكثر من حضر، إلا السباطي، فقال: إنما ينكر الناس عليه ظاهر الألفاظ التي يقولها، وإلا، فليس في كلامه ما ينكر إذا حُمل لفظه على معنى صحيح بضرب من التأويل، ومن جملة ما ذكر في ذلك إنكار الوحدة، وقرر العلاء إنكار ذلك، فقال له السباطي: أنتم ما تعرفون الوحدة المطلقة، فلما سمع ذلك، استشاط غضبًا وصاح بأعلى صوته: أنت معزول! ولو لم يعزلك السلطان، يعني: لتضمن ذلك كفره عنده، واستمر يصيح، وأقسم بالله! إن السلطان لو لم يعزله من القضاء، ليخرجن من مصر، فأشير على السباطي بمفارقة المجلس إخمادًا للفتنة. وبلغ السلطانَ ذلك، فأمر بإحضار القضاة عنده، فحضروا، فسألهم عن مجلس العلاء، فقصه كاتبُ السر، وهو ممن حضر المجلس، فسأل السلطانُ الحافظَ ابن حجر عن تكفير العلاء للسباطي، وماذا يستحق، هل التعزير أو العزل؟ فقال ابن حجر: لا يجب عليه شيء بعد اعترافه، وكان السباطي قد اعترف بكفر ابن عربي في مجلس السلطان، وأرسل السلطان إلى العلاء يترضاه، فأبى، ورحل عن مصر، وسكن دمشق، وصنف رسالة سماها: "فاضحة الملحدين"، زيف فيها ابن عربي وأتباعه، واتفقت له بدمشق حوادث، منها: أنه كان يسأل عن مقالات ابن تيمية التي انفرد بها، فيجيب بما يظهر له من الخطأ، وينفر عنه قلبه، إلى أن استحكم ذلك عليه، فصرح بتبديعه، ثم تكفيره، ثم صار

492 - السيد محمد بن محمد، الشامي

يصرح في مجلسه: أن من أطلق على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام، فهو بهذا الإطلاق كافر. فانتدب للرد عليه الحافظ ابن ناصر: وصنف كتابًا، سماه: "الرد الوافر على من زعمَ أَنَّ من أطلق على ابن تيمية أنه - شيخ الإسلام - كافر"، جمع فيه كلام من أطلق عليه ذلك من الأئمة الأعلام من أهل عصره من جميع أهل المذاهب سوى الحنابلة، وضمنه الكثير من ترجمة ابن تيمية، وذكر مناقبه، وأرسل بنسخة منه إلى القاهرة، فقرظه جماعة من أعيانها؛ كابن حجر ومعلم البلقيني، والعيني، والحنفي، والسباطي، وكتب العلاء كتابًا إلى السلطان - يُغريه بمصنفِ الرسالة، وبالحنابلة، فلم يلتفت السلطان إلى ذلك، وما كان أغنى صاحبَ الترجمة عن ذلك، ولكن السلطان له دقائق، لا سيما في مثل من هو في هذه الطبقة من الزهد والعلم، انتهى. قال المقريزي في "العقود": كان يسلك طريقًا من الورع فيسمح في أشياء يحمله عليها بعده عن معرفة السنن والآثار، وانحرافُه عن الحديث وأهله؛ بحيث كان ينهى عن النظر في كلام النووي، ويقول: هو ظاهري، ويحض على كتب الغزالي، انتهى. قال الشوكاني: ومن هذه الحيثية قال في ابن تيمية ما قال، وليس في علم إنسان خير إذا كان لا يعرف علمَ الحديث، وإن بلغ في التحقيق إلى ما لا ينال، انتهى. 492 - السيدُ محمدُ بنُ محمدٍ، الشاميُّ. من سكنة بلاد خولان صنعاء، أخذ العلوم الدرسية وعلم الحديث من خيار النبلاء الفضلاء القادة. قال الشوكاني: وهو الآن يقرأ عليَّ شرحي للمنتقى، ويحصله بخطه، وفي مؤلفي المسمى: بالدرر، وشرحه المسمى: بالدراري، و"السيل الجرار"، وفي تفسيري، وغير ذلك من مؤلفاتي، وقد صار الآن من أعيان علماء صنعاء وصلحائها وفضلائها - جَمَّلَ الله بوجوده، وكَثَّرَ من أمثاله - انتهى. ثم توفي - رحمه الله تعالى - بصنعاء سنة 1251.

493 - القاضي محمد بن يحيى بن سعيد، العنسي، الذماري

493 - القاضي محمدُ بنُ يحيى بنِ سعيدٍ، العنسيُّ، الذماريُّ. ولد تقريبًا سنة 1200، قال الشوكاني: له قراءة عليَّ في التفسير والحديث والآلة، وفي مؤلفاتي، وأذنتُ له بالقضاء بينَ من يرد إليه من الناس، وهو الآن باقٍ على ذلك، انتهى. لم أقم على تاريخ وفاته - رحمه الله تعالى -. 494 - محمد بن يحيى، المعروفُ ببهران. هو من علماء اليمن الميمون كان يَتَّجر في أوائل عمره، ويطوف البلاد، ومع ذلك يطلب العلم في كل محل، حتى تفرد في رئاسة العلم، وألف تآليف حسنة، ذكرها الشوكاني - رح - في "البدر الطالع"، وقال: منها: "المعتمد"، جمع فيه الأمهات الست، ورتبه على أبواب الفقه، وله "التفسير الكبير"، جمع فيه بين تفسير الزمخشري، وتفسير ابن كثير، مات بصعدة سنة 957. 495 - محمد بن يعقوب بنِ محمدٍ، مجدُ الدين، أبو الطاهر، الفيروز آباديُّ، اللغويُّ، الشافعيُّ، الإمامُ الكبير الماهرُ في اللغة وغيرها من الفنون. قال في "البدر الطالع": ولد سنة 729، بكازرون من أعمال شيراز، وارتحل إلى العراق، ودخل واسط، ثم بغداد، ثم دمشق، وسمع بها من التقيِّ السبكيِّ وجماعةٍ زيادة على المئة؛ كابن القيم وطبقته، ودخل بعلبك، وحماة، وحلب، والقدس، وسمع من أهل هذه الجهات، واستقر بالقدس نحو عشر سنين، ودرَّس، وتصدَّر، وظهرت فضائلُه، وكثر الأخذ عنه. وتلمذ له جماعةٌ من الأكابر؛ كالصلاح الصفدي، وجال في البلاد الشمالية والمشرقية، ودخل الروم والهند، ثم دخل اليمن، فوصل إلى "زَبيد" بعد وفاة الجمال الريمي في سنة 799، فتلقاه الملك الأشرفُ إسماعيلُ بالقبول، وبالغ في إكرامه، وأضاف إليه قضاء اليمن كله، وقرأ عليه السلطان ومَنْ دونه في الحديث، واستقر قدمه في "زبيد" إلى أن مات، وكان السلطان الأشرف قد تزوج ابنته؛ لمزيد جمالها، ونال منه برًا ورفعة، وفي أثناء هذه المدة قدم مكةَ مرارًا، فجاور بها وبالمدينة والطائف، واقتنى كتبًا نفيسة، حتى قال: إنه اشترى منها بخمسين ألفَ مثقالٍ من الذهب.

وله مصنفات كثيرة، منها: في التفسير "لطائف ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز"، في مجلدات. و"الدر النظيم المرشد إلى مقاصد القرآن العظيم". وفي الحديث "فتح الباري في شرح صحيح البخاري"، ولعل ابنَ حجر لم يسمع بذلك؛ حيث سمى شرحه بهذا الاسم، كمل منه نحو عشرين مجلدًا، وكان يقدر تمامه في أربعين مجلدًا. و"امتضاض السهاد في افتراض الجهاد"، في مجلد. و"الإسعاد بالإصعاد إلى درجة الاجتهاد"، ثلاث مجلدات. و"تسهيل طريق الوصول في الأحاديث الزائدة على جامع الأصول"، و"الأحاديث الضعيفة"، و"الدر الغالي في الأحاديث العوالي"، و"سفر السعادة"، و"القاموس"، وهو كتاب نفيس ليس له نظير، وقد انتفع به الناس، ولم يلتفتوا بعده إلى غيره. قال التقي الكرماني: كان عديمَ النظير في زمانه نظمًا ونثرًا بالفارسي. وحكى الخزرجي: أنه رامَ التوجُّهَ في سنة 799 إلى مكة، فكتب إلى السلطان ما مثاله: ومما ينهيه إلى العلوم الشريفة: أنه غيرُ خافٍ عليكم ضعفُ أقلِّ العبيد، ورقَّةُ جسمه، ودقة بنيته، وعلوُّ سنه، وقد آل أمره إلى أن صار كالمسافر الذي تحزم وانتقل، إذ وَهَنَ العظمُ والرأسُ اشتعل، وتضعضع السن وتقعقع الشن، فما هو إلا عظام في جراب، وبنيان مشرف على خراب، وقد ناهز العشر التي تسميها العرب دقاقة الرقاب. وقد مر على المسامع الشريفة غير مرة في "صحيح البخاري" قولُ سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغَ المرءُ ستين سنة، فقد أعذرَ اللهُ إليه"، فكيف من نيف على السبعين، وأشرف على الثمانين، ولا يَجْمُل بالمؤمن أن يمضي عليه أربعُ سنين، ولا يتجدد له شوقٌ وعزم إلى بيت رب العالمين، وزيارة سيد المرسلين. وقد ثبت في الحديث النبوي ذلك، وأقلُّ العبيد له ستُّ سنين عن تلك المسالك، وقد غلب عليه الشوق، حتى جل عمره عن الطوق، ومن أقصى أمنيته أن يجدِّدَ العهد بتلك المعاهد، ويفوز مرة أخرى بتقبيل تلك المشاهد، وسؤاله من المراحم الحسنة، الصدقةُ عليه بتجهيزه في هذه الأيام مجردًا عن الأهالي والأقوام، قبلَ اشتداد الحَرِّ وغلبة الأُوام، فإن الفصل أطيب، والريح أزيب،

496 - محمد بن يوسف بن علي، الكرماني، ثم البغدادي

ومن الممكن أن يفوز الإنسان بإقامة شهر في كل حرم، ويحظى في مهابط الرحمة والكرم، وأيضًا كان من عادة الخلفاء - سلفًا وخلفًا - أنهم كانوا يرددون البريد عمدًا قصدًا لتبليغ سلامهم إلى حضرة سيد المرسلين، فاجعلني - الله فداك - ذلك البريد، فلا أتمنى شيئًا سواه ولا أريد. شوقي إلى الكعبةِ الغراءِ قد زادا ... واستحملَ القلسَ الوَخَّادَةَ الزادا واستأذنَ المَلِكَ المِنْعامَ زيد على ... واستودعَ الله أصحابًا وأولادا فلما وصل هذا إلى السلطان، كتب في طرة الكتاب ما مثاله: صدرَ الجمالِ المصريَّ! على لساني ما يحققه لك شفاهًا، إن هذا شيء لاينطق به لساني، ولا يجري به قلمي، فقد كانت اليمن عمياء فاستنارت، فكيف يمكن أن تتقدم، وأنت تعلم أن الله قد أحيا بك ما كان ميتًا من العلم، فبالله عليك إلا ما وهبت له بقيةَ هذا العمر، والله! يا مجد الدين! يمينًا بارة، إني أرى فراق الدنيا ونعيمها، ولا فراقك، أنت اليمن وأهله، انتهى. قال الشوكاني - رح -: وفي هذا الكلام عبرة للمعتبرين من أفاضل السلاطين بتعظيم قدر علماء الدين، وقد أخذ عنه الأكابر في كل بلد وصل إليه، ومن جملة تلامذته: الحافظُ ابنُ حجر، والمَقْريزي، والبرهانُ الحلبي، ومات ممتعًا بسمعه وحواسه في ليلة عشرين شوال سنة 817، انتهى كلام الشوكاني في "البدر الطالع" - رحمه الله تعالى -. 496 - محمد بن يوسف بنِ عليٍّ، الكرمانيُّ، ثم البغداديُّ. ولد في سنة 717، وأخذ من جماعة ببلده، ثم ارتحل إلى شيراز، وأخذ عن القاضي عضد، ودخل الشام ومصر، وسمع "البخاري" بالجامع الأزهر من لفظ المحدث ناصر الدين الفارقي، وصنف شرحًا للبخاري، سماه: "الكواكب الدراري"، وسمع منه جماعة، واشتهر في جميع الأقطار، وعاب في خطبته على "شرح ابن بطال"، و"شرح الحلبي"، و"شرح مغلطائي". قال ابن حجر في "الدرر": إن شرح صاحب الترجمة مفيد، على أوهام فيه في النقل؛ لأنه لم يأخذه إلا من الصحف. تصدر لنشر العلم ببغداد ثلاثين سنة، وكان مقبلاً على

497 - محمود بن أحمد، العيني، يعرف بابن الأمشاطي

شأنه، لا يتردد إلى بني الدنيا، قانعًا باليسير، ملازمًا للعلم، متواضعًا. توفي في مرجعه من الحج في المحرم سنة 786، انتهى - رحمة الله تعالى عليه -. 497 - محمود بن أحمدَ، العينيُّ، يعرف بابن الأمشاطي. ولد في حدود سنة 812، سمع على جماعة؛ كابن حجر وطبقته، ودخل دمشق، وحج غير مرة، وجاور، ورابطَ في بعض الثغور، وسافرَ للجهاد، واعتنى بالسباحة والتجليد، ورمي النشاب، ورمي المدافع، له مصنفات. قال السخاوي: إنه سمعه يحكي: أنه رأى - وهو صبي - في يوم ذي غيم: رجلًا يمشي في الغمام، لا يشكُّ في ذلك ولا يتمارى، انتهى. قال الشوكاني: ويمكن أن يكون رأى قطعة من قطع السحاب متشكلة بشكل الإنسان، فإن الناظر في أطباق السحاب، إذا تخيل في شيء منها أنه على صورة حيوان، أو شيء من الجمادات، خُيل إليه ذلك إذا أدام النظر إليه، ولعلَّ سببَ ذلك كونُها متحركة دائمًا ولطافة الهواء، وكان للحاسة المخيلة فيما كان، كذلك اختراع يخالف ما جرت به عادتها من عدم تخيل ما يخالف المحسوس بحاسة البصر عند المشاهدة. ومات في سنة 902 بالقاهرة ودفن بها، انتهى. 498 - محمود بن أحمد بنِ موسى، الحنفيُّ، المعروفُ بالعيني. ولد سنة 762، وحفظ كتبًا في فنون عن جماعة، وبرع في جميع العلوم، وارتحل إلى حلب ودمشق وبيت المقدس، وحج، ودخل القاهرة، ودرَّس في مواطن منها، وتولى قضاء الحنفية. وتصانيفه كثيرة جدًا، منها: شرح البخاري في أحد وعشرين مجلدًا، سماه: "عمدة القاري". وكان ينقل فيه من شرح الحافظ ابن حجر، وربما تعقب ذلك، وقد أجاب ابن حجر عن تلك التعقبات؛ لأنهما متعاصران، وبينهما منافسة شديدة، وله "شرح الكَلِم الطيب لابن تيمية، و"تاريخ الأكاسرة"، و"طبقات الشعراء"، و"كتاب في الرقائق والمواعظ"، مات في ذي الحجة من سنة 855، انتهى - رحمه الله -.

499 - محمود بن مسعود، الشافعي، العلامة الكبير

499 - محمود بن مسعود، الشافعيُّ، العلامة الكبير. ولد بشيراز سنة 634. أخذ في الطب عن أبيه، وفي الهيئة عن نصير الشرك الطوسي، دخل الروم، وولي قضاء سيواس، وملطية، وقدم الشام رسولًا، وسكن تبريز، وكان كثير المخالطة للملوك، قيل: إنَّ دخلَه في عام ثلاثون ألفًا. درَّس بدمشق: "الكشاف"، و"القانون"، و"الشفاء"، وغيرها. وكان إذا صنف كتابًا، صامَ، ولازمَ السهرَ، ومسودته مبيضة، وكان يخضع للفقراء، ويلازم الصلاة في الجماعة، ومن تصانيفه "شرح المفتاح" للسكاكي، و"شرح الكليات" لابن سينا، وكان من أذكياء العالم، ولقبه عند الفضلاء: الشارح العلامة. قال الذهبي: كان على دين العجائز، وكان يخضع للفقهاء، ويوصي بحفظ القرآن، وكان إذا مدح، تخشَّعَ، وكان يقول: أتمنى أني كنت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن لي سمع ولا بصر؛ رجاءَ أن يلحظَني بنظره. وتلامذتُه يبالغون في تعظيمه، انتهى. وقد استمر على تعظيمه مَنْ بعدَهم حتى صار العلامةُ، إذا أُطلق، لا يُفهم غيره، بل جاوز ذلك كثير من المصنفين المتأخرين الذين غالبُ نظرهم مقصورٌ على مثل علمه، فقالوا: لا يطلق ذلك في الاصطلاح إلا عليه. قال الشوكاني: ولا عتبَ عليهم، فهم لم يعلموا بالعلوم الشرعية حتى يعرفوا مقدار أهلها، وقد عاصر صاحبُ الترجمة من أئمة العلم مَنْ لا يرتقي هو إلى شيء بالنسبة إليهم، وكذلك جاء بعد عصره أكابرُ - كما مر بك - في هذا الكتاب، وكما سيأتي، وأكثرُهم أحقُّ بوصفه بالعلامة، فضلًا عن كونه مستحقًا، وأين يقع من مثل من جمع منهم بين علمي المعقول والمنقول، وبهر بعلومه الأفهامَ والعقول؟ مات في رمضان سنة 710، انتهى. 500 - مسعود بن عمر "التفتازانيُّ الإمامُ الكبيرُ، المعروفُ بسعدِ الدين. ولد في سنة 722، وأخذ عن أكابر أهل العلم في عصره؛ كالعضد وطبقته، وفاق في كثير من العلوم، وطار صيتُه، واشتهر ذكره، ورحل إليه الطلبة. وشرع في التصنيف، وهو في ست عشرة سنة، وتوفي سنة 792، ومن شعره:

501 - السيد هاشم بن يحيى بن أحمد، من أئمة اليمن

طَوَيْتُ بإحرازِ العلومِ ونَيْلِها ... رداءَ شَبابي، والجنونُ فُنونُ وحينَ تعاطَيْتُ الفنونَ ونيلها ... تبين لي: أن الفنونَ جُنونُ تصانيفه كثيرة شهيرة متداولةٌ بين أهل العلم؛ كالمطوَّل، والمختصر، وغيرهما. قال الشوكاني: وبالجملة: فصاحب الترجمة متفردٌ بعلومه في القرن الثامن، لم يكن له في أهله نظير فيها، ومصنفاته قد طارت في حياته إلى جميع البلدان، وتنافسَ الناس في تحصيلها. ومع هذا لم يذكره ابنُ حجر في "الدرر الكامنة" في أهل المئة الثامنة، مع أنه يتعرض لذكره في بعض تراجم شيوخه أو تلامذته، وتارة يذكر شيئًا من مصنفاته عند ترجمة من درس فيها، أو طلبها، فإهمال ترجمته من العجائب المفصحة عن نقص البشر. قال: وكان صاحب الترجمة قد اتصل بالسلطان الكبير - الطاغية - الشهير تيمور لنك، وجرت بينه وبين السيد الشريف الجرجاني مناظرةٌ في مجلس السلطان في مسألة، كون إرادة الانتقام سببًا للغضب، أو الغضب سببًا لإرادة الانتقام، فصاحب الترجمة يقول بالأول، والشريف يقول بالثاني، قال الشيخ منصور الكازروني: والحق في جانب الشريف، وجرت أيضًا بينهما المناظرة المشهورة في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]، ويقال إنه حكم بأن الحق في ذلك مع الشريف، فاغتمَّ صاحب الترجمة، ومات كمدًا، والله أعلم، انتهى. 501 - السيد هاشم بن يحيى بنِ أحمدَ، من أئمة اليمن. قال في "البدر الطالع": ولد تقريبًا سنة 1104، ونشأ بصنعاء، وأخذ العلم عن أكابر علمائها؛ كالعلامة الحسين بن محمد المغربي، وبرع في جميع العلوم، ودرس الطلبة وتخرج به جماعة من العلماء؛ كشيخنا السيد عبد القادر، والقاضي العلامة أحمد بن قاطن، وتولى القضاء بصنعاء، وله شعر فائق، وفصاحة زائدة، ومن مقطعاته:

لم يُبْك جورُ الغرام ولا شجا ... قلبي المتيم بلبلٌ بسُجوعِهِ لكنه وعدَ الخيال بوصلِه ... طرفي فرشَّ طريقَه بدموعِهِ ومنها قوله: لا تَنْدُبَنْ زَمَنًا مَضَى ... كَلاَّ وعَهْدًا تَقادَمْ فالدهرُ يومٌ واحدٌ ... والناسُ من حَوّا وآدَمْ وما أحسن قوله: وإذا القلبُ على الحبِّ انطوى ... فاشتراطُ القربِ واللُّقيا غريبْ حرر ترجمته الخيمي في "طيب السمر"، وأحمد القاطن في "تحفة الإخوان"، و"إتحاف الألباب"، وقال: إنه أخبره أن إقرارات النساء لقرابتهن، وتمليكهن لهم، وإباحتهن، ونحو ذلك، لا يصح عنده؛ لضعف إدراكهن، وعدم خبرتهن، وحكي: أنه وصل إليه بعض أهل صنعاء بقريبة له، وقد كتب مرقومًا يتضمن أنها ملكته أموالًا، وجاء بجماعة يعرفونها، فقرأ عليها ذلك المرقوم، فأقرت به، فقال لها: هل معك حلقة في يدكِ؟ قالت: نعم، قال: أريد أن أنظر إليها، فأعطته حلقة كانت بإصبعها، فقال لها: وهذه اجعليها من جملة التمليك، فقالت: لا أفعل؛ فإنها لي، وكرر ذلك عليها فلم تعد، قال: فعلمت من ذلك: أن المرأة لا تعدُّ ما غاب عنها ملكًا لها، ثم مزق ذلك المكتوب، انتهى. قال العلامة الشوكاني في "البدر الطالع من الأفق اليماني": وأقول: لا ريب أن غالب النساء ينخدعن، ويفعلن - لا سيما للقرابة - كلَّ ما يريدونه، بأدني ترغيب أو ترهيب، خصوصًا المحجبات، وقد يوجد فيهن نادرًا مَنْ لها من كمال الإدراك، ومعرفة التصرفات، وحقائق الأمور ما للرجال الكملاء، وقد رأيت من ذلك عجائب وغرائب، والذي ينبغي الاعتمادُ عليه، والوقوفُ عنده: هو البحثُ عن حال المرأة التي وقع منها ذلك، فإن كانت ممارسة للتصرفات، ومطلعةً على حقائق الأمور، وفيها من الشدة والرشد ما يذهب معه مظنة التغرير عليها،

502 - وجيهة بنت علي بن يحيى، الأنصارية، الصعيدية، الإسكندرانية

فتصرُّفُها صحيحٌ كتصرف الرجال، وإن لم تكن كذلك، فالحكمُ ببطلان وصاياها التي لا تتعلق بقربة تخصها؛ من حج أو صدقة أو كفارة هو الواجب، وكذلك تخصيصها لبعض القرابة دون بعض بنذر أو هبة أو تمليك، أو إقرار يظهر فيه التوليج، وأما تصرفاتها بالبيع إلى الغير، والمعاوضة، فالظاهر الصحة، وإذا ادعت الغبن، كانت دعواها مقبولة إن طابقت الواقع، ولا يحلُّ دفعُها بمجرد كونها مكلفة تولية للبيع، ولا غبن على مكلف؛ فإنها بمن ليس بمكلف أشبه، إلا في النادر، انتهى. مات صاحب الترجمة في صفر سنة 1158، وجميع عمره أربع وخمسون سنة، كما ذكره السيد العلامة إبراهيم بن محمد الأمير في مجموع له - رحمه الله تعالى -. 502 - وجيهة بنتُ علي بنِ يحيى، الأنصاريةُ، الصعيدية، الإسكندرانيةُ. ولدت قبل سنة 640. وقال ابن رافع، والصفدي: ولدت سنة 639، وعلى كل حال، هي تلميذة ابن النحاس، وأحمد القرافي. قال الشوكاني: سمعَتْ كثيرًا، وأجاز لها جماعة، وحدَّث عنها جماعة كثيرة، ماتت في رجب سنة 732. 503 - يحيى بنُ أبي بكر بنِ محمدٍ، العامريُّ، اليمانيُّ، الشافعي. ولد سنة 816. قال في "البدر الطالع": هو محدث اليمن وشيخُها، سمع من أبي الفتح المراغي بمكة، ومن جملة شيوخه ابنُ فهد المكي، واستفاد منه طلبةُ العلم، ورحلوا إليه، وله مصنفات، منها "غربال الزمان" في التاريخ، و"بهجة المحافل" في السيرة و"الرياض المستطابة"، ومؤلفاته مشهورة مقبولة نافعة ومفيدة، مات بحرض سنة 893، ودفن بها. 504 - السيد يحيى بن الحسين بنِ الإمامِ القاسِم. ولد تقريبًا سنة 1035. قال في "البدر الطالع": أهمل ذكرَه أهلُ عصره، ولعل سبب ذلك - والله

505 - يحيى بن علي بن محمد الشوكاني

أعلم - ميلُه إلى العمل بما في أمهات الحديث، وردُّه على مَنْ خالف النصوص الصحيحة، وقد رأيت له مؤلفًا، سماه: "صوارم اليقين لقطع شكوك القاضي أحمد بن سعد الدين"، ردَّ عليه لتضمنه الردَّ على أئمة أهل الحديث، وهو مؤلف ممتع، يدل على طول باع مصنفه، وكذلك رأيت له مصنفًا، سماه: "الإيضاح لما خفى من الاتفاق على تعظيم صحابة المصطفى". ووقع بينه وبين أهل عصره قلاقل بسبب تظهره بما تقدم. وبالجملة: فهو من أهل القرن الحادي عشر، وفي "طبقات السيد إبراهيم": أخذ عنه جماعات، وله روايات في كتب الحديث، فكان إمامًا محققًا، له تصانيف جليلة، منها: "كتاب التاريخ" في مجلدين، وسرد منها زيادة على أربعين مصنفًا، وأرخ موته بعض المؤرخين في سنة نيف وثمانين وألف، هكذا - رحمه الله تعالى -. 505 - يحيى بن علي بنِ محمدٍ الشوكاني. قال في "البدر الطالع": أخو مؤلف هذا الكتاب، ولد في رجب سنة 1190، قرأ على جماعة من المشايخ المتصدرين الآن بجامع صنعاء؛ كالعلامة محمد بن أحمد السودي، والعلامة سعيد الرشيدي. له إقبال على الطاعة، وحفظ للسانه عن الفلتات التي لا يخلو عنها غالب أمثاله، ونجابة كاملة وذهن وقاد، وفكرٌ إلى إدراك الحقائق منقاد، وحسنُ سمت، وقنوع وعفاف، ومحاسن أوصاف، فتح الله عليه بالمعارف، وجعله من العلماء العاملين، وصار الآن يقرىء الطلبة في علوم متعددة من علوم آلية وتفسيرية وحديثية؛ كالأمهات وغيرها. وقد سمع مني الأمهات وغيرها من كتب الحديث، وسمع مني "تفسير الزمخشري"، و"المطوَّل"، و"حواشيهما"، ومن مؤلفاتي: "نيل الأوطار"، و"السيل الجرار"، و"تحفة الذاكرين"، و"فتح القدير"، وقد أخذ عني العلوم بطريق السماع، ثم أكدت ذلك بالإجازة العامة له في جميع ما اشتمل عليه كتابي "إتحاف الأكابر"، وجميع مصنفاتي، وجميع مالي من نظم ونثر، وهو - كثر الله

506 - يوسف بن الزكي عبد الرحمن، يعرف بأبي الحجاج المزي، الإمام الكبير الحافظ

فوائده، ومتع بحياته - جيدُ النظم إلى الغاية القصوى، وله من ذلك قصائدُ فرائد. وبالجملة: فهو حسنة من حسنات الزمن، وفردٌ من أفراد قطر اليمن، وقد برع في كثير من العلوم - زاده الله كمالًا -، انتهى. 506 - يوسف بن الزكي عبدِ الرحمن، يعرف بأبي الحجاج المزيُّ (¬1)، الإمامُ الكبيرُ الحافظُ. ولد سنة 654، وقال نعمان في "الروضة الغناء": سنة 650. وقال: دفن بمقبرة الصوفية غربي قبر أبي تيمية، انتهى. أقول: ولم أقف على عام وفاته، فمن وقف، فليلحق ها هنا - رحمه الله تعالى -. وبالجملة: طلب بنفسه فأكثرَ، ومشايخه نحو الألف، ومن مشايخه: النووي، وتبحَّر في الحديث، ودرَّس بمدارس، منها: دار الحديث الأشرفية، ولما ولي تدريسها، قال ابن تيمية: لم يلها من حين بُنيت إلى الآن أحقُّ بشرط الواقف منه. قال الذهبي: ما رأيت أحدًا في هذا الشأن أحفظَ منه، وأوذي مرة بسبب ابن تيمية لأنها لما وقعت له المناظرة مع الشافعية، وبحث معه الصفي ¬

_ (¬1) اسمه: يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، أبو الحجاج، جمال الدين بن الزكي، أبي محمد، القضاعي الكلبي "المِزِّي". قال ابن حجر في "الدرر الكامنة": يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الملك بن يوسف بن علي بن أبي الزهر الحلبي الأصل "المزي"، أبو الحجاج، جمالُ الدين، الحافظُ. مرض أيامًا يسيرة، بسبب وجع في باطنه، ظنه قولنجًا، وإنما كان طاعونًا، قاله صهره "ابن كثير"، قال: فاستمر به إلى أن مات بين الظهر والعصر من يوم السبت 12 صفر سنة 742، وهو يقرأ آية الكرسي، وصُلِّي عليه من الغد بالجامع، ثم خارج باب النصر، ثم دفن بمقابر الصوفية بالقرب من ابن تيمية، انتهى. ولد بظاهر حلب سنة (654 هـ 1256 م)، ونشأ بالمزة، وتوفي في دمشق سنة (742 هـ 1341 م). المزة: بضم الميم، وبكسرها. قال ياقوت الحموي في "معجم البلدان": المزة: بالكسر ثم التشديد، أظنه عجميًا، فإني لم أعرف له في العربية مع كسر الميم معنى، وهي قرية كبيرة، غَنَّاءُ في وسط بساتين دمشق، بينها وبين دمشق نصف فرسخ. وبها يقال قبر "دحية الكلبي" صاحبِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انتهى.

507 - يوسف بن شاهين الجمال بن الأمير أحمد العلائي قطلوبغا، الكركي، الحنفي، ثم الشافعي، سبط الحافظ ابن حجر

الهندي، وابن الزملكاني، شرع صاحبُ الترجمة يقرىء كتاب "خلق أفعال العباد" للبخاري، قاصدًا بذلك الردَّ على المخالفين لابن تيمية، فغضب الفقهاء، وقالوا: نحن المقصودون بهذا، فبلغ ذلك القاضي الشافعيَّ يومئذ، فأمر بسجنه، فتوجه ابن تيمية، وأخرجه من السجن بيده، فغضب النائب، فأُعيد، ثم أُفرج عنه، فأمر النائب أن ينادى: بأن من تكلم في العقائد، يقتل. ومن مصنفاته: "تهذيب الكمال"، اشتُهر في زمانه، وحدَّث به خمس مرات، وكتاب "الأطراف (¬1) "، وهو كتاب مفيد جدًا. ولم يكن مع توسعه في معرفة الرجال يستحضر تراجم غير المحدِّثين، لا من الملوك، ولا من الوزراء والقضاة والأدباء. قال الذهبي: كان خاتمة الحفاظ، وناقد الأسانيد والألفاظ، وهو صاحب معضلاتنا، ومرجع مشكلاتنا، وقال: فيه حياء وكرم وسكينة، واحتمال وقناعة، وانجماعٌ عن الناس، مات سنة 744، وفي "الروضة الغناء": سنة 742، انتهى. 507 - يوسف بن شاهين الجَمالُ بنُ الأمير أحمدَ العلائي قطلوبغا، الكركيُّ، الحنفيُّ، ثم الشافعيُّ، سِبْط الحافِظ ابنِ حجر. ولد سنة 828، سمع على جده - أبي أمه - كثيرًا، وعلى ابن القطان، وجماعة آخرين، وقرأ في الفنون على المحلي، والرشيدي، ودار على الشيوخ، وكتب الأجزاء، وصنف مصنفات، منها: "رونق الألفاظ لمعجم الحفاظ"، و"المنتخب بشرح المنتخب" في علوم الحديث، و"منحة الكرام بشرح بلوغ المرام"، وقد طار ذكرُه في الآفاق، وتناقلت مؤلفاته الرفاق. وأما السخاوي في ¬

_ (¬1) وأصل اسمه: "تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف"، في ثماني مجلدات، والكتاب المذكور لم يطبع بعد. وشقيقنا الشيخ عبد الصمد شرف الدين - حفظه الله - بذل جهوده في العثور على تحصيل هذا السفر الجليل، وفعلاً عثر على بعض أجزائه، منها: خطية، والآخر في صورة ميكرو فلم. وشرع في العمل مرتبًا نسخة صحيحة صالحة، يذيلها بكتاب "النكت الظراف على الأطراف" لابن حجر العسقلاني، وسيشرع في طبعه عن قريب. والأمل أن يكمل طبع المجلد الأول منه في السنة المقبلة؛ أي 1964 م - إن شاء الله - وبالله التوفيق.

508 - يوسف بن محمد بن علاء الدين، المزجاجي، الزبيدي، الحنفي

"الضوء اللامع"، فجرى على قاعدته المألوفة [في] معاصريه وأقرانه، فترجم صاحبَ الترجمة بما هو محضُ السباب والانتقاص، [و] لا سبب يوجب ذلك، بل مجرد كونه يعترض على جده ابن حجر، أو يغلط في بعض الأحوال كما هو شأن البشر، مات سنة 899، انتهى. قلت: وعندي نسخة من "بلوغ المرام" منقولة عن نسخة الحافظ الإمام، وعليها قراءة سبطه هذا بقلمه، وقد قرأ في هذه النسخة جماعةٌ من الحفاظ على شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، مَنَّ الله تعالى بتيسيرها عليَّ في هذا العصر الأخير، وقد صحح جماعة من أهل العلم نسخَهم عليها في شهرنا هذا ربيع الأول من شهور سنة 1298، ولله الحمد. 508 - يوسف بنُ محمد بنِ علاءِ الدين، المزجاجيُّ، الزبيديُّ، الحنفيُّ. قال العلامة الشوكاني: شيخُنا المسند الحافظ، ولد تقريبًا سنة 1114، أو قبلها بيسير، أو بعدها بيسير، ونشأ بزبيد، وأخذ عن علمائها، ومنهم والده، وبرع في العلوم دراية ورواية، وصار حامل لواء الإسناد في آخر أيامه، ووفد إلى صنعاء في شهر [ذي] الحجة سنة 1107، فاجتمعت به، وسمعت منه، وأجازني لفظًا بجميع ما يجوز له روايته، ثم كتب لي إجازة بعد وصوله إلى وطنه، وأرسل بها إليّ، ومن جملة ما أرويه عنه أسانيد الحافظ الشيخ إبراهيم الكردي المسماة بالأمم، وهو يرويها عن أبيه عن جده علاء الدين، عن الشيخ إبراهيم، هذه طريقة السماع، ويرويها أيضًا عن أبيه، عن الشيخ إبراهيم بالإجازة؛ لأن الشيخ إبراهيم أجاز لجد صاحب الترجمة ولأولاده، وقد أوقفني على تلك الإجازة بخط الشيخ إبراهيم، فوالدُ صاحب الترجمة ممن شملته الإجازة، لكنه أخبرني - رح -: أن الإجازة من الشيخ إبراهيم لعلاء الدين كانت قبل وجود ولده محمد ولد المترجم، فيكون العمل بها متنزلًا على الخلاف في جواز الإجازة لمن سيوجد، مات - رح - سنة 1213، انتهى. قلت: وذكر له السيد العلامةُ عبدُ الرحمن بنُ سليمان ترجمة حسنة في "النفس اليماني"، وأثنى عليه كثيرًا، وقال: سمعت عليه "صحيح البخاري" من أوله إلى آخره، قال: وكان منزله مجمَعًا للفضلاء على اختلاف المذاهب،

509 - قاضي الجماعة، الفقيه، المحدث، أبو عبد الله بن حمدين - رحمه الله -

يجتمعون إليه، ويجعلونه حكمًا؛ لكمال علمه، وقوة فهمه. وما زالَ أهلُ العلمِ والفضلِ والتُّقى ... عُكوفًا به حتى ظَنَنَّاهُ مَسْجِدا وكان لا يترك كل يوم من كتابة قدر معلوم من كتاب الله، أو من كتابة فوائد وآداب، أو كتابة نسخة من العلوم النافعة، حتى اجتمع له مع الدوام من ذلك الشيء الواسع، شعر: فلا تَكْتُبْ بكفِّكَ غيرَ شيءٍ ... يَسُرُّكَ في القيامَةِ أن تَراهُ وكان له حبٌّ كثير في أهل البيت النبوي - صلى الله عليه وسلم -: وهل يستوي وُدُّ المقلِّدِ والذي ... له حُجَّةٌ في حُبِّهِ ودلائلُ انتهى. قلت: وهذا شأن المحدِّثين؛ فإن حبهم للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعترتِه وصحابته، وحفاظِ هَدْيه وسمتِه شيءٌ لا ينكره إلا من أعمى اللهُ بصرَ بصيرته، وما لهذا الحبِّ وللمقلدين الجامدين على رأي الإمام، والمشتغلين بالفروع في الليالي والأيام، فأين هذا من ذلك؟ 509 - قاضي الجماعة، الفقيهُ، المحدثُ، أبو عبد الله بنُ حمدين - رحمه الله -. ذكر له الفتحُ بنُ خاقانَ ترجمةً بليغة في "قلائد العقيان"، وقال: حامي ذمار الدين وعاضدُه، وقاطعُ ضرر المعتدين وخاضِدُه، ملكَ للعلوم زمامًا، وجعل العكوفَ عليها لزامًا، فأحيا رسمَها، وأعلى اسمَها، وخاصمت الملحدين منه ألسنٌ لُدّ، وتهدلت به على العالمين أغصُنٌ مُلْد، وكفَّ أيدي الظالمين، فلم تكن لهم استطالة، وأرهف خواطر المجتهدين، فلم تسنح لهم بطالة، قال: وكان - رحمه الله تعالى - مُتَّضِحَ طريق الهدى، منفسحَ الميدان في العلم والنَّدى، مع أدب كالبحر الزاخر، ونثرٍ كالدرِّ الفاخر، ومن قوله - رح - شعر: لا بِقَوْمي شَرُفْتُ بَلْ شَرُفوا بي ... وبِنَفْسي فَخَرُت لا بِجُدودي

510 - الفقيه، الإمام، الحافظة، أبو بكر بن عطية

وفي هذا المعنى: ورثناهنَّ عن آباءِ صدقٍ ... ونورثها إذا متنا بَنينا 510 - الفقيهُ، الإمامُ، الحافظُة، أبو بكر بن عطية. قال الفتح بن خاقان: شيخ العلم وحاملُ لوائه، وحافظُ حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وكوكبُ سمائه، شرح الله بحفظه صدرَه، وأطال به عمره، مع كونه في كل علم وافر النصيب، مباشرًا بالمعلَّى والرقيب. رحل إلى المشرق لأداء الفرض، لابسًا بُرْدَاً من العمر الغض، فروى وقَيَّد، ولقي العلماء وأسند، وأبقى تلك المآثر وخلد، وما برح يَتَسَنَّم كواهلَ المعارف وغواربَها، ويقيد شواردَ المعاني وغرائبها، ومن شعره: كنْ بذئبٍ صائدٍ مستأنِسًا ... وإذا أبصرْتَ إنسانًا فَفِر إنَّما الإنسانُ بحرٌ ما لَهُ ... ساحلٌ فاحذَرْهُ إياكَ الغَرَرْ واجعلِ الناسَ كشخصٍ واحدٍ ... ثُمَّ كنْ من ذلك الشخصِ حَذِرْ وله - رح -: أَيُّها المطرودُ من باب الرِّضا ... كَمْ يراكَ اللهُ تلهو مُعْرِضا كَمْ إلى كَمْ أنتَ في جهلِ الصِّبا ... قَدْ مضى عمرُ الصِّبا وانقرَضا قمْ إذا الليلُ دَجَتْ ظلمتُهُ ... واستلذَّ الجفنَ أن يَغْتَمِضا فضعِ الخدَّ على (¬1) الأرض ونُحْ ... واقرعِ السنَّ على ما قَدْ مضى 511 - تقي الدين بنُ معروف. قال الشهاب الخفاجي في "ريحانة الألباء": سماءُ فضلٍ بإطلاع نجوم الكمال معروف، وشموسُ معارفه لا يعتريها كُسوف، ورياضُ علمه أنيقة، ودوحةُ مجده وَريفة الظلِّ وَريقة، ولم يزل متقلدًا بصارم القضا، قانعًا من معشوقته الدنيا بحالتي الصدِّ والرضا. قال: وله شعر وسط، ونثر غريب النمط. قال: مسالةٌ سُئلت عنها في حال تحريري هذه الريحانة، وهي أنه منع بعض ¬

_ (¬1) في المطبوع: "عن".

المالكية من الألقاب المضافة للدين؛ كسعد الدين، وعز الدين، فقلت: قال العارف بالله ابن الحاج في كتابه المسمى "بالمدخل" الذي استقصى فيه أنواع البدع ما نصُّه: من ارتكب بدعة ينبغي له إخفاؤها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتُلي منكم بشيء من هذه القاذورات، فليستترْ"، والعالِمُ يجب عليه التسترُ أكثرَ من غيره؛ لأنه ربما قال: إن عنده علمًا بجواز ما ارتكبه، فيقتدي به غيرُه، فمما ينبغي التحفظُ عليه من البدع: الأعلامُ المخالفة للشرع، المضافة للدين؛ لما فيها من تزكية النفس المنهيِّ عنها؛ كما صرح القرطبي في "شرح أسماء الله الحسنى"، وللفضل بن سهل قصيدة في ذمها، فمنها: وقوله فيمن لُقِّبَ بعز الدين، وفخر الدين: أَرى الدينَ يَسْتَحيي من اللهِ أن يُرى ... وهذا له فخرٌ وذاكَ نصيرُ فقد كثرتْ في الدين ألقابُ عُصبةٍ ... هُمُ في مراعي المنكراتِ حميرُ وإني أُجِلُّ الدينَ عن عزة بهم ... وأعلمُ أن الذنبَ فيه كبيرُ فمن نادى بهذا الاسم، أو أجاب به، فقد ارتكب ما لا ينبغي؛ لأنه كذب. وفي الحديث: "عليكم بالصدق؛ فإنه يهدي إلى البِرِّ، والبِرُّ يَهدي إلى الجنة، والكذبُ فجورٌ، والفجورُ يَهْدي إلى النار" الحديث. فإذا قال أحد: محيي الدين، يقال: أهذا الذي أحيا الدين؟ فإذا أخذ صحيفته، وجدها مشحونة بالكذب. ولما دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أم المؤمنين زينبَ، قال لها: ما اسمُك؟ قالت: بَرَّةُ، فكره - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وقال: "لا تزكوا أنفسكم"، وسماها: زينب. ولا يقال: إنها خرجت عن أصلها بالنقل إلى العلمية؛ لأنه لو كان كذلك، ما كرهوا تركها، مع ما فيها من التشبه بالعجم المنهي منه. وهذه التسمية أولَ ما ظهرت من متغلبة الترك مضافة إلى الدولة، وكانوا لا يلقبون أحدًا إلا بإذن السلطان، وكانوا يبذلون عليه المال، ثم عدلوا عنه بالإضافة إلى الدين، ونقل عن النووي: أنه كان يكره من يُلقبه بمحيي الدين، ويقول: لا جعل الله مَنْ دعاني به في حل، ولذا تحاشى عنه بعض العلماء،

وهذه نزعة شيطانية من أهل المشرق، ولما كان في أهل المغرب من التواضع، كانوا يغيرون الأسماء لما هو منهي عنه أيضًا، فيقولون لمحمد: حمود، ولأحمد: حمدوس، وليوسف: يوسو، ولعبد الرحمن: رحمو، ونحوه، انتهى. أقول: أما كون هذه بدعة حدثت بعد العصر الأول، فلا شبهة فيه، وأما كونها ممنوعة شرعًا، أو مكروهة، فلا وجه له، وما تشبث به أوهَى من بيت العنكبوت، وما نقله عن النووي وغيره من السلف لا أصلَ له، وكذا ما نقل عن شيخ والدي ناصر الدين اللقاني: أنه كان يكتب في الفتاوى: ناصر لهذا، وقد غرني بذلك مدة، ثم رجعت عنه لعدم ثبوته، وكونه كذبًا يكتب في صحيفة مجازفة، لا ينبغي أن يقال مثله في الرأي، وهذا لم يضعه الإنسان لنفسه، وإنما سماه به أبواه في صغره وعدم تكليفه، وكونه تزكية لنفسه أيضًا غيرُ صحيح؛ لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة، فهو مضاف للسبب تفاؤلًا، فعزُّ الدين، بمعنى: يعزه الله بالدين، وكذا محيي الدين، بمعنى: محيي نفسِه بالدين، فقياسه على "برة" قياسٌ فاسد مع الفارق، ولو صح هذا، مُنع: أحمد، ومحمد، وحسن - وهو محمود -، وقد قال المحدثون: إذا اشتهر اللقب، جاز، وإن كان ذمًا؛ كأعرج وأعمش، وما ذكر تضييق وحرج في الدين، وفي هذا الكتاب كثير من هذا النمط، فإياك والاغترارَ به، والأعلام إنما تدل وضعًا على الذات، والتفاؤلُ بالأمور المستحسنة مستحب؛ لقوله في الحديث: كان يحبُّ الفأل ويكره الطِّيَرَةَ، ويحمد قائله لا يعتقد ثبوت ما يقال به، وإنما سمي به، فلا كذب، والأعلامُ لا حجرَ فيها، والتشبُّه بالعجم فيما لا يزاحم الشرع غيرُ منهيٍّ عنه إلا للعصبية المذمومة؛ بدليل حديث الخندق، ويدلُّ على ما ذكرناه حديثُ تسمية النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمحمد؛ وأما حديث بَرَّة - إن صحّ - فإنما فعله - صلى الله عليه وسلم - لكونه من أعلام الجاهلية، أو لمعنى آخر؛ بدليل أنها كانت برةً في نفسها، انتهى. قال الجامع لهذا المختصر: هذا كلام فيه ما يُقبل وما يُرد، وموضع بسط الكلام عليه غير هذا الموضع.

512 - بدر الدين بن رضي الدين، الغزي، العامي، الشامي

512 - بدر الدين بنُ رَضِيِّ الدينِ، الغزيُّ، العاميُّ، الشاميُّ. فريدُ الدهر وأوانه، وابن عباس زمانه، وسلمان آل بيته، وحسان قصيدته وبيته، صاحبُ الفنون، وغيث الإفادة الهَتون، ذكر له الخفاجي ترجمة بليغة في "الريحانة"، وقال: جمال الكتب والسِّيَر، وسيدُ أهل الحديثِ وعينُ ذوي الأثر، من حارت به أقطار غزة، شرفًا باذخًا وعزة، وله شعر، فمما لمع من نور كماله، وسطع من نجوم أقواله، قوله: إن كانَ حمدُ العبدِ مولاه إنَّما ... يكونُ بإلهامٍ من اللهِ للعبدِ وذلكَ مِمَّا يوجبُ الحمدَ دائمًا ... فلا حمدَ حقًا من سوى ملهمِ الحمدِ وقوله: من رامَ أن يبلغَ أقصى المُنى ... في الحَشْر مَعْ تقصيرهِ في القُرَبْ فَلْيُخْلِصِ الحبَّ لخيرِ الورى ... المُصْطَفى، والمرءُ مَعْ مَنْ أحبّ وقوله: إنَّ أَلْطافَ إِلَهي ... ليَ قالَتْ خَلِّ عَنْكا لا تُدَبَّرْ لكَ أَمْرًا ... أنا أَوْلَى بِكَ مِنْكا وأنشد له: إِنْ تَسَلْ عن حالِ الذين اجتباهُمْ ... رَبُّهُم، عاجِزًا وتَطْلُبْ قُرْبا أَحْبِبِ اللهَ والذينَ اصْطفاهُمْ ... تَبْقَ مَعْهُم، فالمرءُ مَعْ مَنْ أَحَبَّا وللحافظ ابن حجر العسقلاني في المعنى: وقائلٍ هل عملٌ صالحٌ ... أعددتُه ينفعُ عندَ الكُرَبْ فقلتُ: حسبي خدمةُ المصطفى ... وحُبُّهُ، فالمرءُ مَعْ مَنْ أَحَبّ وكنت قلتُ قبل أن أسمع هذا: وحق المصطفى لي فيه حُبٌّ ... إذا مرضَ الرُّجاءُ يكون طبَّا ولا أرضى سِوى الفردوسِ مَاْوًى ... إذا كانَ الفَتَى مَعْ مَنْ أَحَبَّا

513 - السيد يحيى بن عمر مقبول الأهدل

واعلم: أنه وقع في حديث صحيح عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رجلًا أتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ الله! أنت أحبُّ إليَّ من نفسي وأهلي ومالي، وإني إذا ذهبتُ لداري لا تطيبُ نفسي حتى آتيك وأراك، فإذا متَّ أنت، كنتَ في أعلى مقام، فاخشى ألا أراك، فلم يجبه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فنزل جبريل - عليه السلام - بقوله - عز وجل - {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المَرْءُ مع من أحب". وقلت في معناه، رباعية: حُبِّي لمحمد حبيبِ الباري ... في طينةِ خلقتي وروحي ساري والمرءُ ومَنْ أحبَّ في الخلد معًا ... طوبى لي إن غدوتُ عبدَ الدارِ 513 - السيد يحيى بنُ عمر مقبول الأهدل. كان وحيدَ عصره، وفريدَ مِصْره في علوم التفسير والحديث والقراءات، وكان له الباعُ الواسع في ذلك، وربما كان يملي على معاني الآية الواحدة ما يقارب الكراسة، أفرد ترجمته تلميذُه المحققُ إبراهيم بن أحمد في مجلدين حافلين. وترجم له العلامة عمر الأحمر، وقال: حافظ العصر بالاتفاق، ومحدث الأقليم بلا شقاق، عمادُ الإسلام، ومرجع الخاص والعام، في النجد وتهامة والشام. توفي سنة 1147، عن أربعة وسبعين تقريبًا، غلب عليه علمُ الحديث حتى نُسب إليه. وكان في معرفة الحديث ورواية الأسانيد والصحيح والحسن والضعيف، وشديد الضعف: إمامًا. أخذ الحديثَ عن جماعة من الحفاظ، منهم: السيد أبو بكر بن علي، والقاضي أحمد جعمان، والشيخ عبد الله المزجاجي، وطلب منه الإجازة ما بين مخالف وموافق؛ كالشيخ طه من ذي جبلة، والسيد هاشم بن حسين الشامي، والسيد إسحاق حفيد المتوكل، والسيد إبراهيم حفيد المهدي، وقبل موته بسنة كتب إليه علماء الحرمين كافة يطلبون منه الإجازة، فأجاز لهم، وأما في بلده زبيد، فله تلامذة هم سواد عيون البلاد،

514 - سليمان بن يحيى، المذكور

وشموس آفاقها بلا انتقاد، دارت على رؤوسهم رحى التدريس، وبذل طالبهم كل نفيس، منهم: العلامة أحمد بن محمد مقبول الأهدل، والشيخ يحيى بن أحمد الحكمي. وأما زهده وكرمه وإحسانه، وصلابته في الدين، وصلاحه وكراماته وورعه، فحدِّثْ عن البحر ولا حَرَج، وكان يحسده جماعة من أقرانه ممن له تعلقٌ بالعلم، فسُلبت منه هيبة العلم وأبهته، وليس له منه إلا المسمى، وبعضهم لم يبق له من العلم إلا الرسوم، واستخف به الناس، وله مصنفات كثيرة، منها "القول السديد فيما أحدث من العمارة بجامع زبيد"، قرظ عليه علماء مكة وغيرهم، وأنكر عليه الخصوم، ولكن: إذا رَضِيَتْ عني كِرامٌ عشيرتي ... فلا زالَ غضبانًا عليَّ لِئامُها ولله در القائل: جزَى الله عَنَّا الحاسدينَ فإنَّهم ... قد استوجَبوا مِنَّا على فعلِهم شُكْرا أذاعوا لنا ذَمًّا، فأَفشَوا مكارِمًا ... وقد قَصَدُوا ذَمًّا، فصارَ لنا فَخْرا 514 - سليمان بن يحيى، المذكور. قرأ على أبيه، وأجازه، ومشايخه من أهل اليمن والحرمين ومصر والشام وغيرهم جم واسع، منهم: أحمد بن محمد مقبول الأهدل، والشيخ العلامة عبد الخالق المزجاجي، والشيخ محمد بن علاء الدين المزجاجي، والسيد عبد الرحمن باعلوي، كتب له إجازة حافلة نثرًا ونظمًا أكثرَ من مئة بيت، ومنهم: الشيخ الحافظ محمد حياة السندي، والحافظ محمد بن الطيب المغربي، والشيخ محمد بن سنبل مفتي الشافعية، والسيد جعفر حسن البرزنجي، والسيد الصوفي عبد الله ميرغني، ذكرهم في رحلته المسماة بوشي حبر السمر في شيء من أحوال السفر، ومنهم: مسند الشام الإمامُ الكبير محمد بن أحمد السفاريني، والشيخ عبد الغني النابلسي، وكان أثريَّ المذهب، سلفيَّ المشرب، قارئًا للحديث، ومُسْمِعًا له، وعاملًا به - رحمه الله تعالى -.

515 - السيد عبد الرحمن، بن سليمان بن يحيى، المذكور، مؤلف كتاب "النفس اليماني والروح الريحاني في إجازة القضاة بني الشوكاني"

515 - السيد عبد الرحمن، بن سليمان بن يحيى، المذكور، مؤلفُ كتاب "النفس اليماني والروح الريحاني في إجازة القضاة بني الشوكاني". ولد سنة 1179. نشأ على حسن الاستقامة في عيشة راضية مرضية في طاعة الله بالعبادة، والقراءة، والتدريس، والتأليف، والنفع للمسلمين، وصار إمامًا، فقيهًا، محدثًا، مسنِدًا، مفسِّرًا، أصوليًا، منقوليًا، معقوليًا، عديمَ النظر في الأقران، داعيًا إلى كتاب الله وسنة رسوله، عاملًا بالحديث والقرآن، طارحًا للتقليد والآراء حتى أحبَّ الله لقاءه، فحينئذ مرضَ مرضَ الموت قريبًا من عشرة أيام، وأتاه اليقين، فتوفاه الله - عز وجل - في ليلة الثلاثاء بعد العشاء الأخيرة في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 1250، وله من العمر واحد وسبعون سنة، وأرخ (¬1) بعض الفضلاء وفاته بقوله: ليهنك الفردوس مفتي الأنام، واغتمَّ الناسُ ليلةَ موته غمًا شديدًا، كيف وقد أثلم في الإسلام ثلمة تعذَّرَ سدُّها، ولكن لا يسع في ذلك إلا التسليم، والانقياد للملك العليم، والامتثال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من عظمت عليه مصيبته، فليذكر مُصيبتي، فإنكم لن تُصابوا بمثلي" الحديث، أو كما قال. والاقتداء بالسلف الصالح في قولهم عند المصائب: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، وما أحسن ما قيل في مثل ذلك: في الذاهبينَ الأولينَ ... من القرونِ، لنا بَصائِرْ لَمَّا رأيتُ مواردًا ... للموتِ ليسَ لها مصادِرْ ورأيتُ قومي نحوَها ... تَمْضي الأكابرُ والأَصاغِرْ لا ترجع الماضي إليَّ ... ولا منَ الباقين غابِرْ أَيقنتُ أَنِّي لا محالةَ ... حيثُ صارَ القومُ صائِرْ قال - رحمه الله - في "النفس اليماني": وأنا - بحمد الله - قرأت على شيخنا الوالد ما يسَّره الله من العلوم النقلية والعقلية، وأجازني بإجازات متكررة لفظًا وخطًا، فمما رأيته بخطه بعد الخطبة: أما بعد: فإني حصلت لي إشارة في ¬

_ (¬1) لعله حدث اشتباه في التاريخ، حيث إن عدد حروف الجملة المذكورة لم يوافق عدد السنة.

بشارة، مع توجه إلى الله عقب استخارة، أن أجيز أولادي بما يجوز لي روايته، ويصح لي درايته، فأقول: قد أجزتهم، وهم: ولدي عبد الله، وعبد الرحمن، وعلي، وإسماعيل - فتح الله على جميعهم فتوح العارفين، ونظمهم في سلك العلماء العاملين - إلى قوله: بشرطه المعتبر عند أهل الحديث، وأوصيهم بتقوى الله، والدوام على الاشتغال بالعلم، خصوصًا معاني الكتاب العزيز، وخدمة الحديث النبوي، والإخلاص في ذلك كله ... إلى آخر ما كتبه. قال: وليعلم أن مما تكرر لي - ولله الحمد - سماعُه على شيخنا الوالد، وعلى سيدي العم أبي بكر بن يحيى "صحيح الإمام البخاري" حتى ثبت لي - ولله الحمد - فضيلة الاندراج في سلسلة التسلسل للجامع الصحيح، من أوله إلى آخره، إلى قوله: نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا بحَوْله وطَوْله من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]: أيا سامعًا! ليسَ السماعُ بنافعٍ ... إذا أنتَ لم تعملْ بما أنتَ سامعُ قلت - عفا الله عني -: وقد ترجم له الفقيه العلامة سعد بن عبد الله سهيل ترجمة حافلة في مجلد لطيف، سماها: "فتح الرحمن في مناقب سيدي عبد الرحمن"، ذكر فيه فوائد جليلة تتعلق بتفسير القرآن والحديث. قال في "النفس اليماني": هذا، وإني قد أجزتُ إجازةً معينٍ لمعين مَنْ وضعت هذه الوريقات من أجله، وهو القاضي العلامة المحقق، والنحريرُ المدقق، جمالُ الإسلام، عليُّ ابن شيخ الإسلام إمام العلوم، فارس منطوقها والمفهوم، عز الإسلام محمد بن علي الشوكاني، بلغ الله الجميع في الدارين غاية الأماني، وأجزت أخويه: العلامةَ صفيَّ الإسلام أحمدَ، وعمادَ الإسلام يحيى - عافاهما الله تعالى - إجازة شاملة في كل ما يجوز لي روايته، وتصح درايته، كما أجازني من مَرَّ ذكرُهم من المشايخ الأعلام، وأجزت أولادهم، ومن سيولد لهم، وكذلك أجزت أولادي: محمد، وعبد الباقي، وسليمان، وأولادهم، ومن سيولد لهم، بمثل ذلك، وأجزت كافة من أدرك حياتي، وسيما من وقعت بيني وبينه المعرفة، وخصوصًا من وقعت بيني وبينه الاستفادات العلمية،

وأولادهم، ومن سيولد لهم، راجيًا بذلك من الله تعالى - إن شاء الله تعالى - الخيرَ الشامل الكثير. وغير خاف أن التحقيق على ما في "شرح المحصول" للأصفهاني: أن دلالة العام على بعض أفراده تضمن؛ لأن زيداَ، وهو أحد المجازين في مسألتنا جزء من مجموعهم من حيث هو مجموع، فزيد في نفسه جزئي، وجزء باعتبار آخر، وهو كونه واحدًا من مجموع الأفراد، والمسألة مشهورة، بل مفردة بالتأليف، انتهى. (كويم اين كتاب اعني "نفس اليماني" كابي ست بس نفيس، مشتمل بر ذكر مشائخ اِجازات، وتراجم مجيزين از علماء أعلام، ومحتوى بر فوائد كثيره از اِفادات فحول، ودر آن بعد از ذكر مشائخ حديث اسماء فهارس كتب حديثيه كه متضمن تفصيل آسانيد ست نوشته، واز آنجا كه مؤلف نفس يماني از شيوخ سلاسل علم حديث اين هيج ميرزست، ومنجمله مشائخ وى. رح. يكي سيد مرتضى، صاحب "تاج العروس" شاكرد شاه ولي الله محدث دهلوي ست، ديكر شيخ محمد حيات سندي اُستاذ شيخ محمد فاخر زائر اِله آبادى، وسيد علامة غلام علي آزاد بلكرامي، ديكر قاضي القضاة محمد بن علي شوكاني، بس اِتصال سلسله آسانيد هند بيمن ميمون واتحاد طريقه اِجازات يمن بعلماء حرمين شريفين وغيرهما طرفه لطف وبركت دارد، صاحب "نفس يماني" محدث جليل وفاضل نبيل وعلامو كبير وحبر نحرير، صاحب كرامات كثيره، وبركات غزيره، ومقامات فاخره، وأحوال باهره، وسائر زاهره واَنفاس صادقة، وهمم عالية، ونفحات روحانيه، وسائر ملكوتيه، ومحاضرات قدسية بود. واز ولايت عظمى بذروه اعلى رسيده، واز مؤلفات شريفو اوست: منهج سوى حاشية منهل روى، كه دلالت دارد برسعت. اطلاع اُو در علم حديث، وبر آنكه وى. رح. از اَجل أئمة اين فن ست: يهناكَ يا خيرَ الزمان بلاغة ... فيما بحثتَ عن الحديثِ المُبْهَمِ عن خيرِ خلقِ الله أفضلِ رُسْلِهِ ... عنْ ناطقٍ ومحدِّب ومُكَلَّمِ أشفيتَ قلبَ الناظرينَ إليه قدْ ... أطنبتَ في إيضاحه للمغرَمِ

وسقيتَ قلبَ محبِّه ماءَ الحَيا ... فانزاحَ عنهُ كلُّ داءٍ مؤلِمِ وخود اين كتاب "نفس يماني" يكي از اَدله كمال اِيماني اُوست، در "فتح الرحمن" كفته. فإنها دالة على سَعَة أخذه عن الأئمة الإسلام، وأنه ذو مشايخ عديدة، قل أن يوجد له نظير، وقد قسم - رضي الله عنه - مشايخه فيها على ثلاث طبقات، فراجعها إن أردتها، ففيها العجب العجاب، انتهى. كويم در كتاب مذكور بزير ترجمه سيد اَحمد مغربي نوشته:) الشيخ العلامة عمر بن عبد القادر من بلاد "بو لغار"، مكث لدينا مدة، وذكر أن له في السياحة سنين، وأملى عليَّ مما شاهده من عجائب مخلوقات الله ما أذكرني قولَ الشاعر: سَتُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهِلاً ... ويأتيكَ بالأخبار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ وذكر لي أنه شاهد عند قاضي بلخ: أحد عشر شرحًا على "صحيح البخاري" كلُّها تساوي "فتح الباري" في الحجم، انتهى. وذكر من مشايخه الشيخ العلامة المحقق معز الدين الهندي، قال: وهو من أرض "ملتان"، له اليد الطولى في العلوم، خصوصًا الأصول والمنطق، وقد وقعت منه إفادات، جزاه الله خيرًا، انتهى. وذكر تحت ترجمة السيد عبد القادر الكوكباني الملا سعد الله اللاهوري، وهو من شيوخ مشايخه، وذكر في سلسلة سند المذكور: بابا يوسف الهروي، المشهور بصيدلة، ومعناه: ثلاث مئة سنة؛ لأنه عاش هذا القدر مع سبع سنين زيادة عليه، وكان في سنة 822، ذكره الحافظ السخاوي، وحكاه عن بابا المذكور، وقال: استظهر لذلك بأن عدة من شيوخ بلده، قالوا: نحن رأيناه في طفوليتنا على هيئته الآن، وأخبرنا آباؤنا بمثل ذلك، قال: وقرأ علينا شيئًا بالإجازة العامة، انتهى كلامه - رح -. واز مؤلفات أو ست "شرح بلوغ المرام"، تا تيمم در بست كراسه وناتمام مانده، ورساله در تخصيص قراءات صحيح بخاري بماه رجب وعدم بدعت بودن آن، وكتاب "الروض الوريف في استخدام الشريف"، و"تلقيح الأفهام في وصايا خير الأنام"، و"فتح اللطيف شرح مقدمة التصريف"، و"الجنى الداني على

مقدمة الزنجاني"، و"كشف الغطا عن أسئلة ابن عطا"، ورسالة در قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3]، وروى - رحمه الله - بسى مهابت وجلالت وعظمت ونور داشت، كوبا باره از قمر ست، ودر حفظ وإطلاع نظير خود نداشت، بارها آنحضرت - صلى الله عليه وسلم - را در خواب ديده، متصف بود بكثرت عبادات، وزود نويسى، تا آنكه تمام "فتح الباري"، و"تفسير أبي السعود"، و"در منثور"، و"إحياء العلوم" را مرارا من أولها إلى آخرها بدست خود نوشته، وتفسير رازي، وشرح قسطلاني را بقلم خود نكاشته، تكلم ميكرد بعربي ومي فرمود: العالم ذباب، أحد جناحيه شفاء والآخر داء، يعني هيج شيء نيست كه آنزا صلاح وفساد ومعترى نمى شود، بس كاهي خير است وكاهي شر، بحسب حيثيات، ومى فرمود: علم بلقلقة لسان وطول اطناب وبيان بديع نيست، ونه در كراريس كثيره ومجلدات ضخمة وآوراق ست، بلكه مفاد ملكه تامه ورسوخ ست، كه بدان بنده نزديك مى شود بخدا. وفرمود {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، غِشارات ست بسوى علم عقائد {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 3]، بسوى علم فقه سلت {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، بسوى علم تصوف، جه اِنفاق سياست خلق ست، وفرمود: السلامة كل السلامة في المحافظة الكاملة على ألفاظ الكتاب والسنة، واستفادة العلوم والأسرار من ألفاظهما، فهذا هو الصراط المستقيم، كفت {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت: 69] أي: بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي التي هي الآيات التنزيلية {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]؛ أي: بالكشف عن حقائق المعارف وأسرارها الموصلة إلى السعادة الكبرى من معرفة الحق - سبحانه وتعالى -. ومطلع شد بر قرب اَجل خود، وبدان تحديث كرد، ونماز وداع بر كزارد وبمرد، أو را اَشعار رائقة، وتوسلات كثيرة ست، در أبيات عديدة بجانب نبوت - صلى الله عليه وسلم - الأصل الأصيل فيما جرت به عادة العلماء سلفًا عن خلف من تراجم العلماء والأعيان، قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].

516 - الشيخ عبد الله بن عمر الخليل، شيخ السيد المذكور

وأخرج أبو داود، والترمذي، والحاكم، والبيهقي، والطبراني عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذكروا محاسنَ موتاكم، وكُفُّوا عن مَساويهم". قال الطيبي: الثناء الحسن - سيما من الرجل الصالح - يؤثر في الميت، كما يرشد إلى ذلك حديث: "أنتم شُهداءُ اللهِ في الأرض"، انتهى. ثم مات ولده محمد - رحمه الله تعالى - في سنة 1258، وله من العمر ثمانية وأربعون سنة، وتمام أحواله في كتاب "فتح الرحمن" الذي ألفه مؤلفه سنة 1263. وكتبه لكاتب الحروف - عفا الله عنه - الشيخ العلامةُ عليُّ بنُ أبي بكر بنِ محمد جمال، المعروفُ بالصائغ - عافاه الله تعالى - من مدينة زبيد في سنة 1288، بعناية شيخنا القاضي العلامة حسين (¬1) بن محسن بن محمد السبعي الخزرجي الأنصاري اليمني الحديدي - حماه الله تعالى -، وجاء معه أيضًا كتابه المسمى بالمنهج السوي، ولله الحمد. 516 - الشيخ عبدُ الله بنُ عمرَ الخليل، شيخُ السيد المذكور. كان متبحرًا في العلوم النقلية والأدبية والعقلية، قال للسيد عبد الرحمن: يا ولدي! اشتغلت بهذه العلوم الغربية مدة مديدة، وأتقنتها، ثم أفقت، فلم أجد عنها سائلًا، ولا لها حاملاً، فقرعت سنَّ الندم، لو كان الاشتغال بدلها بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولله در قول الشاعر: في غم توصد حيف عمري كه كذشت ... بيش أزين كاش كرفتار غمت مى بودم ¬

_ (¬1) الشيخ حسين بن محسن محمد السبيعي الخزرجي، الأنصاري اليماني، الحُدَيدي، دخل أرض الهند بناء على طلب ملكة بهوبال، "شاه جهان بيكم" له، وهي آنذاك زوجة مؤلف هذا الكتاب، والقصد من مجيئه للاستفادة العلمية، ومن ذلك الآن طلب عائلته أن تغادر إلى بهوبال، فبقي فيها طيلة حياته. وأحد أحفاده، المسمى: عبيد بن محمد بن الشيخ حسين، وهو بالوقت الحاضر مشغول في تدريس اللغة العربية، في الكلية الحميدية، ببهوبال. ومن أسباط الشيخ حسين المتقدم ذكره، شاب يدعى: محمد عباس بن القاضي محمد فاروق، وهو ابن بنت زين العابدين بن الشيخ حسين، وهو أيضًا يدرس اللغة العربية في المدرسة الثانوية، أحمد سيلر هائي اسكول، الواقعة ببمباي، حتى الآن.

517 - الشيخ عبد الله بن سليمان الجوهري

وأما مَلَكَتهُ في النثر الفصيح البليغ الناصع، والنظم الرائق الفائق الواسع، فأمرٌ مجمَعٌ عليه، ولله درُّ الصفيِّ الحِلِّيِّ حيث يقول: ليسَ البلاغةُ معـ .... ـنًى في الكلام يطولُ بل صوغُ معنًى جليلٍ ... يحويهِ لفظٌ قليلُ يظنُّهُ الناسُ سهـ ... ـلًا وما إليهِ سَبيلُ قال الشريف العلوي: ومثال ذلك: يا بانةَ الوادي التي سفكَتْ دمي ... بلِحاظها بل يا فتاةَ الأَجْرَعِ بي أَنْ أَبُثَّ إليكِ ما ألقاهُ مِنْ ... أَلَمِ النوى، وعليكِ أَن لا تَسْمَعي وكان - رح - في عمر التسعين، لا تراه إلا تاليًا كتاب الله، أو مشغولاً بذكره سبحانه، أو مدرسًا في الحديث، لا يزال هذا دأبه من أول النهار إلى حصة وافرة من الليل. وله كتاب "تحذير المهتدين عن تكفير الموحدين"، و"ذيل الحصن الحصين"، و"نظم نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، ومن مشايخه الشيخ العلامة محمد بن علاء الدين المزجاجي، وذكر منهم رجلًا من علماء الهند من أكابر المحققين، يسمى: حسام الدين. توفي - رحمه الله تعالى - في سنة 1196 الهجرية. 517 - الشيخ عبد الله بن سليمان الجوهري. كان من العلماء الأعلام. مؤلفاته تقارب خمسين مؤلفًا في الحديث والفقه والأصول، وكان كثير البكاء من خشية الله - عز وجل - عند تلاوة القرآن، وفي الصلاة، لا تراه إلا في تقطير دموع، وتصعيد أنفاس، ومن مشايخه: السيد يحيى بن عمر، والشيخ عبد الخالق المزجاجي. وكان كثير التردد إلى الحرمين الشريفين، يكري نفسه للحج، كما كان أبو أمامة يكري نفسه للحج، ولما قيل له: لا حجَّ لك، لقي ابنَ عمر، فسأله، فقال: أليس تلبي، وتحرم، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمي

518 - الشيخ، الولي، الكبير، صفي الإسلام، أحمد بن حسن الموقري

الجمار؟ قال: بلى! قال: فإن لك حجًا، جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عن مثل ما سألتني عنه، فسكت عنه - صلى الله عليه وسلم -، فلم يجبه حتى نزل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، وقرأ عليه ذلك، وقال: "لكَ حَجٌّ". وقد أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعًا: "إن الله يُدخل بالحجة الواحدةِ ثلاثةَ نفرٍ الجنةَ: الميتَ، والحاجَّ عنه، والمنفذ لذلك". وعن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في رجل أوصى بحجة: "كُتبت له أربعُ حِجج، حجةٌ للذي كَتَبَها، وحجةٌ للذي نفذها، وحجةٌ للذي أوصى بها، وحجة للذي عملها"، انتهى ما في "النفس اليماني". وأقول: هذه الروايات تحتاج إلى صحة سندها، والذي في "الصحيح": أن يحج قريب عن قريب، ولا يحج عن الميت غريب، كما أوضحنا ذلك في كتابنا "دليل الطالب". 518 - الشيخُ، الوليُّ، الكبيرُ، صفيُّ الإسلام، أحمدُ بنُ حسن الموقريُّ. كان من العلماء العاملين، والفضلاء السالكين إلى طريق رب العالمين، لا يراه أحد متكلمًا بمباح إلا لضرورة أو حاجة، وكان يغلب عليه الحال: تَوَجَّهَ للإِلَهِ بِلا التفاتٍ ... وأَبْقَى الغيرَ في شغلِ الخيالِ وكان أليفَ المسجد، حليفَ المنزل، وعن جميع الأنام بمعزل. قال السبكي: وجدتُ الصلاحَ كلَّه في كلمتين من الحديث النبوي - صلى الله عليه وسلم -: "عليك بِخُوَيِّصَةِ نفسِكَ" ففيها إرشادٌ إلى الاشتغال بتهذيب النفس، وتنقيتها من الكدورة والدنس، وقوله: "ولْيَسَعْكَ بيتُك"، ففيها إرشادٌ إلى أن السلامة كلَّ السلامة في العزل عن الخلق، فمتى خرج الإنسان، فقد تعرض للشقاء والعناء. قال تعالى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117]، وكان كلامه كلُّه بجامع الأدعية النبوية. ومن مشايخه السيد يحيى بن عمر المذكور، ومن نظمه الشريف: هل لي إليكَ وسيلةُ ... ألقى بها كشفَ الغِطا

519 - الشيخ، الولي، العلامة، خواجة أمر الله بن محمد باقي، المزجاجي

ما لي إليكَ وسيلةٌ ... إلا نوالُك والعَطا لما نظرتُ حقيقتي ... فإذا أنا عينُ الخَطا توفي - رحمه الله تعالى - سنة 1201 الهجرية. 519 - الشيخ، الولي، العلامةُ، خواجة أمر الله بن محمد باقي، المزجاجيُّ. نسبة إلى قرية من قرى زَبيد، لا يراه أحد إلا هشاشًا بشاشًا، منبسطَ الخاطر، متجملَ الحال، مع ما هو فيه باطنًا من الفاقة، فلسان حاله ينشد: وإني لأُخفي باطني وهو ظاهرٌ ... وينظرُ مني ظاهري وهو ضاحِكُ وأسألُ عن حالي، ولي كُلُّ فاقَةٍ ... فأُفهم أني للعراقَيْن مالِكُ وقال آخر: عسى، فالعسى فيه للقلب راحةٌ ... وإن لم يكن فيه شفا غلةِ الصدرِ وقال آخر: لعل، وما تُغني لعلَّ، وإنها ... عُلالةُ صَبًّ واستراحةُ هائِمِ وكان متطلعًا على أحوال العلماء، سيما الذين كانوا في عصره، ومَنْ وفد إليه من الآفاق من العلماء والأولياء من الحرمين ومصر والشام والهند، وسُئل عن الرطب الذي تساقط على مريم - من أي أنواع التمر هو؟ فقال: جاء في القراءة الشاذة: "رطبًا جنيًا هجريًا"، وذكر أنه نسب إلى تمر هجر، قريةٍ من قرى حضرموت. وذكر من مشايخه الشيخ عبد الخالق المزجاجي، والعلامة محمد حياة السندي تلميذِ الشيخ أبي الحسن السندي، مُحَشِّي الأمهات الست في الرسالة المسماة: "بالوجازه في الإجازة"، والشيخ العلامة عبد الكريم الهندي المكي، والشيخ العلامة أمر الله الهندي، وشيخ الطريقة كوشك الهندي النقشبندي، وشيخ الطريقة حسين البخاري الهندي، إلى غير ذلك من حفاظ الحرمين وغيرهما، وهم جمع جَمّ. عفا اللهُ عن قومٍ عَفا الصبرُ عنهُمُ ... فلو رُمْتُ ذكرى غيرِهم خَرِسَ الفَمُ

520 - السيد أحمد بن محمد شريف مقبول الأهدل

520 - السيد أحمد بن محمد شريف مقبول الأهدل. كان من العلماء الراسخين، والعباد الزاهدين، له اليد الطولى في علم التفسير، والحديث، والفقه، والأصلين، وغيرها، له صبر على طول مجلس التدريس، ولا يترك في جلسته استقبال القبلة، وكان لمنطقه حلاوة، وعلى عبارته طلاوة، وكان يطوف في أيام مجاورة مكة في أثناء الليل والمطافُ خالٍ عن كثرة الطائفين، فلما قَبَّلَ الحجرَ الأسودَ، لصقَتْ شفتُه به، ولم يقدر على فكاكها، وبقي مستسلمًا لذلك، حتى جاء طائف مرادُه تقبيلُ الحجر، ففكَّه. ومن مشايخه السيد العلامة يحيى بن عمر، قرأ عليه التفاسير الكبار، ومن كتب الحديث الشيء الواسعَ جدًا، وكان السيد يحيى من الدعاة إلى الترغيب في الإقبال على التفسير والحديث، وتفهُّم معاني الكتاب والسنة، والتفقُّه في ذلك، والعمل بما صح به الدليل، حتى إن بعض الفروعيين بسبب هذا الشأن كان يقول فيه: خرج عن المذهب، والسيد يبلغه ذلك، ولا يصغي لقول قائل، ولا يرعوي لعذل عاذل، ولسان حاله ينشد: إذا اختارَ جُلُّ الناسِ في الدينِ مذهبًا ... وصَيَّرَه رأيًا وحَقَّقَهُ فِعْلا فإني أرى علمَ الحديثِ وفعلَه ... أحقَّ اتباعًا بل أسدَّهم سُبْلا ورأيَهم أَوْلى وأعلى لكونِهم ... يَؤُمُّون ما قالَ الرسولُ وما أملى ولقد أذكرني هذا قولَ بعضهم: إن شئتَ أَنْ تسعدَ بينَ الورَى ... وَلا تَرَى هَمًّا ولامَتْعَبَهْ فعاشرِ الناسَ على حالِهم ... واتركْ لكلًّ منهمُ مَذْهَبَهْ وله مشايخ جمة، قال أبو علي الثقفي: لو أن رجلًا فهمَ العلوم كلَّها بالمطالعة، لا يبلغ مبلغَ الرجال إلا بالتعليم والتأدب من شيخ ناصح راسخ: أَمُدَّعيًا علمًا وليسَ بقارىءٍ ... كتابًا على شيخٍ بهِ يَسْهُلُ الحَزْنُ أتزعمُ أن الذهنَ يوضحُ مُشْكِلًا ... بِلا مخبرٍ، تاللهِ قَدْ كذبَ الذهنُ وإنَّ ابتغاءَ العلمِ دونَ معلِّمٍ ... كموقدِ مصباحٍ وليسَ له دُهْنُ

521 - الشيخ، العلامة، المحدث، عبد الله بن سالم البصري، المكي

ومن لم يلزم التعلُّمَ والآداب، عُدَّ من جملة الدواب، وما أحسنَ ما أنشدَ بعضهم - رح -: دلالةُ سعدِ المرءِ تسليمُ نفسِه ... إلى عارفٍ باللهِ يشرحُ صدرَهُ يُؤَيِّدُهُ بالحِفْظِ في سيرِهِ إلى ... منازلِ سُعْدَى حيثُ يمنح سرَّهُ 521 - الشيخُ، العلامةُ، المحدثُ، عبدُ الله بنُ سالم البصريُّ، المكيُّ. قارىء "صحيح البخاري" في جوف الكعبة المشرفة، له شرح عليه عزَّ أن يُلْفى في الشروح مثلُه، لكن ضاق الوقت عن إكماله، سماه: "ضياء الساري"، وهذا الاسم كاد أن يكون من قبيل المعمى؛ فإنه موافق لعام الشروع في تأليفه، ومن مناقبه: تصحيحُه للكتب الستة، حتى صارت نسخته يُرجَع إليها من جميع الأقطار، ومن أعظمها "صحيح البخاري"، أخذ في تصحيحه نحوًا من عشرين سنة، وجمع "مسند الإمام أحمد" بعد تفرق أيدي سبا، وصححه، وصارت نسخته أمًا، وأخذ عن جملة من المشايخ الكرام؛ كالحافظ محمد البابلي، والشيخ عيسى المغربي، والشيخ أحمد البناء، وغيرهم، وأخذ في طريقة التصوف على جماعة، منهم: العلامة عبد الرحمن المحجوب، ذكر له السيد العلامة غلام علي آزاد البلجرامي ترجمة حسنة في كتابه "تسلية الفؤاد". 522 - السيد أبو بكر بن يحيى بنِ عمرَ الأهدل. العلمُ العلامة، والسند الفهامة، فريدُ عصره، ونادرةُ دهره، سراجُ الإسلام. يا ليتَ شِعريَ ما يُعَبِّرُ ناطِقٌ ... عن فَضْلِهِ العالي وعظمِ المَنْصِبِ أو ليسَ ذاكَ الماجدَ العَلَمَ الذي ... سَفَرَتْ محاسِنُه ولم تَتَجَلْبَبِ أخذ العلوم النقلية والعقلية عن مشايخ عصره، وحفاظ وقته، منهم: السيد العلامة أحمد بن محمد شريف - رحمه الله تعالى - حتى بلغ من الكمال غايته، ومن الفضل نهايته، ومنهم: الشيخ الفهامة عبد الخالق المزجاجي، قرأ عليه "الصحيحين"، و"شرح النخبة" للحافظ مؤلفها، وجميع "بهجة العامري"، ومنهم: مفتي زبيد الفقيه سعيد بن عبد الله الكبودي.

وأما مقروءاته من تفسير وحديث، وفقه وتصوف، وآلات ذلك، فشيء واسع جدًا. قال السيد عبد الرحمن في "النفس اليماني": قرأت عليه عدة مقروءات، منها: "صحيح مسلم" مع شرح النووي، و"رسالة القشيري" مع شرح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وتصدَّرَ لإملاء "صحيح البخاري" المعتاد، أملاه في الشهر الأصم الأصب شهرِ الله رَجَب، ويجتمع مع إملائه عدة من العلماء الأعيان، وتقع مذاكرات مفيدة، ومباحث عديدة. وكان - رحمه الله - على جانب عظيم من لين الجانب، ورحب الصدر، واتباع السنة، وكمال التواضع، وبشاشة الوجه، وغير ذلك. وما أكسبَ المحامدَ طالبوها ... بمثلِ البِشْرِ والوجهِ الطليقِ وبالجملة: فمناقبه ومزاياه كثيرة، ومحاسنه وفضائله غزيرة: سارتْ بأوصافِهِ الركبانُ فاتفقتْ ... على معاليه أسماعٌ وأبصارُ أثنى على فضلِه حُسَّادُه، وكَفَى ... أن الحسودَ لهُ بالفضلِ إقرارُ وكان في حفظ كتاب الله عن ظهر قلب آية باهرة، قلَّ أن يرتج في قراءته، مع ما منحه الله من الصوت الحسن، إذا سمعه المارُّ في طريقه، وقف. قراءةٌ تطربُ الأسماعَ نغمتُها ... وتنقلُ النفس من حالٍ إلى حالِ ولا غرو في حصول مثل ذلك، لا سيما إذا اقترن بالصوت الحسن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول - كما في "صحيح البخاري" -: "ما أَذِنَ اللهُ لشيءٍ ما أَذِنَ لنبيٍّ يَتَغَنَّى بالقرآن"، أذن: أي: استمع، وعند أحمد وغيره: "اللهُ أشدُّ أَذَنًا إلى الرجلِ الحسنِ الصوتِ من صاحبِ القَيْنَةِ إلى قَيْنَتِه"، وروى ابن أبي شيبة من حديث عقبةَ بن عامر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تعلموا القرآن، وغنوا به"، قال الحافظ في "الفتح": كذا وقع، والمشهورُ عندَ غيره في هذا: "وتَغَنَّوا عنه"، والمعروفُ في كلام العرب: أن التغني: الترجيعُ بالصوت، وأطال الحافظ الكلام في ذلك إلى أن قال: والذي يتحصل من الأدلة: أن حسن الصوت بالقرآن

523 - السيد العلامة، ذو المحاسن الفائقة، يوسف بن حسين البطاح

مطلوب، فإن لم يكن حسنًا، فليحسِّنه ما استطاع، ومن جملة تحسينه: أن يراعي فيه قوانين النغم؛ فإن حسن الصوت يزداد بذلك حسنًا، فإن خرج عنها، أثر ذلك في حسنه، وغيَّر الحسن ربما إن خير بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها، لم يعدل تحسين الصوت لقبح الأداء، فلعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام، لأن الغالب على من راعى الأنغام أَلاَّ يراعي الأداء، فإن وجد من يراعيها معًا، فلا شك أنه أرجحُ من غيره؛ لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت، وتجنب الممنوع من تحريم الأداء، انتهى كلام الحافظ. وأقول: قال تعالى {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]، والترتيل: أن يقرأ القرآن مفصلًا مشرحًا، لا يلتبس بعض حروفه وكلماته ببعضها، المراد بالتغني: الجهر بقراءته دون رعاية قوانين الأنغام، وتمزيق الحلوق، وتعويج أعضاء الوجوه بمخاريج الأداء، وما أحدثه القراء من التكلف في ذلك، والمبالغة في التجويد، وقرروا من القواعد، وجعلوها علمًا مستقلًا، فليس في نظر الإنصاف في شيء، ولم يكن عليه هدي النبي، ولا سيرةُ السلف الصالح؛ كما يعرف ذلك من يعرف أحوال الصدر الأول، والله أعلم. 523 - السيد العلامة، ذو المحاسن الفائقة، يوسف بن حسين البطاح. ثمال اليتامى والمساكين، لم يزل ... أبًا لهم يَحْنو عليهمْ، ويرأفُ وهِمَّتُه استنباطُ حكمٍ دليله ... شواهد نقلٍ أو قياسٌ مؤلَّفُ أخذ عن السيد العلامة أحمد بن محمد شريف في علم التفسير والحديث والفقه، وغير ذلك، ومما قرأه عليه "أذكار النووي"، و"رياض الصالحين"، قال صاحب "النفس اليماني": قرأت عليه عدة مقروءات، وأطلعني - جزاه الله تعالى - على عدة فوائد. في كلِّ يومٍ يريكَ فائدةً ... أحسن منها بما يُفيدُ غَدا ومَنْ تكنْ هذه خلائقه ... فأنتَ منهُ في نعمةٍ أَبَدا وكان - رحمه الله - كثيرَ المباحثة والمراجعة، وقعت بينه وبين فقهاء عصره

524 - العلم العلامة، صدر الأماثل، وبهجة المحافل، عثمان بن علي الجبيلي - رح -

عدة مراجعات وتأليفات من الجانبين، ولله در القائل: إذا التصقَتْ بالبحثِ في العلمِ رُكْبَتي ... ورُكْبَةُ نِحْريرٍ على العِلْمِ دَأَّابِ وساعَدَني التوفيقُ فيما أرومُه ... وعاينتُ باليمنى نواظرَ أحبابي فقلْ لملوكِ الأرضِ يَلْهوا ويَلْعبوا ... فذلك لَهْوي ما حَييتُ وملعابي وله إجازة حسنة من السيد العلامة سليمانَ بنِ يحيى، قال فيها - وقد ذكر الإمام الطيبي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أعوذُ بك من علمٍ لا ينفع": هو الذي لا ينتفع به صاحبه، فلا يُذهب الأخلاقَ الرذيلة الباطنة، ولا يحصل له منه تخلق بالأخلاق الحسنة، وأنشدوا في هذا المعنى: يا مَنْ تباعدَ عن معالي خلقِهِ ... ليسَ التفاخُرُ بالعلومِ الزاخِرَه مَنْ لم يهذبْ علمُه أخلاقَه ... لم ينتفعْ من علمِهِ في الآخِرَه وبالجملة: كان المترجَم له صاحبَ علم وفضل، سُنِّيًا أثريًا متبعًا للدليل - رحمة الله تعالى عليه -. 524 - العَلم العَلاَّمةُ، صدرُ الأماثل، وبهجةُ المحافل، عثمانُ بنُ عليًّ الجبيليُّ - رح -. إمامُ علومٍ جَمَّةٍ وفَضائلٍ ... ومتقنُ أحكامِ الفرائضِ والسُّنَنْ نشأ هو والسيد سليمانُ بن يحيى في التفرغ لطلب تحقيق العلوم، وإحراز منطوقها والمفهوم، وَجدَّا حتى وجَدَا، وَلَجَّا حتى ولجَا، ومن تعنَّى، نالَ ما تمنى: تمنيتَ أن تُمسي فقيهًا مناظِرًا ... بغيرِ عناءٍ، والجنونُ فنونُ ومن مشايخه السيدُ أحمدُ بنُ محمد مقبول الأهدل، والشيخُ عبد الخالق المزجاجيُّ، واستجاز له السيد سليمان من مشايخه الذين أجازوه في الحرمين وغيرهما، وتصدَّرَ للتدريس في سائر الفنون، وانتفع به الطلبة كثيرًا. وكانت أوقاته محفوظة، لا يراه أحدٌ إلا تاليًا لكتاب الله، أو مدرِّسًا لعلم الحديث الشريف، أو مشغولًا بطاعة.

525 - عبد الرحمن بن محمد المشرع

وكان بينه وبين السيد سليمان صداقةٌ أكيدة، قلَّ أن يمضيَ يوم أو ليلة لا يجتمعان فيهما، وإذا اجتمعا، لم تسمع إلا نخبَ اللطائف: همْ أناسٌ حديثُهم ... يُعْجِبُ الكُتْبَ والسِّيَرْ وإذا ما تَفاوَضوا ... فهمُ الزهرُ والزهَرْ وكثيرًا ما يكون اجتماعُهما عقبَ صلاة العصر، ويحضر في ذلك المجلس الأفاضل، وتجري مذاكرات شريفة، ومباحث، وكان - رحمه الله تعالى - ذا ملكة على حل المشكلات لطيفة: وللهِ قومٌ كَلَّما كانَ مشهدٌ ... رأيتَ شُخوصًا كلّها مُلئت فَهْما إذا اجتمعوا جاؤوا بكلِّ غريبةٍ ... ويزدادُ بعضُ القومِ من بعضِهم عِلْما 525 - عبد الرحمن بن محمد المشرع. كان صدرَ العلماء الأعلام، والرؤساء الكرام الفخام، ذو الفضل المحقق، والكرم المطلق، وجيه الإسلام - رحمه الله -، وأعاد إلينا من بركاته: كريمٌ لهُ من نفسِه بعضُ نفسِهِ ... وسائرُهُ للمجدِ والشكرِ والفضلِ أخذ عن أحمدَ بنِ محمد شريف، وأجازه، وأخذ عن مشايخ ذلك الوقت في علوم عديدة، توفي سنة 1290 بقريته ومسقط رأسه، وبين أناسه، بعد أن توعك أشهرًا عديدة بالإسهال، فحصل لموته الحزنُ العظيم، وأسف عليه كافةُ الناس من الخاصة والعامة، وعمت المصيبة، شعر: والسعيدُ السعيدُ مَنْ صحبَ الناسَ ... وولَّى والذكرُ فيهِ حميدُ ذكر له العلامة محمد بن عبد اللطيف المشرع ترجمة، وقال: هذه ترجمته على وجه الإجمال والاختصار، ولو بسط الكلام، لدخل في أسفار، قال: وكان آخذًا بأطراف صالحة من فنون كثيرة؛ من حديث، ورقائق، وفقه، وله الاطلاعات الوافرة على كتب العلوم على تنوعها، والحفظ البارع، ولما قدر الله وصوله إلى الحرمين الشريفين، أخذ عن جماعة من علمائمها، منهم: الشيخ

526 - علامة التحقيق، وفهامة التدقيق، ذو التأليفات النافعة، والعلوم المتكائرة الواسعة، وجيه الإسلام، عبد الخالق بن علي، المزجاجي - رحمه الله تعالى -

أحمد الأشبولي، والشيخ عطاء الله المصري، وذلك في سنة 1184. وكان يلقب بأبي السرور، وغلب عليه الحديثُ والعملُ به، وله ديوان شعر، وكانت كتبه في الشفاعات وقضاء حوائج الناس لا تُرَدُّ، وله في ذلك رسائلُ مشتملة على آيات قرآنية، وأدلة حديثية، توفي - رح - سنة 1190، ومناقبُه لا تدخل تحت دائرة الحصر، وكان بينه وبين السيد سليمان بن يحيى أُخوةٌ إيمانية، ومحبة أكيدة صادقة. شعر: محبةٌ ما عرفت الدهر سلوتها ... تجري مع الروح أو تجري مع النَّفَسِ وما لها آخرٌ لكنَّ أولَها ... تعارفٌ صادقٌ في حضرةِ القُدُسِ أَشْهى إلى النفسِ من أَمْنٍ على وَجَلٍ ... أَوْ من مَجال الكَرى في الأَعْيُنِ النُّعُسِ من عالَمِ الذرِّ ناجاني البشيرُ بها ... أهلًا بمنشئِها طهرًا من الدَّنَسِ روى يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "الأرواحُ جُنودٌ مُجَنَّدَةٌ، فما تعارفَ منها ائتلفَ، وما تَناكَرَ منها اختلفَ"، ولله در القائل شعر: وقلتُ أَخ! قالوا أَخٌ من قرابةٍ ... فقلتُ لهم إنَّ الشكولَ أقاربُ نسيبي في رائي وعزمي وهمتي ... وإنْ فَرَّقَتْنا في الأصولِ المناسبُ 526 - عَلاَّمة التحقيق، وفَهّامُة التدقيق، ذو التأليفات النافعة، والعلومِ المتكائرة الواسعة، وجيهُ الإسلام، عبدُ الخالق بنُ عليًّ، المزجاجيُّ - رحمه الله تعالى -. نِيطَتْ تَمائِمُهُ عليهِ بمنزلٍ ... سامٍ بأهليهِ على الأبراجِ أهلُ الشمائلِ والفضائلِ والعُلا ... سُرْجُ الهدايةِ هُمْ بَنو المِزْجاجِي مناقبه مشهورة تغني عن الإطناب، وفضائله مأثورة لا تحتاج إلى الإسهاب، من جملة مشايخه السيدُ العلامة أحمدُ بنُ محمد مقبول الأهدل، سمع عليه بقراءة غيره جميعَ "صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم"، و"كتب النووي الحديثية" و"بهجة المحافل"، و"الشفاء" للقاضي عياض.

527 - القاضي العلامة عز الإسلام، محمد بن إسماعيل بن أحمد، الربعي - رح -

وكان أثريًا على مذهب السلف، متبعًا للدليل، طارحًا للقال والقيل، ذكر في "النفس اليماني"، وأثنى عليه بمحاسن المباني. 527 - القاضي العلامةُ عزُّ الإسلام، محمدُ بنُ إسماعيلَ بنِ أحمدَ، الربعيُّ - رح -. أَلْمَعِيٌّ يَرى بأولِ رأي ... آخرَ الأمرِ من وراءِ المغيبِ لَوْذعِيٌّ له فؤادٌ ذَكِيٌّ ... ما لَه في ذكائه من ضَريبِ لا يروي ولا يقلِّبُ كَفًّا ... وأَكُفُّ الرجالِ في تَقليبِ كان من أعيان العلماء، والجهابذة النبلاء، له إجازة من العلامة عبد الخالق المزجاجي، قرأ عليه من الحديث كثيرًا، منها "سنن الترمذي" من أوله إلى آخره. ولازم السنة، وأخذ في الحديث عن أحمد قاطن، وله كتب ورسائل في علوم عديدة. وبالجملة: فهو حقيق بقول الشاعر: لقدْ حَسُنَتْ بِكَ الأيامُ حَتَّى ... كأنَّكَ في فَمِ الدهرِ ابتسامُ 528 - السيدُ الأوحد، والعَلَمُ الأَمْثل، إمامُ المحققين، ونخبةُ المدققين، سراجُ الإسلام، أبو بكر بنِ علي البطاح، الأهدل. سيد ساد بفنون العلوم، وتدقيق منطوقها والمفهوم، وصار غرة زاهرة في جبين المعالي، وحسنةً من حسنات الأيام والليالي، وقع الاتفاق على كمال فضله بين أهل العرفان، وأنه ليس له في خاصيته التي هو يتميز بها ثان. وَأَرى الخلقَ مُجْمِعينَ على فَضْـ ... ـلِكَ من كلِّ سَيِّدٍ ومَسودِ عرفَ العارفونَ فضلَكَ بالـ .... ـعِلْمِ وقالَ الجُهَّالُ بالتقليدِ جدَّ واجتهدَ في الترقي إلى اكتساب المعالي، وسهرَ في تحصيل مقصده الأسنى الليالي. أخذ العلومَ من عدة مشايخ، منهم: السيد سليمان الأهدل، وتميز بالكمال في الملكات الثلاث: ملكة الاستحصال، وملكة الحصول، وملكة الاستنباط، أخذ التفسير، والحديث، والفقه والتصوف، والآلات والأصول.

وكَمْ مُصْعَبٍ في النحوِ راضَ جِماحَهُ ... فعادَ فصارَ بسيطًا بعدَ ما كانَ قد أعيا وكان آية في علم النحو والمنطق: إن رُمْتَ إدراكَ العلومِ بسرعةٍ ... فعليكَ بالنَّحوِ القويمِ ومَنْطِقِ هذا لميزانِ العقولِ مقوِّمٌ ... والنحوُ تقويمُ اللسانِ المنطقي قال: العلمُ خزائن الله، ومفاتيحُها المسألة، فاسألوا - يرحمكم الله -؛ فإنه يؤجر في العلم ثلاثة: العالم، والمستمع، والآخذ. قرأ "الفصوص" لابن عربي على وجه التحقيق والتدقيق، مع إحضار الكتب المبسوطة في هذا العلم؛ من شروح هذا الكتاب وغيره، وتقرير المسألة بما يؤيدها من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ذكر له في "النفس اليماني" ترجمة نفيسة، وأنشد: فلو أنني أقسمتُ ما كنتُ كاذبًا ... بأنْ لم يرَ الرَّاؤون حبرًا يُعادِلُهْ إذا قلتُ شارَفْنا أواخرَ عِلْمِهِ ... تفجَّرَ حتى قلتُ هذا أوائِلُهْ قال: ولقد عتب بعض تلامذة شيخنا الوالد عليه في تخصيصه بقراءة "الفصوص"، فقال: إنما خصصته؛ لكمال استعداده لفهم هذا العلم، وغيرُه ليس بصفته، فقال ذلك التلميذ، وكان من الأذكياء: لابد من حضوري؟ فقال الوالد: لا بأس، فحضر، فلم يعلق بفكره شيء من تلك التقريرات، فبان له وجهُ العذر، واعتذر فيما وقع منه، وأنشد: كم من كلام قد تضمن حكمة ... نال الكساد بسوق من لا يفهم ولله در القائل: أيا صاحبي ما ترى نارهم ... فقال تريني ما لا أرى سقاك الغرام ولم يسقني ... فأبصرت ما لم أكن مبصرا قال الشيخ محي الدين في "الفتوحات" في الباب الثامن والثمانين وأربعمائة، من أراد فهم المعاني الغامضة من كلام الله عز وجل، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكلام أوليائه: فليزهد في الدنيا حتى يصير ينقبض من دخولها عليه ويفرح بزوالها عنه، وأما مع ميله إلى الدنيا فلا سبيل إلى فهم الغوامض أبدًا،

انتهى. هذا واختلاف الناس في قابلية الفهم وعدمه غير مستبعد، فإن العلوم منه إلهية ومواهب اختصاصية، والقوابل في قبولها مختلفة، والله هو الفتاح العليم. شعر: مردم آندر حسرت فهم درست .... اِينكه ميكويم بقدر فهم تست وقد أخرج اللالكائي وغيره عن عمر رضي الله عنه، أنه قال: إني قد أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو بكر، فاسمع منهما كلامًا، أحسب أني بينهما أعجمي، وعن على كرم الله وجهه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال، ذروا العارفين المحدثين مم أمتي، لا تنزلوهم الجنة ولا النار، حتى يكون الله هو الذي يقضي فيهم يوم القيامة، أخرجه الخطيب وأورده السيوطي في الجامع الصغير وأسناده ضعيف، ولعل الإمام النووي أخذ من هذا الحديث جوابه لما سئل عن "الفصوص" ونحوها من كتب الصوفية، بقوله: هؤلاء قوم في أحوالهم لا نتكلم، فالله بهم أعلم، فالتسليم أسلم، وفي هذا قال السيد الإمام إسحاق بن يوسف، رحمه الله تعالى. إن لم تكن منهم فسلم لهم ... فإنهم لله قد سلموا قوم لهم أفئدة ما رأت ... شيئًا سوى المعبود مذ أسلموا ومن كلام السيد المذكور لما سئل عما سئل عن النووي، اعلم أن لهؤلاء القوم اعتبارات وحيثيات دقيقة تسلم لهم بعد بهرجتها بمحك الشريعة في مقام الإنصاف مع خلو الجو عن قتام الجدل والهوى والكبر: ولو أنصفَتْ في حُكْمِها أُمُّ مالِكٍ ... إذًا لرأَتْ تلكَ المَساوي مَحاسِنا والكلام في هذا المعنى واسع، وقد خرجنا عن المقصود، ولكن عسى أن يكون الحال كما قال الشاعر: خرجتُ من شيءٍ إلى غيرِه ... بحسبِ ما يأتي وما يَطْرَأُ لكنَّهُ علمٌ ومن حقِّهِ ... يُسْمَعُ بَلْ يُكْتَبُ بل يُقْرَأُ

529 - السيد، العلامة، الماجد، ضياء الإسلام، يوسف بن محمد البطاح الأهدل

529 - السيدُ، العلامةُ، الماجدُ، ضياءُ الإسلام، يوسفُ بن محمد البطاح الأهدل. أخذ العلوم النقلية والعقلية عن السيد العلامة سليمان بن يحيى الأهدل، ولازمه كثيرًا، وأخذ عن أهل اليمن والحرمين، وكانت له اليد الطولى في سائر العلوم، وتفرغ بمكة والمدينة تفرغًا عظيمًا لنشر العلوم، فألَّف ودرَّس، ووقع به النفعُ، ومن مؤلفاته: "إفهام الأفهام شرح بلوغ المرام"، في مجلدين. وكان رحبَ الصدر في التدريس، له صبر عظيم على طول المجلس وعنائه بكثرة إيراد النكت العلمية في درسه، أنشد فيه صاحب "النفس اليماني": العالِمُ الفاضلُ النِّحْريرُ أفضلُ مَنْ ... بَثَّ العلومَ فأَورى كلَّ ظمآنِ مات شهيدًا في الوباء العام الواقع سنة 1246، الذي مات فيه خلائقُ لا يُحصون من الحجاج، حيث انتهى الأمر إلى العجز عن دفن الأموات، وغُلِّقت بمكة وجدة جملة بيوت، وتُركت عدة أموال لا يُدْرى مستحقها من الورثة، وكان ابتداء هذا الوباء من أرض الحبشة، فكان يموت كل يوم أكثرُ من ألف، وهلكت عدةُ قرى لم تبق إلا الأموالُ والمواشي، ووقع مثلُ ذلك في مصر والشام والعراقين. فأُهلكت أمم لا يُحصون كما أخبرنا بذلك الثقات، ووقع تاريخ هذا العام {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13]، وأينا لم يظلم نفسه؟ نسأل الله العفو والعافية والمغفرة، والرحمة الشاملة لنا ولجميع المسلمين. هذا وغيرُ خافٍ أن الوباء هو فسادُ جوهر الهواء، الذي هو مادة الروح ومدده، فهو أعمُّ من الطاعون، فكل طاعون وباء، ولا عكسَ؛ كما صرح بذلك القاضي عياض وغيره، واستدل بعضهم على ذلك بأنه صَحَّ أن المدينة لا يدخلها الطاعون، وصح عن عائشة أنها أوبأُ أرض الله، وقد أطال الكلام في ذلك المؤلفون في أحكام الطاعون؛ كابن حجر المكي، وغيره. قلت: وأجبت على سؤال عن ذلك في كتابي "هداية السائل إلى أدلة المسائل"، وهو بالفارسية.

530 - السيد، العلامة، الطاهر بن محمد الأنباري

530 - السيدُ، العلامةُ، الطاهرُ بنُ محمد الأنباريُّ. كان فاضلًا نبيهًا، وعالمًا متبعًا فقيهًا، لازم السيد سليمان الأهدل، وقرأ عليه تفسير البيضاوي والبغوي، وحصل له فتوح عظيم في سائر العلوم، وخرج من تحته عدة علماء محققين، ومن كلامه: اللبيبُ مَنْ إذا سبقه الناس بالعلم سبقهم بالعمل، وإذا سبقوه بالعمل، سبقهم بالإخلاص لله - عز وجل -، إذا سبقوه بالإخلاص، سبقهم بالثبات على ذلك إلى الممات، وكمال الإنسان في ثلاثة أمور: علوم يعرفها، وأعمال يعمل بها، وأحوال تترتب على علومه وأعماله: العلمُ ليسَ بكافٍ رَبَّهُ شرفًا ... إن لم يكنْ عملٌ ما فيه تلبيسُ لو كانَ بالعلم من دون التُّقَى شرفٌ ... لكانَ أفضلَ خلقِ الله إبليسُ 531 - الحافظ، المحدث، المسند، الرُّحَلة، وجيهُ الإسلام، عبد القادر بن خليل كدك، خطيبُ المدينة المشرفة. قال في "النفس اليماني": وفد شيخنا عبد القادر إلى مدينة زبيد ناشرًا فيها علوم الإسناد إلى خير العباد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ، وسائر الصالحين، وسلم، بعد أن جال البلاد شرقًا وغربًا، ولقي من المشايخ المسندين الأعلام عالمًا كثيرًا، وألف في ذلك كتابه المسمى بـ "المطرب المعرب الجامع لأهل المشرق والمغرب"، قال في خطبته: وقد ارتحل لطلب الإسناد جمعٌ من السلف والخلف، رحل جابرُ بن عبد الله إلى مصر لأجل حديث واحد، وكذلك ارتحل أحمد بن حنبل، وغيرُهما، وكنت منذ كنت ولم أزل لي غايةُ الأمنية، في اتباع هذه السنة السنية، والعمل بها، والعمل بالنية ... إلى أن قال: ارتحلتُ إلى كذا وكذا، ونلتُ ما نلتُ من ذلك إلى آخر كلامه. واستجاز لي منه شيخنا الوالد إجازة شاملة كاملة، كما أجازه مشايخه الذين ذكرهم في "ثبته"، وكتب بذلك إجازة مطولة بخطه الشريف، هذا، ولما وفد إلى مدينة زبيد، تلقاه علماؤها وأعيانها بالإعزاز والإجلال، وازدحم عليه الأفاضل لأخذ الإجازة منه، وهو الذي استجاز شيخَنا الوالد ولجماعة من زبيد من مسنِدِ الشام الحافظ الكبير محمد بن سالم السفاريني محتدًا، الحنبلي مذهبًا، الأثري معتقدًا، القادري

532 - السيد، العلامة، الولي الكبير، علي بن عمر القناوي، المصري

مشربًا، ثم وفد إلى مدينة صنعاء، وتلقاه أهلها بالإعزاز والإعظام، واستجاز منه جماعة من العلماء الأعيان، منهم: السيد العلامة عبد الله بن محمد الأمير، وله مؤلف خاص في شرح رحلته إلى اليمن، سماه: "السر الموتمن". وهذه الطريقة - أعني: الارتحالَ لطلب علو الإسناد، واكتساب المعالي - كانت سيرة أولي الهمم العلية من السلف والخلف، حتى إن بعضهم كره الإجازة؛ لأنها تكسل عن الرحلة، وما أحسن قولَ أبي الطيب: يُخَيَّلُ لي أن البلادَ مسامعي ... وأَنِّيَ فيها ما تقولُ العواذلُ معناه: أنه لا يستقر ببلاد؛ لأن العاذل ما له كلمة مستقرة في أذن المحب، وفي المعنى قول ابن نباتة: كأنما الأرضُ عني غيرُ راضيةٍ ... فليسَ لي وطنٌ فيها ولا وَطَرُ ثم عاد إلى المدينة المنورة، وتصدى فيها لنشر علوم الإسناد، وإملاء الحديث، والاجتهاد في هذا الشأن العظيم، توفي - رحمه الله تعالى - في سنة 1186، بنابلس بعد زيارة القدس. 532 - السيدُ، العلامةُ، الوليُّ الكبيرُ، علي بن عمر القناويُّ، المصريُّ. تكرر وفوده إلى مدينة زبيد، وإلى صنعاء اليمن مرارًا عديدة، وهو في كل وفادة يُتلقى بالإكرام والإجلال، ويجتمع إليه في كل يوم وليلة من الخاص والعام ما دام مقيمًا عالَمٌ كثير يقيمون معه الذكر الجهري على طريقةٍ أخذَها عن شيخ الشيوخ في إقليم مصر محمد بن سالم الحفناوي، الآخذ لها عن الإمام مصطفى البكري، الآخذ لها عن علي بن وفا، وهو - كما أفاد ذلك الشيخُ عبدُ الغني النابلسي في "بيان السر الغامض في شرح ديوان ابن الفارض" - أولُ من أحدث الحادي في حلقة الذكر، وينشد من الأشعار الرائقة المباني الفائقة المعاني الإلهية بالموسيقاوى، ما ينعش القلوب، ويهيجها إلى التوجه إلى علام الغيوب، ويؤثر فيها تأثيرًا عظيمًا، ولقد اتفق أن السيد المذكور وصل في بعض وفاداته إلى زبيد، وأقام الذكر المذكورَ على الصفة المذكورة، وحضر الخاصُّ والعام من أهل البلد، وكان من جملة الحاضرين رجلٌ من أكابر العلماء المشغولين بذكر الله آناء

الليل والنهار، فلما حدى الحادي، ولم يكن قد طرق سمعَه ذلك، فلم يزل يبكي بكاء شديدًا، وتواجد تواجدًا عظيمًا، حتى أحدث له ذلك رعافًا مسترسلاً كان من أسباب موته. وهذا غير مستبعَد، فقد ذكر شراح "السلم المنطقي" في بحث الخطابيات ما حاصله: أن الخطاب الشعري إذا وقع باللفظ الرائق، والمعنى الفائق، والصوت الحسن الخارق، وصادف قلبًا سليمًا صافيًا، فعلَ في القلب من التأثيرات البالغة ما لا تفعله البراهين القطعية، وتأثرُ القلبِ بالصوت الحسن مقتضى الفطرة الإنسانية، ومن لم يتأثر بذلك، فهو كما قال الإمام الشافعي: فاسدُ المزاج، يحتاج إلى العلاج. وقد أخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال، قال رجل: يا رسول الله! إني رجل حُبِّبَ إليَّ الصوتُ الحسنُ، فهل في الجنة صوت حسنٌ؟ قال: "والذي نفسي بيده! إن الله يوحي إلى شجرة في الجنة، أن أَسْمِعي عبادي الذين اشتغلوا بعبادتي وذكري عن عزف البرابط والمزامير، فترفعُ بصوتٍ لم تسمع الخلائقُ بمثله من تسبيح الربِّ وتقديسِه". وأخرج عبدُ بن حُميد، عن يحيى بن أبي كثير في قوله تعالى: {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15]، قال، قيل: يا رسول الله! ما الحبرة؟ قال: "اللذة والسماع". وقد ساق الجلال السيوطي في "الدر المنثور" عدة آثار في هذا المعنى. وقد اختلف العلماء في حكم النغم والغناء على أحد عشر قولًا. ومذهب الإمام العلامة ابن حزم الظاهري: الحِلُّ مطلقًا. قال: لأن التحريم لا يثبت إلا بنص صريح صحيح، ولم أقف عليه. خالفه الجمهور، والمسألة فيها رسائل مضبوطة مبسوطة من علماء المذاهب، انتهى كلام "النفس اليماني". والذي ترجَّح عند المحققين من أهل الحديث: أن الذكر بالصفة المذكورة بدعة وأي بدعة! وفيها من إساءة الأدب مع الله سبحانه، والتشبه بالفرق التي يذكرون الله في معابدهم على نغمات العود والوتر ما لا يقدر قدره، ولم يثبت حديث واحد - ولو ضعيفًا - في جواز ذكر الله تعالى على هذه الصفة المشار

إليها، فلا خير فيه، ولا أجر عليه، بل هو ضرر محض، ووزر صرف، ومنكر واضح، نعم! لا دليلَ على تحريم السماع من السنن وأدلتها، فهو باق على أصله من الحل حتى يقوم دليل صحيح يدل على حرمته، ودونه خرط القَتاد، ورحم الله القناوي، فقد اجترأ جرأة عظيمة على فعل الذكر وقوله بهذه الصفة من الحادي وإنشاد الأشعار، مع كونه من أهل العلم الممتازين، وهذا الصنيع منه دليل على أن الإنسان لا يخلو من عصيان، ولو بلغ من العلم والعمل ما بلغ من الإمكان، ثم قال في "النفس اليماني": نشر السيد علي القناوي هذه الطريقة بأمر شيخه الحفناوي في الآفاق، فدخل خراسان، وأطراف الهند، والعراقين، وصنعاء اليمن، وغير ذلك من المحلات، وهو في الجميع متلقى بالإعزاز والإكرام والإجلال، وكلامه مقبول، على الرؤوس والعيون محمول، وكان حلوَ العبارة، لطيف الإشارة، شغلتُه درسُ القرآن والصلاة، يورد الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ويتكلم فيها بالتحقيق الجلي، والسر الخفي، وأكثرُ شغله بذكر الله - عز وجل -، انتهى. وعندي: الذكرُ الإلهي والعكر القدسي لا يجتمعان مع شيء من البدعة، وإن اجتمعا، كان ذلك من تلبيس إبليس، وتدليسه لأهل التدريس ولهذا قال في "النفس اليماني" بعد المبالغة في الثناء عليه: وغيرُ خافٍ: أن الفقهاء سيما أهل مدينة ذمار ينكرون بعض ما يقع من طريقة السيد المذكور، ولكن أهل ذمار شأنهم كما قال السيد إسحاق بن يوسف - رح -: وإذا نظرتُ إلى ذمارَ وَجَدْتَها ... حسناءَ، لم تَلْبَسْ نفيسَ إزارِ لا يَخْضَعون لفاتِكٍ أو باسلٍ ... كخضوعِهم للضيفِ أو للجار انتهى. قلت: ولكن الحق معهم في ذلك، وإن قيل فيهم ما قيل، قال: ووفد إلى مدينة صنعاء اليمن {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 8] من حيث إنها كما في "القاموس": شبيهة بدمشق، ودمشق هي {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 7] على أحد التفاسير، والمشبه له حكم التشبه به.

533 - وجيه الإسلام، الولي، التقي، عبد الصمد بن عبد الرحمن الجاوي

ولله در العلامة عبد الله بن عمر الخليل حيث يقول في قصيدته: سلامٌ على صنعاءَ التي فاحَ نَشْرُها ... ولاحَ سناها في النُّجود وأَتْهَما بلادٌ بناها قيل شيث بنُ آدم ... وقَوَّمَ معناها لها فَتَقَوَّما 533 - وجيهُ الإسلام، الوليُّ، التقيُّ، عبد الصمد بن عبد الرحمن الجاويُّ. قال في "النفس اليماني": وفد إلى مدينة زبيد سنة 1206، وكان من العلماء العاملين، ومن المتفننين في سائر العلوم، أخذ عن عدة من علماء عصره، منهم: الشيخ إبراهيم الرئيس، والشيخ محمد مراد، والشيخ عطاء المصري، والشيخ محمد الجوهري، والشيخ محمد الكردي، وغيرهم، ثم أقبل على علم التصوف، وكان جل اشتغاله بـ "إحياء علوم الدين" درسًا وتدريسًا، وصار يدعو الناس إلى الاشتغال به، ويعظم شأنه، ويكثر من ذكر فوائده، وأن من أقلها أن ينكشف للمشتغل به المقبل عليه عيوبُ نفسه ونقصُها وتقصيرُها، ويكون ذلك - بعد توفيق الله سبحانه - عاصمًا له عن الغرور. يا ربِّ! إنَّ العبدَ يُخفي عيبَهُ ... فاسترْ بحلمِك ما بدا من عيبِهِ ولقد أتاكَ وما لهُ من شافِعٍ ... لذنوبِهِ فاقبلْ شفاعةَ شَيْبِهِ ولقد سبق بالوصية بمطالعة "إحياء علوم الدين" جماعة من أهل العلم، حتى إن بعض علماء المغاربة ألف كتابًا حافلًا في فضائل "الإحياء"، ومما يحكى: أن رجلًا من المشتغلين به اطلع على كتاب "تنبيه الأحياء على أغاليط الإحياء"، فأقبل على مطالعته، فما أتمه إلا وقد ذهب بصره، فأكثر من البكاء والتضرع إلى الله - عز وجل -، وعرف من أين أُتي، فتاب إلى الله - عز وجل -، فرد عليه بصره، انتهى. قال العبد الضعيف - عفا الله عنه -: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكلامه في "الإحياء" غالبه جيد، لكن فيه أربع مواد فاسدة: مادة فلسفية، ومادة كلامية، ومادة الترهات الصوفية، ومادة من الأحاديث الموضوعة. وبينه وبين ابن عقيل قدر مشترك من جهة تناقض المقالات المصنفات، انتهى. قال الشيخ حسين بن عبد الله الحضرمي في حق "الإحياء": يُداوى به من سموم الغفلة، ويوقظ علماء

534 - شرف الإسلام، يتيمة الدهر، علامة العصر، الحسين بن عبد الشكور، المدني

الظاهر، ويوسع للعلماء الراسخين. قلت: وهو لا شك كذلك، لكن بعد حذف المواد الفاسدة المشار إليها، ومثله كتابه الآخر "كيمياء السعادة" بالفارسية. قال صاحب "النفس اليماني": قرأت عليه من أوائل كل ربع، وأجازني، وكان لا يرى للدنيا قدرًا، اتصف من سماحة وبذل ما أمكن له بذله بالعجب العجاب. ذكر ابن القيم في "شرح منازل السائرين": كان شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرًا ما يقول: ما لي شيء، ولا عندي شيء، وهذه طريقة الخواص، وأما الجمهور، فبخلاف ذلك، قال الشاعر: أشفقْ على الدرهمِ والعينِ ... تسلمْ من القِلَّةِ والدينِ فقوةُ العينِ بإنسانِها ... وقوةُ الإنسانِ بالعينِ قال: ومن طريقته الجهرُ بالذكر، والاجتماع عليه، وغيرُ خاف أن الجهر بالذكر غير حرام، ولا مكروه كما زعم الزاعمون، وقد ألف في مشروعيته الجلالُ السيوطي، والعلامة الكناني، والشيخ إبراهيم الكوراني. قلت - عفا الله عني -: الراجح في المسألة قولُ الحافظ الإمام الشوكاني، وهو أن يجهر بالذكر في الموضع الذي ورد فيه الذكر بالجهر، ويسر به فيما ورد بالسر، وبهذا يحصل التوفيق بين الأدلة، والله أعلم. 534 - شرفُ الإسلام، يتيمةُ الدهر، علامةُ العصر، الحسين بن عبد الشكور، المدنيُّ. قال في "النفس اليماني": وفد إلى مدينة زبيد، داعيًا لأهلها إلى إحسان الوضوء والصلاة، وتعريفهم طريق ذلك، وجعل في ذلك منظومة عظيمة، أولها: لكَ الحمدُ بدءًا منكَ يحسنُ والختما ... عليكَ وشكرًا لا أُطيق له كَتْما وشرح هذه المنظومة شرحًا حافلًا، وجعل على الشرح حاشية عظيمة لا ينقل فيها من كتاب، بل إنما يذكر فيها ما أفاضه عليه ربُّ الأرباب، وله في ذلك العبارات الرشيقة، والنكت الغريبة، التي مادتها الكتاب والسنة في الحقيقة،

535 - الشيخ، العلامة، المشهور، عالم الحجاز على الحقيقة لا المجاز، أحمد بن عبد القادر بن بكري العجيلي - رح -

وأقبل عليه أعيان البلد وعلماؤها، وتلقوا ما ألفه في ذلك بالقبول التام، وعقد للتعليم والإفادة بما هو بصدده مجلسًا بالمسجد، ويملي في ذلك المسجد من علومه اللدنية الوهبية الفيضية العجب العجاب: لقد رأيتُ إمامًا ... أحارَ بالعلم لُبِّي فقلتُ: مِنْ أيِّ شيخ؟ ... فقالَ: عن فَيْضِ قَلْبي وقد ألف الغزالي رسالة في حقيقة العلم اللدني، وأسبابه وشروطه وموانعه، وصار غالب أهل البلد ببركة دعائه في اشتغال عظيم بإحسان الوضوء والصلاة - جزاه الله خيرًا -، واستجاز من علماء البلد، واستجازوا منه، ووقعت بينه وبينهم مذاكرات مفيدة، ومشاعرات عديدة، ومن شعره: مَنْ راقبَ الناسَ ماتَ غَمًّا ... وحَظُّه الوَيْلُ والثُّبورُ ومَنْ تَخَلَّى عنهم تَحَلَّى ... وفازَ باللَّذَّةِ الجَسورُ 535 - الشيخُ، العلامةُ، المشهورُ، عالمُ الحجاز على الحقيقة لا المجاز، أحمدُ بنُ عبد القادر بنِ بكري العجيليُّ - رح -. لم يزل مجتهدًا في نيل المعالي، وكم سهر في طلبها الليالي، حتى فاز من ذلك بالقِدْح المُعَلَّى، وصَلَّى في محرابها وجَلَّى، أخذ العلوم عن آبائه الكرام، وعن غيرهم من الأعلام، ومن مشايخه عبدُ الخالق المزجاجي، وأجاز له، وألبسه الخرقة، ومنهم: السيد إبراهيم بن محمد الأمير، والسيد سليمان بن يحيى، وله مؤلفات في التصوف والتوحيد، والقصائد الإلهيات والنبويات، وقد جمع ولده العلامة إبراهيم من ذلك شيئًا كثيرًا، ولعمري! لقد شاع طيبُ شعره وذاع، وأطرب الطباع، وشنف الأسماع. شعر: وسارَ به مَنْ لا يسير مُشَمِّرًا ... وغَنَّى به مَنْ لا يُغَنِّي مُغَرِّدا ومن قصائده المشهورة: عقد الجواهر اللآل، في مدح الآل وقد شرحها شرحًا عظيمًا، وقرظ عليه عدة من العلماء، منهم: السيد الجليل علي بن محمد في مكة المشرفة في سنة 1203.

قال صاحب "النفس اليماني": وأجازني إجازة مطولة في الحديث المسلسل بالأولية، وهو حديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحَمْكم مَنْ في السماء"، وسنده حسن، أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" عن عبد الرحمن بن بشر، وأبو داود، وأبو بكر بن أبي شيبة، والترمذي في "جامعه"، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم. قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري: وهو صحيح باعتبار ما له من المتابعات والشواهد، قال العبادي: إن الرواية في: يرحمكم بالرفع، على أن الجملة دعائية، لا بالجزم جوابًا للأمر، وبالوجهين تلقيناه عن المشايخ، انتهى. قال شيخنا: ونحن تلقيناه عن مشايخنا بالرفع فقط، وهذا حديث جليل؛ لأنه لما كان بَدْءُ الخلق وأوليتُه من تجلي اسمه الرحمن، وكان الوجود رحمة ونعمة، ناسبَ أن يكون أولَ ما يقرع السمع: حديثُ الرحمة، كما أنه أول ما قرع سمعه كلمة الإيجاد، وهو أول رحمة أوتيها. ثم تكلم شيخنا على هذا الحديث، وما احتوى عليه من الأسرار البديعة، والحقائق العجيبة بما يليق بجلالة قدره، وسعة علومه، فجزاه الله عني وعن الإسلام خيرًا. قلت - عفا الله عني -: وفيه دلالة على كونه سبحانه فوق السماء وكونه مستويًا على العرش. ثم مما كتبه صاحب الترجمة في إجازته للسيد عبد الرحمن هذا النص: وأما لبسُ الخرقة الشريفة التي يتداولها الصوفية، ويتبرك بها العلماء والمتعلمون والصالحون؛ رجاءَ الدخول في طريقة التصوف، الذي هو حقيقة المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، وأمر به، وندب إليه من قول وفعل وعقد، وهو حقيقة التقوى التي هي حلية الأولياء، ويستحق بها العبدُ الكرامة من الله تعالى، وهذا الإلباس الصوري من أخذه صدقًا وإخلاصًا إلى اللباس المعنوي المنتج للعلم اللدني، وجميع الكرامات والمبشرات المنزلة على قلوب كل، على حسب استعداده بما تعطيه الحكمة والوجود. ثم ذكر سلسلةَ خرقته، وقال: كما ألبسه غريب الله، وعاش أربع مئة عام. قلت: وفي "القاموس": دريد بن زيد عاش

536 - الشيخ إبراهيم بن محمد، الزمزمي

أربع مئة سنة، وأدرك الإسلام. هذا، ومناقب الشيخ أحمد كثيرة، وكان لا يسمع بذي فضيلة في جهة من الجهات إلا وتعرف به، واستطلع حقيقة فضيلته، ثم بدا له إيثار الخلوة والعزلة. 536 - الشيخُ إبراهيم بن محمد، الزَّمزميُّ. المكيُّ المولد والدار، العليُّ المنصب والمقدار، تصدى في أم القرى للإفتاء والتدريس، وكان يقرىء ويفيد، ويبدىء ويعيد، ويتكلم في سائر العلوم لفظًا ومعنى، وعلى أصولها وفروعها حفظًا. صفاتُه في العلوم إنْ ذكرت ... يُعارِضَنْها النَّسيبُ والغَزَلُ تعرفُ من عينِه حقائقها ... كأنه بالعلومِ مكتحلُ أجاز لصاحب "النفس اليماني" في سنة 1154، وولدُه العلامة الشيخ محمد صالح خلف أباه في فنون الفضائل، ففاق الأقران، وفاق الأوائل، قال في "النفس اليماني والروح الريحاني": وكنتُ سمعتُ الفضلَ منه تَواتُرًا ... فلما التقينا صَدَّقَ الخبرَ الخُبْرُ قال: ووقعت بيننا مذاكرات نفحت أزهارُها، وصدحت أطيارُها، وطلبتُ منه أن يجيزني، فكتب الإجازة في سنة 1224، ومن فوائد الشيخ إبراهيم: أن من حصل له صداع، فقال - ويده على رأسه -: "لا إله إلا الله" مئةً وخمسة وستين مرة، زال عنه الصداع، والحكمةُ في ذلك: أن هذا العدد موافق لعدد الصداع، وعدد لا إله إلا الله، فأحرص عليها، فإنها من عزيز الفوائد، والمجربات العوائد، ومن قال بعد العطاس، وبعد أن يحمد الله: اللهم ارزقني مالًا يكفيني، وبيتًا طيبًا واسعًا يؤويني، واحفظ عليَّ ديني، واكفني شرَّ ما يؤذيني، أعطاه الله ذلك بمحض فضله. 537 - السيدُ، شهاب الدين محمود بنُ السيد عبدِ الله أفندي آلوسي زاده، البغداديُّ. ينتهي نسبه الشريف من جهة الأب إلى الحسين، ومن جهة الأم إلى الحسن - رضي الله عنهما - بواسطة الشيخ الرباني السيد عبد القادر الجيلاني - قدس سره -.

وقد كان - رح - خاتمةَ المفسرين، ونخبةَ المحدثين، أخذ العلم عن فحول العلماء، منهم: والده العلامة، ومنهم: الشيخ علي السويدي، ومنهم: الشيخ خالد النقشبندي، والشيخ علي الموصلي، وكل ذلك مفصَّل في "حديقة الورود في مدائح السيد شهاب الدين محمود"، وكان أحد أفراد الدنيا بقول الحق، واتباع الصدق، وحب السنن، وتجنب الفتن، حتى جاء مجددًا، وللدين الحنيف مسددًا. دُنيا بها انقرضَ الكرامُ فأذنبَتْ ... وكأنما بوجودِهِ استغفارُها وكان جُلُّ ميله إلى خدمة كتاب الله، وحديثِ جدِّه رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهما المشتملان على جميع العلوم، وإليهما المرجعُ في المنطوق والمفهوم، وكان غاية في الحرص على تزايد علمه، وتوفير نصيبه منه وسهمه، وكان كثيرًا ما ينشد: سَهَري لتنقيحِ العلومِ أَلذُّ لي ... منْ وَصْلٍ غانيةٍ وطيبِ عِناقِ واشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ودرَّس ووعظ، وأفتى للحنفية في بغداد المحمية، واكثرَ من إملاء الخطب والرسائل، والفتاوى والمسائل، وخطه كأنه اللؤلؤ والمرجان، أو العقود في أجياد الحسان، قلد الإفتاء سنة 1248، وهو عام ولادة محرر هذه السطور. أرسلَ إليه السلطان بنيشان ذي قدر وشان. قال نجله السيد أحمد: كان الله له خيرَ ناصر، في ترجمته المسماة بأَرج النَّدِّ والعود: كان عالمًا باختلاف المذاهب، مطلعًا على المِلَل والنِّحَل والغرائب، سلفيَّ الاعتقاد، شافعيَّ المذهب كآبائه الأمجاد، إلا أنه في كثير من المسائل يقتدي بالإمام الأعظم، ثم في آخر أمره مال إلى الاجتهاد، كأمثاله من العلماء النقاد، حسبما صرح به الأئمة في كتب الأصول، وتعرفه الجهابذة الفحول. قال: ومن مؤلفاته ما هو أعظمها قدرًا، وأجلها فخرًا تفسيرُه المسمى: بـ "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"، أيد فيه مذهب السلف الأماثل، ومنها: "شرح السلم" في المنطق، ومنها: "نزهة الألباب في

538 - السيد خير الدين، نعمان، أبو البركات بن السيد المحمود المرحوم المذكور

غرائب الاغتراب"، ومنها: "نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول"، و"نشوة المدام"، وكتاب "الأجوبة العراقية"، و"الفيض الوارد"، ومنها ... ومنها ... إلى آخر ما قال. وقد أتحفني في عام هذا - سنة 1298 الهجرية - نجلُه العلامةُ السيد خير الدين نعمان آلوسي زاده من بغداد المحمية - سلمه الله تعالى - بأربع كتب من مؤلفاته الشريفة، منها: النزهة، والنشوة، والأجوبة، والفيض، وقفت عليها، واستفدت منها، وعرفت مقدار جامعها في العلم والأدب، والدين والصلاح، توفي - رح - 21 ذي القعدة سنة 1270، رئي له منامات حسنة، ورثاه خلق كثير. لَئِنْ حَسُنَتْ فيه المراثي وذكرُها ... لقد حَسُنَتْ من قبلُ فيه المدائحُ وقد أعقبَ خمسةَ أشبالٍ كرام، كلٌّ منهم في ذلك المعالي بدر تمام، أكبرهم سنًا، وأرسخُهم في العلوم فنًا: السيد بهاء الدين عبد الله أفندي، والثاني: السيد سعد الدين عبد الباقي، الثالث: السيد خير الدين نعمان - وستأتي ترجمته الشريفة - مستقلة، الرابع: السيد نجم الدين محمد حامد أفندي، الخامس: السيد مجد الدين أحمد شاكر، وله مختصر في ترجمة أبيه وإخوته، تصدى فيه بذكر فضائل هؤلاء الكرام، مما يتعلق بسنين الولادة والمعرفة بالعلوم والتصانيف والأولاد - حماهم الله تعالى عن كل شر وفساد، وبلغهم إلى أقصى المراد -. 538 - السيدُ خيرُ الدين، نعمان، أبو البركات بنُ السيد المحمود المرحوم المذكور. حبي في الله ربي، أظهر الغيب المبرأ عن كل شين وعيب، حفظه الله وسلم. قد ولد الساعة الحادية عشرة من يوم الجمعة، ثاني عشر شهر الله المحرم ابتداء السنة الثانية والخمسين بعد الألف والمئتين، وقد أرخ ذلك الناظم المجيد الملا عبد الحميد، بقصيدة بديعة، مطلعها: بَدا الكوكَبُ الدُّرِّيُّ والقَمَرُ الذي ... مَحاسِنُه للشمسِ أَضْحَتُ تُسامِتُ فلا عَجَبٌ إنْ فاحَ كالمسكِ عَرْفُهُ ... فها هو مِنْ بيتْ النبوَّةِ نابتُ

له ثبتَ الحقُّ الصريحُ من العُلا ... وتاريخُه: حقٌّ لنعمانَ ثابتُ قرأ القرآن الكريم، وحفظ "ألفية ابن مالك"، و"الرحبية" في الفرائض، وغيرهما من متون العلوم، وقرأ على تلامذة والده المبرور جملة من الفنون الآلية؛ كالنحو والصرف والفقه، وقرأ على أبيه المرحوم: "مغني اللبيب"، و"شرح الألفية" لابن الناظم، وكتبًا من المنطق وغيره، وقرأ بعد وفاة والده سائرَ العلوم؛ من الأصلين، والحديث، والعلوم العربية، والرياضية، وسائر الفقه، وبقية العلوم النقلية والعقلية على علماء بغداد دار السلام ومشايخ تلك البقعة ذات الاحترام، وبرع، وساد، وألف، وأفاد حتى فاق - مع كونه شابًا - الشيوخَ، وثبت له في كل علم أتمُّ الرسوخ، وصنف جملة صالحة من التصانيف. وحرر زبرًا نافعة من التآليف، منها: "إكمال حاشية القطر" لوالده العلامة، و"الشقائق"، و"رسائل في الفقه"، وله نثر ونظم يزري باللؤلؤ والنجم، وكتب في المواعظ دروسًا مفيدة، ومجالس عديدة حميدة. وله كتاب "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين"، وهما: 1 - العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، 2 - والفقيه ابن حجر المكي الهيتمي، وهو كتاب جليل المقدار، مفيد الإحرار، يعز له مثيل، بل لا يلفى له بديل، وقد طبع لهذا العصر سنة 1298 الهجرية، بمحروسة مصر القاهرة العلية، في مطبعة بولاق، المشهورة في الآفاق، بعناية ذات الجود والكرم، عالية الهمم، نواب شاهجهان بيكم، حفظها الله، وسلَّم أهلَ بيت هذا العبد، عفا الله عنه، وعليه أنعم، ووالية "بهوبال" المحمية، صان الله مواليها وأهاليها عن كل آفة وبلية. وله - عافاه الله تعالى - مراسلات ومفاوضات إليّ، هو الآن مشتغل عن منادمة الجليس، بالوعظ والتدريس. بِوَعْظٍ قد تلينُ له قلوبٌ ... وزجرٍ قد تلينُ به الصخورُ تفرد في الفحول بقوارع وعظه، وأذاب القلوب بزواجر لفظه، شعر: إذا ما رقى للوعظ ذروةَ منبر ... لخطبته فالكلُّ مُصْغٍ ومُنْصِتُ فصيحٌ عن الشرعِ الإلهيِّ ناطقٌ ... وعن كلِّ مذمومٍ من القولِ صامتُ

وقد تقلد بعضَ المناصب، وحاز من ألطاف الدولة العلية أسنى المراتب، وله أشبال عليهم مخايل الشرافة والنجابة، وفيهم تحقق السعادة المأثورة من القرابة، أكبرهم السيدُ محمد ثابت، وقد ولد سنة 1275، والأصغر منه السيدُ علي زين العابدين، وقد ولد سنة 1277، ودونه السيد عمرُ حسام الدين، وقد ولد سنة 1287، ودونه السيد محمودُ شهاب الدين، سَمِيُّ جده الكريم، وقد ولد سنة 1289 - جعلهم الله تعالى شجرة طيبة، أصلُها ثابت في الأرض، وفرعها في السماء، وحببهم إلى قلوب عباده العلماء الأولياء -. ومما كتبه إلينا صاحبُ الترجمة هذه ما نصُّه، ما يقول: مولانا الأمير السيد النحرير، النواب المفسر الشهير، مقتدى الأعاظم، ومن لا تأخذه في الله لومة لائم - متع الله سبحانه المسلمين بطول بقاه، وقمعَ به البدع، وأناله في الدارين مناه - في حكم الرابطة المستعملة عند أصحاب الطريقة النقشبندية - أفاض الله عزَّ شأنُه علينا من علومهم المَرْضِيَّة -، وهل لها أصلٌ قويٌّ من السنة والكتاب، أم هي اختراع واجتهاد من بعض ذوي الألباب؟ فإن كان لها أصل، فما ذلك عند أرباب العقد والحل؟ وإن لم يكن لها دليل، فهل في ذلك شركٌ أصغرُ وتضليل؟ لأنها كما هو المشهور: تصويرُ المريدِ شيخَه الغائبَ وكأنه في الحضور، وكلما ذكر الله، تصورَ صورةَ شيخه في سويداه، أم ليس في ذلك بأس لدى الأكابر، حيث قال بها جمعٌ من الأواخر؟ وهل يعارض ما استدلوا به من قصة يوسف - عليه السلام - عندما هَمَّ، ورأى يعقوبَ النبيَّ النبيل قوله - عليه السلام والصلاة: "اعبد الله كأنك تراه"، الحديث الطويل، فأميطوا عنا غبار الشك والترديد بأبين جواب، وميزوا الخطأ عن الصواب؛ فإنكم من فضله - عز وجل - من الوافين بالعهد والميثاق لتبيين الكتاب، جعلكم الله تعالى للسلفيين وكافة الموحدين حصنًا حصينًا، وأنالَكم وسائرَ العلماء مزيدَ الثواب، آمين. سنة 1198، اهـ. شعبان. فأجبته - عافاه الله، وعن المكاره وقاه - مرتجلًا بما هذا لفظه: أما مسألة المرابطة، فلا يخفى على شريف علمكم أنها من البدع المنكرة، وقد صرح بالنهي عنها الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي إمامُ هذه الطبقة وزعيمها،

539 - الشيخ، الفاضل، راشد بن علي، الحنبلي، النعامي، من آل جريس

ومسنِدُ وقته، ومجدِّدُ عصره، وفرد الأمة المحمدية وحكيمها، في كتابه "القول الجميل في بيان سواء السبيل"، وهذه عبارته: قالوا: والركن الأعظم ربطُ القلب بالشيخ على وصف المحبة والتعظيم، وملاحظة صورته. قلت: إن لله تعالى مظاهر كثيرة، فما من عابد، غبيًا كان أو ذكيًا، إلا وقد ظهر بحذائه صار معبودًا في مرتبته، ولهذا السر نزل الشرع باستقبال القبلة، والاستواء على العرش، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى أحدُكم، فلا يبصُقْ قِبَلَ وجهه؛ فإن الله تعالى بينه وبين قبلته"، وسأل جاريةَ سوداء، فقال: "أين الله؟ "، فأشارت إلى السماء، فسألها: "من أنا؟ " فأشارت بأصبعها - تعني: اللهُ أرسلك -، فقال: "هي مؤمنة". فلا عليك ألا تتوجه إلا إلى الله، ولا تربط قلبك إلا به، ولو بالتوجه إلى العرش، وتصور النور الذي وضعه عليه، وهو أزهر اللون كمثل نور القمر، أو بالتوجه إلى القبلة؛ كما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون كالمراقبة لهذا الحديث، انتهى. وقد أفاد الشيخ العلامة محمد إسماعيل الشهيد الدهلوي في كتابه "الصراط المستقيم" بالفارسي: أن هذه المرابطة من الشرك بمكان لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلوم الكتاب والسنة، وأقول: ما لنا ولقلبنا، وربطه بالشيخ كائنًا من كان؟! وإنما تربط قلوب العباد إلى بارئها {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وبالجملة: هذه المسألة - وإن فاه بها جمع من المشايخ قديمًا وحديثًا -، فهي من البدع بلا مرية، وحكمها حكم سائر البدع، وسائرِ الأشياء التي أحدثها المتصوفة من غير أساس على دليل من كتاب وسنة، ويكفي في رد مثل هذه البدعة قوله - صلى الله عليه وسلم - المستفيض المشهور: "كلُّ أمير ليسَ عليه أمرُنا، فهو رَدّ"، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما ورد في معنى هذه الأخبار، وبالله التوفيق. 539 - الشيخُ، الفاضلُ، راشد (¬1) بن علي، الحنبليُّ، النعاميُّ، من آل جريس. عالم ناقد، مُتَّبِعٌ ماجد، ذو يد طولى في علم القرآن والحديث، مقتدٍ ¬

_ (¬1) له تأليف، المسمى: "مُثِير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد" طبع في القاهرة سنة =

بالسلف الصالح في كل أمر قديم وحديث، لم أره ولم يرني، ولم أعرفه ولم يعرفني، بيد أنه راسلني منذ شهر صفر سنة 1298، ثمان وتسعين بعد الألف والمئتين من إسلامبول، وذكر أنه من قطر نجد، ومولده النعام، وموطنه الشريف ذاك المقام، وظهر لي من مهارقه الشريفة: أنه ذو علم نافع، وفَهم لامع، وفضل ساطع، يقتدي بالسنة الصحيحة والقرآن، ولا يقلد أحدًا من الأحبار والرهبان، له شغلة وافية بالتفسير، وهمة عالية في درك الحقائق من حديث البشير والنذير، يلوح من كتبه أنوار الفضيلة والاستقامة، وأنه من أهل المجد والكرامة - حفظه الله، وأحله يوم القيامة في دار المقامة -. وقد طلبت منه الترجمة للتحرير في هذا الكتاب، كما طلب مني جملة صالحة من مؤلفاتي التي أحسن الظنون بها أولو الألباب، واستجازني، فأتحفته بتفسيري "فتح البيان"، وكتابي "إكليل الكرامة"، و"ظفر اللاضي"، وغير ذلك مما كان هنالك، وأجزته، وكتب إليّ خطًا جوابًا على طلبي لترجمته الشريفة، فوددت أن أثبت تلك الخطوط مرتبًا مع إجازتي له؛ إشاعةً لآدابه في مطاوي كتابه، وإذاعة لعلو همته في أسوة السنة السنية، الظاهرة الواضحة من مراسلاته البهية، وهذا يرشدك إلى أن الدنيا - وإن كانت ملئت بالجور والمظلمة، والآفات والملحمة -، ولكن فيها من خبايا في زوايا، ومن العلم والدين، وحب التقوى وإيثار الحق على الخلق، وترك التقليد، وقوة اليقين بقايا، وسمعت أنه ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو على ذلك أينما كان وعند من كان قائم ودائم، وعن مفطرات الديانة والأمانة والتقاوة صائم، كَثَّر الله في الزمان من أمثاله، وصانه عن تبعات الزمن وأهواله. وهذا الخط، وهو خطه الأخير، الذي جاءني منه عند بلوغ هذا المختصر ¬

_ = 1379 هـ، 48 صفحة، وبه مقدمة الناشر، صديقنا ومعاصرنا، الأستاذ محب الدين الخطيب، وأضاف إليها ترجمة الشيخ راشد - رحمه الله - التي تحتوي على 27 سطرًا، بقلم محبنا الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع، لخصها من هذا الكتاب، أعني: "التاج المكلل"، ولكن مؤلف الكتاب المذكور، لم يذكر هذه الرسالة، لعله لم يوفق بالعثور عليها.

إلى هذا الموضع، فذكرته أولاً، وسائرها آخرًا، قال - حفظه الله تعالى -: [1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى حضرة جمال الدنيا والدين، حاملِ لواء سنة سيد المرسلين، وجوهرة عقد العلماء المحققين، الدالِّ على منهاج المتقين، شيخِ الإسلام والمسلمين، الذي شهدت مساعيه بفضله، فصدق أقوالَه السنيةَ بشريف فعله، شيخنا الإمام، وقدوتنا في حِنْدِس الظلام، نخبة آل الرسول، وابن الزهراء البتول، مجدد آثار العلوم الدارسة، وموضح معاني كتاب الله، حتى لا يمتري فيه دارسُه، سلطان أهل الحديث، فلا أحد ينافُسه، حسنة الدهر على الأنام، الذي أشرقت بشمس طلعته الليالي والأيام. الشيخ العالم بعلل أقوال الرجال، فلم يبق للمشبهين مجال. السيد الأجل، والسند الأكمل محمد صديق حسن خان المحترم، لا زالت أيامه بطاعة الله معمورة، وصفاته في الملأ مذكورة، آمين. سلام عليكم، عددَ شوقنا إليكم، ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فبينما نترقب لتشريف جوابكم البهي، واقتطاف زهر روض علمكم الزهي، إذ في أبرك الساعات بزغ بدرُ بريدِ رسالتكم الغراء، في سماء شمائلكم الزهراء، وبصحبتها أبكار الرسائل الشريفة، الدالة على معاني الشريعة المنيفة، فاستقبلناها بالابتهاج والسرور، وقبلنا أذيالها بالفرح والحبور، ووردنا عذبَ زُلالها، وأروينا لظى ظمئنا من حسن دلائلها ورقة دلالها، مع ما اشتملت عليه من المتانة والرصانة المشيدة لأركان الديانة، فرفعنا أكفَّ الدعاء إلى الله أن يَمُنَّ علينا ويمتعنا ببقائكم، وأن يجعلكم من الفائزين يوم العرض الأكبر برضاء مولاكم، وشفاعة جدكم - صلى الله عليه وسلم - وإيانا وجميع المسلمين. والمؤلفات الشريفة التي ذكرتموها موجودة بمصر، نستجلبها بحول الله تعالى، نسأل الله أن ينفعنا ببركات ما فيها من العلوم الشريفة. وأما ترجمة المحب الفقير، فليس ممن ينتظم في سلك المجالسين، فضلًا

عن العلماء المحققين، وإنما يعد هذا الداعي لكم من سقط المتاع، وممن يباع ولا يبتاع، فلا أهمية لبيان اسمه، وخمولُه دالٌّ على عدم كفاءته لأن يكون مذكورًا في صحف العلماء، والأجدرُ به أن يثبت في ديوان الجهلاء، إلا أن علو همتكم العلية، أنقذه الله بها من وَهْدَة الجهل الرديَّة، فأوجبت على نفسي الظالمة أن ألبي دعوتكم برسم اسم الفقير، وهو هذا: الفقيرُ إلى الله، راشد بن علي بن عبد الله بن محمد بن سليمان النجديُّ قُطْرًا، النعاميُّ مولدًا وموطنًا، السلفيُّ معتقدًا، وفي هذه كفاية. وأما إثبات بقية النسب، فلا حاجة للفقير به؛ نظرًا لقوله تعالى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101]، ولست بمعارض قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامَكم"؛ فقد علمنا من أنسابنا ما يكفينا عن نشره في دواوين الإسلام، ونقطة علمنا بأنسابنا: أنا من تراب، والترابُ من الماء، وفي سورة الحِجْر بيان ذلك، والمصيرُ إليه متعين، وكذلك في سورة الحجرات. فإن مننتم علينا بـ "التاج المكلل" بعد فراغ طبعه، كان ذلك من أعظم المنن الصديقية على الداعي لكم، وأما كتبكم التي نحب جلبها من طرفكم، إن شاء الله تجعلوها لديكم في حيز الأمانة إلى وقت الميعاد الذي ذكرتم بحول الله تعالى. إما أنا نأتي إلى "هندستان"، أو إلى بعض الأماكن التي يحسن جلبُ المؤلفات الشريفة إليها، وأرجو أن يكون ذلك قريبًا، وإن أحببتم تفرضوا فرصة من وقتكم السعيد، ولو زاحتكم أشغال الليالي والأيام إلى "شرح نونية" ابن القيم، فالداعي لكم يرى هذا من حسناتكم، وامتنانكم على كافة أهل السنة والجماعة، فاغتنموا دعواتهم الخيرية، ما دام في الأرض من يحب السنة والجماعة، والله ولي التوفيق. أما أمركم إلى مدير الجوائب، المحب سليم أفندي في شأن طبع التفسير الشريف، فنعم ما استحسنتم، يَسَّرَ الله ذلك بمنِّه وكرمه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله صحبه وسلم، 10 ذي الحجة سنة 1298.

[2] الحمد لله الذي أرشد العقول إلى توحيده وهداها، وثبت كلمة الإيمان في قلوب أهل الإيقان على أمواج الامتحان، باسم الله مجراها ومرساها، وأضل قلوب المنافقين عن الدين، فلم تجبه لما دعاها، فسبحانه من جبار عظيم لا يُماثل ولا يُضاهي، جل ربًا، وعز ملكًا وتعالى إلهًا، ناصرُ المسلمين بفضله، وخاذل الباغين بعدله، وجاعل العز في الدنيا والآخرة لمن أطاعه وتمسك بحبله، أحمده على تأييد دينه، وتأبيد أصله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خاتم أنبيائه، وسيد رسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المقتدين بقوله وفعله، وعلى خلفائه القائمين بإحياء فرائض شرعه ونفله، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فأهدي السلام الوافر، والثناء الجميل المتظافر، والدعاء المقبول المتكاثر، إلى قرة عين أهل السنة ومسرة الخاطر، وارث مكارم الأخلاق كابرًا عن كابر، أعني: من طاب بوجوده الزمان، واشتهر صيته بكل مكان، سلالة الفضلاء الأكرمين، وخلاصة السعداء الميامين، أهل الحجج الواضحة والبراهين، محيي شريعةِ جَدِّه سيدِ البشر، مجددِ القرنِ الثالثَ عشر. حضرة الملك المفخم، التقي الأواب الأمجد النواب السيد محمد صديق حسن خان بهادر نواب بهوبال المعظم، لا زالت السعادة تضرب عليه خيامها، والسيادة تلقي إليه زمامها. آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدة ... حتى أُضيفَ إليها ألفَ آمينا ثم إن معروض الداعي لكم بظهر الغيب، كثير الخطايا والزلل والعيب، محرر هذه الأحرف، لمَّا مَنَّ الله علينا في هذه السنة المؤرخة بزيارة بيته الحرام، ومسجد نبيه سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، والمسجد الأقصى بأرض محروسة الشام، عنّ لنا أن نسيح إلى الآستانة العلية، مدينة "القسطنطينية"؛ لأجل التفرج في بلاد الله، ورؤية تخت السلطنة السنية

الإسلامية، فاجتمعنا فيها بأديبها، وحافظِ عربيتها بعد ما أَفَلَت شمسُها بمغيبها، حضرة محرر الجوائب صاحب الرفعة أحمد أفندي فارس، ومديرها نجله، الذي فاق أبناء عصره بأدبه وذكائه سليم أفندي. فلما تجاذبنا أهدابَ مِرْط الأدب، أفضى بنا الحديث إلى التعطر بنشر الثناء عليكم، فاستكشفنا غمام علمه عن حضرة سيادتكم، فأسفرت ليلتنا حينئذ عن التشرف باستنشاق نسيم ذكركم العاطر، ومطالعة رَيَّا روضِكم الزاهر، فمن أعظم ما انشرحت به صدورنا، وتم به سرورنا، تفسيركم للقرآن الشريف، المسمى: "فتح البيان في مقاصد القرآن"، و"الروضة الندية شرح الدرر البهية"، و"لقطة العجلان"، ورأيت أسماء مؤلفات حضرتكم الشريفة مقيدة في حجم كتاب لطيف، اسمه "قرة العيان ومسرة الأذهان" وهو كاسمه، إلا أني وقفت على الأسماء، ولم أقف على الأشخاص غير الكتب المذكورة. فجرَّدْتُ همتي لامتطاء بازل ألزم إلى السفر إلى حضرتكم، لأجل أخذ الإجازة بمؤلفاتكم الشريفة التي رأينا بعضها ولم نر باقيها، وحيث إن طريقتكم تلك هي درتي المفقودة، وضالَّتي المَنْشودة، بشرني صباح الظفر بها، لم أتمالك حتى عجلت لكم كتابي شوقًا إلى التشرف بمشاهدة حضرة سيادتكم، والتزود من أنوار علمكم. ولي أصحاب، ينيفون على خمس مئة ألف نفس من الرجال والنساء والأطفال، كلنا على معتقدكم الطاهر المطهر، ومؤلفات مشائخنا مطابقة لما أنتم عليه وما نحن عليه، فالحمد لله الذي نصر الحق بكم على حين فترة من أنصاره {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4] ألا! وإني أنا وأصحابي الآن نعتقد: أنك مجدد هذا القرن، وكنا قبل نحسب أن هذه الطريقة السلفية لنا، ليس لنا فيها مشارك في الدنيا حتى وقفتُ على بعض مؤلفاتكم الشريفة، فازددت بها فرحًا وسرورًا، ودعوت الله أن يمن علي بلثم أعتابكم، والاقتباس من أنواركم؛ فإنها أنوار نبوية، فنرجو من الله ثم منكم أن لا تقطعوا عنا الجواب، وترسلوه سريعًا لتطمئن به قلوبنا، وإن رأيتم ترسلون ما تيسر من

مؤلفاتكم الشريفة لأجل بثها في بلادنا، وتجعلونها وقفًا لله - عز وجل - لينتفع بها إخوانكم المسلمون، ويجري لكم ثوابُ ذلك - إن شاء الله تعالى -، وأرسلوا لنا الجواب، وما تيسر من الكتب التي هي مؤلفاتكم إلى مدير مطبعة الجوائب، بمدينة قسطنطينية، ونحن جالسون بها ننتظر الجواب الذي ترسلوه، ونحن إذا تحققنا منكم الإذن بأنا نتشرف بزيارتكم لأجل أخذ الإجازة عنكم مبادرين إلى هذا المقصد الشريف من غير تسويف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، 5 صفر الخير 1298 كتبتُ ولو قدرتُ لكنتُ طيرًا ... أطيرُ إليكمُ قبلَ الكتابِ ولو قلمي بِما في الصدر يَدْري ... بَكى قلمي إلى يومِ الحسابِ [3] سلامُ الله الأسنى، وتحياتُه الحسنى، تهدى إلى من قرب للخطاب المستطاب قابَ قوسين أو أدنى، ثم يعود السلام الوافر الجزيل، والثناء المتظافر الجميل، والدعاء المتكاثر المقبول، إلى فرع دوحة آل الرسول، ونجل الزهراء البتول، محيي رميمِ الشريعة، ومجددِ دارسِ رسومِ معانيها المنيعة، العالمِ الرباني، الراقي في معارج الأصول إلى أعلى ذرا المباني، حضرة الملك الأواب، الشيخ الناطق بالصواب. شيخ الإسلام محمد صديق حسن خان النواب، لا زال في نصرة العابدين لرب الأرباب، المبشرين يومَ الفزع الأكبر بجنات مفتحة لهم الأبواب، والملائكة للسلام والتهنئة بالنعيم المقيم، يدخلون عليهم من كل باب، آمين، اللهم آمين. أما بعد: فقد قرع أبوابَ مسامعنا، وطلعَ في أندية مجامعنا، أنوارُ شمس علمكم المنيرة، وهَبَّت على روضات قلوبنا رياحُ مودتكم المثيرة، وذلك لما تشرفنا بتسريح سوائم النظر في رياض مؤلفاتكم الزاهرة، فاقتطفنا من ثمارها ما هو نِعْمَ الزادُ إلى الدار الآخرة، ولم نزل على هذا الاعتقاد السلفي الصالح، ولم نحسب أن بالدنيا أحدًا غيرنا على هذا الاعتقاد، لأجل كثرة انفتاح ثنايا الطريق وكثرة سالكيها، والإعراض عن الطريق المستقيم وقلة الراغبين فيها،

فلما وقفنا على فحوى ما أبرزته فكرتكم المنيرة، ورأينا الحقَّ معكم كالشمس في الظهيرة، علمنا وتحققنا: أن لله عِبادًا فُطَنا ... طَلَّقوا الدُّنيا وخافوا الفِتَنا هذا مع ما أعطاكم الله ومنحكم من شرفَي الحسب والنسب، لم يبلغنا أنكم بذلك مغترين، بل لله من الشاكرين، ولأجل دلالة مؤلفاتكم على صدق ما روي عنكم، أحبتكم قلوبنا بظهر الغيب، ولم نحببكم إلا لوجه الله، لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا. وقد حررنا إلى حضرتكم العلية كتابًا في بوصطة النمسا في تاريخ خامس شهر صفر، وأخبرناكم أنا بالآستانة العلية، منتظرين لورود جوابكم الشريف، ويكون العنوان إلى إدارة مطبعة الجوائب باسم محبكم الفقير، ويبلغنا - إن شاء الله تعالى -. ولأجل شفقتنا على الاجتماع بكم، وأخذِ الإجازة عنكم، صرنا منتظرين لجوابكم، هل نحظى بذلك من حضرتكم، أم الوقتُ متضايق عن ذلك، وكذلك مؤلفاتكم الشريفة، إذا كانت لديكم كلها موجودة أو مطبوعة - بمطبعة بهوبال المحروسة - تبعثون بها إلينا في الآستانة العلية، وأجرة نقلياتها نسلمها إلى من تريدون، أو تجعلونها وقفًا لوجه الله تعالى في قطعة جزيرة العرب، بخطة "نجد" لأجل أنهم موافقون لما أنتم عليه من اتباع الكتاب والسنة، فهذا هو اللائق بمقامكم الشريف، ويبقى لكم أجرها وأجر من انتفع بها، ولأجل انشراح صدورنا بمودتكم عرضنا لكم الكيفية، وإن اقتضى نظركم إرسالها إلينا بالآستانة العلية عن حضرتكم، فيكون إيصالها إلى مطبعة الجوائب، حتى نتسلمها منها عن يد مديرها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، 15 صفر الخير سنة 1298 [4] الحمد لله الذي أقام لنصر دينه إمامًا هاشميًا، أرغمَ به أنفَ كلَّ كافر في الدنيا، فجرد صارم عزمه لتكون كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، فأكرِمْ وأنعِمْ به صِدِّيقًا ثانيًا مَرْضِيًا، أحمدُه على ما مَنَّ به علينا من إقامةِ

مجددٍ لشرع نبيه، ومحيٍ سنة صفيِّه، ولم يتخذ من دون الله وليًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغ قائلها الدرجات العلياء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة بكرة وعشيًا، وسلم تسليما كثيرًا. أما بعد: فأهدي السلام الجزيل الشرعي الوافر، والثناء الجميل المتظافر، والدعاء المتكاثر، ورحمة الله وبركاته، ما لاح بارق وطار طائر إلى قرة عين أهل السنة ومسرة الخاطر، وارثِ مكارمِ الأخلاق كابرًا عن كابر، سلالةِ السادة الفضلاء الأكرمين، وخلاصةِ الهداة القادة الميامين، صاحبِ الحجج الواضحة والبراهين، واسطةِ عقدِ محاسن الفخر في نحر هذا العصر، وإكليلِ المعالي، فوق رأس الأيام والليالي، محيي السنة، قامعِ البدَع، المؤيَّدِ من لَدُنِ العزيز بدلائل من كتابه وسنة نبيه كالفجر إذا انصدع، فلم تَأخذه في الله لومة لائم، ولم يألُ جهدًا في إظهار رسوم الحق وإقامة تلك المعالم، حتى أشرقت شمسُه على العالَمين، ورجمَ بثواقب فهمه مَرَدَة الشياطين الغاوين والمبتدعين، فهل يُقاس مَنِ استدلَّ بآراء الجاهلين، بمن استدل بمشكاة الوحي المبين؟ شيخُ الإسلام وعالِمُه الرباني، وإمامُ السنة المحمدية وأبو بكرها وصِدِّيقها الثاني، فهو خليفة أيده الله بالسيف والقلم، ورفع به منارَ الحق حتى يميز كَنارٍ على عَلَم، وسلك منهج جده فخر الكائنات، ومن أشبه أباه فما ظلم. حضرة السيد السند الأواب، أبي الطيب النواب، محمد صديق حسن خان، ملك محروسة بهوبال المحترم، لا زالت السعادة تضرب عليه خيامها، والإمامة الإسلامية تُلقي إليه زمامها، والشريعة الغراء بنصره رافعة أعلامَها، وبأمره منفذة أحكامها. وهذا دعاء للبرية شامل، كيف وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يبعثُ اللهُ على رأسِ كلِّ مئةِ سنة لهذهِ الأمة مَنْ يجدِّدُ دينها". وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدوله، يَنْفونَ عنه تحريفَ الغالِين، وانتحالَ المُبْطِلين، وتأويلَ

الجاهلين"، فالعلمُ المشار إليه في هذا الحديث هو علم التوحيد، ولأجله أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل، وكل علوم القرآن العظيم والسنة الشريفة راجعةٌ إلى هذا العلم العظيم. وإني أحمد الله تعالى على ما أولاكم به من مجانبة أهل البدع المضلة، واتباعِ آرائهم الفاسدة، ومَنَّ عليكم باتباع القرآن العظيم، والذكر الحكيم، والسنة المطهرة الشريفة، فأيُّ علم تُعْقَدُ عليه الخناصر غيرُ علمهما، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. ولست مزكيًا لكم لترضوا عن أنفسكم، ولكن مهنئًا لكم لتحمدوا الله على هذه النعمة العظيمة، والمنة الجسيمة، التي مَنْ فاز بها فقد أفلح في الدارين، فنسأل الله الكريم كما مَنَّ عليكم بهذا الميراث النبوي، أن يمنَّ علينا وعليكم جميعًا بالعمل به، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، فإن من شرط قَبولِ العمل أن يكون خالصًا صوابًا، فالخالصُ ما كان لوجه الله، سالمًا من الشرك، والصوابُ ما كان على هديه - صلى الله عليه وسلم -. ثم لا يخفى عن علمكم الشريف، بينما أنا أترقب لأخباركم السارة في أبرك الساعات، تشرفت بورود كتابكم الكريم، المتوَّج أعلاه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، المؤرخ 22 صفر سنة 1298، فقبلت لثامه إكرامًا، وتلقيته باليمين احترامًا، وسرحت سوائم النظر والأفكار في رياض معانيه التي تُخْجِل حدائقَ الأزهار، وأحطت علمًا بما أودعتموه من لطائف الإشارات، وحسن أسلوب التخلص من هاتيك العبارات، حيث لاح منها أنكم - أيدكم الله - مرجحون عدمَ إرسال ما لديكم من مؤلفاتكم الشريفة إلى مدينة القسطنطينية، لأجل طوارىء الموانع التي أشرتم إليها علينا، وأخرى لم تطلعوا عليها (¬1)، أو اطلعتم فأعرضتم عن التصريح بها إعراضًا حسنًا، وقد لاح لي هذا البارق قبل ورود كتابكم الشريف إلينا، فإذا كان الأمر كذلك، فأمرُ الله ورسوله ثم أمرُكم مطاع، ونحن ¬

_ (¬1) الموانع التي ذكرت عن المؤلف، راجعة إلى الفتنة التي حدثت بعد تزوجه بالملكة، وإيذائه من جراء ذلك من قبل الأسرة الملكية وحاشيتها، ثم تدخل بريطانية في هذه الفتنة لأمور سياسية، يطول شرحها.

إن شاء العالي [...] إلى شاسع الأمصار، وتطلب الإجازة من بعيد البقاع والأقطار، وأطراف تلك المدن والديار، وأما الآن، فقد زال ذلك الانضباط، وطوي ببساط هذا الارتباط، وتقاعدت الهممُ عن طلبه، وتقاصرت الأفهام عن السعي في تحصيل رتبه، وقلَّ طالبوه، وكثر فاقِدوه، وعزَّ ناصروه، وغاب ناقدوه. كأنْ لم يكنْ بين الحَجون إلى الصَّفا ... أنَيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكةَ سامِرُ بيد أنه بقي من آثارهم بقية نزرة في زوايا ممن تحمل عنهم خبايا، وقد ابتهج خاطري بوجود طالب هذا الشأن في هذا الزمان المقترب بالساعة والافتنان، فلله الحمد على ذلك حمدًا يملأ الأكوان، ويفضي بقائله إلى نعيم الجنان، وقد أجبت هذا الشيخ العلامة نخبة مَن بنجد وتهامة إلى مطلوبه، وأسعفته بتحصيل مرغوبه، وإن كنت لست أهلًا لأن أُجاز، فكيف أن أُجيز، وليس بواديَّ ماء ولا كلاء، فضلاً عن الذهب والإبريز، ولكن امتثالَ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بَلِّغوا عني ولو آيةً"، فهذا هو الغاية في تبليغ الرواية، فأجزته برواية كتب السنة المطهرة من الأمهات الستّ وغيرها من بقية علوم الشريعة الحقة، من تفاسير القرآن العظيم، ودواوين الإسلام من شروح علم الحديث وأصوله، وكتب الأدعية المأثورة والأوردة المسنونة، وأجزته أن يروي عني جميع ما تجوز لي، وعني - رواية ودراية - من مقروء ومسموع، ومجاز ومناولة، ووجادة وكتابة ووصية ومراسلة، وما ألفته وجمعته من علوم التفسير والحديث وفقهِ السنة وأحكامها، وما نظمته ونثرته باللسان العربي والفارسي، بشرطِه المعتبر عندَ أهل الأثر - كثر الله سوادهم، ورفع عِمادهم -. كما أجازني بذلك جماعةٌ من أهل الحديث والقرآن، وعصابةٌ من العلماء الفحول الأعيان، منهم: الشيخ الأجل المعمَّر، المرحوم أبو الفضل، عبدُ الحق الهندي، المتوفَّى بمنى في سنة 1286 - رحمه الله تعالى - كما أجازه بذلك جماعة من شيوخ الإسلام، منهم: الإمام الهمام، حسنة الليالي والأيام، المجتهد المطلق، العلامة الرباني سهيل القطر اليماني، القاضي محمد بن علي

الشوكاني - رضي الله عنه -، بسنده المذكور في ثبته المسمى، بـ "إتحاف الأكابر في إسناد الدفاتر"، ومنهم: الشريف العلامة، قدوة أهل الفضل والكرامة، مجدد العصر، ومجتهد الدهر، السيد عبد الله بن محمد بن إسماعيل الأمير اليماني - رحمه الله تعالى - ومنهم: العالم الكبير، والحبر البحر النمير، الحاج المجاهد الغازي، الشهيد، الحافظ محمد إسماعيل الدهلوي، حفيد مسند الوقت، الشيخ الأجل، أحمد وليِّ الله المحدثِ الدهلوي. إلى غير هؤلاء من الأئمة، وكما أجازني بذلك شيخنا الصالح النقي، عين الإنسان، وإنسان العين، القاضي حسين بن محسن السبعي، الحديدي اليماني، تلميذ السيد الإمام الفهامة، محمد بن ناصر الحازمي، تلميذ الإمام الشوكاني، وشيخنا المهاجر إلى الله تعالى بقلبه وقالبه، نزيل مكة المكرمة - حرسها الله تعالى - المتوفى بها في سنة 1282 العالم الصالح، محمد يعقوب الدهلوي - رحمه الله -. وشيوخ هؤلاء الأئمة مذكورون في ثبتهم، وثبتنا الفارسي، المسمى بـ "سلسلة العسجد في ذكر مشايخ السند"، وتمام ذلك كله في كتاب "النفس اليماني والروح الريحاني في إجازة القضاة بني الشوكاني"، للقطب الشهير، مفتي اليمن، السيد الجليل العلامة عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى الأهدل - رضي الله عنهم -، فإنه - رحمه الله تعالى - من شيوخ مشايخنا الكرام. ومن فوائد هذا المقام: أن من المقرر في مصطلح الحديث، أن الإجازة: مصدر مزيد مشتق من المصدر المجرد، وهو الجواز، بمعنى: الإباحة، فكأن المجيز أجاز للمجاز، وأباح له أن يروي عنه، وأذن له في ذلك، وقد ذهب بعض أهل الحديث إلى أنها أقوى من العرض؛ لأنها أبعدُ من الكذب، وأنفى عن التهمة وسوء الظن، وأقربُ إلى التخلص عن الرياء والعجب، فليرو عني المجازُ كلَّ ما أشرتُ إليه وعوَّلت عليه على كل حال، وليبلغه من يراه أهلًا لتحمل هذا المعنى، وأوصيه وإياي بتقوى الله في السر والعلن؛ فإنه ملاك الأمر فيما ظهر وبطن، وكل الصيد في جوف الفرى. وها أنا أسأل من فضل المجاز، الراقي إلى الحقيقة من المجاز، ألا ينساني

من خالص دعواته، في خلواته وجلواته، ومواضع إجاباته المثمرةِ بلوغَ المرام، المنتجة حسنَ الختام، قاله بلسان بيانه، راقمًا بيراع بنانه، الفقير إلى الله الغني الباري، عبده وابن عبده وأَمَته "صِدِّيقُ بن حسن بن علي الحسينيُّ، القنوجيُّ، البخاري - غفر الله زَلَلَه، وأصلح خَلَلَه، وتقبل عملَه، وبلغه أملَه، وذلك في يوم الجمعة، لعله الثامن من شهر جمادى الأولى من شهور سنة ألف ومئتين وثمان وتسعين الهجرية، في بلدة "بهوبال" المحمية، صانها الله وأهلها عن كل رزيَّة وبليَّة، بجاه عريض الجاه سيدِنا محمد خير البرية، صلَّى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين. [5] الحمدُ لله الذي مَنَّ علينا باتباع نبيه وصفيه محمدٍ سيدِ البشر، وأقامَ لسنته ناصرًا كما أمر، فجددَ شريعة الإسلام، وأحيا دارسَها إرغامًا لمن خالفها وكفر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها من سقر، وأشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدًا عبده ورسوله، الشافع المشفع في المحشر، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله السادة الغرر، وأصحابه ومن آوى ونصر. أما بعد: فإن أفضل سلام أبرزته دقائقُ الأفهام، وقيدته سوابق الأقلام، في ميادين طروس أهل الإسلام، ورحمة الله وبركاتُه، يُهدى إلى مَنْ سمت فوق العلا درجاتُه، ونورت الدنيا حياتُه، وجلت غياهبَ المشكلات علومُه ومؤلفاته، فجعلها الله حرزًا لعهده الرباني كما شهدت لها به آياتُه، فأبرز دلائل الربوبية والإلهية التي نزل بها القرآن، ودعا إليها أهل الإيمان والإيقان، فابتهجت بها قلوب المؤمنين، ونزهوا خالقهم عما لا يليق بجلاله من أقوال المشركين، قاصمِ ظهورِ زخارف المبتدعين، بمرازبِ الوحي المبين، وقاطعِ رقابِ شُبَهِ الغاوين بصوارم البراهين، سلطانِ الأئمة المحدِّثين، وإمامِ الحنفاء المسلمين، شيخِ الإسلام ومجدِّده، ومرمِّمِ صرحِه ومشيِّده. الإمامِ السيدِ الهمام، شيخِنا حضرة محمد صدِّيق حسن خانَ، ملك بهوبال،

المحترم، لا زالت الخلافة تجرُّ به ذيولَ افتخارها، وشرعةُ الإسلام بأنوار بصائره ليلُها كنهارها، آمين. ثم إنه غير خفي عن علمكم الشريف: أن الداعيَ لكم بظهر الغيب قد تشرف بإشراق شمس كتابكم الكريم، المستحقِّ للتبجيل والتكريم، وفي طيه الصحيفة الغراء المنيفة التي أعربت براعةُ استهلالها، عن معان تُخجل البدورَ ليالي كمالها، فأبدت محاسن نسقها بلاغة لعبت بأولي الألباب ولا لعبَ الراح بالأرواح، وتجلت عرائس جناتها رافلة في حلل بيانها، مبشرة بنقش الإجازة الشريفة على أوجانها، فاغتنينا بالتشرف بها عن عقود لآلىء البحرين ومرجانها. فلله، هي شمسٌ من جبين مُنْشيها طالعة، بخلود جنات الهموم بأنوارها الساطعة، فوالذي أنزل سورةَ العصر، لكأني قد أُوتيت ملكَ مصر، كيف وهي ضالتي المنشودة، ودُرَّتي المفقودة، فنسأل من حبا منشيها الجلوس على تخت الخلافة الإسلامية، وأورثه دواوين الأسرار الربانية، أن يمتعنا ببقائه، وأن يمنَّ علينا بالتشرف بلقائه، وأن يعيد علينا من بركات علومه الشريفة، وأن يجعله من الآمنين يوم الفزع الأكبر والخِيفة، وأن يؤيد به دينَه القويم؛ ليهدي عباده إلى الصراط المستقيم، إن هذا دعاء للبرية شامل، فاستجبه يا إله العالمين، ويا خير الناصرين. ومن خصوص الوارد إلينا من رسائلكم الشريفة التي هي جواب عن رسائلنا السالفة - ثلاثة كتب - سوى الإجازة الشريفة، فأولها كتابكم الشريف، المؤرخ 22 صفر سنة 1298، وثانيها المؤرخ 10 ربيع الأول سنة 1298، لم نجبكم عنه لأجل اكتفائنا بكتابنا الذي طلبنا به من حضرتكم الشريفة إرسال الإجازة. وثالثها كتابكم المؤرخ 9 جمادى الأولى سنة 1298، وبِطيِّه الإجازةُ الغراء المؤرخة 8 جمادى الأولى سنة 1298. هذا الذي تشرفنا به من رسائلكم الكريمة، وأما تلويحكم في الكتاب الأخير، أن الداعي لكم قد انتقد الموضع الذي في التفسير من قوله عز وجل {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] الآية. فمعاذ الله! إني لم أنتقد، ولكن معتقد! كيف يتجاسر أبو الحصين، على وادي

أسامة أبي الشبلين؟! أم كيف يسوغ للبعوضة أن تطن في أذن الفيل؟! أم كيف صبابة الأنهار تحاكي زواخر البحار؟! هذا من المحال، ولو تصدى لذلك - فحولُ علماء الرجال لجاؤوا شيئًا إدًّا. ولكن موجب سؤالي لحضرتكم؛ لأقتبس من أنواركم، وأرتويَ من تيار بحاركم، فاحملوا الداعي لكم على الاسترشاد لأجل علو الإسناد، فهل مثلي يحظى بمثلكم، ويكتفي بالمؤلفات، بل لا أكتفي إلا بالسؤال، فإن دواء العيى: السؤال، فاللهُ يُمتعنا ببقائكم، شفيتم العليل، وبردتم الغليل بإيضاح ما أشكل، ولقد تلقيت قولكم بالقبول قبل أن نراسلكم، واعتقدت ثقتكم، ومثلي من يعتقد ويعتمد على استدلالكم. فوالله! إن تفسيركم الشريف جليسي، وفي الخلوات هو أنيسي، ولأجل استغنائي به عن غيره، واعتمادي عليه، لا عجب إذا راجعتكم عَمَّا لم يتضح لفهمي القاصر، لأجل أن بضاعتي مُزجاة، وما كُلُّ مَنْ حمل السلاح بطل، وما كل ذات المخلب السبع، فأين الشحم من الورم، {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]، إنه حميد مجيد، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، 28 جمادى الثانية سنة 1298. [6] أستودعُ نسماتِ الأسحار عاطرَ تسليماتٍ أضاء نور سناها، وتلألأ بين الخافقين محياها، تُهدى ورحمةٌ وبركاتٌ ممن خلق كلَّ نفس وسوَّاها، إلى من جرد صارَم علمه النبوي على ظلماتِ الجهل فجلاها، وضربَ هامَ بنيان الضلال بمرازب الوحيين فهدّ بناها، وجَنَّدَ جنودَ كتبه الشريفة على كتاب بدع المبتدعين فأفناها، وجَدَّدَ منهاج الشريعة الغراء وحمى حماها، شيخِ الإسلام، شيخِنا الإمام، جمالِ الدنيا والدين، الذي ليس له في فضله مباري، أبي الطيب، محمد صِدِّيق بن حسن بن علي البخاري، لا زالت حياته الدنيا طيبة برضا مولاه، وآخرته صالحة يوم لقاه، آمين. أما بعد: فإن الداعي لكم بظهر الغيب، كثيرُ الزلل والعيب، قد سير إلى حضرتكم كتابًا جوابًا لكتابكم الشريف الذي بطيه الإجازةُ الشريفة، التي طوقتم

بها جِيدَ محبكم العاطلَ، الداعي لكم على الدوام، وإنه عنكم ليس بغافل، نؤمل أن كتابنا المزبور قد تشرف بتقبيل الأنامل الكريمة، وبهذا الكتاب نبين للحضرة البهية: أنا إلى حال التاريخ لم نبرح القسطنطينية، وقد منَّ الله عليّ ببعض مؤلفاتكم الشريفة المطبوعة بالجوائب، بالأحرف الدونمية، "لقطة العجلان"، و"حصول المأمول من علم الأصول"، و"خبيئة الأكوان" مع "التفسير الشريف"، فكانت تلك سميري في الخلوات، لأتسلى بها حتى استكمل جميع ما التمسناه منكم من المؤلفات، وإني أرجو الله تعالى أن يمنَّ بها علينا قبل الممات. وقد تشوش فكري من سماحتكم بطبع هذا التفسير الجليل بالمطبعة الحجرية في قرطاس ضعيف لا يليق بجلالة هذا التفسير العظيم، فهلا أمرتم بطبعه بمطبعة مصر القاهرة، في قرطاسها الذي هو حرز لدواوين الإسلام؛ فإن هذا التفسير جدير لعلماء القرآن والسنة أن يكتبوه بماء الذهب، فكيف بماء مركب، أم كيف مقداره العالي ينحط إلى هذا المنزل عن غيره من هذيان الأوائل والتوالي، وإني لست أمقت المطبعة البهوبالية المحمية، ولكن أمقت القرطاسَ والحجر، في جانب الأحرف الدونمية، التي قد رأى حضرتكم طبعها، فلأجل رغبتي في تخليد هذا التفسير تأسفت، إذ لم يطبع بالأحرف في كاغذ يليق به، سواء كان في بهوبال، أو غيره من البلاد، لأجل أن النسخ بالقلم بمناسبة قصور همم الطالبين الآن فيه صعوبة على البطالين، ولأجل مجاراة هممنا القاصرة نرغب للطبع لأجل سرعة إبرازه وحصول المقصود به سريعًا، فالمأمول ألا تؤاخذونا بإساءة الأدب مع حضرتكم بهذا الخطاب، وما هو إلا من المحبة الراسخة لكم لله، وفي الله، وسوف ينفع الله بكم وبمؤلفاتكم، وإني لأرجو الله أن يقر العين منا ومنكم بإعلاء كلمته، وكبت أعدائه أينما كانوا. وهنا مسألة نعرض لحضرتكم الكريمة، وهي: أن الناس في آخر هذا القرن، كما قد تعلمون علاوة على ما قد علمتم، مصر والشام والعراق والحجاز والقسطنطينية وما والاها من البلاد، أظن جُلُّ أحوال أهل هذه البلدان ليست خافية عنكم، أن معتقدهم الذي هم الآن عليه مضادٌّ لما نحن وأنتم عليه، ويوجد

فيهم فئات موافقون لما عليه أهلُ السنة والجماعة، لكنهم تحت القهر والخوف على أنفسهم من هيجان رعاع الناس، ولا بد أن الله سبحانه آخذٌ بأيديهم، ولكنَّ إقامتهم بين ظهرانَي ضدِّهم قد وقع معنا موقعَ الإشكال، واعترض معه جملة جعلناها سؤالًا مستقلًا، نلتمس من فضلكم الجواب سريعًا، وأرسلوا الجواب على العادة إلى مطبعة الجوائب على يد مديرها محبكم سليم فارس، وهو يبلغ إلينا - إن شاء الله -، كما قد كان؛ حيث إنه مأمون بين الطرفين، وهذا تهنئة لكم بشهر رمضان المعظم، نرجو أن الله يعفو عنا وعنكم وعن جميع المسلمين، آمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، 27 رمضان سنة 1298. ركونُ الورى إلفًا رأيناهُ يُعْرَفُ ... كما قيلَ أرواحٌ تميلُ وتَأْلَفُ على الدينِ اُولى والدنية بعدها ... فنزرٌ على الأولى بقايا تخلَّفوا تجدْ جُلَّ هذا الناس للمالِ دينُه ... وإيمانهُ عن علمِ مولاه يَصْدِفُ تَواخَوا وصَدُّوا بل تعامَوا وأعرضوا ... لقد قَصَّروا علمًا، وفي الجهل أَسرفوا فهذا اغترابُ الدين لا شيءَ غيرُه ... فبالله هل عينٌ على الدين تذرف سَبَرْنا كرامَ الناسِ أهلَ درايةٍ ... ونشرِ علومٍ منهمُ العلمُ يُعرف ولم يبقَ إلا منهم اليوم شعرةٌ ... من البُلْقِ بَيْضا في سوادٍ محرف وهم فتيةٌ أنصارُ حقًّ وشيعة ... على الدين بالتقوى دوامًا توصفوا تواصَوا وعَضُّوا بالنواجذ رغبةً ... على الملة السَّمحا جِهارًا وما خَفُوا فمنهم لنا خِلٌّ، ولي منه خلةٌ ... أغوصُ بحارَ العلم منه وأغرفُ عليمٌ حليمٌ، بل حكيمٌ ومرشدٌ ... كريمٌ سليمٌ ينتقي ويعنِّفُ يجودُ بعليم من لديهِ لطالبٍ ... وما ملكَتْ كفاه بالمال يُتْحِفُ عنيت به "الصديقَ" شيخي ملة ... صديقًا لأهل الدين والخبر يخلفُ لقد كانَ فينا كالدليل لركبِه ... به نهتدي، بلْ في زواياه نعكُفُ وقد كانَ كالبدرِ يُضاهي بنوره ... إذا ما أضا يعلو الدراري، وتخسفُ فلا زالَ فينا حيثُ ما شاء منةً ... من الله بالتقوى كريمًا ومسعِفُ

540 - السيد أبو الخير نور الحسن الطيب

له البسطةُ العظمى على الناس كلِّهم ... من الدين والدنيا وما شاءَ يَقْطِفُ ودونَك من جُهْدِ المُقِلِّ تحيةٌ ... وتهنئةٌ بالشهر لا زلتَ تعرفُ لك الأجر في ذا الشهر يبقى مضاعفٌ ... لك الضعفُ ألفًا، ثم يبقى مُضَعَّفُ تقومُ الليالي بعدَ صومِ نهارِها ... بأكملِ وجهٍ في سرورٍ ومعرفُ وأزكى صلاة للنبيِّ وعترةٍ ... كذا الصحبِ والأَتباعِ للدينِ يَقْتَفو 540 - السيدُ أبو الخير نورُ الحسن (¬1) الطيبُ. ابنُ محرر هذه السطور - حماه الله تعالى -، عالم صالح، ومحدث سني، ومحمديٌّ خالص، وصوفيٌّ طاهر، وهو نور حدقة الزمان، ونورُ حديقة الحسنِ والإحسان، وإنسانُ طرفِ الظرف، وعارضُ وَجَناتِ اللطف. ولد سنة 1278 يوم الأربعاء، لعله أحد وعشرون من شهر الله رجب، نشأ ببلدة بهوبال المحمية، وأخذ عن جماعة من علمائها؛ كالشيخ العلامة القاضي حسين بن محسن السبعي اليماني الحديدي نزيلها، والشيخ الفهامة محمد بن عبد العزيز القاضي بها حالًا، وآخرين، وقرأ مختصرات كثيرة في العلوم الآلية، واشتغل بالحديث، فسمع وقرأ عليّ وحَصَّل، واقتصر عليه، وعلى علوم القرآن، وليس له بغير هذه العلوم إلمام، إلا ما يذكر من ميله إلى علم السلوك والعرفان، ولا مضايقة في ذلك، فالإحسان أعلى مرتبة من تطورات الإسلام والإيمان، وهو خاشع متواضع، كثير الأذكار، سليم الصدر إلى غاية، وما زال مواظبًا على الخيرات الحسان. وله عناية تامة بالعمل بما في الأمهات الحديثية، مع طرح التقليد، له شغل بالكتاب والمطالعة والكتابة من أوان الصبا إلى عنفوان الشباب، ويقطف من رياض العلم الشريف غضَّ زهره حتى عَبَقَتْ شمائله نسمات الند، وقطرت من سلسبيل أوصافه مياهُ المجد، ألفاظُه ريحانة الأدب، ومعانيه شمامة الطرب، صيته لركائب العرفان والعلم حادي، ونور غُرَّته في ظُلَم الآراء والأهواء هادي، ¬

_ (¬1) ابنه ظهور الحسن سنه حول 70 سنة، متقاعد، كان سكرتير وزارة المالية ببهوفال. وحفيد صاحب الترجمة رشيد الحسن بن نجم الحسن بن نور الحسن يتعاطى العلم في بهوفال.

يحفظ لسانه عن الفلتات، وجَنانه عن الخطرات، له ذهن وقال، وطبعٌ صياد، وسليقة كاملة في الشعر والإنشاد، ومؤلفات ممتعة، اشتهرت في البلدان، وسارت بها الركبان إلى أقصى المكان، منها كتاب "الجوائز والصلات من جمع الأسامي والصفات"، وهو كتاب كبير الشأن، جليل البرهان، أجمعُ ما يكون في هذا الباب، ومنها: "الطريقة المثلى في ترك التقليد واتباع ما هو الأولى"، وهما باللسان العربي المبين، ومنها: "النهج المقبول من شرائع الرسول"، وكتاب "العَرْف الجادي من جنان هَدْي الهادي"، وهما باللغة الفارسية، وتذكرة لشعراء الفرس، سماها: "نكارستان سخن"، وأخرى لشعراء الهند، سماها: "طور كليم" ويتخلص بالكليم، في القصائد والغزليات، إلى غير ذلك من المسائل والرسائل. وعنده من كتب الأصول والزبر السلفية مقدار عظيم، له نظر فيها ممعن، ومؤلفاته دالة على علو علمه، وسعة دائرة فضله في العلوم، وهو حسن الفهم، فصيح العبارة، لطيف الإشارة، مع نجابة كاملة، وشرافة تامة، وسعادة شاملة، وحسنِ سمت، ولطفِ دَلّ، وقنوعٍ وعفاف، وكرمٍ وتقاوة زائدة، ومحاسنِ خصال، ومكارم شِيَم. وبالجملة: فشخصه الطيب وعينه الطاهر، مفاخرُ أهل هذا البيت، علمًا وفهمًا، وجلالة وفخامة وتوددًا، مع دين متين، وورع شحيح، وحبًّ في القلوب، وفي كل حين يزداد جلالًا وعظمة في العيون، ورفعة في الناس، وخصاله الشريفة كلها محمودة، وأموره جميعُها منتَظمة حسنة، وقد زينه الله مع هذه الفضائل بما جُبل عليه من الوقار والإكبابِ على العلم والتقوى، وإيثارِ الحق على الخلق، والإعراضِ عن مناصب الدنيا، والانجماع عن الناس، وتقللٍ من زخارف هذه الدار، لا يبالي بما ظفر منها، وبما فاته عنها. وقد أجزتُه وأخاه الصغير الآتي ذكرُه بما تجوزُ لي روايته عن مشايخي الكرام. أعلى الله مدارجَهم في دار السلام يوم القيامة، وأجازه مشايخه في الحديث وغيره أيضًا كما هو مذكور في "ثبته"، وهو الآن في الطلب - بارك الله فيه وله وعليه، ووجه ركائب الآمال والأماني إليه -.

541 - السيد أبو النصر، علي حسن الطاهر

541 - السيد أبو النصر، علي حسن (¬1) الطاهر. أخو أبي الخير المذكور، وولد المؤلف الصغير. ولد سنة 1283، يوم الخميس نصف الليلة، لعله الرابع من شهر ربيع الآخر ببلدة بهوبال المحمية، أمه وأم أخيه المذكور، البنت الكبرى للشيخ الصالح الوزير محمد جمال الدين خان الدهلوي، نائب الرياسة (¬2) البهوبالية، أعني: ذكية. نشأ صاحب الترجمة في مولده ومسقط رأسه ومهبط شخصه، وقرأ مختصرات العلوم الآلية بالفارسية وبالعربية إلى "شرح الكافية" للجامي، وأخذ عن جماعة من أعيان بلده وغيرهم الواردين بها. وبرع في الشعر الفارسي والهندي، حتى ألف تذكرة لشعراء الفرس، وسماها: "صبح كلشن"، وأخرى لشعراء الهند، وسماها: "بزم سخن"، وله "الإقليد في رد التقليد" باللغة العربية، وحواشٍ على مؤلفات أبيه وأخيه كثيرة. وهو الآن في طلب العلم والعرفان، يقرأ في هذه الأيام كتاب "الجامع الصغير" للسيوطي، ويحصَّل سائر الحديث، له يدٌ طولى في الفروسية، وركوب الخيول، وهمة في تحسين الزي، وتجميل الهيئة، وتنظيف الدار والمجالس، وإيثار شأن الإمارة. ومنذ ولد منح اللهُ بسببه الغنى الكثير، وهو ذو نصيب عظيم، وثروة كثيرة، رزقه الله علمًا يحبه، وعملاً يرضاه، ومَتَّع بحياته أمه وأباه. وهذان الوالدان - هما - قرتا عينيَّ، وريحانتاي في الدنيا. اللهمَّ أَحِبَّ مَنْ أَحَبَّهما، وأبغِضْ من أبغضَهما، واجعلْهما من صالحي عبادك ¬

_ (¬1) له تأليف في سيرة أبيه؛ أي: مؤلفِ هذا الكتاب، سماه: "مآثر صديقي" في اللغة الأوردية، 4 أجزاء، يحتوي على 752 صفحة، طبع في لكناو 1343 هـ 1925 م. (¬2) أي: الدولة، أو الولاية.

542 - خليفة العصر، وتاج هامة الفخر، الرئيس البطل الأعظم، لأعلى طبقات من كواكب الهند، أهل بيتنا "نواب شاه جهان بيكم" والية "بهوبال" المحمية، وحامية حوزتها السنية - حفظها الله وسلم -

المؤمنين، وبارك لهما في الدنيا والدين، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير. 542 - خليفةُ العصر، وتاجُ هامة الفخر، الرئيسُ البطلُ الأعظم، لأعلى طبقات من كواكب الهند، أهلُ بيتنا "نواب شاه جهان بيكم" والية "بهوبال" المحمية، وحاميةُ حوزتها السنية - حفظها الله وسلَّم -. أصلها من قوم أفغان، وهم من نسل العمالقة عند التحقيق والإتقان، من أولاد الضحاك التازي، ولدت (¬1) في قلعة إسلام نكر، موضع بقرب بهوبال - على ثلاث فراسخ منها - سنة 1254، ونشأت في حجر أمها الكريمة "نواب سكندر بيكم" المرحومةِ، يتيمةً، ووليت الرياسة مرتين، فهي صاحبة القِرَان، مرة من جهة الأب، وأخرى من جهة الأم. ومنحت الرئاسة أمها المتوفاة في سنة 1285 - وهي عام سفري إلى الحجاز -، وتزوجتْ بامرأين، آخرُهما كاتب هذا الأحرف، و {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58]. ووقع تزوجي هذا إياها في سنة 1288، باطلاع ملكة إِنكلند (¬2) ومالكتها المخاطبة: بقيصر الهند، على مرأى من أعيان الحكام، ومسمع من الأمراء الكرام، وجاء هذا الزواج (¬3) بما يلزمه من رفعة المراتب، وترقي المدارج المعمولة في الديار الرئاسية (¬4)، والممالك الدولية؛ من الخطاب الرفيع، والإقطاع الكبير، ودفع المدافع عند الإيراد والإصدار، وتسليم العساكر والجيوش والجنود الكبار، إلى غير ذلك مما يعرف ويعمل في زمرة الرؤساء، وعصابة الملوك والأمراء. وقد قرأتْ - حفظها الله تعالى - القرآن الكريم مع الترجمة بلسانها، وهي على ¬

_ (¬1) وتوفيت - رحمها الله - بعد وفاة زوجها، وهو مؤلف هذا الكتاب، سنة (1319 هـ 1901 م)، وسنها إذ ذاك 65 سنة، ومدة حكمها 34 سنة. (¬2) إنكلند: إنكلترا. (¬3) ولم تكن لهما ذرية بهذا الزواج. (¬4) أي: الدولة.

طرف بنانها حفظًا، وقرأتْ علي: "مشكاة المصابيح"، و"مشارق الأنوار"، و"بلوغ المرام" في علم الحديث، وكتبت بيدها الشريفة: كتاب "تقوية الإيمان"، و"ضمان الفردوس"، ونظرت في رسائل ومسائل من فقه السنة المطهرة، وجمعت رسالة في بعض المسائل. وهي تصلي الصلاة بجماعة النساء في مسجد البيت، وتُكثر من الصوم، والذكر، وقراءة "الحزب الأعظم"، و"حصن الحصين" - زاد الله أهل الرئاسة وذوي الدولة بأمثالها، ويرزقهم العبرة بأحوالها -. وقد حررتُ لها ترجمة حسنة في أكثر مؤلفاتي، وأوردتُ أشعارها الفارسية في "تذكرتي"، ولها ديوان الشعر بالهندي، فمن شاء زيادة الاطلاع على محاسنها، ومكارمها ومناصب جودها وسخائها، وآثارها الحسنة المتزايدة كل حين من عمارة المساجد، والمدارس، والحدائق، والآبار، وجمع الفضلاء وأهل الآثار، فليرجع إليها، وهي إلى حال تحرير هذه الأحرف - حفظها الله - على حالتها الجميلة، ولها من حسن الخَلق والخُلق، ولطف الطبع، وكرم الشيم، ورفعة الهمة، ومحاضرة الجواب والشجاعة، والود للعلماء العاملين بالكتاب والسنة، وفصاحة اللسان، وقوة الجَنان، وسرعةِ الإدراك ما لا يُعبر عنه وصف، ولا يأتي عليه حصر، وكم من قصائدَ فرائدَ نظمها أدباءُ الزمان وبلغاءُ العصر من بلاد شتى باللسانين العربي والفارسي، بل بالهندي أيضًا، حتى اجتمع منها مؤلف كبير. وجاء إليها مثال "السلطان عبد الحميد خان"، ملك قسطنطينية، مع النشان (¬1) الرفيع من الدرجة الأولى، وفيه الثناء عليها، والشكر لها على إعانة الجرحى والمرضى في حرب الروس، وكذلك جاء إلينا ذلك النشان من الدرجة المجيدي مع المثال السلطاني. وأما ما تختص به من المدارج العليا، الحاصلةِ لها من جهة الدولة البريطانية ومليكتِها، فهي أزيدُ وأكثرُ من أن تُستوفى، وكذلك خيراتُها وصدقاتُها على ¬

_ (¬1) النشان: هو النيشان؛ أي: الوسام.

ساكني الحرمين الشريفين، وعلى غيرهم من أهل العجم والعرب من المسافرين والواردين إليها، والصادرين عنها، مع إخراج الزكاة المفروضة بالحساب الصحيح - مع كونها كثيرة - تزيد على آلاف في كل عام، وعلى لكوك (¬1) في أعوام، وقد أعانت جرحى الروم ومرضاهم في حرب الروس بمئتي ألف ربية من الخزانة العامرة، وبخمسين ألفًا من خزانة بيتها، وقد شاركتُها في هذا الأمر بخمس وعشرين ألف ربية من خزانتي، وهي - حفظها الله تعالى - من أكثر النساء صلةً للأرحام، وإن كانوا من الجهلة الطغام، والأوغادِ اللئام. ودولتُها هذه تليها النساء من أربعة أصلاب، وكانت كل واحدة منهن على مزاج خاص بها، ولا يخلو الزمان من العجائب، ونوع الإنسان من الطرائف والغرائب، والسبب في ذلك: أن رجال الدولة لا يكاد يصلحون لإقامة الأمور السياسية، وتنظيمات الدولية الرئاسية؛ لجهلهم عن العلم، وخوضهم فيما لا يعني، وفرارِهم عن تحصيل المَلَكات الشريفة، والنساءُ لهنَّ إلمامٌ بالدولة وأحوالها، وبجمع أهل الفضل واللياقة، وأصحاب الرأي لنظمها ونسقها، وسماعة لإغاثة اللهفان، وإعانة الولهان، وإيصال الحقوق إلى أهلها، وكفِّ أيدي الظَّلَمة عن المظلومين، ونظارة المداخل والمخارج، وهمة في إتقان الرتق والفتق، حتى جمعت رئيستنا هذه - حفظها الله - كتابًا في السياسة الدولية، سمتها: "التنظيمات الشاه جهانية" أكثرُ ضوابط هذا الكتاب، توافقُ الشرع المستطاب. فخواتين هذه الدولة هن القائماتُ منذ زمن كثير، وعصر مديد بالرئاسة، وإن كن احتجن في تمشية الأمور المالية والملكية إلى أرباب الحل والعقد، ومن يتحمل عنهن أعباء ذلك، وهم ملازمو هذه الرئاسة [الدولة] العلية من أبناء بلاد شتى، ولهم وظائف معلومة، وخدمات مختصة، وولايات متشخصة يؤدونها على القانون الرئاسي، والطريق السياسي - الجاريين في هذا القطر، وقد قضت للقاضي والمفتي بالقضاء والفتيا في قضاياهم وفتاواهم بما يوافق الكتاب ¬

_ (¬1) لكوك جمع اللك، واللك: مئة ألف.

543 - أبو الطيب، صديق بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني، البخاري، القنوجي، نزيل "بهوبال"، وجامع هذا القيل والقال عفا الله عن معاصيه، وجعل مستقبله خيرا من ماضيه -

والسنة، ولا يخالفهما، وتعمل بنفسها الشريفة بالدليل، ولا تقلد أحدًا من أصحاب القال والقيل، بل تسأل في كل مسألة في العبادة والمعاملة ثبتًا بالأدلة، وتلك خصيصة خصها الله تعالى بها من بين الرؤساء والملوك، ولا يُعلم نظيرُها في هذه المماشاة والسلوك - فتح الله عليها أبواب العلم والنعم، وحفظها عن كل رزية وبلية ونقم -، ع: وهذا دعاء للبرية شامل. 543 - أبو الطيب، صديقُ بنُ حسن بنِ عليِّ بنِ لطفِ الله الحسينيُّ، البخاريُّ، القنوجيُّ، نزيلُ "بهوبال"، وجامعُ هذا القيل والقال (¬1) عفا الله عن معاصيه، وجعل مستقبله خيرًا من ماضيه -. نسبه ينتهي إلى الإمام الشهيد حسين السِّبط الأصغرِ بنِ عليِّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه - ولد سنة 1248، يوم الأحد، لعله التاسع عشر من شهر جمادى الأولى (¬2). نشأ بموطنه بلدة "قنوج" وهي من أسن [أقدم] بلاد الهند وأعظمها، ذكرت ترجمتها [تاريخها] في "حظيرة القدس"، و"رياض المرتاض". وذكرها العلامة المَجْدُ في "القاموس"، وشارحُه السيد المرتضى في "تاج العروس". وبالجملة: قرأ صاحبُ الترجمة القرآنَ على معلمي بلده، والمختصرات من فنون شتى على جماعة من أعيان نواحيها، وعلماء ضواحيها، و"مختصر المعاني" على أخيه المرحوم السيد العلامة أحمد بن حسن، المتخلص (¬3) بالعرشي، المالك لأَزمة المنطوق والمفهوم - رحمه الحيُّ القيوم -، ثم ارتحل إلى مدينة "دهلي" قاعدة المملكة الهندية، ودار خلافتها السنية، فلقي بها عصابة ¬

_ (¬1) أي: "التاج المكلل". (¬2) توفي - رحمه الله - ليلة الخميس 29 جمادى الثانية سنة (1307 هجرية، الموافقة 20 فبراير سنة 1890 ميلادية)، وسنه إذ ذاك 59 سنة و3 أشهر. ودفن ببهوبال. ويوجد من أحفاده وأسباطه الآن، بعضهم مقيم في الهند، وبعضهم مقيم في باكستان. (¬3) أي: اللقب.

من العلماء، ودار على جماعة من مشايخها النبلاء، فقرأ سائر الفنون من العقليات والنقليات والأدب والعربية، وأخذ هناك من فاضلها الفهامة، المشهور بالشيخ المفتي محمد صدر الدين خان صدرِ الصدور، تلميذ أبناء مسند الوقت الشيخِ الأجلِّ أحمدَ وليِّ الله، المحدِّثِ الدهلويِّ المبرور، وأجازه إجازة عامة تامة للعلوم كلها، عقليِّها ونقليِّها. ثم عاد إلى "قنوج" وسافر إلى "بهوبال" طلبًا للمعيشة، فأخذ ها هنا عن الشيخِ القاضي حسين بن محسن السبيعي، وأخيه المرحوم الشيخ زين العابدين، تلميذي الشيخ محمد بن ناصر الحازمي الشريف، الآخذِ عن العلامة الشوكاني، ودرَّس قليلاً، وصنف كثيرًا، أحاط بالفنون المتداولة وغيرها من الشاذة الفاذة علمًا، وحصل منها على قسط أوفر، ونصيبٍ أجمع، وأجاز له مشايخُ آخرون، منهم: الشيخُ المُعَمَّرُ عبدُ الحق الهنديُّ، المتوفى بمنى في سفر الحج، في سنة 1286، المجازُ عن الإمام الرباني قاضي القضاة محمد بن علي الشوكاني اليماني - رضي الله عنه - مواجهةً ومشافهةً في بلده صنعاء اليمن، والشيخُ الصالحُ محمد يعقوب الدهلويِّ، أخو الشيخ محمد إسحاق، المهاجران إلى مكة المكرمة، المتوفَّيان بها، سبطا الشيخ المفسر العلامة، المحدث عبد العزيز الدهلوي بن الشيخ أحمد وليِّ الله. وكنتُ كثير الاشتغال بمطالعة الكتب وكتابة الصحف من أيام كوني في المكتب، فطالعتُ زبرًا عديدة، وبيناتٍ كثيرة، وكتبًا غزيرة، وأسفارًا غريبة وشهيرة من كل فن ملائم، وعلم أجنبي، وحصلت منها على فوائد شتى، لا تكاد تنحصر في: إلى، وحتى، وألفت في زمان الطلب رسائلَ ومسائل، وحررتُ تراجم كثيرة لكتب الدين باللسانَين. وأولُ ما صنفت: "ترجمة المراح في التصريف"، وذلك في سنة 1270، ثم تتابعت التواليف، وبلغت إلى حال تحرير هذا الكتاب تسعةً وخمسين مؤلفًا (¬1) ¬

_ (¬1) حسب ما ذكر، أن جميع مؤلفاته عددها 222 منها العربية 54، والفارسية 42، وأردوية 107، ولم يحصر على العدد الصحيح.

ما بين مطوَّل منها ومختصر، عربيًا وفارسيًا، وطُبعت واشتُهرت. وحُبِّبَ إليَّ علمُ الأدب والعربية والشعر، والتاريخ والتصوف، ونفرَ الطبعُ الكليلُ والخاطر العليل عن معقولات الفن نفرةً زائدة، مع كوني محصلًا لها بتمامها، وعَوَّض الله سبحانه عنها علمَ الكتاب والسنة، وما إليهما، فاشتغلت به شغلة لم تترك لغيرها موقعًا، ولا لعلم من علوم الدنيا وفنون أهلها مسرحًا ومنزعًا، حتى أخرجت مؤلفات زمان الطلب الأول عن عداد التآليف، وجعلت مكانها مصنفات الحديث والقرآن، وهي ممتعة نافعة شائعة مقبولة عند أولي الطبع اللطيف، ولله الحمد على ذلك. وقد ذكرت ما قرأت من الكتب، وما كتبت، وما صنفت، وما ألفت من المصنفات المختصرة والمطولة في تراجمي في غير هذا الكتاب جملةً وتفصيلًا، وألحقتُ جدول ذلك في خاتمة كتاب "حضرات التجلي من نفحات التحلي والتخلي" تكميلًا. وقد سارت بها الركبان في حياتي إلى أقصى المدائن والبلاد، وأكبَّ عليها جماعة عظيمة من علماء العصر والزمان، وعصابة كبيرة من أمثال الفضلاء والأقران، أصحاب الحديث والقرآن، والأدب والبيان، وقَرَّظَ عليها جمعٌ جَمٌّ من فضلاء العصر، وطائفة عظيمة من نبلاء الدهر، إلا من حسد، وطُبع على اللَّدَد. وانتشرت تلك الدفاتر بعد الطبع الجميل، والتشكيل الجليل، في بلاد الهند وبهوبال المحمية، ومصر القاهرة، وقسطنطينية، إلى الحرمين الشريفين - زاد الله شرفهما -، وإلى البلاد الحجازية كلِّها من أبي عريش، وصنعاء اليمن، وزَبيد، وبيت الفقيه، وحُديدة، وعدن، ومراوعة، وبغداد، ومصر، والشام، والإسكندرية، وتونس، وبيروت، وإسلامبول، والقدس، والجزائر، وبلغار، وقازان، وجميع بلاد الترك، والفرس؛ كأصفهان، وطهران، وإيران، وغير ذلك، وأخذ [ها] الملوك والأمراء والرؤساء والوزراء، والعلماء الموجودون الآن في حدود تلك البلدان على أيدي العظمة والإجلال والقبول والإقبال، وعرفها كل إنسان، ووردت بذلك كتب ومَهارق جَمَّةٌ من فضلاء الأعصار والأمصار، حتى اجتمع شيء واسع من ذلك عندي، وجمعَ منها العلامةُ سليم فارس أفندي بنِ أحمد فارس - صاحب "الجاسوس" مدير "الجوائب" كتابًا لطيفًا

يختص بالتقاريظ، وسماه: "قرة الأعيان ومسرة الأذهان"، ونشرها في البلاد، ووزعها على العلماء الأمجاد، وترجم له بعض العلماء المرحومين، وسماه: "قطر الصَّيِّب في ترجمة الإمام أبي الطَّيِّب". وورد في تاريخنا هذا - وهو غرة ربيع الآخر من شهور سنة 1298 - كتابٌ من مدير الجوائب، يطلب منا تلك الخطوط للطبع على هيئة الكتاب، وكل ذلك نعمة جليلة من الله الكريم الوهاب، وسعادة فخيمة قلَّ مَنْ يظفر بها من أهل العلم وأصحاب الألباب، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]. وإن كنت أنا عندَ نفسي أحقرَ من كل حقير، وأحوجَ إلى عف ربه وصونِه وعونِه من كل فقير، ولستُ بأهل لبعض ذلك، فضلاً عن كله، ولكن النعم الربانية تُلحق السافل بالعالي، وتُلصق الخالي بالمالي، وتحيي العظمَ البالي، وفضلُه سبحانه واسع، وعطاؤه جَمٌّ لا يبالي. وإني - مع انجماعي عن الناس، وعدم المبالاة بسفهائهم والأكياس - تعتريني عداوة الحساد، وتعترضني بغضاؤهم من غير وجه يُراد، وأنا في غفلة من ذلك، وذهولٍ وجهلٍ عَمَّا هنالك، ولكن الله سبحانه يحفظني في كل حين وأوان من سوء إرادات هؤلاء، ويصونني بمحض رحمته وعفوه عن جملة الابتلاء والمحن، إذا لم تؤثر، فهي من الله إحسان، وأيُّ إحسان، لا أحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيت على نفسك، يا رحيم يا رحمن، اللهم إن أعدائي بلغوا من عداوتهم لي غاية، وإن حُسَّادي بالغوا في أذاي إلى نهاية، وإني لا أقدر على دفعهم عني، ولا أهتدي إلى الصون منهم سبيلًا، وأنت تعلم عجزي وضعفي، فكنتَ أنتَ الرقيبَ عليهم، فعوضني رغمًا لأنوفهم جميلًا، واحفظني عن شرورهم بما تحفظ به عبادك الصالحين، واجعل لي لسانَ صدقٍ في الآخرين، ولا تَكِلْني إلى نفسي طرفةَ عين، وأصلحْ لي شأني كُلَّه يا أرحم الراحمين، فإني برحمتك أستغيث - يا حيُّ يا قيوم، وليس لي ملاذ ولا منجًى ولا مفزع ولا مهرب ولا مأوى غيرك عند أحد كان في هند أو في روم. هذا، وإني منذ استسعدت بمدارك علوم الحديث والقرآن، واختصصت

بخدمتهما الشريفة من بين الأقران والأعيان، واجتهدت رأيي في العمل بالدليل، وتركت التقليد في جانب، لما أنه مجرد قال وقيل، وأخرجت كتبَ الرأي والفروع من بيتي، وشحنت عوضها داري بالكتب من دواوين السنة وشروحها وحواشيها، وكتب الأصول، والتفسير، والأدب، والسلوك، والتاريخ، وما إليها؛ مما يعينني على تلك المقاصد الحسنة. وقد صرتُ - بحمد الله تعالى - بقلبي منجمعًا عن بني الدنيا وأهلها وفقهائها، وأحببتُ بصميم جَناني وقوةِ إيماني العزلةَ والاستغناء عن أمرائها ورؤسائها، ولم أقف قَطُّ على باب أمير ولا فقير لغرض من الأغراض، ولا لعَرَض من الأعراض، بل اشتغلتُ في جميع أوقاتي - مذ شعرت - بالعلم تصنيفًا وتأليفًا، وبكتبه تصحيحًا وتنقيحًا، مؤثِرًا للأدلة على الآراء، ومختارًا للحديث على الأهواء. يا حَبَّذا عِلْمُ الحديثِ، فإنَّه ... علمٌ يؤيِّدُ مُحْكَمَ القرآنِ علمٌ به نطقَ النبيُّ وخَصَّهُ ... بالفضلِ "أحمدُ" ناسخُ الأديانِ يَشْفي القلوبَ بنوره وبيانِه ... وبدرسِه ويزيدُ في الإيمان لا تَعْدِلَنَّ إلى سِواهُ فإنَّه ... كهفُ الهُدى وسفينةُ الطُّوفانِ وإذا تقابَلَتِ الخصومُ فإنَّه ... سيفٌ يفلِّقُ هامَةَ الطُّغيانِ وقد مَنَّ الله سبحانه - وله عليَّ المنةُ - بتيسير الكتب الحديثية السلفية، مما لم يكن بحساب، حتى وصل إلي في شهري هذا - صفر من شهور سنة 1298 - من مكة المكرمة - زاد شرفها - كتابُ "بلوغ المرام من أدلة الأحكام"، عليه قراءة جمع جم من حفاظ الإسلام والعلماء الأعلام، منهم: الشيخ العلامة يوسفُ بنُ شاهين قطلوبغا، سبطُ الحافظ ابن حجر، والشيخُ الحافظ عبدُ الباسط كاتبُه، وغيرهما، وقد كتب على هامش الجزء الثاني منه ما لفظه: نقلته من خط الحافظ ابن حجر - رضي الله عنه -، وهؤلاء الجماعة قد قرؤوه على شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، تلميذِ المؤلف - رضي الله عنهم أجمعين -. وكذلك وصل معه كتاب "تعجيل المنفعة برجال الأربعة"؛ يعني: "الموطأ"،

و"مسند الإمام الشافعي"، و"مسند الإمام أحمد"، و"المسند" الذي خرجه الحسين بن محمد بن خسرو من حديث الإمام أبي حنيفة - رحمهم الله تعالى -. وقد قوبل على نسخة كانت بقلم الحافظ السخاوي تلميذِ المؤلف، والسخاويُّ قرأه على شيخه الحافظِ ابن حجر، فلله الحمد على ذلك. وكلَّ حين يُمدني ربي - سبحانه وتعالى -، بأمثال هذا الإمداد، ويسوق إليّ بكرمه ومنّه ما لا يأتي عليه الحصر والتَّعداد من صنوف النعم، والتفضل والجود؛ رحمة منه واسعة على عبده وابنِ أمتِه مرغمًا للحسود، ويحفظني من الأعداء ومكارِهِ الزمان، ويشملُني بأنواع من الصون والعون والإحسان؛ {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77]، وهو حسبي وكفى من شرورهم في الدنيا والدين. هذا، ولما امتطيت مطية الهمم، ووجَّهْتُ وجهَ عزمي إلى قبلة الأمم، ورعيتُ بالأحداق حدائقَ تلك المسارح، وقد سالت بأعناقِ المطايا الأباطح، لم أزلْ أدأبُ في التسيار، إلى أن نفضت عن مناكب المحن غبارَ الأسفار، فنزلتُ بجوار بيت الله الحرام، وتطيبتُ بمِسْكِ ترابِ الحطيمِ والمَقام، وأنا "أبو الطيب" المستهام، وقلت: بمكةَ لي غَناءٌ ليس يَفْنَى ... جوارُ الله والبيتُ المُعَظَّم ففيها كيمياءُ سعادةٍ، قد ... ظفرتُ بها من الحَجَرِ المُكَرَّم فلما أفضت من تلك المناسِكِ بتلك البقاع، طُفْتُ بها بل بالمسرة طوافَ الوداع، وخرجتُ من أحبِّ البلاد، والله لا يدعو إلى داره إلا مَنِ استخلصَه من العباد. وما دَرَى البيتُ أَنِّي بعدَ فُرْقَتِه ... ما سرتُ من حَرَمٍ، إلا إلى حَرَمِ قاصدًا مسجدَ طيبةَ المطيبة، واردًا مواردَ آمالي المستعذبة، شعر: وقد قيلَ في زُرْقِ العيونِ شآمَةً ... وعنديَ أَنَّ اليُمْنَ في عينِها الزَّرقا إلى أن لمعت أنوارُ الهدى من سماء العلا وقباب الحِمى.

لِمَهْبِطِ الوَحْي حَقًّا تُرْحَلُ النُّجُبُ ... وعندَ هذا المُرَجَّى ينتهي الطَّلَبُ فنزلتُ أعتنق الأَراك مسلِّمًا، وكدتُ أَلثم أخفافَ الرواحل، إذا وصلتني إلى أعذب المناهل. فإذا المَطِيُّ بِنا بَلَغْنَ مُحَمَّدًا ... فَظُهورُهُنَّ على الرجالِ حَرامُ قَرَّبْنَنا من خيرِ مَنْ وَطِىءَ الثَّرَى ... فَلَها علينا حُرْمَةٌ وذِمامُ فَحَلَلْتُ في أرفَعْ مَقامٍ تُفا ... خِرُ فيها الرؤوسَ الأقدامُ فنزَّهْتُ عيونَ أملي في روضةٍ ذاتِ أنوار، وعلمت - وهي من رياض الجنة - أني لا أدخل بعدَها النار، وأنا الآن منتظر لألطاف ربي، وهو في كل الأمور حسبي، أن يعدني لجواره، واجتلاء نور حبيبه ومختاره، به إليه متوسلًا، وفي نيل رجائي متوكلاً. ثم إني لم أمدح في عمري هذا أحدًا من الأمراء طمعًا في صلته وملازمته كما هي عادة الشعراء، وإنما نظمت الشعر العربيَّ والفارسي، إذا طاب الوقت، وطاب الهواء. وغالب نظيمي في التحريض على اتباع الكتاب والسنة؛ لأنهما يكشفان عن كل مدلهمة ودُجُنَّة، وفي ذم التقليد المشؤوم، والابتداع المذموم. حَسْبي بِسُنَّةِ أحمدٍ مُتَمَسَّكًا ... عن كلِّ قولٍ في الجدالِ مُلَفَّقٍ أَوْرِدْ أدلتها على أهلِ الهَوَى ... إن شئتَ أن تلهو بلحيةِ أَحْمَقٍ واتْرُكْ مقالًا حادِثًا مُتَجَدِّدًا ... من مُحْدِثٍ مُتَشَدِّقٍ مُتَفَيْهِقِ ودعِ اللطيفَ وما بهِ قَدْ لَفَّقُوا ... فهو الكثيفُ لدى الخبيرِ المُتَّقي ودعِ الملقبَ حكمةً فحكيمُها ... أبدًا إلى طُرُقِ الضَّلالَةِ يَرْتقي قدْ جاءَ عن خيرِ البريةِ "أحمدٍ" ... أَنَّ البلاءَ مُوَكَّلٌ بالمَنْطِقِ واللهِ! ما كانَ الجدالُ بعصرِهِ ... في رُبى "بدرٍ" ولا في "خَنْدَقِ" وأنا راغبٌ في مجالسة أهل العلم والأدب، ومذاكرتِهم وملاقاتِهم، ومَنْ بآدابهم تأدَّبَ وتدرَّب. وابتُليت بقَدَر الله وقضائه، بفصل الخصومات، وسماع

المنازعات، وإصدار الأحكامات، وإيراد المثالات، من غير اقتراح مني ولا اختيار، ولا بد واقع ما قضى الرحمن من الأقضية والأقدار، ومع ذلك لم أدعْ جهدي الاشتغالَ بالعلم، وإن كان اشتغالي الآن بالنسبة إلى ما كان كلا شيء. وكان ابتلائي هذا بذاك، وأنا بين الثلاثين والأربعين من العمر المستعار، ووجدت علماء عصرنا هذا من أهل الهند، اتخذوا علومَ الفلسفة وفنونَ يونان، وهم معرِضون عن الاشتغال بالحديث والقرآن. ورأيت من بينهم أقربَ إلى الدين واتباع سنة سيد المرسلين، قومًا ينتسبون إلى إرادة السيد أحمد البريلوي من مريدي الشيخ العلامة عبد العزيز المحدِّث الدهلوي، فإنهم على هدى مستقيم، وطريق قويم، وهَدى الله بهم طوائف كثيرة، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، ولكن الآن اكثرُهم درجوا في خبر كان، وذهب ما كان بهم من العمل والعلم والكمال، وعاد إلى بقيتهم النقصان، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ، وهو المستعان في كل آن. وكذلك آلَ حالُ الزمان في مدائنَ أخرى من البلاد الإسلامية، التي كانت ديار العلم وبقاعَها؛ فإن قُصارى هممِ علمائها الجمودُ على التقليد، والاشتغال بعلوم الأوائل من أهل يونان، وفلسفتهم المبنية على خطوات الشيطان، وعدم الالتفات إلى علوم الحديث والقرآن، مع تعصب كثير لأحبارهم الرهبان، ورَدًّ وتعقُّبِ وجَرْحٍ وقَدْحٍ على الأكابر والأعيان، ومكابرةٍ وتعسُّفٍ وحسدٍ وبغضٍ وحقدٍ مع أهل الحق والإيقان، وأصحابِ الإيمان والإحسان، وهذا لا شك من أشراط الساعة الكبرى. وكذلك صار حال أهل الدول الإسلامية، وأولي الأمر وولاة العصر في هذا الزمان؛ فإنهم كلَّهم - إلا ما شاء الله تعالى - سفهاء، وحُمقاء العقول لا عقلَ لهم، ولا دينَ ولا فكرةَ في أمر دنياهم، ولا عبرةَ من حال الآخرة، لا يفقهون حديثًا، ولا يفهمون شيئًا، ولا يهتدون سبيلاً، حتى صاروا لُكَعَ بنَ لُكَعَ، وعادُوا لا يعرفون الوِتْرَ من الشفع، والجهلُ أحبُّ إليهم من العلم بكثير، وهم عن أهل العلم على مد [ى] بعيد ومسير كبير. ومع ذلك يرون أنفسَهم أعقلَ أهلِ زمانهم،

وينظرون إلى كل أحدٍ بعين الازدراء، وفي ذلك عبرة للمعتبرين، وعظة بليغة لأهل الدين، وإنما العاقبة للمتقين. والذي غمني أني ظهرتُ في زمان خلا عن وجود العلم والعلماء، وبرزت في أناس هم الأوغاد والسفهاء، وولدت في عصر طغى فيه أهل البدع على أهل الاتباع، وخفي فيه أصحاب الفضائل والكمال، ومن كان منهم نادرًا فله الصداع، وجئت في دهر غلبَ على أهله حبُّ المال على الكمال، وفاق شرُّه على خيره بلا احتيال، وطُمِس فيه أعلامُ الدول الإسلامية، وظهر فيه راياتُ الفرق الكفرية، وكلَّ حين يزدادُ ذلك قوةً ورفعة، ويندرس معه الإسلام وأهله. والله أعلم ماذا يكون فيما يُستقبل من الزمان، وإلى ما يرجع مآلُ نوع الإنسان، فقد بَعُد عهدُ النبوة، وظهرت الفتن، وعَمَّت المحن، وذهبت الفتوة والمنن، وأطلق أفراخُ الفلسفة وأوساخُ الدهرية ألسنتَهم طعنًا في الدين، وهضمًا للمسلمين، وفشا الكذب، وأُشرب في قلوب الخلق حُبُّ العجل، ترى الناسَ زِيُّهم زِيُّ الأحبّاء، وهم ببواطنهم أعدى الَأعداء، ميلُهم في تكثير المآكل والمشارب، والملابس والمراكب والمساكن، والمتنزهات وتحسينها فوقَ ميلهم إلى تحصيل العلم وكسبِ الفضائل والكمالات، إلى أن رفضوا ما كان عليه سلفُهم، وأئمةُ خلفهم من العضِّ بالنواجذ على الدين، والاعتصامِ بمشاعر الإسلام، وشعائرِ الإيمان، وتكميلِ منازل الإحسان، وهدايةِ الجيران، وإصلاحِ ذاتِ بَيْنِ الإخوان، بإيثار أوامرِ المِلَّة ونواهيها، وإحكام أحكامِ النِّحْلة وغاياتها ومباديها، والاهتمام في محوِ آثار الظلام، المؤديةِ إلى ذِلَّة وقِلَّة وعِلَّة. وقد استعبد ولاةُ الزمان هؤلاء كلِّهم، حتى صاروا كالأرقاء لهم والمملوكين، لا يقدرون على شيء من مخالفتهم وخلافِهم، في أيِّ أمرٍ من أمور الدنيا والدين، وقد أظلَّ زمانٌ لم يبق فيه لمؤمن بالغيب وباليوم الآخر، مقر يقرُّ فيه، ومفرٌّ يفر إليه، ومأمنٌ يأمَنُ فيه، ومعوَّلٌ يعوِّلُ عليه. حتى مكةُ والمدينة، فإن فيهما من المحن لمن يعمل بالأدلة، ولا يقول بتقليد الضالة المضلَّة ما لا يقدر قدره، بل هي فيهما زيادة على غيرهما من البلاد

الهندية؛ فإنها - مع كونها بأيدي البريطانية - آمنة مطمئنة لقوم مسلمين. وسمعت أن الحال هكذا في سائر بلاد المغرب من ممالك الشام والروم وسائر أقطار الأريسيين؛ فإن المُتَّبِعَ للسنن، والعاملَ بالدليل، والمتمسكَ بالحديث، والمعتصمَ بالكتاب، والتاركَ للتقليد، لا يستطيع أن يُقيم أو يقومَ بين أظهرهم، ويفوهَ وينطقَ ويُفْصِحَ بما يجب عليه من أمرهم ونهيهم. ولا بد للهجرة من دار إلى دار من الأمان، والأمنُ قد ارتفع في هذا الزمان من كل مكان، وقد بلغني عن بعض الرواة الثقات: أن بعض مَنْ بمكة من الفقهاء الهندية يفتي بقتل العَمَلَة بالأدلةِ والفَعَلَة للسنة، ويقول: يُقتل هؤلاء سياسة، وهذا من الجهل والظلم والضلالة بمكان لا يخفى، ولا ينطق به لسانُ أحد من له أدني حظ من علم، فضلًا عمن يعرف الشرع ويتلَبَّسُ به، وإنما يقول به وبمثله ونحوِه مَنْ أعمى اللهُ بصرَ بصيرته، وذهبَ بنور الإسلام من قلبه وقالبه بِرُمَّته. ويا لله العجب! يُقتل الرجلُ، يقولُ: ربي الله، ونبيي محمد، وديني الإسلام، ويُهدر دمُه المعصوم، ولا يُسفك دمُ من يقلد الآراء، ويتبع الأهواء، ويُحْدِث المُحْدَثات، ويجتهد في البدعات، ويجدِّد المهلكات، ويحبُّ الدنيا، يؤثرها على الآخرة، ويدعُ الدين، ويَذَرُ سنة سيدِ المرسلين، ويحطُّ على أهل الكتاب والسنة، ويحمي حِمَى الضلالة والبدعة، ويحرِّضُ الحكامَ على أذى المُتَّبِعين، ويكذب عندهم بما يسوّل له الشياطين، فإلى الله المشتكى .... ثم إلى الله المشتكى .... وعلى الجملة: فزمانُنا الحاضر زمانُ شَرًّ وشرُّ زمان، ومكانُنا الموجود أضرُّ مكان وأسوأُ ديار الإمكان، فأين المفر، وقد علم الله - سبحانه وتعالى - ما صارت إليه الحال، وآل إليه المآل؟! شعر: والعَفْوُ يُرْجَى من بَني آدم ... فكيفَ لا يُرْجَى مِنَ الرَّبِّ فإنَّه أَرْأَفُ بِي منهمُ ... حَسْبي بِه حَسْبِي به حَسْبي وإني الآن أسألُ الله العظيم الذي لا إله إلا هو ربَّ العرش العظيم، أَنْ يُحسن ختامي، ويُنيلني من خيرَي الدنيا والآخرة مَرامي، ويسددني في الأقوال والأفعال والأحوال كلها، ويحفظَني عن الشرور وأهلها، دِقِّها وجِلِّها، وينزع حُبَّ الدنيا

وأبنائها من قلبي وفؤادي وجَناني، ويُخرجه من صميم خَلَدي، وقَعْرِ صدري، وعُقْدَةِ لساني حتى أنظرَ إلى الحقيقة، وأفوزَ بمعارف العرفاء بنيل دقائقِ الطريقة. أنا راضٍ بما قضى ... واقف تحت حكمه سائل أن أفوز بالـ ... خيرِ من حُسْنِ خَتْمِه {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] وأسألك اللهم العفو والعافية في الدنيا والدين. وأقول: اللهمَّ أحسنْ عاقبَتنا في الأمور كُلِّها، وأجِرْنا من خزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة، {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلامِ على عبده ورسوله محمد خاتمِ النبيين، وشفيعِ المذنبين، وآلهِ وصحبِه الأكرمين، ما ذَرَّ شارِق، ولمعَ بارِق. ***

§1/1