البيوع المحرمة والمنهي عنها

عبد الناصر بن خضر ميلاد

مقدمة

مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله العلي الكبير، العليم القدير، الحكيم الخبير، الذي جل عن الشبه والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وصلى الله وسلم على رسوله البشير النذير، السراج الهادي المنير، المخصوص بالمقام المحمود، والحوض المورود، وعلى أصحابه الأطهار الأخيار، وأهل بيته الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وخصهم بالتطهير، وعلى التابعين لهم بإحسان، والمقتدين بهم في كل زمان إلى يوم الدين، وبعد: فإن الشريعة الإسلامية بقواعدها الكلية، وموازينها المنضبطة، وأسسها الثابتة، وعطائها المستمر، صالحة لكل زمان ومكان، فكمال الشريعة وشمولها من أبرز عوامل ثباتها، فما من نازلة إلاّ ولله سبحانه فيها حكم، ولقد بذل العلماء المسلمون قديماً وحديثاً جهوداً كبيرة من أجل تقرير قواعدها الشرعية، وإيضاح أحكامها، وتجلية مميزاتها، وترسيخ مفاهيمها، وتجسيدها واقعاً يحتذى به في شتى ضروب الحياة. وبعد أن وفقني الله في الحصول على شهادة الماجستير، رأيت أن أواصل دراستي العليا، لكي أحصل على شهادة الدكتوراه، وقد رأيت أن يكون بحثي في مجال المعاملات الشرعية. سبب اختياري للموضوع: إن اختيار الموضوع بالنسبة لطالب العلم ليس بالأمر السهل الهين، بل يحتاج إلى جهد كبير، لأن اختيار موضوع يحتاجه الناس لا يتحقق للباحث بسهولة ويسر دون توفيق من المولى جلّ وعلاّ، ثم بعد الاستخارة والدراسة والمشورة -والحمد لله- فقد يسر الله لي اختيار موضوع "بيع الأعيان المحرمة في الفقه الإسلامي" وهو موضوع له أهمية عظمى في حياة الناس، لتعلقه بالتعامل وتداول المنافع فيما

بينهم، ويحتاج لوضع الضوابط اللازمة، حتى تظهر أحكامه جلية واضحة، وتحد حدوده حتى لا يقعوا في المحظور، ولا يخفى عليهم غير المحظور، لتتحقق مصالحهم، ويرفع الحرج عنهم، فهداني الله تعالى لأن أخص مسألة "بيع الأعيان المحرمة" بالبحث كي أساهم مع من سبقني في الكتابة في مسائل البيع، لكي يستبين حكم الشرع في بيع الأعيان المحرمة، لأن هذه الأحكام معروضة في كتب الفقه، في أبواب مختلفة، تحتاج إلى جمع ولّم لشملها في موضع واحد، لتسهل معرفتها، خاصة وأن أغلب الناس يجهلون هذه الأحكام، ويصعب عليهم التعامل مع كتب الفقه لاستخلاص أحكامها، وجمع مسائلها، والله أسأل أن أوفيه حقه في البحث وعرض جميع جوانبه، وبذل الجهد والطاقة، بعون الله وتوفيقه. منهجي في البحث: بعد أن وفقني الله سبحانه لاختيار موضوع بيع الأعيان المحرمة في الفقه الإسلامي، كان لا بد من تحديد المسلك العلمي اللازم لإعداد هذا البحث في إطار من الوضوح والسهولة واليسر، بغية تحقيق الإفادة الكاملة على النحو المحقق للقصد من البحث، فاقتصرت على المذاهب الفقهية الأربعة، والسبب في هذا أنها معتمدة ومقررة ومقدرة لدى جميع المسلمين، مع تفردها بالاعتدال والوسطية، وفي سبيل هذا راعيت الترتيب الزمني لهذه المذاهب، بدءاً من المذهب الحنفي ثم المالكي ثم الشافعي ثم الحنبلي، بمراعاة ما يرد داخل كل مذهب من أقوال، وذلك في كل مسألة على حدة مهما تناهت في صغرها، مراعياً في كل مذهب النقل من أمهات الكتب المعتمدة فيه، وذلك بعرض الأقوال داخل المذهب الواحد، موثقاً ذلك بنقل أقوال الأئمة، مرجحاً لما ترجح منها لدي للاعتماد عليه عند الموازنة مع المذاهب الأخرى، حتى يتسنى لي ترجيح الرأي الذي أرى صوابه وصحته وقوة دليله، أو أن الأخذ به والعمل بمقتضاه يحقق مصلحة حقيقية عامة. وكل هذا بمراعاة الدقة الكاملة، تحقيقاً لمبدأ الأمانة العلمية كأحد أهم أسس المنهج العلمي السليم، محاولاً تدعيم كل قول ورد في مذهب من المذاهب الأربعة بما استدل له به، مع عقد المناقشة اللازمة للأدلة عندما يستدعي الترجيح ذلك، مورداً كل المناقشات والرد

عليها، غير متعصب لرأي مذهب معين، أو فقيه بذاته، واضعاً نصب عيني قوة الدليل، وصحة الاستدلال به، وخلوه من الاعتراض والمناقشة، وتحقيقه للمصلحة أو درءه للمفسدة. ومن الجدير الإشارة إليه أنني سوف أحرص على مراعاة عرض الخلاصة المعقولة لكل مذهب، أظهر من خلالها ما يستفاد من نصوصه، وهذا التلخيص للمذهب سيسعفني عند عقد الموازنة بين أقوال أصحاب المذاهب الأربعة لإجراء المقابلة والمقارنة بينها، ولتحقيق دمج ما يمكن دمجه منها، لإبراز خلاصة المذاهب مجتمعة في المسألة، لأن هذا سيكون معيناً عند عرض الأدلة ومناقشتها، كي انتهي إلى ترجيح ما هو راجح في كل مسألة على حدة، بناء على قوة ما استدل به، أو على أساس مناقشته لما استدل به خصمه، مع مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية من تحقيق مصالح العباد، تفضلا من الله سبحانه، ورفعاً للحرج، ودفعاً للضيق عنهم. وعزوت الآيات القرآنية، وخرجت الأحاديث النبوية، وترجمت للأعلام الوارد ذكرها في ثنايا البحث، عند أول ذكر لهذه الأمور، واعتمدت فهرساً خاصاً بكل منها بعد نهاية البحث، ثم وثقت لأهم المراجع التي استعنت بها، سواء كان ذلك من كتب الفقه المعتمدة، أم الأصول، أم كتب السنة والسيرة والتاريخ، أم كانت من كتب اللغة العربية، أو مقررات المؤتمرات الإسلامية في العالم الإسلامي، واللجان المنعقدة بشأن ما يخصنا في البحث، والفتاوى الصادرة في مسائل البحث على مستوى العالم الإسلامي وحذفتها عند الطباعة حتى لا يكبر حجم الكتاب. ولقد واجهتني صعوبات جمة في سبيل إعداد هذا البحث بسبب أن موضوعه يشتمل على أمرين مهمين: أحدهما يعد من التراث نصاً. والآخر من المسائل المستحدثة، ومن ذلك على سبيل المثال بيع أجزاء الإنسان، وبيع الأشرطة المسجل عليها بعض الأفلام، والمسلسلات، والصور الفوتوغرافية ونحوها. فقد كنت أعتقد سهولة الموضوع، غير أنني بعد الولوج فيه وجدته على قدر

كبير من الصعوبة من حيث جمع المادة العلمية، والأدلة، خاصة عند الترجيح لما أراه راجحاً. فقد استعصت عليّ بعض المسائل، خاصة ما تباينت فيها الآراء، وكثر فيها الجدل، لأن كتب المذاهب فيها كثير من الأخذ والرد والتأييد والنقد والتنازع فيما بينها عند اختلاف وجهات النظر، كما أن بعضها لم يتعرض لذكر الأدلة، أو التعليل لما جاء فيه من أحكام مختلفة، خلال عرضها للأقوال في المسألة داخل المذهب في أغلب الأحيان. فاستعنت بالله سبحانه فكان توفيقه بمساندة ومساعدة فضيلة الدكتور عبد الرحمن الصديق دفع الله الأستاذ المشارك المشرف على الرسالة في إزالة تلك الصعاب حتى بات الأمر -بحمد الله- في متناول يدي. خطة البحث: وقد رأيت أن تكون خطة البحث على النحو التالي: المقدمة: وتشتمل على سبب اختيار الموضوع، ومنهجي في البحث، وخطة البحث. التمهيد: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: التعريف بالبيع. وفيه أربعة مطالب. المبحث الثاني: مشروعية البيع وحكمه. المبحث الثالث: المقصود بالأعيان المحرمة. وفيه أربعة مطالب. الباب الأول: في النجاسات: وفيه تمهيد وستة فصول: التمهيد في بيان اختلاف الفقهاء في حرمة بيع النجاسات وأسبابه

الفصل الأول: بيع الميتة: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: حكم بيع الميتة. المبحث الثاني: حكم بيع أجزاء الميتة. وفيه ثلاثة مطالب. المبحث الثالث: خلاصة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الميتة. الفصل الثاني: بيع الدم وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف الدم المسفوح. المبحث الثاني: حكم بيع الدم المسفوح. المبحث الثالث: خلاصة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الدم. الفصل الثالث: بيع فضلات الإنسان والحيوان: وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم المني وحكم بيعه: وفيه مطلبان: المبحث الثاني: حكم أرواث الحيوانات وحكم بيعها: وفيه ثلاثة مطالب. الفصل الرابع: بيع الكلب والخنْزير: وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم الكلب، وحكم بيعه: وفيه مطلبان. المبحث الثاني: حكم الخنْزير، وحكم بيعه، وحكم بيع أجزائه. وفيه ثلاثة مطالب. الفصل الخامس: بيع الخمر: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: حكمة تحريم الخمر. المبحث الثاني: حكم الخمر.

المبحث الثالث: حكم التداوي بالخمر، وحكم بيعها: وفيه مطلبان. الفصل السادس: حكم بيع المتنجسات والانتفاع بها. الباب الثاني: ما نهى الشارع عن الانتفاع به، ويشتمل على ستة فصول: الفصل الأول: بيع أواني الذهب والفضة: وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم أواني الذهب والفضة. وفيه مطلبان. المبحث الثاني: حكم المضبب بالذهب والفضة وفيه تسعة مطالب. الفصل الثاني: بيع الأصنام والصور: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: بيان حكم الشرع للصور بأنواعها: وفيه مطلبان. المبحث الثاني: حكم بيع الصور بأنواعها. المبحث الثالث: في المستثنيات. الفصل الثالث: بيع آلات اللهو: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: آلات اللهو: وفيه مطلبان. المبحث الثاني: النرد: وفيه مطلبان المبحث الثالث: الشطرنج: وفيه مطلبان. الفصل الرابع: بيع المخدرات والمفترات: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: التعريف بالمخدرات والمفترات. المبحث الثاني: حكم بيع المخدرات. المبحث الثالث: حكم بيع المفترات.

الفصل الخامس: بيع الإنسان الحر وأجزائه وفيه مبحثان: المبحث الأول: حكم بيع الإنسان الحر. المبحث الثاني: حكم نقل وبيع بعض أجزاء الإنسان الحر: وفيه مطلبان. الفصل السادس: بيع الأشياء المحرمة لقدسيتها: وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: بيع المصحف. المبحث الثاني: بيع المصحف للكافر. المبحث الثالث: بيع أرض مكة المكرمة. ثم أنهيت البحث بعمل خاتمة ثم خلاصة وافية لأهم ما ورد فيه، ثم عرضت لتنظيم الفهارس الفنية، مع بيان بأهم المراجع والفهارس العامة للرسالة. وأسأل الله سبحانه أن ينال عملي هذا القبول، وأن يكون خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به يوم أن نلقاه، وعلى الله قصد السبيل، وصلى الله وسلم وأنعم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين. وعرفاناً بالفضل واعترافا بالجميل وعملا بقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} 1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يشكر النّاس لم يشكر الله" 2. أتقدم بالشكر الجزيل إلى جمهورية السودان التي فتحت أبوابها لطلبة العلم، كما وأشكر جامعة الخرطوم ممثلة بكلية القانون ممثلة بقسم الشريعة الإسلامية الذي أتاح لي هذه الفرصة الثمينة لمواصلة الدراسة في هذا العلم الشريف لنشر تعاليم الإسلام الحنيف، فأسأل الله تعالى أن يوفق القائمين عليها وأن يسدد خطاهم ويجزيهم عنا خير الجزاء. كما أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير إلى من وجدت منه شيم العلماء العاملين، ويقين المخلصين وأخلاق العباد الصالحين، أحسبه كذلك ولا أزكي على الله

_ 1 سورة إبراهيم: آية 7. 2 أخرجه الترمذي في البر والصلة 4/339، وقال حسن صحيح حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

أحد. فضيلة الدكتور/ عبد الرحمن الصديق دفع الله أستاذ الشريعة الإسلامية المشارك بكلية القانون، الذي أعتز بالتتلمذ على يديه، حيث عاملني معاملة الوالد لولده والأخ لأخيه، فما بخل بنصح وما ضن عليّ بإرشاد، فكان واسع الصدر بشوش الوجه لين الجانب كثير الصبر، فما مل من اتصالي ولقائي، ولا قصر في جواب عن سؤالي، حتى خرج البحث على هذه الصورة، فقد وجدته عالماً عاملاً مدققاً محققا صاحب إشارات دقيقة وعبارات رقيقة، فكانت توجيهاته نافعة، وفرت علىّ جهداً ووقتاً كبيراً، فنصحني بألطف وأدق إشارة، فمند تفضله بقبول الإشراف على هذه الرسالة -رغم شواغله الجمة- وهو يتعهدني بالرعاية والعناية والنصح السديد والإشارات القيمة، فكان نعم الأستاذ والمعلم والموجه - حفظه الله ذخرا للإسلام والمسلمين - فقد قوي عزمي على يديه حيث شد ساعدي وأقال عثراتي وذلل لي الصعاب، فالله أسأل أن يحفظه ويبارك فيه ويطيل عمره ويمده بالصحة والعافية، وأن يجعل هذا العمل في سجل حسناته، وأن يجزيه عني خير الجزاء إنه نعم المولى ونعم النصير. كما لا يفوتني أن أشكر كل من قدم لي معروفا أو أسدى إليّ نصحاً أو وقف بجانبي في إنجاح هذا العمل من الأخوة والأصدقاء والزملاء. فجزى الله الجميع خير الجزاء، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

التمهيد

التمهيد المبحث الأول: التعريف بالبيع المطلب الأول: البيع لغة البيع لغة: مقابلة شيء بشيء على وجه المعاوضة، فهو مقابلة المال بالمال، وقيل: المبادلة. والبيع مصدر باع يبيع بيعاً مبيعاً وهو شاذ وقياسه مباعاً، والابتياع الاشتراء، وهو والشراء ضدان1. فقد جاء في لسان العرب: "البيع: ضد الشراء، والبيع: الشراء أيضاً، وهو من الأضداد، وبعت الشيء شريته أبيعه بيعاً ومبيعاً وهو شاذ، وقياسه مباعاً، والابتياع الاشتراء ... وابتاع الشيء: اشتراه، وأباعه: عرضه للبيع ... والبيعان: البائع والمشتري، والبيع اسم المبيع ... والبياعات: الأشياء التي يبتاع بها في التجارة ... والبيع: الصفقة"2. ويطلق البيع على الشراء أيضاً، والعرب تقول: بعت الشيء بمعنى اشتريته، فالبيع من أسماء الأضداد التي تطلق على الشيء وضده، مثل الشراء. جاء في مختار الصحاح: "باع الشيء يبيعه بيعاً ومبيعاً شراه، وهو شاذ، وقياسه مباعاً، وباعه أيضاً اشتراه، فهو من الأضداد"3. فلفظ البيع والشراء يطلق كل منهما على ما يطلق عليه الآخر، فهما من الألفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة، فيطلق على كل من المتعاقدين أنه بائع ومشتر، يقال: بعت الشيء بمعنى بعته أي أخرجته عن ملكي وبمعنى اشتريته أي أدخلته في ملكي،

_ 1 الضدان: هما صفتان وجوديتان يتعاقبان في موضع واحد يستحيل اجتماعهما ويمكن ارتفاعهما كالسواد والبياض. راجع: التعريفات للجرجاني صفحة 18. 2 ابن منظور 1/556 - 558. 3 محمد بن أبي بكر الرازي صفحة 53.

ويقال: شريت الشيء بمعنى شريته وبعته، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} 1 أي باعوه، غير أنه إذا أطلق البائع فالمتبادر إلى الذهن باذل السلعة، وإذا أطلق المشتري فالمتبادر دافع الثمن. جاء في المصباح المنير: "ويطلق على كل واحد من المتعاقدين أنه بائع، ولكن إذا أطلق البائع فالمتبادر إلى الذهن باذل السلعة، ويطلق البيع على المبيع"2. والبيع مشتق من الباع، وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يمد باعه للأخذ والعطاء، ويحتمل أن كل واحد منهما كان يبايع صاحبه أي يصافحه عند البيع، فسمي البيع صفقة، وذلك لأن أحد المتعاقدين يصفق يده على يد صاحبه3. وعلى هذا: فالمستقر عند علماء اللغة أن البيع يطلق على المبادلة، وأن لفظ البيع والشراء يطلق كل منهما على ما يطلق عليه الآخر، فهما من الألفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة، وأن عرف الناس والفقهاء قائم على تخصيص البيع بجانب باذل السلعة، وتخصيص الشراء بجانب باذل الثمن، فالمبادلة للمال بالمال هي الأصل اللغوي للبيع.

_ 1 سورة يوسف: الآية 20. 2 أحمد محمد الفيومي 1/ 69. 3 البيوع الشائعة وأثر ضوابط المبيع على شرعيتها للدكتور/ محمد توفيق البوطي صفحة 22 – 23.

المطلب الثاني: البيع اصطلاحا

المطلب الثاني: البيع اصطلاحاً اختلفت عبارة الفقهاء بشأن تعريف البيع في الاصطلاح الفقهي، والثابت لديهم أنه مبادلة ما ل بمال على وجه مخصوص: الحنفية: يرون أن البيع مبادلة مال بمال بشرط تراضي الطرفين. فقد جاء في شرح فتح القدير: "هو مبادلة المال بالمال بالتراضي بطريق الاكتساب"1. المالكية: عرفوا البيع بأنه عقد معاوضة على غير منافع. جاء في مواهب الجليل: "دفع عوض في معوض"2. وفي الشرح الصغير: "عقد معاوضة على غير

_ 1 ابن الهمام 6/247. 2 الحطاب 4/222.

منافع"1. الشافعية: يرون أن البيع هو عقد معاوضة مالية يؤدي إلى ملك عين أو منفعة مباحة على التأبيد. جاء في حاشية قليوبي: " ... عقد معاوضة مالية يفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد لا على وجه التحريم"2. الحنابلة: عرفوا البيع بأنه مبادلة مال بمال – أو منفعة مباحة على التأبيد في مقابل عوض مالي. جاء في كتاب الوجيز نقلاً عن الإنصاف: "تمليك عين مالية أو منفعة مباحة على التأبيد بعوض مالي ... "3. الموازنة: اختلفت عبارات الفقهاء في تعريف البيع، إلاَّ أن المعنى واحد، وهو مبادلة مال بمال عن طريق التراضي، ومع ذلك نجد اختلافاً في بيع المنافع، فالحنفية لا يعتبرون المنافع مالاً وعليه لا يصح بيعها، والمالكية وإن اعتبروا المنافع أموالاً إلاَّ أنهم لم يعتبروا تبادل المنفعة بيعاً، في حين أن الشافعية والحنابلة اعتبروا أن تبادل المنفعة بالمال بيعٌ إذا كان تمليك المنفعة على وجه التأبيد. وأرى أن ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة هو الصواب، والتعريف الراجح لدي هو الذي ذكره صاحب الوجيز من أنه: "تمليك عين مالية أو منفعة مباحة على التأبيد بعوض مالي".

_ 1 أحمد محمد الدردير 2/341 – 342. 2 2/152. 3 المرداوي 4/249.

المطلب الثالث: أركان البيع

المطلب الثالث: أركان البيع اختلف الفقهاء في تحديد أركان البيع هل هي الصيغة الإيجاب والقبول أو مجموع الصيغة والعاقدين البائع والمشتري والمعقود عليه أو محل العقد المبيع والثمن. مذهب الحنفية: اعتبروا ركن البيع هو الإيجاب والقبول فقط, فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... وأما ركن البيع فهو مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب فيه، وذلك قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، أما القول فهو المسمى بالإيجاب والقبول

في عرف الفقهاء ... "1. مذهب المالكية: ذكروا أن أركان البيع عندهم خمسة هي: البائع، والمشتري، والمبيع، والثمن، والصيغة الإيجاب والقبول. جاء في الشرح الصغير: " ... وركنه أي أركانه التي تتوقف عليها حقيقته ثلاثة، هي في الحقيقة خمسة: عاقد من بائع ومشتري ومعقود عليه من ثمن ومثمن والثالث صيغة أو ما يقوم مقامها مما يدل على الرضا، وإليه أشار بقوله: وما دل على الرضا في قول، أو إشارة، أو كتابة، من الجانبين أو أحدهما، بل وإن كان ما يدل عليه معاطاة من الجانبين ولو في غير المحقرات ... "2. مذهب الشافعية: عدوا أركان البيع ستة هي: البائع، والمشتري، والمبيع، والثمن، والإيجاب، والقبول. فقد جاء في مغني المحتاج: " ... وأركانه كما في المجموع ثلاثة، وهي في الحقيقة ستة: عاقد وهو بائع ومشتري ومعقود عليه وهو ثمن ومثمن، وصيغة هي إيجاب وقبول ... "3. مذهب الحنابلة: ذكروا أن أركان البيع ثلاثة: عاقد ومعقود عليه ومعقود به، فمرادهم بالعاقد البائع والمشتري، وبالمعقود عليه المبيع والثمن، وبالمعقود به الصيغة وهي الإيجاب والقبول. فقد جاء في شرح منتهى الإرادات: " ... وأركان البيع ثلاثة: عاقد، ومعقود عليه، ومعقود به وهو الصيغة ... "4. الموازنة: بمراجعة ما ذكره الفقهاء نجد أنهم قد اختلفت عباراتهم في عد أركان البيع، إلاَّ أنهم رغم ذلك متفقون في الجملة في عد هذه الأركان، فالحنفية الذين قالوا إن ركن البيع هو الصيغة فالصيغة عندهم تقتضي إيجاباً وقبولاً، والإيجاب يقتضي بائعاً ومبيعاً، والقبول يقتضي مشترياً وثمناً، فالذي يتضح لنا أن أقوال الفقهاء تؤدي إلى أن أركان البيع هي: البائع والمشتري والمبيع والثمن والصيغة "الإيجاب والقبول".

_ 1 الكاساني 5/133. 2 أحمد محمد الدردير 2/342 – 343. 3 الشربيني 2/4. 4 البهوتي: 2/611.

المطلب الرابع: شروط المعقود عليه "المبيع"

المطلب الرابع: شروط المعقود عليه "المبيع" بما أن موضوع بحثنا هو بيع الأعيان المحرمة، وكما هو معلوم فإنه لا بد من توافر شروط معينة في كل ركن من أركان البيع، فسوف أذكر باختصار شروط المبيع عند الفقهاء، لأن المعقود عليه هو محل العقد وهو موضوع دراستنا. الحنفية: يرون أنه يشترط في المعقود عليه عدة شروط، منها: كونه موجوداً حين العقد، وعلى هذا فلا يصح بيع المعدوم مثل بيع المضامين والملاقيح، ومنها: كونه مالاً، وقالوا إن المال هو ما يميل إليه الطبع، ويجري فيه البذل، فما ليس بمال ليس محلاً للبيع، وسبب اشتراطهم هذا الشرط لانعقاد البيع أنهم يعتبرون البيع مبادلة مال بمال، ومنها: كونه مملوكاً للعاقد ملكاً تاماً، أو مأذوناً في بيعه، فلا ينعقد البيع لما ليس بمملوك، ومنها: كون المبيع مقدوراً على تسليمه للمشتري، فلا ينعقد البيع إلاَّ إذا كان المبيع مقدور التسليم، وعلى هذا فلا ينعقد بيع الجمل الشارد ونحو ذلك، لما في هذا من الغرر المؤثر في العقد. فقد جاء في بدائع الصنائع: "وأما الذي يرجع إلى المعقود عليه فأنواع: منها: أن يكون موجوداً، فلا ينعقد بيع المعدوم ... ومنها: أن يكون مالاً، لأن البيع مبادلة المال بالمال ... ومنها: أن يكون مملوكاً، لأن البيع تمليك فلا ينعقد فيما ليس بمملوك ... ومنها: أن يكون مقدور التسليم ... "1. المالكية: اشترطوا في المعقود عليه عدة شروط بحيث لا يصح العقد عند الإخلال بأحد هذه الشروط، سواء فيما يتعلق بالمبيع أم بالثمن، ومن هذه الشروط: كون المعقود عليه ثمناً، أو مثمناً طاهراً، فلا يصح بيع نجس العين كالميتة والدم والخنْزير، ولا المتنجس الذي لا يمكن تطهيره، ومنها: كونه مباحاً منتفعاً به انتفاعاً شرعياً، فلا يصح بيع غير المباح ولو مكروهاً، ولا بيع الحشرات لعدم الانتفاع بها، ومنها: كونه مقدوراً على تسليمه، فلا يصح بيع الآبق لعدم إمكان تسليمه، وكذا الطير في الهواء

_ 1 الكاساني 5/138، 140، 146، 147.

والسمك في الماء ونحو ذلك، ومنها: كون المعقود عليه غير منهي عنه، فلا يصح بيع ما نهي عنه كبيع المزابنة1 ونحوه، وقد عبروا عن هذا الشرط بكونه غير محرم البيع، حتى ولو كان التحريم يتعلق ببعض المعقود عليه فقط، ومنها: كون المعقود عليه غير مجهول لكل من المتعاقدين، وذلك لأن الجهالة مبناها الغرر وهذا من الأمور النافية لصحة التعاقد، فلا يصح بيع المجهول سواء كان مجهول الذات أم الجنس أم الصفة أم القدر أم الأجل ونحو ذلك، حتى يحصل العلم بكل ما يميز المبيع عن غيره. فقد جاء في الشرح الكبير: "وشرط للمعقود عليه أي شرط لصحة بيع المعقود عليه ثمناً أو مثمناً طهارة وانتفاع به وإباحة وقدرة على تسليمه وعدم نهي وجهل به ... وشرط له عدم نهي من الشارع عن بيعه وشرط له قدرة عليه أي على تسليمه وتسلمه ... وشرط للمعقود عليه "عدم حرمة" لبيعه ... أو لبعضه ... وشرط عدم جهل منهما أو من أحدهما بمثمون ... أو ثمن ... ولو تفصيلاً ... "2. الشافعية: يشترطون في المبيع طهارة عينه، فلا يصح بيع النجس عندهم كالخمر والخنْزير والميتة والدم ونحو ذلك، وكونه منتفعاً به فلا يصح بيع ما لا ينتفع به كالحشرات ونحوها، ومن شروط المبيع عندهم كونه مقدوراً على تسليمه فبيع الشارد والناد والطير في الهواء والسمك في الماء غير صحيح لفقدان هذا الشرط، ومنها: كون المبيع مملوكاً لمن له العقد، فلا يصح بيع مال الغير إلاَّ إذا أجازه مالكه، ويشترط على كل من المتبايعين العلم بالمبيع، وعليه لا يصح بيع المجهول لهما لأنه يؤدي للمنازعة بسبب ما يشوبه من غرر، وقد اختلف الشافعية بشأن صحة بيع الغائب، فالأظهر في المذهب أنه لا يصح، والثاني يقول بصحته مع إثبات الخيار عند الرؤية. فقد جاء في مغني المحتاج: "وللمبيع شروط: طهارة عينه ... النفع ... إمكان

_ 1 المزابنة: بضم الميم، مفاعلة من الزبن وهو الدفع الشديد، ومنه الزبانية ملائكة النار، لأنهم يزبنون الكفرة فيها أي يدفعونهم. واصطلاحا: بيع شيء رطب بيابس من جنسه تقديرا. راجع: المصباح المنير للفيومي صفحة 251، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية للدكتور محمود عبد الرحمن عبد المنعم 3/265-266. 2 الدردير 3/10 –15.

تسليمه ... المِلكُ لمن له العقد ... العلم به ... والأظهر أنه لا يصح بيع الغائب، والثاني يصح ويثبت الخيار عند الرؤية"1. الحنابلة: اشترطوا في المعقود عليه سواء كان مبيعاً أم ثمناً عدة شروط: منها: كونه مالاً، وذلك لأن كلاً منهما في مقابلة المال فعنصر المالية يشترط في كل من المبيع والثمن لاعتبار العقد صحيحاً شرعاً، ومنها: كون المبيع مملوكاً للبائع، فلا يصح بيع غير المملوك للعاقد حين العقد، ومنها: كون المبيع وكذا الثمن مقدوراً على تسليمه حال العقد، وذلك لأن غير المقدور على تسليمه شبيه المعدوم، والمقرر لديهم أن بيع المعدوم غير صحيح، فكان بيع غير المقدور على تسليمه غير صحيح لذات السبب، ومنها: كون المبيع معلوماًُ للمتعاقدين، فلا يصح بيع المجهول، لأن الجهالة تفضي إلى المنازعة بين المتعاقدين بسبب ما تحمله من غرر مؤثر في العقد. فقد جاء في كشاف القناع: "أن يكون المبيع والثمن مالاً، لأنه مقابل بالمال ... أن يكون المبيع مملوكاً لبائعه ... أن يكون المبيع ومثله الثمن مقدوراًُ على تسليمه حال العقد، لأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم، والمعدوم لا يصح بيعه، فكذا ما أشبهه ... أن يكون المبيع معلوماً لهما ... "2. الموازنة: بعد مراجعة أقوال الفقهاء ونصوص كتبهم في تحديد شروط المعقود عليه نجد أنهم قد اتفقوا في تحديد بعض الشروط والنص عليها، كما وجدنا أن بعضهم قد انفرد بذكر شروط لم يتعرض لذكرها أو النص عليها غيرهم. أولاً: الشروط التي اتفق عليهما جميع الفقهاء: 1- أن يكون المعقود عليه مالاً 2- أن يكون مملوكاً للعاقد أو لموكله أو لمن هو تحت ولايته. 3- أن يكون مقدوراً على تسليمه.

_ 1 الشربيني 2/15 – 26. 2 البهوتي 4/1382، 1388، 1392، 1393.

4- أن يكون المبيع موجوداً حين العقد، فلا يصح بيع المعدوم وقت البيع إلاَّ في السلم. 5- أن يكون معلوماً لكل من العاقدين فلا يصح بيع المجهول، والعلم يحصل بكل ما يميز المبيع من غيره ويمنع المنازعة. ثانياً: الشروط التي أوردها بعض الفقهاء: 1- نص كل من المالكية والشافعية على شرط الطهارة في المبيع في حين أن الحنفية والحنابلة لم ينصوا على هذا الشرط. فالحنفية لا يشترطون الطهارة في المبيع، فيصح بيع النجس عندهم، أما الحنابلة وإن لم ينصوا على شرط طهارة المبيع فإنه لا يصح بيع النجس عندهم1، وزاد المالكية أن يكون المبيع منتفعاً به انتفاعاً شرعياً، فلا يصح عندهم بيع الحشرات لعدم الانتفاع بها، وانفردوا بذكر شرطين آخرين هما: أـ أن لا يكون المبيع منهياً عن بيعه كبيع الكلب، أو منهياً عن بعضه إذا علم المتبايعان أو أحدهما بالنهي عن بيع البعض لا إن لم يعلما بذلك وهذا يفيد أنه لا يجوز بيع غير المباح حتى ولو كان مكروهاً فقط. ب ـ أن لا يكون المبيع محرماً بيعه، وذكر الدردير2 أن هذا الشرط مستغنىً عنه بالشرط السابق، وهو عدم النهي، وسبب ورود ذكره هو ليرتب عليه قوله أو لبعضه.

_ 1 وسوف يأتي تفصيل هذا في فصل بيع النجاسات من هذا البحث. 2 الشرح الكبير 3/15. والدردير: هو أبو البركات أحمد بن محمد العدوي الأزهري الشهير بالدردير، ولد رحمه الله عام 1127? في بني عدي بمصر وتعلم بالأزهر، من مصنفاته أقرب المسالك وشرحه، ونظم الخريدة السنية في التوحيد توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة 1201?. راجع: شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 359، الأعلام للزركلي 1/244.

المبحث الثاني: مشروعية البيع وحكمه

المبحث الثاني: مشروعية البيع وحكمه ثبتت مشروعية البيع بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 1، وقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} 2 وقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 3، وقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} 4. فهذه الآيات الكريمة تقرر حل البيع وإباحته للناس، كأسلوب لتبادل المنافع مما لا غنى للإنسان عنه، وفي هذا التوسعة وتحقيق التكامل بين العباد، فالتبايع والتجارة عن رضا، ومن خلال ما شرعه الله سبحانه محل عناية الشرع حلاً وإباحة وحثاً للناس على صونها بالأطر التي حددتها الشريعة الإسلامية الغراء. أما السنة: فمنها أحاديث كثيرة ومن هذا: قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل أي الكسب أطيب قال: "عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور" 5، أي لا غش فيه ولا خيانة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراض" 6، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبلة على

_ 1 سورة البقرة: الآية 275. 2 سورة البقرة: الآية 282. 3 سورة النساء: الآية 29. 4 سورة البقرة: الآية 198. 5 الحديث أخرجه البزار في مسنده 9/259، والحاكم في المستدرك 2/12 وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في السنن 5/263، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/60 راجع: التلخيص الحبير 3/5-6. 6 الحديث أخرجه ابن ماجه في السنن 2/736-737 برقم 2185 وابن حبان في صحيحه 11/340 والبيهقي في السنن 6/17. وصححه الشيخ الألباني، راجع: إرواء الغليل للشيخ الألباني 5/125-1,26 برقم 1283.

ظهره فيأتي بحزمة حطب فيبيعها فيكف بها وجهه خير من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه" 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" 2. وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم والناس يتبايعون فأقرهم عليه وقال: "التاجر الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" 3. فهذه النصوص تقرر أن البيع هو أطيب ما كسبه الإنسان، وأنه لا يقل عن عمل الرجل بيده، فالبيع المبرور - وهو غير المقرون بالغش والخيانة والقائم على الرضا بين المتعاقدين - هو أساس التنمية، وفيه سد لإحتياجات الناس، طالما كان ذلك بصدق وأمانة. وأن التجار الملتزمين بضوابط الأمانة مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. وقد أجمعت الأمة على جواز البيع والتعامل به من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فضلاً عن أن الحكمة تقتضيه، لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي شرع البيع وتجويزه طريق لوصول كل إنسان إلى غرضه ودفع حاجته. الحكمة من مشروعية البيع: البيع مشروع للتوسعة على العباد لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه وصاحبه لا يبذله بغير عوض، فكان تشريع البيع طريقاً إلى تحقيق كل واحد غرضه ودفع حاجته والإنسان مدني بالطبع، لا يستطيع العيش بدون التعامل والتعاون مع الآخرين، فالإنسان بمفرده لا يستطيع توفير حاجياته من الغذاء والكساء وغيرها، وقد يجنح بمقتضى حاجته الملحة إلى أخذ ما في يد الغير عن طريق المغالبة أو المقاهرة، أو يلجأ إلى السؤال وتكفف أيدي الناس، وفي ذلك من المفاسد العظام ما لا

_ 1 الحديث أخرجه البخاري 2/18 وابن ماجة في السنن 1/588 برقم 1836 وأحمد 1/164، 167 من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. 2 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري 82-83 برقم 2079 ومسلم 3/1164 برقم 1532. 3 الحديث أخرجه الترمذي 2/498 برقم 1209 والدارمي 2542 والدارقطني 3/7.

يخفى، ومن الذل والصغار ما لا يقدر عليه الإنسان. فالبيع قد شرعه الله سبحانه توسعة منه على عباده، فإن لكل فرد من أفراد النوع الإنساني ضرورات من الغذاء والكساء وغيرها مما لا غنى للإنسان عنه ما دام حياً، وهو لا يستطيع وحده أن يوفرها لنفسه لأنه مضطر إلى جلبها من غيره، وليس ثمة طريق أكمل من المبادلة، فيعطي ما عنده مما يمكنه الاستغناء عنه، بدل ما يأخذه من غيره مما هو في حاجة إليه. ولكل هذا: اقتضت حكمة البارىء سبحانه شرعية البيع والشراء، وتنظيمه بما يكفل رفع الحرج والمشقة عن الناس ودوام البقاء. هذا: ويعتبر البيع والشراء في الجملة من الأمور الحاجية1 التي قصد التشريع الإسلامي توفيرها للناس، وقد يرقى إلى الأمور الضرورية عند ما يؤدي عدمه إلى فوات أصل من الأصول الخمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

_ 1 الحاجيات: هي التي يحتاج إليها الناس للتيسير عليهم ورفع الحرج ودفع المشقة عنهم بحيث إذا فقدت وقع الناس في ضيق دون أن تختل الحياة، ولهذا فكل ما قصد به دفع المشقة ورفع الحرج والاحتياط للكليات الخمس فهو حاجي. والضروريات: هي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت اختل نظام الحياة، وعمت الفوضى والمفاسد، وضاعت المصالح، وفات النعيم، وحل العقاب في الآخرة، فهي كل ما يؤدي عدمه إلى فوات أصل من الأصول الخمسة. أصول الفقه/ للدكتور زكي الدين شعبان صفحة 297.

المبحث الثالث: المقصود بالأعيان المحرمة

المبحث الثالث: المقصود بالأعيان المحرمة المطلب الأول: تعريف العين لغة واصطلاحاً والمحرم لغة والحرام عند الأصوليين. العين في اللغة: تعني المال الحاضر الناض، وعين الشيء نفسه، والعين ما ضرب من الدنانير والدراهم، والعين بمعنى الباصرة، والجاسوس، والديدبان، وعين الماء، وعين الشمس والطليعة. فقد جاء في مختار الصحاح: "العين حاسة الرؤية، وهي مؤنثة، وجمعها أعين وعيون وأعيان ... والعين أيضاً عين الماء، وعين الركبة ... والعين عين الشمس، والعين الدينار، والعين المال الناضَّ، والعين الديدبان، والجاسوس، وعين الشيء خياره، وعين الشيء نفسه ... وتعين الرجل المال: أصابه بعين، وتعين عليه الشيء: لزمه بعينه ... وأعتان الرجل اشترى بنسيئة"1. وجاء في المصباح المنير: "العين تقع بالاشتراك على أشياء مختلفة، فمنها الباصرة، وعين الماء، وعين الشمس، والعين الجارية، والعين الطليعة، وعين الشيء نفسه، ومنه يقال أخذت مالي بعينه والمعنى أخذت عين مالي، والعين ما ضرب من الدنانير، وقد يقال لغير المضروب عين أيضاً، قال في التهذيب2: والعين النقد، يقال اشتريت بالدين أو بالعين، وتجمع العين لغير المضروب على عيون وأعين وأعيان وهو قليل، ولا تجمع إذا كانت بمعنى المضروب إلاَّ على أعيان ... وتجمع الباصرة على أعين وأعيان وعيون"3. جاء في الكليات لأبي البقاء الكفوي: "كل شيء عرض إلاَّ الدراهم والدنانير

_ 1 محمد بن أبي بكر الرازي مادة عين صفحة 219. 2 تهذيب اللغة للأزهري 3/208. 3 أحمد محمد الفيومي صفحة 440 – 441.

فإنها عين"1. العين في الاصطلاح: لم تتعرض كتب الأئمة التي اطلعت عليها لتعريف اصطلاحي للعين2 ولا يخرج الاستعمال الفقهي الاصطلاحي عن المعاني اللغوية، إلاَّ أن أكثر استعمال الفقهاء للأعيان فيما يقابل الديون وهي الأموال الحاضرة نقداً كانت أو غيره3. المحرم في اللغة: فهو ما لا يحل انتهاكه ويحرم تناوله واتخاذه وانتهاكه فهو ضد الحلال والتحريم ضد التحليل وهو الممنوع وحريم البئر وما حولها. فقد جاء في مختار الصحاح: "والحرمة ما لا يحل انتهاكه، وكذا المحُرمة بضم الراء وفتحها ... والحرام ضد الحلال، والتحريم ضد التحليل، وحريم البئر وما حولها من مرافقهاً وحقوقها، وحرم الشيء بالضم يحرم حرمة"4. وجاء في المصباح المنير: "حَرُمَ الشيء بالضم حُرْماً وحَرماً بمعنى حرمته، والممنوع يسمى حراماً تسمية بالمصدر، والحرمة بالضم ما لا يحل انتهاكه، والمحرمة بفتح الراء وضمها الحرمة التي لا يحل انتهاكها"5. الحرام عند الأصولين: عرفوه بأنه هو ما طلب الشارع تركه على وجه الحتم والإلزام، وذلك بأن يكون اللفظ الذي يدل على ترك الفعل هو لفظ الحرمة، أو نفي الحل، أو صيغة من صيغ النهي التي لم يقم دليل بصرفها عن إفادة التحريم إلى غيره، أو لفظ الاجتناب مقترناً بما يدل على الاجتناب حتم لازم"6. كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} 7، وقوله سبحانه:

_ 1 3/185. 2 بدائع الصنائع للكاساني، والشرح الصغير للدردير، ومغني المحتاج للشربيني، والإنصاف للمرداوي. 3 الموسوعة الفقهية الكويتية 5/264. 4 محمد بن أبي بكر الرازي ماده حرم صفحة 80. 5 أحمد محمد الفيومي ماده حرم صفحة 131 – 132. 6 أصول الفقه: للدكتور زكي الدين شعبان 297. 7 سورة النساء: الآية 23.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. فالحرام هو ما طلب الشارع تركه حتماً بحيث يذم فاعله ويعاقب على ارتكابه في الآخرة، فهو يتناول كل شيء ممنوع صادر من الشخص سواء أكان من الأقوال أو الأفعال. فالأعيان المحرم بيعها هي التي يمتنع بيعها بسبب التحريم الذي يتعلق بكون الشيء نجساً لذاته أو كونه متنجساً أو لاشتماله على مفسدة أو لكرامتها، وهذا يستدعى ضرورة النظر في بحث هذه الأعيان المحرمة حتى يتسنى لنا تحقيق القول فيما اختلف الفقهاء بشان حكم بيعه شرعاً.

_ 1 سورة المائدة: الآية 90.

المطلب الثاني: الأعيان المحرمة لنجاستها

المطلب الثاني: الأعيان المحرمة لنجاستها النجاسة في اللغة: تطلق على كل قذارة مستقذرة بخلاف الطهارة. فقد جاء في لسان العرب: "النجس القذر من الناس ومن كل شيء قذرته.."1. وجاء في مختار الصحاح: "نجس الشيء من باب طرب، فهو نجس - بكسر الجيم وفتحها - قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} 2"3. النجاسة اصطلاحاً: الحنفية: جاء في البحر الرائق: "والنجاسة شرعاً عين مستقذرة شرعا ... 4 المالكية: جاء في الشرح الكبير: "وهي صفة حكمية توجب لموصوفها منع استباحة

_ 1 ابن منظور 14/53. 2 التوبة: الآية 28. 3محمد بن أبي بكر الرازي/294 4 ابن نجيم 1/382.

الصلاة به أو فيه"1. الشافعية: جاء في مغني المحتاج "بأنها مستقذر يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص"2. الحنابلة: جاء في الأنصاف: "كل عين حرم تناولها مع إمكانه لا لحرمتها، ولا لاستقذارها ولا لضرر بها في بدن أو عقل قاله في المطلع3. وقال في الرعاية4 النجس كل نجاسة وما تولد منها وكل طاهر طرأ عليه ما ينجسه، قصداً أو اتفاقاً، مع بلل أحدهما أو هما، أو تغير صفتة المباحة بضدها كانقلاب العصير خمراً أو موت ما ينجس بموته ... "5. الموازنة: نجد أن عبارات ونصوص الفقهاء قد اختلفت في تعريف النجاسة، إلا أنه مع هذا الاختلاف في العبارة فإن مؤداها واحد، لأن من قال إنها عين مستقذرة شرعا فقد عرف النجاسة الحقيقية، وهذا واضح في تعريف الحنفية، أما الحنابلة وإن نهجوا نفس منهج الحنفية في تعريف حقيقة النجاسة، إلا أنهم توسعوا في ذلك، وبينوا أن النجس قد لا يكون مستقذراً، بل قد يوصف بالنجاسة مع عدم استقذاره، أو عدم ضرره، لأن مرجع الحكم بالنجاسة هذا للشرع. أما المالكية والشافعية فقد عرفوا النجاسة الحكمية وذلك بقولهم صفة حكمية أو مستقذر يمنع صحة الصلاة. والذي نخلص إليه من كل ذلك: أن الحكم بالنجاسة هو للشرع، وأن النجس قد يكون مستقذراً وقد لا يكون كذلك، وقد يكون فيه ضرر أو لا يكون فيه ضرر، وأنه يترتب على وجود النجاسة عدم صحة الصلاة، سواء كانت النجاسة على عين

_ 1 الدردير 1/32. 2 الشربيني 1/110. 3 المطلع في أبواب المقنع للبعلي. 4 الرعاية رعايتان: صغرى وكبرى، وكلاهما لابن حمدان الحنبلي المتوفى سنة695?. 5 المردواي 1/26.

الشخص أو في المكان، وأن النجس لا يجوز تناوله ولا يصح بيعه. وسوف نبحث بيع النجاسات في الباب الأول من هذا البحث إن شاء الله.

المطلب الثالث: الأعيان المحرمة لغلبة المفسدة فيها

المطلب الثالث: الأعيان المحرمة لغلبة المفسدة فيها هذه الأعيان ليست محرمة لذاتها، بل إن تحريمها لأمر خارج عن ذاتها، بسبب وصف لازم للعقد، ومن هذا بيع ما يؤدي للحرام مثل بيع الخشب لمن يتخذه في آلات اللهو كالمعازف والمزامير، وبيع أواني الذهب والفضة، وبيع الصور، وما في حكمها وغير ذلك مما قصد به الحرام، لما يترتب عليه من ارتكاب المحظور، ولما فيه من التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنهما شرعاً، حيث قال سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 1. وسوف نورد حكم بيع هذه الأشياء في الباب الثاني إن شاء الله.

_ 1 سورة: المائدة الآية 2.

المطلب الرابع: الأعيان المحرمة لكرامتها

المطلب الرابع: الأعيان المحرمة لكرامتها هناك بعض الأعيان التي لا يجوز بيعها بناء على حرمتها وقدسيتها، لأن في بيعها إمتهاناً لها وابتذالاً، فإن الشارع الكريم قد حرم بيع بعض الأشياء لكونها شريفة مكرمة، ومصانة مقدسة، وسبب التكريم أن عرض هذه الأشياء للبيع فيه امتهان وابتذال لها، وهذا يتنافى مع تكريمها وصيانتها، ومثال ذلك بيع أرض مكة المكرمة، وبيع المصحف، وبيع الإنسان الحر وبيع أجزائه، حيث إنه من المسائل المهمة في هذا الزمان، وخاصة ما يتعلق بنقل أعضاء الإنسان ونقل الدم وغيره من أجزاء الإنسان، وسوف أجعل لحكم بيع هذه الأعيان فصلاً خاصاً في هذا البحث إن شاء الله.

الباب الأول: في النجاسات

الباب الأول: في النجاسات وفيه تمهيد وستة فصول تمهيد: في بيان اختلاف الفقهاء في حرمة بيع النجاسات وأسبابه. الفصل الأول: بيع الميتة. الفصل الثاني: بيع الدم. الفصل الثالث: بيع فضلات الإنسان والحيوان. الفصل الرابع: بيع الكلب والخنْزير. الفصل الخامس: بيع الخمر. الفصل السادس: بيع المتنجسات والانتفاع بها.

التمهيد في بيان اختلاف الفقهاء في حرمة بيع النجاسات وأسبابه

التمهيد في بيان اختلاف الفقهاء في حرمة بيع النجاسات وأسبابه اتضح فيما سبق أن جمهور الفقهاء قد اشترطوا في المبيع كونه طاهراً. فقد ذكر هذا الشرط المالكية واعتبروه شرطاً في المعقود عليه. حيث جاء في الشرح الصغير: "شرط صحة المعقود عليه طهارة - فلا يصح بيع نجس ولا متنجس لا يمكن تطهيره"1. وهكذا وجدت الشافعية يذكرون هذا الشرط في مقدمة شروط المبيع. فقد جاء في روضة الطالبين: "وأدرجوا تحته منع بيع الكلب والخمر والمتنجس الذي لا يمكن تطهيره"2. كما أن شرط الطهارة معتبر أيضاً عند الحنابلة، وإن كانوا قد أدرجوه في شرط المالية وإمكان الانتفاع بالشيء المبيع. حيث ورد في الروض المربع: "الشرط الثالث -أي من شروط البيع-: أن تكون العين المعقود عليها أو على منفعتها مباحة النفع عن غير حاجة، بخلاف الكلب لأنه إنما يقتنى لصيد أو حرث أو ماشية، وبخلاف جلد ميتة ولو مدبوغاً لأنه إنما يباح في يابس، والعين -هنا- مقابل المنفعة فتتناول ما في الذمة كالبغل والحمار وكدود القز وكبزرة3 وكالفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد إلا الكلب والحشرات والمصحف والميتة لا يصح بيعها"4.

_ 1 الدردير: 3/22 - 24. 2 النووي: 3/348. 3 بزرة: البزر - بالكسر، والفتح لغة -: البقل ونحوه. المصباح المنير للفيومي صفحة 47، القاموس المحيط للفيروز آبادي صفحة 445. 4 البهوتي: 2/240 - 241.

وجاء في منتهى الإرادات: " ... ولا بيع سرجين1 للإجماع على نجاسته ولا بيع دهن نجس كشحم ميتة لأنه بعضها أو دهن متنجس كزيت ... "2. وهكذا اتضح لنا موقف جمهور الفقهاء من اشتراطهم طهارة المبيع ومنع بيع غير الطاهر، فهؤلاء لم يصححوا بيع النجاسات لأنهم اشترطوا كون المبيع طاهراً فضلاً عن كونه مالاً منتفعاً به. غير أن الحنفية: لم يذكروا شرط طهارة المبيع صراحة، ضمن الشروط المعتبرة لصحة البيع، وإن كانوا قد أدرجوا ذلك عند بيان شرط المالية، ولم يعتبروا مناط المنع نجاسة المبيع، بل جعلوا مناط ذلك عدم شرعية الانتفاع بالشيء المباع، وعلى هذا فقد وجدت الحنفية لم يعتبروا نجاسة المبيع مانعاً من صحة بيعه، وإنما قالوا إنه يشترط أن يكون المبيع مالاً متقوماً أي منتفعاً به شرعاً، ولهذا صححوا بيع السرجين مع كونه نجساً، لأنه مال منتفع به عندهم، ولم يمنع الشرع الانتفاع به. فقد جاء في الهداية: " ... لم يجز بيع الميتة والدم لانعدام المالية التي هي ركن البيع، فإنهما لا يعدان مالاً عندنا"3, وفي شرح فتح القدير: " ... فالبيع بالميتة والدم باطل، وكذا بالحر لانعدام ركن البيع وهو مبادلة المال بالمال، فإن هذه الأشياء لا تعد مالاً عند أحد ... والباطل لا يفيد ملك التصرف"4. هذا وقد سوغ الشارع اقتناء بعض النجاسات التي يصعب الاستغناء عنها، للاستفادة منها، لما لها من فوائد لا يستهان بها، وذلك مثل كلاب الحراسة والصيد ونحو ذلك، حيث ورد النص على جواز اقتنائها في قول النبي: صلى الله عليه وسلم "من اقتنى كلباً إلا

_ 1 السرجين: الزبل، وهي كلمة أعجمية، وأصلها سركين - بالكاف، فعربت إلى الجيم والقاف، ويقال: سرقين أيضا. المصباح المنير للفيومي صفحة 273، القاموس المحيط للفيروز آبادي صفحة 1555. 2 البهوتي: 2/143. 3 المرغيناني 8/141. 4 ابن الهمام 6/403.

كلب ماشية أو صيد نقص من أجره كل يوم قيراطان" 1. كما أن الله سبحانه قد نص على تحريم الميتة والدم ولحم الخنْزير حيث قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 2 ورغم هذا فقد حثنا الشارع على عدم إهدار الجزء الذي يمكن الانتفاع به من الميتة وهو إهابها طالما أنه معالج بالدباغة حيث قال صلى الله عليه وسلم: "هلا استمتعتم بإهابها" 3 وقيد التحريم بأنه إنما يتناول أكلها فقال: "إنما حرم أكلها" 4 وأنه إذا دبغ الإهاب فقد طهر. وفي هذا إشارة إلى أن سبب منع بيع الإهاب قبل دبغه إنما هو النجاسة، وأنه لا مانع من بيعه بعد دبغه لانتفاء ذلك المانع بحلول الطهارة المشترطة في صحة البيع شرعاً. وبناء على هذا: فإن الذي حرمه الشارع ومنع بيعه من النجاسات إنما هو النجاسة التي لا ينتفع بها بصورة مشروعة، لأن اقتناءها يعتبر ذريعة إلى محاولة الانتفاع بها، وحيث حرم كل وجه من وجوه الانتفاع بها فقد حرم اقتناؤها وبالتالي حرم بيعها. ومنشأ الخلاف بين الفقهاء ينحصر فقط في الأساس المتخذ لتحريم الميتة5 فمنهم من يرى أنه النجاسة، ومنهم من يرى أنه عدم المالية، وذلك على نحو ما ذهب إليه الحنفية، فهؤلاء يرون أن نجاسة هذه الأشياء لم تلغ ماليتها فهي أموال يمكن الانتفاع

_ 1 الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد باب من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد أو ماشية، رقم 5163، 5164، 5165، ومسلم في كتاب المساقاة باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك برقم 1574. 2 سورة المائدة: الآية 3. 3 الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه البخاري في كتاب البيوع باب جلود الميتة قبل أن تدبغ برقم 2108 وكتاب الذبائح والصيد باب جلود الميتة برقم 5211 واللفظ له، ومسلم في كتاب الحيض باب طهارة جلود الميتة بالدباغ برقم 363. 4 هذا جزء من حديث ابن عباس السابق تخريجه. 5 وكذا الدم والخنْزير والكلب على نحو ما سيرد في محله إن شاء الله.

بها على الرغم من نجاستها وذلك على نحو معين ككلب الحراسة والصيد مثلاً. فإن نجاسة هذه الأشياء تمنع أكلها لا بيعها أو استخدامها بعد تطهيرها، فالمحرم عند أكثر العلماء إنما هو الانتفاع المباشر بالنجس من الميتة ونحوها. أما البيع فالقاعدة أَنَّ كل ما ينتفع به يصح بيعه وما لا فلا وهكذا فهم بعض العلماء كابن حجر العسقلاني1 ومن وافقه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما حرم أكلها" وقالوا إنه يدل على أن ما عدا أكلها فهو مباح، وهؤلاء فسروا كلمة "حرام" بحرمة الانتفاع، وقالوا يحرم الانتفاع بالميتة إلا ما خص بالدليل وهو الجلد المدبوغ، وهذا قول أكثر العلماء، خلافاً لتفسير بعض العلماء كالشافعي ومن وافقه للحرمة بأنها حرمة البيع2. فنجاسة هذه الأشياء تجعل الانتفاع بها ممتنعا إلا بدليل، فإذا توفر الدليل الذي يسوغ الانتفاع بها بغير الأكل فإن ذلك يعني جواز اقتنائها وتبادلها. وإنه ليس بالضرورة أن تكون عله النهي عن بيع هذه الأشياء هي النجاسة دائماً لأن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن3 –مثلاً– حرم من أجل الضلال والفساد وأن القدر المشترك بين هذه الثلاثة ليس النجاسة، غير أن هذا مقدر فيه، وذلك بمراعاة أن اقتناء أي نجس أمر غير مرغوب فيه وغير جائز، إلا إذا كانت هناك

_ 1 هو أحمد بن علي بن شهاب الدين أبو الفضل الكناني العسقلاني، المصري المولد والمنشأ والوفاة، الشهير بابن حجر، نسبته إلى آل حجر، قوم يسكنون بلاد الجديد، وأرضهم قابس في تونس من كبار الشافعية، كان محدثاً فقهياً مؤرخاً ارتحل إلى بلاد الشام وغيرها، تصدى لنشر الحديث وقصر نفسه عليه، ودرس في عدة أماكن وولى مشيخة البيبرسية ونظرها والإفتاء بدار العدل والخطابة بجامع الأزهر وتولى القضاء، توفي رحمه الله سنة 852? من مصنفاته فتح الباري شرح صحيح البخاري ولسان الميزان وتهذيب التهذيب وتقريب التهذيب راجع: الأعلام للزر كلي 1/178، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 1/210. 2 المجموع للنووي 9/234، والشرح الصغير للدردير 3/22 3 الحلوان: -بالضم- العطاء، وهو اسم من حلوته أحلوه، والحلوان: أن يأخذ الرجل من مهر ابنته شيئا، وكانت العرب تعير من يفعله، وحلوان المرأة مهرها، وحلوان الكاهن أجرته. المصباح المنير للفيومي صفحة 149، لسان العرب لابن منظور 3/310.

مصلحه مشروعة في ذلك، والمصلحة المشروعة في اقتنائه تعني أن ينتفع به، وذلك يعني أنه مال. ولهذا كان مناط صحة البيع وحل الثمن هو وجود منفعة معتبرة شرعاً أو عدم وجودها لأجل أكله أو عدم حله. فقد جاء في مغني المحتاج: " ... فلا يصح بيع الحشرات، ولا بيع كل سبع، أو طير لا ينتفع به، كالأسد، والذئب، والحدأة، والغراب غير المأكول. ولا نظر لمنفعة الجلد بعد الموت، ولا لمنفعة الريش في النبل، ولا لاقتناء الملوك لبعضها للهيبة والسياسية؛ أما ما ينفع من ذلك كالفهد للصيد، والفيل للقتال، والقرد للحراسة، والنحل للعسل، والعندليب للأنس بصوته، والطاووس للأنس بلونه، والعلق1 لامتصاص الدم فيصح" 2. وجاء في المهذب: "الأعيان ضربان: نجس، وطاهر فأما النجس فعلى ضربين: نجس في نفسه، ونجس بملاقاة نجاسة، فأما النجس في نفسه فلا يجوز بيعه وذلك مثل الكلب والخنْزير والخمر والسرجين وما أشبه ذلك من النجاسات، والأصل فيه ما روى جابر3 رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام "4،

_ 1 العلق: شيء أسود يشبه الدود يكون بالماء، فإذا شربته الدابة تعلق بحلقها، الواحدة العلقة، والعلقة المني ينتقل بعد طوره فيصير دما غليظا متجمدا. المصباح المنير للفيومي صفحة 426، القاموس المحيط للفيروز آبادي 1176. 2 الشربيني 2/16. 3 هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعب الأنصاري السلمي، أحد المكثرين في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه جماعة من الصحابة، له ولأبيه صحبة، كان مع من شهد بيعة العقبة، وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر غزوة، وكانت له في أواخر أيامه حلقة بالمسجد النبوي، يؤخذ عنه العلم، كف بصره قبل موته بالمدينة وتوفي رضي الله عنه سنة 78 ?. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1/546 – 547، أسد الغابة لابن الأثير الجزري 1/307 – 308، الأعلام للزركلي 2/104. 4 الحديث متفق عليه بلفظ: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام"، أخرجه البخاري في كتاب البيوع باب بيع الميتة والأصنام برقم 2121، ومسلم في كتاب المساقاة باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام برقم 1581.

وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن ثمن الكلب" 1. فنص على الكلب والخنْزير والميتة والخمر وقسنا عليه سائر الأعيان النجسة"2. "وأما الأعيان الطاهرة فضربان ضرب لا منفعة فيه، وضرب فيه منفعة، فأما مالا منفعة فيه معفو عنه كالحشرات والسباع التي لا تؤكل للاصطياد والطيور التي لا تأكل ولا تصاد كالحدأة وما لا يؤكل من الغراب فلا يجوز بيعه، لأن مالا منفعة فيه لا قيمة له فأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل وبذل العوض فيه من السفه"3.

_ 1 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه 2/123 برقم 2237، ومسلم في صحيحه 3/1198 برقم 1567. 2 الشيرازي 3/23. 3 الشيرازي 3/26.

الفصل الأول: بيع الميتة

الفصل الأول: بيع الميتة وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: حكم بيع الميتة. المبحث الثاني: حكم بيع أجزاء الميتة. المبحث الثالث: خلاصة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الميتة.

تمهيد

تمهيد الميتة لغة: ما لم تدركه تذكية. فقد ورد في مختار الصحاح: "والميتة ما لم تلحقه الذكاة"1. وجاء في لسان العرب: "الموت والموتان ضده الحياة ... والموات بالضم: الموت مات يموت موتاً ... والميتة ما لم تدركه تذكية، والموت السكون، وكل ما سكن فقد مات"2. وفي المصباح المنير: "الميتة من الحيوان: ما مات حتف أنفه"3. فالمستقر عليه الحال لدى علماء اللغة: أن الميتة هي كل ما سكن فقد مات، على خلاف بينهم بشأن التعبير عن ذلك. فمنهم من عبر عن هذا بإطلاق الميتة على كل ما لم يذك على ما معنى أن الحيوان المذكى ذكاة شرعية يقابله في الوصف والحكم قرينة غير المدرك بهذه التذكية، في حين أن البعض الآخر عمم إطلاق الميتة على كل من مات حتف أنفه -أي نفق- ليشمل غير المدرك بالتذكية وما اختل شرط من شروط التذكية الشرعية فيه، وكذا ما مات بنفسه بسبب علة أو مرض ونحو ذلك، كالعطش والحرق والغرق وما شابه هذه الأحوال. الميتة في عرف الشرع: اختلفت عبارة الفقهاء عند تعريفهم للميتة شرعا، وإن كانت المعاني المقصودة لديهم في هذا الشأن واحدة حيث إن جميعها يحقق معنى واحداً وهو: ما فارق الحياة بدون تذكية، أو كانت تذكية على وجه غير مشروع، سواء تعلق هذا بحال الفاعل أو بحالة المفعول، وللفقهاء طريقان في التعبير عن هذا: فمنهم من صرح به لفظا كالشافعية والحنابلة، ومنهم من اقتصر على كونه على هيئة غير

_ 1 محمد بن أبي بكر الرازي صفحة 290. 2 ابن منظور 13/217 - 218. 3 الفيومي صفحة 584.

مشروعة كالحنفية وما فهم من كلام المالكية اعتمادا على هيئة التذكية الشرعية المتحقق شروطها فيما يتعلق بكل من المذكِّي والمذكَّى، والغرض من التذكية فضلا عن آلة التذكية. وهذا ما قاله الفقهاء: الحنفية: يرون أن الميتة هي ما أصابها الموت ويقصدون بهذا كل دابة تقصد ذكاتها إذا ماتت بدون ذكاة، أو كانت ذكاتها على هيئة غير مشروعة. فقد جاء في بدائع الصنائع: "....الميتة اسم لما زالت حياته لا بصنع أحد من العباد أو بصنع غير مشروع...."1. فالميتة عندهم هي ما فارقت الحياة بدون صنع أحد، وكذا ما كانت مفارقته للحياة بصنع -أي تذكية، غير أنها على هيئة غير مشروعة- فما فارق الحياة بدون تذكية يعتبر ميتة حتى لو كان مأكول اللحم، وكذا ما فارق الحياة بصنع غير مشروع، أو كان غير مأكول حتى ولو تمت تذكيته، وهذا مفهوم مذهب الحنفية. والمالكية: لم تنص كتبهم فيما اطلعت عليه2 صراحة على تعريف الميتة مكتفية ببيان أن ما حصلت ذكاته يكون طاهراً. فقد جاء في مواهب الجليل: ".... وما ذكى يعني أن ما ذكي بأي نوع من أنواع الذكاة من ذبح، أو نحر، أو عقر فيما يذكى بالعقر فهو طاهر وجزؤه، إلا محرم الأكل ... "3. ويستفاد من هذا: أن الميتة غير المذكى حتى ولو كان مأكول اللحم، ولعل المراد بهذا ما مات حتف أنفه. الشافعية: تعرف الميتة بأنها هي ما زالت حياته بدون ذكاة شرعية حتى ولو كان

_ 1 الكاساني 1/63. 2 كمواهب الجليل للحطاب، وحاشية الدسوقي.. 3 الحطاب 1/88.

على هيئة المذبوح يعد ميتة، وذلك مثل ذبيحة المجوسي والمحرم وما ذبح بعظم المذبوح من غير المأكول، وأن ما زالت حياته بذكاة شرعية صحيحة فلا يعد ميتة. وأنه يدخل في هذا الجنين المعتبرة فيه ذكاة أمه، وكذا الصيد ما لم تدرك ذكاته، والبعير النادُّ1 والمتردّي إذا ماتا بالسهم، فإن هذا كله تعتبر فيه ذكاته الشرعية. فقد جاء في مغني المحتاج: " ... والميتة ما زالت حياته لا بذكاة شرعية كذبيحة المجوسي والمحرم - بضم الميم- وما ذبح بالعظم، وغير المأكول إذا ذبح، ودخل الجنين فإن ذكاته بذكاة أمه وصيد لم تدرك ذكاته، والبعير النادُّ والمتردّي إذا ماتا بالسهم ... "2. وأما الحنابلة: فيرون أن الميتة هو ما مات حتف أنفه أو قتل على هيئة غير مشروعة، والموت عدم الحياة عمن اتصف بها، وهذا المعنى قريب من المعنى اللغوي للميتة. فقد جاء في كشاف القناع: " ... المراد بالميتة ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة، إما في الفاعل أو المفعول. فما ذبح للصنم أو في الإحرام أو لم يقطع منه الحلقوم ميتة، وكذا ذبح ما لا يؤكل لا يفيد الحل ولا الطهارة. ا?. والموت عدم الحياة عما من شأنه، قاله في المطول3. وقال السيد4: عدم الحياة عمن اتصف بها وهو الأظهر ... "5. الموازنة: باستعراض ما قاله الفقهاء بشأن إطلاق اسم الميتة في عرفهم الشرعي يتضح الآتي:

_ 1 البعير النادّ: ندَّ البعير نديدا نفر وذهب على وجهه شاردا فهو ناد والجمع نواد. المصباح المنير للفيومي صفحة 597، القاموس المحيط للفيروز آبادي صفحة 411. 2 الشربيني 1/111-112. 3 المطول للتفتازاني سعد الدين مسعود بن عمر، شرح فيه تلخيص المفتاح في المعاني والبيان للقزويني، وصف هذا الشرح بالمطول، وله شرح ثان مختصر، وهذان الشرحان أهم وأشهر شروح التلخيص. كشف الظنون 1/474 و 2/1722. 4 هو علي بن محمد الجرجاني المتوفي عام 816?، له حاشية على المطول. راجع كشف الظنون 1/474. 5 البهوتي 1/67..

أـ أن الاتفاق حاصل بينهم على أن ما مات حتف أنفه -وهو ما لم تحصل له تذكية شرعية- يعد ميتة، ويستوي في هذا مأكول اللحم وغيره. ب ـ كما أنهم متفقون كذلك على كون مأكول اللحم إذا حصلت تذكيته بطريق غير مشروع يعد ميتة، وكذا غير مأكول اللحم حتى ولو كانت تذكية على هيئة مشروعة، لأن هذه التذكية لا تفيد حلاً ولا طهارة طالما أنه غير مأكول. ? ـ أن الخلاف حاصل بينهم فقط بشأن التعبير عن هيئة التذكية غير المشروعة؛ فالحنفية اقتصروا على إطلاق هذا - أي التذكية غير المشروعة - تاركين تفاصيل ذلك لما يفهم من شرائط التذكية الشرعية، وهكذا هو مفهوم مذهب المالكية، في حين أن الشافعية والحنابلة قد نصوا صراحة على الطريق التي تجعل التذكية غير مشروعة. وعدوا منها: ما يتعلق بالفاعل كذبيحة المجوسي والمحرم، وما يتعلق بالمفعول كتذكية غير المأكول، أو ما يتعلق بالآلة كتذكية بالعظم ونحوه، أو ما يتعلق بالغرض من التذكية كالتذكية للصنم ونحوه. هذا: ورغم أن الفرق في النهاية ليس كبيرا مما يجعل الخلاف في اللفظ فقط دون المعنى فالأقرب إلى المعنى اللغوي هو مسلك كل من الشافعية والحنابلة، حتى اننا وجدناهم يعتدون بنفس العبارات اللغوية. وعلى هذا فالميتة في عرف الشرع هي ما فارقت الحياة من غير تذكية فيما تجب تذكيته، فهي التي ماتت حتف أنفها ولم تذك أي من غير ذبح شرعي، والغالب أن ما ماتت حتف أنفها قد ماتت لعلة مزمنة أو طارئة أو أكل نبات سام ونحوه ذلك مما لا يؤمن ضرره، وهكذا كان الإطلاق الشرعي للميتة شاملاً لمسلك علماء اللغة سواء من اعتبر الميتة هو ما لم تدركه تذكية أو من اعتبرها ما مات حتف أنفه. هذا: ولاستيفاء الحديث عن بيع الميتة يلزمنا بيان حكم بيع الميتة ذاتها وبيع أجزائها كالعظم والجلد والشعر وذلك من خلال النظر في المباحث الآتية.

المبحث الأول: حكم بيع الميتة

المبحث الأول حكم بيع الميتة استقر رأي الفقهاء على القول بتحريم الميتة، وذلك لنجاستها وحرمة أكلها، وترتب على ذلك القول بحرمة بيعها، وهذا ما عليه عامة أهل العلم وجمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. وإن كان الخلاف بينهم وقع فقط في منهج التعبير عن هذا التحريم، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالتحريم، أو كان فيما يتعلق بالمنع من البيع وغيره من التصرفات الأخرى، وذلك لأن المقرر أن كل شيء حرم تناوله حرم ثمنه فلا يصح بيعه كالميتة، وأن هذا الحكم يسري كذلك بالنسبة للأجزاء المختلفة للميتة لإطلاق النهي عن بيعها1. وعلى هذا: فكل ما حرمه الله سبحانه على العباد فبيعه حرام، وذلك لنجاسته ولتحريم ثمنه، أو لعدم ماليته على رأي الحنفية حيث لم يشترطوا طهارة المبيع وحل ثمنه وإنما اكتفوا بمالية المبيع وإمكان الانتفاع به شرعاً، حيث إن ركن المالية عندهم هو الركن الأهم في البيع. وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه" 2.

_ 1 مواهب الجليل للحطاب 4/259، وبلغة السالك للصاوي 2/342، وروضة الطالبين للنووي 3/348، ومغني المحتاج للشربيني 2/11، والمجموع للنووي 9/213، والمغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 4/41 – 42، والمبدع لابن مفلح 4/14. 2 الحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد في المسند 1/247، 322، وأبو داود في السنن كتاب الإجارة باب في ثمن الخمر والميتة برقم 3488، وابن حبان في الصحيح 11/3134938، والضياء في المختارة 9/511 494 كلهم من طريق خالد الحذاء عن بركة بن الوليد عن ابن عباس مرفوعا، ورجاله كلهم ثقات، والشطر الأول من الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري كتاب البيوع باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه برقم 2111، ومسلم كتاب المساقاة باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام برقم 1583.

وقد جاء في المغني: "ولا يجوز بيع الخنْزير ولا الميتة ولا الدم – قال ابن المنذر:1 أجمع أهل العلم على القول به، وأجمعوا على تحريم الميتة والخمر، وعلى أن بيع الخنْزير وشراءه حرام، وذلك لما روى جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يقول: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والأصنام" متفق عليه23. وهذه نصوص المذاهب المختلفة، والتي يمكن من خلال النظر فيها تقرير وجهة ما قالوا به في هذا الشأن: مذهب الحنفية: يرى فساد بيع الميتة، لأن الميتة محرمة ويفسد البيع إذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرماً. فلم يجز بيع الميتة والدم لانعدام المالية التي هي ركن البيع فإنهما لا يعدان مالاً عند أحد وعليه فالبيع يكون باطلاً. فقد جاء في اللباب شرح الكتاب: "إذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرماً فالبيع فاسد كالبيع بالميتة أو بالدم أو بالخمر أو بالخنْزير"4. فهذا النص يذكر أن البيع بالميتة فاسد. وقال صاحب الهداية: "إذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرماً فالبيع فاسد كالبيع بالميتة والدم والخمر والخنْزير، وكذا إذا كان غير مملوك كالحر"5. وجاء في البحر الرائق: "لم يجز بيع الميتة والدم لانعدام المالية التي هي ركن

_ 1 هو محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري أبو بكر، فقيه مجتهد من الحفاظ، أكثر تصانيفه في بيان اختلاف العلماء، له مصنفات كثيرة منها "المبسوط في الفقه" و"الإشراف على مذاهب أهل العلم واختلاف العلماء" وتوفي رحمه الله سنة 319 ?. راجع: طبقات الشافعية للأسنوي 3/102 – 103، الأعلام للزركلي 6/484. 2 سبق تخريج الحديث صفحة 47. 3 ابن قدامة 4/302. 4 عبد الغني الغنيمي الدمشقي 1/194. 5 المرغيناني 8/139.

البيع، فإنهما لا يعدان مالاً عند أحد، وهو في قسم الباطل، والمؤلف1 رحمه الله لما استعمل الفاسد في الباب للأعم عبر بعدم الجواز الشامل للباطل والفاسد"2. فالحنفية يمنعون بيع الميتة ولا يعتبرونها محلاً للتعامل لأنها محرمة، وهم يفرقون فقط بين حالتين بسبب أنهم يفرقون بين الباطل والفاسد بحسب منهجهم في الأصول، وقالوا إن الميتة إذا كانت محلاً للتعاقد وكان المقابل لها نقداً كان العقد باطلاً في حين أنها إذا كانت ثمناً فإن العقد يكون فاسداً يملك فيه المبيع بالقبض من جانب المشتري لوجود حقيقة البيع وهو مبادلة مال بمال، فالحنفية يمنعون بيع الميتة بسبب حرمتها وعدم ماليتها، وأنهم فقط يخالفون الجمهور في وصف العقد، وقالوا بأنه يختلف هذا الوصف بحسب كون الميتة محلاً للعقد أي مبيعاً فإن العقد في هذه الحالة يكون باطلاً وإن كان ثمناً فالعقد يكون فاسداً وذلك كأثر لما عليه أصولهم من التفرقة بين الباطل بأصله وبين الفاسد بوصفه. مذهب المالكية: القول بعدم جواز بيع الميتة لنجاستها، ولأن النجس لا تحصل به منفعة فضلا عن النهي عنها، لتحريمها وتحريم ثمنها فقد عدو التعامل بشأنها من أكل أموال الناس بالباطل وهو منهي عنه.. فقد جاء في مواهب الجليل: "ولا يجوز بيع ميتة ... "3. مذهب الشافعية: يرى حرمة بيع الميتة لحرمتها ولنجاستها لاشتراطهم طهاره المبيع لصحة عقد البيع. وقد نص على هذا في المجموع: قال ابن المنذر: "أجمع العلماء على تحريم بيع الميتة"4. وفي مغني المحتاج: "إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة

_ 1 المؤلف هو صاحب كنْز الدقائق الفقيه عبد الله بن أحمد النسفي أبي البركات كان ببغداد سنة 710?، تفقه على شمس الأئمة الكردري والعتابي، له من المؤلفات كتاب المصفى المنافع شرح النافع والكافي شرح الوافي، توفي رحمه الله تعالى في ربيع الأول عام 701 في بلده إيدج. راجع: الجواهر المضية لمحي الدين القرشي برقم 692، تاج التراجم لابن قطلوبغا ص 174-175، الفوائد البهية للكنوي 101-102. 2 ابن نجيم 6/112. 3 الحطاب 4/258. 4 النووي 9/275.

والخنْزير والأصنام ... "1 مذهب الحنابلة: يرى عدم صحة بيع الميتة ولا شيء منها، ولو لمضطر، ولو كانت الميتة طاهرة كميتة الآدمي، لعدم حصول النفع بها. فقد ورد في كشاف القناع: "ولا يصح بيع ميتة ولا شيء منها ولو لمضطر"2. وكذلك جاء في الروض المربع: "ولا بيع ميتة ولو طاهرة كميتة آدمي لعدم حصول النفع بها" 3. وجاء فيه أيضاً: "الشرط الثالث - أي من شروط البيع -: أن تكون العين المعقود عليها أو على منفعتها مباحة النفع من غير حاجة ... والميتة لا يصح بيعها"4. بالموازنة بين أقوال الفقهاء: نجد أن الاتفاق قائم بينهم على تحريم بيع الميتة، وذلك لنجاستها ولتحريم ثمنها، أو لعدم ماليتها، أو لعدم جواز الانتفاع بها على قولهم، أي إن الفقهاء قد اتفقوا على منع بيع الميتة إلا أنهم قد اختلفوا فقط -في تعبيرهم عن هذا المنع ووجه تعليلهم له، فقد وجدنا الحنفية يعبرون عنه بالبطلان، في حين عبر عنه المالكية بعدم الجواز، والشافعية سلكوا في هذا مسلك التحريم، أما الحنابلة فقد عبروا عن هذا المنع بعدم الصحة، والناظر في هذا- يجد أنه مجرد خلاف في اللفظ فقط وبالتالي فلا أثر له لأنه لم يغير في الحكم المتفق عليه عندهم وهو منع بيع الميتة، بمراعاة أن الحنفية قد بنوا حكمهم بعدم انعقاد بيع الميتة على عدم ماليتها المعتبرة أساساً في عقد البيع وهذا لا يعني أنهم لا يقولون بحرمتها. هذا: وقد استدل من قال بمنع بيع الميتة لنجاستها وبالتالي لتحريم ثمنها وذلك على نحو ما ذهب جمهور الفقهاء – استدلوا بما يأتي: حديث جابر بن عبد الله السابق وفيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يقول: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام".

_ 1 الشربيني 3/393. 2 البهوتي 4/1386. 3 البهوتي 2/240. 4 البهوتي 2/240 – 241.

أن كل ما حرمه الله سبحانه على العباد فإن بيعه يحرم تبعاً لهذا، وذلك لنجاسته ولتحريم ثمنه، وهكذا الميتة والذي يدل على المبدأ السابق هو قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه". وقد رأيت المالكية يستدلون على تحريم بيع النجس ومنه الميتة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 1. وقالوا: إن الله سبحانه نهى عن أكل أموال الناس بالباطل والنجس لا تحصل به منفعة يسيرة فكأنه غير منتفع به أصلاً، فأخذ العوض عنه أكل لأموال الناس بالباطل المناقض للتجارة. وهكذا يستقر في الذهن القول بإجماع الفقهاء على منع بيع الميتة أياً كان تعبيرهم عن هذا على نحو ما سبق بيانه. والله تعالى أعلم.

_ 1 سورة النساء: الآية 29.

المبحث الثاني حكم بيع أجزاء الميتة

المبحث الثاني حكم بيع أجزاء الميتة تعرض الفقهاء لبيان حكم الشرع بشأن بيع أجزاء الميتة، كأثر من الآثار المهمة لما انتهوا إليه من البيان الخاص ببيع الميتة ذاتها، ومن هذه الأجزاء: العظم، والجلد، والشعر، وما يقرب منها، وسنعرض لما قالوا تبعاً في المطالب الآتية: المطلب الأول: حكم بيع عظم الميتة اختلف الفقهاء بشأن حكم بيع عظم الميتة ونحوه مثل القرن1، والحافر2، والظفر3، والظلف4، ومنشأ هذا الخلاف أنهم اختلفوا قبل ذلك بشأن مدى طهارة هذه الأشياء أو عدم ذلك، وهذا يستلزم -أولاً- ضرورة إلقاء الضوء على منهج العلماء فيه حتى يمكننا بالتالي الوقوف على حكم الشرع بشأن بيع عظم الميتة. أولاً: آراء الفقهاء بشأن طهارة عظم الميتة مذهب الحنفية: القول بطهارة عظم الميتة، من قرن، وظفر، ونحوهما، وبالتالي فإنه لا مانع من بيع هذه الأشياء، وإن كانوا قد استثنوا من هذا الحكم عظم الخنْزير، فقالوا بنجاسته باعتبار أصله، وذلك لأنه نجس العين، حيث وصفه الله سبحانه بكونه رجساً، فحرم استعمال شعره وسائر أجزائه. فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... وأما الذي له دم سائل فلا خلاف في الأجزاء التي فيها دم من اللحم والشحم والجلد ونحوها أنها نجسة، لاحتباس الدم النجس فيها، وهو الدم المسفوح، وأما الأجزاء التي لا دم فيها، وإن كانت صلبة كالقرن، والعظم، والسن، والحافر، والخف، والظلف، والشعر، والصوف، والعصب،

_ 1 القرن: للثور وغيره، وكبش أقرن كبير القرنين. راجع: لسان العرب لابن منظور 11/135. 2 الحافر: من الدواب يكون للخيل والبغال والحمير. راجع: لسان العرب لابن منظور 3/237. 3 الظفر: معروف، وجمعه أظفار، يكون للإنسان وغيره. راجع: لسان العرب لابن منظور 8/254. 4 الظلف: للبقرة والشاة والظبي وما أشبهها، والجمع أظلاف. راجع: لسان العرب لابن منظور 8/257.

والأنفحة، الصلبة، فليست بنجسة عند أصحابنا ... ولأصحابنا طريقان: أن هذه الأشياء ليست بميتة، لأن الميتة من الحيوان في عرف الشرع اسم لما زالت حياته لا بصنع أحد من العباد أو بصنع غير مشروع، ولا حياة في هذه الأشياء فلا تكون ميتة. والثاني: أن نجاسة الميتات ليست لأعيانها بل لما فيها من الدماء السائلة والرطوبات النجسة، ولم توجد في هذه الأشياء، وعلى هذا ما أبين من الحي من هذه الأجزاء وإن كان المبان جزءاً فيه دم كاليد والأذن والأنف ونحوها فهو نجس بالإجماع، وإن لم يكن فيه دم كالشعر والصوف والظفر ونحوها فهو على الاختلاف ... وأما الخنْزير ... فإنه نجس العين، لأن الله تعالى وصفه بكونه رجساً فيحرم استعمال شعره وسائر أجزائه، إلا أنه رخص في شعره للخرازين للضرورة. وروي عن أبي يوسف1 في غير رواية الأصول أنه كره ذلك أيضاً ولا يجوز بيعها في الروايات كلها...."2. فالحنفية: يرون أن أجزاء الميتة التي لا دم سائل فيها مثل القرن والعظم والسن والحافر والخف والظلف والشعر والعصب والأنفحة الصلبة، يرون أن هذه الأجزاء ليست بنجسة، لعدم حياة هذه الأجزاء، فلا تكون ميتة، أو أن نجاسة الميتات ليست لأعيانها، وإنما لما فيها من الدماء السائلة، وغيرها من الرطوبات النجسة، وهذه الأجزاء ليست بها دماء سائلة، ولا رطوبة فيها، ولهذا كانت غير نجسة. واتفقوا على نجاسة جميع أجزاء الخنْزير كالعظم والشعر ونحوها، وذلك لنجاسة أصله، فيحرم استعماله وجميع أجزائه، وإن كان الترخص في استعمال شعره للخرازين

_ 1 هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب القاضي الإمام، من ولد سعد بن حبتة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الفقه عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو المقدم من أصحابه جميعاً، ولي القضاء للهادي والمهدي والرشيد وهو أول من سمي قاضي القضاة، وأول من اتخذ للعلماء زياً خاصاً توفي رحمه الله سنة 188 ? من تصانيفه "الخراج" و"آداب القاضي" راجع: تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر أحمد البغدادي 14/242، والبداية والنهاية لابن كثير 10/180. 2 الكاساني 1/63.

للضرورة هو منصوص المذهب، خلافا لأبي يوسف، حيث روى عنه القول بكراهة ذلك. مذهب المالكية: قالوا إن العظم ونحوه كالقرن والحافر والظفر والظلف طاهر، طالما كان من حيوان مذكى ذكاة شرعية، من ذبح، ونحر، وعقر، ونحو ذلك وإن هذا الحكم وهو الطهارة يسري كذلك على أجزاء ذلك الحيوان المذكى من عظم ولحم وظفر وسن وجلد، وخلافه، وهذا يعني أن المحرم أكله فإنه لا أثر لهذه التذكية، وبالتالي فإن أجزاءه تظل محرمة بحسب أصله لنجاسته والنهي عن تناوله. فقد جاء في تقريرات الشيخ عليش1 بهامش حاشية الدسوقي2: " ... والطاهر: أَيُّ حيوانٍ ذكي ذكاة شرعية، من ذبح، ونحر، وعقر، ولحم، وظفر، وسن، وجلد، إلا محرم الأكل، كالخيل، والبغال، والحمير، والخنْزير. فإن الذكاة لا تنفع فيها، وأما مكروه الأكل، كسبع، وهر، فإن ذكي لأكل لحمه، طهر جلده تبعاً، لأنه يؤكل اللحم، وإن ذكي بقصد أخذ جلده فقد طهر، ولا يؤكل لحمه، لأنه ميتة بناء على تبعيض الذكاة وهو الراجح، وعلى عدم تبعيضها يؤكل"3. فمذهب المالكية: أن عظم الميتة يأخذ حكم أصله فإن كان من حيوان مذكى ذكاة شرعية، فإن يكون طاهراً وهذا يعني أن المحرم أكله فإنه لا أثر لهذه التذكية فإن أجزاءه تظل محرمة بحسب أصله لنجاسته. وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: "قوله: وجزؤه" إنما نص على

_ 1 هو محمد بن أحمد بن محمد عليش أبو عبد الله، فقيه من أعيان المالكية، مغربي الأصل، من أهل طرابلس الغرب، ولد بالقاهرة، وتعلم في الأزهر، وولي مشيخة المالكية فيه، ولما كانت ثورة عرابي باشا اتهم بموالاتها فأخذ من داره وهو مريض محمولاً لا حراك به، وألقي في سجن المستشفى من تصانيفه "فتح العلى المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك" و "منح الجليل على مختصر خليل" توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة 1299?. راجع: الأعلام للزركلي 6/19. 2 محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، من أهل دسوق بمصر، تعلم وأقام بالقاهرة من مؤلفاته حاشية على الشرح الكبير على مختصر خليل وكتاب الحدود الفقهية، توفي رحمه الله عام 1230?. راجع: عجائب الآثار للجبرتي 4/231، الأعلام للزركلي 6/17. 3 1/49.

الجزء بعد النص على الكل، لأنه لا يلزم من الحكم على الكل الحكم على الجزء ... "1. مذهب الشافعية: قالوا إن عظم الميتة ونحوه، كالقرن، والحافر، ونحوهما، يأخذ حكم ميتته، أي إنه نجس بنجاسة تلك الميتة وذلك لأن الأصل عندهم في هذا هو أن حكم الجزء المنفصل بعد الموت حكم ذات الميتة أي أنه على النجاسة بحسب الأصل، فعظم الميتة عند الشافعية نجس بنجاسة أصله. وإن كانوا قد استثنوا من هذا الأصل شعر الميتة، وصوفها، وريشها، ووبرها من المأكول، حيث قالوا بالإجماع على أنه طاهر إذا انفصلت من الميتة بعد موتها. فقد جاء في مغني المحتاج: " ... ودخل في نجاسة الميتة جميع أجزائها من عظم وشعر وصوف ووبر وغير ذلك، لأن كلا منها تحلّه الحياة، ودخل في ذلك ميتة دود نحو خل وتفاح فإنها نجسة ... والجزء المنفصل من الحيوان الحي ومشيمته كميتته أي ذلك الحي إِنْ طَاهِراً فطاهر وإن نجساً فنجس لخبر "ما قطع من حي فهو ميتة" 2 ... فالمنفصل من الآدمي، أو السمك، أو الجراد، طاهر، ومن غيرها نجس، وسواء في المشيمة: -وهي غلاف الولد- مشيمة الآدمي وغيره. أما المنفصل من بعد موته، فحكمه حكم ميتته، بلا شك، إلا شعر أو صوف أو ريش أو وبر المأكول فطاهر بالإجماع ... "3. فمناط الحكم عند الشافعية: أن الجزء المنفصل من الميتة يأخذ حكم ذات الميتة، وأنه يكون نجساً بنجاسة أصله، وقد استثنوا من ذلك الشعر والصوف والريش ونحوه. مذهب الحنابلة: القول بنجاسة عظم الميتة وظفرها ونحو ذلك لأنها تنجس بموت

_ 1 المرجع السابق نفس الموضوع. 2 الحديث أخرجه الإمام أحمد 5/218، وأبو داود برقم 2858، والترمذي 1/280 وقال: حديث حسن غريب، والحاكم 4/239 وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والحديث حسنه الشيخ الألباني في غاية المرام برقم 41. 3 الشربيني 1/114 - 115.

تلك الميتة، وهذا ما عليه المذهب وعليه الأصحاب، وفي رواية عن الإمام أحمد1 بأن هذه الأشياء طاهرة. فقد جاء في الإنصاف: قوله: "وعظمها وقرنها وظفرها: نجس وكذا عصبها وحافرها: يعني التي تنجس بموتها وهو المذهب وعليه الأصحاب، وعنه طاهر ... "2. وفي كشاف القناع: "وعظمها أي الميتة وقرنها وظفرها وعصبها وحافرها وأصول شعرها إذا نتف وأصول ريشها إذا نتف وهو رطب أو يابس نجس، لأنه من جملة أجزاء الميتة، أشبه سائرها، ولأن أصول الشعر والريش جزء من اللحم، لم يستكمل شعراً ولا ريشاً"3. الموازنة: من خلال النظر فيما سبق يتضح لنا أن الخلاف في مسألة طهارة عظم الميتة ينحصر في مذهبين أساسيين، مع خلاف ضعيف بالنسبة لوجه تعليل من قال بأن عظم الميتة نجس على نحو ما تقرر لدى المالكية في الشق الخاص بكون أصل ذلك العظم نجساً بأن كان من غير مأكول اللحم، أو كان منه من مأكول اللحم غير أنه لم يذك ذكاة شرعية. المذهب الأول: يرى أن عظم الميتة ونحوه كالقرن والحافر والظفر والظلف طاهر، وإلى هذا ذهب الحنفية، وإن كانوا قد استثنوا من ذلك عظم الخنْزير، أما الفيل فقد شبهه محمد بن الحسن4 بالخنْزير، وعند الإمام أبى حنيفة5 وأبى يوسف: يشبه

_ 1 هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الله من بني ذهل بن شيبان الذين ينتمون إلى قبيلة بكر بن وائل إمام المذهب الحنبلي وأحد أئمة الفقه الأربعة أصله من مرو وولد ببغداد امتحن في أيام المأمون والمعتصم ليقول بخلق القرآن فأبى وأظهر الله على يديه مذهب أهل السنة توفى رحمه الله سنة 241?. راجع: الأعلام للزركلي 1/192. 2 المرداوي 1/92 - 93. 3 البهوتي 1/70. 4 هو محمد بن الحسن بن فرقد نسبته إلى بني شيبان بالولاء أصله من حرسته من قرى دمشق، منها قدم أبوه العراق، فولد له محمد بواسط، ونشأ بالكوفة. إمام في الفقه والأصول، ثاني أصحاب أبي حنفية بعد أبي يوسف، هو الذي نشر مذهب أبي حنيفة بتصانيفه الكثيرة، ولي القضاء للرشيد بالرقة، ثم عزله، واستصحبه الرشيد من مخرجه إلى خراسان فمات محمد رحمه الله بالري سنة 189? من تصانيفه "الجامع الكبير" و"الجامع الصغير". راجع: الأعلام للزركلي 6/80، والبداية والنهاية لابن كثير 10/202.

السباع، وبالتالي فإنه يجوز بيع عظمه ونحوه وعلى القول بطهارة عظم الميتة رواية عن الإمام أحمد. المذهب الثاني: يرى أن عظم الميتة ونحوه كالقرن والحافر والظفر والظلف نجس وبالتالي لا يجوز بيعه وأن هذا ينطبق على كل مأكول اللحم وغيره، وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية والحنابلة. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول بما يأتي: أ - أن أم المؤمنين أم سلمة1 رضي الله عنها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء" 2. ب - أن أنس3 رضي الله عنه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتمشط بمشط من عاج"4. ? - أن ابن عباس5 رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله

_ 5 هو النعمان بن ثابت بن هرمز، ينتسب إلى تيم بالولاء، الفقيه المجتهد المحقق الإمام، أحد أئمة المذاهب الأربعة، قيل أصله من أبناء فارس، ولد ونشأ بالكوفة، كان يبيع الخز ويطلب العلم، ثم انقطع للدرس والإفتاء توفي رحمه الله سنة150هـ. راجع: الأعلام للزركلي 8/36. 1 أم المؤمنين أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية، واسمها هند، كان زوجها ابن عمها أبو سلمة بن عبد الأسد بن المغيرة، فمات عنها، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، أسلمت قديما هي وزوجها، وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، توفيت رضي الله عنها سنة 62?، وهي آخر أمهات المؤمنين موتا. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 3617، الإصابة في تميز الصحابة لابن حجر 8/404-406 برقم 12065. 2 الحديث: أخرجه الدارقطني في السنن 1/47، والبيهقي في السنن 1/24 3 الصحابي الجليل أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد المكثرين عنه من الرواية، لقبه ذو الأذنين، توفي رضي الله عنه عام 92? أو 93? وقد جاوز المائة. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر برقم 84، الإصابة في تميز الصحابة لابن حجر 1/275-278 برقم 277. 4 الحديث أخرجه البيهقي في السنن 1/26. 5 هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب قرشي هاشمي، حبر هذه الأمة وترجمان القرآن، ولد بمكة سنة =

تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} 1 "ألا كل شيء من الميتة حلال إلا ما أكل منها فأما الجلد والقرن والشعر والصوف والسن والعظم فكل هذا حلال لأنه لا يذكى" 2. د - "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثوبان3 رضي الله عنه أن يشتري لفاطمة رضي الله عنها قلادة من عصب وسوارين من عاج" 4 والعاج هو ناب الفيل، ولو كان نجساً ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشرائه، لأن النجس لا يجوز اعتباره محلاً للبيع أو الشراء. وهذه الآثار في مجملها تدل على طهارة العظام ونحوها مما يترتب عليه القول بجواز بيعها على نحو ما سيرد حالاً. هذا فضلاً عن أن السبب في حرمة الميتة إنما هو الرطوبة السيالة والدماء النجسة، ولما كانت العظام ونحوها لا رطوبة ولا دم فيها، فلا تتحقق نجاستها، وبالتالي فلا مانع من اعتبارها محلاً لإجراء التصرفات عليها ومنها البيع5. واستدل أصحاب المذهب الثاني بما يأتي: أ- أن الله سبحانه قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 6 والمعروف أن العظم ونحوه بعض الميتة ولهذا تسري عليه أحكامها من القول بالنجاسة وحرمة البيع للنهي عن بيع

_ = ثلاث قبل الهجرة أسلم صغيراً ولازم النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح وروى عنه، كان الخلفاء يجلونه، شهد مع علي الجمل وصفين، وكف بصره في آخر عمره، توفي رضي الله عنه بالطائف سنة 68 ?. راجع: الأعلام للزركلي 4/95. 1 سورة الأنعام الآية: 145. 2 الحديث أخرجه الدارقطني 1/47-48 والبيهقي في الكبرى 1/23 - 24. 3 هو محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامري، روى عن أبي هريرة وأبي سعيد وفاطمة بنت قيس وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وابن عباس وابن عمر وغيرهم. راجع: الطبقات لابن سعد 5/283. 4 الحديث: أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/275، وأبو داود في السنن كتاب الترجل باب ما جاء في الانتفاع بالعاج برقم 4213، والبيهقي في السنن 1/26. 5 بدائع الصنائع 5/142. 6 سورة المائدة: الآية 3.

الميتة في مجملها لنجاستها. ونوقش هذا: بأن المراد من هذه الآية الكريمة إنما هو حرمة الأكل، وذلك لأن الله سبحانه قد أخبر في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} 1، بما يفيد أن التحريم مقصور على ما يتأتى به الأكل، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح بذلك حين قال: "إنما حُرم أكلها" 2 يعني الميتة، ولما كان العظم وما يشابهه كالصوف وخلافه ليس من المأكولات فإن التحريم الوارد في الآية التي تمسكتم بها لا يشمله وبالتالي فلا ينصرف عليه حكم المنع من البيع الذي قلتم به3. ب- أن الحياة تحل بالعظام كاللحم وذلك عملاً بقوله سبحانه: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 4. والمقرر أن دليل الحياة هو الإحساس والألم، وهما موجودان في العظم فضلاً عن أن العظم ونحوه ينمو بنمو الجسم، وهذا يؤكد أن فيه الحياة التي يحلها الموت فتتحقق نجاسته بالموت، ويترتب على هذا القول بعدم جواز بيعه قياساً على أصل الميتة5. ونوقش هذا: بأن النمو والكبر لا يدل على الحياة ضرورة، حيث إن الشجرة والنبات يحدث لهما النماء رغم عدم الحياة فيهما، فضلاً عن عدم التسليم بأن العظم يتألم ويحس بتألم وإحساس اللحم المتصل به6.

_ 1 سورة الأنعام: الآية 145. 2 ذكر بعض العلماء أن المراد بهذا السمك والجراد. راجع: السنن الكبرى 1/23 - 24، وسنن الدارقطني 1/47 - 48. 3 أحكام القرآن للجصاص 1/148 - 149. 4 سورة يس: الآيتان 78 - 79. 5 مواهب الجليل للحطاب 4/261. 6 المبسوط للسرخسي 1/203 - 204.

والراجح في هذا الخلاف: -والله أعلم- هو ما ذهب إليه الحنفية ومن وافقهم من القول بطهارة عظم الميتة وذلك لقوة ما استدلوا به وإمكانهم الرد على ما تمسك به غيرهم ولعدم وجود نص صريح يدل على نجاسة العظام، بل وجد بعض النصوص تدل على طهارة عظم الميتة ونحوه وإن كثرة طرقها جعلها تقوي بعضها البعض حتى تحقق قوة الاستدلال. هذا بملاحظة: أن الخلاف بشأن مدى طهارة عظم الميتة وغير ذلك من جميع أجزائها جعلني أتعرض لبحث حكم بيع عظم الميتة لاستكمال وجه أثر هذا الخلاف خاصة وأن البعض اعتبر أصل هذه الأشياء وقال إنها نجسة بنجاسة أصلها مثلما فعل الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وإن كان بعض الفقهاء قد استثنى من هذا الحكم الشعر والظفر ونحو ذلك. وعليه: فإن بحث حكم بيع عظم الميتة هنا كان عملاً لأصل الخلاف في مسألة طهارة ذلك العظم، وأنه لا أثر لما رجحته من القول بطهارتها على مسار منهج البحث في الرسالة. ثانياً: موقف العلماء من إمكان بيع عظم الميتة مذهب الحنفية: ذهب فقهاء الحنفية إلى القول بجواز بيع عظم الميتة وعصبها وشعرها ووبرها وريشها وخفها وحافرها، وذلك لطهارتها، وإمكان الانتفاع بها. جاء في بدائع الصنائع: " ... وأما عظم الميتة وعصبها وشعرها وصوفها ووبرها وريشها وخفها وظلفها وحافرها فيجوز بيعها والانتفاع بها عندنا.."1. وجاء في الهداية: " ... ولا بأس ببيع عظم الميتة وعصبها وصوفها وقرنها وشعرها ووبرها، والانتفاع بذلك كله؛ لأنها طاهرة لا يحلها الموت لعدم الحياة"2. وقد استثنوا من ذلك عظم الخنْزير، فقالوا لا يجوز بيعه، واختلفوا في بيع شعره لاختلافهم في حكمه أطاهر هو أم نجس، والصحيح -عندهم- عدم بيعه لنجاسته،

_ 1 الكاساني 5/142. 2 المرغيناني 6/427.

وخالف محمد في بيع عظم الفيل، فمنع بيعه خلافاً للشيخين. " ... والفيل كالخنْزير نجس العين عند محمد رحمه الله وعندهما: بمنْزلة السباع حتى يباح عظمه وينتفع به ... " 1. وجاء في بدائع الصنائع: " ... أما عظم الخنْزير فلا يجوز بيعه ... وأما شعره فقد روي أنه طاهر يجوز بيعه، والصحيح أنه نجس لا يجوز بيعه ... وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمها الله أنه لا بأس ببيع عظم الفيل، وقال محمد -رحمه الله- عظم الفيل نجس لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به"2. وهكذا: فالحنفية لا يمنعون بيع عظم الميتة إلا عظم الخنْزير؛ حيث اتفقوا على منع بيع عظم الخنْزير لنجاسته بنجاسة أصله، في حين أنهم مختلفون بشأن حكم بيع عظم الفيل، حيث منع بيعه محمد بن الحسن لنجاسته ولعدم الانتفاع به، خلافا لما روى عن الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله من أنه لا بأس ببيع عظم الفيل. مذهب المالكية: اختلف فقهاء المالكية في حكم بيع عظام الميتة وقرونها وأظلافها والانتفاع بها، فقيل يجوز بيعها، وقيل لا يجوز وهو المشهور، ونقل عن ابن عرفة3 عن أصبغ4 أنه قال: إذا وقع البيع بعد صلق العظم فلا يفسخ إن فات، وأما إذا وقع البيع قبل صلق العظم فسخ مطلقاً، وهو قول مبني على القول بطهارة العظام بالصلق.

_ 1 الهداية للمرغيناني 6/427. 2 الكاساني 5/142. 3 هو محمد بن محمد بن عرفة الورغمي إمام تونس وعالمها وخطيبها ومفتيها، قدم للخطابة سنة 772?، وللفتوى سنة 773?، كان من كبار فقهاء المالكية، تصدى للدرس بجامع، تونس وانتفع به خلق كثير، توفي سنة 803? من تصانيفه "المبسوط" و"الحدود". راجع: الديباج المذهب لابن فرحون 2/331، والأعلام للزركلي 7/272. 4 هو أصبغ بن الفرج بن سعد بن نافع مولى عبد العزيز بن مروان من أهل الفسطاط، فقيه من كبار المالكية بمصر، رحل إلى المدينة إلى مالك ليأخذ عنه فدخلها يوم مات، وصحب ابن القاسم وابن وهب، وقدمه بعضهم على ابن القاسم، توفي رحمه الله بمصر سنة 225?. راجع: الأعلام للزركلي 1/336، والديباج المذهب لابن فرحون 1/299.

فقد ورد في مواهب الجليل: "أما عظام الميتة وقرونها وأظلافها ففي طهارة ذلك ونجاسته خلاف مذكور في الطهارة، والمشهور النجاسة في ذلك كله، وفي أنياب الفيل فيمنع البيع ... والمشهور أنه نجس فلا يباع ... انتهى ونقل عن ابن عرفة في الطهارة عن أصبغ أنه إذا وقع البيع فإن كانت العظام وأنياب الفيل صلقت فلا يفسخ إن فات، وإن لم تصلق فيفسخ ولو فات. انتهى، وهذا على قوله إنها تطهر بالصلق، وعلى المشهور يكون الحكم واحداً قبل الصلق وبعده"1. مذهب الشافعية: اتفق فقهاء الشافعية على عدم جواز بيع دهن الميتة وعصبها وشعرها وريشها. فقد جاء في المجموع: "ودهن الميتة وعصبها وشعرها ... وكذلك ريشها ... ولا يجوز بيعها بلا خلاف عندنا"2. هذا: ولم يصرح في كتب الشافعية التي اطلعت عليها3 إلا بالعصب دون العظم ويمكن تخريج حكم بيع العظم عليه. مذهب الحنابلة: القول بمنع بيع عظم الميتة حتى ولو كان ذلك للمضطر وكذا كان الانتفاع بها على أصل هذا المنع. فقد جاء في كشاف القناع: "ولا يصح بيع ميتة ولا شيء منها ولو لمضطر ... "4. وجاء في الإنصاف: " ... وعظمها وقرنها وظفرها نجس ... وهو المذهب ... وعليه الأصحاب وعنه طاهر ذكره في الفروع5 ... وهو المختار ... قال بعض الأصحاب فعلى هذا يجوز بيعه"6. فالمستفاد من نصوص الحنابلة: عدم صحة بيع الميتة وكذا كافة أجزائها بما في ذلك العظم ونحوه، على المذهب وما عليه فقهاء الحنابلة خلافاً للرواية الثانية والتي اختارها

_ 1 الحطاب 4/261. 2 النووي 9/270. 3 كالمجموع للنووي، ومغني المحتاج للشربيني، وقليوبي وعميرة. 4 البهوتي 4/1386. 5 الفروع في الفقه الحنبلي للشيخ شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي المتوفى سنة 763? راجع: كشف الظنون 2/1256. 6 المرداوي 1/92- 93.

المرداوي1. وبناء على هذا: فالمذهب عند الحنابلة: منع بيع عظم الميتة لنجاسته، وهناك رواية عن الإمام أحمد بطهارة عظام الميتة، وقد خرج بعض الحنابلة على هذا القول بجواز بيعها وأن هذا الحكم يشمل كذلك غير العظم في جميع أجزاء الميتة مثل اللبن، والأنفحة، والقرن، والظفر، والعصب، والحافر، والدهن. فأساس منع بيع العظم ونحوه عند الحنابلة هو نجاسة هذه الأشياء، خلافاً لمن قال منهم بطهارتها وبنى على ذلك القول بجواز بيعها. الموازنة: بمراجعة نصوص ما ذكره الفقهاء بشأن حكم بيع عظم الميتة يتضح لنا الآتي: أ- منع بيع عظم الميتة ومنع الانتفاع به. وإلى هذا ذهب المالكية في القول المشهور عندهم وهو مذهب الشافعية والحنابلة أيضاً. ب- جواز بيع عظم الميتة والانتفاع به شرعاً على خلاف فرعي فيما يتعلق بالاستثناء من هذا الحكم خاصة بالنسبة لعظم الخنْزير وعظم الفيل ونابه وذلك على النحو الآتي: 1- جواز بيع عظم الميتة والانتفاع به شرعاً، وهذا قول المالكية غير المشهور، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، وهي الرواية المختارة في المذهب، وهو مذهب الحنفية على خلاف بينهم في عظم الخنْزير والفيل ونابه 2- بالنسبة لعظم الخنْزير -خاصة- فقد استثناه الحنفية من حكم جواز البيع والانتفاع به لنجاسته وهذا هو المذهب عند الحنفية.

_ 1 هو علي بن سليمان بن أحمد بن محمد المرداوي السعدي، أبو الحسن علاء الدين، شيخ المذهب وإمامه، ولد سنة 817? بمراد، تفقه على الشيخ تقي الدين بن قندس البعلي، من مصنفاته الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، والتحرير في أصول الفقه، توفي رحمه الله سنة 885? بالصالحية. راجع: شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي 9/511، المنهج الأحمد لعبد الرحمن العليمي 5/290-298.

3- بالنسبة لعظم الفيل: فقد أضافه محمد بن الحسن إلى المنع، وقال بأنه لا يجوز بيعه والانتفاع به، وأنه في هذا شأنه شأن عظم الخنْزير. وهناك قول للمالكية: أنه يجوز بيعه والانتفاع به بعد الصلق لا قبله. وعلى هذا: انحصر الخلاف في عظم الميتة في مذهبين: أحدهما بالمنع والآخر بالجواز. وهناك خلاف فرعي فيما يتعلق بعظم الخنْزير وعظم الفيل خاصة عند من قال بجواز الانتفاع بعظم الميتة وذلك في وجه استثناء عظم الخنْزير وعظم الفيل. هذا: وقد بنى من منع بيع عظم الميتة هذا الحكم على القول بنجاسة أصل ذلك العظم والميتة فقد تنجس بنجاستها. واعتبروا هذا دليلاً لهم وهذا يسري على منع الحنفية لبيع عظم الخنْزير وإضافة محمد بن الحسن بيع عظم الفيل، في حين أن من قال بجواز بيع عظم الميتة فقد بنى هذا الجواز على القول بطهارته كما هو الحال عند الإمام أحمد في رواية له ومقابل المشهور عند المالكية وعلى قول من لم يشترط طهارة المبيع كالحنفية والاكتفاء بماليته. والذي يترجح لدي من هذا الخلاف: ما ذهب إليه الحنفية من القول بجواز بيع عظم الميتة والانتفاع به ما عدا عظم الخنْزير بناءً على ما ترجح من قولهم - 1 بشأن طهارته - وعلى هذا فلا مانع من اعتبار عظم الميتة محلاً للتصرفات المالية ومنها البيع والاتجار فيه شأنه في هذا شأن باقي الطاهرات المباحة، خاصة لو كان في هذه العظام نفع للعباد، وذلك لأن المقرر شرعاً أن كل ما فيه مصلحة ونفع للعباد لا يمنعه الشرع بل يسهل طرق التعامل فيه طالما أنه غير محظور شرعاً، مع مراعاة الاستثناء الخاص بالنسبة لعظم الخنْزير وجميع أجزائه حيث استثنى ذلك في إباحة الانتفاع والتداول بالبيع ونحوه، وذلك لنجاسة عينه المقرر بالكتاب والسنة، وهذا الذي ترجح هنا هو أصل مذهب الحنفية الذي أوقف استثناء المنع من البيع عند عظم الخنْزير باعتبار

_ 1 راجع: صفحة 68.

نجاسة عينه وهذا شامل كذلك لما توسع فيه محمد بن الحسن من تخريجه عظم الفيل على أصل المنع لعظم الخنْزير، وبناء عليه فإن عظم الفيل هو الآخر غير جائز بيعه وأنه لا خلاف بين محمد بن الحسن وفقهاء الحنفية إلا في التوسع في الاستثناء وأنه معهم في القول بطهارة عظم الميتة وإمكان الانتفاع بها من بيع ونحوه وأنه يستثنى من هذا الحكم عظم الخنْزير كما قالوا وأضاف هو كذلك عظم الفيل. وهكذا يكون الراجح في هذا الخلاف ما عليه أصل مذهب الحنفية من القول بجواز بيع عظم الميتة تحقيقاً لمصالح العباد خاصة وأنهم لا يشترطون طهارة المبيع طالما تحققت ماليته. وهذا هو أصل الكلام في المسألة بمراعاة استثنائهم لعظم الخنْزير حيث نصوا على إخراجه من هذا الحكم ومنعوا بيعه، أما بالنسبة لاستثناء عظم الفيل فإنه يترجح شموله بالاستثناء وسريانه عليه كما هو مذهب محمد بن الحسن لأنه أقرب ما يكون في نجاسته للخنْزير والمعنى القائم عليه الاستثناء موجود ومتحقق فيه هو الآخر. والله تعالى أعلم.

المطلب الثاني: حكم بيع جلد الميتة

المطلب الثاني حكم بيع جلد الميتة اختلف العلماء بشأن مدى جواز بيع جلد الميتة وإخضاعه للتصرفات الأخرى، وهذا الخلاف نشأ عن خلاف في مسألة أخرى وهي مدى تأثير الدبغ على طهارة الجلد1، وهذا يستلزم ضرورة تحقيق القول في هذا الخلاف أولاً، وإظهار وجه الحق

_ 1 الدباغ: هو معالجة الجلود بمادة ليلين ويزيل ما به من رطوبة ونتن. راجع: المعجم الوسيط للدكتور إبراهيم أنيس وجماعه 1/270. والدباغ على ضربين: أحدهما حقيقي: وهي أن يدبغ بشيء له قيمة كالقرظ والعفص والشب ونحوها من كل ما يمنع النتن والفساد. والثاني: حكمي: وهو أن يدبغ بالتشميس والتشريب والإلقاء في السريح، والنوعان مستويان في سائر الأحكام إلا في حكم واحد وهو أنه لو أصابه الماء بعد الدبغ الحقيقي لا يعود نجساً أما بعد الدبغ الحكمي ففيه روايتان، ويرى الشافعية أن الجلد لا يطهر إلا بالدبغ الحقيقي فقط غير أنه لا وجه لهذه التفرقة حيث لا خلاف في الأثر بينهما =

منه بترجيح ما يترجح بالدليل، حتى يمكننا كشف وجه الحقيقة بشأن صلب هذا المبحث والمقصد منه وهو حكم بيع جلد الميتة. أولاً: موقف العلماء من تأثير الدبغ على طهارة الجلد اختلف العلماء بشأن مدى تأثير الدبغ على طهارة الجلد، وذلك على النحو الأتي: مذهب الحنفية: القول بطهارة جميع الجلود بالدبغ ما عدا جلد الخنْزير والآدمي، فأما الخنْزير فلنجاسته بالنص القطعي، وهو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 1 وأما الإنسان فلكرامته وتشريفه حيث قال سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} 2. فالدبغ له تأثيره على كافة الجلود حيث قالوا بطهارتها بعده، خلافاً لجلد الخنْزير لنجاسته، وجلد الآدمي لكرامته. فمذهب الحنفية: أن الدبغ مطهر للجلود وأنه بهذا تكون محلاً للبيع والشراء بعد الدبغ، باستثناء جلد الخنْزير لنجاسته، وجلد الآدمي لكرامته. فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... فالدباغ تطهر للجلود كلها إلا جلد الإنسان والخنْزير ... والصحيح أن جلد الخنْزير لا يطهر بالدباغ، لأن نجاسته ليست لما فيه من الدم والرطوبة، بل هو نجس العين فكان وجود الدباغ في حقه والعدم بمنزلة واحدة. وقيل إن جلده لا يحتمل الدباغ، لأن له جلوداً مترادفة، بعضها فوق بعض، كما للآدمي، وأما جلد الإنسان فإن كان يحتمل الدباغ وتندفع رطوبته بالدبغ ينبغي أن يطهر، لأنه ليس بنجس العين

_ = هذا: وضابط الدباغ عند الشافعية: نزع فضوله وهي مائيته ورطوبته التي يفسده بقاؤها ويطيبه نزعها بحيث إنه لو نقع في الماء لم يعد إليه النتن والفساد وهذا يحدث بحريف مثل القرظ والعفص وقشر الرمان ولا يكفي عندهم التجميد بالتراب ولا بالشمس ونحو ذلك مما لا ينزع الفضول. راجع: المهذب للشيرازي 1/10، سبل السلام للصنعاني 1/30، ونيل الأوطار للشوكاني 1/73. 1 سورة المائدة: الآية 3. 2 سورة الإسراء: الآية 70.

لكن لا يجوز الانتفاع به احتراماً له"1. مذهب المالكية: يقولون بأن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، وبالتالي لا يجوز بيعه، وذلك على مشهور المذهب، ولا يصلى عليه، وأن هذا قول الإمام مالك رحمه الله خلافاً لمن قال بطهارة الجلد المدبوغ للمنافع دون الصلاة على نحو ما ذكره ابن رشد2. ولمن رخص فيه مطلقاً إلا من خنْزير بعد دبغه في يابس وماء وهذا هو المشهور في قول مالك. فقد جاء في مواهب الجليل: " ... قال في التوضيح3: اختلف عبارة أهل المذهب في جلد الميتة المدبوغ، فقال أكثرهم مطهر طهارة مقيدة أي يستعمل في اليابسات والماء وحده، وقال عبد الوهاب4 وابن رشد نجس ولكن رخص في استعماله في ذلك ولذلك لا يصلى عليه وهو خلاف لفظي، ولفظ ابن رشد من سماع أشهب5 من كتاب الطهارة المشهور من قول مالك المعلوم من مذهبه أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ، وإنما يجوز الانتفاع به في المعاني التي ذكرت ... فجلود الميتات كلها نجسة ولو دبغت على المشهور ... "6.

_ 1 الكاساني 1/85 – 86. 2 هو القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي المالكي المولود سنة 405? وتفقه على كثير من العلماء وأخذ عنه القاضي عياض وغيره ومن مؤلفاته "المقدمات لأوائل كتب المدونة" وتوفي رحمه الله سنة 520?. راجع: شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف 1/129، والديباج المذهب لابن فرحون 2/150. 3 كتاب فقهي للعلامة خليل بن إسحاق اختصره في مختصره المشهور. 4 هو القاضي عبد الوهاب بن إسحاق بن علي بن نصر بن أحمد بن حسين البغدادي المالكي، ولد ببغداد سنة 362?، وولي القضاء في أسعرد، وبادرايا في العراق ورحل إلى الشام فمر بمعرة النعمان واجتمع بأبي العلاء، وتوجه إلى مصر فعلت شهرته وتوفي رحمه الله فيها سنة 422? من تصانيفه "النصرة لمذهب مالك". راجع: الأعلام للزركلي 4/184، والديباج المذهب لابن فرحون 2/26. 5 هو أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجعدي فقيه الديار المصرية في عهده كان صاحب الإمام مالك قال الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه وقيل: اسمه مسكين وأشهب لقب له مات بمصر رحمه الله سنة 204?. راجع: الأعلام للزركلي 1/335. 6 الحطاب 1/101.

وجاء في التاج والإكليل: " ... والمشهور المعلوم من قول مالك أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ ... ولا يصلى عليه، ورخص فيه مطلقاً إلا من خنْزير بعد دبغه في يابس وماء، ابن رشد: المشهور أن جلد الميتة لا يطهره الدباغ إلا للمنافع دون الصلاة، وفي هذه المسألة خمسة أقوال الآتي منها على مذهب مالك في المدونة أن الذي يطهر بذلك جميع الجلود إلا جلود الدواب، وجلود الخنْزير، ومن سماع أشهب من الضحايا وإذا دبغ جلد الميتة فقال ابن عرفة المشهور أنه يستعمل في اليابسات والماء فقط ... "1. وورد في الشرح الكبير: "وجلد" إذا لم يدبغ بل ولو دبغ فلا يؤثر دبغه في طهارة في ظاهره ولا باطنه وخبر: "أيما إهاب2 دبغ فقد طهر" 3 ونحوه محمول – عندنا في مشهور المذهب على الطهارة اللغوية وهي النظافة، ولذا جاز الانتفاع به فيما أشار له المصنف بقوله: ورخص فيه أي جلد الميتة مطلقاً سواء كان من جلد مباح الأكل أو محرمة، إلا من جلد خنْزير فلا يرخص فيه مطلقاً ذكي أم لا، لأن الذكاة لا تعمل فيه إجماعاً فكذا الدباغ على المشهور"4. وجاء في حاشية الدسوقي: " ... قوله وجلد يعني أن الجلد المأخوذ من الحي أو الميت نجس قوله "ولا باطنه" خلافاً لسحنون5 وابن عبد الحكم6 القائلين أن

_ 1 المواق 1/101. 2 الإهاب: هو الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ، وقيل: هو اسم للجلد سواءً دبغ أم لا. راجع: لسان العرب لابن منظور 1/252. 3 أخرجه مسلم في كتاب الحيض باب طهارة جلود الميتة بالدباغ برقم 366. 4 الدردير 1/54. 5 ابن الإمام: هو محمد بن عبد السلام "سحنون" بن سعيد بن حبيب التنوخي أبو عبد الله فقيه مالكي من أهل القيروان لم يكن في عصره أحد أجمع لفنون العلم منه كان كريم اليد وجيهاً عند الملوك عالي الهمة رحل إلى المشرق وتوفي بالساحل ونقل إلى القيروان ودفن بها رحمه الله سنة 256?. راجع: الديباج المذهب لابن فرحون 2/169، الأعلام للزركلي 6/204. 6 هو عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن الليث، فقيه مصري، من أجلّ أصحاب مالك، أفضت إليه الرياسة بمصر بعد أشهب، وكان صديقا للشافعي، وعليه نزل الشافعي بمصر، وعنده مات. من مصنفاته "المختصر الكبير" و"سيرة عمر بن عبد العزيز" ولد بالإسكندرية سنة 150 توفي رحمه الله تعالى سنة 214?. راجع: الديباج المذهب لابن فرحون 1/419، والأعلام للزركلي 4/95.

جلد الميتة مطلقاً ولو لخنْزير يطهر بالدباغ طهارة شرعية"1. فخلاصة مذهب المالكية: الاختلاف بشأن طهارة جلد الميتة وبالتالي الانتفاع به وذلك على النحو الآتي: أكثر المالكية: إن جلد الميتة المدبوغ طاهر طهارة مقيدة، يعني أنه يستعمل في اليابسات والماء. وقال عبد الوهاب وابن رشد: إن جلد الميتة نجس، غير أنه قد رخص في استعماله في ذلك أي في اليابسات والماء، ولهذا فإنه لا يصلى عليه. المشهور من مذهب الإمام مالك: أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، وإنما يجوز الانتفاع به فيما ذكر. وعلى هذا فالمشهور عند المالكية أن جلد الميتة نجس، وأنه لا يطهره الدباغ. ذكر صاحب التاج والأكليل: أن في هذه المسألة خمسة أقوال، وقال: إن الآتي منها على مذهب مالك في المدونة أن الذي يطهر بذلك جميع الجلود إلا جلود الدواب وجلود الخنْزير، ومن سماع أشهب من الضحايا، وإذا دبغ جلد الميتة فقال ابن عرفة: المشهور أنه يستعمل في اليابسات والماء فقط. ويرى ابن عبد الحكم وسحنون أن جلد الميتة مطلقاً يطهر بالدباغ طهارة شرعية ولو كان جلد خنْزير. مذهب الشافعية: يرون أن جلد الميتة يطهر بالدبغ سواءً كان الجلد لحيوان مأكول اللحم أو كان لغيره، غير أنهم أخرجوا من هذا الحكم كلاً من الخنْزير والكلب، والثابت عندهم هو أن ظاهر الجلد وهو ما لاقى الدابغ يطهر قطعاً أما باطنه وهو ما لم يلاق الدابغ فيطهر على المشهور عندهم، وعلى القول الثاني لا يطهر باطن الجلد لأن آلة الدبغ لا تصل إليه، وهو مردود عليه بأنها تصل إليه بواسطة الماء أو رطوبة الجلد. وبناء على هذا: يكون الراجح عندهم أن باطن الجلد يطهر بالدبغ كظاهره

_ 1 الدسوقي 1/54.

فقد جاء في مغني المحتاج: " ... وجلد نجس بالموت ولو من غير مأكول فيطهر بدبغه يعني باندباغه ولو بإلقاء الدابغ عليه بنحو ريح، أو إلقائه على الدابغ كذلك ظاهره وهو ما لاقى الدابغ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما أهاب دبغ فقد طهر" رواه مسلم وفيه في البخاري "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" وكذا باطنه وهو ما لم يلاق الدابغ على المشهور لظاهر الخبرين المتقدمين، والثاني: يقول آلة الدبغ لاتصل إلى الباطن، ودفع بأنها تصل إليه بواسطة الماء أو رطوبة الجلد"1. فالشافعية: على أن الجلد يطهر بالدباغ وبالتالي يجوز بيعه، وأنهم قد استثنوا من ذلك جلد الخنْزير وجلد الكلب، فلا تأثير للدبغ عليه، وهذا ما عليه المذهب بالاتفاق بالنسبة لظاهر الجلد الذي يلاقي الدبغ، غير أنهم قد اختلفوا بالنسبة لباطن الجلد غير الملاقي للدبغ من حيث مدى تأثير ذلك الدبغ عليه، والمشهور في المذهب أنه يطهر بالدبغ، وأنه في هذا كظاهره. مذهب الحنابلة: يقولون إن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ إذا كان لميتة نجس، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أن الدبغ يؤثر في طهارة الجلد إذا كان جلداً لمأكول اللحم في حال الحياة وبالتالي فإنه يطهر، وذلك مثل جلد الإبل، والبقر، والغنم، وعنه أنه يطهر من جلود الميتة جلد ما كان طاهراً في الحياة من إبل وبقر، ولو كان كذلك جلداً لحيوان غير مأكول كالهر وما دونه خلقة، ولا يطهر جلد ما كان نجساً في حياته كالكلب ولحمه كذلك لأنه ليس محلاً للذكاة. فقد جاء في كشاف القناع: " ... ولا يطهر جلد ميتة نجس بموتها بدبغه ... وعنه أي عن الإمام أحمد يطهر منها أي من جلود الميتة جلد ما كان طاهراً في الحياة من إبل وبقر وغنم وظباء ونحوها، ولو كان جلداً لحيوان غير مأكول كالهر وما دونه خلقة ... ولا يطهر جلد ما كان نجساً في حياته، كالكلب بذكاة كما لا يطهر لحمه بها لأنه ليس محلاً للذكاة فهو ميتة فلا يجوز ذبحه لذلك أي لجلده أو لحمه لأنه عبث وإضاعة لما قد

_ 1 الشربيني 1/117.

ينتفع به ... "1. وجاء في الإنصاف: "ولا يطهر جلد الميتة يعني النجسة بالدباغ – هذا المذهب نص عليه أحمد في رواية الجماعة وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم وهو من مفردات المذهب، وعنه يطهر منها جلد ما كان طاهراً في حال الحياة ... وعنه يطهر جلد ما كان مأكولاً في حال الحياة ... "2. وفي موضع آخر: " ... وأطلق أبو الخطاب3 جواز بيع جلد الميتة ... "4. الموازنة: بمطالعة ما قاله الفقهاء نجد أن خلاصة القول هو أن المسألة يحكمها اتجاهان هما في الحقيقة مذهبان يعالجان الحكم الشرعي بشأنها وذلك على النحو الآتي: الاتجاه الأول: يرى أن جلد الميتة يطهر بالدباغ، وهذا ما عليه الجمهور، وهو الراجح غير أن هؤلاء لهم وجهة بنى كل مسلك قوله عليها حيث يرى: الحنفية: أن جلد الميتة يطهر مطلقا بالدباغ أي سواء كان لمأكول اللحم أم لا، وأخرجوا من هذا الحكم جلد الخنْزير حيث إنه لا يطهر بالدباغ، وهذا ما عليه إجماع الفقهاء، خلافا لسحنون وابن عبد الحكم. المالكية: يطهر بالدباغ كل جلد حتى جلد الخنْزير وهذا ما قال به سحنون وابن عبد الحكم، وهناك قول للمالكية أنه يطهر طهارة مقيدة باستعماله في اليابسات فقط، وأنه لا يصلى عليه. الشافعية: يسلكون ذات مسلك الحنفية بشأن القول بطهارة جلد الميتة، وإن كانوا

_ 1 البهوتي 1/66 – 68. 2 المرداوي 1/86 – 87. 3 هو محفوظ بن أحمد الكلوذاني أبو الخطاب إمام الحنابلة في وقته أصله من كلواذا بضواحي بغداد ومولده ووفاته ببغداد رحمه الله سنة 432 ? من كتبه "التمهيد في أصول الفقه" و"الانتصار في المسائل الكبار". راجع: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلي 4/ 409. 4 الإنصاف للمرداوي 4/269.

يضيفون الكلب في إخراجه من هذا فضلاً عن الخنْزير. الحنابلة: يقولون يطهر بالدباغ جلد الطاهر حال الحياة، وكذا حال مأكول اللحم. الاتجاه الثاني: يرى أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، وأنه لا تأثير للدبغ في هذا الشأن، وهذا هو المذهب المرجوح في المسألة، ولمن قال به وجهات مختلفة في مسلكه وهي حدود المنع أو التقييد: الحنفية: يرون أن جلد الخنْزير لا يطهر بالدباغ. المالكية: أنه لا يؤثر الدباغ في طهارة المدبوغ، وهذا قول عند المالكية، وفي قول عندهم أن هذا خاص بالمائعات. الشافعية: يرون أن جلد الخنْزير والكلب لا يطهران بالدباغ. الحنابلة: يرون عدم تأثير الدبغ على جلد ما كان نجسا في حالة حياته، أو كان غير مأكول اللحم حيث لا يطهر بالدباغ. وعلى هذا: فمجمل القول في المسألة مذهبان: المذهب الأول: أن جلد الميتة يطهر بالدباغ مطلقاً سواء كان ذلك لحيوان مأكول اللحم أم كان لغير، وإلى هذا ذهب الحنفية ما عدا الخنْزير، والشافعية ما عدا الخنْزير والكلب، وسحنون وابن عبد الحكم من المالكية حتى لو كان جلد الخنْزير، وهو قول للمالكية في اليابسات فقط، والحنابلة فيما عليه الإمام أحمد خاصة بالنسبة لجلد الطاهر في الحياة أو كان لمأكول اللحم. المذهب الثاني: يرى أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، وهو عند الحنفية بالنسبة للخنْزير، وعند الشافعية بالنسبة للخنْزير والكلب، وهو قول عند المالكية في المائعات، وقول عند الحنابلة لجلد ما كان نجساً في حالة حياته أو كان جلداً غير مأكول اللحم. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول بما يأتي: أ- ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "مر على شاة ميتة

فقال: " هلا انتفعتم بإهابها"، فقالوا: إنها ميتة، فقال: " إنما حرم أكلها". ب- ما رواه ابن عباس أيضاً حيث قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" 1. وفي رواية أخرى: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" 2. وقد وجه الحنفية ومن وافقهم الاستدلال بهذين الحديثين بأن لفظ الإهاب ورد بهما عاماً وهذا يدل على شموله لكل جلد، وهذا بطبيعة الحال مع مراعاة ما سبق بيانه من تحفظ الحنفية والشافعية بالنسبة لجلد الخنْزير لنجاسته، وبالتالي فلا يؤثر فيه الدبغ بخلاف الكلب عند الحنفية، لأنهم يرون عدم نجاسة عينه حال الحياة للانتفاع به في الحراسة والصيد، وهذا بخلاف ما عليه الشافعية من أن كلاً من الكلب والخنْزير نجس العين حال الحياة، وأنه لا يدفع الدبغ النجاسة عن جلدهما3. واستدل أصحاب المذهب الثاني بما يأتي: فقد وجه هؤلاء ما استند عليه أنصار المذهب الأول – من لفظ الطهارة الواردة في الحديثين المذكورين "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"، "أيما إهاب دبغ فقد طهر" وجهوا هذا بأن المراد الطهارة اللغوية يعني النظافة4. أ- أن الله سبحانه قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 5 والمعروف أن جلد الميتة جزء منها فكان محرماً هو الآخر فلم يطهر كاللحم، فضلاً عن أنه جزء محرم بالموت فكان نجساً كما كان قبل الدبغ حيث تأبدت نجاسته. ب- ما روي عن عبد الله بن عكيم6 حيث قال: كتب إلينا النبي صلى الله عليه وسلم "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب

_ 1 الحديث بهذا اللفظ أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الحيض باب طهارة جلود الميتة بالدباغ برقم 366. 2 الحديث بهذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/219، 270، والترمذي في السنن كتاب اللباس باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت برقم 1728 وقال حسن صحيح، والنسائي في المجتبى كتاب الفرع والعتيرة باب جلود الميتة برقم 4241، وابن ماجة في السنن كتاب اللباس باب لبس جلود الميتة إذا دبغت برقم 3609، وابن حبان في صحيحه 4/103، 104. 3 المجموع للنووي 1/254، وشرح فتح القدير لابن الهمام 1/82، وبدائع الصنائع للكاساني 1/ 85. 4 حاشية الدسوقي 1/54. 5 سورة المائدة الآية 3. 6 عبد الله بن عُكَيم، أبو معبد الجهني الكوفي، مخضرم، وقد سمع كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهينة، توفي في إمرة الحجاج. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر برقم 1628، الإصابة في تميز الصحابة لابن حجر 6/166 برقم 4849 أسد الغاية لابن الأثير الجزري 3/239.

ولا عصب" 1 لأن هذا الحديث ناسخ لما قبله لأنه كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بشهر وذلك على نحو ما رواه ابن عكيم، كما أن لفظه يدل على ما سبق الترخيص والمقرر أن اللاحق ينسخ السابق وأن الثابت هو الأخذ بأحد الأمرين وهو عدم الانتفاع مطلقاً من الميتة بشيء، هذا فضلاً عن أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى جهينة2 "إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" 3 وفي التاريخ الكبير للبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم: "ألا تنتفعوا من الميتة بشيء" 4 5. ونوقش هذا: بأن حديث عبد الله بن عكيم مرسل وذلك لعدم سماع عبد الله من النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن اضطراب سنده ومتنه، فتارة يقول عن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة يقول عمن قرأ الكتاب، وأخرى عن مشيخة من جهينة وأن الأكثر رواه من غير تقييد، ومنهم رواه بتقيد شهر أو شهرين أو أربعين يوماً أو ثلاثة أيام يدبغ، وبهذا يمكن الجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى فينتفي التعارض بينهما. أو أن هذا الحديث عام في النهي عن الانتفاع بالميتة مطلقاً، والأحاديث التي سبق ذكرها كحديث ابن عباس، وحديث ميمونة مخصصة لهذا النهي بما قبل الدباغ مصرحة بجواز الانتفاع بعد الدباغ، والخاص مقدم على العام سواء تقدم أو تأخر، وهذا فضلاً عن أن الأحاديث التي ثبتت الدباغ أصح إسناداً وأكثر رواة، وسالمة من الاضطراب، فهي أقوى وأولى من حديث عبد الله بن عكيم، ولأنها أيضاً عن سماع،

_ 1 الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند4/311، وأبو داود كتاب اللباس باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة برقم 4127، والترمذي كتاب اللباس باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت برقم 1729 وقال حديث حسن، والنسائي كتاب الفرع والعتيرة باب ما يدبغ به جلود الميتة برقم 4249، 4250، 4251، وابن ماجة كتاب اللباس باب من قال لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب برقم 3613. 2 بنو جهينة -بضم الجيم وفتح الهاء وسكون المثناة تحت وفتح النون بعدها- حي من قضاعة من القحطانية، وهم بنو جهينة بن زيد بن ليث بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاني بن قضاعة. راجع: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي 204، معجم البلدان لشهاب الدين الحموى 2/194. 3 الحديث بهذا اللفظ أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط 1/39. 4 هذا اللفظ أخرجه البخاري في تاريخه الكبير7/167، وابن حبان في صحيحه 4/95، راجع: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رحمه الله برقم 3133. 5 نيل الأوطار للشوكاني 1/78، 79، وجامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير 7/112- 113.

وحديث عبد الله بن عكيم عن كتابة، والسماع أقوى من الكتابة 1. وبالنسبة لاستدلال أصحاب هذا المذهب بالآية من سورة المائدة، فإنه يرد عليه بأن هذه الآية خصصتها الأحاديث الواردة في هذا الشأن، التي تثبت طهارة جلد الميتة بالدباغ. ويرى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه يطهر بالدباغ جلد ما كان طاهراً في الحياة كالهر، لأن حديث "أيما إهاب دبغ فقد طهر" يتناول الحيوان المأكول وغيره، فيخرج منه ما كان نجساً، لكون الدبغ إنما يؤثر في رفع نجاسة حادثة بالموت، فيبقى ما عداه على العموم، وروي عن الأمام أحمد أيضاً أنه يطهر بالدباغ مأكول اللحم 2. والذي يترجح لدي في هذا الخلاف: هو القول بطهارة جلد الميتة إذا دبغ، سواء كان الحيوان مأكول اللحم أم لا، باستثناء جلد الكلب والخنْزير، لأن نجاستهما عينيه لا يؤثر الدباغ فيها. ثانياً: حكم بيع جلد الميتة بعد أن ترجح لدينا القول بطهارة جلد الميتة بعد دبغه، فإنه يلزمنا البحث عن حكم بيع هذه الجلود وإجراء جميع التصرفات عليها من الاستعمال والاقتناء ونحو ذلك، عملاً بأصل الخلاف في مسألة طهارة جلد الميتة، فضلاً عن أصل الميتة ذاتها. فبحث حكم بيع جلد الميتة هنا متفرع على الحديث عن الميتة ذاتها من هذه الزاوية فضلاً عن أن الخلاف حاصل بين الفقهاء بشأن مدى طهارة جلد الميتة من عدمه، سواء كان قبل الدبغ أو بعده، وهذا كله استلزم أن نقوم بالحديث عن حكم بيع جلد الميتة. وهذا ما قاله الفقهاء في هذا الشأن: مذهب الحنفية: أن جلد الميتة المدبوغ يجوز بيعه والانتفاع به، حتى ولو كان لغير مأكول اللحم، طالما أنه قد دبغ، وذلك لإباحة الانتفاع به شرعاً، ولتحقق جانب المالية

_ 1 المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 1/58، والإنصاف للمرداوي 1/86. 2 راجع: المرجعين السابقين: الموضع نفسه.

فيه، وهذا هو الركن الأعظم عندهم في عقد البيع وقد نص المذهب على أن الجلد غير المدبوغ لا يجوز بيعه، لوجود الرطوبات السيالة فيه، وبهذا فإنه يأخذ نفس حكم الميتة من حيث الحرمة ومنع بيعه شرعاً، وأن جلد الخنْزير لا ينعقد بيعه حتى ولو دبغ، وذلك لنجاسة عينه، وأن أصل المذهب طهارة الجلود بالدباغ، وجواز بيعها، بمراعاة تحفظهم بالنسبة لجلد الخنْزير خاصة. فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... وأما جلد السبع والحمار والبغل، فإن كان مدبوغاً أو مذبوحاً يجوز بيعه لأنه مباح الانتفاع به شرعاً، فكان مالاً، وإن لم يكن مدبوغاً ولا مذبوحاً، لا ينعقد بيعه، لأنه إذا لم يدبغ ولم يذبح بقيت رطوبات الميتة فيه، فكان حكمه حكم الميتة، ولا ينعقد بيع جلد الخنْزير كيف ما كان لأنه نجس العين بجميع أجزائه، وقيل إن جلده لا يحتمل الدباغ ... ولأن حرمة الميتة ليست لموتها فإن الموت موجود في السمك والجراد وهما حلالان قال عليه الصلاة والسلام "أحل لنا ميتتان ودمان" 1 بل لما فيها من الرطوبات السيالة والدماء النجسة لانجمادها بالموت ولهذا يطهر الجلد بالدباغ حتى يجوز بيعه لزوال الرطوبة عنه"2. وجاء في الهداية: " ... قال ولا بيع جلود الميتة قبل أن تدبغ، لأنه غير منتفع به، قال عليه الصلاة والسلام "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب" وهو اسم لغير المدبوغ، ... ولا بأس ببيعها والانتفاع بها بعد الدباغ، لأنها قد طهرت بالدباغ"3. مذهب المالكية: اختلف فقهاء المالكية في حكم بيع جلود الميتة، فقد نقل في المشهور عندهم أنه لا يجوز بيع جلود الميتة والانتفاع بها حتى ولو دبغت. وقيل يجوز بيعها بعد الدبغ لا قبله، والقولان مبنيان على قولهم بشأن الطهارة لهذه الجلود خاصة بعد دبغها.

_ 1 الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/97، وابن ماجه في السنن برقم 3314، والدارقطني 4/271، والبيهقي في السنن 1/254، 9/257، 10/7 2 الكاساني 5/142. 3 شيخ الإسلام برهان الدين المرغيناني 6/426 – 427.

أما قبل الدبغ: فقيل لا يجوز اتفاقاً كما في رواية ابن حارث1 وإن كان ابن رشد المالكي قد روى لنا خلافاً في مذهب المالكية بشأن مدى إمكان الانتفاع بالجلد قبل دبغه وبالتالي جواز بيعه ثلاثة أقوال: الأول: لابن وهب2 الذي قال بجواز البيع والانتفاع، وهذا القول مبني على سماعه عن ابن القاسم 3. الثاني: القول بمنع البيع والانتفاع، وهذا هو المروي عن ابن القاسم ورواية عن مالك. الثالث: يجوز الانتفاع دون البيع وهذا القول روى عن ابن القاسم. أما مذهب المدونة فهو منع البيع مطلقاً لعد ذلك من البيوع الفاسدة يعني قبل الدبغ وبعده. فقد جاء في مواهب الجليل: " ... وكذلك جلود الميتة لا يجوز بيعها وإن دبغت، وقيل يجوز، وقال في التوضيح القولان مبنيان على الطهارة ومقابل المشهور لابن وهب في جواز البيع بعد الدبغ انتهى. ونقل ابن عرفة هذين القولين بعد الدبغ، أما قبله فنقل في ذلك طريقتين الأولى لابن حارث لا يجوز اتفاقاً، والثانية لابن رشد في جواز البيع والانتفاع ثلاثة أقوال:

_ 1 هو محمد بن الحارث بن أسد أبو عبد الله الخشني القيرواني ثم الأندلسي، فقيه مؤرخ من الفقهاء الحفاظ، تفقه بالقيروان على أحمد بن نصر وأحمد بن زياد وغيرهم، انتقل إلى قرطبة وتفقه عليه قوم من أهله، كان حافظاً للفقه مقدماً فيه نبيهاً ذكياً عالماً بالفتيا، وولي الشورى بقرطبة. من تصانيفه الاتفاق والاختلاف في مذهب مالك، والفتيا، والرواة عن مالك، توفي رحمه الله نحو 366?. راجع: الأعلام للزركلي 6/75. 2 هو عبد الله بن وهب بن مسلم أبو محمد الفهري بالولاء المصري من تلاميذ الإمام مالك والليث بن سعد جمع بين الفقه والحديث والعبادة كان حافظاً مجتهداً عرض عليه القضاء فامتنع ولزم منْزله، توفي رحمه الله بمصر سنة 197?. راجع: الأعلام للزركلي 4/144. 3 هو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن القاسم شيخ حافظ حجة فقيه صحب الإمام مالكاً وتفقه به وبنظرائه لم يرو أحد الموطأ عن مالك أثبت منه وروى عن مالك المدونة خرج عنه البخاري في صحيحه وأخذ عنه أسد بن الفرات توفى رحمه الله بالقاهرة سنة 191 ?. راجع: الأعلام للزركلي 4/97، والديباج المذهب لابن فرحون 1/465.

الأول: الجواز فيهما لابن وهب مع قيامه من سماع ابن القاسم. الثاني: المنع فيهما وهو المتقدم في قول ابن القاسم وروايته عن مالك ... والثالث: يجوز الانتفاع لا البيع، وهو رواية لابن القاسم ... ومذهب المدونة: المنع من بيع ذلك كله. قال في البيوع الفاسدة منها ولا يجوز بيع ميتة ولا جلدها وإن دبغ.."1. مذهب الشافعية: اتفق فقهاء الشافعية على عدم جواز بيع الجلد قبل الدبغ، وجواز ذلك بعد دبغه وإجراء جميع التصرفات عليه لأنه طاهر منتفع به، فقد نص المذهب على أن جلد الميتة المدبوغ طاهر حتى ولو كان من غير مأكول اللحم، وعلة المنع قبل الدبغ هي وجود الرطوبات السيالة والدماء النجسة بخلاف حالة الجلد بعد الدبغ من زوال الرطوبة عنه والسيولة مما يترتب على ذلك طهارته وصحة بيعه. فقد جاء في مغني المحتاج: " ... وجلد نجس بالموت ولو من غير مأكول فيطهر بدبغه يعني باندباغه، ولو بإلقاء الدابغ عليه بنحو ريح، أو إلقائه على الدابغ كذلك ظاهره وهو ما لاقى الدابغ لقوله صلى الله عليه وسلم "أيما إهاب دبغ فقد طهر" رواه مسلم وفيه وفي البخاري "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" وكذا باطنه وهو ما لم يلاق الدابغ على المشهور لظاهر الخبرين المتقدمين، والثاني: يقول آلة الدبغ لا تصل إلى الباطن ودفع بأنها تصل إليه بواسطة الماء أو رطوبة الجلد فعلى الثاني لا يصلى فيه ولا يباع ولا يستعمل في الشيء الرطب، وأما على الأول فهو كالثوب المتنجس ... ويصير المدبوغ والمندبغ كثوب نجس أي متنجس ... وعلى هذا: هل يطهر بمجرد نقعه في الماء أو لا بد من استعمال الأدوية ثانياً؟ وجهان: أصحهما في زيادة الروضة2. الثاني، والمراد نقعه في ماء كثير وإذا لم نوجبه فيصلى فيه بعد غسله، ويجوز بيعه وإن لم يغسله ما لم يمنع

_ 1 الحطاب 4/261. 2 المقصود به ما ذكره النووي غريبا من الزيادات غير مضاف إلى قائله، ذكر ذلك في مقدمة كتابه روضة الطالبين 1/6، ط المكتب الإسلامي، راجع المجموع شرح المهذب 1/280-281.

من ذلك مانع ... "1. مذهب الحنابلة: اتفق فقهاء الحنابلة على منع بيع جلد الميتة قبل دبغه، واختلفوا في حكم بيع جلد الميتة بعد دبغه، والصحيح في المذهب القول بمنع بيع ذلك الجلد حتى بعد دبغه، وذلك بناءً على القول بنجاسته وعدم طهارته بالدباغ، وفي المذهب قول بجواز بيع جلد الميتة وهذا ما قال به أبو الخطاب بناء على القول الذي أفاد الطهارة بعد الدبغ، مع اختلافهم فيما يطهر بالدبغ، فقيل يطهر جلد جميع ما كان طاهراً حال الحياة وهو الصحيح في المذهب، وقيل بل تقتصر على ما كان مأكولاً. فقد جاء في المغني: "ولا يجوز بيع جلد الميتة قبل الدبغ قولاً واحداً، قاله ابن أبي موسى2، وفي بيعه بعد الدبغ عنه خلاف ... والصحيح عنه أنه لا يجوز وهذا ينبني على الحكم بنجاسة جلود الميتة وأنها لا تطهر بالدباغ"3. وجاء في الإنصاف: "ما يطهر بدبغه انتفع به، ولا يجوز أكله على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب ونص4 عليه5 وقيل: يجوز، وقال في مكان آخر: ويحرم استعمال جلد الآدمي إجماعاً ... ولا يطهر بدبغه، وأطلق بعضهم وجهين انتهى. وفي رواية ... يجوز بيعه على الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب، وعنه لا يجوز ... كما لو لم يطهر بدبغه، وكما لو باعه قبل الدبغ ... وأطلق أبو الخطاب جواز بيعه مع

_ 1 الشربيني 1/117 – 118. 2 هو محمد بن أحمد بن محمد بن أبي موسى بن أحمد بن موسى أبو علي الهاشمي القاضي كان ثقة وهو أحد فقهاء الحنابلة كان يدرس ويفتي في جامع المدينة من تصانيفه الإرشاد وشرح كتاب الخرقي توفي رحمه الله تعالى سنة 428?. راجع: معجم مصنفات الحنابلة للدكتور عبد الله الطريقي 2/26، والأعلام للزركلي 5/314. 3 ابن قدامة 4/287 – 288. 4 المقصود نص عليه: أي الإمام أحمد. 5 لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} والجلد منها وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما حرم من الميتة أكلها" ولأنه جزء من الميتة فحرم أكله كسائر أجزائها، ولا يلزم من الطهارة إباحة الأكل بدليل الخبائث مما لا ينجس بالموت، ثم لا يسمع قياسهم في ترك كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. راجع: ابن قدامة 1/70.

نجاسته كثوب نجس ... فيتوجه منه بيع نجاسة يجوز الانتفاع بها"1. وجاء في كشاف القناع: " ... ويجوز استعماله أي الجلد المدبوغ من ميتة طاهرة في الحياة فقط في يابس بعد دبغه، لأنه عليه الصلاة والسلام وجد شاة ميتة أعطتها مولاة لميمونة2 من الصدقة فقال عليه الصلاة والسلام: "ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به" ولأن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا فارس انتفعوا بسروجهم وأسلحتهم وذبائحهم ميتة، ونجاسته لا تمنع الانتفاع به كالاصطياد بالكلب وركوب البغل والحمار. ومفهوم كلامه أنه لا يباح الانتفاع به قبل الدبغ مطلقاً، لمفهوم الحديث. قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: فأما قبل الدبغ فلا ينتفع به قولاً واحداً ولا الانتفاع به بعد الدبغ في مائع من ماء أو غيره لأنه يفضي إلى تعدي النجاسة ... كما يحرم بيع جلد الميتة النجس قبله أي قبل الدبغ، وعنه: أي عن الإمام يطهر منها أي من جلود الميتة ما كان طاهراً في الحياة من إبل وبقر وغنم وظباء ونحوها، ولو كان جلداً لحيوان غير مأكول كالهر وما دونه خلقة ... ولا يطهر جلد ما كان نجساً في حياته كالكلب بذكاة، كما لا يطهر لحمه بها، لأنه ليس محلاً للذكاة فهو ميتة ... "3. فالمستفاد من نصوص الحنابلة: أنه لا يجوز بيع جلد الميتة قبل الدبغ قولاً واحداً، وإن كان الخلاف فقط في حكم بيعه بعد الدبغ والصحيح في المذهب أنه لا يجوز بناء على قولهم بعدم طهارة الجلود بدبغها وأن جلود الميتة تظل نجسة حتى بعد دبغها وبالتالي فلا يجوز بيعها لعدم تحقق شرط الطهارة. وبالنسبة لطهارة جلود الميتة، فهناك رواية عن الإمام أنه يطهر بالدبغ جلود ميتة

_ 1 المرداوي 1/ 89 – 90. 2 هي ميمونة بنت الحارث بنت حزن الهلالية آخر امرأة تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وآخر من مات من زوجاته كان اسمها برة فسماها النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة بايعت بمكة قبل الهجرة وكانت زوجة أبي رهم بن عبد العزى العامري ومات عنها فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع للهجرة وروت عنه ستة وسبعين حديثاً، توفيت رضي الله تعالى عنها في"سرف" وهو الموضع الذي كان فيه زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم قرب مكة ودفنت بهت توفيت 51هـ. راجع: الأعلام للزركلي 7/342 والإصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني 4/411. 3 البهوتي 1/67 – 68.

ما كان طاهراً في الحياة، من إبل، وبقر، وغنم، وظباء، ونحوها، حتى ولو كان جلداً لحيوان غير مأكول كالهر وما دونه خلقه. في حين أنه لا يطهر جلد ما كان نجساً في حياته كالكلب حتى ولو كان ذلك بذكاة قياساً على عدم طهارة لحمه وأن هذه التذكية لا أثر لها لأن الحيوان ليس محلاً للذكاة فهو ميتة حتى ولو تمت ذكاته. الموازنة: نجد أن الفقهاء قد اختلفوا بشأن حكم بيع جلد الميتة بسبب اختلافهم في أثر الدباغ على جلد الميتة وهذا خلاصة ما قالوه: أولاً: منع بيع جلد الميتة مطلقاً، أي سواء كان ذلك بعد الدبغ أو قبله من مأكول اللحم أم لا من مذكى أم لا، وهذا ما ذهب إليه المالكية على نحو ما ورد في المدونة، وهو المروي عن ابن الحارث من المالكية، وهو أحد القولين المحكيين عن ابن عرفة كما أنه هو المنقول عن ابن الحارث في إحدى الطريقين لديه خاصة قبل الدبغ، وهذا هو المذهب الصحيح عند الحنابلة. ثانياً: منع بيع جلد الميتة ومنع الانتفاع به قبل الدبغ، وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وإن كان ابن رشد ذكر فيه خلافاً وأورد فيه ثلاثة أقوال أحدها موافق لما قال به الجمهور من القول بمنع البيع ومنع الانتفاع. ثالثاً: منع بيع جلد الميتة وجواز الانتفاع به فقط، وهذا هو القول الثالث عند ابن رشد. رابعاً: جواز بيع جلد الميتة وجواز الانتفاع به، وهذا على القول الثاني عند ابن رشد وهو مبني على سماعه عن ابن القاسم، وهذا هو قول أبي الخطاب. خامساً: جواز بيع جلد الميتة بعد الدبغ سواء كان من غير مأكول اللحم، وهذا أثر لعملية الدبغ وهذا نص المذهب الشافعي وهو أحد القولين المحكيين عن ابن عرفة. سادساً: جواز بيع جلد الميتة بعد الدبغ لما كان مأكول اللحم، وهو ما ذهب إليه الحنفية. ويمكن إجمال الآراء في حكم بيع جلد الميتة في مذهبين:

الأول: الجواز على تفصيل في هذا الجواز. الثاني: المنع على تفصيل في هذا المنع. الأدلة: استدل القائلون بالجواز بما يأتي: 1- ما ورد في حديث ميمونة السابق عرضه عند الحديث عن إمكان طهارة الجلد بالدبغ، وذلك لأن المقرر أن البيع أحد وجوه الانتفاع بهذه الجلود المدبوغة، خاصة وأن الجلد المدبوغ له أهميته في حياة الناس، حيث إنه يدخل في كثير من الصناعات، وهذا بلا شك يعود على الإنسان بالخير والنفع المرادين في تحقيق مقصد التشريع الإسلامي الحنيف، ففي هذا الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما والذي ورد فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشاه ميتة فقال "هلا انتفعتم بإهابها فقالوا إنها ميتة. فقال إنما حرم أكلها". وفي الحديث الأخر يقول ابن عباس أيضاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"، وفي رواية أخرى "أيما إهاب دبغ فقد طهر"، وفي هذا القول ورد لفظ الإهاب عاماً وهذا يدل على شموله لكل جلد، طالما أنه قد لحقه الدبغ وعولج به حتى ولو كان الحيوان غير مأكول اللحم، وحتى لو لم يكن لحيوان مذكى، لأن هذا هو الأثر المباشرة لعملية الدبغ، خاصة وأن الحيوان غير نجس في عينه كالخنْزير عند الحنفية، وكالكلب والخنْزير عند الشافعية. 2- أن الصحابة –رضوان الله عليهم- لما فتحوا فارس انتفعوا بسروجهم وأسلحتهم وذبائحهم ميتة، ونجاسته لا تمنع الانتفاع به كالاصطياد بالكلب وركوب البغل والحمار1. 3- أن الجلد بعد الدبغ مباح الانتفاع به شرعاً فكان مالاً، وأن حرمة الميتة ليست لموتها، فإن الموت موجود في السمك والجراد وهما حلالان، بل لما فيها من الرطوبات السيالة والدماء النجسة لانجمادها بالموت، ولهذا يطهر الجلد بالدباغ حتى

_ 1 كشاف القناع للبهوتي 1/67.

يجوز بيعه لزوال الرطوبة عنه 1. واستدل المانعون لبيع جلد الميتة بما يأتي: تمسك المانعون سواء من قال بمنع بيع جلد الميتة مطلقاً، أو من قال بمنع ذلك قبل الدبغ، أو من قال بمنعه من غير مأكول اللحم ونحو ذلك، تمسكوا بنفس أوجه استنادهم فيما قالوه من عدم طهارة جلد الميتة حتى ولو كان ذلك بعد الدبغ، ولو كان من مأكول اللحم ونحوه. 1- ما روي عن عبد الله بن عكيم – حيث قال: كتب إلينا النبي صلى الله عليه وسلم "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" لأن هذا الحديث ناسخ لما قبله، لأنه كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بشهر، وذلك على نحو ما رواه ابن عكيم كما أن لفظه يدل على ما سبق الترخيص والمقرر أن اللاحق ينسخ السابق، وأن الثابت هو الأخذ بأحد الأمرين، وهو عدم الانتفاع مطلقاً من الميتة بشيء، هذا فضلاً عن أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى جهينة "إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" وفي التاريخ الكبير للبخاري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم ألا تنتفعوا من الميتة بشيء". ونوقش هذا: بأن حديث عبد الله بن عكيم مرسل لعدم سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى أنه مضطرب السند والمتن. فضلاً عن أنه يمكن القول بأن هذا الحديث عام في النهي عن الانتفاع بالميتة، ومن هذا بيع جلد الميتة، غير أنه قد خصص بحديث ميمونة، خاصة وأن هذا بعد الدبغ، كما أن حديث ميمونة أصح إسناداً من حديث ابن عكيم. 2- أن جلد الميتة جزء منها، وحيث كانت محرمة كان هو الآخر محرماً ولهذا فلا يمكن الانتفاع به بالبيع ونحوه والدليل على أن الميتة وجميع أجزائها محرم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 2.

_ 1 بدائع الصنائع للكاساني 5/142. 2 سورة المائدة الآية 3.

هذا فضلاً عن أن الجلد جزء محرم من الميتة بالموت فكان نجساً كما لو كان قبل الدبغ حيث تأبدت نجاسته فامتنع بيعه خاصة عند من يشترط طهارة المبيع وإمكان الانتفاع به شرعاً1. والراجح في هذا الخلاف: هو القول بجواز بيع جلد الميتة بعد دبغه حيث يؤثر الدبغ على الجلد بالطهارة، وإمكان الاستعمال والانتفاع به، وترتيباً على هذا جاز بيعه، لأن هذا هو إعمال للأثر المباشر للدبغ خاصة لو كانت الميتة لمباح أي حلال وقت الحياة تخريجاً على إباحة استعمال وبيع جلد المدبوغ والمذكى ذكاة شرعية، وهذا الذي يترجح هنا موافق لما عليه كل من الحنفية والشافعية وبعض المالكية وبعض الحنابلة بمراعاة ما قالوه من الاستثناءات الواردة في شأن طهارة الجلد المدبوغ كالخنْزير عند الحنفية، والكلب والخنْزير عند الشافعية، حيث لا يؤثر فيه الدبغ، وبالتالي فلا إمكان من بيعه حتى بعد الدبغ، وذلك لنجاسة أصله عند من اشترط طهارة المبيع، وإمكان الانتفاع به، كالشافعية والحنابلة، وحتى عند من لم يشترط هذا واكتفى بالمالية، وذلك لإهانة الخنْزير والكلب، حيث إن في البيع رفعاً لتلك الإهانة. ومما يؤكد هذا الرجحان: قوة ما استدل به المجوزون لبيع جلد الميتة المدبوغ، وسلامته من المعارضة والاضطراب، فضلاً عن أن الدبغ أزال النجاسة المانعة من البيع، والله أعلم.

_ 1 نيل الأوطار للشوكاني 1/80 – 81، وجامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير 7/112 – 113.

المطلب الثالث حكم بيع شعر الميتة

المطلب الثالث حكم بيع شعر الميتة اختلف الفقهاء بشأن بيع شعر1 الميتة ونحوه، كالصوف2 والوبر3 والريش وزغب

_ 1 الشعر: نبتة الجسم مما ليس بصوف ولا وبر وهو في الإنسان وغيره مثل الماعز. راجع: لسان العرب لابن منظور 7/133. 2 والصوف: للشاة أي للضأن والغنم. راجع: لسان العرب لابن منظور 7/443. 3والوبر: للإبل والأرانب ونحوها. راجع: لسان العرب لابن منظور 15/199.

الريش1، بناء على خلافهم في حكم طهارتها، وهذا يعني أن الحديث عن إظهار حكم الشرع بخصوص بيع شعر الميتة، متوقف على القول بطهارة هذا الشعر وما في حكمه من عدمه، وهذا يستدعي ضرورة إلقاء الضوء على ما قاله الفقهاء بخصوص طهارة الشعر والصوف ونحوه، حتى نتمكن من إظهار حقيقة الخلاف بشأن حكم بيع الشعر وما يترجح فيه. أولاً: موقف الفقهاء من طهارة الشعر والصوف ونحوهما اختلف الفقهاء بشأن طهارة شعر الميتة ونحوه، من الصوف، والوبر، والريش، والزغب، ونحوه، وذلك على النحو الآتي: مذهب الحنفية: يقولون بطهارة شعر الميتة ونحوه، واستثنوا من ذلك شعر الخنْزير على الصحيح عندهم، فقد قالوا إنه نجس لا يجوز بيعه إهانة له، ويجوز الانتفاع به للخرز للضرورة فإن ذلك العمل لا يتم بدونه، والفيل نجس العين كالخنْزير عند محمد بن الحسن، وعندهما بمنْزلة السباع فيباح عظمه وينتفع به. فقد جاء في الهداية: " ... ولا بأس ببيع عظام الميتة وعصبها وصوفها وقرنها وشعرها ووبرها والانتفاع بذلك كله، لأنها طاهرة لا يحلها الموت لعدم الحياة ... ولا يجوز بيع شعر الخنْزير لأنه نجس العين، فلا يجوز بيعه إهانة له، ويجوز الانتفاع به للخرز للضرورة، فإن ذلك العمل لا يتأتى بدونه ... والفيل كالخنْزير نجس العين عند محمد رحمه الله، وعندهما بمنْزلة السباع حتى يباح عظمه وينتفع به ... "2. وجاء في بدائع الصنائع: " ... وأما عظم الميتة ... وشعرها وصوفها ووبرها وريشها ... إن هذه الأشياء طاهرة عندنا ... وأما شعره فقد روى أنه طاهر ... والصحيح أنه نجس ... "3.

_ 1 والريش: كسوة الطائر، أما زغب الريش فهو ما التف حول القصبة من الجانبين. راجع: لسان العرب لابن منظور 5/388. 2 المرغيناني 6/425 - 427. 3 الكاساني 5/142.

فالمستفاد من نصوص مذهب الحنفية: أن عظم الميتة وشعرها وصوفها ووبرها وريشها طاهرة عند الحنفية، أما عظم الخنْزير وكذا شعره، فقد اختلف في المذهب بشأن طهارته، فقيل إنه طاهر، غير أن الصحيح في المذهب أنه نجس، وأن الفيل كالخنْزير نجس العين عند محمد بن الحسن وكذا شعره. مذهب المالكية: صوف ووبر وشعر وزغب وريش جميع الدواب طاهر، حتى ولو كان من الخنْزير وحتى لو جزت بعد موتها، لأن هذه الأشياء لا تحلها الحياة، وما لا تحله الحياة لا ينجس بالموت، واستحب في المدونة1 والرسالة2 أن تغسل إذا جزت من ميتة، وروى ابن رشد من سماع أشهب أن الغسل لا معنى له إذا لم تصبه نجاسة، أما ابن حبيب3 فقد أوجب غسلها مطلقاً، والصحيح في المذهب وجوب غسلها إذا تيقنت إصابتها بالنجاسة. فقد جاء في حاشية الدسوقي: "والطاهر صوف من غنم، ووبر من إبل وأرنب ونحوهما، وزغب ريش -وهو ما حول القصبة، مما يشبه الشعر-، وشعر-بفتح العين- وقد تسكن من جميع الدواب ولو من خنزير، وأشار إلى شرط طهارة هذه الأشياء بقوله: إن جزت ولو بعد الموت، لأنها مما لا تحله الحياة وما لا تحله الحياة، لا ينجس

_ 1 المدونة: وتسمى عند المالكية بالأم، أشرف ما ألف في الفقه من الدواوين، وهي أصل المذهب وعمدته، فإذا أطلق الكتاب فإنما يريدونها لصيرورته عندهم علما بالغلبة عليها، من إملاء ابن القاسم أجل تلامذة مالك. راجع: اصطلاح المذهب للدكتور محمد إبراهيم أحمد علي صفحة 148 2 الرسالة الفقهية، أكثر كتب ابن أبي زيد انتشارا، وأعظمها تأثيرا في الميدان التعليمي الفقهي بخاصة، زادت شروح الكتاب عن مائة شرح، ومؤلفها لقب بمالك الصغير، وهو جامع مذهب مالك وشارح أقواله. راجع: اصطلاح المذهب للدكتور محمد إبراهيم أحمد علي صفحة 243. 3 هو عبد الملك بن حبيب بن سليمان السلمي، من ولد العباس بن مرداس، كان عالم الأندلس رأساً في فقه المالكية، أديباً، مؤرخاً، سكن قرطبة ورحل إلى الشرق وسمع فيها من عبد الملك بن الماجشون وتوفي رحمه الله تعالى في رمضان سنة 238?. راجع: الأعلام للزركلي 4/302، الديباج المذهب لابن فرحون 2/154.

بالموت"1. وجاء في التاج والإكليل: "وصوف ووبر وزغب ريش وشعر ولو من خنزير إن جزت ابن عرفه الشعر والصوف والوبر من أي محل أخذ من غير قلع من غير مذكى طاهر، وكذا شعر الخنْزير عند مالك وابن القاسم"2. جاء في مواهب الجليل: "فرع" إذا جزت هذه الأشياء المذكورة من ميتة فاستحب في المدونة والرسالة أن تغسل؛ قال ابن رشد في سماع أشهب ولا معنى له إذا علم أنه لم يصبه أذى، وأوجب ابن حبيب غسلها فإن تيقنت نجاسته فلا شك في وجوب غسله"3. مذهب الشافعية: يرون أن شعر أو صوف أو ريش أو وبر مأكول اللحم طاهر بالإجماع، وإن الجزء المنفصل من الحيوان الحي –عامة– يأخذ حكم ميتة ذلك الحيوان، فإن كان طاهراً فهو طاهر، وإن كان نجساً فجزؤه نجس، فالمنفصل من الآدمي أو السمك أو الجراد طاهر والمنفصل من غيرها نجس، وأن المنفصل من الحيوان بعد موته فهو كميتته، كذلك أي أنه يكون نجسا، وقالوا إن الشعر على العضو المبان نجس إن كان ذلك العضو نجساً تبعاً، وقالوا إن شعر المأكول المنتف الطالع بأصوله من الجلد في حال حياته طاهر وإلا فهو متنجس يطهر بغسله طالما أن أصله قد انفصل مع شيء مما نبت فيه من الجلد لما فيهما من رطوبه، وقالوا بأن المنفصل من غير المأكول كالحمار الأهلي يكون نجساً، وأنه لو شككنا هل الجزء المنفصل كان من طاهر أو من نجس؟ قلنا بطهارته وذلك لأن الأصل الطهارة والشك في النجاسة والأصل عدم هذه النجاسة فستصحبنا الأصل، وهذا بخلاف الحال فيما لو شككنا هل الجزء المنفصل من مذكي أم لا؟ حيث يعتبر من غير المذكى؛ لأن الأصل عدم التذكية، وأنهم لم يستثنوا من ذلك سوى الشعر، وما في حكمه كالصوف، والريش، والوبر، طالما كان ذلك من

_ 1 الدسوقي 1/49. 2 المواق مطبوع بهامش مواهب الجليل 1/89. 3 الحطاب 1/89.

مأكول اللحم، حيث قالوا بطهارته. فقد جاء في مغني المحتاج: "والجزء المنفصل من الحيوان الحي ومشيمته كميتته أي ذلك الحي، إن طاهر فطاهر، وإن نجساً فنجس لخبر "ما قطع من حي فهو ميتة" رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين1. فالمنفصل من الآدمي أو السمك أو الجراد طاهر، ومن غيرها نجس، وسواء في المشيمةـ وهي غلاف الولدـ مشيمة الآدمي وغيره. أما المنفصل من بعد موته فحكمه حكم ميتة بلا شك إلا شعر أو صوف أو ريش أو وبر المأكول اللحم فطاهر بالإجماع، ولو نتف منها أو انتتف؛ قال تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} 2 وهو محمول على ما إذا أخذ بعد التذكية أو في الحياة كما هو المعهود، وذلك مخصص للخبر السابق، أما المنفصل من غير المأكول كالحمار الأهلي فنجس، ولو شككنا فيما ذكر هل انفصل من طاهر أو من نجس حكمنا بطهارته لأن الأصل الطهارة وشككنا في النجاسة والأصل عدمها بخلاف ما لو رأينا قطعة لحم وشككنا هل هي من مذكاة ٍ أولا؛ لأن الأصل عدم التذكية. والشعر على العضو المُبان3 نجس إن كان العضو نجساً تبعاً له؛ وشعر المأكول المنتتف الطالع بأصوله من الجلد في حال حياته طاهر، فإن انفصل أصله مع شيء مما نبت فيه من الجلد وفيهما رطوبة، قال شيخي4: فهو متنجس يطهر بغسله ... "5. فخلاصة مذهب الشافعية: أن شعر الميتة طاهر، وذلك استثناء من الأصل المقرر لديهم من أن المنفصل من الميتة بعد موتها فحكمه حكم ميتته، وقالوا إن الشعر إذا نتف أم انتتف من الميتة فهو طاهر، وما قالوه محمول على المأكول بعد التذكية أو في

_ 1 سبق تخرج الحديث صفحة 63. 2 سورة النحل: الآية 80. 3 أي المنفصل. 4 يقصد به شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة الرملي ت 1004?، وكلامه بنصه في نهاية المحتاج 1/228 قال: "كما أفتى به الوالد رحمه الله". 5 الشربيني 1/115.

الحياة، أما المنفصل من غير المأكول كالحمار الأهلي فنجس. وقالوا إنه عند الشك في طهارة أو نجاسة الأصل المنفصل عنه حكمنا بطهارته. وقالوا عن الشعر على العضو المبان نجس إن كان العضو نجساً تبعاً له. وقالوا إن شعر المأكول المنتتف الطالع بأصوله من الجلد في حالة حياته طاهر، لكنه إذا انفصل أصله مع شيء مما نبت فيه من الجلد وفيهما رطوبة فهو متنجس يطهر بغسله. مذهب الحنابلة: أن الميتة إذا كانت طاهرة في الحياة كالغنم، فصوفها ووبرها وشعرها وريشها طاهر، تبعاً له سواء كانت مأكول اللحم أم غير مأكول اللحم كالهرة وما دونها في الخلقة كابن عرس1 والفأر لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} 2 الذي سيق للامتنان فيشمل حالتي الحياة والموت، أما أصول الشعر والريش إذا نتف وهو رطب أو يابس فنجس، مُعللين ذلك بأن هذه الأصول تعد جزءاً من اللحم فهي نجسة باعتبارها من جملة أجزاء الميتة. فقد جاء في الإنصاف: " ... وصوفها وشعرها وريشها طاهر وكذلك الوبر، يعني الطاهر في حال الحياة وهو المذهب"3. وجاء في كشاف القناع: " ... وأصول شعرها إذا نتف وأصول ريشها إذا نتف وهو رطب أو يابس، نجس لأنه من جملة أجزاء الميتة، أشبه سائرها، ولأن أصول الشعر والريش جزء من اللحم لم يستكمل شعراً ولا ريشاً، وصوف ميتة طاهرة في الحياة كالغنم طاهر، وشعرها ووبرها وريشها طاهر، ولو كانت غير مأكولة كهر وما دونها في الخلقة كابن عرس والفأر"4. وبالموازنة بين أقوال الفقهاء: بشأن طهارة شعر الميتة من عدمه نجد أنهم قد

_ 1 ابن عِرْس: دويبة كالفأرة تفتك بالدجاج. المعجم الوسيط للدكتور إبراهيم أنيس وجماعه 2/592 مادة عرس. 2 سورة النحل: الآية 80. 3 المرداوي 1/93. 4 البهوتي 1/70.

اختلفوا في هذا على النحو الآتي: المذهب الأول: يرى أن شعر جميع الميتة طاهر، وهم الشافعية، والحنابلة، وما عليه الحنفية في إحدى الروايتين عندهم، والمالكية فيما نقله ابن رشد عن سماع أشهب، وجاء في نص المدونة والرسالة باستحباب غسل الشعر إذا جز، ونقل عن ابن حبيب بوجوب الغسل مطلقا، والصحيح في مذهب المالكية وجوب غسل الشعر إذا تيقنت إصابته بالنجاسة. المذهب الثاني: وهو القول الصحيح عند الحنفية أن شعر ميتة الخنْزير نجس وأضاف محمد بن الحسن شعر ميتة الفيل كذلك. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول بما يأتي: أ – قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} 1. حيث امتن الله سبحانه في هذه الآية على عباده ببعض النعم، وهي أنهم ينتفعون في حياتهم الدنيا بأصواف الشياه وأوبار الإبل وأشعار الماعز، فعم بالإباحة والانتفاع حال الحياة والموت، فقد ورد ذلك بلفظ العموم الشامل لإباحة الانتفاع حال الحياة والموت على السواء. ب- ما روى عن أم سلمة رضي الله عنها: أنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء" 2 مع مراعاة الخلاف عند المالكية بشأن مسألة الغسل على ما تقرر في أصل المذهب، وبما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الميتة لحمها، وأما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به" 3. فهذه النصوص ونحوها تفيد طهارة شعر الميتة وصوفها ونحوهما، وهذا ما قال به أصحاب المذهب الأول.

_ 1 سورة النحل: الآية 80. 2 الحديث سبق تخريجه صفحة 66. 3 أثر ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه الدارقطني 1/47، والبيهقي في السنن 1/23.

واستدل أصحاب المذهب الثاني: بقولهم إن كل حيوان تنجس بالموت، كان شعره وصوفه نجس على المنصوص، وذلك لأن الشعر ونحوه متصل بالحيوان اتصال خلقة، فيتنجس بالموت حتى ولو كان من مأكول اللحم، طالما أنه لم يذك حيث اعتبر فيه حكم أصله، وهو ذلك الحيوان الميت. والذي يترجح لدي في هذا الخلاف: هو القول بطهارة شعر الميتة ونحوه - إلا شعر الخنْزير- وذلك للأحاديث الدالة على طهارة شعر الميتة وصوفها ونحوهما وذلك على نحو ما مرّ من استدلال المذهب الأول. فالشعر وما في حكمه كالصوف والوبر والريش لا وجه للقول بنجاسته، لأنه لو كان كذلك لما أبيح أخذه من الحي –أي حال الحياة– ولهذا كان القول بطهارة الصوف والشعر والريش والوبر ونحو ذلك هو المتمشى مع تحقيق مصالح العباد التي تهدف إلى تحقيقها الشريعة الإسلامية دائماً خاصة وأن هذه الأشياء كثيراً ما تدخل في الصناعات التي تعود علينا بالنفع العظيم، والله تعالى أعلم. ثانياً: آراء العلماء بشأن حكم بيع شعر الميتة: اختلف الفقهاء بشأن حكم بيع شعر الميتة وما في حكمه، وذلك كأثر طبيعي لاختلافهم السابق بشأن طهارة شعر الميتة ونحوه، فمن قال بطهارة هذه الأشياء، جوز بيعها والتصرف فيها تحقيقاً لمصالح العباد في الانتفاع بهما، في حين أن من قال بنجاسته وعدم طهارته فإنه يمنع بيع هذه الأشياء، ويتضح هذا من خلال ما يأتي: مذهب الحنفية: القول بجواز بيع شعر الميتة وصوفها ووبرها وريشها ونحو ذلك والانتفاع بها. فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... وأما عظم الميتة وعصبها وشعرها وصوفها ووبرها وريشها وخفها وظلفها وحافرها فيجوز بيعها والانتفاع بها عندنا ... "1. غير أن فقهاء المذهب قد اختلفوا بشأن حكم بيع شعر الخنْزير، فقيل يجوز بيعه

_ 1 الكاساني 5/142.

لأنه طاهر، وقيل لا يجوز بيعه إهانة له لأنه نجس، وهو الصحيح في المذهب، إلا أنهم جوزوا استعماله للخرازين للضرورة لأن عمل الخرز لا يتأتى إلا به1. وجاء في بدائع الصنائع: " ... وأما عظم الخنْزير وعصبه فلا يجوز بيعه لأنه نجس العين، وأما شعره، فقد روي أنه طاهر يجوز بيعه، والصحيح أنه نجس لا يجوز بيعه، لأنه جزء منه، إلا أنه رخص في استعماله للخرازين للضرورة"2. وجاء في الهداية: "ولا يجوز بيع شعر الخنْزير لأنه نجس العين فلا يجوز بيعه إهانة له، ويجوز الانتفاع به للخرز للضرورة، فإن ذلك العمل لا يتأتى بدونه ... "3 وجاء في البحر الرائق: "قوله: "وشعر الخنْزير" أي لم يجز بيعه إهانة له لكونه نجس العين كأصله"4. فنص البحر الرائق على أن شعر الخنْزير لم يجز بيعه، وذلك إهانة له لكونه نجس العين لأصله، ولم يتكلم عن الخرازة به، خلافا لما ورد في الهداية وبدائع الصنائع وغيرهما من النص على أن الخرز بشعر الخنْزير جائز للضرورة خروجا عن الأصل العام عندهم وهو منع بيع شعر الخنْزير عملا بحرمة أصله ونجاسته. مذهب المالكية: قالوا بجواز بيع شعر الميتة مطلقاً –أي حتى ولو كان ذلك من خنزير- فهؤلاء يرون طهارة صوف الميتة ووبرها وشعرها وريشها وزغب الريش، وعلى هذا فإنه يجوز عندهم الانتفاع به وإمكان بيعه، غير أنه يجب على البائع إخبار المشتري بأنه أو ما نسج منه لميتة وسبب ذلك ليس النجاسة وإنما هو كراهة النفوس لذلك. فقد جاء في مواهب الجليل: "فإن أراد بيع الصوف وما معه المأخوذ من الميتة أو

_ 1 حاشية ابن عابدين 1/398. 2 الكاساني 5/142. 3 المرغيناني 6/425. 4 ابن نجيم 6/132.

بيع ما نسج منه فعليه أن يبين ذلك فإن النفوس تكرهه"1. مذهب الشافعية: عدم جواز بيع شعر الميتة وريشها وصوفها وما في حكم ذلك، وهذا ما عليه اتفاق فقهاء المذهب الشافعي، بناءً على نجاسة هذه الأشياء، حيث قالوا إن كل حيوان تنجس بالموت، فإن شعره وصوفه نجس على المنصوص، وذلك لأن الشعر ونحوه متصل بالحيوان اتصال خلقه فيتنجس بالموت. فقد جاء في المجموع: " ... ودهن الميتة وعصبها وشعرها.. وكذلك ريشها.. ولا يجوز بيعها بلا خلاف عندنا"2. وجاء في شرح المحلي على منهاج الطالبين بهامش قليوبي وعميرة " ... وللبيع شروط خمسة: أحدها طهارة عينه، فلا يصح بيع الكلب والخمر وغيرها من نجس العين ... والمتنجس الذي لا يمكن تطهيره، لأنه في معنى نجس العين، كالخل واللبن، وكذا الدهن كالزيت والسمن، لا يمكن تطهيره في الأصح. والثاني يمكن غسله بأن يصب عليه في إناء ماء يغليه ويحرك بخشبه حتى يصل إلى جميع أجزائه ... "3. فالاتفاق في مذهب الشافعية: على عدم جواز بيع شعر الميتة لنجاسته، وقد اشترطوا في المبيع طهارة عينه، وقالوا بأن الحيوان يتنجس بالموت، حتى ولو كان أصله طاهراً مأكولاً، وذلك بناء على أن الشعر متصل بالحيوان بطبيعة خلقته، وبالتالي فإن الشعر يتنجس بمجرد الموت. مذهب الحنابلة: جواز بيع شعر وريش الميتة ووبرها، إذا كانت لطاهر حالة الحياة، حيث إن هذه الأشياء طاهرة في المذهب عند الحنابلة، على نحو ما سبق بيانه4، فلا مانع من بيعها، فإن كانت هذه الأشياء لغير طاهر حال حياته، فإنها تكون نجسة، وبالتالي فلا يجوز بيعها. فقد جاء في الإنصاف: "وصوفها وشعرها طاهر وكذلك الوبر يعني الطاهر في

_ 1 الحطاب 1/89. 2 النووي 9/270. 3 النووي 2/157. 4 راجع: صفحة101.

حال الحياة وهو المذهب"1. أما بالنسبة لأصول الشعر إذا نتفت وأصول الريش إذا نتف فلا يجوز بيعه، سواء كان رطباً أو يابساً وذلك لنجاسته، لأنه من جملة أجزاء الميتة فأشبه سائرها، ولأن أصول الشعر والريش جزء من اللحم. جاء في كشاف القناع: "الميتة ... وأصول شعرها إذا انتف وأصول ريشها إذا انتف وهو رطب أو يابس نجس، لأنه من جملة أجزاء الميتة أشبه سائرها، ولأن أصول الشعر والريش جزء من اللحم ... "2. ويظل هذا على عموم منع بيع الميتة وجميع أجزائها على نحو ما ورد في المرجع السابق أيضاً " ... ولا يصح بيع ميتة ولا شيئ منها ولو لمضطر ... "3 وعلى هذا فمذهب الحنابلة: أن الشعر إذا كان من حيوان طاهر في حال حياته كالغنم ونحوها فإن ذلك الشعر يكون هو الآخر طاهراً ولا مانع من بيعه، بخلاف ما إذا كان لميتة غير طاهرة حال الحياة، وكذلك أصول الشعر وأصول الريش إذا انتفت وهي رطب فإنها نجسة لا يجوز بيعها. الموازنة: نجد أن أقوال العلماء بشأن بيع شعر الميتة وما في حكمه تتلخص فيما يأتي: أ- جواز بيع شعر الميتة وصوفها ووبرها وما في حكم ذلك والانتفاع به، وهذا مذهب الحنفية والمالكية ومذهب الحنابلة، إلا أن الحنفية استثنوا شعر الخنْزير، واشترط المالكية على البائع إبانة ذلك، يعني إبانة أن الصوف صوف ميتة، أو إنه صنع من صوف ميتة أي أنه يجب على البائع بيان ذلك للمشتري، حتى يكون المشتري على بينة من أمره. خاصة وان نفوس الناس تعاف وتكره صوف الميتة. وهذا التحفظ عند المالكية كان لهذا السبب، وليس لأن صوف الميتة عندهم نجس.

_ 1 المرداوي 1/93. 2 البهوتي 1/70. 3 المرجع السابق 4/1386.

ب - منع بيع شعر الميتة وما في حكمه وعدم جواز الانتفاع بذلك، وهو مذهب الشافعية. علماً بأن وجه بحث حكم الشرع بشأن بيع شعر الميتة هنا هو أن أصل الميتة المراد بيع شعرها نجس، وأن الخلاف حاصل بين الفقهاء بشأن مدى طهارة شعر الميتة من عدمه، فجريان الكلام عن بيع شعر الميتة كان مؤسساً على هذا. وقد استدل الحنفية ومن وافقهم: على جواز بيع شعر الميتة وما في حكمه والانتفاع به، استدلوا بأدلة متعددة سبق الاستناد إليها عندما قرر هؤلاء طهارة شعر الميتة وصوفها وريشها وما في حكم ذلك، لأنهم يقولون بطهارة هذه الأشياء، وقد ترتب على هذا قولهم بجواز بيعها وإمكان اعتبارها محلا ً للتعاقد بالبيع ونحوه من جميع التصرفات الأخرى فضلاً عن أن الشعر وما شابهه لا تحله الحياة، وذلك بدليل أن الحيوان لا يتألم ولا يحس إذا قطع منه، وما لا تحله الحياة لا يحله الموت، وذلك لأن الموت خلف الحياة، ولما كان الموت لا يحله، فإنه لا يتنجس به فيكون طاهراً وحيث كان كذلك، فلا مانع من بيعه طالما أنه محل لانتفاع الناس به، لأنه من متطلبات حياتهم. وقد استند الشافعية: فيما ذهبوا إليه من قولهم بمنع بيع شعر الميتة وما في حكمه، استندوا على ما تأصل لديهم من اشتراط طهارة المبيع، وما تقرر من قولهم بنجاسة شعر الميتة وصوفها ووبرها ونحو ذلك، بناء على أنَّ الشعر متصل بالحيوان اتصال حياة وخلقة، وأنه يتنجس بالموت، وبالتالي فإنه لا يمكن الانتفاع به شرعا، ً مما يترتب عليه القول بعدم جواز بيع هذه الأشياء1. والذي يترجح هنا -والله أعلم- هو القول بجواز بيع شعر الميتة وصوفها وريشها ونحو ذلك تأسيساً على رجحان القول بطهارة هذه الأشياء فيما سبق بيانه، مع مراعاة أن هذا الحكم بجواز البيع يستثنى منه شعر الخنْزير لنجاسة عينه، وهذا الترجيح قائم على قوة ما استدل به هؤلاء، ومما يؤكد رجحان القول بجواز بيع شعر الميتة وما في

_ 1 المجموع للنووي 1/269 – 270, والمهذب للشيرازي 1/11.

حكمه كالصوف، والريش، والوبر ونحو ذلك خاصة وأن هذا القول يتلاءم مع مقاصد الشريعة الإسلامية من تحقيق مصالح العباد، لأن هذه الأشياء غالبا ً ما تدخل في الصناعات المتعددة، والتي يتحقق منها النفع العظيم للعباد والذي يعد هدفا ً أسمى من تشريع الأحكام لهؤلاء للعباد.

المبحث الثالث: خلاصة القول بشأن بيع الميتة

المبحث الثالث خلاصة القول بشأن بيع الميتة استبان لنا مما سبق من حديث عن بيع الميتة، أو بيع أجزائها ما يأتي: 1- حرمة بيع الميتة، وأن هذا محل اتفاق بين الفقهاء، وذلك تأسيساً على نجاسة عينها، وقد ترتب على هذا حرمة ثمنها والانتفاع بها، حيث إن الميتة تأباها النفوس السليمة وتستقذرها، فضلاً عما أثبته الطب الحديث من أن الميتة تعتبر موضعاً لاحتواء الميكروبات والمواد الضارة فهي مضرة بالصحة لاحتباس الدم فيها، وتزاحم الميكروبات عليها. وقد ثبتت حرمة الميتة بالنص الصريح حيث قال سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1 وقد ذكر الإجماع على تحريمها معظم العلماء كالماوردي2، والمقدسي3، والبهوتي4 وغيرهم5.

_ 1 سورة المائدة: الآية 3. 2 هو علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن الماوردي، الفقيه الشافعي، ولد عام 364?، من مصنفاته الحاوي، وأدب الدنيا والدين والأحكام السلطانية. توفي رحمه الله عام 450?. راجع: طبقات الفقهاء للشيرازي 131، سير أعلام النبلاء لمحمد بن أحمد الذهبي 18/64. 3 هو شيخ الإسلام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، الجماعيلي ثم الدمشقي الصالحي، ولد عام 541? بجماعيل، من مصنفاته المغني والكافي والمقنع. توفي رحمه الله عام 620?. راجع: البداية والنهاية لابن كثير 13/99-101، سير أعلام النبلاء لمحمد بن أحمد الذهبي 22/165-173. 4 هو الشيخ منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن أحمد بن علي بن إدريس البهوتي، المصري، شيخ الحنابلة بمصر، من مصنفاته شرح الإقناع وشرح على منتهى الإرادات وحاشية على الإقناع توفي رحمه الله عام 1051? بمصر. راجع: النعت الأكمل لكمال الدين محمد الغزي صفحة 210، عنوان المجد في تاريخ نجد للشيخ عثمان بن بشر 2/323. 5 راجع: الحاوي الكبير 5/83, والكافي لابن قدامه 2/7, والروض المربع 2/240.

2- أنه قد خرج عن هذا الأصل جواز اتخاذ بعض أجزائها استثناء من الحكم العام فيها وهو الحرمة، وذلك تحقيقاً لمنافع العباد، ورفعاً للحرج عنهم، أو لما لحق بها في إزالة النجاسة كالدبغ مثلاً، أو كان ذلك لضرورة1، أو للنص على الجواز ويتضح هذا بما يأتي: أ- أن بيع شعر الميتة وصوفها ووبرها ونحوه جائز عند الجمهور، لطهارته خلافاً للشافعية الذين يرون عدم جواز البيع بسبب نجاسة هذه الأشياء. ب- أن بيع جلد الميتة بعد دبغه جائز عند الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة وابن وهب في سماعه عن ابن القاسم، خلافاً لما روى عن الإمام مالك في رواية عن ابن القاسم، وقال الحنفية بإمكان بيعه قبل الدبغ أيضاً لأن النجاسة غير مانعة من صحة البيع عندهم.

_ 1 ذكر العلماء أن قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات: تندرج تحت قاعدة المشقة تجلب التيسير، ومعنى أن الضرورات تبيح المحظورات، أن الممنوع شرعا يباح عند الضرورة وهذه القاعدة تتعلق بالرخص الشرعية وهي من القواعد الأصولية الفقهية ودليلها قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} سورة الأنعام: الآية 119. حيث أباح أكل الميتة للمضطر بقدر دفع الهلاك عند المجاعة، وأكل لحم الخنْزير، وإساغة اللقمة بالخمر عند الغصة، أو عند الإكراه التام بقتل أو قطع عضو، لأن الاضطرار كما يتحقق بالمجاعة يتحقق بالإكراه التام لا الناقص فهذه الأشياء تباح عند الاضطرار لقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} أي دعتكم شدة المجاعة لأكلها والاستثناء من التحريم إباحة ومثل المجاعة يتحقق الاضطرار بالإكراه التام. راجع: الأشباه والنظائر للسيوطي 1/157، وشرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد محمد الزرقا صفحة 163 – 164.

الفصل الثاني: بيع الدم

الفصل الثاني بيع الدم وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف الدم المسفوح. المبحث الثاني: حكم بيع الدم المسفوح. المبحث الثالث: خلاصة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الدم.

التمهيد

التمهيد الدم وسيلة الحياة في جسم الإنسان وفي كثير من الحيوانات الأخرى1، فهو في الإنسان يعتبر عضواً من الأعضاء المهمة التي تقوم بوظائف عديدة لا غنى عنها للإنسان2، فهو من حيث إنه سائل يجري في أوصال الإنسان وأجزاء جسده لينشر بها الحياة ويزودها بالغذاء والدفء3 فالدم يحمل الغذاء الممتص من المعدة والأمعاء لينشره ويوزعه على جميع أجزاء الجسد، ودوران الدم مظهر من مظاهر الحياة، فالقلب يضخه، والكبد يستقلب أملاحه وسمومه، والكلية تصفيه4، هذا والمراد بالدم -هنا- دم الحيوان وهذا الدم ينقسم إلى قسمين: أحدهما: الدم المسفوح. والثاني: الدم غير مسفوح. وفي المباحث الآتية نستوضح تعريف الدم المسفوح مع بيان حكمه وحكم بيعه: المبحث الأول تعريف الدم المسفوح الدم في اللغة: سائل أحمر يسري في عروق الحيوان، وقيل المدُمَّى شديد الحمرة، يقال ثوب مُدمَّى، وخيل مدماة، ويقال دَمَىِ الجُرحُ دَمَّى ودمياً، خرج منه الدم ولم يسل فهو دم، ويقال أدمى فلانا: ضربه حتى خرج منه الدم5. فقد جاء في مختار الصحاح: "الدم أصله دموُ بالتحريك، وتثنيته دميان، وبعض العرب يقولون: دموان، وقال سيبويه6: أصله دَمْىُ، وقال المبرد7: أصله دمى

_ 1 البيوع الشائعة/ للدكتور محمد توفيق البوطي صفحة 277 - 279. 2 الدم ومشتقاته/للدكتورة زينب السبكي، والدكتور يسري جبر صفحة 4 نقلاً عن المرجع السابق صفحة 279. 3 أحكام القرآن لابن العربي 1/150. 4 الدم صفحة 8. 5 المعجم الوسيط للدكتور إبراهيم أنيس وجماعة 1/298. 6 هو عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء أبو بشر الملقب سيبويه، إمام النحاة وأول من بسط علم النحو ولد في إحدى قرى شيراز سنة 148?، وصنف كتابه المسمى كتاب سيبويه في النحو توفي بها سنة 180?. راجع: الأعلام للزركلي 5/81. 7 هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزدي أبو العباس المعروف بالمبرد، إمام العربية ببغداد في زمنه =

بالتحريك، وتصغير الدم دُمَىُّ، وجمعه دماء"1. وفي المصباح المنير: "دمَى الجرح دَمىً من باب تعب، ودمياً أيضاً على الصحيح خرج منه الدم فهو دم.... ويقال أصل الدم دَمْى بسكون الميم، لكن حذفت اللام وجعلت الميم حرف إعراب، وقيل الأصل بفتح الميم ويثنى بالياء فيقال دميان، وقيل أصله واو ولهذا يقال دموان، وقد يثنى على لفظ الواحد فيقال دمان"2. فالدم من حيث وصفه عند علماء اللغة يقوم على وصف مهم وهو الحمرة، على اختلاف درجاتها خاصة ما كان منها شديداً في حمرته، والوصف الآخر هو السيلان بحيث يكون جارياً في عروق الحيوان وغيره من كل ما هو حي. والمسفوح في اللغة: هو المصبوب أي المراق المنصب. فقد جاء في المصباح المنير: "سفح الرجل الدم والدمع سفحاً من باب نفع صبه وربما استعمل لازماً فقيل سفح الماء إذا انصب فهو مسفوح وسافح، وسافح الرجل المرأة مسافحة وسفاحاً من باب قاتل وهو المزاناة، لأن الماء يصب ضائعاً، وفي النكاح غُنْية عن السفاح، وسفح الجبل مثل وجهه وزناً ومعنىً"3. فالسفح هو الصب والإراقة والانصباب، وهو في كل هذا معناه الجاري المهراق، فالدم هو الدم الجاري من مورده عند موجب هذا وتحقق سببه. الدم المسفوح في عرف الشرع: هو الدم الجاري المسال وهو المهراق أو المصبوب والمنصب وهو الدم الذي جرى بعد موجب خروجه وهو الذكاة. فقد جاء في مواهب الجليل: " ... قال في التوضيح: المسفوح: الجاري"4.

_ = وأحد أئمة الأدب والأخبار مولده بالبصرة سنة 210? ووفاته ببغداد سنة 286?. راجع: الأعلام للزركلي 7/144. 1 محمد بن أبي بكر الرازي: مادة دم صفحة 112. 2 أحمد بن محمد الفيومي: مادة دم صفحة 200. 3 الفيومي مادة سفح صفحة 278. 4 الحطاب 1/96.

وجاء في حاشية الدسوقي: "والحاصل أن الدم إذا جرى بعد موجب خروجه وهو الذكاة كان مسفوحاً"1. فالدم المسفوح هو الدم المراق الجاري ومنه ذلك الذي يسيل من الحيوان المأكول اللحم ويخرج عند تذكيته 2. حكم الدم عند الفقهاء مذهب الحنفية: اتفق فقهاء الحنفية على أن المحرم من الدم إنما هو الدم المسفوح دون الدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح، لأنه طاهر لعدم وصفه بالمسفوح، وخرج عليه دم الأوزاغ3 والدماء السائلة من جميع الحيوانات. واختلفوا في حكم دم السمك فذهب أبو يوسف إلى أنه نجس خلافاً لأبي حنيفة ومحمد اللذين يقولان بطهارته. فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... ودم الأوزاغ نجس؛ لأنه سائل، وكذا الدماء السائلة من سائر الحيوانات ... وأما دم السمك فقد روى عن أبي يوسف أنه نجس ... وعند أبي حنيفة ومحمد طاهر ... والدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح طاهر؛ لأنه ليس بمسفوح ... "4. مذهب المالكية: ذهب فقهاء المالكية إلى أن الدم المسفوح، وهو الدم الذي يجري بعد موجب خروجه وهو الذكاة الشرعية نجس، وأن الحكم بالنجاسة يشمل الدم

_ 1 الدسوقي 1/52. 2 فتح القدير 2/172. الدم غير المسفوح: فهو الذي يبقى في العروق بعد الذبح ومنه الكبد والطحال وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم وهو الذي لم يجر بعد موجب خروجه بذكاة شرعية. 3 الأوزاغ: جمع وزغ، وأنثاه وزغة، سام أبرص. المصباح المنير للفيومي صفحة 657، القاموس المحيط للفيروز آبادي 1020. 4 الكاساني 1/60 - 62.

الخارج من السمك والقُرَاد1 والذباب والحلم2. فقد جاء في حاشية الدسوقي: "والحاصل أن الدم إذا جرى بعد موجب خروجه وهي الذكاة كان مسفوحاً، وهو نجس"3. وجاء في مواهب الجليل: " ... ودم لم يسفح قال في التوضيح المسفوح الجاري، وغير المسفوح كالباقي في العروق، وقال ابن فرحون4 كالباقي في محل التذكية وفي العروق، وهو طاهر مباح الأكل على ظاهر المذهب. انتهى. وهو المشهور؛ وقيل نجس، وانظر ما مراده بالباقي في محل التذكية، هل أثر الدم الذي في محل ذبح الشاة، أو الدم الذي يبقى في محل نحر الشاة ويخرج بعد سلخها إذا طعنت، فإن أراد الأول فهو نجس لأنه من الدم المسفوح ... تنبيهان: الأول: قد يفهم من قوله في التوضيح أن المسفوح هو الدم الجاري: أن ما لم يجر من الدم داخل في غير المسفوح وأنه طاهر ولو كان من آدمي أو ميتة أو حيوان حي وهو كذلك، فقد قال اللخمي5: الدم على ضربين: نجس، ومختلف فيه؛ فالأول دم الإنسان، ودم ما لا يجوز أكله، ودم ما يجوز أكله إذا خرج في حال الحياة أوفي حين

_ 1 القُراد: دويبة متطفلة ذات أرجل كثيرة تعيش على الدواب والطيور. المعجم الوسيط للدكتور إبراهيم أنيس صابر 2/724. 2 الحَلَم: القُراد الضخم أو الصغير. المعجم الوسيط للدكتور إبراهيم أنيس صابر 1/195. 3الدسوقي 1/52. 4 هو إبراهيم بن علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون، فقيه مالكي، ولد بالمدينة سنة 719 ? ونشأ بها وتفقه وولي قضاءها، كان عالماً بالفقه والأصول والفرائض وعلم القضاء. من تصانيفه "الديباج المذهب في أعيان المذهب" و"مناهج الأحكام". راجع: معجم المؤلفين لعمر كحالة 1/68 5 هو علي بن محمد الربعي أبو الحسن المعروف باللخمي، فقيه مالكي، تفقه بابن محرز وأبي الفضل ابن بنت خلدون، له تعليق كبير على المدونة سماه التبصرة، توفي سنة 478?. راجع: الديباج المذهب لابن فرحون 1/104-105، شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 117، الأعلام للزر كلي 4/328. هذا ولم أتعرض هنا لدم الإنسان وبيان حكمه من حيث الطهارة ومدى إمكان التصرف فيه بيعاً وتبرعاً ونحوه، وذلك اعتماداً على أنه مشمول بالبحث الدقيق في محله عند الكلام عن حكم بيع الإنسان الحر وأجزائه، وذلك في الفصل الخامس من الباب الثاني من هذا البحث.

الذبح لأنه مسفوح؛ واختلف فيما بقي في الجسم بعد الذكاة، وفي دم ما ليس له نفس سائله وفي دم الحوت: انتهى. فيفهم من كلام اللخمي أن دم الآدمي والحيوان الذي لا يؤكل والميتة نجس مطلقاً سواء جرى أو لم يجر وهو ظاهر ... ويؤيد ذلك قول البساطي1 هنا: مراد المصنف أن الدم الذي لم يجر بعد موجب خروجه شرعاً فهو طاهر، فخرج الدم القائم بالحي لأنه لا يحكم عليه بالطهارة ولا بالنجاسة، والدم المتعلق بلحم الميتة وأنه نجس، وما جرى عند الذكاة فإنه أيضاً نجس. الثاني: الدم الذي يخرج من قلب الشاة إذا شق هل هو مسفوح أو غير مسفوح، لم أر فيه نصاً، والذي يفهم من كلام البرز لي2 واللخمى أنه غير المسفوح فتأمله"3. فالنص يفيد: أن ابن فرحون خص الدم غير المسفوح بالباقي في محل التذكية وفي العروق، واعتبر هذا النوع من الدم على هذا الحال طاهراً مباحاً أكله على ظاهر مذهب المالكية. في حين أن البعض يرى نجاسة ذلك النوع من الدم؛ وتساءل صاحب مواهب الجليل عن مراد من قال بنجاسة الدم غير مسفوح، واعتبر نجاسته إذا كان مراده بهذا أثر الدم في محل الذبح، وقال لأنه على هذا الحال يكون من الدم المسفوح المقرر نجاسته، ثم استطرد موضحا ًما ذكره صاحب التوضيح بأنه حيث تقرر أن الدم المسفوح هو الدم الجاري، فإنه يترتب على هذا أنه ما لم يجر من الدم داخل في غير

_ 1 هو محمد بن أحمد بن عثمان أبو عبد الله المعروف بالبساطي، نسبته إلى بساط وهي قرية من قرى الغربية بمصر، توفي بالقاهرة سنة 842 ?، كان فقيهاً مالكياً قاضياً، انتقل إلى القاهرة فتفقه وذاع صيته تولى قضاء المالكية بالديار المصرية وولي تدريس الفقه بالشيخونية والصاحبية وغيرها من المدارس. من تصانيفه "المغنى في الفقه" و"شفاء الغليل في شرح مختصر الشيخ خليل". راجع: الأعلام للزركلي 5/332. 2 هو القاسم بن أحمد بن محمد بن إسماعيل البلوي البرزلي، من أئمة المالكية بتونس في عصره، وصف بشيخ الإسلام، أخذ عن ابن عرفة ولازمه نحو أربعين عاماً، قدم القاهرة حاجاً فأخذ عنه بعض أهلها وسكن تونس وانتهت إليه الفتوى فيها، توفي رحمه الله سنة 844 ?. من تصانيفه "جامع مسائل الأحكام مما نزل من القضايا للمفتين والحكام" راجع: الأعلام للزركلي 5/172. 3 الحطاب 1/96.

المسفوح، وأنه طاهر حتى لو كان من آدمي أو ميتة أو حيوان حي، وعرض لما قاله اللخمي: من أن الدم على ضربين: أحدهما: نجس مثل دم الإنسان ودم ما لا يجوز أكله ودم ما يجوز أكله إذا خرج في حال الحياة أو وقت الذبح لأنه مسفوح. وثانيهما: مختلف فيه وهو ما بقي في الجسم بعد الذبح، وكذا دم الحوت، ودم ما ليس له نفس سائلة. وهذا يفهم منه: أن دم الآدمي والحيوان الذي لا يؤكل والميتة نجس مطلقاً سواء جرى أو لم يجر، وقال صاحب المواهب: إن هذا هو الظاهر. ثم عرض للدم الخارج من قلب الشاة عند شقه هل هو مسفوح أم لا؟ قائلاً بأنه لم يرد فيه نص، ومفهوم كلام البرزلي واللخمي أنه غير مسفوح. وفي الشرح الكبير: "وأن النجاسة تشمل حتى الدم الخارج من السمك، والذباب، والقراد، ودم مسفوح ولو من سمك، وذباب، وقراد، وحلم"1. وفي حاشية الدسوقي: " ... وهل الدم المسفوح الذي في السمك هو الخارج عند التقطيع الأول، لا ما خرج عند التقطيع الثاني، أو الجاري عند جميع التقطيعات، واستظهر بعض الأول"2. أما ابن العربي من المالكية: فقد ذهب إلى طهارة الدم الخارج من السمك والذباب والقراد ونحوها وتظهر ثمرة الخلاف في أكل السمك الذي يوضع بعضه فوق بعض ويسيل دمه، فعلى كلام ابن العربي يؤكل كله، وعلى القول الآخر لا يؤكل منه إلا الصف الأعلى فقط3. وجاء في مواهب الجليل: " ... خلافاً لمن قال بطهارته منها أي من المذكورات

_ 1 الدردير 1/57. 2 الدسوقي 1/57. 3 راجع: المرجع السابق نفس الموضع.

وهو ابن العربي1"2. فالمستفاد من نصوص المالكية: أن الدم المسفوح هو الدم الذي يجري بعد موجب خروجه وهو الذكاة، وأن هذا الدم نجس، وأن ما يقابله في الوصف والحكم إنما هو الدم غير المسفوح، وهو الباقي في العروق، حيث قالوا بطهارته وإباحة تناوله تبعاً لما علق به من اللحم والعظم. واختلفوا في الدم الباقي في محل الذبح: فقيل: إنه نجس، غير أن المشهور في المذهب أنه طاهر مباح الأكل، وقال اللخمي من المالكية: إن دم الآدمي ودم الحيوان الذي لا يؤكل والميتة نجس مطلقاً سواء جرى أم لم يجر، وقد اختلفوا كذلك بالنسبة للدم الخارج من السمك والذباب والقراد ونحو ذلك، وأن الظاهر في المذهب ما قال به ابن العربي من القول بطهارته. مذهب الشافعية: ذهب فقهاء الشافعية إلى نجاسة الدم المسفوح، حتى لو تحّلب من سمك أو كبد أو طحال، مع العلم بأن الكبد والطحال طاهران عندهم. فقد جاء في نهاية المحتاج: "والمستحيل في باطن الحيوان نجس فمنه دم ... ولو تحلب من سمك وكبد وطحال لقوله تعالى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 3 أي سائلاً ... وخرج بالمسفوح في الآية الكبد والطحال"4. واختلف فقهاء المذهب الشافعي في حكم الدم الباقي على اللحم والعظم من البهائم

_ 1 هو محمد بن عبد الله بن محمد أبو بكر المعروف بابن العربي، حافظ متبحر وفقيه من أئمة المالكية بلغ رتبة الاجتهاد، رحل إلى المشرق وأخذ عن الطرطوشي والإمام أبي حامد الغزالي ثم عاد إلى مراكش وأخذ عنه القاضي عياض وغيره، أكثر من التأليف وكتبه تدل على غزارة علم وبصر بالسنة. من تصانيفه "عارضة الأحوذي شرح الترمذي" توفي رحمه الله تعالى سنة 543 ?. راجع: الأعلام للزركلي 6/230، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 136. 2 الحطاب 1/96. 3 سورة الأنعام: الآية 145. 4 الرملي 1/239 - 240.

المذبوحة، فذهب الحليمي1 وجماعة إلى أنه نجس معفو عنه وهو الظاهر في المذهب، لأنه دم مسفوح إلا أنه لم يسل لقلته وقال غيرهم إنه طاهر، وقيل إن مراد من عبر بالطاهر أنه معفو عنه. وجاء في مغني المحتاج: " ... أما الدم الباقي على اللحم فقيل إنه طاهر ... وظاهر كلام الحليمي وجماعة أنه نجس معفو عنه، وهذا هو الظاهر؛ لأنه دم مسفوح، وإن لم يصل لقلته"2. وفي نهاية المحتاج: "أما الدم الباقي على اللحم وعظامه من المذكاة فنجس معفو عنه كما قاله الحليمي ... فمراد من عبر بطهارته أنه معفو عنه"3. واختلف فقهاء المذهب في دم السمك: فقالوا إنه نجس كغيره من الدماء، وقيل بل طاهر لأن ميتة السمك طاهرة فكذا دمه. فقد جاء في المهذب: "وفي دم السمك وجهان: أحدهما نجس كغيره، والثاني طاهر؛ لأن ميتة السمك طاهرة فكذا دمه"4. ونقل عن فقهاء الشافعية هذا الخلاف في دم الجراد، ونقل عن الرافعي مثله في الدم المستحلب من الكبد والطحال، والصحيح في المذهب النجاسة في كل ذلك. وجاء في المجموع: "أما الوجهان من دم السمك فمشهوران، ونقلهما الأصحاب أيضاً في دم الجراد، ونقلهما الرافعي5 أيضاً في الدم المستحلب من الكبد

_ 1 هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم أبو عبد الله، ولد بجرجان ونشأ ببخارى، تتلمذ على أبي بكر القفال والأودني، كان فقيهاً شافعياً إماماً متقناً، توفي رحمه الله سنة 403?. من تصانيفه "المنهاج في شعب الإيمان". راجع: طبقات الشافعية للأسنوي 3/147. 2 الشربيني 1/112. 3 الرملي 1/240. 4 الشيرازي 2/575. 5 هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي أبو القاسم من أهل قزوين، من كبار الفقهاء الشافعية، ترجع نسبته إلى رافع بن خديج الصحابي. من تصانيفه "شرح مسند الشافعي" و"العزيز شرح الوجيز للغزالي" توفي رحمه الله سنة 623?. راجع: الأعلام للزركلي 4/179، وطبقات الشافعية للأسنوي 5/119.

والطحال، والأصح في الجميع النجاسة"1. فالمستفاد من نصوص الشافعية: أن الدم المسفوح نجس، وأن هذا الحكم يشمل ما تحلب في الأصل من سمك وكبد وطحال. أما بالنسبة للدم الباقي على اللحم والعظم من البهائم المذبوحة فقد اختلفوا في حكمه، فقال الحليمي ومن وافقه إنه نجس، وهذا هو الظاهر في المذهب، وذلك لأنه دم مسفوح غير أنه لم يسل لقلته، ويرى الآخرون أنه طاهر. وقد فسروا هذا بأنه معفو عنه. مذهب الحنابلة: قال الحنابلة بنجاسة الدم المسفوح، وقد استثنوا من هذا الحكم دم السمك حيث قالوا بطهارته باعتبار أن ميتته طاهرة مباحة، وأن ما له نفس سائلة كالذباب والبق والبراغيث والقمل ونحو ذلك، فقد اختلف فقهاء المذهب بالنسبة لحكم دمه حيث وجدت روايتان في المذهب الحنبلي، الأولى: أنه نجس حيث إنه يشبه الدم المسفوح، والثانية: أنه طاهر لأنه دم حيوان لا ينجس بالموت. وأما بالنسبة للدم الباقي على العروق فمباح عندهم. فقد قال ابن الجوزي2: "المحرم هو الدم المسفوح"3. وجاء في الكافي: "والدم نجس ... إلا دم السمك فإنه طاهر، لأن ميتته طاهرة مباحة، وفي دم ما لا نفس له سائله كالذباب والبق والبراغيث والقمل، روايتان؛ إحداهما: نجاسته، لأنه دم أشبه المسفوح. والثانية: طهارته، لأنه دم حيوان لا ينجس

_ 1 النووي 2/576. 2 هو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي أبو الفرج، نسبته إلى محلة الجوز بالبصرة كان بها أحد أجداده، قرشي يرجع نسبه إلى أبي بكر الصديق، من أهل بغداد حنبلي، علاّمة عصره في الفقه والتاريخ والحديث والأدب، اشتهر بوعظه المؤثر، وكان الخليفة يحضر مجالسه. من تصانيفه "تلبيس إبليس" و"الضعفاء والمتروكين" توفي رحمه الله سنة 597?. راجع: الأعلام للزركلي 4/89، طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/399. 3 الإنصاف للمرداوي 1/309.

بالموت، أشبه دم السمك، وإنما حرم الدم المسفوح"1. أما بالنسبة للدم الباقي على العروق، والدم الباقي في خلل اللحم بعد الذبح، وما بقي من العروق فمباح. فهذا النص يفيد: أن الأصل في الدم نجاسته، وأن دم السمك طاهر وذلك على سبيل الاستثناء من هذا الأصل، وأن الخلاف حاصل في المذهب الحنبلي حول دم ما لا نفس له سائلة، مثل الذباب ونحوه مابين القول بطهارته والقول بنجاسته، وأن الدم الباقي على العروق وفي خلل اللحم فمباح عندهم. فقد جاء في الإنصاف: " ... قال في الفروع: ولم يذكر جماعة إلا دم العروق. وقال الشيخ تقي الدين فيه: لا أعلم خلافاً في العفو عنه، وأنه لا ينجس المرق، بل يؤكل معها"2. وجاء في نفس الموضع "غير ما يبقى منه في عرق مأكول بعد ذبحه ولو ظهرت حمرته أي حمرة دم عرق المأكول فإنه طاهر مباح، وكذا ما يبقى في خلال اللحم بعد الذبح طاهر"3. هذا: وقد اختلف فقهاء المذهب الحنبلي في دم السمك والبق والقمل والبراغيث والذباب ونحوها، فالصحيح في المذهب أنها طاهرة وقيل إنها نجسة. " ... ومنها: دم السمك وهو طاهر على الصحيح في المذهب وعليه الأصحاب، ويؤكل وقيل نجس ومنها: دم البق والقمل والبراغيث والذباب ونحوها وهو طاهر على الصحيح من المذهب ... وهذا ظاهر المذهب ... وعنه نجس"4. وجاء في كشاف القناع: "وغير دم سمك وغير دم بق وقمل وبراغيث وذباب

_ 1 ابن قدامه 1/112. 2 المرداوي 1/309. 3 كشاف القناع للبهوتي 1/226. 4 المرداوي 1/309 - 310.

ونحوه مما لا يسيل دمه فدمه طاهر"1. واتفق فقهاء المذهب الحنبلي على طهارة الكبد والطحال وأنهما دمان. فقد جاء في الإنصاف: "ومنها الكبد والطحال وهما دمان. لا خلاف في طهارتهما"2. فالحنابلة: يرون أن الدم المسفوح نجس، وأنه بالنسبة لدم السمك فهو طاهر باعتبار أن ميتته طاهرة، وإن كان نص الإنصاف يفيد أنه مختلف فيه، وأن الصحيح في المذهب أنه طاهر وهذا ما عليه الأصحاب وقالوا بجواز أكله، وقيل إنه نجس. أما بالنسبة لدم البق والقمل والبراغيث والذباب ونحوها فالصحيح في المذهب أنه طاهر، وهذا هو الظاهر في المذهب، وعنه أنه نجس، ولم يذكر هذا الخلاف صاحب الكشاف بل نص على القول بطهارته. أما الدم الباقي في خلل اللحم بعد الذبح، وما بقى في العروق، فقد قال الحنابلة إنه مباح. أما الكبد والطحال فهما دمان وأنه لا خلاف عندهم في طهارته. الموازنة: بمطالعة ما ذكره العلماء بشأن حكم الدم يتضح الآتي: أولاً: بالنسبة للدم المسفوح: فالإجماع حاصل بين الفقهاء على حرمة تناوله كثيراً كان أم قليلاً، وهو الذي يسيل من الحيوان الحي، وكذلك الحيوان الذي يحرم أكله وإن ذكي، أي إن الدم المسفوح وهو الخارج من الذبيحة عند ذبحها وكذا الذي يسيل منها حال حياتها حرام بالاتفاق بين العلماء. ووجه هذا التحريم: أن مثل هذا النوع من الدم يحمل الرطوبات النجسة وأنه لا يطيب اللحم إلا بخروجه، ولهذا تقرر عند عامة الفقهاء تحريم تناول الدم المسفوح وعدم جواز الانتفاع به، وأنه لا يجوز اعتباره محلاً للتداول بين الناس، سواء كان من مأكول اللحم أو كان من غيره، بل هذا أولى بالحكم، وهذا وجه ما استند عليه العلماء

_ 1 البهوتي 1/226. 2 المرداوي 1/310.

في أمر تحريم الدم المسفوح وما في حكمه. وعلى هذا فالدم المسفوح نجس، ويحرم تناوله والانتفاع به، وذلك لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 1 وقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 2 وقال سبحانه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} 3. وفي هذا يقول الشوكاني4: اتفق العلماء على أن الدم حرام وفي الآية الأخرى {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 5 فيحمل المطلق على المقيد، لأن ما خلط باللحم غير محرم. ونقل القرطبي6 الإجماع في ذلك7. هذا: وهناك أدلة تدل على تحريم الدم وعلى نجاسته منها: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 8. وقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} 9.وقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ

_ 1 سورة المائدة: الآية 3. 2 سورة الأنعام: الآية 145. 3 سورة البقرة: الآية 173. 4 هو الإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني. ولد عام 1172?، لازم القاضي أحمد الحرازي والعلامه حسين بن محمد المغربي وعلي بن هادي، من مصنفاته نيل الأوطار وفتح القدير والسيل الجرار توفي رحمه الله عام 1250?, راجع: التاج المكلل للقنوجي 452-461، الأعلام للزركلي 6/298. 5 سورة الأنعام: الآية 145. 6 هو الإمام المفسر محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبو عبد الله القرطبي، الإمام المفسر، من مصنفاته الجامع لأحكام القرآن والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، توفي رحمه الله عام 671?. راجع: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب لأحمد المقري 1/428، الأعلام للزركلي 5/322. 7 فتح القدير 1/169. 8 سورة المائدة: الآية 3. 9 سورة البقرة: الآية 173.

مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 1. أن امرأة جاءت إلي النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له: "إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ فقال: "تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي" 2. فالسنة المطهرة أوضحت أن الدماء كلها نجسة من آدمي أو حيوان، وذلك بدليل الأمر بالغسل والمبالغة في إزالته، وهذا دليل على نجاسته، وذلك مفهوم من الحديث السابق، ولهذا كانت الدماء المسفوحة كلها نجسة، وذلك بإجماع الفقهاء لثبوت نجاسة الدم بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة، وحيث ثبت نجاسته، فإن حكمه من حيث التناول والانتفاع يكون هو الآخر محرماً، ثم يترتب على هذا كله عدم إمكان اعتباره محلاً للبيع وغيره من جميع التصرفات الأخرى على نحو ما سيرد إن شاء الله. وقال ابن العربي: "اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس، لا يؤكل ولا ينتفع به، وقد عينه الله تعالى ها هنا مطلقاً3 وعينه في سورة الأنعام مقيداً بالمسفوح، وحمل العلماء ها هنا4 المطلق على المقيد إجماعاً"5. وقال أيضاً: "الصحيح أن الدم إذا كان مفرداً حرم منه كل شيء وإنما حرم الدم بالقصد إليه" 6. وفي هذا يقول العلامة الشوكاني: "وقد اتفق العلماء على أن الدم حرام". وفي الآية الأخرى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 7. فيحمل المطلق على المقيد8.

_ 1 سورة الأنعام: الآية 145. 2 الحديث متفق عليه من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أخرجه البخاري كتاب الوضوء باب غسل الدم برقم 225، ومسلم كتاب الطهارة باب نجاسة الدم وكيفية غسله برقم 291. 3 أي في سورة البقرة وسورة المائدة. 4 في السورتين السابقتين على المقيد الوارد في سورة الأنعام. 5 أحكام القرآن 1/79. 6 المرجع السابق 2/291. 7 سورة الأنعام: الآية 145. 8 فتح القدير 1/169.

وقال الشوكاني - أيضاً "وما هنا من تحريم مطلق الدم مقيد بكونه مسفوحاً كما تقدم حملاً للمطلق على المقيد" 1. وقال الرازي الجصاص2: قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} 3 وقال: {حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} 4 فلو لم يرد في تحريمه غير هاتين الآيتين لاقتضى ذلك تحريم سائر الدماء قليلها وكثيرها فلما قال في آية أخرى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 5. دل ذلك على أن المحرم هو الدم المسفوح دون غيره. وأخبرنا معمر6 عن قتادة 7 قوله: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} قال: حرم من الدم ما كان مسفوحاً8. وهكذا جاء في تفسير الطبري: "وتقييد الدم المحرم بأنه المسفوح دليل على أن الدم غير المسفوح حلال غير نجس: قال عكرمة 9: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} لولا هذه

_ 1 المرجع السابق نفس الموضع. 2 هو الإمام أحمد بن علي أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص. ولد عام 305?، تفقه على أبي الحسن الكرخي وتخرج به، من مصنفاته أحكام القرآن شرح مختصر الطحاوي وشرح الجامع الصغير والجامع الكبير لمحمد بن الحسن. توفي رحمه الله عام 370 ? ببغداد. راجع: الجواهر المضية في طبقات الحنفية لمحي الدين القرشي1/222-224، تاج التراجم لابن قطلوبغا 96-97. 3 سورة البقرة: الآية 173. 4 سورة المائدة: الآية 3. 5 سورة الأنعام: الآية 145. 6 هو معمر بن راشد الأزدي الحراني مولاهم أبو عروة البصري، سكن اليمن، ثقة كان فقيهاً حافظاً متقناً ورعاً، توفي سنة 152? وقيل 153?. راجع: تهذيب التهذيب لابن حجر 4/125-126. 7 هو قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، من أهل البصرة، ولد ضريراً أحد المفسرين والحفاظ للحديث، قال أحمد بن حنبل: قتادة أحفظ أهل البصرة، وكان مع علمه بالحديث رأساً في العربية ومفردات اللغة وأيام العرب والنسب، مات رحمه الله بواسط في الطاعون سنة 118 ?. راجع: الأعلام للزركلي 5/189، تقريب التهذيب لابن حجر صفحة 453. 8 أحكام القرآن للجصاص 1/150. 9 هو عكرمة بن عبد الله مولى عبد الله بن عباس، وقيل لم يزل عبداً حتى مات ابن عباس وأعتق بعده =

الآية لتُتُبِّعَ من العروق ماَ تَتَّبعت اليهود. وقال قتادة: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} حرم من الدم ما كان مسفوحاً 1.

_ = تابعي مفسر محدث، أمره ابن عباس بإفتاء الناس، أتى نجدة الحروري وأخذ عنه رأي الخوارج ونشره بإفريقية، ثم عاد إلى المدينة فطلبه أميرها فاختفى حتى مات رحمه الله سنة 105 ? واتهمه ابن عمر وغيره بالكذب على ابن عباس، وردوا عليه كثيراً من فتاواه، ووثقه آخرون. راجع: الأعلام للزركلي 5/43 وتقريب التهذيب لابن حجر صفحة 397. 1 تفسير الطبري 3/537.

المبحث الثاني: حكم بيع الدم المسفوح

المبحث الثاني: حكم بيع الدم المسفوح سبق أن تقرر حرمة الدم المسفوح، وأن هذا محل اتفاق بين جميع الفقهاء، والثابت عند العلماء أن ما حرمه الله علينا لا يجوز الانتفاع به بأي وجه من الوجوه، فيكون بيعه حراماً تبعاً لهذا، وبمطالعة كتب الفقه نجد أن عامة الفقهاء قد اتفقوا على تحريم بيع الدم المسفوح ونجاسته ويتضح هذا مما يأتي: مذهب الحنفية: ذهب فقهاء الحنفية إلى بطلان بيع الدم المسفوح، لكونه محرماً شرعاً، وللنهي عن بيعه لعدم ماليته المعتبرة أساساً لعقدالبيع عندهم. فقد جاء في الهداية: "وإذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرما، فالبيع فاسد، كالبيع بالميتة والدم والخمر والخنْزير"1، فتعليل منع البيع هو كونه محرماً. مذهب المالكية: هو القول ببطلان بيع الدم، لأنهم يشترطون طهارة كل من الثمن والمثمون، والدم نجس عندهم. فقد جاء في الشرح الكبير: وهو يعدد النجاسات "ودم مسفوح أي جار بسبب فصد أو ذكاة أو نحو ذلك إذا كان من غير سمك وذباب، بل ولو كان مسفوحاً من سمك وذباب وقراد وحلم خلافاً لمن قال بطهارته منها"2. وجاء في القوانين الفقهية "وأما الثمن والمثمون فيشترط في كل واحد منهما ... أن يكون طاهراً ... فقولنا طاهر تحرزاً عن النجس فإنه لا يجوز بيعه"3. مذهب الشافعية: اشترط فقهاء الشافعية طهارة المبيع، وقالوا بعدم جواز بيع الدم لعدم تحقق شرط الطهارة فيه، لأنه نجس غير طاهر. فقد جاء في شرح المحلي على منهاج الطالبين: "وللمبيع شروط خمسة: أحدها:

_ 1 شيخ الإسلام برهان الدين المرغنياني 6/402. 2 الدردير 1/57. 3 ابن جزي 163 - 164.

طهارة عينه، فلا يصح بيع الكلب والخمر وغيرها من نجس العين ... والمعنى في المذكورات نجاسة عينها فألحق بها باقي نجس العين" 1. وعلى هذا فقد ذهبوا إلى بطلان بيع الدم، وذلك لأنه نجس العين فهو غير طاهر. وجاء في مغني المحتاج:"إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام، وقيس بها ما في معناها"2. وجاء في نهاية المحتاج: "والمستحيل في باطن الحيوان نجس فمنه دم ... "3. ومثله في مغني المحتاج: "والمستحيل في باطن الحيوان نجس وهو دم ولو تحلب من كبد أو طحال لقوله تعالى: {حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} 4 أي الدم المسفوح لقوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} 5 6. فالمستقر عليه من رأي فقهاء الشافعية الاتفاق على بطلان بيع الدم لنجاسته، فطهارة المبيع شرط أساسي في البيع، فنجس العين وما ألحق به من غيره لا يجوز بيعه عند الشافعية. مذهب الحنابلة: ذهب فقهاء الحنابلة إلى القول ببطلان بيع الدم، لأنه لا يصح عندهم بيع عين النجاسة ولا الأعيان المتنجسة. فقد جاء في المغنى والشرح الكبير: "القسم الثاني: ما أكل لحمه فالخارج منه ثلاثة

_ 1 النووي 2/208. 2 الشربيني 3/393. 3 الرملي 1/239. 4 سورة المائدة: الآية 3. 5 سورة الأنعام: الآية 145. 6 الشربيني 1/112.

أنواع "أحدها" نجس وهو الدم وما تولد منه" 1 "ولا يجوز بيع الخنْزير ولا الميتة ولا الدم ... "2. فبيع الدم عندهم باطل. الموازنة: وهكذا نجد أن الفقهاء قد اتفقوا على تحريم بيع الدم، بناء على حرمة تناوله والانتفاع به، وأن الخلاف بينهم في سبب ذلك التحريم ووجه تعليله، فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة يرون أن سبب المنع من البيع إنما هو النجاسة، وذلك لأنهم يشترطون طهارة المبيع كي يصح البيع. خلافاً لمنهج الحنفية في وجه ذلك التعليل حيث وجدناهم يبنون هذا المنع على كونه محرماً، كما نصت بعض كتبهم، كالهداية للمرغيناني، أو المالية والتقويم في المبيع كما نصت بعض كتبهم كبدائع الصنائع والبحر الرائق وغيرهما3، لأنهم يرون جواز بيع النجس للانتفاع به. وعلى هذا: فالمحقق فيما قاله الحنفية في هذا الشأن يجد أنهم في حقيقة الأمر لم يخالفوا ما عليه الجمهور في أصل منع بيع الدم، وإنما فقط كان لهم وجه في تعليل هذا المنع وهو عدم ماليته، في حين أن الجمهور قد اعتبروا سبب منع بيع الدم إنما هو نجاسته. ولهذا انحصر الخلاف بين الفقهاء في أمر واحد هو وجه تعليل منع بيع الدم ما بين قائل بأنه لتحريمه والنهي عنه لنجاسة، أو لعدم ماليته. وحكمة تحريم الدم ومنع بيعه: هي قذارته وضرره، وقد أثبت الطب الحديث ذلك، فهو مركز خصب للجراثيم والميكروبات، التي تشكل أسرع وسائل لنقل عدوى الأمراض، كالدودة الكبدية التي تتلف كبد الإنسان، والتي تنتقل إلى الإنسان من الحيوان عن طريق الدم4.

_ 1 ابن قدامة 1/734. 2 المرجع السابق 4/302. 3 الكاساني 5/141، وابن نجيم 6/115. 4 زاد المعاد في هدي خير العباد 4/239، في ظلال القرآن 1/156 – 157.

المبحث الثالث: خلاصة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الدم

المبحث الثالث: خلاصة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الدم استبان لنا فيما سبق اتفاق العلماء على أن الدم المسفوح محرم شرعاً، وذلك لنجاسته وأنه لهذا حرم تناوله، وبالتالي فقد حرم اعتباره محلاً للانتفاع به لهذا السبب، أو لأن المالية غير معتبرة فيه، وذلك لأن المال ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة. فالدماء المسفوحة كلها نجسة، وذلك بإجماع الفقهاء، وذلك لثبوت نجاسة الدم بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة، وحيث ثبت نجاسته، فإن حكمه من حيث التناول والانتفاع يكون هو الآخر محرماً، وهذا يترتب عليه عدم إمكان اعتباره محلاً للبيع وغيره من كافة التصرفات الأخرى. ففقهاء الحنفية: متفقون على أن المحرم من الدم إنما هو الدم المسفوح دون الذي في العروق والعالق باللحم بعد الذبح، وذلك لطهارته وعدم إمكان وصفه بالمسفوح، في حين أن الخلاف حاصل بينهم بشأن دم السمك، حيث قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله بطهارته، في حين أن أبا يوسف –رحمه الله- يقول بنجاسته1. وفقهاء المالكية: متفقون كذلك على أن الدم المسفوح نجس، وأن هذه النجاسة تشمل الدم الخارج من السمك والذباب والقراد، غير أنهم قد اختلفوا بشأن تحديد الدم المسفوح من السمك، وهل هو الدم الخارج عند التقطيع الأول دون الذي خرج في التقطيع الثاني؟ وقد استظهر بعضهم أن المسفوح إنما هو الخارج عند التقطيع الأول2. وفقهاء الشافعية: يرون أن الدم المسفوح نجس، حتى ولو تحلب من سمك أو كبد أو طحال، رغم أنهم يرون طهارة كل من الكبد والطحال.

_ 1 بدائع الصنائع 1/60 – 62. 2 حاشية الدسوقي 1/52، والشرح الكبير 1/57.

كما أن فقهاء الشافعية: قد اختلفوا بشأن حكم الدم الباقي على اللحم والعظم وفي العروق من الحيوانات المأكولة المذبوحة، فمنهم من قال بأنه نجس معفو عنه، وهذا هو الظاهر، وقال آخرون إنه طاهر1. وذهب فقهاء الحنابلة: إلى القول بنجاسة الدم المسفوح، أما بالنسبة للدم الباقي على العروق والدم الباقي في خلل اللحم بعد الذبح وما يبقى من العروق فمباح، وعللوا هذا بأنه معفو عنه، وقال بعضهم إنه لا ينجس المرق بل يؤكل معها2. هذا: وقد اقتضت حكمة الله تعالى بعباده رفع الحرج عنهم باستثناء بعض الدماء من الأحكام السابق ذكرها من حيث التناول، وإمكان جعلها محلاً للتصرفات دفعاً لهذا الحرج ورفعاً للضيق، إما لسبب عدم الاحتراز عنها – أي عن بعض أنواع الدماء – مثل الدم المتبقى على العروق وما بين العظام وما اختلط باللحم، وأما بسبب الضرورة كما في حالة سد رمق العطش، أو بالنص عليه مثل حالة الكبد والطحال. أولاً: الكبد والطحال اتفق العلماء على أن الكبد والطحال مستثنيان من تحريم الدم الشامل لجميع أنواعه، فرغم أنهما دمان إلا أنهما مباحان بالنص تناولاً، وبالتالي فإن هذا الاستثناء يسري بدوره على البيع والشراء، فالبيع يرد عليهما. وقد تقرر هذا الاستثناء بالاتفاق بين الفقهاء استناداً إلى ما رواه عبد الله بن عمر3 رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال".

_ 1 نهاية المحتاج 1/239، ومغني المحتاج 1/112. 2 الإنصاف 1/309، وكشاف القناع 1/226. 3 الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن، من المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، كان من أشد الناس اتباعا للأثر، ولد بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، واستصغر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، توفي رضي الله عنه عام 73?. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب للقرطبي 1612، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 6/167-173 برقم 4825.

وعلى هذا كان استثناء الكبد والطحال من التحريم بالنص على ذلك فضلاً عن طهارتهما، وهكذا كان الإجماع على إباحتهما وإمكان تناولهما وإيراد جميع التصرفات الشرعية عليهما، ومن ذلك البيع والشراء، وإن كان الخلاف فقط في اعتبارهما دماً أو لحماً. وعن الطهارة بشأنهما – قال المرداوي في الإنصاف "ومنها الكبد والطحال وهما دمان لا خلاف في طهارتهما" 1. وفي كشاف القناع: "والكبد والطحال من مأكول: طاهران لحديث: "أحلت لنا ميتتان ودمان" "2. وجاء في أيسر التفاسير: بشأن تفسير قوله تعالى {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 3 أو مصبوباً صباً لا الدم المختلط بالعروق والعظم واللحم كالكبد والطحال"4. وذكر ابن العربي في أحكام القرآن: بعد أن أورد حكم الدم من حيث الطهارة وعدمها ومن حيث تناوله قال:"ثم اختلف الناس في تخصيص هذا العموم في الكبد والطحال، فمنهم من قال: إنه لا تخصيص في شيء من ذلك، قاله مالك، ومنهم من قال: هو مخصوص من الكبد والطحال، قاله الشافعي، والصحيح أنه لم يخصص، وأن الكبد والطحال لحم يشهد بذلك العيان الذي لا يعارضه بيان ولا يفتقر إلى برهان"5. غير أن البعض الآخر رجح كونهما دمين وأنهما طاهران وشملهما الاستثناء من التحريم بموجب النص السابق في الحديث الذي رواه ابن عمر، فقد ورد في تفسير آيات الأحكام: "وكذلك الكبد والطحال مجمع على عدم حرمته وإن كان في الأصل

_ 1 1/310. 2 البهوتي 1/191. 3 سورة الأنعام: الآية 145. 4 الجزائري 2/133 – 134. 5 1/80.

دماً"1. أي إن الإجماع قائم على حلهما وعلى طهارتهما وإمكان تداولهما بيعاً وشراء، وإنما الخلاف فقط في وصفهما، وهل هما دمان ورد بشأنهما الاستثناء أم أنهما لحمان قد شهد بهما العيان؟ أي أنهما غير مخصوصين من عموم التحريم الوارد في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 2، وعلى هذا كان الخلاف بين العلماء القائلين بحلهما فيما إذا كان مخصوصين من عموم النهي عن تناول الدم في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} أو غير مخصوصين من ذلك، فمنهم من قال: إنهما غير مخصوصين من هذا العموم، ومنهم من قال: هما مخصوصان منه، وقد صحح ابن العربي عدم التخصيص وقال: إن الكبد والطحال لحم ويشهد بذلك العيان. وقد صحح غيره أنهما دمان ورد بشأنهما الاستثناء3. ثانياً: دم السمك: اختلف الفقهاء بشأن مدى طهارة دم السمك، وبالتالي هل يدخل ضمن الاستثناءات الواردة بشأن الدماء الطاهرة من حيث التناول والبيع والشراء من عدمه؟ مذهب الحنفية: اختلف فقهاء الحنفية بشأن طهارة دم السمك، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى ما ذهب إليه عامة الفقهاء من أن دم السمك طاهر، وهذا ما وافقه عليه محمد بن الحسن الشيباني، خلافاً لما قال به أبو يوسف من القول بنجاسة دم السمك. فقد جاء في بدائع الصنائع: "وأما دم السمك فقد روي عن أبي يوسف أنه نجس، وبه أخذ الشافعي4 اعتباراً بسائر الدماء ... وعند أبي حنيفة ومحمد طاهر

_ 1 تفسير آيات الأحكام للصابوني 1/164. 2 سورة المائدة: الآية 3. 3 أحكام القرآن 1/79 – 80. 4 هو الإمام الفقيه محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان الشافعي، صاحب أحد المذاهب الفقهية المعروفة من مذاهب أهل السنة، أبو عبد الله القرشي المطلبي الشافعي، ولد بغزة سنة 150?، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين. من مصنفاته الرسالة، والأم، توفي رحمه الله عام 204?. راجع: سير أعلام النبلاء لمحمد بن أحمد الذهبي 10/5-99 النجوم الزاهرة لجمال الدين تغرى بردى 2/176-177.

لإجماع الأمة على إباحة تناوله مع دمه، ولو كان نجساً لما أبيح، ولأنه ليس بدم حقيقة بل هو ماء تلون بلون الدم لأن الدموي لا يعيش في الماء ... "1. وفي أحكام القرآن: "إن دم السمك ليس بنجس، لأنه يؤكل بدمه"2. فالمستفاد من هذه النصوص: أن أبا حنيفة ومحمداً يريان أن دم السمك طاهر، لإجماع الأمة على إباحة تناوله، لأنه لو كان نجساً لما أبيح تناوله، أو لأنه ليس بدم حقيقة بل هو ماء تلون بلون الدم وذلك لأن الدموي لا يعيش في الماء، ويرى أبو يوسف أنه نجس اعتباراً بسائر الدماء. مذهب المالكية: اختلف المالكية بشأن تحديد الدم المسفوح في السمك هل هو الدم الخارج عند التقطيع الأول دون الذي خرج في التقطيع الثاني، أم هو الخارج من جميع التقطيعات؟ واستظهر بعضهم الأول، غير أنني لم أجد فيما اطلعت عليه من كتب المالكية من صرح بهذا البعض. وقال ابن العربي المالكي بطهارة الدم الخارج من السمك والذباب، فالخلاف بشأن الدم المسفوح من السمك، فقيل نجس وقيل طاهر. فقد جاء في الشرح الكبير: "ودم مسفوح: أي جار بسبب فصد أو ذكاة أو نحو ذلك، إذا كان من غير سمك وذباب بل ولو كان مسفوحاً من سمك وذباب وقراد وحلم، خلافاً لمن قال بطهارته منها، وأما قبل سيلانه من السمك فلا يحكم بنجاسته، ولا يؤمر بإخراجه، فلا بأس بإلقائه في النار حياً"3. وجاء في مواهب الجليل: " ... اختلف الناس في السمك هل له دم أم لا؟ فقال بعضهم لا دم له، والذي ينفصل عنه رطوبة تشبه الدم لا دم، ولذلك لا تسود إذا تركت في الشمس كسائر الدماء بل تبيض. قال ابن الإمام4: وليس ذلك بصحيح، لأن عدم اسوداده لو سلم من كل السمك فذلك لما خالطه من الرطوبة لا لأنه ليس

_ 1 الكاساني 1/61. 2 الجصاص 1/150. 3 الدردير 1/57. 4 سبق التعريف به صفحة 85.

بدم. انتهى. والمشهور أن دمه كسائر الدماء المسفوحة نجس، وغير مسفوحة طاهر، ومقابل المشهور أنه طاهر مطلقاً، وهو قول القابسي1. واختاره ابن العربي انتهى من التوضيح. قال في الجواهر2: وقال ابن العربي: لمالك فيه قولان، والصحيح أنه طاهر، ولو كان نجساً لشرعت ذكاته. واعلم أن الخلاف في دمه إنما هو إذا سال، وأما قبل ذلك فلا يحكم بنجاسته ولا يؤمر بإخراجه، فقد قال مالك في سماع ابن القاسم لا بأس بإلقائه في النار حياً ... "3. وجاء في حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير: " ... وهل الدم المسفوح الذي في السمك هو الخارج عند التقطيع الأول لا ما خرج عند التقطيع الثاني أو الجاري عند جميع التقطيعات؟ واستظهر بعضهم الأول، خلافاً لمن قال بطهارته ... ويترتب على هذا الخلاف جواز أكل السمك الذي يوضع بعضه على بعض ويسيل دمه من بعضه على بعض وعدم جواز ذلك، فعلى كلام المصنف لا يؤكل منه إلا الصف الأعلى، وعلى كلام ابن العربي يؤكل كله ... "4. فيستفاد من نصوص المالكية: أن المشهور في المذهب أن دم السمك كسائر الدماء، فإذا كان مسفوحاً كان نجساً، وإن كان غير مسفوح كان طاهراً، وأن مقابل المشهور أنه طاهر مطلقاً مسفوحاً أو غير مسفوح، وهو قول القابسي وما اختاره ابن العربي، والثابت عندهم أن الخلاف في دم السمك إذا سال أما قبل ذلك فلا يحكم بنجاسته.

_ 1 هو علي بن محمد بن خلف أبو الحسن المعافري الفاسي، فقيه مالكي حافظ محدث أصولي، من قرى قابس رحل إلى المشرق وعاد إلى القيروان، وتولى الفتيا مكرهاً. من تصانيفه "الممهد في الفقه وأحكام الديانة" و"كتاب المناسك" توفي رحمه الله سنة 403 ?. راجع: الأعلام للزركلي 4/326، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 97. 2 المقصود به عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لجلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس ت 616?، وانظر النص في الجواهر 1/15. 3 الحطاب 1/106. 4 الدردير 1/57.

مذهب الشافعية: قالوا بأن دم السمك نجس كغيره من الدماء، وقيل بل هو طاهر وذلك لأن ميتة السمك طاهرة فكذلك دمه يكون طاهراً. فقد جاء في المهذب: "وفي دم السمك وجهان؛ أحدهما: نجس كغيره، والثاني: طاهر لأنه ليس بأكثر من الميتة، وميتة السمك طاهرة فكذلك دمه"1. ومثل ذلك جاء في المجموع: " ... أما الوجهان في دم السمك فمشهوران، ونقلهما الأصحاب أيضاً في دم الجراد، ونقلهما الرافعي أيضاً في الدم المستحلب من الكبد والطحال، والأصح في الجميع النجاسة.."2. فالخلاف حاصل بين فقهاء الشافعية: بشأن دم السمك من حيث طهارته أو نجاسته، فمن قال بطهارته علل ذلك باعتبار طهارة ميتته، فيكون دمه كذلك، ومن قال بنجاسته علل ذلك باعتبار الحكم في الدماء عامة، وقد حكت كتب الشافعية هذا الخلاف، وذكر صاحب المجموع أن الأصح القول بالنجاسة. مذهب الحنابلة: اختلف فقهاء الحنابلة بشأن دم السمك، والصحيح في المذهب أنه طاهر، وفيه رواية أنه نجس. فقد جاء في الإنصاف: "ومنها دم السمك، وهو طاهر على الصحيح في المذهب، وعليه الأصحاب، ويؤكل ... وقيل نجس ... "3. وفي كشاف القناع: " ... طاهر ولو ظهرت حمرته نصاً، لأنه لا يمكن التحرز منه كدم سمك، لأنه لو كان نجساً لتوقفت إباحته على إراقته بالذبح كحيوان البر، ولأنه يستحيل ماء ويؤكلان أي دم عرق المأكول ودم السمك كالكبد"4. فالصحيح عند الحنابلة أن دم السمك طاهر، وأن هذا ما عليه الأصحاب، وأباحوا أكله، وهناك قول في المذهب يقول بنجاسته.

_ 1 الشيرازي 2/575. 2 النووي 2/576. 3 المرداوي 1/309 – 310. 4 البهوتي 1/226.

فخلاصة القول بالنسبة لدم السمك ما يأتي: أن الحنفية يرون طهارة دم السمك، معللين ذلك بالإجماع عليه، ولأنه ليس بدم حقيقة، ولم يخالف في هذا سوى أبي يوسف حيث قال بنجاسة دم السمك بالنظر إلى الدماء عامة، والأصل فيها وهو النجاسة. أن المالكية يرون أن دم السمك كسائر الدماء، وعلى هذا فإنه لو كان مسفوحاً فإنه يكون نجساً، وإن كان غير مسفوح كان طاهراً، وهذا هو المشهور في مذهب المالكية، وإن كان مقابل ذلك المشهور من يرى أنه طاهر مطلقاً. أن الشافعية قد اختلفوا فيما بينهم في حكم دم السمك، فمنهم من قال بطهارته باعتبار طهارة ميتته، وأنه في هذا يكون أولى بذات الحكم وهو الطهارة ومنهم من قال بنجاسته بالنظر إلى أصل الحكم في الدماء عامة وهو النجاسة، وقد ذكرت كتب الشافعية أن هذا هو الصحيح في المذهب. أما الحنابلة فالصحيح من مذهبهم هو القول بطهارة دم السمك، وأن هذا هو ما عليه الأصحاب، وقالوا بإباحة أكله، وإن كان هناك قول في المذهب يرى نجاسته. وعلى هذا: فعامة الحنفية والصحيح عند الحنابلة وقول للشافعية ومقابل المشهور عند المالكية على أن دم السمك طاهر، في حين أن الشافعية في أصح مذهبهم أنه نجس، وقد وافقهم على هذا أبو يوسف من الحنفية ورواية في مذهب الحنابلة وعلى تفصيل في مذهب المالكية، حيث قالوا: إنه يأخذ حكم الدماء عامة، فإن كان مسفوحاً كان نجساً، وإن كان غير مسفوح كان طاهرا. والذي يترجح لدي هو: القول بطهارة دم السمك وإمكان بيعه وتناوله مع السمك ذاته، وأن دم السمك يأخذ نفس حكم الكبد والطحال على نحو ما سبق، وذلك لأن دم الحيوان المائي خارج عن عموم تحريم دم الحيوان الحي أو الميت إذا كان مسفوحاً، لأن عموم هذا الدم نجس، بخلاف دم السمك ونحوه من الحيوانات المائية، حيث اعتبره عامة الفقهاء طاهراً، ومما يؤكد هذا ما علل به الحنفية قولهم بطهارة دم السمك من أنه مجمع عليه، وأنه لا يعتبر دماً حقيقياً وبالتالي لا يشمله عموم تحريم

الدم، كما أن ميتته طاهرة، ولهذا كان دمه كذلك طاهراً على نحو ما علل من ذهب إلى هذا من الشافعية. وقد أجمعت الأمة على إباحة تناول السمك مع دمه، ولو كان نجساً لما أبيح، ولأنه ليس بدم حقيقة بل هو ماء تلون بلون الدم وذلك لعدم إمكان تعايش الدم في الماء. والله تعالى أعلم. ثالثاً: الدم المختلط باللحم والعظم: يرى عامة أهل العلم استثناء الدم العالق باللحم والعروق من الشاة أو نحوها، من مأكول اللحم المذكى من حرمة التناول وإجراء التصرفات عليه من بيع ونحوه، تبعاً لذات اللحم والعروق والعظام، من ذلك المأكول عند ذبحه بالطريق الشرعي، وهذا ما عليه الفتوى رفعاً للحرج والضيق عن العباد، وإن كان الخلاف قائما بينهم بشأن طهارته، ومدى التفرقة بينه وبين الدم المسفوح، فمن قائل بأنه طاهر، ومن قائل بأنه نجس وأن هذه النجاسة معفو عنها، ومن قائل بأنه غير مسفوح، أي الخلاف حاصل بين الفقهاء بشأن علة إباحة الدم الباقي في العروق، فمنهم من قال لأنه طاهر، ومنهم من قال للعفو عنه، فكأنه نجس معفو عنه، وذلك على نحو ما ذكر بعض الشافعية. مذهب الحنفية: اتفق فقهاء الحنفية على أن المحرم من الدم هو الدم المسفوح دون الدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح، حيث إنه طاهر لأنه غير مسفوح، ولأبي يوسف معفو عنه في الأكل غير معفو عنه في الثياب لتعذر الاحتراز عنه في الأكل وإمكانه في الثوب. فقد جاء في أحكام القرآن: " ... أما اللحم الذي يخالطه الدم فلا بأس به" وروى القاسم بن محمد1 عن عائشة – أنها سئلت عن الدم يكون في اللحم المذبوح، قالت: إنما نهى الله عن الدم المسفوح" ثم استطرد قائلاً: ولا خلاف بين الفقهاء في جواز أكل اللحم مع بقاء أجزاء من الدم في العروق، ولأنه غير مسفوح، ألا ترى أنه متى صبّ عليه

_ 1 هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن، من خيار التابعين، كان ثقة رفيعاً عالماً فقيهاً ورعاً أحد فقهاء المدينة السبعة، توفي رحمه الله تعالى سنة 101 ? وقيل غير ذلك. راجع: الأعلام للزركلي 2/40، وشجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 19.

الماء ظهرت تلك الأجزاء فيه، وليس هو بمحرم إذ ليس هو مسفوحاً"1. وجاء في بدائع الصنائع: " ... والدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح طاهر، لأنه ليس بمسفوح، ولهذا حل تناوله مع اللحم، وروي عن أبي يوسف أنه معفو عنه في الأكل غير معفو في الثياب، لتعذر الاحتراز عنه في الأكل وإمكانه في الثوب"2. فالمستفاد من نصوص الحنفية: أنه لا بأس من تناول اللحم العالق به بعض الدم في العروق، وذلك لأنه دم غير مسفوح وليس بمحرم فهو دم طاهر، ولهذا حل تناوله مع اللحم. وإن كان لأبي يوسف رأي في هذه الجزئية وهو أنه دم معفو عنه في الأكل خاصة، لتعذر الاحتراز عنه دون غيره، كما في الثياب مثلاً لإمكان الاحتراز عنه. فأصل مذهب الحنفية طهارة الدم العالق باللحم أو بالعروق، لأنه غير مسفوح، وإن كان المستفاد من رأي أبي يوسف أنه ليس كذلك، ولكنه معفو عنه في الأكل لعدم الاحتراز عنه، فأبو يوسف يرى أنه نجس غير معفو عنه. مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى القول بجواز تناول الدم الباقي على اللحم والعروق، وأنه لا بأس من شموله بالبيع مع اللحم والعروق، لأنه لا يمكن التحرز عنه؛ فأساس التجاوز عن الدم العالق بالعروق هو عدم إمكان تحرز الناس عنه، وتحقيقاً لرفع الحرج عنهم. فقد جاء في أحكام القرآن: " ... قال الإمام الحافظ3: الصحيح أن الدم إذا كان مفرداً حرم منه كل شيء، وإن خالط اللحم جاز، لأنه لا يمكن الاحتراز منه، وإنما حرم الدم بالقصد إليه"4. وجاء في حاشية الدسوقي: " ... ودم لم يسفح وهو الذي لم يجر بعد موجب خروجه بذكاة شرعية، وهو الباقي في العروق، وكذا ما يوجد في قلب الشاة بعد

_ 1 الجصاص 1/150. 2 الكاساني 1/92. 3 هو أبو بكر المعروف بابن العربي وقد سبق التعريف به صفحة 120. 4 ابن العربي 2/291.

ذبحها، وأما ما يوجد في بطنها فهو من المسفوح فيكون نجساً، وكذا الباقي في محل الذبح، لأنه من بقية الجاري"1. وجاء في الجامع لأحكام القرآن: "وأما الدم فمحرّم ما لم تعم به البلوى، والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم والعروق، وروي عن عائشة أنها قالت: "كنا نطبخ البرمة2 على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم، فنأكل ولا ننكره"34. فالمستفاد من نصوص المالكية: أنهم يجوزون تناول اللحم العالق به الدم وذلك لعدم إمكان الاحتراز عنه؛ فعندهم جواز تناول الدم المخالط للحم لهذا السبب، وذكرت بعض كتبهم كحاشية الدسوقي أنه دم غير مسفوح فجاز تناوله وإمكان بيعه مع اللحم. مذهب الشافعية: اختلف فقهاء الشافعية بالنسبة لحكم الدم الباقي على العروق واللحم والعظام من البهائم المذبوحة، فذهب الحليمي وجماعة إلى أنه نجس، وأن هذه النجاسة معفو عنها، وذلك هو الظاهر، لأنه مسفوح إلا أنه لم يسل لقلته، وقال الآخرون إنه طاهر، وقيل إن مراد من عبر بالطهارة أنه معفو عنه. أما الدم الباقي على اللحم وعظامه من المذكاة فهو نجس معفو عنه. فقد جاء في نهاية المحتاج: "أما الدم الباقي على اللحم وعظامه من المذكاة فنجس معفو عنه كما قاله الحليمي ... ومراد من عبر بطهارته أنه معفو عنه"5. وجاء في مغني المحتاج: "أما الدم الباقي على اللحم وعظامه فقيل إنه طاهر،

_ 1 الدسوقي 1/52. 2 البرمة: القدر من الحجر، والجمع برم مثل غرفة وغرف. المصباح المنير للفيومي صفحة 45، القاموس المحيط للفيروز آبادي صفحة 1394. 3 القرطبي 2/204. 4 الحديث ذكره القرطبي في تفسيره 2/222 ولم يعزه لأحد هذا الحديث لم أجده بهذا اللفظ في الكتب المسنده، وهو في بعض كتب التفسير والفقه بهذا اللفظ. 5 الرملي 1/239.

وهو قضية كلام المصنف في المجموع وجرى عليه السبكي1، ويدل له من السنة قول عائشة رضي الله عنها: "كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فيأكل ولا ينكره"2 وظاهر كلام الحليمي وجماعة أنه نجس معفو عنه، وهذا هو الظاهر لأنه دم مسفوح وإن لم يسل لقلته ... "3. فالمستفاد من نصوص الشافعية: أن الدم الباقي على اللحم وعظامه نجس، لأنه دم غير مسفوح، وإن لم يسل لقلته، غير أنه معفو عنه لعدم إمكان التحرز عنه عند التناول، وإلى هذا ذهب الحليمي وجماعة من الشافعية. في حين أن الرأي المقابل يرى أنه طاهر، وذكرت كتب الفقه الشافعي تفسيراً لهذا القول بأن مراد من قال به: أنه معفو عنه. مذهب الحنابلة: أن الدم الذي يبقى على عروق مأكول اللحم بعد ذبحه طاهر على صحيح المذهب الحنبلي، وبالتالي فلا مانع من تناوله تبعاً لهذا اللحم أو ما علق به، وكذلك الحكم بالنسبة للدم الباقي في خلل اللحم بعد الذبح، وإن كان هناك من قال بنجاسته، وهذا ظاهر كلام القاضي على نحو ما نقله العلامة ابن الجوزي، وذكر الشيخ تقي الدين عدم الخلاف في العفو عنه، وأنه لا ينجس المرق بل يؤكل معها، وذلك لعدم إمكان التحرز عنه. وقد جاء في الإنصاف: " ... ودم عروق المأكول طاهر على الصحيح من المذهب، ولو ظهرت حمرته ونص عليه، وهو الصحيح من المذهب، وهو من المفردات، لأن العروق لا تنفك عنه فيسقط حكمه، لأنه ضرورة، وظاهر كلام

_ 1 هو عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن تمام السبكي أبو نصر، من كبار فقهاء الشافعية، ولد بالقاهرة وسمع بمصر ودمشق، تفقه على أبيه وعلى الذهبي، برع حتى فاق أقرانه، درس بمصر والشام، وولى القضاء بالشام كما ولى بها خطابة الجامع الأموي. من تصانيفه "طبقات الشافعية الكبرى" توفي رحمه الله سنة 771 ?. راجع: الأعلام للزركلي 4/325. 2 ذكره القرطبي في التفسير 2/222 ولم يعزه لأحد. 3 الشربيني 1/112.

القاضي1 في الخلاف: نجاسته، قال ابن الجوزي: المحرم هو الدم المسفوح، ثم قال القاضي: فأما الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح وما يبقى في العروق فمباح. قال في الفروع ولم يذكر جماعه إلاّ دم العروق. وقال الشيخ تقي الدين فيه: لا أعلم خلافا في العفو عنه وأنه لا ينجس المرق بل يؤكل معها ... "2. وجاء في كشاف القناع: " ... ودم عرق مأكول بعد ما يخرج بالذبح وما في خلال اللحم طاهر ولو ظهرت حمرته نصاً، لأنه لا يمكن التحرز منه"3. الموازنة: بمراجعة ما قاله الفقهاء بشأن الدم العالق بالعروق يتضح لنا: أن الحنفية: يرون أنه طاهر، وذلك لأنه غير مسفوح، وإن كان أبو يوسف يرى أنه مسفوح غير أنه معفو عنه في الأكل لعدم الاحتراز عنه وأنه نجس في غير الأكل إذا علق بالثياب. المالكية: أنه مباح لعموم البلوى به، أو لعدم الاحتراز منه، وأن الباقي في محل الذبح نجس، لأنه من المسفوح. الشافعية: أنه نجس معفو عنه، لعدم إمكان الاحتراز، وقيل: بأنه طاهر، وفسر هذا بأنه معفو عنه. الحنابلة: اختلفوا، هم الآخرون بشأن حكم الدم الباقي على العروق، فمنهم من قال بأنه طاهر، ومنهم من قال بأنه نجس معفو عنه. وهذا يوضح أن الاتفاق حاصل بين العلماء على أن الدم العالق بالعروق والمختلط باللحم من مأكول اللحم المذكى ذكاة شرعية مستثنى من الحكم الأصلي للدم وهو النجاسة باعتبار أصله، وبالتالي فإن هذا الاستثناء له أثره بالنسبة للدم على هذا النحو.

_ 1 القاضي هو أبو يعلى محمد الحسين بن خلف أحمد الفراء البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 458 ?، مترجم في طبقات الحنابلة لابنه 2/193-231. 2 المرداوي 1/309. 3 البهوتي 1/226.

وأن الخلاف فقط في تعليل هذا الاستثناء، فمنهم من علله بطهارته باعتبار طهارة أصله المأكول المذكى، ومنهم من علله باعتبار أنه معفو عنه لقلته وعدم إمكان التحرز رغم أنه نجس عندهم. وخلاصة القول: أن العلماء لهم مذهبان في حكم تناول الدم غير المسفوح وهو الذي يختلط باللحم أو يبقى في العروق بعد تذكية الحيوان. المذهب الأول: يرى جواز تناول الدم غير المسفوح مع ما علق فيه من اللحم، وإن غير أعلى الإناء الذي يطبخ فيه، وإليه ذهب الحنفية والمالكية وهو قول عند الشافعية وقول للحنابلة. المذهب الثاني: يرى حرمة تناول الدم مطلقاً وإن كان غير مسفوح، وهذا هو الأظهر من مذهب الشافعية وما ذهب إليه الحنابلة في رواية في المذهب. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول بما يأتي: 1 – قوله تعالى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} 1. حيث أفادت هذه الآية أن ما يحرم تناوله من الدم إنما هو المسفوح فقط دون غيره، وعلى هذا فلا يحرم تناول الدم غير المسفوح، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لولا أن الله تعالى قال: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} لتتبع الناس ما في العروق"2، فلا تلتفتوا إلى ما يعزى إلى ابن مسعود3 في الدم، فالمراد به الدم المسفوح

_ 1 سورة الأنعام الآية 145. 2 ذكر الأثر الثعالبي في تفسيره 1/130، وسبق تخريجه عن عكرمة أيضا صفحة 128. 3 هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين، ومن كبار علماء الصحابة، مناقبه جمة، أمره عمر على الكوفة. توفي رضي الله عنه سنة 32? وقيل 33? بالمدينة. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر برقم 1677، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 6/214-217 برقم:4945.

كما فسرته الآية الأولى، قال هذا ابن عباس وسعيد بن جبير1، فما حرم الله سبحانه هو الدم المسفوح حملاً للمطلق على المقيد فغير المسفوح ليس داخلاً في النهي2. 2- ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا نطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم، فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره"3. 3- روى أبو غالب4 عن أبي أمامة الباهلي5 قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام فأتيتهم فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة6 من دم، فاجتمعوا عليها يأكلونها، فقالوا: هلم فكل: فقلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذلك؟ فتلوت عليهم هذه الآية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 7"8. فقد أفاد هذا الحديث حرمة ما كان يفعله أهل الجاهلية، من تناول الدم المسفوح حيث كان أحدهم إذا أدركه الجوع أخذ محددا9 من عظم أو نحوه فيقصد به بعيره أو غيره من الحيوانات ثم يجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه وهذا هو الدم المسفوح. وقد

_ 1 هو الإمام الحافظ المفسر أبو محمد سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي، مولاهم الكوفي، أحد الأعلام، لازم ابن عباس رضي الله عنهما، قتله الحجاج ظلما سنة 95?. راجع: سير أعلام النبلاء لمحمد بن أحمد الذهبي 4/321-343، الطبقات لابن سعد 6/256. 2 الجامع لأحكام القران 7/423 – 424 فتح القدير للشوكاني 2/8. 3 سبق الحديث في صفحة 142. 4 أبو غالب صاحب أبي أمامة، بصري، قيل اسمه حزور، وقيل سعيد بن الحزور، وقيل نافع، صدوق يخطئ. راجع: تقريب التهذيب برقم 8362. 5 هو الصحابي الجليل، صدي بن عجلان بن الحارث الباهلي، أبو أمامة مشهور بكنيته، سكن الشام وتوفي بها سنة 86?. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1242، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر برقم 4079. 6 القصعة: الضخمة تشبع العشرة، جمعها قصعات، والقصيعة تصغيرها. المصباح المنير للفيومي صفحة 506، لسان العرب لابن منظور 11/193. 7 سورة المائدة: الآية 3. 8 الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك 3/744، والطبراني في المعجم الكبير 8/279. 9 محددا: يقال سيف حاد أي قاطع ماض. المصباح المنير للفيومي صفحة 125، القاموس المحيط للفيروز آبادي صفحة 352.

أخبر أبو أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم تناوله واستشهد على هذا بآية المائدة فدل هذا على أن الذي يحرم تناوله هو الدم المسفوح. 4 – ما رواه القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إنما نهى عن الدم السافح" 1 وروى عنها أنها قالت: "لولا أن الله تعالى قال: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 2 لتتبع الناس ما في العروق". فقد أفاد قول عائشة رضي الله عنها أن ما يحرم تناوله من الدم هو المسفوح ليس غيره، وأما غيره فلا يحرم تناوله. 5 – ما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه سئل عن الطحال فقال كلوه. قالوا: إنه دم. فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح"3. حيث أفاد هذا قصر ما يحرم تناوله من الدم على المسفوح منه، وانحصار الحرمة فيه دون غيره. هذا كله فضلاً: عما رواه ابن العربي من إجماع العلماء على أن المطلق من الدم في آية المائدة محمول على المقيد منه بالمسفوح في آية الأنعام، وما قاله القرطبي من أن العلماء أجمعوا على أن الدم المختلط باللحم لا يحرم4. واستدل أصحاب المذهب الثاني بما يأتي: 1 – قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 5. حيث إن هذه الآية مدنية من آخر ما نزل من القرآن، وإن كان تحريم الدم في آية الأنعام المكية مقيداً بالدم المسفوح، إلا أن هذه الآية نزلت بعدها فحرمت الدم كله مسفوحاً أو غير مسفوح، تدرجاً في تشريع الأحكام، فحرم في أول الإسلام بمكة الدم المسفوح، ثم حرم بالمدينة الدم كله،

_ 1 تفسير ابن كثير 2/185. 2 سورة الأنعام: الآية 145. 3 الأثر أخرجه البيهقي في السنن 10/7، وابن أبي شيبة في المصنف 5/125، ورجاله رجال الصحيح. 4 الجامع لإحكام القرآن 2/149، أحكام القرآن 1/79. 5 سورة المائدة: الآية 3.

فمن لم يحرم إلا المسفوح وحده فقد أحل ما حرم الله تعالى في الآية الأخرى، ومن حرم الدم جملة فقد أخذ بالآيتين جميعاً، وقد حرم بعد آية الأنعام أشياء ليست فيها كالخمر وغيره، فوجب تحريم كل ما جاء نص بتحريمه بعد ذلك، والدم جملة مما نزل تحريمه بعد تلك الآية، فوجب تحريمه. 2 – ما روى ابن كريب1 عن جبير بن نفير2 أنه قال: "قالت لي عائشة أم المؤمنين: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها حراماً فحرموه"3. فهذه السورة جاء في بعض آياتها تحريم الدم، كقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} 4 وقول عائشة هذا يفيد حرمة تناول الدم عامة، للنص على حرمة تناوله في هذه السورة التي هي آخر ما نزل من القرآن. والذي يترجح لدي: هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول من أن الدم الذي يحرم تناوله هو الدم المسفوح، وذلك لقوة ما استدلوا به، ولأن المطلق الذي حرم تناوله في آيتي البقرة والمائدة قيد في آية الأنعام بالمسفوح، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المطلق في آيتي البقرة والمائدة يحمل على المقيد في آية الأنعام، وقد تأيد هذا الحمل بقول ترجمان القرآن ابن عباس، واستشهاد أبي أمامة الباهلي بآية المائدة على حرمة تناول الدم المسفوح، وقصر عائشة النهي عن تناول الدم على المسفوح منه، فلو كان المراد بالنهي عن تناول الدم عموماً لما خفي هذا على أمثال ابن عباس وعائشة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم.

_ 1 هو حدير بن كريب الحمصي أبو الزاهرية، صدوق، مات على رأس المائة. راجع: تقريب التهذيب لابن حجر برقم 1153. 2 هو جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي الحمصي، ثقة مخضرم، وأبو نفير صحابي، توفي سنة 80?. راجع: تقريب التهذيب لابن حجر برقم 912. 3 الأثر أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/188، والحاكم في المستدرك 2/340 وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن 7/172. 4 سورة البقرة: الآية 173.

وإن كانت السيدة عائشة رضي الله عنها قد صرحت بحكم ما يعلو على البرمة وهو أنه معفو عنه للضرورة، وهي عدم إمكان التحرز عنه، ويستفاد من هذا أن ما لم يدخل في الحدود التي استثنتها السيدة عائشة محكوم بالأصل العام في المسألة وهو التحريم، فاستثناء السيدة عائشة غير متوسع فيه ومحكوم بضوابط دقيقة، والله تعالى أعلم.

الفصل الثالث: بيع فضلات الإنسان والحيوان

الفصل الثالث: بيع فضلات الإنسان والحيوان اختلف الفقهاء في حكم بيع فضلات الإنسان والحيوان، وذلك بناء على اختلافهم في نجاسة هذه الفضلات، أو أنها مكرمةُ باعتبارها جزءاً من الإنسان، أو على أساس عدم ماليتها وعدم إمكان الانتفاع بها، على خلاف فيما لو كانت الأبوال والسرقين1 من مأكول اللحم أم من غيره. وهذا يستلزم ضرورة إلقاء الضوء على أهم هذه المسائل، حتى يتضح لنا إمكانية بيع فضلات الإنسان والحيوان ونحوه، وذلك في المباحث الآتية:

_ 1 السرقين هي لغة في كلمة سرجين، وقد سبق تعريفها صفحة 37.

المبحث الأول حكم المني وحكم بيعه

المبحث الأول حكم المني وحكم بيعه المطلب الأول: حكم المني المني لغة: بفتح الميم وكسر النون وتشديد الياء عام يشمل ماء الرجل وماء المرأة1. والمني في عرف الشرع: هو ماء الرجل، أبيض ثخين، يتدفق في خروجه دفعة بعد دفعة ويخرج بشهوة، ويتلذذ بخروجه، ثم إذا خرج يعقبه فتور، ورائحته كرائحة طلع النخل قريبة من رائحة العجين، وإذا يبس كانت رائحته كرائحة البيض. أما ماء المرأة: فهو أصفر رقيق، وقد يبيض لفضل قوتها2. وقد اختلف الفقهاء بشأن طهارة المني وذلك على النحو الآتي: مذهب الحنفية: قالوا بأن المني نجس يجب غسله إن كان رطباً، وإذا جف على الثوب أجزأ الفرك، وكذلك الشأن بالنسبة لكل ما يخرج من بدن الإنسان وكان موجباً للتطهير، حتى إن بعضهم ذهب إلى أن نجاسته غليظة. جاء في البناية شرح الهداية: "والمني نجس يجب غسله إن كان رطباً، فإذا جف على الثوب أجزأ فيه الفرك"3. وجاء في بدائع الصنائع: " ... أما أنواع الأنجاس فمنها ما ذكره الكرخي 4 في مختصره أن كل ما خرج من بدن الإنسان مما يجب بخروجه الوضوء أو الغسل فهو

_ 1 لسان العرب لابن منظور 13/203. 2 المجموع للنووي 2/151 - 152، وفقه السنة لسيد سابق 1/20. 3 العيني 1/712. 4 هو عبيد الله بن الحسين أبو الحسن الكرخي، فقيه حنفي انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق، مولده بالكرخ ووفاته ببغداد. من تصانيفه "شرح الجامع الصغير وشرح الجامع الكبير" وكلاهما في فقه الحنفية، توفي رحمه الله سنة 340?. راجع: الأعلام للزركلي 4/193.

نجس، من البول، والغائط، والودي1، والمذي2، والمني، ودم الحيض، والنفاس، والاستحاضة، والدم السائل من الجرح، والصديد، والقيء ملء الفم، لأن الواجب بخروج ذلك مسمى بالتطهير"3. وجاء في الاختيار لتعليل المختار: "وكل ما يخرج من بدن الإنسان وهو موجب للتطهير فنجاسته غليظة، وذلك كالغائط والبول والدم والصديد والقيء ولا خلاف فيه، وكذلك المني"4. فالمستفاد من نصوص الحنفية: أن المني نجس حيث إنه موجب للغسل والتطهير، فإن كل ما يخرج من بدن الإنسان على هذا النحو يكون نجساً، وأن نجاسته غليظة، وأنه لا خلاف في هذا، وأن المني شأنه شأن الغائط والبول والدم والصديد والقيء. مذهب المالكية: القول بأن المني نجس، على خلاف في اعتبار هذه النجاسة بحسب أصله أم باعتبار ممره على محل البول النجس؟ وقد بنوا حكمهم في هذا على طلب غسل الثوب والموضع منه، وقالوا بأن الشيء إنما يغسل من الغائط والبول والمذي والمني والدم والقيء، وأن المني خارج من مخرج معتاد من السبيل فأشبه البول، وأن المذي جزء من المني، لأن الشهوة تتخلل كل واحد منهما فاشتركا في النجاسة. فقد جاء في حاشية الدسوقي: "وكل ما يخرج من بدن الإنسان موجباً للغسل فنجاسته غليظة كالبول والغائط ونحوه، وكذلك المني"5. وجاء في الشرح الكبير: "ومن النجس مني ومذي وودي، ولو من مباح الأكل في الثلاثة للاستقذار والاستحالة إلى فساد ولأن أصلها دم ولا يلزم من العفو عن

_ 1 الودي: ماء أبيض ثخين يخرج بعد البول، يخفف ويثقل. المصباح المنير للفيومي صفحة654، القاموس المحيط للفيروز آبادي صفحة1729. 2 المذي: ماء يخرج عند الملاعبة والتقبيل. القاموس المحيط للفيروز آبادي صفحة 1719. 3 الكاساني 1/60 – 61. 4 الموصلي 1/32. 5 الدسوقي 1/58.

أصلها العفو عنها"1. وفي مواهب الجليل: "والمني نجس، قال المصنف2 وغيره لا نعلم فيه خلافاً وحكى ابن فرحون وفيه الخلاف عن صاحب الإرشاد، وتأوله ابن الفرات 3بأن المراد الخلاف هل هو نجس لأصله أو لممره قلنا وليس ذلك بظاهر ونص كلامه في الإرشاد4 والمشهور نجاسة فيه يعني الآدمي، وقال في عمدته5: وفي المني قولان: وأما الخلاف الذي ذكره هل هو نجس لأصله أو لممره على محل البول ... وقد اتفق الأصحاب على نجاسة مني الآدمي ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام – وغسل عائشة رضي الله عنها المني من ثوبه صلى الله عليه وسلم تشريع ... "6. فالمستفاد من نصوص المالكية: القول بنجاسة المني، وأن هذا لا خلاف عليه في مذهب المالكية، وأن بعضهم قد حكى خلافاً في تعليل نجاسته هل كانت بسبب أصله أم كانت بسبب ممره؟ أي باعتبار ما يمر فيه في مجرى البول، مع اتفاق الأصحاب على أن الحكم بنجاسة مني الآدمي قد استثني منه مني الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا لا يضره ما ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أنها كانت تغسل ثوبه صلى الله عليه وسلم، لأن هذا في إطار تشريع الغسل لا لكون منيه صلى الله عليه وسلم ليس بطاهر. وحكى ابن فرحون أن في حكمه خلاف عن صاحب الإرشاد.

_ 1 الدردير 1/86. 2 يعني به صاحب المختصر، وهو خليل. 3 هو أسد بن الفرات بن سنان مولى بني سليم أبو عبد الله، قاضي القيروان وأحد القادة الفاتحين، أصله من خراسان ولد بحران سنة 142? ورحل أبوه إلى القيروان في جيش الأشعث فأخذه معه وهو طفل فنشأ بها ثم بتونس، وحفظ القرآن الكريم، ثم تعلم الفقه، ثم رحل إلى المشرق في طلب الحديث. من مصنفاته "الأسدية في فقه المالكية" توفي رحمه الله سنة 213 ?. راجع: الأعلام للزركلي 1/298. 4 الإرشاد في الفقه للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عسكر البغدادي المتوفى سنة 732?، ولولده شرح عليه. راجع: الديباج المذهب لابن فرحون 1/483-484 برقم 17. 5 العمدة في الفقه للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عسكر البغدادي المتوفى سنة732?. راجع: الديباج المذهب لابن فرحون 1/483-484. 6 الحطاب 1/104.

مذهب الشافعية: قالوا إن المني طاهر، وذلك على الأظهر عندهم. فقد جاء في المهذب: " ... وأما مني الآدمي فهو طاهر ... "1. وجاء في مغني المحتاج: " ... وأما مني الآدمي فطاهر على الأظهر ... الثاني: أنه نجس مطلقاً، لأنه يستحيل في الباطن فأشبه الدم، والثالث: أن مني المرأة نجس بناء على نجاسة رطوبة فرجها، وألحق مني الخنثى بمني المرأة على هذا القول ... "2. فالمستفاد من نصوص الشافعية: أن مني الآدمي طاهر، وذلك على الأظهر في المذهب، وقد حكى صاحب مغني المحتاج أقوالاً أخرى منها: أن مني الآدمي نجس مطلقاً لأنه يستحيل في الباطن فأشبه الدم، ومنها أن مني المرأة وحده هو النجس وذلك لنجاسة رطوبة فرجها، وأن مني الخنثى يلحق بمني المرأة في هذا الحكم. مذهب الحنابلة: اختلف فقهاء الحنابلة بشأن حكم طهارة المني، والمذهب عندهم القول بطهارته، وهذا ما عليه الأصحاب، وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد. فقد جاء في المغنى: اختلفت الرواية عن أحمد في المني، فالمشهور: أنه طاهر، وعنه: أنه كالدم، أي أنه نجس ويعفى عن يسيره، وعنه: أنه لا يعفى عن يسيره ويجزئ فرك يابسه على كل حال. والرواية الأولى هي المشهورة في المذهب، وهو قول سعد بن أبي وقاص3 وابن عمر، وقال ابن عباس: "امسحه عنك بإذخرة4 أو خرقة، ولا تغسله إن شئت5"6.

_ 1 الشيرازي 1/168. 2 الشربيني 1/114. 3 هو سعد بن مالك أهيب بن عبد مناف بن زهرة أبو إسحاق قرشي من كبار الصحابة، أسلم قديماً وهاجر وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله وهو أحد الستة الذين عينهم عمر للخلافة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، تولى قتال جيوش الفرس وفتح الله على يديه العراق، اعتزل الفتنة أيام علي ومعاوية، توفي رضي الله عنه بالمدينة سنة 55 ?. راجع: الأعلام للزركلي 3/87. 4 الإذخرة: الحشيش الأخضر، وقيل حشيش طيب الريح، وإذا جف ابيض. القاموس المحيط للفيروز آبادي 506، المصباح المنير للفيومي صفحة 207. 5 الأثر أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1/368، ورجاله ثقات. 6 ابن قدامة 2/92.

فمشهور مذهب الحنابلة طهارة مني الآدمي، وهناك رواية عن الإمام أحمد أنه نجس كالدم يعفى عن يسيره، وفي رواية لا يعفى عن ذلك اليسير. وجاء في الإنصاف: "قوله: ومني الآدمي طاهر، هذا هو المذهب مطلقاً، وعليه جماهير الأصحاب ونصروه، سواء كان من احتلام أو جماع، من رجل أو امرأة، لا يجب فيه فرك ولا غسل. وقال أبو إسحاق 1: يجب أحدهما، فإن لم يفعل أعاد ما صلى فيه قبل ذلك. وعنه أنه نجس يجزئ فرك يابسه ومسح رطبه، واختاره بعض الأصحاب. وعنه أنه نجس يجزئ فرك يابسه من الرجل دون المرأة ... وعنه أنه كالبول فلا يجزئ فرك يابسه، وقطع به ابن عقيل2 في مني الخصي3، لاختلاطه بمجرى بوله، وقيل: مني الجماع نجس دون مني الاحتلام، ذكره القاضي، وقيل: مني المرأة نجس دون مني الرجل، حكاه بعض الأصحاب، وقيل: مني المستجمر4 نجس دون غيره5. فالذي يستفاد من نصوص الحنابلة وما عليه جماهير الأصحاب وأيدوه أن مني الآدمي طاهر بصرف النظر عن سبب إنزاله، وسواء كان من رجل أم كان من امرأة، وأنه لا يجب فركه ولا غسله، وقال أبو إسحاق بوجوب أحد الأمرين:

_ 1 هو إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الحربي أصله من مرو نسبته إلى محلة ببغداد إمام فقيه من أصحاب الإمام أحمد نقل عنه مسائله، كان محدثا قيما بالأدب واللغة، توفي رحمه الله تعالى سنة 285?. راجع: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/86، والأعلام للزركلي 1/32. 2 هو علي بن عقيل بن محمد بن عقيل أبو الوفاء البغدادي الظفري الحنبلي، يعرف بابن عقيل، فقيه أصولي مقرىء تفقه على القاضي أبى يعلى وغيره، وأخذ علم الكلام عن أبي علي بن الوليد وأبي القاسم بن التبان وغيره. من تصانيفه "كتاب الفنون" توفي رحمه الله سنة 513?. راجع: الأعلام للزركلي 5/129. 3 الخصية الخصي بمعنى، وجمع الخصية خصى مثل مدية مدى، وخصيت العبد أخصيه خصاء - بالكسر والمد - سللت خصييه فهو خصي، وخصيت الفرس قطعت ذكره فهو خصي. المصباح المنير للفيومي صفحة 171. 4 المستجمر بمعنى المتبخر، يقال جمر ثوبه تجميرا بخره، وربما قيل أجمره واستجمر الإنسان في الاستنجاء قلع النجاسة بالجمرات والجمار وهي الحجارة. القاموس المحيط للفيروز آبادي صفحة 469، المصباح المنير للفيومي صفحة 108. 5 المرداوي 1/321.

الفرك أو الغسل. وهناك رواية عن الإمام أنه نجس، وأنه يجزي فرك يابسه ومسح رطبه، وأن هذا هو اختيار بعض الأصحاب. وهناك رواية أخرى عنه أنه نجس يجزئ فرك يابسه من الرجل دون المرأة. وعنه أنه كالبول فلا يجزئ فرك يابسة. وقيل: إن مني الجماع نجس دون مني الاحتلام وذلك باعتبار مخالطته لرطوبة فرج المرأة. وقيل: مني المرأة نجس دون مني الرجل وهذا ما حكاه بعض الأصحاب. وقيل: مني المستجمر نجس دون غيره. الموازنة: إن الناظر فيما قاله الفقهاء يجد أن الخلاف بينهم ينحصر في مذهبين، وذلك لأن مرد كل ما ورد من أقوال متعددة إلى هذين القولين إجمالاً، وإن كانت كتب الحنابلة كالإنصاف قد فرعت في هذا الخلاف: المذهب الأول: يرى أن المني نجس، وهذا قول الحنفية والمالكية ورواية عند الشافعية ورواية عن الإمام أحمد وبعض الحنابلة بالنسبة لمني المرأة ومني الجماع عند البعض الآخر. المذهب الثاني: القول بأن المني طاهر، وهذا ظاهر مذهب الشافعية ومذهب جماهير أصحاب أحمد بن حنبل ومن قال من الحنابلة بطهارة مني الرجل دون مني المرأة ومن قال منهم بأن مني الاحتلام طاهر دون مني الجماع وقول عن صاحب الإرشاد حكاه ابن فرحون. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول بما يأتي: بحديث عمار بن ياسر1 رضي الله عنه وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: "إنما

_ 1 الصحابي الجليل عمار بن ياسر بن عامر بن مالك العنسي، أبو اليقظان، مولى بني مخزوم، من السابقين الأولين، بدري، ممن عذب في الله، هاجر إلى المدينة وشهد المشاهد كلها. توفي رضي الله عنه بصفين سنة 37?، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 11863، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 7/64-65.

يغسل الثوب من المني والبول والدم" 1 والذي تقرر فيه أن الثوب إنما يغسل من الغائط والبول والمذي والمني والدم والقيء، فقد سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين المني والأعيان النجسة المذكورة في طلب الغسل، فكما أن الغسل واجب من الغائط والبول والقيء والدم فكذلك الحال بالنسبة للمني، فدل هذا على نجاسته2. واستدلوا بما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث قالت:"كنت أغسل ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان رطباً، وأفركه إذا كان يابساً"3. وقالوا: إن المني خارج معتاد من السبيل فأشبه البول، وأن المذي جزء من المني لأن الشهوة تتخلل كل واحد منهما فاشتركا في النجاسة. وقد بنى من قال بنجاسة مني المرأة خاصة، وكذا من قال بنجاسة مني الجماع خاصة، بنى هذا على مخالطة النجاسة من حيث المجرى أي مجري البول من كل من الرجل والمرأة. واستدل أصحاب المذهب الثاني بما يأتي بما روي عن عائشة رضي الله عنها حيث قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب فقال: "إنما هو بمنْزلة المخاط والبصاق4 إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة" 5. هذا فضلاً على أنهم قاسوا المني على التراب في أن كلاً منهما بدء خليقة الإنسان، وما دام التراب طاهراً فالمني طاهر كذلك، وأن الأصل في الأشياء الطهارة ولا ينقل عنها إلى النجاسة إلا بالدليل ولا يوجد دليل. والذي يترجح لدي: هو القول بطهارة المني لصراحة حديث السيدة عائشة رضي

_ 1 الحديث أخرجه الدارقطني في السنن 1/127، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد1/283. 2 الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني/21، ونيل الأوطار للشوكاني 1/69. 3 الحديث أخرجه أبو عوانة في مسنده 1/174، 204. 4 المخاط والنخامة: السائل الذي يخرج من الأنف وهو طاهر، والبلغم هو المنعقد كالمخاط يخرج من الصدر أو يسقط من الرأس. راجع: مختار الصحاح للرازي صفحة 282 – 295، المهذب للشيرازي 1/140. 5 الحديث أخرجه الطبراني في الكبير 11/148، والدارقطني 1/124، والبيهقي في السنن 2/418.

الله عنها، ولأن الإنسان يخلق منه كالتراب الذي هو أصل خلق الإنسان، فلو كان نجساً لكان ذلك مخالفاً لقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} 1 ولزم منه نجاسة جسد الإنسان، لأن ما تكون من نجس فهو نجس، وأما خروجه من مجرى البول فلثخونته لا تتخلله النجاسة، وما أصابه من مجرى البول قليل والقليل معفو عنه. والله تعالى أعلم.

_ 1 سورة الإسراء: الآية 70.

المطلب الثاني: حكم بيع المني

المطلب الثاني: حكم بيع المني لا شك أن الطريق الطبيعي الذي جعله الله سبحانه للاستيلاد إنما هو الاستيلاد الطبيعي، وأن الزواج الشرعي هو الوعاء للجنس والإنجاب، فالتناسل يتم بالتقاء الذكر بالأنثى حيث قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 1 وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 2 وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} 3 وقد جعل سبحانه وتعالى التقاء الذكر بالأنثى وسيلة لاستبقاء النوع الإنساني، ولذا فإنه شرع النكاح، ورغب فيه، فقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 4. وقال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر

_ 1 سورة الحجرات: الآية 13. 2 سورة النساء: الآية 1. 3سورة الرعد: الآية 38. 4 سورة الروم: الآية 21.

وأحصن للفرج" 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" 2وقال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة" 3. هذا والوقاع من المقاصد الرئيسية في الزواج لأنه لا يتم التناسل والتكاثر وحفظ النوع إلا به، ولا يتم تحصين الفرج وحفظه من الوقوع في الفواحش إلا عن طريقه، ولا تتم الألفة والمحبة ودوام العشرة بين الزوجين إلا بواسطته، حيث قال سبحانه: {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 4 والوقاع يعمق بين الزوجين السعادة الزوجية ويوثق الرباط بينهما5. ومن المقرر المعلوم أن المني سواء كان من الذكر أو من الأنثى إنما له غاية واحدة كونه مادة خلق الإنسان، وأن الشرع قد حدد طريقاً واضحاً متفقاً عليه في الاستيلاد وهو النكاح أو ملك اليمين، وأن الله قد حرم الزنا وجعله من الكبائر للمحافظة على الأنساب وعدم اختلاطها، وأن الشرع قد شرع الملاعنة بين الزوجين في حالة أن يتهم الرجل زوجته بالزنا، وذلك لأجل أن لا ينسب الولد إليه في حالة حمل المرأة من الزنا الذي اتهمت به، فمن هنا جاء تحريم بيع المني تحريماً أكيداً. بناء على أن مشيئة الله قد اقتضت وجود العقم في بعض بني آدم رجالاً أو نساءً

_ 1 الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أخرجه البخاري كتاب الصوم باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة برقم 1806، ومسلم كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤنة بالصوم برقم 1400. 2 أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/158، 245، وابن حبان في صحيحه 9/363، من طريق أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه أبو داود في السنن كتاب النكاح باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء برقم 2050، والحاكم في المستدرك 2/176 وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وابن حبان في صحيحه 9/338، من طريق معقل بن يسار، وصححه الشيخ الألباني، راجع: إرواء الغليل للألباني رقم 1784، والمشكاة للتبريزي بتحقيق الألباني رقم 3091. 3 الحديث أخرجه مسلم في الصحيح كتاب الرضاع باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة برقم 1467. 4 سورة البقرة: الآية 187. 5 الطبيب أدبه وفقهه للدكتور زهير السباعي والدكتور محمد البار، صفحة 338.

قال الله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ*أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} 1. ولا خلاف بين فقهاء المسلمين أنه يندب العلاج من عدم الإخصاب أو ما يعرف باسم العقم. وفي زماننا استجدت طرق حديثة في علاج العقم، وقد حدث بسبها جدال كثير وقف معه الطبيب والمريض المسلم حائرين بين متابعة ما قدمته التكنولوجيا الحديثة في هذا المجال وبين ما تسمح به الشريعة الإسلامية، ومن هذه الصور: التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب: كما نعلم أن هذه الطريقة الحديثة قد أثارت جدلاً كبيراً بين الحظر والإباحة، وبالرجوع إلى مصادر التشريع الإسلامي لم نجد حكماً صريحاً حول هذا الموضوع، كما أن الفقهاء القدامى لم يتعرضوا له بالبحث، ولم يذكروه في كتبهم إلا ما عرف عند الشافعية باسم "الاستدخال" أي استدخال المني وهو حقن ماء الرجل في قبل المرأة، وهو حلال عندهم بشرط وجود ما يمنع الاتصال المباشر بين الزوجين، أما إذا قام بالزوج مانع يحول دون اتصاله بزوجته على الوجه المشروع كان له أن ينقل ماءه إليها بأية وسيلة أخرى متى كان المني من الزوج إلى زوجته فهذا حلال شرعاً، أما إذا كان الاستدخال بطريق غير مشروع فإنه يكون محرما ولا تثبت العدة، وذلك كما لو أولج زانيا ثم نزع فأمنى فاستدخلته زوجته في قبلها2. فقد جاء في كلام الفقهاء الأقدمين: "إن الحمل قد يكون بإدخال الماء للمحل دون اتصال، أما إذا كان الاستدخال بطريق غير مشروع كما لو أولج زانياً ثم نزع فأمنى فاستدخلته زوجته فإنه لا عدة ويكون محرماً في هذه الحالة"3. فهذا النص على إطلاقه يفيد أنه لا عدة على المزني بها طالما أن الزنا حصل

_ 1 سورة الشورى: الآيتان 49 – 50. 2 مدى مشروعية التصرف في جسم الآدمي للدكتور أسامة السيد عبد السميع صفحة 208. 3 نهاية المحتاج للرملي 7/127.

بدون إنزال، وأن الاستدخال على هذا النحو المحرم بسبب وسيلة الإنزال وهو الزنا يكون محرماً شرعاً حتى لو كان الاستدخال في قبل الزوجة. فقد صدر عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الثالث بعمان بتاريخ 8/صفر/1407? الموافق 11/10/1986م وبعد التداول تبين للمجلس أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام هي سبع: الأولى: أن يجري تلقيح بين نطفة مأخوذة من زوج وبييضة مأخوذة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع اللقيحه في رحم زوجته. الثانية: أن يجرى التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبييضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة. الثالثة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها. الرابعة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبييضة امرأة أجنبية وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة. الخامسة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى. السادسة: أن تؤخذ نطفة من زوج وبيضة من زوجته ويتم التلقيح خارجياً ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة. السابعة: أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحاً داخلياً. وقد قرروا بهذا أن الطرق الخمسة الأولى كلها محرمة شرعة وممنوعة منعاً باتاً لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية. أما الطريقان: السادس والسابع فقد رأى مجلس المجمع أنه لا حرج من

اللجوء إليهما عند الحاجة مع التأكيد على ضرورة أخذ كل الاحتياطات اللازمة1. وكما صدرت فتوى دار الإفتاء المصرية في موضوع التلقيح الصناعي في الإنسان وأطفال الأنابيب2. وقد قررت هذه الفتوى الملامح الآتية: أولاً: المحافظة على النسل من المقاصد الضرورية التي استهدفتها أحكام الشريعة الإسلامية ولذا شرع النكاح وحرم السفاح والتبني. ثانياً: الاختلاط المباشر بين الرجل والمرأة هو الوسيلة الوحيدة التي يتم بها إفضاء كل منهما بما استكن من جسده وأنه لا يعدل عنها إلاّ لضرورة. ثالثاً: التداوي جائز شرعاً بغير المحرم، بل قد يكون واجباً إذا ترتب عليه حفظ النفس وعلاج العقم وأحد الزوجين. رابعاً: تلقيح الزوجة بمني زوجها دون شك في استبداله أو اختلاطه بمني غيره من إنسان أو مطلق حيوان، جائز شرعاً. خامساً: تلقيح بويضة امرأة بمني رجل ليس زوجها، ثم نقل هذه البويضة الملقحة إلى رحم زوجة الرجل صاحب هذا المني حرام ويدخل في معنى الزنا. سادساً: أخذ بويضة الزوجة التي لا تحمل وتلقيحها بمني زوجها خارج رحمها "أطفال الأنابيب" وإعادتها بعد إخصابها إلى رحم تلك الزوجة دون استبدال أو خلط بمني إنسان آخر أو حيوان لداع طبي وبعد نصح طبيب حاذق بتعيين هذا الطريق بهذه الصورة بهذه الضوابط جائزة شرعاً. بناءً على ما سبقت الإشارة من أحكام شرعية وفتاوى فقهية فإنه يحرم بيع المني والتصرف فيه، لأن هذا سبيل إلى المحرم وهو اختلاط الأنساب وإشاعة الفاحشة بين الناس. ولهذا فإن وسائل الاستيلاد المستحدثة من الأمور التي تمجها النفوس السليمة

_ 1 مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة الثالثة العدد الثالث الجزء الأول 1408 ?- 1987 م. 2 مجلة الأزهر الجزء العاشر السنة الخمسون 1403?-1983م صفحة 1432-1433.

وترفضها النظرة السليمة، لأنها تفقد كل مزايا الوقاع الطبيعي خاصة وأنها قد تؤدي إلى اختلاط الأنساب المحرم. وأن من جوز بعض هذه الوسائل قد احتاط كثيراً بوضع العديد من الضوابط اللازمة لذلك، وقد فطن لهذا علماء الإسلام حتى إنهم قد احتاطوا كثيراً عندما تكلموا عن التلقيح الصناعي الداخلي أو الخارجي، ووضعوا له الشروط المهمة، حرصاً على الأنساب من الاختلاط، وسداً لذريعة الزنا المقنع، فكان لا بد أن يكون ذلك بين الزوجين، وأثناء قيام الزوجية، ودون تدخل طرف ثالث في هذا، وأن تتم العملية في وجود الزوج نفسه، وأن يمنع الاحتفاظ بالمني من الزوج منعاً باتاً، ولا يسمح بقيام ما يسمى بنوك المني لأي سبب من الأسباب خاصة وأن كل نوع من نوعي التلقيح الصناعي له مخاطره ومحاذيره1. والله أعلم.

_ 1 الطبيب أدبه وفقهه صفحة 337 – 338.

المبحث الثاني: حكم أرواث الحيوانات وحكم بيعها

المبحث الثاني: حكم أرواث الحيوانات وحكم بيعها المطلب الأول: حكم أرواث 1 الحيوانات اختلف الفقهاء في أرواث البهائم، وسرجين ذوات الحافر، وزرق الطيور، من ناحية طهارتها ونجاستها. فمذهب الحنفية: أن أرواث البهائم نجسة، وأن الثوب إذا أصابه روث أو إخثاء البقر أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه، وأما إذا أصابه أقل من ذلك فمعفو عنه - أي تجوز الصلاة فيه - وذلك لعدم الاحتراز عنه لامتلاء الطرق بها، وهذه ضرورة مؤثرة في التخفيف، واستثنوا من هذا بول الحمار، فلا يعفى عن قليله وذلك لأن الأرض تنشفه. فقد جاء في البناية شرح الهداية: " ... وإذا أصاب الثوب من الروث أو من إخثاء البقر أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه عند أبي حنيفة رحمه الله، لأن النص الوارد في نجاسته وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام رمى بالروثة وقال: "هذا رجس أو ركس"2 لم يعارضه غيره، ولهذا يثبت التغليظ عنده والتخفيف بالتعارض ... ولأن فيه ضرورة لامتلاء الطرق بها، وهي مؤثرة في التخفيف، بخلاف بول الحمار لأن الأرض تنشفه"3.

_ 1 الروث: رجيع ذي الحافر ومفرده روثة والجمع أرواث وهو بخلاف الخثى وهو ما يرمي به البقر أو الفيل من بطنه من الروث والجمع أخثاء وخثى، والبعر: رجيع ذوات الخف وذوات الظلف من الإبل والشاه وبقر الوحش والظباء إلا البقر الأهلية والمفرد بعرة. راجع: لسان العرب لابن منظور 5/355. 2 الحديث أخرجه ابن أبي شيبة 1/155 و14/223 والإمام أحمد 1/388، 465 والترمذي في جامعه 1/67 برقم 17، وفي العلل الكبير 8، والطبراني في الكبير برقم 9952. 3 العيني 1/730 - 732.

وقالوا: إن الروث نجس بدليل أنهم كرهوا الاستنجاء به وبغيره من الأنجاس، ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستنجوا بالعظم ولا بالروث، فإن العظم زاد إخوانكم الجن، والروث علف دوابهم" 1. وجاء في بدائع الصنائع: " ... ومنها -أي من النجاسات– ما يخرج من أبدان سائر الحيوانات من البهائم من الأبوال والأرواث على الاتفاق والاختلاف، أما الأبوال فلا خلاف في أن كل ما لا يؤكل لحمه نجس، واختلف في بول ما يؤكل لحمه، قال أبو حنيفة وأبو يوسف: نجس، وقال محمد: طاهر حتى لو وقع في الماء القليل لا يفسده ويتوضأ منه ما لم يغلب عليه ... وأما الأرواث: فكلها نجسة عند عامة العلماء، وقال زفر2: روث ما يؤكل لحمه طاهر، وهو قول مالك ... ومنها خرء3 بعض الطيور من الدجاج والبط، وجملة الكلام فيه أن الطيور نوعان: نوع لا يزرق في الهواء، ونوع يزرق في الهواء، أما ما لا يزرق في الهواء كالدجاج والبط فخرؤهما نجس، لوجود معنى النجاسة فيه وهو كونه مستقذراً لتغيره إلى نتن وفساد رائحته فأشبه العذرة، وفي الأوز عن أبي حنيفة روايتان: روى أبو يوسف عنه أنه ليس بنجس، وروى الحسن عنه أنه نجس، وما يزرق في الهواء نوعان أيضاً: ما يؤكل لحمه كالحمام والعصفور والعقعق4 ونحوها، وخرؤها طاهر عندنا، وعند الشافعي نجس ... وما لا يؤكل لحمه كالصقر والبازي والحدأه وأشباه ذلك، خرؤها طاهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد نجس نجاسة غليظة ... وخرء الفأرة نجس لاستحالته إلى خبث ونتن رائحته، واختلفوا في

_ 1 الحديث أخرج نحوه مسلم في الصحيح كتاب الصلاة باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن برقم 450. 2 هو زفر بن الهذيل بن قيس العنبري أصله من أصبهان فقيه من أصحاب الإمام أبي حنيفة تولى قضاء البصرة وولى قضاءها وبها توفي رحمه الله سنة 158?. راجع: الأعلام للزركلي 3/45. 3 الخرء: العذرة والجمع خروء راجع: مختار الصحاح للرازي صفحة 96. 4 العقعق طائر نحو الحمامة، طويل الذنب فيه بياض وسواد، وهو نوع من الغربان، والعرب تتشاءم به. المصباح المنير للفيومي صفحة 422، القاموس المحيط للفيروز آبادي 1175.

الثوب الذي أصابه بولها ... وبول الخفافيش1 وخرؤها ليس بنجس لتعذر صيانة الثياب والأواني عنه، لأنها تبول في الهواء وهي فأرة طيارة فلهذا تبول ... "2. فالمستفاد من نصوص الحنفية: قولهم بأن جميع ما يخرج من أبدان سائر الحيوانات من النجاسات، سواء كان ذلك من الأرواث أو من الأبوال، على خلاف وتفصيل فرعي داخل المذهب في كل: أ – الأرواث: الاتفاق في المذهب الحنفي على أن الأرواث كلها نجسة حتى ولو كانت البهائم مأكولة اللحم، ولم يخالف في هذا سوى زفر من أصحاب أبي حنيفة حيث فرق بين روث ما يؤكل لحمه وبين روث ما لا يؤكل لحمه، فقال بطهارة روث ما يؤكل لحمه كخرء بعض الطيور من الدجاج والبط ونحو ذلك. ب – الأبوال: فقد حصل الاتفاق في المذهب الحنفي على أن بول ما لا يؤكل لحمه نجس، غير أنهم اختلفوا في بول ما يؤكل لحمه، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إنه نجس. وقال محمد: إنه طاهر، لا ينجس الماء القليل إن وقع فيه، ويجوز التوضؤ منه إلا إذا غلب على الماء فيمتنع الوضوء منه لهذا الغالب على الماء وهو بول ما يؤكل لحمه. ج – بالنسبة لخرء ما يزرق في الهواء: قال صاحب البدائع: إن الطيور نوعان: نوع يزرق في الهواء: وهذا على حالين؛ لأنه قد يكون مما يؤكل لحمه، وقد لا يكون كذلك، فإن كانت مما يؤكل لحمه فخرؤها طاهر على مذهب الحنفية بلا خلاف، وذلك كالحمام والعصفور ونحوهما، وإن كان مما لا يؤكل لحمه كالصقر والبازي ونحوهما ففي خرؤها خلاف في المذهب، فعند الإمام وأبي يوسف طاهر، وعند محمد نجس وأن نجاسته غليظة.

_ 1 الخَفَشُ: صِغَر العينين وضعف في البصر، ويكون خلقة، وهو علة لازمة، وصاحبه يبصر بالليل أكثر من النهار، ويبصر في الغيم دون الصحو. والخفاش طائر مشتق من ذلك، لأنه لايكاد يبصر بالنهار. المصباح المنير للفيومي صفحة 175، القاموس المحيط للفيروز آبادي 765. 2 الكاساني 1/61 – 62.

أما ما لا يزرق في الهواء: فالاتفاق حاصل في المذهب على أنه خرءه نجس وذلك كالدجاج والبط. أما في الأوز: فعن الإمام أبي حنيفة روايتان: نقل الأولى عنه أبو يوسف وقال فيها أنه ليس بنجس ومراده الخرؤ والثانية نقلها عنه الحسن فأورد أنه نجس. وقال الحنفية: إن خرء الفأرة نجس، أما بالنسبة لبول الخفافيش وخرئها فليس بنجس. مذهب المالكية: القول بأن أرواث البهائم من بول وعذرة ونحو ذلك نجسة إلاّ إذا كانت من مأكول اللحم ولم يتغذ بنجس فتكون طاهرة. واختلفوا بالنسبة لفضلة ما تولد من مباح وغيره، واختلفوا في أثر وقوع روث البهائم في الماء أثناء شربها، وقدر العفو عن ذلك، فقالوا: إنه إذا وقع روث أو بول ماشية في ماء أثناء شربها منه فإن الماء لا يتنجس للضرورة التي تجعل هذا من الأمور المعفو عنها، سواء كانت الماشية نعماً أو غيرها، ومن المالكية من يرى نجاسة الماء إذا وقع فيه الروث، وإلى هذا ذهب ابن عرفة. فقد جاء في مواهب الجليل: "وينجس كثير طعام مائع بنجس، قال ابن عرفة المشهور أن الطعام المائع ينجس بحلول يسير نجاسة"1 وجاء في جواهر الإكليل: "إن الماء لا يتنجس بوقوع روث وبول ماشية ألقته فيه حال شربها منه، سواء كانت الماشية نعماً أو غيرها"2. وورد في الشرح الكبير: " ... والطاهر بول وعذرة يعني روثاً من مباح أكله إلا المتغذي منه بنجس أكلاً أو شرباً تحقيقاً أو ظناً كشك، وكان شأنه ذلك كدجاج وفأر، لا إن لم يكن شأنه ذلك كحمام، وخرج بالمباح المحرم والمكروه وفضلتهما نجسة"3.

_ 1 الحطاب 1/108. 2 الأزهري 1/7. 3 الدردير 1/51.

وفي حاشية الدسوقي: "قوله وبول وعذرة من مباح هذا وإن كان طاهراً لكنه يستحب غسل الثوب ونحوه عند مالك إما لاستقذاره أو مراعاة للخلاف، لأن الشافعية يقولون بنجاستها، وأما ما تولد من مباح وغيره من محرم أو مكروه كالمتولد من الغنم والسباع أو من البقر والحمير فهل تكون فضلته طاهرة أو نجسة، والظاهر أنه يلحق بالأم لقولهم كل ذات رحم فولدها بمنْزلتها ... قوله يعني روثاً أي لأن العذرة إنما تقال لفضلة الآدمي، وأما فضلة غيره فإنما يقال لها روث. قوله إلا المتغذى بنجس أي فبوله وروثه نجسان مدة ظن بقاء النجاسة في جوفه"1. وجاء في شرح منح الجليل: "إن روث وبول الماشية التي ألقته فيه حال شربها فليس منه مغيرة تغييراً كثيراً أو يسيراً، هذا الماء طهور إذ الروث عندهم غير طاهر فالتشبيه ليس تاماً، هذا هو المعروف من روايتي اللخمي، والرواية الأخرى تقييد الضرر بالكثير والعفو عن اليسير، وحمل عليها بعض الشارحين2 كلام المصنف فجعل التشبيه تاماً وسواء كانت الماشية نعماً أو غيرها، وفي المجموعة طهورية الغدير المتغير بروث النعم مطلقاً، ويستحسن تركه مع وجود غيره"3. فيستفاد من نصوص المالكية: أن بول وعذرة المأكول اللحم طاهرة، إلاّ إذا كان متغذياً بنجس فإنها تنجس لهذا أو لمراعاة الخلاف فيها، وقال مالك باستحباب غسل الثوب منه لاستقذاره أو مراعاة للخلاف فيه، ونصوا على أن فضلة محرم الأكل أو مكروهه نجسة. واختلفوا بالنسبة لفضلة ما تولد من مباح وغيره من محرم أو مكروه كالمتولد من الغنم والسباع أو المتولد من البقر والحمير، والظاهر: القول بأنه يلحق بالأم، أي إنه إذا كانت أمه مأكولة اللحم كانت فضلته طاهرة، وإلاّ كانت نجسة.

_ 1 الدسوقي 1/51. 2 هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن غازي العثماني المكناسي. راجع: مواهب الجليل للحطاب 3/188،شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 276. 3 الشيخ محمد عليش 1/19.

وقال المالكية: إن روث وبول الماشية الذي يقع منها في الماء أثناء شربها ولم يغير هذا الماء تغييراً قليلاً أو كثيراً لا يؤثر في الماء، ويظل ذلك الماء طهوراً، وهذه هي الرواية الأولى عند اللخمي المالكي، والرواية الثانية تقصر هذا الحكم على ما لو كان الروث أو البول الملاقي للماء أثناء شرب الماشية يسيراً حيث يكون هذا معفواً عنه دون الكثير من ذلك. مذهب الشافعية: أن روث الماشية نجس، وأن الماء يتنجس بوقوعه فيه. فقد جاء في المهذب: " ... وروث وبول ... أن هذه الأشياء نجسة، ومنها روث الماشية عندهم نجس، ويتنجس الماء بوقوعه فيه ... "1. وفي حاشية قليوبي: "قوله: وروث ولو من مأكول اللحم خلافاً لمالك فهو أعم من تعبير أصله بالعذرة لأنها فضلة الآدمي خاصة ومثله البول"2. وفي مغني المحتاج: " ... وروث ولو من سمك وجراد ... " 3 يعني نجس. فنصوص مذهب الشافعية: تفيد أن روث البهائم وما في حكمه كالبول نجس، وأن الماء يتنجس بوقوع هذه الأرواث فيه، فروث الحيوانات نجسة حتى ولو كان ذلك من سمك أو جراد أو من مأكول اللحم. مذهب الحنابلة: القول بنجاسة أرواث البغال والحمير وسباع البهائم والطير والجوارح خاصة لو كانت من غير مأكول اللحم أو من إنسان غير الأنبياء، أما سائر الأنبياء فما يخرج عنهم فهو طاهر والنجس منا طاهر منهم. فقد جاء في كشاف القناع: "وأبوالها وأرواثها" أي أن البغال والحمير وسباع البهائم والطير الجوارح نجسة ... والبول والغائط من آدمي وما لا يؤكل نجسة، من غيره صلى الله عليه وسلم ومن غير سائر الأنبياء فالنجس منا طاهر منهم"4.

_ 1 الشيرازي 1/171. 2 قليوبي 1/70. 3 الشربيني 1/113. 4 البهوتي 1/228.

فنص مذهب الحنابلة يفيد: على أن أرواث البهائم كلها نجسة وأن المائع يتنجس بوقوعها فيه كالماء ونحوه. وأن هذا الحكم يشمل ما كان من مأكول اللحم ومن غيره، وأنه يسري على ما خرج من الإنسان بخلاف ما يخرج من الأنبياء فإنه على طهارته. الموازنة: بمراجعة ما قاله الفقهاء بالنسبة لحكم الأرواث والأبوال من حيث الطهارة من عدمها نجد آراءهم تتبلور فيما يأتي: المذهب الأول: يرى أن أرواث البهائم نجسة حتى ولو كانت من مأكول اللحم، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة. المذهب الثاني: يرى أن بول وعذرة مأكول اللحم – أي مباح أكله - طاهر، وذلك بشرط ألا يكون قد تغذى بنجس، فإن كان قد تغذى بنجس فإن بوله وعذرته تكون نجسة تبعاً لذلك النجس الذي تغذى به، وإلى هذا ذهب المالكية، وهم في هذه الجزئية يتفقون مع الجمهور. وقد أضاف المالكية أحكاماً أخرى في هذا الشأن فقالوا: إن روث البهائم الذي يقع منها أثناء شربها في الماء لا يؤثر في ذلك الماء، فيجوز الوضوء منه، فهو طهور إلا إذا غلب الروث على الماء؛ وفرق اللخمي منهم فقال: المعفو عنه والذي لا يؤثر في كون الماء طهوراً إنما هو القليل دون الكثير، أما الكثير فيؤثر في كون الماء طهوراً، وعليه لا يجوز الوضوء منه. المذهب الثالث: فهو لزفر من الحنفية، وهو يفرق في الحكم بين روث ما يؤكل لحمه، وروث ما لا يؤكل لحمه فقال: روث ما يؤكل لحمه طاهر، وروث ما لا يؤكل لحمه نجس. وعلى هذا فهو يتفق مع الجمهور بالنسبة لحكم روث ما لا يؤكل لحمه، في حين أنه يتفق مع المالكية بالنسبة لحكم ما يؤكل لحمه. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول: بما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله

عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أحجاراً للاستنجاء، فأتى بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين ورمى الروثة وقال: إنها ركس" 1 أي نجس، لأن الركس هو النجس حيث إنه خارج من الدبر وقد أحالته الطبيعة فكان نجساً كالغائط، والحديث يدل على نجاسة الروثة، إذ لو كانت طاهرة لاستجمر بها النبي صلى الله عليه وسلم. أما أصحاب المذهب الثاني: فلم ترد لهم أدلة صريحة في كتب الفقه المختلفة ولعل مستندهم في هذا هو طهارة أصل الحيوان المأكول اللحم فكان روثه كذلك طاهراً. وقد استند زفر في قوله بنجاسة روث ما لا يؤكل لحمه على نفس مستند الجمهور القائلين بالنجاسة مطلقاً، في حين أنه فيما يتعلق بالشق الآخر من رأيه -وهو قوله بطهارة روث ما يؤكل لحمه- فإن مستنده في هذا هو اعتبار أصل الحيوان المأكول اللحم من حيث طهارته. والذي يترجح لدي في هذا الخلاف: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من القول بنجاسة أرواث البهائم وما في حكمها، وذلك لقوة ما استدلوا به. والله تعالى أعلم.

_ 1 الحديث أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب لا يستنجى بروث من حديث عبد الله بن مسعود بنحوه 1/47.

المطلب الثاني: حكم بيع رجيع الحيوانات

المطلب الثاني: حكم بيع رجيع الحيوانات سبق أن علمنا نجاسة العذرة، وهي الغائط الذي يلقيه الإنسان المعروف برجيع بني آدم1، وأن السرقين -أو يقال له السرجين- وهي رجيع غير الإنسان من الحيوان2 وغيره المعروف بالزبل نجس هو الآخر3. فالزبل لغة: السرقين، وهما فضلة الحيوان الخارجة من الدبر، والمزبلة مكان طرح الزبل وموضعه، والجمع مزابل4.

_ 1 لسان العرب لابن منظور 9/108. 2المرجع السابق 6/229. 3المرجع السابق 6/15. 4 المرجع السابق 6/15، ومختار الصحاح للرازي صفحة 137.

والسرقين: أصلها "سركين" بالكاف فعربت إلى الجيم والقاف، فيقال سرجين وسرقين، والروث والسرقين لفظان مترادفان1. فالسرجين والسرقين والروث ألفاظ مترادفة، وأصل الكلمة سركين، وأنها عربت إلى الجيم والقاف، وقال علماء اللغة: إن الزبل هو السرقين، وهو فضلة الحيوان الخارجة من الدبر، وقالوا: إن السرقين هو رجيع غير الإنسان. وقد اختلف الفقهاء بشأن حكم بيع العذرة والسرجين "الزبل"، فمنهم من قال بجواز ذلك، ومنهم من منعه، ومنهم من فرق في الحكم بين الشيئين، وذلك بناء على مدى الانتفاع بهما من عدمه، أو على أساس المالية وعدمها عند البعض، أو على أساس النجاسة عند البعض الآخر. مذهب الحنفية: القول بصحة بيع السرقين والسرجين والبعر، ولو خالصتين، لجواز الانتفاع بهما، أما العذرة فلا يجوز بيعها خالصة لعدم جواز الانتفاع بها بأي وجه، فلا تكون مالاً، أما العذرة المخلوطة بالتراب فيصح بيعها إذا كان التراب غالبا، لجواز الانتفاع بها، أما إذا كانت العذرة غالبة فلا يصح بيعها ولا هبتها، وروي عن الإمام أبي حنيفة القول بأن كل شيء أفسده الحرام والغالب عليه الحلال فلا بأس ببيعه، وما كان غالبا عليه الحرام لم يجز بيعه ولا هبته، وعلى هذا فمناط صحة البيع وعدمه هو المالية والانتفاع وليس الطهارة، وذلك لأن المقرر أن الحنفية لم تشترط طهارة المبيع مكتفين بإمكان الانتفاع به والمقرر على أساسها مالية ذلك المبيع. فقد جاء في بدائع الصنائع: "ويجوز بيع السرقين والبعر، لأنه مباح الانتفاع به شرعاً على الإطلاق، فكان مالاً، ولا ينعقد بيع العذرة الخالصة، لأنه لا يباح الانتفاع بها بحال، فلا تكون مالاً، إلا إذا كان مخلوطاً بالتراب، والتراب غالب فيجوز بيعه، لأنه يجوز الانتفاع به، وروي عن أبي حنفية رضي الله عنه أنه قال: كل شيء أفسده الحرام، والغالب عليه الحلال، فلا بأس ببيعه، ونبين ذلك، وما كان الغالب عليه الحرام، لم يجز

_ 1 المصباح المنير للفيومي 1/273.

بيعه ولا هبتة ... "1. فقد أطلق الحنفية جواز بيع السرجين والبعر لحل الانتفاع بها شرعاً، وهذا بخلاف العذرة لأنه لا ينتفع بها إلا مخلوطة، حيث إن العادة جرت على الانتفاع بها بعد خلطها بالتراب أو الرماد بحيث يكون ذلك المضاف إليها غالباً عليها. وهكذا نجد أن الحنفية لم ينظروا إلى النجاسة حين يقولون بعدم انعقاد البيع أو فساده أو عدم جوازه، لأنهم لم يشترطوا طهارة المبيع، وعليه يبنون حكمهم بعدم الانعقاد وما يترتب عليه من الفساد وعدم الجواز على ما اشترطوه في المبيع بالنسبة لعقد البيع وهو المالية، وإمكان الانتفاع بالمبيع. وفي رد المختار على الدر المختار: "السرجين والسرقين ... والمراد أنه يجوز بيعهما ولو خالصين ... ويجوز بيع السرقين والبعر والانتفاع به ... ولم ينعقد بيع العذرة خالصة بخلاف بيع السرقين والمخلوطة بتراب"2. فالحنفية على أن العذرة الخالصة لا ينعقد بيعها، أما المخلوطة بتراب فيجوز بيعها، وأما السرجين والسرقين والبعر فيجوز بيعهما ولو خالصين كما يجوز الانتفاع بهما. أي إن الحنفية يرون صحة بيع السرجين والبعر ولو خالصتين، وانه بالنسبة للعذرة فلا يجوز بيعها خالصة، ويجوز بيع المخلوطة بالتراب أو الرماد إذا كان التراب أو الرماد غالباً، فأساس مذهب الحنفية هو إمكان الانتفاع والمالية المعتبرة في عقد البيع ركنا لديهم دون اعتبار للنجاسة أو الطهارة، لأنهم لم يشترطوا طهارة المبيع طالما كانت المالية متحققة ووجه الانتفاع قائماً. مذهب المالكية: أن الأعيان النجسة لا يصح بيعها، وإن كان الخلاف حاصل بين فقهاء المذهب بالنسبة لبعض الصور، وقد فصل المالكية القول بشأن بيع العذرة

_ 1 الكاساني 5/144. 2 ابن عابدين 7/244 – 245.

والزبل وذلك على النحو الآتي: بالنسبة للعذرة: فقد ذكروا في حكم بيعها أربعة أقوال: أحدها: القول بمنع البيع. والثاني: بكراهيته. والثالث: القول بجواز بيع العذرة. أما القول الرابع: فقد فرق بين حالة الاختيار فقال بمنع البيع، وبين حالة الاضطرار حيث قال بجواز البيع. فقد جاء في الشرح الكبير: " ... وقد حصل في بيع العذرة أربعة أقوال: المنع، ... والكراهية على ظاهرها، ... والجواز، ... والفرق بين الضرورة لها فيجوز، وعدمها فيمنع ... "1. أما بالنسبة للزبل: فقد اختلفت النقول عنهم، فذكر أنه يجوز، وقيل لا يجوز بناء على نجاسته، وروى عن أشهب القول بجواز البيع عند الضرورة فقط، وظاهر المدونة الكراهة إذا لم تكن هناك ضرورة. فقد جاء في بلغة السالك لأقرب المسالك في شرحه لقول صاحب الشرح الصغير: "فلا يباع كزبل" "وحاصل ما فيه أنه ذكر ابن عرفة فيه ثلاثة أقوال: المنع مطلقاً، والجواز مطلقاً، وقال أشهب بجوازه عند الضرورة، وظاهر المدونة الكراهة إن لم تكن ضرورة"2. وعلى هذا فأصل مذهب المالكية على عدم صحة بيع الأعيان النجسة، إلاّ أن هناك اختلافاً في تطبيق هذا الأصل على الأفراد، فالنجاسة التي لا تدعو الضرورة لاستعمالها ولا تعم بها البلوى حرم بيعها كالخمر والميتة، أما النجاسة التي تدعو الضرورة إلى استعمالها فقد اختلف فيها على ثلاثة أقوال. أما الصور المختلف فيها فهي: كل ما فيه منفعة مقصودة، فاختلف فيه لمراعاة تلك المنفعة، لأن سبب منع بيع النجس هو عدم وجود المنفعة أصلاً، أو إلغاء هذه المنفعة بواسطة الشارع وعدم الاعتداد بها منه لأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً،

_ 1 الدردير 3/10. 2 أحمد محمد الصاوي 2/349.

والزبل يدخل في هذه الصورة؛ وأخرى فيها منفعة ولكن نجاستها ذاتية مثل العذرة والمنع هو أصل المذهب في بيع النجاسات، أما القول بالجواز فلمراعاة الضرورة، أما القول بالكراهة فللتعارض الذي بين الأمرين "المنع وحالة الضرورة" ولأن أخذ ثمن النجس ليس من مكارم الأخلاق عند من يقول بالكراهة. فقد جاء في مواهب الجليل: "واعلم أن المذهب على أن الأعيان النجسة لا يصح بيعها، إلا أن في بعضها خلافاً يتبين بذكر آحاد الصور، ... فبيع كل نجاسة لا تدعو الضرورة إلى استعمالها ولا تعم بها البلوى حرام كالخمر والميتة لحمها وشحمها ولحم الخنْزير، ... واختلف فيما تدعو الضرورة إلى استعماله على ثلاثة أقوال، ... والصور المختلف فيها هي كل ما فيه منفعة مقصودة، فلأجل مراعاة تلك المنفعة اختلف العلماء، إذ قد علم أنه إنما منع بيع النجس لأنه لا منفعة فيه أصلاً، أو ما فيه منفعة منع الشارع منها فصار وجودها كالعدم لأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، فمن تلك الصور الزبل ... صور أخر نجاستها ذاتية وفيها منفعة منها العذرة، ... واعلم أن القول بالمنع هو الجاري على أصل المذهب في المنع من بيع النجاسات، والقول بالجواز لمراعاة الضرورة، ومن قال بالكراهة تعارض عنده الأمران ورأى أن أخذ الثمن عن ذلك ليس من مكارم الأخلاق، والقول الآخر لأجل أن العلة في الجواز إنما هي الاضطرار فلا بد من تحققها"1. فالمستفاد من نصوص مذهب المالكية: أنهم مختلفون بالنسبة لبيع العذرة والزبل. فبالنسبة للعذرة: فعندهم أقوال في المذهب: قول بمنع بيعها، وقول بكراهية البيع، وقول بالجواز، وقول بجواز البيع للضرورة دون غيرها. أما بالنسبة للزبل: فعندهم قول بالجواز، وآخر بمنع بيع الزبل، وقال أشهب بجواز البيع عند الضرورة، وفي المدونة كراهية البيع عند عدم الضرورة. مذهب الشافعية: ذهب الشافعية إلى منع بيع العذرة والسرجين، لنجاستهما قياساً على

_ 1 الحطاب 4/259 – 261.

الخمر والميتة والخنْزير على أساس أن هذه من الأعيان النجسة أي تخريجاً على ما نص عليه الشارع من النجاسات، وحرم بيعها، وذلك لأن جواز البيع عند الشافعية مترتب على طهارة عين المبيع. فقد جاء في مغني المحتاج: "وللمبيع شروط: طهارة عينه، فلا يصح بيع الكلب، والخمر، والمتنجس الذي لا يمكن تطهيره، والخل، واللبن، وكذا الدهن في الأصح"1. وفي فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب: "وشرط في المعقود عليه مثمناً أو ثمناً خمسة أمور: أحدها: طهر له، أو إمكان لطهره بغسل، فلا يصح بيع نجس ككلب وخمر وغيرهما مما هو نجس العين وإن أمكن طهره بالاستحالة، ... والمعنى في المذكورات نجاسة عينها فألحق بها باقي نجس العين"2. وجاء في المهذب: "الأعيان ضربان: نجس وطاهر، فأما النجس فعلى ضربين: نجس في نفسه ونجس بملاقاة النجاسة، فأما النجس في نفسه فلا يجوز بيعه وذلك مثل الكلب والخنْزير والخمر والسرجين وما أشبه ذلك من النجاسات"3. فالمستفاد من نصوص مذهب الشافعية: أن الأعيان إما نجسة أو طاهرة، والنجسة إما نجسة لذاتها أو بسبب ملاقاتها للنجاسة، ويدخل السرجين – عندهم – في الأعيان النجسة لذاتها، وعليه فهم يحرمون بيعه وأخذ ثمنه قياساً على الخمر والميتة والدم. مذهب الحنابلة: قالوا بعدم جواز بيع العذرة والسرجين، وذلك لنجاستهما كالميتة ونحوها مما ورد به النص من حيث النجاسة ومنع البيع، وهذا هو أصل مذهب الحنابلة وهو المشهور في المذهب، وإن كان الظاهر عندهم جواز بيع سرجين ما يؤكل لحمه لطهارته كروث الإبل والبقر والحمام. فقد جاء في المبدع: " ... الظاهر أنه يجوز بيع الطاهر منها كروث الإبل والبقر

_ 1 الشربيني 2/15. 2 الشيخ زكريا الأنصاري 1/158 – 159. 3 الشيرازي 3/23.

والحمام وكل ما يؤكل، ولكن المشهور في المذهب عدم جواز بيع السرجين مطلقاً"1. وفي الكافي: "ولا يجوز بيع الدم ولا السرجين النجس، لأنه مجمع على تحريمه ونجاسته فأشبه الميتة"2. وعليه لا يجوز بيع السرجين النجس على أصل مذهبهم، لاشتراطهم لصحة البيع طهارة العين المعقود عليها أو على منفعتها وكونها مباحة النفع من غير حاجة. وجاء في الروض المربع: "ويشترط للبيع سبعة شروط ... وعدّ منها: الشرط الثالث: أن تكون العين المعقود عليها، أو على منفعتها مباحة النفع من غير حاجة ... ثم أخذ يعدد وجه تطبيق هذا الشرط ثم قال ... والميتة لا يصح بيعها ... ولا السرجين النجس لأنه كالميتة"3. وجاء في المغني والشرح الكبير: " ... لنا أنه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة ... ولأنه رجيع نجس فلم يجز بيعه كرجيع الآدمي"4. فالمشهور عند الحنابلة عدم بيع السرجين لانعقاد الإجماع على نجاسته، وإن كان في المذهب قول بإباحة بيع سرجين ما يؤكل لحمه كروث الإبل والبقر والغنم والحمام ونحو ذلك. الموازنة: اختلفت الأقوال وتباينت النقول عن المذاهب المختلفة بالنسبة لحكم بيع رجيع الحيوانات العذرة والسرقين والسرجين والزبل، وهذا يستتبع إيراد تفاصيل هذه الأقوال في كل مذهب على حدة من خلال مطالعة نصوصهم. مذهب الحنفية: تعددت أقوال الحنفية في هذا الشأن على نحو ما يأتي:

_ 1 ابن مفلح 4/14. 2 موفق الدين ابن قدامة المقدسي 2/6 – 7. 3 البهوتي صفحة 240. 4 ابن قدامة 4/302.

1– صحة بيع السرقين أوالسرجين والبعر، ولو خالصتين، وذلك لإمكان الانتفاع بهذه الأشياء. 2 – عدم جواز بيع العذرة الخالصة، وكذا المخلوطة إذا كانت العذرة غالبة، أما إذا كان التراب المخلوط بالعذرة هو الغالب فلا مانع من بيعها. مذهب المالكية: بالنسبة للعذرة: هناك رأي يمنع بيعها، وقول ثان أن بيعها مكروه، ورأي ثالث بجواز بيعها، وقول رابع بجواز بيعها في حالة الاضطرار وعدم جواز ذلك في حالة الاختيار. وبالنسبة للزبل: ففيه أقوال أربعة هو الآخر: رأي بالجواز، وآخر: بعدم جواز بيعه، وثالث: لأشهب بجواز بيعه عند الضرورة، ورابع في المدونة: بكراهة بيعه عند عدم الضرورة. مذهب الشافعية: منع بيع العذرة والسرجين، بناء على نجاسة هذه الأشياء، وتأسياً على قولهم باشتراط طهارة المبيع. مذهب الحنابلة: أصل مذهبهم على منع بيع العذرة والسرجين للنجاسة، وهذا هو المشهور عندهم، وهناك رواية في المذهب بجواز بيع سرجين ما يؤكل لحمه بخلاف ما لا يؤكل حيث إنه لا يصح بيعه تمشيا مع أصل المذهب. وعلى هذا فخلاصة الأقوال ما يأتي: أولاً: بالنسبة للسرقين: فيه مذهبان: الأول: أنه يصح بيع السرقين والسرجين والبعر ولو خالصتين، وهذا هو ما ذهب إليه الحنفية، وفي رواية عن المالكية، ورواية عند الحنابلة في سرجين ما يؤكل لحمه. أما الثاني: فيمنع بيع السرجين والسرقين، وهذا ما ذهب إليه الشافعية، وهو رواية عند المالكية وفي قول للحنابلة. ثانياً بالنسبة للعذرة: ففيها المذاهب الآتية:

الأول: عدم جواز بيع العذرة، وهو رواية عند المالكية ومذهب الشافعية وفي القول المشهور عند الحنابلة، ورواية عندهم: سرجين ما لا يؤكل لحمه، وهو قول الحنفية في العذرة الخالصة غير المخلوطة، والمخلوطة إذا كانت العذرة غالبة. الثاني: كراهية بيع العذرة في قول عند المالكية. الثالث: جواز بيع العذرة في رواية عند المالكية، وجواز بيع العذرة المخلوطة إذا كان ما خالطها من تراب أو رماد غالباً في قول عند الحنفية. الرابع: التفرقة بين حالة الاختيار والاضطرار، فيمنع البيع في حالة الاختيار ويجوز في حالة الاضطرار. والذي يترجح لدي في هذا الخلاف: أولاً بالنسبة للعذرة: فالذي يترجح بشأنها عدم جواز بيعها بناء على نجاسة عينها، وأنه لا توجد ضرورة للانتفاع بها عند عامة الناس، فالعادة لم تجر على الانتفاع بها حتى من قال بجواز بيع المخلوط منها بالتراب أو الرماد انتهى إلى أن التراب أو الرماد هو الغالب في الخليط، أو كان هذا يمنع أثر العذرة، فالحكم عنده لما غلب في ذلك الخليط. وبهذا ينتهي أيضاً – إلى منع بيع ما يطلق عليه اسم العذرة أو النجس مطلقاً. ثانياً بالنسبة للسرقين: فالذي يترجح هو القول بجواز بيعها رغم نجاستها العينية للانتفاع بها فتحقق ماليتها على ما ذهب إليه الحنفية، أو إعمالاً لحالة الضرورة والحاجة التي تجيز الانتفاع بها في كثير من البلاد بهدف تحسين خصوبة الأرض وتكثير ريعها، فكان بيعها جائزاً لهذا السبب حتى عند من قال بنجاستها وانتهى في الأصل إلى عدم بيعها. والله تعالى أعلم.

المطلب الثالث: حكم التداوي بأبوال الحيوانات

المطلب الثالث: حكم التداوي بأبوال الحيوانات المقرر أن الأصل في أبوال الأنعام من الإبل ونحوها هو المنع أي منع تناولها، وذلك لنجاسة هذه الأبوال، غير أنه إذا كان ذلك التناول بقصد التداوي فقد أجازه

الفقهاء خروجاً عن هذا الأصل، رغم نجاسته دفعاً لحالة الضرورة، وهي قصد الشفاء طالما أنه قد تحتم هذا التناول، وهذا ما عليه الفقهاء مع خلاف بينهم في التعبير، فمنهم من عبر عنه بأنه لا بأس بالتداوي، ومنهم من قال لا بأس بشرب أبوال الأنعام الثمانية، ومنهم من عبر بجواز تناول أبوال الحيوانات بغرض التداوي، وهذا ما قالوه: مذهب الحنفية: القول بأنه لا بأس بالتداوي بأبوال الحيوانات وغيرها من سائر الأبوال، وقال بهذا أبو يوسف. فقد جاء في الفتاوى الهندية: " ... لا بأس بأبوال الإبل ولحم الفرس للتداوي"1. وجاء في الدر المختار شرح تنوير الأبصار: " ... [كره لحم الأتان] ... وبول الإبل، وأجازه أبو يوسف للتداوي"2. وهناك رأي آخر للحنفية: وهو حرمة التداوي بأبوال الإبل وغيرها من سائر الأبوال. فقد جاء في شرح فتح القدير: " ... لا يحل شربه للتداوي ولا لغيره، لأنه لا يتقين بالشفاء فيه ... "3. فالخلاف حاصل بين فقهاء المذهب الحنفي بشأن التداوي بأبوال الحيوانات، فذهب أبو يوسف إلى جواز ذلك التداوي رفعاً لضرورة العلاج به، وهناك رأي مخالف في المذهب بعدم جواز التداوي بأبوال الإبل ونحوها. مذهب المالكية: يرى بأنه يحل شرب أبوال الحيوانات بغرض التداوي فقد جاء في المنتقى شرح موطأ مالك: " ... ولا بأس بشرب أبوال الأنعام الثمانية التي ذكرها الله سبحانه4؛ قيل له: أكل ما يؤكل لحمه؟ قال: لم أقل إلا أبوال

_ 1 الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند 5/355. 2 الحصكفي 6/340. 3 ابن الهمام 1/102. 4 أي التي ذكرها الله في سورة الأنعام في قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} سورة الأنعام الآية 143– 144.

الأنعام الثمانية، بل ولا خير في أبوال الآدمي ... " 1. فالمالكية: على جواز التداوي بأبوال الإبل ونحوها مما ورد في سورة الأنعام من الضأن اثنان ومن المعز اثنان ومن الأبل اثنان ومن البقر اثنان فكان المجموع ثمانية غير أنهم التزموا بحدود الأنعام الثمانية المنصوص عليها في سورة الأنعام ومنها الإبل، فقد قال تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} ... {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} وقال: {وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} 2. مذهب الشافعية: يرى جواز تناول أبوال الحيوانات بغرض التداوي وفي حالة الضرورة دون ما سواها، أي عند عدم تيسر طاهر آخر لهذا التداوي. فقد جاء في المجموع: " ... وإنما يجوز التداوي في النجاسة إذا لم يجد طاهراً يقوم مقامها، فإن وجده حرمت النجاسات بلا خلاف، وعليه يحمل حديث: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" 3 فهو حرام عند وجود غيره، وليس حراماً إذا لم يجد غيره،.. وإنما يجوز ذلك إذا كان المتداوي عارفاً بالطب، يعرف أنه لا يقوم غير هذا مقامه، أو أخبره بذلك طبيب مسلم عدل ويكفي طبيب واحد ... "4. مذهب الحنابلة: يرى جواز شرب أبوال الحيوانات بغرض التداوي فقد جاء في الإنصاف: فائدة: "لو وجد بولاً.. والحالة هذه.. قدم على الخمر

_ 1 أبو الوليد الباجي 3/262. 2 سورة الأنعام الآية 143 – 144. 3 الحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده 12/402، والطبراني في الكبير23/326، والبيهقي في السنن 10/5، من طريق حسان المخارق عن أم سلمة به، وذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه أبو يعلى والبزار ... ورجال أبي يعلى رجال الصحيح خلا حسان بن مخارق وقد وثقه ابن حبان. ا?. راجع: الصحيحة للشيخ الألباني رحمه الله 4/175. 4 النووي 9/54 – 55.

لوجوب الحد بشربه دون البول فهو أخف تحريماً ... " 1. مراده حالة الضرورة وعدم إمكان طاهر أخر لهذا التداوي. وجاء في مجموع الفتاوى: " ... ولست أعلم مخالفاً في جواز التداوي بأبوال الإبل ... "2. فمذهب الحنابلة: كغيرهم على جواز التداوي بأبوال الإبل في حالة الضرورة، وذلك عند عدم وجود غيره لهذا التداوي. بالموازنة بين أقوال الفقهاء: نجد أنهم أجازوا التداوي بأبوال الحيوانات بشرط أن لا يجد غيرها من المباح وأن يخبره طبيب ثقة بأن شفاءه فيها بإذن الله. واستدلوا على ذلك بما روى أنس قال: "قدم ناس من عكل3 أو عرينة4 فاجتووا5 المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح6 وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت7 أعينهم والقوا في الحرة8يستسقون فلا

_ 1 المرداوي 10/208. 2 ابن تيمية 21/562. 3 عكل: قبيلة من الرباب تستحمق، يقولون لمن يستحمقونه عكلي، وهو اسم امرأة حضنت بني عوف بن وائل بن عبد مناة بن أد وسموا باسمها. معجم البلدان للحموي 4/143. 4 عرينة: قبيلة من العرب، وقيل موضع ببلاد فزارة. معجم البلدان للحموي 4/115، جمهرة أنساب العرب لابن حزم 455. 5 اجتووا أي أصابهم الجوى: وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها، ويقال اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيه وإن كنت في نعمة. راجع: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1/318 6 اللقاح من الإبل ذوات الألبان الواحدة لقوح. راجع: المرجع السابق 1/262. 7 أي أحمى لهم مسامير الحديد ثم كحلهم بها. راجع: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/359. 8 الحرة: أرض ذات حجارة سوداء معروفة في المدينة. راجع: المصباح المنير للفيومي صفحة 129.

يستقون"1، قال أبو قلابة2 فهؤلاء سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله"3. ووجه الاستدلال منه أنه صلى الله عليه وسلم أباح لهم التداوي بأبوال الإبل وهي نجسة، وهذا دليل على جواز التداوي بها". واستدل القائلون بجواز التدواي في حالة الضرورة بقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 4 فهذه الآية دلت على جواز التداوي بالنجس عند الضرورة. والذي يترجح لدي: هو القول بحل التداوي بأبوال الحيوانات، إذا لم يوجد طاهر يقوم مقامها في التداوي به، ووصفها للمريض طبيب مسلم عدل ثقة حاذق بمهنة الطب. والله تعالى أعلم.

_ 1 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 3956، وكتاب برقم 6417، ومسلم برقم 1671. 2 هو عبد الله بن زيد بن عمرو ويقال عامر بن نابل أبو قلابة الجرمي، من أهل البصرة، أحد الأعلام، كان عالماً بالقضاء والأحكام، وروى عن ثابت بن الضحاك الأنصاري وسمرة بن جندب ومالك بن الحويرث وغيرهم، توفى رحمه الله سنة 104?. راجع: الأعلام 4/219، وتهذيب التهذيب 5/224. 3 الحديث: رواه البخاري 1/64، ورواه في كتاب المغازي باب قصة عكل وعرينة 5/70، ورواه في كتاب الطب باب الدواء بأبوال الإبل 7/13. 4 سورة الأنعام: الآية 119.

الفصل الرابع: بيع الكلب والخنزير

الفصل الرابع: بيع الكلب والخنزير وفيه مبحثان المبحث الأول: حكم الكلب وحكم بيعه المبحث الثاني: حكم الخنزير وحكم بيعه وحكم بيع أجزائه

المبحث الأول: حكم الكلب وحكم بيعه

المبحث الأول: حكم الكلب وحكم بيعه جمع العلامة ابن قيم الجوزية في زاد المعاد - ما حرم في ثلاثة أجناس حيث قال: "مشارب تفسد العقول، ومطاعم تفسد الطباع، وتغذي غذاءً خبيثاً، وأعيان تفسد الأديان وتدعو إلى الفتنة والشرك، فصان بالتحريم النوع الأول العقول عما يزيلها ويفسدها، وبالثاني القلوب عما يفسدها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها والغاذي شبيه بالمغتذي، وبالثالث الأديان عما وضع لإفسادها، فتضمن هذا التحريم صيانة العقول والقلوب والأديان1. وفي المباحث الآتية نلقي الضوء على ما قاله العلماء بشأن نجاسة الكلب، وحكم بيعه، ثم نتبع ذلك بالحديث عما قاله العلماء بشأن نجاسة الخنْزير، وحكم بيعه وبيع شعره. المطلب الأول: حكم الكلب مذهب الحنفية: اختلف فقهاء الحنفية بشأن حكم الكلب، من حيث نجاسته أو عدمها، فمنهم من قال بنجاسته، وأنه في هذا مثل الخنْزير، وأن نجاسته مغلظة، ومنهم من قال بأنه ليس بنجس، وأنه في هذا مثل سائر الحيوانات غير الخنْزير. فقد جاء في الاختيار لتعليل المختار: " ... والثالث نجس ... الكلب وسباع البهائم ... "2. وورد في بدائع الصنائع: " ... وأما الكلب فالكلام فيه بناء على أنه نجس العين أم لا، وقد اختلف مشايخنا فيه فمن قال إنه نجس العين، فقد ألحقه بالخنازير، فكان حكمه حكم الخنْزير، ومن قال إنه ليس نجس العين، فقد جعله مثل سائر الحيوانات

_ 1 4/239. 2 الموصلي 1/19.

سوى الخنْزير، وهذا هو الصحيح ... "1. وجاء في البحر الرائق: " ... إن الصحيح من المذهب عندنا أن عين الكلب نجس ... "2. ومثله في البناية شرح الهداية: " ... الصحيح من المذهب عندنا عين الكلب نجسة ... "3. وبهذا يتضح أن فقهاء الحنفية قد اختلفوا بشأن حكم الكلب، فمنهم من قال بنجاسته، باعتبار أنه يلحق بالخنْزير، وأنه يأخذ حكمه من حيث النجاسة، ومنهم من قال بعدم نجاسة عينه وألحقه بسائر الحيوانات غير الخنْزير طاهرة العين. مذهب المالكية: القول بطهارة الكلب حيث أطلقوا القول بطهارة كل السباع، ولما كان الكلب سبعاً فقد قالوا بطهارته، وهذا هو المقرر في أصل المذهب المالكي، وإن كان البعض منهم قد خالف في هذا مثل ابن الماجشون4 وسحنون وقالوا بنجاسة الكلب، وحمله الأكثر على نجاسة سؤر الكلب لا عينه، وذهب أبو عمر5 إلى القول بنجاسة كل السباع ومنها الكلب والخنْزير. فقد جاء في الكافي: " ... وتحصيل مذهبه أنه طاهر ... ومذهب مالك في

_ 1 الكاساني 1/63. 2 ابن نجيم 1/182. 3 العيني 1/415. 4 هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون التيمي بالولاء، أصله من فارس، والماجشون لقب جده أبي سلمة، كان فقيهاً مالكياً فصيحاً دارت عليه الفتيا في أيامه بالمدينة كان ضريراً في آخر عمره توفي رحمه الله سنة 212?. راجع: الأعلام 4/160، وشجرة النور الزكية صفحة 56. 5 هو الإمام الحافظ شيخ المغرب يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم، أبو عمر النمري الأندلسي، ولد عام 368? بقرطبة، له مصنفات كثيرة منها: التمهيد والاستذكار، وجامع بيان العلم وفضله. توفي رحمه الله عام 463?، بمدينة شاطبة شرق الأندلس. راجع: سير أعلام النبلاء 11/359-364، الديباج المذهب 2/367-370، الأعلام 8/240.

الكلب أنه طاهر"1. وفي حاشية الدسوقي: " ... والطاهر الحي وأل فيه استغراقية أي كل حي بحرياً كان أو برياً ولو متولداً من عذرة أو كلباً وخنْزيرا ... "2. وورد في التاج والإكليل: "والحي ابن عرفة الحيوان طاهر، وقول سحنون وابن الماجشون الخنْزير والكلب نجسان حمله الأكثر على سؤرهما ورجح أبو عمر نجاسة غير الخنْزير"3. وجاء في المقدمات الممهدات: " ... أنه طاهر ... أن السباع محمولة على الطهارة لأن الكلب سبع من السباع ... "4. فمن خلال مطالعة نصوص المالكية يتقرر لدينا أنهم يقولون بطهارة الكلب وعدم نجاسته، لأن كل حي عندهم طاهر، حتى إنهم قالوا بطهارة الخنْزير، وكذا المتولد من عذرة، وهذا القول هو أصل مذهبهم، غير أنه قد روي عن سحنون وابن الماجشون أن الكلب والخنْزير نجسان، وإن كان معظم المالكية قد حمل هذا القول على نجاسة سؤرهما وليس نجاسة عينهما، وقد رجح أبو عمر من المالكية القول بنجاسة غير الخنْزير من السباع كالكلب وغيره. مذهب الشافعية: قالوا بنجاسة الكلب. فقد جاء في المجموع: "وأما الكلب فهو نجس"5. وجاء في مغني المحتاج: في باب النجاسة " ... هي كل مسكر مائع وكلب ... "6. فمذهب الشافعية: القول بنجاسة الكلب عيناً وأن الاتفاق حاصل في المذهب على هذا.

_ 1 ابن عبد البر 1/161. 2 الدسوقي 1/50. 3 المواق 1/91. 4 ابن رشد 1/89 – 90. 5 النووي 2/584. 6 الشربيني 1/110.

مذهب الحنابلة: قالوا بنجاسته. فقد جاء في كشاف القناع: " ... والكلب والخنْزير نجسان"1. وجاء في شرح منتهى الإرادات: "وما لا يؤكل من الطير والبهائم ... ، نجس ... والذئب والفهد والكلب ... " 2. وورد في المغني: "النجاسة تنقسم إلى قسمين: [أحدهما] "نجاسة الكلب والخنْزير المتولد منهما ... "3. فمذهب الحنابلة: أن الكلب نجس، وأنه في هذا مثل الخنْزير، وكذلك يتنجس عندهم ما تولد عنهما. الموازنة: بالنظر فيما سبق عرضه من نصوص وآراء الفقهاء بالنسبة لحكم الكلب فيما يتعلق بطهارته أو عدمها يتضح لنا أن جملة الأقوال تتلخص في مذهبين هما: المذهب الأول: يرى أن الكلب طاهر، وأنه يخالف الخنْزير في هذا الحكم، وإلى هذا ذهب المالكية في أصل مذهبهم، وهو رواية عن بعض الحنفية. المذهب الثاني: يرى نجاسة الكلب، وأنه في هذا يشبه الخنْزير، وأن نجاسته مغلظة، وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة وبعض الحنفية ومن خالف من المالكية مثل سحنون وابن الماجشون وأبي عمر. استدل القائلون بطهارة الكلب بما يلي: 1- قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} 4 ووجه الدلالة من هذه الآية يتضح من: أنه لم يأمر بغسل محل فم الكلب فدل ذلك على طهارته 5، فضلاً أنه أباح تعليمها والانتفاع بها في الصيد وأكل ما صادته، ولأنه من جملة الجوارح وقد أبيح

_ 1 البهوتي 1/216. 2 المرجع السابق 1/99. 3 ابن قدامة 1/52. 4 سورة المائدة: الآية 4. 5 عارضة الأحوذي لابن العربي 1/35.

الانتفاع به لغير ضرورة فكان طاهراً 1. 2- واستدلوا بحديث ابن عمر وفيه "أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك"2، وهذا دليل على طهارة الكلاب3. 3- بما روي أن عمر وعمرو بن العاص4 وردوا حوضاً فقال عمرو بن العاص: "يا صاحب الحوض، أترد السباع ماءك هذا؟ فقال عمر: "يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع، ولا ترد علينا" 5 ولم يفرق والكلاب من جملة السباع6. هذا: وقد ناقش القائلون بنجاسة الكلب هذه الأدلة بما يلي: أولاً: بالنسبة للآية الكريمة فقد أجيب عن وجه الدلالة فيها بجوابين: أحدهما: أن في وجوب غسل الصيد الذي تصيده الكلاب خلافاً عند الشافعية، وأما الحنابلة فيوجبون غسل موضع فم الكلب. فقد جاء في كشاف القناع: " ... ويجب غسل ما أصاب فم الكلب، لأنه موضع إصابته نجاسة فوجب غسله كغيره من

_ 1 انتصار الفقير السالك صفحة 259. 2 الحديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الوضوء باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان برقم 172. 3 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/45. 4 عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد القرشي السهمي، أمير مصر، يكنى أبا عبد الله وأبا محمد، أسلم قبل الفتح عام الحديبية، توفي رضي الله عنه سنة نيف وأربعين، وقيل بعد الخمسين. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة 7/122-123 برقم 5877، الاستيعاب في معرفة الأصحاب برقم 1931. 5 أخرجه مالك في الموطأ 1/23 باب الطهور للوضوء في كتاب الطهارة،، من طريق يحي بن عبد الرحمن بن حاطب، ورواه الدارقطني 1/32 من طريق أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن أن عمر وعمرو بن العاص ... الخ، وأبو سلمة ويحيى لم يلقيا عمر كما في التهذيب، فهو منقطع، لكن قال ابن معين: بعضهم يقول عنه سمعت عمر، وإنما هو عن أبيه سمع عمر. ا?. وأبوه ثقة سمع عن عمر. راجع: تهذيب التهذيب 6/158 برقم 8766 و6/371 برقم 9674 و3/351 برقم 4370. وموطأ مالك 1/23 – 24. 6 أحكام القرآن لابن العربي 3/444.

من الثياب والأواني"1. وإذا كنا نقول بوجوب الغسل فلا طريق إلى إلزامنا بعدم الغسل، والحق أن هذا الجواب ضعيف، لأن المالكية لم يلزموهم بما في مذهبهم، وإنما احتجوا عليهم بعدم وجود الأمر بالغسل، وهو حق غير مأمور به فكيف يجاب عليهم بما في المذهب؟ إلا أن يقول الحنفية والشافعية والحنابلة أن الغسل مأمور به بدليل آخر وهو الأمر بغسل الآنية في أحاديث الولوغ فيعممون الأمر بالغسل على غير الآنية، وأنه على التسليم بعدم وجوب الغسل فإن ذلك معفو عنه. أما الثاني: فهو القول بإباحة الأكل مما أكلت السباع، ومنها الكلاب عند الصيد المرتب عليه قولكم بعدم طهارة الكلب بناء على هذا فهو قول غير مسلم، وذلك لأنه مع التسليم بعدم وجوب الغسل فإنه لا يشفع في استدلالكم لأن هذا من الأمور المشمولة بالعفو عنها رفعاً للحرج عن العباد2 ثانياً: أما حديث ابن عمر فقد أجيب عنه: أولاً: أن هذا كان في بداية الإسلام، وقبل الأمر بالغسل من ولوغ الكلب. ثانياً: أو أنهم ربما كانوا لا يغسلون ذلك، لأن البول كان مخفياً، سيما وأن المسجد لم يكن له باب حاجز من دخول الكلاب، كما يظهر من الحديث. ثالثاً: أما الأثر المروي عن عمر وعمرو فيه دلالة على التنجيس، لأن السباع منها ما هو نجس كالكلب فالكلب داخل في لفظة السباع. واستدل القائلون بنجاسة الكلب بما يلي: أ-: ما رواه أبو هريرة3 من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم

_ 1 البهوتي 1/216. 2 بدائع الصنائع للكاساني 1/63، والمجموع للنووي 2/854 – 858، والمغني لابن قدامة 1/52. 3 هو عبد الرحمن بن صخر من قبيلة دوس صحابي راوية الإسلام أكثر الصحابة رواية أسلم سنة 7 وهاجر إلى المدينة ولزم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم فروى عنه أكثر من خمسة آلاف حديث ولاه أمير المؤمنين عمر البحرين ثم عزله للين عريكته وولي المدينة سنوات في خلافة بني أمية توفي رضي الله عنه سنة 59 ?. راجع: الأعلام للزركلي 4/480.

فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب" وفي رواية لمسلم فليرقه وفي أخرى: طهور إناء أحدكم" 1. ووجه الدلالة فيها من أربعة طرق: 1- أنه جاء في بعض الروايات: "طهور إناء أحدكم"، ولفظ الطهور لا يكون إلا من حدث أو نجاسة، ولا يتصور وجود الحدث على الإناء فلم يبق إلا النجاسة. 2- ما ورد في رواية عند مسلم فليرقه، ولو كان الماء الذي ولغ فيه الكلب طاهراً لما أمر عليه الصلاة والسلام بإراقته لما في ذلك من إضاعة المال. 3- الأمر بغسل الإناء وذلك آية النجاسة، سيما وأن الأمر بالغسل قد ورد بهذه الصورة المغلظة. 4- إذا كان هذا كله في فم الكلب وهو أطيب ما فيه، بل إن الفم أطيب موضع في الحيوان لكثرة ما يلهث، فبقية أجزائه من باب أولى. ب- ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار فلم يجب فقيل له في ذلك، فقال: "إن في دار فلان كلباً فقيل له: إن في دار فلان هرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها ليست بنجسة" 2 فمفهومه أن الكلب نجس3. وقد نوقشت هذه الأدلة: بأن الأمر بالغسل ليس للنجاسة بل هو إما للتعبد يؤيد ذلك العدد المخصوص، وهو السبع، والنجاسات إنما تطهر بدون ذلك العدد، ويؤيده أيضاً ورود الأمر بتعفيره بالتراب، ولا مدخل له في غسل النجاسات، كما أن لفظة "طهور" لا تدل على أن المحل كان نجساً، فضلاً عن أن التغليظ في الطهارة يدل على التغليظ في

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الطهارة باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم بلفظ: "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً" من حديث أبي هريرة 1/51، ومسلم في كتاب الطهارة باب حكم ولوغ الكلب بألفاظ مختلفة من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مغفل 1/234 – 235. 2 أخرج نحو هذا الحديث الحاكم في المستدرك 1/292، والدارقطني 1/63، والبيهقي 1/249، 251. راجع: التلخيص الحبير 1/52. 3 المجموع للنووي 2/584، مغنى المحتاج 1/110.

النجاسة بالمنع، إذ العذرة والبول أغلظ من لعاب الكلب وغسلها دون السبع1. فقد ورد في إحكام الأحكام شرح عمده الأحكام: " ... وأما كونه لا يكون أغلظ من النجاسة العذرة فممنوع عند القائل بنجاسته نعم ليس بأقذر من العذرة ولكن لا يتوقف التغليظ على زيادة الاستقذار"2. والذي يترجح لدي في هذا الخلاف: هو القول بنجاسة الكلب، وأنه في هذا مثل الخنْزير، وأن نجاسته عينية، وذلك على نحو ما تقرر عند الشافعية والحنابلة وبعض الحنفية وسحنون وابن الماجشون وأبي عمر من المالكية، وذلك لقوة ما استدلوا به مع سلامته عن المعارض في مقابل ضعف استدلال القائلين بالطهارة مع التسليم بصحته. والله تعالى أعلم.

_ 1 عارضة الأحوذي 1/134 – 135. 2 ابن دقيق العيد 1/26.

المطلب الثاني: حكم بيع الكلب

المطلب الثاني: حكم بيع الكلب اختلف الفقهاء بشأن حكم بيع الكلب فمنهم من أجاز ذلك نظراً إلى ماليته وإمكان الانتفاع به شرعاً، ومنهم من منع ذلك على خلاف في علة المنع، فمنهم من علل ذلك بعدم طهارته، ومنهم من علل المنع بالنهي الشرعي عن اقتنائه، وهذا ما قاله الفقهاء: مذهب الحنفية: القول بجواز بيع الكلب، وقد قاسوا عليه كل ذي ناب من السباع، سوى الخنْزير، وذلك لأن الكلب عندهم مال، فكان محلاً للبيع، حيث إنهم يعتبرون مالية المبيع وإمكان الانتفاع به الركن المهم في البيع، ويقولون إن كل ما فيه منفعة مباحة جاز بيعه. فقد جاء في الاختيار لتعليل المختار: "ويجوز بيع الكلب والفهد والسباع معلماً كان أو غير معلم، وأهل الذمة في البيع كالمسلمين، وعلق الشارح على هذا بقوله: ويجوز بيع الكلب والفهد والسباع معلماً كان أو غير معلم، لأنه حيوان منتفع به حراسة واصطياداً فيجوز، ولهذا ينتقل إلى ملك الموصى له والوارث بخلاف الحشرات

كالحية والعقرب والضب والقنفذ ونحوها لأنه لا ينتفع بها"1. وجاء في بدائع الصنائع: "ويجوز بيع كل ذي مخلب من الطير، معلماً كان أو غير معلم بلا خلاف، وأما بيع كل ذي ناب من السباع سوى الخنْزير كالكلب والفهد والأسد والنمر والذئب والهر ونحوها فجائز عند أصحابنا ... ، ثم عندنا لا فرق بين المعلم وغير المعلم في رواية الأصل فيجوز بيعه كيف ما كان، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يجوز بيع الكلب العقور ... "2. فالمستفاد من نصوص الحنفية: هو جواز بيع الكلب وما في حكمه كالفهد والأسد ونحوهما من كل ذي ناب من السباع وذلك باعتبار مالية الكلب المعتبرة أساساً في عقد البيع عندهم وإن كانت هناك رواية لأبي يوسف تمنع بيع الكلب العقور. وهذا بالنسبة لأصل حكم بيع الكلب عند الحنفية، وهذا متمش كذلك بالنسبة لحكم بيع الكلب المأذون في اتخاذه واقتنائه، وذلك للانتفاع به واعتبار ماليته، وهذه المالية والانتفاع متحققة في بيع الكلب للصيد والماشية والزرع ونحو ذلك عملاً بأصلهم من القول بجواز البيع مطلقاً معلما كان أو غير معلم، مأذوناً فيه أم غير مأذون فيه، وهذا فضلاً عن ورود النص باستثناء كلب الصيد، وقيس عليه كلب الزرع والماشية ونحو ذلك. مذهب المالكية: قالوا بأنه لا يصح بيع الكلب مطلقاً سواء كان كلب صيد أو حراسة أو غيرهما وذلك لورود النهي عن بيعه شرعاً وإن صح اقتناء كلب الصيد والحراسة لأن إباحة المنفعة لا تبيح البيع كأم الولد، وهذا هو الأصل في مذهب المالكية وأن هناك من قال بغير هذا فقد قال سحنون بجواز بيع الكلب عامة وأنه لا بأس بثمنه، وكأنه لم يقف كغيره من المالكية في الجواز عند حد ما فيه منفعة ككلب الصيد والحراسة والماشية، ونحو ذلك، فسحنون يخالف في الأصل العام عند المالكية المانع من بيع الكلب وعدم حل ثمنه للنهي عن ذلك. فقد جاء في المنتقى شرح موطأ مالك: قال مالك: "أكره ثمن الكلب الضّاري

_ 1 الموصلي 2/9 – 10. 2 الكاساني5/142 – 143.

وغير الضّاري لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب"1. وجاء في مواهب الجليل شرح مختصر خليل: " ... والكلب ... وثمنه لا يحل قد حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى عن ثمنه ... "2. وجاء في حاشية الدسوقي: " ... وشرط له "عدم نهي" من الشارع عن بيعه إلا ككلب صيد وحراسة وأولى غيرهما ويجوز اتخاذه لهما"3. وورد في بلغة السالك: "قوله: وقيل بجواز بيعه" هذا قول سحنون فإنه قال: أبيعه وأحج بثمنه ... واتفقوا أن كلاب الماشية يجوز بيعها ككلب البادية ... ولا ككلب صيد وحراسة للنهي عن بيعه وإن كان طاهراً منتفعاً به ... "4. وهكذا: يتضح لنا أن حكم بيع الكلب بحسب أصله عند المالكية هو المنع، وأن إباحة الانتفاع به لا تبرر جواز بيعه. أما بالنسبة لبيع الكلب للحراسة والصيد ونحوهما فقد اختلف فقهاء المالكية في ذلك، فمنهم من أوقفه عند أصل المذهب في بيع الكلب وقال بعدم بيعه لهذا الغرض حيث سحب الحكم في أصل المنع لبيع الكلب على كلب الصيد والحراسة ونحوهما، ومنهم من اعتبر في كلب الصيد والحراسة ونحوهما الاستثناء من أصل المنع حيث قال فيهما بجواز البيع لما فيه من منفعة حتى إن سحنون صرح بقوله أبيعه وأحج بثمنه، وقد حكى صاحب بلغة السالك الاتفاق عند المالكية على بيع كلاب الماشية ككلب البادية ونحو ذلك. مذهب الشافعية: القول بمنع بيع الكلب سواء كان معلماً أو غير معلم صغيراً كان أو كبيراً ولا قيمة على من أتلفه لنجاسته والنهي عنه، خاصة وأن الشافعية مع غيرهم يشترطون طهارة المبيع، ولهذا فإنهم يمنعون بيع الكلب ونحوه من نجس العين حتى ولو كان للصيد والحراسة ونحوهما. فقد جاء في نهاية المحتاج: عند الحديث عن شروط المبيع: " ... أحدها طهارة عينه شرعاً ولو كانت النجاسة غالبة في مثله، فلا

_ 1 الباجي 6/372. 2 الحطاب 4/262. 3 الدسوقي 3/11. 4 الصاوي 2/350 – 351.

يصح بيع الكلب ولو معلماً، والخمر يعني المسكر وسائر نجس العين ونحوه ... "1 وجاء في مغنى المحتاج: "وللمبيع شروط: طهارة عينه؛ فلا يصح بيع الكلب والخمر والمتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالخل واللبن، وكذا الدهن في الأصح"2. وجاء في المجموع: " ... أنه لا يحوز بيع الكلب سواء كان معلماً أو غيره، وسواء كان جروا أو كبيراً ولا قيمة على من أتلفه ... قال ابن المنذر: لا معنى لمن جوز بيع الكلب المعلم لأنه مخالف لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ونهيه عام يدخل فيه جميع الكلاب"3. فالمستفاد من نصوص الشافعية: هو عدم جواز بيع الكلب، حتى ولو كان معلماً، وذلك لنجاسته عيناً، خاصة وأنهم يشترطون في المبيع طهارة عينه، وهذا الحكم عام يشمل الكلب المعلم وغيره، والمأخوذ للصيد والحراسة والماشية تمشياً مع أصلهم في منع بيع الكلب مطلقاً أي سواء كان مأذوناً فيه أو كان غير مأذون فيه معلماً أو غير معلم. فمسلك الشافعية اعتبار الأصل العام عندهم هو القول بعدم جواز بيع الكلب حتى ولو كان معلماً عملاً بعموم النهي عن ذلك، رغم أنهم جوزوا اقتناءه للصيد ولحراسة الماشية والزرع. مذهب الحنابلة: القول بعدم صحة بيع الكلب ولو كان معلماً، وذلك للنهي عنه، وأنه لا قيمة على من قتل الكلب المعلم. فقد جاء في المغني والشرح الكبير: "لا يختلف المذهب في أن بيع الكلب باطل أي كلب كان وإن كان معلماً، وبه قال الحسن4

_ 1 الرملي 3/392 2 الشربيني 2/15. 3 النووي 9/272 – 273. 4 هو أبو سعيد الحسن بن يسار البصري، تابعي كان إمام أهل البصرة وحبر الأمة في زمنه، وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك، ولد بالمدينة وسكن البصرة، وعظمت هيبته في القلوب وله مع الحجاج مواقف وقد شل من أذاه. توفي رحمه الله تعالى سنة 110?. راجع: الأعلام للزركلي 2/226.

وربيعه1 وحماد2 والأوزاعي3 ... وكره أبو هريرة ثمن الكلب"4. وجاء في كشاف القناع: الشرط الثالث: "أن يكون المبيع والثمن مالاً لأنه مقابل بالمال إذ هو مبادلة المال بالمال وهو أي المال شرعاً ما فيه منفعة أو لغير حاجة ضرورة، فخرج ما لا نفع فيه أصلاً كالحشرات وما فيه منفعة محرمة كالخمر وما فيه منفعة مباحة للحاجة كالكلب وما فيه منفعة تباح للضرورة كالميتة في حال المخمصة وخمر لدفع لقمة غص بها ... "5. وجاء في المغني: "وبيع الكلب باطل وإن كان معلماً ... "6. ولهذا فقد تقرر عند الحنابلة بطلان بيع الكلب، وعدم صحة ذلك البيع، وذلك لنجاسته ولو كان معلماً أو مأذوناً فيه، لأنهم يحرمون بيع العين النجسة التي يمكن إزالة نجاستها، ونجاسة الكلب لا يمكن إزالتها فمنع بيعه آكد عندهم. الموازنة: بمراجعة نصوص كتب الفقه عند مذاهب الأئمة الأربعة يتضح لنا أن خلاصة أقوال الفقهاء في بيع الكلب كما يلي: المذهب الأول: يرى أنه لا يجوز بيع الكلب مطلقاً، حتى ولو كان معلماً، وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة وهو أصل مذهب المالكية.

_ 1 هو ربيعة بن فروخ التيمي - تيم قريش - بالولاء المدني أبو عثمان إمام حافظ فقيه مجتهد من أهل المدينة من أهل الرأي قيل له ربيعة الرأي لقوله بالرأي فيما لا يجد فيه حديثاً أو أثراً، عليه وبه تفقه الإمام مالك توفي رحمه الله بالهاشمية في أرض الأنبار بالعراق سنة 136 ?. راجع: الأعلام للزركلي 3/17. 2 هو حماد بن أبي سليمان الأشعري مولاهم أبو إسماعيل الكوفي، فقيه صدوق له أوهام، توفي رحمه الله سنة مائة وعشرين أو قبلها. راجع: تقريب التهذيب لابن حجر ترجمة رقم 1500. 3 هو عبد الرحمن بن عمرو بن ُيحْمد الأوزاعي إمام فقيه محدث نسبته إلى الأوزاع من قرى دمشق وأصله من سبي السند نشأ يتيماً وتأدب بنفسه فرحل إلى اليمامة والبصرة وبرع وأراده المنصور على القضاء فأبى ثم نزل بيروت مرابطاً وتوفي بها رحمه الله سنة 157 ?. راجع: البداية والنهاية لابن كثير 10/115، وتهذيب التهذيب لابن حجر 6/238. 4 ابن قدامة 4/300. 5 البهوتي 4/1382. 6 ابن قدامة 4/278 – 281.

المذهب الثاني: يرى جواز بيع كلب الصيد والحراسة ونحوهما، وكلاب الماشية والزرع والبادية، وإلى هذا ذهب سحنون من المالكية، وما حكاه صاحب بلغة السالك من اتفاق المالكية على ذلك. المذهب الثالث: يرى جواز بيع الكلب مطلقاً، أي معلماً كان أم لا، سواء كان للحراسة أو الصيد أم لا، وإلى هذا ذهب الحنفية. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول القائلون: بمنع بيع الكلب مطلقاً حتى ولو كان معلماً الشافعية والحنابلة وأصل مذهب المالكية بما يأتي: 1- بما روي عن أبي مسعود البدري1: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن"2. 2- وبما روي عن أبي جحيفة3 –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الدم وعن ثمن الكلب، ومهر البغي، ولعن آكل الربا، وموكله، والواشمة، والمتوشمة، ولعن المصور"4. 3- بما روى عن رافع بن خديج5 رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كسب الحجام خبيث، ومهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث" 6.

_ 1 هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة الأنصاري أبو مسعود البدري شهد العقبة وبدراً على القول الراجح وأحداً وما بعدها نزل بالكوفة مات سنة أربعين هجرية. راجع: تهذيب التهذيب لابن حجر 7/248. 2 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 2122، ومسلم برقم 1567. 3 هو وهب بن عبد الله ويقال ابن وهب أبو جحيفة السوائي يقال له وهب الخير روى عن علي والبراء بن عازب وعنه ابنه عون وسلمة بن كهيل وغيرهم توفي سنة أربع وستين هجرية. راجع: الأعلام للزركلي 8/125، تهذيب التهذيب لابن حجر 11/164. 4 أخرجه البخاري برقم 2123، وبرقم 5601 وبرقم 5617. 5 هو رافع بن خديج بن رافع بن عدي الأنصاري الحارثي أبو عبد الله ويقال أبو رافع، شهد أحداً والخندق روى عن عمه ظهير بن رافع وروى عنه خلق كثير مات سنة ثلاث وسبعين هجرية وقيل غير ذلك. راجع: تهذيب التهذيب لابن حجر 3/229 – 230. 6 الحديث أخرجه مسلم برقم 1568.

4- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وقال: إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً" 1. 5- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن، ولا مهر البغي" 2. 6- القياس على الخنْزير بجامع حرمة الاقتناء في غير حال الحاجة. ونوقشت هذه الأدلة بما يأتي: أ- أن هذه الأحاديث منسوخة، فإنها كانت عند الأمر بقتل الكلاب، حيث لم تكن في الكلاب منفعة مباحة، ولما نسخ الأمر بقتل الكلاب وجاء الأمر بإباحة الاقتناء لبعضها، ثبت أن أحاديث النهي منسوخة. ب – أن قرن ثمن الكلب مع مهر البغي وحلوان الكاهن لا يدل على أن حكمهما واحد فهذه دلالة اقتران وهي ضعيفة3. استدل أصحاب المذهب الثاني القائلون: بجواز بيع كلب الحراسة والبادية ونحو ذلك، وهو سحنون ومن وافقه من المالكيه على ما خرجوا به عن الأصل في مذهب المالكية بما يأتي: أن تحقيق مصالح العباد ومراعاة ما يحقق المنفعة لديهم يقتضي القول بجواز بيع الكلب للحراسة والزرع والماشية ونحو ذلك مما يستخدم في مصالح العباد كالصيد ونحوه، تحقيقاً لمصالح العباد المعتبرة في الأحكام الشرعية، وقالوا بجواز بيع الكلاب المدربة على الحراسة والكلاب البوليسية المدربة على كشف المجرمين خاصة وأن الحاجة تشتد إلى مثل هذا النوع من الكلاب ومنها المدربة على خدمة مكفوفي البصر

_ 1 الحديث أخرجه أحمد في المسند 1/278، 289، 350 وأبو داود كتاب الإجارة باب في أثمان الكلاب برقم 3482، والدارقطني في السنن 3/7، والبيهقي في السنن 6/6، والطبراني في الكبير 12/102. 2 الحديث أخرجه أبو داود كتاب الإجارة باب في أثمان الكلاب برقم 3482، والنسائي في السنن كتاب الصيد والذبائح باب النهي عن ثمن الكلب برقم 4293، وذكره الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم 7640. 3 عارضة الأحوذي لابن العربي 5/278 – 279.

ومساعدتهم في الوصول إلى مقاصدهم. استدل أصحاب المذهب الثالث القائلون: بجواز بيع الكلب مطلقاً معلماً كان أم لا للحراسة أو الصيد أم لا وهم الحنفية بما يأتي: 1- بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} 1. 2- حديث جابر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب الصيد"2. 3- عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اتخذ كلباً إلا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط" 3. 4- ما روي من الآثار أن عبد الله بن عمرو قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهماً، وقضى في كلب ماشية بكبش4. 5- وعن ابن شهاب أنه قال: "إذا قتل الكلب المعلم فإنه يقوم قيمته فيغرمه الذي قتله" 5. 6- وعن محمد بن يحي بن حبان الأنصاري6 قال: "كان يقال يجعل في الكلب الضاري إذا قتل أربعون درهماً"7.

_ 1 سورة المائدة: الآية 4. 2 الحديث: أخرجه النسائي برقم 4295 من حديث جابر، وأخرجه مسلم أيضا وليس فيه لفظة "إلا كلب صيد"، وأخرجه الترمذي برقم 1281 من حديث أبي هريرة، وليس فيه لفظة السنور، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم 6946. 3 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 2197، وبرقم 3146، 3147, ومسلم برقم 1575، 1576. 4 الأثر أخرجه البيهقي في السنن 6/8. 5 رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/58. 6 هو محمد بن يحيى بن حَبّان الأنصاري المدني، ثقة فقيه. راجع: تقريب التهذيب لابن حجر 906 برقم 6421. 7 رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 4/59.

7- القياس على الحمار الأهلي بجامع حل الانتفاع في كل. ونوقشت هذه الأدلة من قبل الجمهور بما يأتي: 1- أن الآية الكريمة ليس فيها دليل على حال البيع ولا تعرض له إذ غاية ما فيها إباحة الصيد بهذه الكلاب في قوله سبحانه: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} 1 فأين ذكر حل البيع وذكر إباحة الثمن. 2- أن حديث جابر لا يدل إلا على حل ثمن كلب الصيد، والحنفية يبيحون أثمان الكلاب كلها المعلم منها وغير المعلم2. 3- أن الآثار المروية عن بعض الصحابة وغيرهم في تغريم متلف الكلاب فهي ضعيفة ولا تقوم بها حجة، وعلى تسليم صحتها فليس فيها إلا إيجاب القيمة بدل إتلاف المال وإلا فلا ثمن لميت أصلاً3. 4- أما قياس الكلب على الحمار بجامع حل الانتفاع وأن الحمار طاهر الأصل بخلاف الكلب وأن قياس الكلب على الخنْزير أولى لأنه أشبه به ولو فرض تساوي القياسين فالقياس الذي تؤيده النصوص الصحيحة أولى من غيره4. والراجح: هو القول بعدم جواز بيع الكلب، لصحة أدلة الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، فضلاً عن أنها دالة على حرمة البيع، ومنفّرة من قبض الثمن أيما تنفير على نحو ما ورد آنفاً، في حين أن الأدلة التي ساقها الحنفية لإثبات صحة وجواز بيع الكلب لا ترقى للدلالة على هذا لما في سندها من مقال، غير أنه يراعى الاستثناء الذي تقرر لدى بعض المالكية كسحنون وغيره من استثناء كلب الصيد والحراسة ونحو ذلك من الكلاب المدربة خدمة للعباد وتحقيقاً لمصالحهم. والله أعلم.

_ 1 سورة المائدة: الآية 4. 2 المجموع للنووي 9/273. 3 زاد المعاد لابن القيم 4/248. 4 عارضة الأحوذي لابن العربي 5/278 – 279.

المبحث الثاني: حكم الخنزير وحكم بيعه وبيع شعره

المبحث الثاني: حكم الخنزير وحكم بيعه وبيع شعره المطلب الأول: حكم الخنزير مذهب الحنفية: القول بنجاسة الخنْزير نجاسة عينية أي تتعلق بعينه. فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... وأما الخنْزير فقد روي عن أبي حنيفة أنه نجس العين ... "1. وجاء في البناية شرح الهداية: " ... بخلاف الخنْزير لأنه نجس العين ... "2. فنص كتب الحنفية أن الخنْزير نجس في عينه وأنه رجس وأن الاتفاق في المذهب على هذا. مذهب المالكية: اختلف فقهاء المذهب المالكي بشأن حكم الخنْزير من حيث الطهارة أو عدمها وذلك بناء على المبدأ السائد عندهم من أن كل حي طاهر، ولهذا فقد ذهب عامتهم إلى القول بطهارة الخنْزير والمتولد من عذرة ونحوها. وخالف سحنون وابن الماجشون في هذا وقالا بنجاسة الخنْزير، وقال ابن عرفة إن أكثر فقهاء المذهب قد حملوا قول سحنون وابن الماجشون على نجاسة سؤرهما لا عينهما، ورجح أبو عمر القول بنجاسة كل السباع غير الخنْزير، أما الإمام القرافي3 فقد ذكر أن الخنْزير نجس العين لا يطهر حتى بالذكاة وأنه لا يطهر شيء منه بها. فقد جاء في حاشية الدسوقي: " ... والطاهر الحي وأل فيه استغراقية أي كل

_ 1 الكاساني 1/63. 2 العيني 1/416. 3 هو الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله الصنهاجي المالكي القرافي المولود سنة 626?، كان إماما عالما في الأصول والفقه والتفسير وغيرها، وله كتاب الفروق – وتنقيح الفصول في علم الأصول وغيرها وتوفي رحمه الله بمصر سنة 684?. راجع: الديباج المذهب لابن فرحون 1/239.

حي بحرياً أو برياً متولداً من عذرة أو كلباً وخنْزيرا ... "1. وجاء في التاج الإكليل: "والحي" ابن عرفة الحيوان طاهر وقول سحنون وابن الماجشون الخنْزير والكلب نجسان حمله الأكثر على سؤرهما، ورجح أبو عمر نجاسة غير الخنْزير" 2. وجاء في الذخيرة: " ... الذكاة مطهرة لسائر أجزاء الحيوان لحمه وعظمه وجلده ... إلا الخنْزير ... لأنه سوى بينه وبين الدم ولحم الميتة وهما لا يقبلان التطهير فكذلك هو"3. فهذا النص يفيد أن الخنْزير نجس العين لا يطهر بالذكاة لحمه أو جلده أو عظمه. فالمستفاد من نصوص المالكية: أن الخلاف حاصل في المذهب بشأن حكم الخنْزير، فيرى سحنون وابن الماجشون أن الخنْزير نجس العين، وهذا ما ذكره الإمام القرافي ورجحه، وإن كان البعض الآخر من المالكية قد نازع في نجاسة الخنْزير، وقال بطهارته بناء على أن كل حي طاهر عندهم، وإلى هذا ذهب ابن عرفة وقد حملوا قول سحنون وابن الماجشون على نجاسة السؤر خاصة. مذهب الشافعية: يقولون بنجاسة الخنْزير، وادعى ابن المنذر الإجماع على نجاسة الخنْزير. فقد جاء في المجموع شرح المهذب: "وأما الخنْزير فهو نجس ... فإذا كان الكلب نجساً فالخنْزير أولى"4.

_ 1 الدسوقي 1/50. 2 المواق 1/91. 3 القرافي 1/165. 4 النووي 2/586.

وفي مغنى المحتاج: " ... ادعى ابن المنذر في كتاب الإجماع، إجماع العلماء على نجاسة الخنْزير"1. فمذهب الشافعية: أن الخنْزير نجس العين، وأنه في هذا أولى كذلك من الكلب، فإذا كان الكلب نجساً، كان الخنْزير أولى بالحكم عليه بالنجاسة. مذهب الحنابلة: الاتفاق على القول بنجاسة الخنْزير، وأن النجاسة متعلقة بعينه. فقد جاء في الأنصاف: " ... وقطع المصنف: أن نجاسة الخنْزير كنجاسة الكلب وهو الصحيح في المذهب وعليه الأصحاب"2. وجاء في كشاف القناع: "والكلب والخنْزير نجسان"3. فالحنابلة: متفقون على القول بنجاسة الخنْزير وأن هذه النجاسة تتعلق بعينة. الموازنة: بمراجعة ما ذكره الفقهاء على اختلاف مذاهبهم بشأن حكم الخنْزير من حيث الطهارة أو عدمها يتضح أن خلاصة القول في هذا الخلاف تنتهي إلى مذهبين: المذهب الأول: يرى أن الخنْزير نجس، وأن هذه النجاسة تتعلق بعينه، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة وبعض المالكية كسحنون وابن الماجشون والقرافي وأبي عمر. المذهب الثاني: يرى أن الخنْزير طاهر، وأنه ليس بنجس العين، وذلك بناء على أن كل حي طاهر، وإلى هذا ذهب جمهور المالكية. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول القائلون بنجاسة عين الخنْزير: أ- قوله تعالى: {.... أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} 4 فهذا القرآن العظيم

_ 1 الشربيني 1/111. 2 المرداوي 1/294. 3 البهوتي 1/216. 4 سورة الأنعام: الآية 145.

يصف لحم الخنْزير بأنه رجس، وأما تخصيص اللحم بالذكر دون سائر الأجزاء فيوضحه الجصاص حين يقول: " ... واللحم – وإن كان مخصوصاً بالذكر فإن المراد جميع أجزائه، وإنما خص اللحم بالذكر لأنه أعظم منفعته، وما يبتغى منه ... كما نص على تحريم قتل الصيد على المحرم والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد، وخص القتل بالذكر لأنه أعظم ما يقصد به الصيد، كقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 1. فخص البيع بالنهي لأنه كان أعظم ما يبتغون من منافعهم والمعنى جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة كذلك خص لحم الخنْزير بالنهي تأكيداً لحكم تحريمه وحظراً لسائر أجزائه فدل على أن المراد بذلك جميع أجزائه وإن كان النص خاصاً في لحمه"2. ب- حديث أبي ثعلبة الخشني وفيه: "يا رسول الله: إن أرضنا أرض أهل الكتاب وإنهم يأكلون لحم الخنْزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدروهم، قال: " إن لم تجدوا غيرها فارحضوها3 بالماء ... "... الحديث"4. ج - القياس على الكلب لأنه أسوأ حالاً منه إذ إنه مندوب إلى قتله، ولا يجوز اقتناؤه بحال بخلاف الكلب الذي يجوز اقتناؤه للحاجة. واستدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بطهارة عين الخنْزير: 1 - تمسكوا بإعمال القاعدة العامة المقررة من أن كل حي طاهر، وأن من هذا الخنْزير فهو طاهر في عينه. 2 – أن مراد من قال بنجاسته محمول على القول بنجاسة سؤره وليس بنجاسة عينه. والراجح في هذا: هو ما عليه جمهور الفقهاء من القول بنجاسة عين الخنْزير وأنه

_ 1 سورة الجمعة: الآية 9. 2 أحكام القرآن للجصاص 1/151. 3 ارحضوها: أي اغسلوها والرحض الغسل. راجع: النهاية في غريب الحديث والأثر 2/190 4 أخرجه البخاري في كتاب الذبائح باب صيد القوس بنحوه برقم 5161 من حديث أبي ثعلبة الخشني.

رجس لقوة ما استدلوا به من النصوص والقياس، ولأن هذا الحكم متفق مع طبيعة الأمور لأن النفس البشرية تعاف الخنْزير وتستقذره. والله تعالى أعلم.

المطلب الثاني: حكم بيع الخنزير

المطلب الثاني حكم بيع الخنزير مذهب الحنفية: القول ببطلان بيع الخنْزير إذا كان مبيعاً. " ... وبيع الميتة والدم ... والخنْزير والحر ... باطل"1. أما إذا كان عوضاً عن المبيع "ثمناً" فإن البيع يكون فاسداً، لأن الحنفية في أصولهم يفرقون بين الباطل والفاسد2. فقد جاء في شرح فتح القدير: "وإذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرماً فالبيع فاسد كالبيع بالميتة والدم والخنْزير والخمر، وكذا إذا كان غير مملوك كالحر ... والبيع بالخمر والخنْزير فاسد لوجود حقيقة البيع وهو مبادلة المال بالمال ... "3. فهناك فرق عند الحنفية بين الباطل والفاسد، وأن الباطل ما كان بحسب أصله باطلاً، والفاسد ما كان الخلل بحسب وصفه، وقالوا إن بيع الخنْزير باطل، ولا ينعقد أصلاً كما ورد في نص الاختيار لتعليل المختار، بخلاف البيع بالخنْزير حيث يكون البيع فاسداً، لأن الخلل في هذه الحالة يتعلق بوصف العقد، وليس بأحد أركانه المعتبرة عندهم وهي

_ 1 الاختيار لتعليل المختار للموصلي 2/23. 2 العقد غير الصحيح عند الحنفية قد يكون باطلاً وقد يكون فاسداً. فالعقد الباطل: هو ما اختل ركنه أو محله أو ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه، كأن يكون أحد العاقدين فاقد الأهلية أو تكون الصيغة غير سليمة، أو يكون محل العقد غير قابل لحكم العقد شرعاً كبيع ما ليس بمال أو ما ليس مالاً متقوماً كالخمر والخنْزير والسمك في الماء. وحكم الباطل: أنه لا يعد منعقداً أصلاً وإن وجدت صورته في الظاهر. أما العقد الفاسد: هو ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه أي كان صادراً ممن هو أهل له والمحل قابل لحكم العقد شرعاً والصيغة سليمة ولكن صاحب ذلك وصف منهي عنه شرعاً وحكم الفاسد ثبوت الملك فيه بالقبض بإذن المالك صراحة أو دلالة. راجع: الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور/ وهبة الزحيلي 4/3089 – 3090. 3 ابن الهمام6 /402 – 403.

مبادلة مال بمال، والخنْزير مال عندهم فصح أن يكون مقابلاً في عقد البيع مع فساد ذلك العقد. وجاء في بدائع الصنائع: " ... ولا ينعقد بيع الخنْزير من المسلم لأنه ليس بمال في حق المسلمين، فأما أهل الذمة فلا يمنعون من بيع الخمر والخنْزير أما على قول بعض مشايخنا فلأنه مباح الانتفاع به شرعاً لهم كالخل وكالشاه لنا فكان مالاً في حقهم فيجوز بيعه ... وعن بعض مشايخنا حرمة الخمر والخنْزير ثابتة على العموم في حق المسلم والكافر لأن الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات هو الصحيح من مذهب أصحابنا فكانت الحرمة ثابتة في حقهم لكنهم لا يمنعون عن بيعها لأنهم لا يعتقدون حرمتها ويتمولونها ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون ... "1. فقد تقرر وجه الخلاف بشأن بيع الخنْزير من المسلم وأنه لا ينعقد ذلك البيع لأنه ليس بمال في حقه، أما أهل الذمة ففي بيعهم للخنْزير خلاف، فعند بعض مشايخ الحنفية أن هذا يجوز ولا يمنعون من ذلك البيع لأنه مباح الانتفاع به عندهم، وعند بعض المشايخ من الحنفية أنهم يمنعون من ذلك البيع تمشياً مع أصل المنع عملاً بعموم الحكم وأنه لا فرق بين المسلم وغيره في هذا الشأن. مذهب المالكية: قالوا بحرمة بيع الخنْزير وحرمة ثمنه. " ... وبيع الخنْزير حرام وثمنه حرام ... "2. لأنهم يرون أن بيع كل نجاسة لا تدعو الضرورة إلى استعمالها أو لم تعم بها البلوى حرام، ومن ذلك بيع الخنْزير لأنه لا تدعو إلى بيعه ضرورة. " ... فبيع كل نجاسة لا تدعو الضرورة إلى استعمالها ولا تعم بها البلوى حرام كالخمر والميتة والخنْزير"3. فالمستفاد من نصوص المالكية: حرمة بيع الخنْزير، وحرمة ثمنه، وذلك لنجاسته،

_ 1 الكاساني 5/143. 2كتاب الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر 2/675. 3 مواهب الجليل للحطاب 4/259.

ولأن الضرورة لا تدعو إلى ذلك ولا تعم بها البلوى. مذهب الشافعية: قالوا بعدم جواز بيع الخنْزير، وذلك لأنه نجس العين، أي نجس في نفسه، وهم يقسمون الأعيان إلى أعيان نجسة وأعيان طاهرة، ويقسمون الأعيان النجسة إلى نجسة في عينها ونجسة بملاقاة غيرها ولا يجوزون بيع نجس العين. "باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز: الأعيان ضربان نجس وطاهر، فأما النجس فعلى ضربين نجس في نفسه، ونجس بملاقاة نجاسة، فأما النجس في نفسه فلا يجوز بيعه وذلك مثل الكلب والخنْزير والخمر والسرجين وما أشبه ذلك من النجاسات"1. "وشرط في المعقود عليه مثمنا أو ثمنا خمسة أمور: أحدها: طهر له أو إمكان لطهره بغسل فلا يصح بيع نجس ككلب وخمر وغيرهما مما هو نجس العين وإن أمكن طهره بالاستحالة كجلد ميتة لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب وقال: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنْزير" والمعنى في المذكورات نجاسة عينها فألحق بها باقي نجس العين"2. فأساس تحريم بيع الخنْزير عند الشافعية هو نجاسة عينه فضلاً عن النهي عن ذلك. وجاء في نهاية المحتاج: " ... كالنهي عن بيع مال الغير بغير إذنه وبيع الخمر والكلب والخنْزير والملامسة والمنابذه ... "3. وعليه فمذهب الشافعية: عدم جواز بيع الخنْزير لنجاسة عينه، وأنه في هذا الحكم مثل كل ما كانت عينه نجسة كالكلب والخمر ونحوهما. مذهب الحنابلة: قالوا بعدم جواز بيع الخنْزير، وذكر ابن المنذر إجماع أهل العلم على القول بعدم جواز بيع الخنْزير والإجماع على حرمة بيعه وشرائه.

_ 1 المهذب للشيرازي 3/23. 2 فتح الوهاب للشيخ زكريا الأنصاري 1/158. 3 الرملي 3/446.

"ولا يجوز بيع الخنْزير ولا الميتة ولا الدم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به. وأجمعوا على تحريم الميتة والخمر وعلى أن بيع الخنْزير وشراءه حرام"1. "ولا يصح بيع دم وخنْزير وصنم ... "2. فالمستفاد من نصوص الحنابلة: هو عدم جواز بيع الخنْزير وكذا شرائه. الموازنة: إن الاتفاق حاصل بين الفقهاء على حرمة بيع الخنْزير لنجاسته ولعدم ماليته وعدم الانتفاع به ولورود النص الصريح بالنهي عن بيع الخنْزير، وإن كان هناك اختلاف في التعبير عن ذلك ما بين عدم الصحة وعدم الجواز والبطلان والفساد. فالحنفية: قد فرقوا بين ما إذا كان الخنْزير مبيعاً أم كان ثمناً، وقالوا إنه إذا كان مبيعاً كان البيع باطلاً، في حين أنه إذا كان ثمناً فإن البيع يكون فاسداً وذلك بناء على أنهم يفرقون في أصول مذهبهم بين الباطل والفاسد، فالباطل ما كان باطلاً بأصله في حين أن الفاسد ما كان الخلل فيه راجعاً إلى وصف فيه. أما المالكية فقد عبروا عن ذلك بحرمة بيع الخنْزير وحرمة ثمنه وذلك لأنهم يرون أن بيع كل نجاسة لا تدعو الضرورة إلى استعمالها أولم تعم بها البلوى حرام. والشافعية: يعبرون بعدم جواز بيع الخنْزير قياساً على نجاسة عينه، في حين أن الحنابلة يعبرون بعدم جواز بيع الخنْزير، وحكى ابن المنذر منهم الإجماع على حرمة ذلك البيع وعبر بالحرمة للدلالة على عدم جواز ذلك البيع. وهذا الخلاف في اللفظ والعبارة فقط، ولا مشاحة في ذلك فلا أثر له من حيث الحكم لأن الجميع متفق على منع بيع الخنْزير. وهذه خلاصة ما قالوه: الحنفية: يرون عدم انعقاد بيع الخنْزير في حق المسلم، وأن البيع باطل إذا كان مبيعاً وفاسداً إذا كان ثمناً، واختلف فقهاء الحنفية بالنسبة لغير المسلم فقيل يجوز لهم

_ 1 المغني لابن قدامة 4/282 2 كشاف القناع للبهوتي 4/1386.

بيعه وقيل لا يجوز منهم والمسلمون سواء في عدم صحة البيع، لأن نجاسة الخنْزير ثابتة على العموم في حق المسلم وغيره. وهكذا: نجد أن الحنفية فقط هم الذين ينفردون بذكر حكم البيع بالنسبة لغير المسلم ولم يتعرض لحكم ذلك بقية الفقهاء. المالكية: يرون حرمة البيع وحرمة ثمن الخنْزير. الشافعية: يرون عدم جواز بيع الخنْزير. الحنابلة: يرون عدم جواز بيع الخنْزير. الأدلة: أ – استدل الحنفية: على ما ذهبوا إليه بالنسبة لبيع الخنْزير: بأن بيع الخنْزير باطل، ولا ينعقد أصلاً بخلاف البيع به حيث يكون البيع فاسداً وذلك لأن الخلل في هذه الحالة يكون متعلقاً بوصف العقد وليس بأحد أركانه المعتبرة وهي مبادلة مال بمال، وقالوا إن الخنْزير نجس العين إلا أنه مال عندهم، ولهذا صح أن يكون مقابلاً في عقد البيع، وإن كان ذلك العقد فاسداً لما شابه في الوصف فقط، وتمسك من فرق منهم بين بيع الخنْزير من المسلم وغير المسلم بأنه لا ينعقد بالنسبة للمسلم لأنه ليس بمال في حق المسلمين بخلاف أهل الذمة حيث يعتبر مالاً عندهم لأنه مباح الانتفاع به شرعاً لديهم ولهذا فلا مانع من بيعه في حقهم، وقد تمسك بعض الحنفية ممن لا يرون فارقاً بين المسلم والكافر بالنسبة لبيع الخنْزير تمسكوا بالأصل العام وهو منع بيع الخنْزير سواء كان من المسلم أم من غيره فكانت الحرمة ثابتة في حق غير المسلمين على العموم لأن الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات على الصحيح من مذهب الحنفية فعموم الحكم لا يفرق بين المسلم وغيره في هذا الشأن. ب – استدل المالكية: بأن بيع كل نجاسة لا تدعو الضرورة إلى استعمالها ولم تعم بها البلوى حرام، وأن الخنْزير لا تدعو ضرورة إلى استعماله، وأنه نجس في عينه، فحرم بيعه وحرم ثمنه.

ج – واستدل الشافعية: بأن الخنْزير نجس في عينه وهو رجس وقد ورد النهي عن ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، وقال: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنْزير" وأن المعنى في المذكورات نجاسة عينها وأن الشرط عند الشافعية هو طهارة المعقود عليه وقسموا الأعيان النجسة إلى قسمين: أحدهما نجس في نفسه، ونجس بملاقاة النجاسة، وقالوا إن النجس في نفسه لا يجوز بيعه وعدوا من ذلك الخنْزير، فتقرر عندهم عدم جواز بيع الخنْزير للنجاسة والنهي صراحة عن بيعه. د – أما الحنابلة فقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بالنسبة لبيع الخنْزير بالحرمة من حيث كونه مبيعاً أو ثمناً وللنهي عن ذلك شرعاً. الراجح في هذا: هو ما كان عليه إجماع أهل العلم وعامة الفقهاء على منع بيع الخنْزير بصرف النظر عن التعبير عن هذا أو وجه التعليل أو الاستدلال وأن هذا الحكم يسري بعمومه في حق المسلم والكافر على السواء، وأنه لا وجه للتفرقة بينهما عند بعض الحنفية لأن الكافر مخاطب بحكم التحريم فشمله القول بمنع بيع الخنْزير في حقه على نحو ما ذهب البعض الآخر من الحنفية وما عليه عامة فقهاء المذاهب المختلفة والله تعالى أعلم.

المطلب الثالث: حكم بيع شعر الخنزير

المطلب الثالث: حكم بيع شعر الخنزير إن الإجماع قائم على منع بيع جميع أجزاء الخنْزير، ولكنهم اختلفوا في شعره. مذهب الحنفية: اختلف فقهاء الحنفية بشأن بيع شعر الخنْزير، فمنهم من ذهب إلى جواز بيعه، لأنه حكم بطهارته، والصحيح في المذهب أنه لا يجوز بيعه، لأنه نجس تبعاً لأصله، لأن الخنْزير نجس العين، إلا أنه رخص في بيعه تبعاً للرخصة في استعماله للخرازين للضرورة، لأن عملهم لا يأتي إلا به. " ... وأما شعره فقد روي أنه طاهر يجوز بيعه، والصحيح أنه نجس لا يجوز بيعه، لأنه جزء منه، إلا أنه رخص في استعماله للخرازين1 للضرورة ... "2.

_ 1 الخرز: خياطة الأدم، والخراز صانع ذلك. راجع: لسان العرب لابن منظور 4/58. 2 بدائع الصنائع للكاساني 5/142.........الأصل أن يكون هنا=

"ولا يجوز بيع شعر الخنْزير، لأنه نجس العين فلا يجوز بيعه إهانة له، ويجوز الانتفاع به للخرز للضرورة، فإن ذلك العمل لا يتأتى بدونه ... "1. مذهب المالكية: يروى عن ابن القاسم جواز الانتفاع بشعر الخنْزير الوحشي، كصوف الميتة، وأنكر هذا بعض فقهائهم، لأن صوف الميتة إنما حل لأنه حلال منها وهي حية، وشعر الخنْزير ليس بحلال حياً ولا ميتاً، ولا يباع ولا يؤكل ثمنه. " ... وسمعت ابن القاسم يقول لا بأس ببيع شعر الخنْزير الوحشي وهو كصوف الميتة ... وشعر الخنْزير ليس بحلال حياً ولا ميتاً ولا يباع، ولا يؤكل ثمنه، ولا تجوز التجارة فيه ... "2. فابن القاسم يرى أنه لا بأس ببيع شعر الخنْزير الوحشي، وأنه في هذا يشبه صوف الميتة، وذلك خلاف لما عليه أصل مذهب المالكية من منع ذلك البيع. مذهب الشافعية: القول بمنع بيع شعر الخنْزير قياساً على منع بيع جملته وجميع أجزائه بإطلاق المنع من الاتخاذ والتناول وبالتالي منع البيع شامل لجميع أجزاء الخنْزير، شأن أصله وجملته في هذا المنع. قال النووي: "أجمع المسلمون على تحريم شحمه أي الخنْزير ودمه وسائر أجزائه ... "3. وحرمة ذلك تقتضي منع بيعه واعتباره محلاً للتصرفات الأخرى، وهم في هذا اعتبروا أصل المنع في الخنْزير وسحبوا ذلك على جميع أجزائه، ومن هذه الأجزاء شعره ولا اعتبار لحالة ضرورة الخرز عندهم. مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة إلى أن أجزاء الخنْزير، نجسة تبعاً لنجاسة الخنْزير، لأن الخنْزير نجس العين عندهم، وأجزاء الحيوان تابعة لأصله سواء انفصلت عنه حال

_ 1 الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني 6/425 2 مواهب الجليل للحطاب 4/262. 3 المجموع 9/275.

الحياة أو الموت، والنجس عندهم لا يجوز بيعه لأنهم يشترطون طهارة المبيع، وبناء على هذا لا يجوز عندهم بيع أجزاء الخنْزير ومنها الشعر. قال ابن قدامة: " ... وكل حيوان فشعره مثل بقية أجزائه، ما كان طاهراً فشعره طاهر، وما كان نجساً فشعره كذلك، ولا فرق بين حالة الحياة وحالة الموت"1. واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في الخرز بشعر الخنْزير، فروي عنه كراهة استعمال شعر الخنْزير في الخرز لكراهة استعمال العين النجسة، وبالتالي لا يجوز بيع شعر الخنْزير للخرز، وروي عنه جواز الخرز بشعر الخنْزير، وعليها يخرج صحة بيع شعر الخنْزير للخرز. فقد جاء في المغني: " ... واختلفت الرواية عن أحمد في الخرز بشعر الخنْزير، فروي عنه كراهته لأنه استعمال العين النجسة ولا يسلم من التنجيس بها فحرم الانتفاع بها كجلده ... والثانية يجوز الخرز به ... لأن الحاجة تدعو إليه"2. الموازنة: بمراجعة ما قاله الفقهاء بشأن بيع شعر الخنْزير يتضح الآتي: أن الحنفية: قد اختلفوا في هذا الخصوص: فمنهم من قال بجواز بيعه بناء على قولهم بطهارته غير أن الصحيح في المذهب القول بمنع بيع شعر الخنْزير لنجاسته بنجاسة أصله، وذكرت بعض كتبهم كالبدائع أنه يجوز بيعه للخرازين للضرورة. المالكية: اختلف فقهاء المذهب بشأن بيع شعر الخنْزير، فروي عن ابن القاسم أنه يجوز بيعه خاصة ما إذا كان من الخنْزير الوحشي، وقال بأنه يجوز الانتفاع به، فجاز بيعه، وأنه في هذا مثل صوف الميتة، وهذا مخالف لما عليه أصل مذهب المالكية من القول بمنع بيعه، لأنه ليس بحلال حياً ولا ميتاً، فلا يباع ولا يؤكل ثمنه. الشافعية: قالوا بمنع بيع شعر الخنْزير باعتبار منع أصله فكافة أجزاء الخنْزير مشمولة بمنع بيع ذات الخنْزير، ومن هذه الأجزاء شعره، وقالوا بعدم اعتبار حالة

_ 1 المغني 1/81. 2 ابن قدامة 1/82.

ضرورة الخرز، فالاتفاق في المذهب الشافعي على منع بيع شعر الخنْزير. الحنابلة: الأصل في مذهب الحنابلة منع بيع شعر الخنْزير لنجاسته بنجاسة أصله، وهو الخنْزير، وقالوا بأن شعر الحيوان مثل بقية أجزائه، فما كان طاهراً فشعره كذلك، وما كان نجساً فشعره نجس. والخلاف فقط منحصر بشأن الخرز بشعر الخنْزير، وبالتالي بيعه لهذا الغرض. فالرواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى مختلفة ففي رواية عنه: أن الخرز به مكروه لكراهة استعمال العين النجسة، وبالتالي كره بيعه لهذا الغرض، وعنه رواية أخرى، يجوز الخرز بشعر الخنْزير للضرورة، وبالتالي جاز بيعه لهذا الغرض ولذات العلة. فخلاصة القول بشأن بيع شعر الخنْزير تتلخص في مذهبين: المذهب الأول: يرى جواز بيع شعر الخنْزير، وذلك في قول عند الحنفية بناء على طهارته أو لضرورة الخرز به، وهو رواية عن ابن القاسم من المالكية لجواز الانتفاع به خاصة لو كان من الخنْزير الوحشي، وهناك رواية عن الإمام أحمد تجوز بيع شعر الخنْزير لضرورة الخرز. المذهب الثاني: يرى منع بيع شعر الخنْزير، وهذا هو الصحيح في مذهب الحنفية، وما عليه أصل مذهب المالكية، وهو اتفاق مذهب الشافعية حتى لو كان في حالة ضرورة الخرز، وهو أصل مذهب الحنابلة، حتى ولو كان لضرورة الخرز. الأدلة: استدل القائلون بجواز بيع شعر الخنْزير: بأن شعره طاهر منتفع به ولهذا جاز بيعه تحقيقاً لمنافع العباد وأنه في هذا يشبه صوف الميتة المنتفع به. واستدل القائلون بمنع بيع شعر الخنْزير: بأنه نجس بنجاسة أصله وهو الخنْزير وأن شعر الخنْزير ليس بحلال حياً ولا ميتاً وأنه لا يباع ولا يؤكل ثمنه ولا تجوز التجارة فيه وأن منع بيع شعر الخنْزير موافق لما يحقق إهانة الخنْزير، وهذا عند من لم يشترط طهارة المبيع، وعند من يرى ضرورة طهارة المبيع، فإنه يمنع لنجاسته بنجاسة أصله.

وبطبيعة الحال فإن بعض المانعين من بيع شعر الخنْزير استثنى حال ضرورة الخرز وقال بجواز بيعه لهذا الغرض إعمالاً لحالة الضرورة أو تحقيقاً لمنافع العباد. والراجح: ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة وأصل مذهب المالكية والصحيح من مذهب الحنفية من القول بمنع بيع شعر الخنْزير لنجاسته أو لعدم ماليته وإهانته وأنه لا ضرورة الآن في استعمال شعره في الخرز لوجود البدائل الكثيرة وهي أفضل وأمتن. والله تعالى أعلم.

الفصل الخامس: بيع الخمر

الفصل الخامس: بيع الخمر وفيه ثلاثة مباحث المبحث الأول: حكمة تحريم الخمر المبحث الثاني: حكم الخمر المبحث الثالث: حكم التداوي بالخمر، وحكم بيعها

تمهيد

تمهيد الخمر في اللغة: ما أسكر من عصير العنب، وسميت بهذا لأنها تخامر العقل، وحقيقة الخمر إنما هي ما كان من العنب دون ما كان من سائر الأشياء1. قال الفيروز آبادي: "الخمر ما أسكر من عصير العنب، وهو عام وقد يُذكر والعموم أصح لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب وما كان شرابهم إلا البُسر والتمر سميت خمراً لأنها تخمر العقل وتستره أو لأنها تركت حتى أدركت واختمرت أو لأنها تخامر العقل أي تخالطه"2. وقال الزبيدي بشرح قول صاحب القاموس: "أو عام" أي ما أسكر من عصير كل شيء، لأن المدار على السكر وغيبوبة العقل، وهو الذي اختاره الجماهير، وسمي الخمر خمراً لأنها تخمر العقل وتستره، أو لأنها تركت حتى أدركت واختمرت"3. فقد أطلق اسم الخمر على سائر الأنبذة المسكرة لما فيها من مخامرة العقل. وكان الإطلاق اللغوي قائما على أساس الستر والتغطية، فمادة "خمر" تدور بإزاء معانٍ حول الستر والتغطية والكتم والمخالطة، وهذا المعنى اللغوي يتسق مع المعنى الاصطلاحي للخمر عند الفقهاء على ما سيرد حالاً فضلاً عن اتساقه مع وظيفة الخمر الطبيعية، لأن الخمر تستر العقل وتغطيه وهي تخالطه وتكتم عمله ولو إلى حين لأن شارب الخمر لا يفكر بطريقة اعتيادية فالخمر خالطت عقله فسترته وغطته.

_ 1 لسان العرب لابن منظور 4/211. 2 القاموس المحيط 2/23 مادة خمر. 3 تاج العروس 3/187 مادة خمر.

الخمر في اصطلاح الفقهاء: مذهب الحنفية: إطلاق اسم الخمر على المعتصر من العنب النيء الذي غلا واشتد وقذف بالزبد. فقد جاء في الاختيار لتعليل المختار: "الخمر وهي النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد ... "1. وهذا ما عليه الإمام أبو حنيفة من تعريف الخمر خلافاً لما عليه الصاحبان أبو يوسف ومحمد من تعريفهم للخمر بأنها "ماء العنب إذا غلا واشتدوقذف بالزبد أو لم يقذف به ... "2. مذهب المالكية: أن الخمر تطلق على كل ما يسكر سواء كان ذلك من العنب أو غيره من جميع الأشربة الأخرى المسكرة وأنه يستوي في هذا القليل والكثير. فقد جاء في الكافي في فقه أهل المدينة: "الخمر شراب العنب المسكر، وكل شراب أسكر كثيره أو قليله فهو خمر"3. فالنص يفيد أن الخمر شراب العنب المسكر، وكذلك كل شراب أسكر كثيره أو قليله، وعلى هذا فالخمر عندهم ما اتخذ من عصير العنب ودخلته النشوة المطربة. مذهب الشافعية: أن الخمر تطلق على جميع الأشربة المسكرة من نقيع التمر والزبيب وغيرهما كالشعير والتمر أو العسل أو البر ونحو ذلك، ولم تنص كتب الشافعية فيما اطلعت عليه صراحة على تعريف الخمر واكتفت ببيان حكمها وحكم ما يقاس عليها من جميع الأشربة. فقد جاء في مغني المحتاج: "كل شراب أسكر كثيره حرم هو وقليله، من جميع الأشربة من نقيع التمر والزبيب وغيرهما"4. وجاء في المهذب: "واسم الخمر يقع

_ 1 الموصلي 4/99. 2 بدائع الصنائع للكاساني 5/112. 3 ابن عبد البر 1/442 4 الشربيني 4/232.

على كل مسكر ... "1. فالشافعية في هذا متفقون مع المالكية في التسمية وكذا في الحكم على المعتصر من العنب فقط، الخمر عند الشافعية يطلق على المسكر من عصير العنب وإن لم يقذف بالزبد. مذهب الحنابلة: أن الخمر هي اسم لكل مسكر، أي تطلق على كل ما يسكر، سواء من العنب أو الشعير أو نحو ذلك، وسواء كان ذلك قليلاً أو كثيراً من كافة الأشربة. فقدجاء في المغني: "أن كل مسكر حرام قليله وكثيره وهو خمر حكمه حكم عصير العنب ... "2. وجاء في كشاف القناع: "ويسمى كل شراب أسكر خمراً"3. فالحنابلة على أن كل شراب أسكر فهو خمر قذف أم لا اشتد أم لا؟ وعلى هذا: فإطلاق اسم الخمر لدى جمهور الفقهاء "المالكية والشافعية والحنابلة" إطلاق أوسع مما عليه الحال عند الحنفية، الذين قصروا مسمى الخمر على المعتصر من العنب النيء الذي غلا واشتد وقذف بالزبد فقط بخلاف غيره من سائر الأنبذة مثل نبيذ التمر والشعير والحنطة ونحوها فإنه لا تسمى خمراً عندهم، في حين أن هذه الأشربة تسمى خمراً عند المالكية والشافعية والحنابلة، فالخمر عندهم تطلق على كل ما يسكر قليله أوكثيره سواء كان ذلك من العنب أو من الشعير أو التمر أو العسل أو البر أو غير ذلك. فكل ما من شأنه أن يسكر فهو خمر ولا عبرة بالمادة التي أخذ منها فما كان مسكراً من أي نوع من الأنواع فهو خمر يستوي في ذلك ما كان من العنب أو التمر أو العسل أو الحنطة أو الشعير أو ما كان من غير هذه الأشياء فأساس الكلام في الخمر إنما هو مخامرة العقل وسكره وتغطيته وإفساد إدراكه.

_ 1 الشيرازي 2/287. 2 ابن قدامة 8/304. 3 البهوتي 6/116.

وفي هذا يقول ابن تيمية: "وكل ما يغيب فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغيب العقل حرام بإجماع المسلمين ... فإن كل ما يغيب العقل يحرم باتفاق المسلمين"1. ويقول ابن قيم الجوزية: "إن الخمر يدخل فيها كل مسكر مائعاً كان أو جامداً عصيراً أو مطبوخاً"2.

_ 1مجموع الفتاوى 34 /211 – 218. 2 زاد المعاد 2/197.

المبحث الأول: حكمة تحريم الخمر

المبحث الأول: حكمة تحريم الخمر اتفق الفقهاء على تحريم الخمر، لأنها أم الخبائث بسبب إفسادها للعقول، ولصدها عن ذكر الله وعن الصلاة، فضلاً عن إيقاعها للعداوة بين الناس، فهي رجس وعمل من أعمال الشيطان وأداة تلاعبه بالناس، من أجل هذا كانت محلاً للنهي، والأمر باجتنابها حيث قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 1. فالخمر أم الخبائث لأنها تفسد العقول والأبدان والأخلاق والأنفس والمجتمعات، وتحريم الخمر أشد من تحريم اللحوم الخبيثة2، فإن الخمر يجب اجتنابها مطلقاً ولا يجوز اقتناؤها، ويحرم بيعها وشراؤها والمساهمة فيها، لأن المفاسد الناشئة عنها أعظم من مفاسد الأطعمة الخبيثة3، وحيث إن الشارع قد حرم الخبائث لما فيها من الفساد والأضرار بالعقول والأبدان والأخلاق، فقد ظهر على الذين استحلوا بعض المحرمات من الأطعمة والأشربة من النقص بقدر ما فيها من المفسدة 4. وفي هذا يقول ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان: "حرم الله شرب القطرة من الخمر وإن لم تحصل مفسدة الكثير لكون قليلها ذريعة إلى شرب كثيرها"5. وقال في إعلام الموقعين: "إن الله تعالى حرم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة

_ 1 سورة المائدة: الآية 90 - 91. 2 أي غير المذكاة وغير المأكول حتى ولو كانت مذكاة. 3 مجموع فتاوى ابن تيمية 20/336. 4 فقه الأشربة وحدها للدكتور عبد الوهاب عبد السلام طويلة صفحة 69. 5 1/361.

المترتبة على زوال العقل ... والتحريم لكافة المحرمات على هذه الأمة هو تحريم حفظ وصيانة لا تحريم عقوبة وتحريم الخمر صيانة للعقول وحفظ لها ... "1. وقال في مدارج السالكين: "حرم الله السكر لشيئين ذكرهما في كتابه، وهما إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وذلك يتضمن حصول المفسدة الناشئة من النفوس بواسطة زوال العقل وانتفاء المصلحة التي لا يتم بها إلا بالعقل"2. وقد علل بعض المعاصرين ذلك التحريم بمدى تأثير الخمر على مكونات الدم والسائل المنوي وخلافه في جميع خلايا جسم الإنسان ومن هؤلاء الدكتور الطبيب محمد على البار في كتابه الخمر بين الطبّ والفقه حين قال: " ... إن الأغذية والأشربة تتحول بعد الهضم والامتصاص، إما إلى طاقة تحرك الجسم ووقود للعقل والقلب، أو إلى مواد لبناء الأنسجة وإبدال التالف منها بجديد صالح حتى لا تنقص عن ميزانها الذي طبعها الله عليه، والمواد الدهنية والنشوية تتحول إلى طاقة، بينما تتحول المواد البروتنية إلى خلايا وأنسجة، ويقع ذلك ضمن عمليات كيمائية معقدة، فما نأكله أو نشربه يتحول بالتالي إلى محرك لعضلة اليد أو القلب أو اللسان، أو قادح لزند الفكر يتحول إلى بناء لنفس العضلة في اليد أو اللسان أو القلب، أو يجري في العروق مع الدم مكوناً لكريات الدم الحمراء أو البيضاء أو الصفائح أو حيوانات منوية تخرج من الصلب، فكيف إذا كان الطعام أو الشراب خبيثاً كالخمر ولحم الخنْزير وغير ذلك مما حرم الله ... "3. إن المطالع لآيات تحريم الخمر وما ورد في كتب السنة بشأن هذا التحريم يجد أن المولى سبحانه قد قرنها بالميسر وهو القمار، وقرنها بالأنصاب وهي حجارة وأوثان كانوا يذبحون قرابينهم عندها، وقرنها بالأزلام وهي قداح كانوا يستقسمون بها

_ 1 3/151. 2 3/306. 3 صفحة 26 – 27.

واعتبرها رجساً من عمل الشيطان وأمر باجتنابها تماماً كما أمر باجتناب عبادة الأوثان وقول الزور، وسماها رجساً وهو أشد الدنس وأوضح بعضاً من مضارها الاجتماعية والدينية كإيقاع العداوة بين الناس والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وفي هذا يقول الحق سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 1. وهكذا: فقد حرمت الشريعة الإسلامية الخمر لا لشيء إلا من أجل إسعاد البشرية وحمايتها من شرورها وأذاها، فكم دمرت الخمر بيوتاً عامرة، وكم يتمت أطفالاً ورملت نساء، فضلاً عن أنها تجمع بين ضرر القلوب وضرر الأبدان وهي تميت الحياء في الجنس البشري والحياء سياج الأخلاق وأساس التدين ولا دين لمن لا حياء له.

_ 1 سورة المائدة: الآيتان 90 – 91.

المبحث الثاني: حكم الخمر

المبحث الثاني: حكم الخمر اختلف الفقهاء في حكم الخمر من حيث نجاستها أو اعتبارها طاهرة. مذهب الحنفية: ذهب فقهاء الحنفية إلى القول بنجاسة الخمر نجاسة غليظة -أي مغلظة-. " ... أما الخمر فيتعلق بها أحكام منها ... أنها نجسة غليظة"1 بمعنى أنها نجسة العين كالبول وغيره من الأعيان النجسة، وأنها محرمة ويحكم على مستحلها بالكفر. فقد جاء في حاشية ابن عابدين: " ... وهي -أي الخمر- نجسة بنجاسة مغلظة كالبول ويكفر مستحلها ... "2. مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى القول بنجاسة الخمر بناء على أنها محرمة العين، وعندهم كل محرم العين نجس الذات إلا ما أثر عن ربيعة أنه قال إنها طاهرة رغم أنها محرمة قياساً على الحرير فهو عند الإمام مالك محرم مع أنه طاهر. فقد جاء في الخرشي على شرح مختصر خليل: "قوله إلا المسكر لما كان بعض الجمادات مفسداً ومرقداً ومسكراً على ما ستعرفه من الفرق بينها3 وكان الحكم في الأولين الطهارة دون الأخير المؤلف4 بما ذكر سواءً كان المسكر مائعاً كالخمر أو جامداً كالحشيش وسواءً كان من العنب أو من غيره على المشهور"5. "فكل مسكر مطرب من أي نوع كان من الأنبذة والأشربة محرم العين نجس

_ 1 بدائع الصنائع للكاساني 5/112 - 113. 2 ابن عابدين 10 /33. 3 الفرق بينها كما ذكره الخرشي هو أن المسكر ما غيب العقل دون الحواس مع نشوة وفرح، والمفسد ما غيب العقل دون الحواس لا مع نشوة وفرح كعسل البلاد، والمرقد ما غيب العقل والحواس كالسكران. راجع: الخرشي على خليل 1/155. 4 يقصد المؤلف صاحب المختصر وهو خليل بن إسحاق. 5 الخرشي 1/155.

الذات، لأن الله تعالى سمى الخمر رجساً كما سمى النجاسات من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنْزير رجساً"1. وجاء في أحكام القرآن: في قوله تعالى: {رِجْسٌ} أي نجس ولا خلاف في ذلك بين الناس إلا ما يؤثر عن ربيعة أنه قال إنها محرمة، وهي طاهرة، كالحرير عند مالك محرم، مع أنه طاهر ... "2. مذهب الشافعية: ذهب الشافعية إلى القول بنجاسة الخمر، وذكر الغزالي3 أن نجاستها نجاسة مغلظة. فقد جاء في المجموع: "الخمر نجسة عندنا ... ونقل الشيخ أبو حامد 4 الإجماع على نجاستها ... "5. وأنه يستوي في القول بالنجاسة الخمر المملوكة ملكاً محترماً مثل المملوكة للذمي، وكذلك المملوكة ملكاً غير محترم مثل الخمر التي تحت يد المسلم. " ... وأعلم أنه لا فرق في نجاسة الخمر بين الخمر المحترمة6 وغيرها ... "7. ويشمل الحكم بالنجاسة عندهم حبات العنب إذا استحال باطنها خمراً.

_ 1 المقدمات الممهدات لابن رشد صفحة 336. 2 ابن العربي 2/164. 3 هو محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي نسبته إلى الغّزال كان أبوه غّزالاً فقيه شافعي أصولي متكلم، متصوف، رحل إلى بغداد فالحجاز، فالشام فمصر من مصنفاته "إحياء علوم الدين" و"تهافت الفلاسفه" و"الوجيز" توفي رحمه الله سنة 505 ?. راجع: الأعلام للزركلي 7/247، وطبقات الشافعية للأسنوي 4/101. 4 هو أحمد بن محمد بن أحمد الإسفرائيني أبو حامد نسبة إلى إسفران بلدة بخراسان بنواحي نيسابور استوطن بغداد مشغولاً بالعلم حتى صار إمام الشافعية في زمنة وانتهت إليه رئاسة المذهب وكان قد أفتى وهو ابن سبع عشرة سنة من تصانيفه "شرح المزني" توفي رحمه الله سنة 406 ?. راجع: طبقات الشافعية للأسنوي 1/42، وشذرات الذهب لابن عماد الحنبلي 3/178. 5 النووي 2/581. 6 الخمر المحترمة عند الشافعية هي التي اتخذ عصيرها ليصير خلا. راجع: المجموع للنووي 2/ 459. 7 المرجع السابق 2/581.

" ... وكذا لو استحال باطن حبات العنب خمراً فإنه نجس ... "1. وروي عن إمام الحرمين والغزالي وغيرهما القول بطهارة الخمر المملوكة ملكاً محترماً، وكذلك طهارة باطن حبات العنب إذا استحالتا خمراً وهذا القول ضعيف شاذ. " ... وحكى إمام الحرمين والغزالي وغيرهما وجهاً ضعيفاً أن الخمر المحترمة طاهرة ووجهاً أن باطن حبات العنب المستحيل طاهر وهما شاذان والصواب النجاسة ... "2. مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة إلى القول بنجاسة الخمر لحرمة عينها كالخنْزير وعليه فكل مسكر حرام نجس. "والخمر نجسة في قول عامة أهل العلم لأن الله تعالى حرمها لعينها فكانت نجسة كالخنْزير وكل مسكر فهو حرام نجس"3. "المسكر نجس، خمراً كان أو نبيذاً ... "4. الموازنة بين أقوال الفقهاء: نجد أن جميع أهل العلم وجمهور الفقهاء على أن الخمر نجسة على خلاف بسيط فيما بينهم فيما يتعلق في مرد القول بالنجاسة وسبب كونها نجسة على نحو ما تقرر لديهم. فيرى الحنفية: أن الحكم بنجاسة الخمر كان بسبب نجاسة عينها وما يستفاد من مذهب الشافعية يتفق مع ما قاله الحنفية، في حين أن المالكية ومعهم الحنابلة يقولون بأنها نجسة باعتبار أنها محرمة في عينها، لأنهم يرون أن كل محرم نجس وأن هذا شأن كل مسكر. وهذا الذي تقرر لدى الجمهور من القول بنجاسة الخمر، ولم يخالفه ولم يشذ عن هذا الإجماع سوى ربيعة الرأي الذي يرى أن الخمر طاهرة كالحرير والسم والحشيش المسكر فرغم التحريم فإن هذه الأشياء تكون طاهرة.

_ 1 المرجع السابق نفس الموضع. 2 النووي 2/582. 3 المغني لابن قدامة 8/318. 4 شرح منتهى الإرادات للبهوتي 1/99.

فخلاصة القول أن المسألة فيها قولان: القول الأول: للجمهور بنجاسة الخمر. القول الثاني: لربيعة الرأي بطهارة الخمر. الأدلة: استدل القائلون بنجاسة الخمر بما يأتي: أ – قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. فإن الله سبحانه وتعالى قد سمى الخمر رجساً، والرجس يقع على الشيء المستقذر النجس، والنجس محرم. ب - قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} 2. قالوا لو كانت الخمر في الدنيا طاهرة لفات الامتنان من المولى سبحانه بطهورية خمر الآخرة 3. قال الشيخ الشنقيطي بعد أن ساق هذا الاستدلال: "لأن وصفة شراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه أن خمر الدنيا ليست كذلك، ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح الله تعالى – بها خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا، كقوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} 4 وكقوله: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} 5 بخلاف خمر الدنيا ففيها غول يغتال العقول وأهلها يصدعون – أي يصيبهم الصداع ... "6. ج – عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدرهم الخنْزير ويشربون في آنيتهم الخمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ 1 سورة المائدة: الآية 90. 2 سورة الإنسان: الآية 21. 3 مغنى المحتاج 1/110. 4 سورة الصافات: الآية 47. 5 سورة الواقعة: الآية 19. 6 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين بن المختار الجكني الشنقيطي 2/128.

"إن وجدتم غيرها فكلوا منها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا". وفي رواية عند الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: "قلت يا نبي الله إن أرضنا أرض أهل الكتاب وإنهم يأكلون لحم الخنْزير، ويشربون الخمر، فكيف أصنع بآنيتهم وقدورهم؟ قال: لا إن لم تجدوا غيرها فارحضوها واطبخوا فيها واشربوا" 1. وقال الخطابي: "والأصل في هذا أنه إذا كان معلوماً من حال المشركين أنهم يطبخون في قدورهم لحم الخنْزير ويشربون في آنيتهم الخمور، فإنه لا يجوز استعمالها إلا بعد الغسل والتنظيف"2، فقد علق استعمال آنية الكفار على عدم وجدان غيرها، وعلق إباحة استعمالها على غسلها واقتنائها بالماء وهذا هو شأن النجاسات. د – بما روى الطبري عن سيف3 عن أبي المجالد4 قالوا: بلغ عمر أن خالداً دخل الحمام فتدلك بعد النورة بثخين عصفر معجون بخمر فكتب إليه: بلغني أنك تدلكت بخمر، وإن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه كما حرم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرم مس الخمر إلا أن تغسل كما حرم شربها، فلا تمسوها أجسادكم فإنها نجسة فإن فعلتم فلا تعودوا، فكتب إليه خالد: إنا قتلناهم فعادت غسولا غير خمر. فكتب إليه عمر: إني أظن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه، فانتهى إليه ذلك. فهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد صرح بأن الخمر نجسة ولا يجوز أن تمسها أجساد المسلمين، ولم يعرف له مخالف من الصحابة، فكان ذلك كالإجماع5.

_ 1 مسند الإمام أحمد 4/193. 2 معالم السنن 5/334. 3 هو سيف بن أبي المغيرة التمار. ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي 3/356، برقم 3647. 4 هو مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، راوية للحديث والأخبار، من أهل الكوفة، اختلفوا في توثيقه وقال البخاري: صدوق. راجع: الأعلام للزركلي 5/277. 5 تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/204، والخمر في ضوء الكتاب والسنة للدكتور محمد عمر حوية صفحة 197.

و – واستدل الإمام القرافي على نجاسة الخمر، بأن علة النجاسة الاستقذار، فمتى كانت العين غير مستقذرة، فحكم الله في تلك العين عدم النجاسة، فعلة الطهارة عدم تحقق علة النجاسة وهي الاستقذار والخمر تقتضي الإبعاد وما كان كذلك كان مستقذراً وكان نجساً فالخمر نجسة1. واستدل لربيعة الرأي بما يأتي: أ – ما ذكر القرطبي قال: "وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة قال: ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم ولنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطرق"2. ونوقش هذا الاستدلال بما يأتي: 1- أن الصحابة فعلت ذلك لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كُنُف في بيوتهم، وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور. 2- وأيضا فإنه يمكن التحرز منها فإن طرق المدينة كانت واسعة ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز منها. 3- هذا مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها وأنه لا ينتفع بها3. 4- الطرق التي أريقت فيها الخمر ليست مواضع للصلاة بل هي مواضع الاستطراق، وعلى فرض أنه يشق الاحتراز منها فربما وطئها المار فنقول إذا وطئها فإن

_ 1 الفروق للقرافي 2/34. 2 الجامع لأحكام القرآن 6/186. 3 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/186.

رجله أو نعله يطهره ما بعده من الأرض الطاهرة. 5- وقد يقال إن الخمر لما أريقت في الطرقات وخالطها التراب وتعرضت للشمس والهواء كان ذلك سبيلا لاستهلاك الخمر واستحالتها وذهاب المادة المسكرة منها بدليل أنه لو أخذ كثير من التراب الذي أريقت عليه وحل بماء فإنه لا يسكر. 6- ولا يستساغ القول بأنها لو كانت نجسة لنهي عن إراقتها في الأسواق كنهيه صلى الله عليه وسلم عن التغوط في الأسواق، لأن هذا التغوط لا يتناسب مع المروءة فضلاً عن أنه لو ساغ لكل واحد التغوط في الأسواق لاستمر ذلك إلى الأبد وفيه ما فيه من الضرر باستمرار النجاسة والاستقذار مع حاجة الناس إلى الأسواق بينما الخمر إنما أريقت في وقت تحريمها فحسب ولم تتكرر إراقتها في كل وقت وزمن كالتغوط في الأسواق1. ب - واستدل القائلون بطهارة الخمر أيضاً بأنه لا يلزم من كون الشيء محرماً أنه يكون نجساً فكم من محرم في الشرع ليس بنجس وذلك كالذهب والحرير فهما محرمان على الرجال مع أنهما طاهران وكالسم فهو محرم رغم أنه طاهر2. ونوقش هذا الاستدلال بما قال القرطبي: قوله تعالى: {رِجْسٌ} يدل على نجاستها، فإن الرجس في اللسان النجاسة، ثم لو التزمنا ألاّ نحكم بحكم إلا حتى نجد فيه نصا لتعطلت الشريعة فإن النصوص فيها قليلة. فأي نص يوجد على تنجس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة3. والراجح في هذا: هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من نجاسة الخمر لما ذكرناه من الأدلة، ولأن من قال بطهارتها ليس لديه دليل سوى إراقة الخمر في شوارع المدينة، وهذا لا ينهض دليلاً على الطهارة لما بيناه من مناقشة هذا الدليل، بل هو دليل على النجاسة، لأن الطاهر لا يراق في الشوارع، وإنما يحتفظ به في أي وجه من وجوه

_ 1 موقف الإسلام من الخمر للدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور صفحة 46. 2 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/187. 3 المرجع السابق نفس الموضع.

الانتفاع، فإراقتها دليل على أنها نجسة لا تصلح لأي استعمال، وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، والقول بطهارتها لم يقل به أحد منهم كما قدمنا عن عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والحشيشة المسكرة حرام ومن استحل المسكر منها فقد كفر، بل هي في أصح قولي العلماء نجسة كالخمر، فالخمر كالبول والحشيشة كالعذرة"1. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد سياق آية المائدة "ويفهم من هذه الآية الكريمة أن الخمر نجس العين لأن الله تعالى قال إنها رجس، والرجس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس، وقيل إن أصله من الركس وهو العذرة والنتن"2. والله تعالى أعلم.

_ 1 مجموع الفتاوى 34/204. 2 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 2/114.

المبحث الثالث: حكم التداوي بالخمر، وحكم بيعها

المبحث الثالث: حكم التداوي بالخمر، وحكم بيعها المطلب الأول: حكم التداوي بالخمر مذهب الحنفية: ذهب الحنفية إلى القول بحرمة التداوي بالخمر، وعدم جواز الانتفاع بالخمر في المداواة وغيرها من الأمور " ... وكذا لا يجوز الانتفاع بها للمداواة وغيرها ... "1. " ... ولا يجوز بها التداوي على المعتمد قاله المصنف"2. وروي عن جماعة من أئمة بلخ3 أنه يجوز للمريض شرب الخمر للتداوي، إذا أشار إليه الطبيب بذلك وعلم يقيناً أنه يصح، وأن ذلك يحل له. "ولو أن مريضاً أشار إليه الطبيب بشرب الخمر، روي عن جماعة من أئمة بلخ أنه ينظر إن كان يعلم يقيناً أنه يصح حل له التناول ... "4. واختلفت الرواية عندهم في تناول القليل من الخمر للتداوي إذا لم يجد ما يقوم مقام ذلك القليل من الخمر من الحلال. " ... هل يجوز شرب القليل من الخمر للتداوي إذا لم يجد شيئاً يقوم مقامه فيه وجهان ... "5. وفي هذا يقول علاء الدين الحصكفي6 في الدر المختار: "اختلف في التداوي

_ 1 بدائع الصنائع للكاساني 5/113. 2 حاشية ابن عابدين 10/35 - 36. 3 المقصود بهذا المصطلح الطبقة المتقدمة التي تلقت عن أئمة المذهب الحنفي ومنهم خالد بن سليمان البخلي والحكم أبو المطيع البلخي وغيرهما. راجع: مشايخ بلخ من الحنفية للدكتور محمد معروس المدرس 1/154-163. 4 الفتاوى الهندية 5/355. 5 المرجع السابق نفس الموضع. 6 هو الفقيه الحنفي، ومفتي المذهب بدمشق، محمد بن علي بن محمد الحصني المعروف بعلاء الدين الحصكفي، ولد بدمشق عام 1025?، من تصانيفه الدر المختار في شرح تنوير الأبصار وإفاضة الأنوار على أصول المنار، توفي رحمه الله عام 1088?. راجع: الأعلام للزر كلي 6/294.

بالمحرم قيل: يرخص إذا علم فيه الشفاء ولم يعلم دواء آخر كما رخص الخمر للعطشان وعليه الفتوى ... "1، يعني عند الحنفية فهم يبيحون استعمال الدواء المحرم في حالة الضرورة، وذلك بعد إخبار الطبيب الحاذق المسلم بأن الدواء الحرام يتعين استعماله في هذه الحالة كما ورد في الفتاوى الهندية، ويؤيد هذا ما قاله ابن عابدين "فلو خاف الهلاك عطشاً وعنده خمر له شربه قدر ما يدفع العطش إن علم أنه يدفعه" وقال في موضع آخر "بأن خاف هلاكه منه ولا يجد ما يزيله إلا الخمر"2. فالمستفاد من نصوص الحنفية: أنه لا يجوز استعمال الدواء المحرم إلا إذا حصل اليقين أو غلبة الظن بأنه لا يمكن إنقاذ الحياة إلا بهذا الدواء مع وجود اليقين، كذلك بأن هذا الدواء منقذ للحياة عادة، وذلك بدلالة الطبيب المسلم أو بأية طريقة أخرى موثوق بها. مذهب المالكية: القول بأن التداوي بالخمر محرم، وأن هذا لا يجوز حتى ولو كان ذلك بقصد التداوي، أو كان لخوف الموت، وهذا على أساس عدم تيقن البرء بتناولها، الأمر الذي يستلزم عدم إباحة المحرم وهو شرب الخمر، وهذا على الرأي المشهور في المذهب. "قوله لا يجوز استعمال الخمر لأجل دواء ولو لخوف الموت"3. "مسألة: وأما التداوي فالمشهور من المذهب أنه لا يحل ذلك ... لأن التداوي لا يتيقن البرء به، فلم يجز أن يستعمل المحظور فيه"4. فالمستفاد من نصوص المالكية: أن التداوي بالخمر محرم، وأن هذا لا يجوز حتى ولو كان ذلك لخوف الموت، وذلك على الرأي المشهور في مذهب المالكية، وذلك لعدم تيقن البرء بتناولها.

_ 1 1/140. 2 5/215 – 289. 3 حاشية الدسوقي 4/353. 4 المنتقى شرح موطأ مالك 4/282.

مذهب الشافعية: القول بحرمة شرب الخمر للتداوي أو في حالة العطش، إلا أنهم أجازوا لمن غص بلقمة أن يدفعها بالخمر إذا لم يجد غيرها. فقد جاء في مغني المحتاج: " ... ومن غص بلقمة أساغها بخمر إن لم يجد غيرها، والأصح تحريمها لدواء وعطش ... "1. وجاء في المجموع: " ... المذهب الصحيح تحريم الخمر للتداوي والعطش ... "2. وفي نهاية المحتاج: " ... ولو كان التداوي بها لتعجيل شفاء كما يكون لرجائه وأنه يجوز بشرط إخبار طبيب مسلم عدل بذلك أو معرفة المتداوي به إن عرف، ويشترط عدم ما يقوم مقامه مما يحصل به التداوي من الطاهرات ... "3. فالنص يشعر بجواز استعمال الخمر للتداوي إذا كان ذلك لتعجيل شفاء أو رجائه، وأن الجواز يشترط له أن يوصى بذلك طبيب مسلم عدل، أو يسبق علم المتداوي بحصول الشفاء أو تعجيله فضلاً عن انعدام ما يقوم مقام الخمر في التداوي من الأشياء الطاهرة. مذهب الحنابلة: قالوا بعدم جواز التداوي بالخمر ولا بشيء فيه محرم. " ... ولا يجوز شربه للذة ولا لتداوٍ ... "4. وجاء في المغني: "ولا يجوز التداوي بمحرم، ولا شيء فيه محرم مثل ألبان الأنثى، ولحم شيء من المحرمات، ولا شرب الخمر للتداوي"5. فالحنابلة: يمنعون التداوي بالخمر، وقالوا بعدم جواز شربها لغرض التداوي، فقد اعتبروا الأصل في هذه وهو التحريم، ومنعوا التداوي بكل محرم وبما فيه محرم. الموازنة: من خلال النظر فيما قاله الفقهاء بشأن التداوي بالخمر يتضح

_ 1 الشربيني 4/233. 2 النووي 9/56. 3 الرملي 8/14. 4 كشاف القناع للبهوتي 9/3022. 5 ابن قدامة 8/605.

التالي: أ – أن ما عليه الحنفية: بحسب أصلهم أن التداوي بالخمر محرم، وأنه لا يجور الانتفاع بها في المداواة وغيرها. أن بعض علماء بلخ يجوزون تناول المريض للخمر بشرطين أحدهما: أن يشير عليه الطبيب بذلك وثانيهما: أن يتيقن صحة ذلك وأنه يحل له. أنه بالنسبة لتناول القليل للتداوي إذا لم يجد غيره من الحلال فقد اختلف فقهاء المذهب بشأن إباحة ذلك، فمنهم من أجاز ذلك، ومنهم من منعه. ب – المالكية: يرون في المشهور عندهم حرمة التداوي بالخمر، حتى ولو كان لخوف الموت، وأن مقابل المشهور يرى جواز ذلك في حدود الضرورة، وأن هذا لم ينص عليه وإنما استفيد من النص على المشهور. ج – الشافعية: يرون حرمة شرب الخمر للتداوي ودفع العطش وأنه لا يجوز دفع الغصة إذا لم يجد غيرها. كما أنه يجوز التداوي بالخمر للشفاء أو رجاء الشفاء بشروط خاصة. د – الحنابلة: يرون أنه لا يجوز التداوي بالخمر أو ما فيه محرم. وخلاصة القول: أن هناك مذهبين في المسألة: المذهب الأول: يرى عدم جواز التداوي بالخمر وحرمة هذا، وإليه ذهب جمهور الحنفية، وأحد قولين للمالكية، والصحيح عند الشافعية، وهو رأي الحنابلة. المذهب الثاني: يرى جواز التداوي بالخمر وهو أحد قولي الحنفية والشافعية. الأدلة: استدل القائلون بجوازالتداوي بالخمر: 1 – بقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 1.

_ 1 سورة الأنعام: الآية 119.

وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 1. وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2. وجه الدلالة: أن ما اضطر إليه المرء فهو غير محرم عليه من المأكل والمشرب، فقد أسقط الله سبحانه تحريم ما فصل تحريمه عند الضرورة إليه، فما دام الشيء محرماً علينا فلا شفاء لنا فيه، فإذا اضطررنا إليه فلا يحرم علينا حينئذ بل هو حلال، وهو لنا حينئذ شفاء والضرورات تبيح المحظورات من طعام وشراب. 2 – وبما روى أنس قال: "قدم ناس من عكل أو عرينه فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله". وجه الدلالة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح للعرنيين التداوي بشرب أبوال الإبل وهي محرمة ونجسة، إلا أنها لما كانت مما يستشفى بها في بعض العلل رخص لهم في تناولها، فكذلك الخمر تباح عند ضرورة التداوي والاستشفاء بها قياسا على إباحة التداوي بأبوال الإبل المحرمة عند الضرورة إلى التداوي بها. واستدل القائلون بتحريم التداوي بالخمر: 1 – بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3. وجه الدلالة: أنه تعالى أخبر في هذه الآية أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس 4، وأمر باجتنابها، واجتنابها عام في كل الأحوال في البيع والشراء والتداوي

_ 1 سورة البقرة: الآية 173. 2 سورة الحج: الآية 78. 3 سورة المائدة: الآية 90. 4 الرجس: النجس. راجع: المصباح المنير للفيومي صفحة 219.

والشرب. قال القرطبي قوله: "فاجتنبوه" يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه، لا بشرب، ولا بيع، ولا تخليل، ولا مداواة، ولا غير ذلك ... "1. 2- عن وائل بن حجر الحضرمي2 أن طارق بن سويد الجعفي - رضي الله عنه – "سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر؟ فنهاه عنها – أو كره أن يصنعها – فقال: "إنما أصنعها للدواء فقال: إنها ليست بدواء ولكنها داء" 3. 3- وبما روي عن طارق بن سويد الحضرمي أنه قال: قلت: يا رسول الله إن بأرضنا أعناباً نعتصرها فنشرب منها، قال: "لا. فعاودته فقال: لا. فقلت: إنا نستشفي بها للمريض فقال: إن ذلك ليس بشفاء، ولكنه داء" 4. وجه الدلالة من هذين الحديثين: أنه صلى الله عليه وسلم صرح بأن الخمر ليست بدواء ولكنها داء وفي هذا دلالة صريحة على تحريم التداوي بها كيف وقد بين صلى الله عليه وسلم أنها داء وهل يعقل أن يزال الداء بالداء. 4 – عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام" 5. 5 – عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم

_ 1 الجامع لأحكام القرآن 6/187. 2 هو وائل بن حجر بن سعد بن مسروق بن وائل أبو هنيدة الحضرمي القحطاني، صحابي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بشر أصحابه بقدومه قبل أن يصل بأيام وكان أبوه من ملوك حضرموت. راجع أسد الغابة للجزري 4/659، والأعلام للزركلي 8/106. 3 الحديث أخرجه مسلم برقم 1984. 4 الحديث أخرجه أحمد في مسنده 4/311، 5/292، وابن ماجة 2/1157 والطبراني في المعجم الكبير 8/323 والضياء في المختارة 8/107، وقال: إسناده صحيح، وابن حبان 4/231. 5 الحديث أخرجه أبو داود في سننه 4/134 برقم 3874.

عليكم"1. وجه الدلالة من هذين الحديثين: أنه صلى الله عليه وسلم بين مشروعية الدواء وأنه شيء مشروع، وهو لا ينافي التوكل، ومع هذا نهى صلى الله عليه وسلم عن التداوي بالمحرمات، والخمر محرمة، فالتداوي بها حرام بنص الحديث، وكذلك قول عبد الله بن مسعود يفيد تحريم التداوي بالخمر، لأنها محرمة والله لم يجعل الشفاء فيما حرم علينا. 6 – قال ابن القيم: "إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التداوي بالخمر، وإن كانت مصلحة التداوي بها راجحة على مفسدة ملا بستها -أي كما كان يظن سابقًا- سداً لذريعة قربانها واقتنائها ومحبة النفوس لها، فحسم علينا المادة حتى في تناولها على وجه التداوي وهذا من أبلغ سد الذرائع"2. 7 – قال ابن تيمية: "وليس هذا مثل أكل المضطر للميتة، فإن ذلك يحصل به المقصود قطعاً وليس له عنه عوض، والأكل منها واجب، وهنا لا يعلم حصول الشفاء ولا يتعين هذا الدواء بل الله تعالى يعافي عباده بأسباب متعددة ... والذين جوزوا التداوي بالمحرم قاسوا ذلك على إباحة المحرمات كالميتة والدم للمضطر، وهذا ضعيف"3. قال الصنعاني بعد قوله: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". والحديث دليل على أنه يحرم التداوي بالخمر، لأنه إذا لم يكن فيه شفاء، فتحريم شربها باق لا يرفعه تجويز أن يدفع بها الضرر عن النفس4. والراجح في هذا: هو ما ذهب إليه القائلون بتحريم التداوي بالخمر، وذلك

_ 1 هذا الأثر علقه البخاري موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه بصيغة الجزم، وقال ابن حجر: أخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن منصور، وسنده صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه أحمد في كتاب الأشربة، والطبراني في الكبير من طريق أبي وائل نحوه. ا?. وقد سبق هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. 2 زاد المعاد 3/114 – 115. 3 مجموع الفتاوى 24/266 – 268. 4 سبل السلام 4/36.

للنص على تحريم التداوي بالمحرمات، فقد بين القرآن الكريم أن الخمر رجس وأمر باجتنابها، وهذا عام في كل شيء لم يقيد، فيعم ترك شربها، وترك التداوي بها، وترك بيعها وشرائها، ولأنه صلى الله عليه وسلم بين أنها داء وليس من المعقول طلب الشفاء بالداء، وهذا هو الأصل في المسألة غير أنه إذا حصل اليقين أو غلبة الظن بأنه لا يمكن إنقاذ الحياة إلا بهذا الدواء المحرم مع التيقن بأن هذا الدواء الحرام يعد منقذاً للحياة عادة فإنه لا مانع من التداوي به على هذا النحو بهذه الضوابط والله تعالى أعلم.

المطلب الثاني: حكم بيع الخمر

المطلب الثاني: حكم بيع الخمر اختلف الفقهاء بشأن حكم بيع الخمر، وذلك على النحو الآتي: مذهب الحنفية: قالوا بأنه لا يجوز بيع الخمر، لأنه يحرم على المسلم تملكها والانتفاع بها، فإذا كانت الخمر ثمناً، فالبيع فاسد، وإذا كانت الخمر مبيعاً فإذا كان الثمن ديناً أو نقوداً فالبيع باطل، أما إذا كان الثمن عيناً فالبيع فاسد. فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... ومنها أنه يحرم على المسلم تمليكها وتملكها بسائر أسباب الملك، من البيع والشراء وغير ذلك، لأن كل ذلك انتفاع بالخمر، وأنها محرمة الانتفاع على المسلم ... إلا أنها تورث لأن الملك في الموروث ثبت شرعاً من غير صنع العبد فلا يكون ذلك من باب التمليك والتملك، والخمر إن لم تكن متقومة فهي مال عندنا فكانت قابلة في الجملة ... أن البيع مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب فيه قال الله تبارك وتعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 1 وقد وجد هنا لأن الأشربة مرغوب فيها، والمال اسم لشيء مرغوب فيه، إلا أن الخمر مع كونها مرغوباً فيها لا يجوز بيعها بالنص الذي روينا، والنص ورد باسم الخمر فيقتصر على مورد النص، وعلى هذا الخلاف إذا أتلفها إنسان يضمن عنده أي عند أبي حنيفة -وعندهما- أي عند الشيخين لا

_ 1 سورة البقرة: الآية 16.

يضمن ... "1. وجاء في حاشية ابن عابدين: " ... ولا يجوز بيعها، لأن الله تعالى لما نجسها فقد أهانها والتقوم يشعر بعزتها ... "2. فعدم جواز بيع الخمر عند الحنفية مبني على أن الخمر نجسة، وأن هذه النجاسة تجعلها مهانة فلا يستساغ تقويهما، فلا تكون محلاً للبيع، فإذا كان المقابل في عقد بيعها نقداً فيبطل البيع، لأن الخمر تكون المقصود بالتملك بخلاف ما إذا كان المقابل في عقد بيعها عيناً فإن البيع يكون فاسداً باعتبار أن حقيقة البيع قد تحققت وهي مبادلة مال بمال فهي أقرب ما تكون إلى عقد المقايضة عند غيرهم. " ... والبيع بالخمر والخنْزير فاسد لوجود حقيقة البيع، وهو مبادلة المال بالمال، فإنه مال عند البعض، والباطل لا يفيد ملك التصرف ... وأما بيع الخمر والخنْزير إن كان قوبل بالدين كالدراهم والدنانير، فالبيع باطل، وإن كان قوبل بعين، فالبيع فاسد حتى يملك ما يقابله، وإن كان لا يملك عين الخمر والخنْزير، ووجه الفرق: أن الخمر مال وكذا الخنْزير مال عند أهل الذمة، إلا أنه غير متقوم، كما أن الشرع أمر بإهانته وترك إعزازه وفي تملكه بالعقد مقصوداً إعزاز له، وهذا لأنه متى اشتراهما بالدراهم، فالدراهم غير مقصودة، لكونها وسيلة، كما أنها تجب في الذمة. وإنما المقصود الخمر، فسقط التقويم أصلاً، بخلاف ما إذا اشترى الثوب بالخمر، لأن المشتري للثوب إنما يقصد تملك الثوب بالخمر، وفيه إعزاز بالثوب دون الخمر، فبقي ذكر الخمر معتبراً في تملك الثوب بالخمر، لا في حق ملك نفس الخمر، حتى فسدت التسمية ووجبت قيمة الثوب دون الخمر، وكذا إذا باع الخمر بالثوب، لأنه يعتبر شراء الثوب بالخمر مقايضة ... "3. فالنص يفيد أن بيع الخمر، إن كان مقابل البيع ديناً كالدراهم والدنانير، فإن البيع

_ 1 الكاساني 5/113 – 115. 2 ابن عابدين 10/33. 3 الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني 6/403 – 405.

يكون باطلاً، وإن كان مقابل بيع الخمر عيناً، فإن البيع يكون فاسداً، ومقابل البيع يملك فشراء الثوب بالخمر يعتبر مقايضة، وإن كان لا يملك عين الخمر، والخمر مال عند أهل الذمة، لكنه غير متقوم، لأن الشرع أمر بإهانته وترك إعزازه، وحين تشتري الخمر بالدراهم، تكون الدراهم غير مقصودة، لأنها وسيلة لما أنها تجب في الذمة، وإنما المقصود بالعقد هو الخمر فسقط التقويم أصلاً. وهذا بخلاف الحال حين يشتري الثوب بالخمر، لأن المشتري للثوب إنما يقصد تملك الثوب بالخمر وفيه إعزاز للثوب دون الخمر. وجاء في اللباب في شرح الكتاب: " ... إذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرماً فالبيع فاسد، كالبيع بالميتة أو بالدم أو بالخمر أو بالخنْزير ... "1. مذهب المالكية: القول بعدم جواز بيع الخمر وما في حكمها من النجاسات، وذلك لأن الله سبحانه لما جعلها نجسة فقد أهانها، وبيعها يشعر بتقويمها وعزتها، وهذا مناف لما تقرر من نجاستها. فقد جاء في مواهب الجليل: " ... ولا يجوز بيع الحر، والخنْزير، والقرد، والخمر، والدم ... "2. فقد نص على عدم جواز بيع بعض الأشياء، وعد منها صراحة الخمر، فتقرر عدم جواز بيعها. وجاء في المقدمات الممهدات: " ... فأما ما لا يصح ملكه فلا يجوز بيعه بإجماع كالحر والخمر والخنْزير ... "3. فقد دل النص على أن الخمر لا يصح تملكها، وعلى هذا لا يجوز بيعها، ذلك لأن الإجماع منعقد على أن ما لا يصح تملكه فلا يجوز بيعه. وجاء في القوانين الفقهية: " ... وأما الثمن والمثمون فيشترط في كل واحد منهما ... أن يكون طاهراً منتفعاً به، معلوماً مقدوراً على تسليمه فقولنا "طاهراً"

_ 1 الغنيمي 1/194. 2 الحطاب 4/265. 3 ابن رشد 2/62.

تحرزا، من النجس، فإنه لا يجوز بيعه كالخمر والخنْزير ... "1. دل نص القوانين الفقيهة على عدم جواز بيع الخمر تمشياً مع أصل المذهب المالكي بكون الخمر نجسة غير طاهرة، وبناء عليه منع بيعها لنجاستها، لأن من شروط صحة البيع عند المالكية طهارة الثمن والمثمون. مذهب الشافعية: قالوا بعدم صحة بيع الخمر، لكونها نجسة في نفسها، لأنهم يرون أن الأعيان ضربان: نجس، وطاهر، والنجس على ضربين نجس في نفسه، ونجس بملاقاة نجاسة، والنجس في نفسه لا يجوز بيعه، والخمر نجسة العين. فقد جاء في مغني المحتاج: " ... فلا يصح بيع الكلب والخمر ... "2. وفي نهاية المحتاج: "فلا يصح بيع الكلب ولو معلما، والخمر -يعني المسكر- وسائر نجس العين ونحوه ... "3. وجاء في المهذب: "الأعيان ضربان: نجس، وطاهر. فأما النجس فعلى ضربين: نجس في نفسه، ونجس بملاقاة نجاسة. فأما النجس في نفسه فلا يجوز بيعه، وذلك مثل الكلب والخنْزير والخمر ... "4. فنص المهذب: يقرر ما عليه الشافعية من القول بعدم جواز بيع الخمر، بناء على نجاستها باعتبار أنها نجسة في نفسها، فكانت تلك النجاسة سبباً في عدم جواز البيع. مذهب الحنابلة: قالوا بعدم جواز بيع الخمر لنجاستها لأنهم يشترطون مالية المبيع، والمال عندهم هو ما يباح نفعه مطلقاً كما يجوز اقتناؤه بلا حاجة، والخمر لا تعتبر مالاً، لأن فيها نفعاً محرماً، كما أنها لا تباح إلا عند الضرورة، وهي نجسة العين. والمقرر أن العين النجسة أو المتنجسة لا يجوز بيعها، وقالوا: كما لا يجوز بيعها، لا يجوز التوكل في بيعها أو شرائها إعمالا لأصل المنع من ذلك عندهم. فقد جاء في المغنى والشرح الكبير: "ولا يجوز بيع الخمر، ولا التوكل في بيعه،

_ 1 ابن جزي صفحة 163. 2 الشربيني 2/15. 3 الرملي 3/392. 4 الشيرازي 3/23.

ولا شرائه ... "1. وجاء في كتاب الكافي: " ... ولا يجوز بيع الخمر والميتة والخنْزير والأصنام ... "2. وفي شرح منتهى الإرادات: "الثالث: كون المبيع مالاً وهو ما يباح نفعه مطلقاً أو اقتناؤه بلا حاجة، فخرج ما لا نفع فيه كالحشرات، وما فيه نفع محرم كخمر، وما لا يباح إلاّ عند الضرورة كالميتة ... "3. الموازنة: بالرجوع إلى أقوال الفقهاء بشأن بيع الخمر يتضح لنا أن الاتفاق حاصل بين جميع أهل العلم وجمهور الفقهاء على منع بيع الخمر، مع اختلاف طفيف في التعبير عن ذلك المنع، فمنهم من عبر عنه بعدم الجواز كالمالكية والحنابلة، ومنهم من عبر عن هذا بعدم الصحة كالشافعية. كما أن هؤلاء قد عللوا المنع بعلل تكاد تكون قريبة في معناها ومفادها، فمنهم من بنى المنع على كونها نجسة، وأن اعتبار بيعها يجعلها متقومة وهذا ينافي إهانتها بسبب النجاسة على نحو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة والمالكية الذين اعتبروا أن السبب في منع بيع الخمر نجاستها، وعدم طهارتها، وتحريمها، وذلك لأن كل نجس محرم، ولا يصح بيع المحرم النجس. في حين أن الحنفية: مع اتفاقهم مع الجمهور على منع بيع الخمر وعدم اعتبارها محلاً للتعامل، لنجاستها، وعدم ماليتها، فإنهم فقط فرقوا بين حالتين بسبب أنهم يفرقون بين الباطل والفاسد بحسب منهجهم في الأصول، وقالوا: إن الخمر إذا كانت محلاً للتعاقد وكان المقابل لها نقداً كان العقد باطلاً، في حين أنها إذا كانت ثمناً فإن العقد يكون فاسداً يملك فيه المبيع بالقبض من جانب المشتري لوجود حقيقة البيع وهو مبادلة مال بمال. فالحنفية مع الجمهور في منع بيع الخمر بسبب نجاستها وعدم ماليتها وإهانتها، وأنهم فقط يخالفونهم في وصف العقد وقالوا بأنه يختلف هذا الوصف بحسب كون الخمر محلاً للعقد أي مثمناً فإن العقد يكون باطلاً، وإن كان ثمناً فالعقد يكون فاسداً،

_ 1 ابن قدامة 4/4. 2 ابن قدامة 2/7. 3 البهوتي 2/613.

وذلك كأثر لما عليه أصولهم من التفرقة بين الباطل بأصله وبين الفاسد بوصفه. وهذا ما استدل به عامة أهل العلم: 1- عن ابن عمر رضي الله عنه - قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومتباعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول إليه" 1. 2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى يعرض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمراً، فمن كان عنده فيها شيء فليبعه ولينتفع به". قال: فما لبثنا إلاّ يسيراً حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء، فلا يشربها، ولا يبعها ولا ينتفع بها. قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها"2. 3- عن نافع بن كيسان3 أن أباه أخبره أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق يريد بها التجارة، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إني جئتك بشراب طيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا كيسان، إنها قد حرمت بعدك، قال: فأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها قد حرمت وحرم ثمنها فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها ثم أهراقها"4. 4- عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقترأهن على الناس، ثم نهى عن التجارة في الخمر"5.

_ 1 الحديث أخرجه أحمد في المسند 2/25، 71، وأبو داود برقم 3674 والترمذي برقم 1295، وابن ماجه برقم 3380 وصححه الشيخ الألباني. في المشكاة برقم 2777 إرواء الغليل ص 367. 2 الحديث أخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساقاة باب تحريم بيع الخمر برقم 1578. 3 هو نافع بن كيسان مختلف في صحبته، قال الحافظ في التعجيل: ذكره ابن شاهين وطائفة في الصحابة، وقال ابن سعد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسكن دمشق، وذكره جماعة في التابعين، والله أعلم. تعجيل المنفعة لابن حجر العسقلاني 2/302-303 برقم 1094. 4 الحديث أخرجه أحمد في المسند 4/335، والطبراني في الكبير 19/195. 5 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 2112، وكتاب التفسير برقم 4266، 4267، 4268، 4269، ومسلم برقم 1580.

5- عن مالك عن نافع أن رجالاً من أهل العراق سألوا ابن عمر رضي الله عنهما فقالوا: إنا نبتاع من ثمر النخيل والعنب فنعصره خمراً فنبيعها، فقال لهم: "إني أشهد الله عليكم وملائكته ومن سمع من الجن والإنس إني لأمركم أن لا تبيعوها" 1 وفي الموطأ: "إني لأمركم أن لا تبيعوها، ولا تبتاعوها ولا تعصروها ولا تشربوها ولا تسقوها فإنها رجس من عمل الشيطان"2. فقد دلت هذه النصوص مجتمعة على عدم جواز بيع الخمر وما في حكمها من المسكرات المحرمة، حيث صرحت بالنهي عن التعامل بشأنها واعتبارها محلاً للتصرفات بالاتجار ونحوه، بناء على حرمة تناولها، ولنجاسة عينها، مع عدم ماليتها حتى إن بعض النصوص صرحت بلعن من ابتاعها كما هو الحال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وبهذا يتضح لنا ويترجح القول بحرمة بيع الخمر وجميع التصرفات الأخرى بشأنها، وأن هذا يسري بطبيعة الحال على جميع الأشربة المحرمة الأخرى كالنبيد ونقيع الزبيب ونحو ذلك. والله تعالى أعلم.

_ 1 الأثر أخرجه البيهقي في السنن8/286 بسند صحيح. 22/848.

الفصل السادس: حكم بيع المتنجسات والانتفاع بها

الفصل السادس: حكم بيع المتنجسات والانتفاع بها مذهب الحنفية: القول بجواز بيع المتنجسات كلها، لا فرق عندهم بين الأدهان المتنجسة، والثياب المتنجسة، ولا بين بيعها من مسلم أو كافر، لكنهم فيما يختص بالأدهان المتنجسة يشترطون البيان، فإن لم يبينها البائع، فالمشتري بالخيار في فسخ البيع أو إمضائه، لكنهم يكرهون الاستصباح بها في المساجد، لما فيه من إدخال النجاسة. فقد جاء في حاشية ابن عابدين: " ... ولا يضر أثر دهن، إلاّ ودك دهن ميتة، لأنه عين النجاسة حتى لا يدبغ به جلد بل يستصبح به في غير مسجد ... قال الرافعي ... بل يستصبح به في غير مسجد، أي بالدهن المتنجس لا بودك الميتة"1. فنص حاشية ابن عابدين أن أثر الدهن المتنجس لا ضرر فيه، أي لا يمنع الانتفاع أو البيع، إلا ودك دهن الميتة لأن نجاسته عينية، وعليه لا يصح الانتفاع به في دبغ الجلد وغيره، وقيل يصح الانتفاع به في الاستصباح في غير المسجد، وقال الرافعي الذي يصح الاستصباح به هو الدهن المتنجس لا دهن ودك الميتة، فدهن ودك الميتة، لا يصح الانتفاع به عنده بحال. وفي بدائع الصنائع: " ... إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه، أنه إن كان جامداً تلقى الفأرة وما حولها ويؤكل الباقي، وإن كان ذائباً لا يؤكل، ولكن يستصبح به، ويدبغ به الجلد، ويجوز بيعه وينبغي للبائع أن يبين عيبه، فإن لم يبين وباعه ثم علم به المشتري فهو بالخيار إن شاء رده وإن شاء رضي به ... لأن ما تنجس باختلاط النجاسة به والنجاسة معلومة لا يباح أكله ويباح الانتفاع به فيما وراء الأكل كالدهن النجس أنه ينتفع به استصباحاً إذا كان الطاهر غالباً"2.

_ 1 ابن عابدين 1/592 – 593. 2 الكاساني 1/66 – 78.

فقد نص الكاساني في البدائع: على أنه إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه فإنه لا مانع من الاستصباح به، بشرط أن يكون الطاهر غالباً، وأنه لا مانع من الانتفاع به في غير الأكل، لأن نجاسة الدهن الواقع فيه الفأرة معلومة، وقد عرض لما عليه رأي الحنفية من أنه إذا كان جامداً فإن الفأرة تلقى وما حولها، ولا مانع من أكل الباقي، وبالتالي فإن بيعه يكون جائزاً، وكذا جميع أوجه الانتفاع به. وذلك بخلاف ما لو كان مائعاً، فإن النجاسة تسري فيه، وبالتالي يمتنع أكله، ولا مانع من الانتفاع به في الاستصباح واستخدامه في الدبغ وغيره، إذا كان الطاهر غالباً، ويجوز بيعه إلا أنه يجب على البائع بيان عيبه للمشتري، وإلا فإن الخيار يثبت للمشتري عند علمه بهذا. مذهب المالكية: التفريق بين ما كانت نجاسته ذاتية، وبين ما نجاسته كالذاتية، فأما ما نجاسته ذاتية كالخمر والميتة فقد سبق بيان حكمه عند الحديث عن بيع الخمر والميتة، وأما ما كانت نجاسته كالذاتية كالزيت واللبن والعسل والخل تقع فيه النجاسة، فقد اختلف في حكم بيعه والانتفاع به، أما البيع فقد روى ابن وهب جوازه لكن مشهور مذهبهم المنع، وأما الانتفاع فالراجح من مذهبهم جواز الانتفاع به إلا في شيئين: الأول الآدمي فلا يجوز له شربه أو أكله، وفي الادهان به خلاف، الراجح فيه الكراهة، وتجب إزالته عند الصلاة، أو الطواف، أو دخول المسجد. الثاني المساجد: فلا يجوز الاستصباح بالزيت المتنجس، إلا أن يكون المصباح خارجه والضوء داخله فيجوز، أما الثياب المتنجسة فيجوز بيعها عندهم، بشرط أن يبين البائع تنجسها، ويجوزون الانتفاع بالثياب المتنجسة في غير الصلاة، وفي غير الأوقات التي يعرق بها، ويجوزون عمل الصابون من الزيوت المتنجسة. فقد جاء في القوانين الفقهية: " ... واختلف في بيع الزيت النجس، فمنع في المشهور مطلقاً، وأجاز ابن وهب إذا بين، واختلف في الاستصباح به في غير المساجد ... "1.

_ 1 ابن جزي صفحة 163.

وهكذا تقرر الخلاف في مذهب المالكية بشأن بيع الزيت النجس، وأن المشهور في المذهب منع بيعه مطلقاً، وإن كان بعض المالكية كابن وهب أجاز ذلك البيع بشرط البيان للمشتري، وذكر الخلاف بشأن مدى جواز الاستصباح به في غير المساجد. وجاء في مواهب الجليل: "وينتفع بمتنجس لا نجس في غير مسجد وآدمي" مراده بالمتنجس ما كان طاهراً في الأصل وأصابته نجاسة، كالثوب النجس، والزيت، والسمن، ونحوه تقع فيه فأرة أو نجاسة، وبالنجس ما كانت عينه نجسة، كالبول، والعذرة، والميتة، والدم، وذكر أن الأول ينتفع به في غير المسجد والآدمي وشمل سائر وجوه الانتفاع، فيستصبح بالزيت في غير المسجد، ويستحفظ منه، ويعمل منه الصابون، لكن تغسل الثياب فيه بماء طاهر، ويدهن به الحبل والعجلة ... والمشهور أن ما يقبل التطهير كالثوب النجس يجوز بيعه، وما لا يقبله كالزيت النجس لا يجوز بيعه، ... إذ لا يصح نفي كل منفعة تضاف للآدمي، لأنه يجوز له الاستصباح بالدهن النجس وعمله صابونا، وعلف الطعام النجس للدواب والعسل النجس للنحل وهو من منفعته ... ولا بأس بلبس الثوب النجس والنوم فيه، ما لم يكن وقت يعرق فيه، فيكره.."1. فأصل مذهب المالكية: جواز الانتفاع بالمتنجس في غير مسجد وآدمي، وهذا الحكم خاص بالمتنجس، لا النجس بأصله، أي ما كان في أصله طاهراً، ثم لحقته النجاسة، كالثوب النجس، والسمن، والزيت الذي أصابته نجاسة، بأن وقعت فيه على نحو الفأرة إذا وقعت، وأنه يخرج من هذا ما كان نجساً في عينه، أي بحسب أصله كالبول، والميتة، والدم، وأن المتنجس كالدهن ونحوه، يخرج عن أصل المنع من الانتفاع به في غير مسجد وآدمي، فلا بأس من الاستصباح به في غير مسجد، ويصنع منه الصابون ونحوه، ويدهن به الحبل والعجلة وعلف الطعام النجس للدواب ونحوها. ومشهور مذهب المالكية هو جواز بيع المتنجس، إذا كان قابلاً للتطهير، كالثوب النجس بخلاف ما لا يمكن تطهيره كالزيت المتنجس حيث يمتنع بيعه لتعذر تطهيره.

_ 1 الحطاب 1/117 – 119.

وجاء في الكافي: " ... إذا وقعت ميتة أو شيء من النجاسات في طعام أو الشراب جامداً طرحت الميتة والنجاسات وما حولها وانتفع بباقيه، وإن كان ذائباً أريق كله وإن كان زيتاً فلا بأس باستعماله في الصابون للغسل، ولا بأس بالاستصباح به في غير المساجد، ولا يجوز أكله ولا بيعه ولا تطهر الأدهان النجسة بغسلها، وهذا تحصيل مذهب مالك وطائفة من المدنيين1، ومنهم من أجاز غسل ألبان النجس والزيت النجس ... "2. فنص الكافي: يفيد أنه إن وقعت نجاسة في طعام أو شراب، وكان ذلك الطعام جامداً، فإن النجاسة وما حولها تطرح وينتفع بالباقي، وإن كان ذائباً أي غير جامد فإنه يجب إراقته كله، غير أنه إذا كان الشيء الواقع به النجاسة ذائباً وكان زيتاً فلا بأس من الاستفادة به في صناعة الصابون لاستعماله في الغسل ونحوه أو الاستصباح به في غير المسجد، غير أنه لا يجوز أكله ولا بيعه وأنه لا تطهر الأدهان النجسة بغسلها، وأن هذا تحصيل مذهب مالك وطائفة من المدنيين، وإن كان هناك من قال بجواز غسل ألبان النجس والزيت النجس، وهذا يستفاد منه إمكان استعماله بعد هذا الغسل، وبالتالي جواز بيعه. وجاء في الشرح الكبير: "فلا يوقد بزيت تنجس، إلا إذا كان المصباح خارجه والضوء فيه فيجوز، ولا يبنى بالمتنجس، فإن بني به ليس بطاهر ولا يهدم، وفي غير آدمي فلا يأكله ولا يشربه ولا يدهن به، إلا أن الادهان به مكروه على الراجح إن علم أن عنده ما يزيل به النجاسة، ومراده بغيرهما أن يستصبح بالزيت المتنجس، ويعمل به صابون ثم تغسل الثياب بالمطلق بعد الغسل به، ويدهن به حبل وعجلة وساقية، ويسقى به ويطعم للدواب ... "3.

_ 1 المقصود بهم عروة وابن شهاب. الكافي لابن عبد البر 1/440. 2 ابن عبد البر 1/440. 3 تعليقات الشيخ محمد عليش على الشرح الكبير مطبوع بهامش حاشية الدسوقي 1/61.

فالمستفاد من نص الشرح الكبير: منع الاستصباح بالزيت المتنجس داخل المسجد، وأنه إذا كان لا بد من ذلك فإن المصباح يكون خارج المسجد، والضوء فقط يكون مشعاً بداخل المسجد صوناً، له عن ملاقاة ذلك المتنجس، - وأنه لا يبنى المسجد بالمتنجس لأنه ليس بطاهر، وأنه إذا بني به لا يهدم البناء، كما أن الآدمي يمنع من أكل أو شرب المتنجس أو الادهان به، إلا أن الادهان بالمتنجس مكروه إذا كان عنده ما يزيل به النجاسة على القول الراجح عندهم، إلا أنه يجوز له الاستصباح بالزيت المتنجس وعمله صابوناً، أو علف الطعام المتنجس للدواب، ولبس الثوب المتنجس في غير المسجد وفي غير الصلاة. وهكذا: كان مذهب المالكية على أنه يجوز الانتفاع بالمتنجس في غير مسجد وآدمي، خاصة لو كان المتنجس طاهراً بحسب أصله ثم لحقته النجاسة كالثوب المتنجس، ولهذا كان مشهور مذهب المالكية هو جواز بيع الشيء المتنجس إذا كان قابلاً للتطهير كالثوب المتنجس، بخلاف ما لو كان تطهيره غير ممكن كالزيت المتنجس فلا يجوز بيعه لهذا السبب، وقالوا بأنه إذا وقعت النجاسة في طعام أو شراب وكان جامداً طرحت النجاسة وما حولها وأمكن الانتفاع بالباقي أكلاً وبيعاً ونحو ذلك، بخلاف ما لو كان الطعام الذي لاقته النجاسة مائعاً فإنه لا مناص من التخلص منه جملة كالزيت ونحوه، حيث لا يتصور الانتفاع به لإذابة النجاسة فيه، وإن كان هناك وجه للانتفاع به في حالة الزيت المتنجس حيث إنه يمكن استعماله في صناعة الصابون للغسل ونحوه أو للاستصباح به في غير مسجد، ورغم هذا نصوا على عدم جواز أكله أو بيعه. مذهب الشافعية: قالوا بصحة بيع الثوب المتنجس، لإمكان تطهيره، وكذا بجواز لبسه في غير الصلاة، وأما المتنجسات الأخرى كالزيت ونحوه فعندهم فيها خلاف مبني على الخلاف في إمكان تطهيرها، فالراجح من المذهب عدم صحة البيع لعدم إمكان تطهيرها، وهناك وجه بإباحة البيع لإمكان التطهير؛ وهم يجيزون الاستصباح بها في ظاهر مذهبهم، وهناك وجه بعدم الجواز لأنه لا تؤمن مباشرة النجاسة، ولما قد يعلق

في ثياب المستصبح من دخان النجاسة وهو نجس عندهم. فقد جاء في نهاية المحتاج: "ولا بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالخل واللبن وكذا الدهن في الأصح لتعذر تطهيره ... "1. ففي هذا النص على عدم جواز بيع المتنجس طالما تعذر تطهيره مثل الخل واللبن والدهن ونحو ذلك، وهذا يعني بمفهوم المخالفة أنه إذا أمكن تطهير الشيء المتنجس كالثوب فلا مانع من بيعه. وجاء في حاشية الباجوري على ابن القاسم: " ... أنه إذا تنجس مائع تعذر تطهيره كالزيت المتنجس لا يمكن تطهيره في الأصح، خلافاً لمن قال بأنه يمكن تطهيره فإنه لو أمكن لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقة السمن ... ، وأما ما يمكن تطهيره بالغسل ولم تستر النجاسة جزأ فيه صح بيعه، وإن أمكن تطهيره بغير الغسل كالمكاثرة في الماء القليل لم يصح"2. فالمائع المتنجس إن تعذر تطهيره لم يصح بيعه، خاصة وأن الأصح في مذهب الشافعية عدم إمكانية تطهير المائع المتنجس، وعلى أية حال إن كان تطهير المائع ممكناً فإما أن يكون ذلك بالغسل بالماء بحيث إن النجاسة لا تصير جزءاً منه، ففي هذه الحالة لا بأس من بيعه، بخلاف ما إن كان تطهير المائع ممكناً بغير الغسل، كأن كان بالمكاثرة في الماء القليل، فإن بيع ذلك المائع المتنجس في هذه الحالة لا يصح. وجاء في مغني المحتاج: " ... ولا بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالخل، واللبن، والصبغ3، والآجرّ4 المعجون بالزبل، لأنه في معنى نجس العين، أما ما يمكن تطهيره كالثوب المتنجس، والآجُرّ المعجون بمائع نجس، فإنه يصح بيعه لإمكان طهره.

_ 1 الرملي 3/393. 2 الباجوري 1/658. 3 الصبغ: بكسر الصاد، والصبغة والصباغ كله بمعنى، وهو ما يصبغ به. والصبغ أيضا ما يصبغ به الخبز في الأكل ويختص بكل إدام مائع كالخل وغيره. المصباح المنير صفحة 332 القاموس المحيط 1013. 4 الآجر اللبن إذا طبخ، والواحدة منه آجرة، وهو معرب. المصباح المنير للفيومي صفحة 6 القاموس المحيط للفيروز آبادي 436.

"وكذا الدهن" كالزيت إذ لا يمكن تطهيره ... لأنه لو أمكن لما أمر بإراقة السمن ... ، والثاني: يمكن تطهيره بغسله، بأن يوضع على قُلّتي ماء، أو يصب عليه ماء يغمره ثم يحرك حتى يصل إلى جميع أجزائه، ... ولو تصدق بدهن نجس لنحو استصباح به على إرادة نقل اليد جاز ... "1. فنص مغني المحتاج أن المتنجس المتعذر تطهيره مثل الخل واللبن والصبغ ونحوه لا يمكن بيعه، وذلك لأنه في معنى نجس العين، ونص على أنه إذا أمكن تطهيره فإنه لا مانع من بيعه والانتفاع به بعد تطهيره ويجوز التصدق بالدهن النجس للاستصباح به. وجاء في المجموع: " ... نص الشافعي على جواز الاستصباح بالزيت النجس ... وهو المذهب، وذكر أكثر الخراسانيين2 في جوازه قولين: أصحهما جوازه، والثاني تحريمه، لأنه يؤدي إلى ملابسته وملابسة دخانه، ودخانه نجس على الأصح، والخلاف في جواز الاستصباح جاز في الزيت النجس والسمن، ... وسائر الأدهان المتنجسة، ... والصحيح في الجميع جواز الاستصباح ... "3. وعليه فإن الصحيح في مذهب الشافعية هو جواز الاستصباح بالزيت المتنجس، وقد نص عليه الإمام الشافعي، ونقل عن أكثر الخراسانيين أن في جوازه قولين: أصحهما الجواز، والثاني تحريم الاستصباح، وهذا الخلاف يجري في سائر الأدهان. والصحيح فيها جميعاً هو جواز الاستصباح. مذهب الحنابلة: القول بعدم جواز بيع الأدهان المتنجسة، وهناك رواية عن الإمام أحمد بجواز بيعه للكافر، وأجازوا دفع الدهن المتنجس لكافر لفكاك مسلم، لأنه ليس ببيع حقيقة وإنما هو استنقاذ المسلم به، وأما الاستصباح به فالراجح من مذهبهم جواز ذلك في غير المساجد، على وجه لا تتعدى نجاسته إلى المنتفع، ويحكمون بالعفو عن قليل الدخان إذا أصاب ثياب

_ 1 الشربيني 2/15- 16. 2 مؤسس طريقة الخراسانيين هو أبو عوانة يعقوب بن إسحاق النيسابوري صاحب المسند والمستخرج على كتاب مسلم. راجع: المذهب عند الشافعية لمحمد الطيب اليوسف ص 114-125. 3 النووي 9/283.

المستصبح. فقد جاء في المغني والشرح الكبير "مسئلة" "ولا يجوز بيع الأدهان النجسة" في ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه، لأن أكله حرام لا نعلم فيه خلافاً، ... وإذا كان حراماً لم يجز بيعه، ... ولأنه نجس، فلم يجز بيعه قياساً على شحم الميتة، وعنه يجوز بيعه لكافر يعلم نجاستها، لأنه يعتقد حلها ويستبيح أكلها، ... والصحيح الأول، ... ولأنه لا يجوز بيعها من مسلم فلا يجوز بيعها لكافر، كالخمر والخنْزير فإنهم يعتقدون حله ولا يجوز بيعه لهم، ولأنه دهن نجس، فلم يجز بيعه لكافر كشحوم الميتة. قال شيخنا ويجوز أن يدفع إلى الكافر في فكاك مسلم، ويعلم الكافر بنجاسته، لأنه ليس ببيع في الحقيقة، إنما هو استنقاذ المسلم به ... اختلفت الرواية في الاستصباح بالزيت النجس فروي عنه أنه لا يجوز، ... وهو قول ابن المنذر، وعنه إباحته، لأن ذلك يروى عن ابن عمر، لأنه أمكن الانتفاع به من غير ضرر فجاز كالطاهر، ... ويتخرج على جواز الاستصباح به جواز بيعه، ... لأنه يجوز الانتفاع به من غير ضرورة فجاز بيعه ... "1. ومن خلال هذا النص يتضح لنا أنه لا يجوز بيع الأدهان النجسة في ظاهر كلام الإمام أحمد، وعنه يجوز بيعها لكافر يعلم نجاستها، والصحيح الأول: أي عدم بيعها مطلقاً حتى لكافر ... إلا أنه يجوز دفعها للكافر مقابل فكاك المسلم إذا علم الكافر بنجاستها، لأن ذلك ليس بيعاً؛ وقد اختلفوا بشأن الاستصباح بالزيت النجس: فروي عنه عدم الجواز، وهذا ما عليه ابن المنذر، وروي عنه إباحة الاستصباح، ويخرج على هذه الرواية جواز البيع لإمكان الانتفاع به. وجاء في شرح منتهى الإرادات: " ... ولا يطهر دهن تنجس، لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن السمن تقع فيه الفأرة: [فقال إن كان مائعاً فلا تقربوه] ، ولو أمكن تطهيره لما أمرنا بإراقته"2. وفي كشاف القناع: " ... ويجوز الاستصباح بدهن متنجس في غير مسجد، ولا

_ 1 ابن قدامة 4/14 – 15. 2 البهوتي 1/97.

يحل أكله ولا بيعه ... "1. وعلى هذا: فلا يحل أكل المتنجس، ولا بيعه، إلا أنه يجوز الاستصباح بدهن متنجس في غير المسجد. فقد نص صاحب الكشاف على أنه يجوز الاستصباح بالدهن المتنجس في غير المسجد. وجاء في كتاب الكافي: " ... وما نجس من الأدهان كالزيت، فظاهر المذهب تحريم بيعها ... وعنه: يباع لكافر، ويُعلم بحاله، لأنه يعتقد حله، وفي جواز الاستصباح بها روايتان إحداهما: لا يجوز، لأنه دهن نجس، أشبه شحم الميتة. والثانية: يجوز، لأنه أمكن الانتفاع بها من غير ضرر، أشبه الانتفاع بالجلد اليابس قال أبو الخطاب: ويتخرج على جواز الاستصباح بها، جواز بيعها ... "2. وعلى هذا: فإن الاستصباح بالدهن المتنجس محل خلاف في المذهب الحنبلي، فالرواية الأولى لا تجوز الاستصباح، في حين أن الرواية المقابلة تجوز الاستصباح، وتخرج على هذا جواز بيعه، وروي عنه جواز بيعه لكافر يعلم بنجاسته. وقد نص على أن ظاهر المذهب تحريم ما نجس من الأدهان كالزيت ونحوه. وجاء في الإنصاف: "وفي جواز الاستصباح روايتان: إحداهما: يجوز، وهو المذهب صححه في التصحيح ... قال الزركشي3 هذا أشهر الروايتين ونصرها في المغني واختاره الخرقي4 والشيخ تقي الدين وغيرهما وجزم به في الإفادات في باب النجاسة.

_ 1 البهوتي 1/223. 2 ابن قدامة 2/8. 3 هو محمد بن عبد الله بن محمد شمس الدين أبو عبد الله بدر الدين الزركشي المصري الحنبلي، فقيه كان إماما في المذهب، أخذ الفقه عن قاضي القضاة موفق الدين عبد الله الحجاوي، من تصانيفه "شرح الخرقي" توفي رحمه الله سنة 772?. راجع: معجم المؤلفين لعمر كحالة 1/239. 4 هو عمر بن الحسين بن عبد الله أبو القاسم الخرقي بغدادي نسبته إلى بيع الخرق من كبار فقهاء الحنابلة رحل عن بغداد لما ظهر بها سبّ الصحابة وترك كتبه في بيت ببغداد فاحترقت ولم تكن انتشرت وبقي منها مختصرة المشهور بـ "مختصر الخرقي" الذي شرحه ابن قدامه في المغنى توفى رحمه الله سنة 334 ?. راجع: الأعلام للزركلي 5/202، طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى الحنبلي 2/75.

والرواية الثانية: لا يجوز الاستصباح بها جزم به في الوجيز1"2. فقد ذكر صاحب الإنصاف أن في جواز الاستصباح بالدهن النجس روايتين في مذهب الحنابلة، إحداهما: جوازه وهي الصحيحة وهي المذهب، كما نقل عن كتاب التصحيح، وقال الزركشي إنها الأشهر من الروايتين، وعليها جماعة من العلماء ونصروها أما الرواية الثانية: فهي عدم جواز الاستصباح بها وهذا ما عليه صاحب الوجيز. فالمستفاد من نصوص الحنابلة: أن الأدهان المتنجسة نجسة، وأنه لا يمكن تطهيرها، وذلك لعدم إمكان وصول الماء إلى جميع أجزائها، وعلى هذا تكون محرمة لا يجوز أكلها. أما بالنسبة لمسألة بيعها من عدمه فللحنابلة في هذا أقوال: الأول: أنه لا يجوز بيعها لنجاستها، وهذا هو ظاهر مذهب الحنابلة. الثاني: أنه يجوز بيعها، لأنه يجوز الانتفاع بها في الاستصباح. الثالث: أنه يجوز بيعها لكافر يعلم نجاستها. أما بخصوص إمكان الاستصباح بها فهو الآخر محل خلاف في المذهب: قيل: إنه لا يجوز الاستصباح بها مطلقاً. وقيل: يجوز ذلك الاستصباح مطلقاً. وقيل: يجوز الاستصباح به في غير المسجد. الموازنة: بالنظر فيما قاله الفقهاء بشأن الأدهان المتنجسة: مذهب الحنفية: التفرقة بين الدهن الجامد وغير الجامد، فيقولون إنه إذا تنجس الدهن الذائب أي المائع فإنه لا يؤكل، غير أنه يمكن الانتفاع به في الاستصباح ونحوه

_ 1 الوجيز في الفقه على مذهب الإمام أحمد تأليف الحسن بن يوسف بن أبي السري الدجيلي الحنبلي المتوفي 732? وهو مطبوع بتحقيق الدكتور عبد الرحمن بن سعدي الحربي. 2 المرداوي 4/270- 271.

من استعماله في دبغ الجلود، وأنه لا مانع من بيعه بشرط أن يبين البائع ما به من عيب، وإلا ثبت الخيار للمشتري في الرد، كل هذا إذا كان الطاهر غالباً، وإن كان المتنجس جامداً فتطرح الأجزاء المتنجسة وما حولها ويؤكل الباقي، وبالتالي فلا مانع من الانتفاع به في الاستصباح وغيره، وكذا إمكان بيعه، لأن الحنفية يكتفون باعتبار مالية المبيع. مذهب المالكية: منع أكل الأدهان المتنجسة مطلقاً، سواء كان ما علقت به النجاسة مائعاً أو جامداً، وبالتالي فإن الانتفاع به على أي وجه ممنوع، وبالتالي فلا مجال للحديث عن بيعه لهذا الغرض. غير أنهم قالوا بجواز الاستصباح بالدهن المتنجس في غير المسجد، وأنه يمكن استخدامه في صناعة الصابون، ودهن الحبال، والعجل، وصناعة أعلاف للحيوانات؛ وبناء على هذا فلا مانع من بيع الأدهان المتنجسة والزيت النجس لهذا الغرض. وإن كان مشهور مذهب المالكية هو جواز بيع المتنجس إذا كان قابلاً للتطهير كالثوب النجس، بخلاف ما لا يمكن تطهيره كالزيت المتنجس حيث يمتنع بيعه لتعذر تطهيره. مذهب الشافعية: أن المتنجسات من حيث إمكان الانتفاع بها وبالتالي بيعها تختلف من هذه الزاوية باختلاف ما علقت به النجاسة ومدى إمكان إزالتها. فقالوا: إنه إذا أمكن تطهير المتنجس، جاز بيعه والانتفاع به في الاستصباح ونحوه، كالثوب المتنجس حيث إنه يمكن تطهيره ولبسه في غير الصلاة. أما إذا لم يمكن تطهيره بأن كان مائعاً متنجساً وصارت النجاسة جزءاً منه، فإنه لا يجوز الانتفاع به، وبالتالي فلا يجوز بيعه. وبالنسبة للاستصباح بالزيت المتنجس، فالصحيح في مذهب الشافعية جوازه، وهو المذهب، وأصح المذهبين؛ والثاني تحريم ذلك الاستصباح. مذهب الحنابلة: أن الأدهان المتنجسة لا يمكن تطهيرها وبالتالي فلا يجوز أكلها.

واختلفوا بالنسبة للاستصباح بها على ثلاثة أقوال: الأول: لا يجوز؛ والثاني: يجوز؛ والثالث: يجوز الاستصباح بها في غير المسجد. والخلاف حاصل كذلك في مذهب الحنابلة بشأن بيع الأدهان المتنجسة على ثلاثة أقوال: الأول: لا يجوز، والثاني: يجوز، أما الثالث: يجوز للكافر دون غيره. وعلى هذا: 1- فأكل الأدهان النجسة وكذا المتنجسة محل إجماع على المنع، خاصة لو كانت هذه الأدهان مائعة لعدم إمكان التحرز في تطهيرها، حيث ذابت النجاسة في كافة المحل، وإن كان الحنفية جوزوا أكل المتنجس الجامد بعد طرح النجاسة، فالمالكية والشافعية والحنابلة على منع أكل المتنجس مطلقاً، حتى لو كان جامداً، والحنفية وافقوهم بالنسبة للمائع دون الجامد. 2- أما الانتفاع بالاستصباح ونحوه بهذه الأدهان المتنجسة، فقال العلماء: إنه يجوز الاستصباح بالدهن المتنجس واستعماله في الدبغ ونحوه وصناعة الصابون والأعلاف والدهانات المختلفة، وعلى هذا مذهب الحنفية، وقول عند المالكية، وصحيح مذهب الشافعية، وأحد الأقوال عند الحنابلة، ومقابل هذا الرأي أنه لا يجوز الانتفاع بالأدهان المتنجسة في الاستصباح ونحوه في المسجد وغيره إذا لم يمكن تطهيرها بأن كانت زيتاً ونحوه، حيث شملت النجاسة كل أجزائه، وهذا ما عليه مشهور مذهب المالكية، ومقابل الصحيح عند الشافعية، وأحد الأقوال في مذهب الحنابلة. 3- وما قيل في الانتفاع والاستصباح ونحوه يقال في البيع: فالمذهب الأول: جواز بيع الأدهان المتنجسة، وهذا مذهب الحنفية، ومذهب المالكية خاصة إذا كان قابلاً للتطهير، وصحيح مذهب الشافعية، وأحد الأقوال عند الحنابلة، وقول آخر يجوز للكافر خاصة. أما المذهب الثاني: يرى عدم جواز بيع الأدهان المتنجسة، وإلى هذا ذهب مشهور مذهب المالكية خاصة إذا لم يمكن تطهير تلك الأدهان، وما عليه مقابل الصحيح عند

الشافعية وأحد أقوال مذهب الحنابلة. فالمذاهب في مسألة البيع للأدهان المتنجسة وكذا الاستصباح ونحوه من كافة أوجه الانتفاع تنحصر في المذهبين السابقين تأصيلاً واستدلالاً وترجيحاً، وبناء على هذا فكما أن عرض المذاهب في المسألتين واحد فإن الاستدلال بوجوهه المتعددة واحد كذلك، لأن حكم البيع فرع عن حكم الانتفاع والاتخاذ، وهذا الانتفاع معلق على إمكان التطهير من عدمه، والأخير مرتبط بما إذا كان المتنجس مائعاً أم جامداً. الأدلة: استدل من قال بجواز البيع والانتفاع بالأدهان المتنجسة بما يلي: 1- ما روي عن علي رضي الله عنه في النجاسة إذا وقعت في الدهن قال: "يستصبح به ويدبغ به الجلود"1. 2- حديث أبي هريرة رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن كان مائعاً فانتفعوا به" 2. 3- حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن فأرة ماتت في سمن فقال: "تلقى الفأرة وما حولها ويؤكل الباقي؛" فقيل: يا رسول الله أرأيت لو كان السمن ذائباً؟ فقال: "لا تأكلوه، ولكن انتفعوا به" 3، وهذا تصريح منه صلى الله عليه وسلم بالانتفاع بالمتنجسات. 4- القياس على الثوب المتنجس بجامع أن كلا النجاستين ليست عينية بل هي بالمجاورة. ونوقشت هذه الأدلة بما يأتي: أما حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- فقد أجاب عنه ابن حجر في الفتح قائلاً: وقد احتج بعضهم بما وقع في رواية عبد الجبار بن عمر عند البيهقي في حديث

_ 1 لم أقف على إسناد هذا الحديث في الكتب المسنده ولكني وجدت بعض العلماء ذكروا ذلك عنه بغير إسناد. 2 رواه ابن الجوزي في التحقيق 2/188 برقم 1471. 3 الحديث أخرجه الدارقطني 4/291، والبيهقي في السنن 9/354.

ابن عمر "إن كان السمن مائعاً فانتفعوا به ولا تأكلوه" قال البيهقي: "وجاء من رواية ابن جريج عن الزهري كذلك، لكن السند ضعيف، والمحفوظ أنه من قول ابن عمر1. أما القياس على الثوب المتنجس فقد أجاب عنه النووي قائلاً: "والجواب عن قياسهم على الثوب، يمكن غسله بالإجماع بخلاف الدهن لأن المنفعة المقصودة بالثوب هي اللبس، وهو حاصل مع أنه نجس، والمنفعة المقصودة بالزيت الأكل وهو حرام"2. واستدل من قال بمنع البيع والانتفاع بالأدهان المتنجسة بما يلي: 1- قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه"، وحرمة الثمن تقتضي حرمة البيع. 2- قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الفأرة تقع في السمن: "إذا كان مائعاً فلا تقربوه3" وفي رواية "فأريقوه" 4. فلو كان هناك سبيل إلى تطهيره والانتفاع به، لبينه صلى الله عليه وسلم كما فعل في جلد الميتة. فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بدباغه والانتفاع به. 3- قياس الأدهان المتنجسة على الأدهان النجسة العين كودك الميتة من جهة وقياسه على الخمر من جهة أخرى بجامع النجاسة، فيحرم الانتفاع لذلك5.

_ 1 راجع: فتح الباري 9/668 – 670. 2 راجع: المجموع 9/283. 3 الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/232، 265، 490، وأبو داود كتاب الأطعمة باب في الفأرة تقع في السمن برقم 3841 من طريق معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة به، قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه أنه سئل عنه فقال: "إذا كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه"، هذا خطأ أخطأ فيه معمر قال والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة. ا?. 4 يقول الحافظ ابن حجر: وأما قوله فأريقوه فذكر الخطابي أنها جاءت في بعض الأخبار ولم يسندها. ا?. 5 المغني والشرح الكبير 4/14 – 15.

ونوقشت هذه الأدلة بما يأتي: بالنسبة لحديث الفأرة تقع في السمن. 1- أن المراد بتحريم السمن والأمر بإراقته إذا كان مائعاً، إنما هو تحريم الأكل لأن الأكل هو المقصود الأعظم من السمن1. 2- وأما عدم بيان النبي صلى الله عليه وسلم - للانتفاع به، فلعل ذلك كان لنَزارته وأنه لا يوازي الشغل به، وأوكل المعرفة في حكم الكثير إلى الدليل2 3- وأما قياس الأدهان المتنجسة على الأدهان نجسة العين، من جهة، وقياسها على الخمر من جهة أخرى فقد أجيب عن ذلك، بأن الخمر وشحم الميتة نجس العين والأدهان المتنجسة إنما نجست بالمجاوره فقياسها على الثوب النجس أولى من قياسها على شحم الميتة والخمر3. والذي يترجح لدي: هو القول بجواز بيع هذه الأدهان والانتفاع بها، بناء على ما فيها من بعض المنافع التي تقوم بالمال، بشرط أن يعلم البائع المشتري بتنجيسه حتى يكون على بينه منه، وأن أدلة الفريقين تدور كلها حول حديث أبي هريرة في الفأرة تقع في السمن، وان أدلة المانعين القائلين بتحريم ثمن الشيء المحرم فإنه لا يستلزم حرمة الانتفاع به وإن كان يستلزم حرمة البيع، والله تعالى أعلم. جاء في الإنصاف: "تنبيه": قوله: "ويتخرج على ذلك أي على جواز الاستصباح بالأدهان النجسة جواز بيعها، أن المصنف وغيره خرجوا جواز البيع من رواية جواز الاستصباح بها"4.

_ 1 بدائع الصنائع 1/66. 2 عارضة الأحوذي 7/302 – 303. 3 المبسوط 1/95. 4 المرداوي 4/271.

الباب الثاني: مانهى الشارع عن الانتفاع به

الباب الثاني: مانهى الشارع عن الانتفاع به الفصل الأول: بيع أواني الذهب والفضة تقرر لدى الفقهاء حرمة الأكل والشرب في أواني1 الذهب والفضة، وأنه لا فرق بين الرجال والنساء، وإن كان التزين والتحلي بهما للنساء جائزاً، وقد كثر الحديث بشأن استخدام المضبب2 بالذهب أو الفضة، أو المموه3 أو المطلي أو المطعم أو المكفت4 بالذهب أو بالفضة، كما أن الفقهاء اختلفوا بشأن استخدام خاتم وساعة الذهب المعدّين للرجال، وحيث انعكس كل هذا على القول بحل أو حرمة البيع لهذه الأمور، فإنه يلزمنا ضرورة معرفة حكم الشرع في هذا، تفريعاً على حل أو عدم استعمال واقتناء أواني الذهب والفضة، وما استثني من تلك الأحكام مراعاة لمصالح العباد تفضلاً وإنعاماً من الله سبحانه، وتمشياً مع مبدأ رفع الحرج عنهم في سلوكيات حياتهم وسنوضح المسائل جميعها في المبحثين الآتيين:

_ 1 الآنية: جمع إناء، كسقاء وأسقيه، ووعاء وأوعية، وجمع الآنية أوان، والآنية الأوعية، وهي ظروف الماء ونحوها. راجع: لسان العرب لابن منظور1/250. 2 المضبب: هو المشدود بالضباب، جمع ضبة: وهي حديدة عريضة يضبب بها، والتضبيب: تغطية الشيء ودخول بعضه في بعض. راجع: لسان العرب لابن منظور 8/10، القاموس المحيط للفيروز آبادي 1/95. 3 المموه: اسم مفعول، من موه الشيء: طلاه بذهب أو فضة، وفيه التمويه: وهو التلبيس، ومنه قيل للمخادع مموه، وقد موه فلان باطله إذا زينه وأراده في زينة الحق. راجع: لسان العرب لابن منظور 13/226. 4 التكفيت: هو الضم يقال: كفته إذا ضمه إليه، والكفات هو الموضع الذي يكفت فيه الشيء أي يضم. وكيفية التكفيت: أن يبرد الإناء من حديد أو نحوه حتى يصير فيه شبه المجاري في غاية الدقة ثم يوضع فيه شريط دقيق من ذهب أو فضة يدق عليه حتى يلصق كما يصنع بالمركب. راجع: مختار الصحاح للرازي 1/56، كشاف القناع 1/64.

المبحث الأول: حكم أواني الذهب والفضة

المبحث الأول: حكم أواني الذهب والفضة المقرر أن حكم بيع أواني الذهب والفضة فرع عن حكم اقتنائها واستعمالها، وهذا يقتضي ضرورة بحث حكم استعمال المتخذ من الذهب والفضة، حتى يتسنى بيان حكم بيع ذلك المتخذ، وسنبين هذا في المطلبين الآتيين: المطلب الأول: حكم استعمال واقتناء أواني الذهب والفضة اختلف الفقهاء بشأن حكم استعمال المتخذ من الذهب والفضة في غير التحلي والتزين، ويتضح هذا من خلال بحث ما قالوه على النحو الآتي: مذهب الحنفية: حرمة استعمال الأواني المتخذة من الذهب والفضة بالنسبة للرجال والنساء. فقد جاء في مجمع الأنهر: " ... ولا يحل استعمال إناء ذهب أو فضة لرجل أو امرأة"1. وجاء في اللباب شرح الكتاب: "ولا يجوز الأكل، والشرب، والادهان، والتطيب، وجميع أنواع الاستعمال، في آنية الذهب والفضة، للرجال والنساء"2. فمذهب الحنفية: على أنه لا يجوز استعمال إناء الذهب أو الفضة، وأن هذا الحكم عام بالنسبة للرجال والنساء. مذهب المالكية: حرمة استعمال أواني الذهب والفضة، ولا يحل الأكل والشرب والاغتسال والوضوء. فقد جاء في حاشية الدسوقي: " ... وحرم إناء نقد من ذهب أو فضه أي استعماله، وحرم اقتناؤه أي ادخاره، ولو لعاقبة دهر، لأنه ذريعة للاستعمال ... فلا يجوز فيه أكل ولا شرب ولا طبخ ولا طهارة، وإن صحت الصلاة ... "3. وجاء في جواهر الأكليل: "وحرم استعمال إناء نقد ذهب أو فضة لأكل أو شرب أو

_ 1 عبد الرحمن الكيبولي 4/182. 2 عبد الغني الغنيمي 2/329. 3 الدسوقي 1/64.

غسل، وحرم اقتناؤه ولو لغير الاستعمال، لأنه وسيله إليه ... "1. فمذهب المالكية: ينص صراحة على حرمة استعمال آنية الذهب أو الفضة في الأكل والشرب ونحوهما. مذهب الشافعية: قالوا بكراهة اتخاذ واستعمال أواني الذهب والفضة، واختلف في وصف هذه الكراهة، وهل هي كراهة تنْزيهية، أم أنها كراهة تحريمية، فقال في القديم تنْزيهية، وقال في الجديد إنها كراهة تحريمية. فقد جاء في المهذب: "ويكره استعمال أواني الذهب والفضة، ... وهل يكره كراهية تنْزيه أو تحريم؟ قولان، قال في القديم2: كراهية تنْزيه، ... وقال في الجديد3: يكره كراهية تحريم وهو الصحيح ... "4. وقيل: إن مذهب الشافعية على القول الصحيح المشهور: أنه يحرم استعمال أواني الذهب والفضة، وحمل أكثر الخرسانيين قول القديم بالكراهة التنْزيهية على أن المشروب نفسه ليس حراماً. جاء في المجموع: المسألة الثالثة: في أحكام الفصل: فاستعمال الإناء من ذهب أو فضة حرام على المذهب الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور، وحكى المصنف ... قولاً: قديماً أنه يكره كراهة تنْزيه ولا يحرم، وأنكر أكثر الخراسانين هذا القول، وتأوله بعضهم على أنه أراد أن المشروب في نفسه ليس حراماً، ... واتفقوا على أن الصحيح تحريم الاتخاذ وقطع به بعضهم ... "5. مذهب الحنابلة: قالوا بحرمة استعمال آنية الذهب والفضة، وهذا ما عليه نص

_ 1 الأزهري 1/10. 2 قال في القديم: أي مذهب الشافعي القديم وهو مذهبه لما كان في العراق من عام 195?. 3 قال في الجديد: أي مذهب الشافعي الجديد بعد رحيله إلى مصر سنة 200? إلى وفاته سنة 204?. 4 الشيرازي 1/61 – 62. 5 النووي 1/305 – 308.

المذهب الحنبلي، وما عليه الأصحاب، وأكثرهم قطع به، وأنه لم يخالف في هذا سوى أبي الحسن التميمي1 حيث قال بكراهة هذا الاستعمال في حالة اتخاذه مسعطاً، أو قنديلاً، أو نعلين، أو مجمرة، أو مدخنة، وأنه يحرم إذا اتخذ سريراً، أو كرسياً من ذهب أو فضة. فقد جاء في كشاف القناع: "كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله ولو كان ثميناً كجوهرة ونحوه كالبلور والياقوت والزمرد، وغير الثمين كالخشب والزجاج والجلود والصفر والحديد" 2. وجاء في الانصاف: قوله: "إلا آنية الذهب والفضة والمضبب بهما فإنه يحرم اتخاذهما، وهذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب ... لا يختلف المذهب فيما علمنا في تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة ... وعن أبي الحسن التميمي أنه قال: إذا اتخذ مِسْعَطاً، أو قنديلاً، أو نعلين، أو مجمرة، أو مدخنة ذهباً أو فضة كره، ولم يحرم، ويحرم سرير وكرسي ويكره عمل خفين من فضة، ولا يحرم كالنعلين ... قوله: "واستعمالها" يعني: يحرم استعمالهما، وهذا المذهب نص عليه وعليه الأصحاب وأكثرهم قطع به ... "3. الموازنة: بمراجعة نصوص كتب الفقه المختلفة بخصوص استعمال آنية الذهب والفضة يتضح لنا أن عامة الفقهاء قالوا بتحريم هذا الاستعمال على وجه الإطلاق، من حيث المستعمل له، ومن حيث كيفية الاستعمال، وأنه لم يخالف في هذا إلا بعض الشافعية في المذهب القديم، حيث قالوا بأنه لا يحرم مثل هذا الاستعمال في غير التحلي والتزين بل يكون مكروهاً، وهذا ما قال به أبو الحسن التميمي من الحنابلة

_ 1 هو أحمد بن إسحاق بن عطية بن عبد الله بن سعد أبو الحسن التميمي الصيدلاني مقريء وسمع أبا طاهر المخلص وأبا القاسم الصيدلاني ومن بعدهما وكان آخر القراء المذكورين بحسن الحفظ وإتقان الروايات وضبط الحروف من تصانيفه "الواضح في القراءات العشر" توفى رحمه الله تعالى سنة 423 هـ. راجع: معجم المؤلفين لعمر كحالة 1/223، وتاريخ بغداد للبغدادي 4/161. 2 البهوتي 1/63. 3 المرداوي 1/80.

فالمسألة فيها مذهبان: المذهب الأول: يرى أنه يحرم على الرجال والنساء استعمال الأواني المتخذة من الذهب والفضة فيما ترجع منفعته إلى البدن، فلا يحل للرجال والنساء والأكل والشرب والاغتسال والوضوء ونحو ذلك في آنية الذهب والفضة، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. المذهب الثاني: يرى أنه لا يحرم على الرجال والنساء استعمال ما اتخذ من الذهب والفضة في غير التحلي والتزين، وأن هذا الاستعمال على هذا النحو مكروه كراهة تنْزيهية. وإلى هذا ذهب الشافعية في رواية لهم في مذهبهم القديم، وهو قول أبي الحسن التميمي من الحنابلة. الأدلة: استدل جمهور الفقهاء على ما ذهبوا إليه من أن استعمال أواني الذهب والفضة محرم، وأن اتخاذ الأواني من هذين النقدين قد حرمه الشرع استدلوا بما يأتي: 1- ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر1 في بطنه نار جهنم" 2. حيث أفاد هذا الحديث الوعيد الشديد لمن يشرب في إناء فيه شيء من الذهب والفضة، وهذا الوعيد لا يكون إلا على فعل المحرم الذي حرمه الشارع، فدل هذا على حرمة استعمال الآنية المتخذه من الذهب أو الفضة في الشرب ونحوه. 2- ما روي عن حذيفة بن اليمان3 رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 الجرجرة: هي صوت وقوع الماء في الجوف عند شدة الشرب، وصوت البعير عند الضجر، ولكنه جعل صوت جَرع الإنسان للماء في هذه الأواني المخصوصة لوقوع النهي عنها واستحقاق العقاب على استعمالها. راجع: لسان العرب لابن منظور 2/245. 2 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 5311، ومسلم برقم 2065. 3 حذيفة بن اليمان العبسي يكنى أبا عبد الله، حليف الأنصار، من السابقين، أعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة. توفي رضي الله عنه في أول خلافة علي رضي الله عنه عام 36?. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 495، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 2/223.

يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ 1 فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" 2. فقد دل هذا الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن الشرب في أواني الذهب والفضة، وعن الأكل في صحافهما، والمعروف أن النهي عند الإطلاق يفيد التحريم. 3- ما روي عن ابن أبي ليلى3 أن حذيفة بن اليمان كان بالمدائن فاستسقى، فأتاه دهقان4 بإناء من فضة، فرماه به، فلو أصابه لكسر منه شيئاً، ثم قال: "إنما رميته به لأنني نهيته عنه"5. فقد أفاد هذا الأثر أن حذيفة رضي الله عنه قد فهم تحريم الأكل والشرب فيما اتخذ من الذهب والفضة، من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه استحل عقوبة الدهقان لمخالفته إياه. هذا فضلاً عما سبق من نصوص، فإن الإجماع قد انعقد على تحريم الأكل والشرب فيما اتخذ من الذهب والفضة، وذلك على نحو ما حكاه الإمام النووي، وقال ابن قدامة: لا أعلم خلافاً في حرمة استعمال آنية الذهب والفضة6. كما أنه في استعمال المتخذ من الذهب والفضة، التجبر والتشبه في ذلك بالأعاجم والأكاسرة المتكبرين المتجبرين، وتنعما بنعم المترفين المسرفين، وأن في

_ 1 الصحاف: جمع صحفة وهي التي يشبع ما فيها خمسة أنفس. راجع: مختار الصحاح للرازي صفحة 174. 2 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري كتاب الأطعمة باب الأكل في إناء مفضض برقم 5110، ومسلم كتاب اللباس والزينة باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة برقم 2067. 3 هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني ثم الكوفي، ثقة، اختلف في سماعه من عمر، توفي رحمه الله بوقعة الجماجم عام 83?. راجع: تقريب التهذيب لابن حجر صفحة 209. 4 دهقان: لفظه فارسية معناها كبير القرية. راجع: مختار الصحاح للرازي صفحة 113. 5 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 5309، وبرقم 5493، ومسلم برقم 2067. 6 المجموع 1/306، والمغني 1/75.

استعمال ما اتخذ من هذين المعدنيين فخراً، وخيلاء، وسرفاً، وكسراً لقلوب الفقراء1. واستدل من قال بكراهة استعمال ما اتخذ من هذين المعدنين: بنفس ما استدل به جمهور الفقهاء غير أنهم قد انفردوا بتوجيه هذا الاستدلال بما يخدم دعواهم، وهي كراهية استعمال أواني الذهب والفضة، وأن حد المنع لا يصل إلى درجة الحرمة وقالوا: إن النهي عن استعمال ما اتخذ من هذين المعدنين، إنما هو لما في استعماله من التشبه بالأعاجم، وهذا النهي لا يقتضي التحريم، إنما يقتضي الكراهة، ولأن النهي الوارد عن استعمال ذلك للتزهيد بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" 2. والحق أن النهي في الأحاديث مطلق، وهو يفيد التحريم عند الإطلاق لأنه حقيقته، وأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، ولأن الوعيد الشديد الوارد في حديث أم سلمة لا يكون إلا على فعل شيء محرم. والذي يترجح لدي: هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء القائلون بحرمة استعمال الرجال والنساء ما اتخذ من الذهب والفضة في غير التحلي والتزين، وذلك لما استدلوا به من السنة، وقول الصحابي، ولما في استعمالهما من السرف والفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء. ويؤكد هذا ما ورد في شرح فتح القدير: "المحرم هو الاستعمال بأي وجه كان، لما فيه التخيير والإسراف"3. وما ورد في المغني: "ولا خلاف بين أصحابنا في أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، ولا أعلم فيه خلافاً ... ويحرم اتخاذ آنية الذهب والفضة، ... فما حرم استعماله مطلقاً، حرم اتخاذه على هيئة

_ 1 كتاب الكافي في فقه الإمام مالك 1/163، والمغني لابن قدامة 1/76. 2 المجموع للنووي 1/305. 3 ابن الهمام 8/82.

الاستعمال ... ويحرم استعمال الآنية مطلقاً في الشرب والأكل وغيرهما، لأن النص ورد بتحريم الشرب والأكل وغيرهما في معناهما ... "1.

_ 1 ابن قدامة 1/75 – 77.

المطلب الثاني: حكم بيع أواني الذهب

المطلب الثاني: حكم بيع أواني الذهب مذهب الحنفية: لم تنص كتب الحنفية التي اطلعت عليه صراحة على حكم بيع أواني الذهب والفضة1 مكتفية بما تقرر في شأن اتخاذ هذه الأواني، وبما ورد في شأن بيع الذهب بالذهب، أو بيع الذهب بالفضة والعكس. وبناء على هذا فحكم بيع أواني الذهب والفضة مخرج على هذين الأمرين، وحيث كان حكم اتخاذ هذه الأواني في المذهب الحنفي على نحو ما سبق هو الحرمة مطلقاً أي فيما يتعلق بأواني الذهب والفضة، وبالنسبة للرجال والنساء على السواء، فإن حكم بيع هذه الأواني يكون هو الآخر على الحرمة وذلك لعدم كسر قلوب الفقراء، ولعدم التأثير على صرف النقدين المحتاج إليهما في التعامل بين الناس. مذهب المالكية: القول بحرمة بيع أواني الذهب والفضة تخريجاً على قولهم بحرمة اتخاذ واستعمال مثل هذه الأواني في الأكل والشرب ونحو ذلك، بمراعاة أن معظم ما طالعته من كتب المالكية لم تتعرض صراحة لمسألة بيع هذه الأواني، وإن كانت بعض هذه الكتب قد ذكرت أن بعض المالكية يرى أنه إن كانت صنعة الإناء لا يقابلها شيء من العوض فإن البيع يصح، وإلا فإن البيع يكون على المنع وهذا ما ذكره ابن دقيق العيد2. فقد جاء في مواهب الجليل: " ... وبحث فيه الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد بأنه إن كان لا يقابل الصنعة شيء من العوض فظاهر -أي يصح البيع، وإن كان مع

_ 1 بدائع الصنائع للكاساني، والهداية للمرغيناني، وشرح فتح القدير لابن الهمام وغيرهما. 2 هو العلامة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع المالكي المولود سنة 625? وتفقه على والده كما تفقه أيضا على العز بن عبد السلام وولي قضاء مصر وتوفي رحمه الله تعالى سنة 702?. راجع: أعلام العرب للرجيلي 2/115، وشذرات الذهب لابن عماد الحنبلي 6/5.

المقابلة فلا يسلم هذا الحكم- أي لا يصح البيع ... "1. مذهب الشافعية: اختلف فقهاء الشافعية بشأن حكم بيع آنية الذهب والفضة، وذلك كأثر لاختلافهم فيما سبق بشأن حكم اتخاذ واقتناء مثل هذه الآنية، حيث ذكرت معظم كتب الشافعية أنه ينبغي أن يبني البيع على الاتخاذ، وقالوا إن جوزناه – أي الاتخاذ – صح البيع وإن حرمناه -أي الاتخاذ- حرم البيع. فقد جاء في المجموع: " ... إذا باع إناء ذهب أو فضة، قال القاضي أبو الطيب2 البيع صحيح، لأن المقصود عين يصح بيعها، هكذا أطلق القاضي هنا، ونقل أبو علي البندنيجي3 في جامعه هنا اتفاق الأصحاب عليه، وينبغي أن يبنى على الاتخاذ، فإن جوزناه صح البيع، وإن حرمناه كان حكمه حكم ما إذا باع جارية مغنية تساوي ألفاً بلا غناء، والفين بسبب الغناء ... "4. فمذهب الشافعية: على الخلاف في حكم هذا البيع، فالقاضي أبو الطيب يطلق القول بصحة بيع آنية الذهب والفضة، وقد تقرر الخلاف في إشارة الإمام النووي إلى أن القول في البيع مترتب على القول في الاتخاذ، وحيث كان الآخر محل خلاف، كان ذلك الخلاف سارياً هنا، كذلك بين قائل بالصحة، وبين قائل بالكراهة، وهؤلاء مختلفون بطبيعة الحال بشأن تكييف ووصف هذه الكراهة بين الكراهة التحريمية والكراهة التنْزيهية. مذهب الحنابلة: القول بحرمة بيع أواني الذهب والفضة، بناء على أن مذهبهم

_ 1 الحطاب 1/128. 2 هو طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري أبو الطيب القاضي، فقيه أصولي جدلي من أعيان الشافعية ولد في آمل طبرستان واستوطن بغداد من مصنفاته "شرح مختصر المزني" و"جواب في السماع والغناء" توفي رحمه الله تعالى ببغداد سنة 450 ?. راجع: الأعلام للزركلي 3/222، وطبقات الشافعية للأسنوي 2/58. 3 هو الحسن بن عبيد الله أبو علي البندنيجي، الفقيه القاضي، تفقه على أبي حامد الاسفرائيني، صاحب التعليقة المشهورة عنه والمسماة بالجامع. توفي ببلدة البندنيجين عام 425?. راجع: طبقات الشافعية للأسنوي 1/96. 4 النووي 1/309.

حرمة الاستعمال، وأن هذا ماعليه نص المذهب الحنبلي، وما عليه الأصحاب، وأن أكثرهم قطع به، ولم يخالف في هذا سوى أبي الحسن التميمي حيث قال بكراهية البيع تخريجاً على كراهية الاستعمال. فقد جاء في حاشية ابن القاسم على الروض المربع: " ... يحرم تحصيلها بنحو شراء أو إيهاب ولو لم يقصد الاستعمال ... "1. فما عليه أصل المذهب الحنبلي هو حرمة بيع أواني الذهب والفضة مطلقاً، بصرف النظر عن الغرض من اقتنائها واتخاذها. الموازنة: بمطالعة نصوص الفقهاء بشأن حكم الشرع فيما يتعلق ببيع أواني الذهب والفضة يتضح الآتي: 1- أن مذهب الحنفية، وكذا جمهور المالكية، وبعض الشافعية، وما عليه أصل مذهب الحنابلة، هو القول بحرمة بيع آنية الذهب والفضة ترتيباً على حرمة الاتخاذ والاستعمال لهذه الأواني. 2- أن بعض الشافعية ممن قال بجواز الاتخاذ لهذه الأواني، يقول هنا بصحة البيع، ومن هؤلاء القاضي أبو الطيب، ترتيباً على صحة وجواز اتخاذ آنية الذهب والفضة، وذكرت بعض كتب الشافعية أن هذا اتفاق الأصحاب. 3- أن بعض الشافعية يرى كراهية بيع هذه الأواني، مع خلاف في وصف وتكييف هذه الكراهية، بين قائل بأنها تحريمية، وقائل بأنها تنْزيهية، وأن القول بالكراهة هو ما عليه أبو الحسن التميمي الحنبلي. فالمسألة تخلص في مذاهب ثلاثة: الأول: حرمة بيع أواني الذهب والفضة مطلقاً، سواء كان ذلك للرجال والنساء، وسواء كان للأكل أو الشرب أو غيرهما، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء. الثاني: صحة بيع أواني الذهب والفضة، بناء على القول بجواز اتخاذها، وهذا ما

_ 1 ابن القاسم 1/103.

عليه بعض الشافعية كأبي الطيب. الثالث: كراهية بيع أواني الذهب والفضة، وهذا ما عليه بعض الشافعية، وهو قول أبي الحسن التميمي من الحنابلة. الأدلة: استدل القائلون بحرمة بيع أواني الذهب والفضة بنفس ما استدلوا به على حرمة اتخاذ هذه الأواني على نحو ما سبق، خاصة وأن أغلب أقوالهم بحرمة البيع جاءت تخريجاً على حرمة ما قالوه بالنسبة للاتخاذ والاستعمال. وتمسك أبو الطيب الشافعي ومن وافقه -فيما ذهبوا إليه من القول بصحة بيع آنية الذهب والفضة- بأن هذه الأواني تعتبر عيناً يصح بيعها، بناء على صحة اتخاذها واستعمالها، حيث تقرر عند هؤلاء أن ما صح اتخاذه صح بيعه، بل إن هذا يعد أصلاً عاماً تأكد تقريره، ولما كان مذهبهم إنما هو جواز الاستعمال والاتخاذ، كان قولهم هنا هو صحة بيع هذه الأواني. أما من قال بالكراهة كأبي الحسن التميمي فقد تمسك بنفس ما استند إليه الجمهور القائلون بحرمة بيع هذه الآنية، غير أنهم سلكوا مسلكاً خاصاً بهم يخدم دعواهم ووجهوا هذه الأدلة بما يقف عند حد الكراهية وعدم بلوغ الحكم درجة الحرمة الشرعية. والراجح في هذا: هو القول بعدم صحة بيع أواني الذهب والفضة مطلقاً على نحو ما ذهب إليه الجمهور، وذلك تأسياً على ما ترجح من القول بحرمة الاتخاذ والاستعمال لهذه الآنية في الأكل والشرب ونحوهما، فضلاً عن قوة ما استدلوا به، كما أن جواز البيع سيؤدي غالباً إلى الاتخاذ والاستعمال المحرمين فكان ما أدى إليه هو البيع محرماً هو الآخر سداً لذريعة المفاسد فيما بين الناس. والله تعالى أعلم.

المبحث الثاني: حكم المضبب بالذهب والفضة

المبحث الثاني: حكم المضبب بالذهب والفضة إن الحديث عن حكم الشرع بشأن المضبب بالذهب والفضة، متفرع على حكم الشرع في ذلك التضبيب بأحد النقدين، وهل هو حرام، أم أنه حلال، أم أنه مكروه، وهذا بدوره يستلزم ضرورة بيان حكم استعمال المضبب بالذهب أو الفضة أو المموه بأحدهما، ويتضح هذا من خلال المطالب الآتية: المطلب الأول: حكم استعمال المضبب بالذهب اختلف الفقهاء بشأن حكم استعمال المضبب بالذهب على النحو الآتي: مذهب الحنفية: أطلق علماء المذهب القول بإباحة استعمال السيف، والسكين، والمنطقة1 المضببة بالذهب، وقالوا بأنه لا بأس بشد فص الخاتم بمسمار من ذهب، لأنه تابع للفص، والعبرة بالأصل دون التبع، وعزو هذا القول لأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، في حين أن أبا يوسف من الحنفية يرى حرمة استعمال المضبب بالذهب مطلقاً باستثناء السيف والسكين والمنطقة المضببة بالذهب، فيباح استعمالها، وكذلك الخاتم الذي ثبت فصه بمسمار من ذهب، وقد خالف في هذا الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن - رحمهما الله - حيث قالا بإباحة استعمال الإناء المضبب بالذهب في الأكل والشرب وقد قيد صاحب الفتاوى الهندية هذا بعدم وضع فاه على موضع الذهب والفضة كما أنه أباح الجلوس على السرير والكرسي المضببين بالذهب، وقيد استعمال السرج واللجام والركاب المضبب بالذهب بعدم الجلوس على موضع الذهب والفضة.

_ 1 المِنْطَقة: اسم لما يسميه الناس الحياصة، والنطاق إزار فيه تكة تلبسه المرأة وقيل هو حبل تشد به وسطها للمهنة، ومنه قيل لأسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، لأنها كانت تطارق نطاقا على نطاق، وقيل كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتحمل في الآخر الزاد للنبي صلى الله عليه وسلم حين كان في الغار. المصباح المنير للفيومي 611-612 القاموس المحيط للفيروز آبادي 1195.

فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... وأما الإناء المضبب بالذهب فلا بأس بالأكل والشرب فيه عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو قول محمد ذكره في الموطأ، وعند أبي يوسف يكره، "وجه" قول أبي يوسف أن استعمال الذهب حرام بالنص، وقد حصل باستعمال الإناء فيكره "وجه" قولهما أن هذا القدر من الذهب الذي عليه هو تابع له والعبرة للمتبوع دون التابع كالثوب المعلم، ... وعلى هذا الخلاف الجلوس على السرير المضبب، والكرسي، والسرج، واللجام، والركاب، والتفر المضببة، وكذا المصحف المضبب على هذا الخلاف ... وأما السيف المضبب والسكين فلا بأس به بالإجماع، وكذلك المنطقة المضببة لورود الآثار بالرخصة بذلك في السلاح، ولا بأس بشد الفص بمسمار الذهب لأنه تبع للفص والعبرة للأصل دون التبع"1. وجاء في الفتاوى الهندية: "ولا بأس بالأكل والشرب في إناء مذهب ومفضض، إذا لم يضع فاه على الذهب والفضة وكذا المضبب من الأواني والكراسي إذا لم يقعد على الذهب والفضة، وكذا في حلقة المرآة من الذهب والفضة، وكذا المجمر واللجام والسرج والركاب إذا لم يقعد عليه، وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كره جميع ذلك، وقيل محمد رحمه الله معه، وقيل مع أبي حنيفة رحمه الله تعالى"2. مذهب المالكية: حرمة استعمال المضبب بالذهب مطلقاً، أي سواء كانت الضبة قليلة أم كبيرة، لحاجة أم لزينة، وإن كان هناك قول في المذهب بكراهية استعمال الإناء المضبب بالذهب في الأكل والشرب ونحو ذلك، وأن هذا فهم من قول الإمام مالك رحمه الله "لا يعجبني أن يشرب في إناء مضبب" وهذا يحتمل التحريم والكراهة، والظاهر هو الكراهة. فقد جاء في مواهب الجليل: " ... والأصح من القولين في المضبب وذي الحلقة المنع كما صرح به ابن

_ 1 الكاساني 5/132. 2 الشيخ نظام وجماعة 5/334.

الحاجب1 وابن الفاكهاني2 وغيرهما ... قال مالك في العتبية3 لا يعجبني أن يشرب في إناء مضبب، ولا ينظر في مرآة فيها حلقة، وهو يحتمل التحريم والكراهة، قال ابن عبد السلام4 وظاهره الكراهة وهو الذي عزاه المازري5، والمذهب عندنا كراهة الشرب في الإناء المضبب إذا كان يسيراً، قال بعض شيوخنا وعلة مجرد السرف لا تقتضي التحريم كأواني البلور التي لها الثمن الكثير واليا قوت، فإن استعمالها عندنا جائز غير حرام لكنه مكروه للسرف"6 فمذهب المالكية: في المضبب بالذهب هو الحرمة، وإن كان هناك قول بكراهة استعمال ذلك المضبب، وقد قال الإمام مالك: لا يعجبني الشرب في المضبب، وهذا

_ 1 هو الإمام الفقيه عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الدويني، المصري الدمشقي الاسكندراني، أبو عمرو المعروف بابن الحاجب، ويلقب بجمال الدين، مولده سنة 590?، كان عفيفا متواضعا، منصفا، محبا للعلم وأهله، ناشرا له، من تصانيفه الجامع بين الأمهات في الفقه والمختصر الفقهي والأصولي والشافية. توفي رحمه الله عام 646?. راجع: الديباج المذهب 2/86-89، الأعلام للزر كلي 4/211. 2 هو الإمام الفقيه عمر بن علي بن سالم بن صدقة اللخمي الاسكندري، تاج الدين الفاكهاني تفقه بابن المنير، مولده بالإسكندرية عام 654?،كان فقيها عالما بالحديث والفقه والأصول والعربية اشتغل بالفقه على مذهب الإمام مالك من مصنفاته التحرير والتحبير في شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني ورياض الأفهام توفي رحمه الله عام 734?. راجع: شجرة النور الزكية لمحمد بن مخلوف صفحة 204، الديباج المذهب لابن فرحون 2/80. 3 نسبة إلى الإمام محمد بن أجمد العتبي والتي جمعها من سماعه من الإمام سحنون وأصبغ بن حبيب وتسمى أيضا "المستخرجه" وكانت هذه العتيبة عدة الفتوى في بلاد الأندلس. راجع: الديباج المذهب لابن فرحون 2/177. 4 هو محمد بن عبد السلام بن يوسف من فقهاء المالكية، كان إماماً حافظاً عالماً بالحديث له أهلية الترجيح ولي قضاء الجماعة بتونس من تصانيفه "شرح جامع الأمهات لابن الحاجب" توفي سنة 749?. راجع الأعلام للزركلي 6/205، والديباج المذهب 2/329. 5 هو الفقيه المالكي، أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري، نسبة إلى مازر بلدة في صقلية، ولد رحمه الله بمدينة المهدية بإفريقية ولم يكن في عصره للمالكية أفقه منه ولا أقوم لمذهبهم، من مصنفاته شرح التلقين والمعلم بفوائد مسلم توفي رحمه الله عام 536?. راجع: الأعلام للزر كلي 6/277، الديباج المذهب 2/256. 6 الحطاب 1/129.

يحتمل أمرين أحدهما الحرمة والآخر الكراهة، وقد رجح ابن عبد السلام أن الظاهر إنما هو الكراهة، وقال المازري والمذهب عندنا كراهة الشرب في الإناء المضبب إذا كانت الضبة يسيرة. مذهب الشافعية: القول بحرمة استعمال المضبب بالذهب، وذلك في أصل المذهب، غير أنه قد وجد تفصيل بين فقهاء المذهب فيما يتعلق بمقدار الضبة والغرض منها. فقد جاء في مغني المحتاج: "وما ضبب من إناء بذهب أو فضة ضبة كبيرة وكلها أو بعضها وإن قل لزينة حرم استعماله واتخاذه ... " 1. وجاء في المهذب: "وأما المضبب بالذهب، فإنه يحرم قليله وكثيره، ... فإن اضطر إليه جاز ... " 2 وجاء في المجموع: "فرع" "إذا ضبب الإناء تضبيباً جائزاً فله استعماله مع وجود غيره من الآنية التي لا فضة فيها، وهذا لا خلاف فيه صرح به إمام الحرمين وغيره ... "3. فأساس مذهب الشافعية: حرمة استعمال المضبب بالذهب مع خلاف في المذهب بشأن مقدار الضبة والغرض منها، فنص مغني المحتاج حرمة الضبة من ذهب ومن فضة إذا كانت كبيرة وكانت لزينة كلها أو بعضها، في حين أن نص المهذب يفيد أنه يحرم استعمال ضبة الذهب على وجه التحديد قليلها وكثيرها على السواء، وأنه إذا اضطر إليه جاز، وقد علق المجموع حكم الاستعمال على حكم التضبيب ذاته. مذهب الحنابلة: القول بحرمة استعمال المضبب بالذهب مطلقاً، سواء كانت الضبة كبيرة أو صغيرة، باستثناء قبيعة4 السيف من الذهب، فإنها تباح، وهذا هو صحيح المذهب، وإن

_ 1 الشربيني 1/46. 2 الشيرازي 1/63. 3 النووي 1/315 – 317. 4 القبيعة: هي بفتح القاف وكسر الباء الموحدة وهي التي تكون على رأس قائم السيف وطرف مقبضه. راجع: المجموع للنووي 1/313. وجاء في مختار الصحاح: أن قبيعة السيف هي ما على مقبضه من ذهب أو فضة أو حديد. راجع: مختار الصحاح صفحة 241 مادة قبع.

كان الخلاف جارياً بشأن مقدار الضبة والغرض منها، وبالتالي حكم استعمالها. فقد جاء في الإنصاف: " ... الضبة من الذهب فلا تباح مطلقاً، وهو الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم، ... وقيل: يباح يسير الذهب، قال أبو بكر1: يباح يسير الذهب، ... وقيل يباح لحاجة، واختاره الشيخ تقى الدين وصاحب الرعاية2، وأطلق ابن تميم3 في الضبة اليسيرة من الذهب الوجهين، قال الشيخ تقى الدين: وقد غلط طائفة من الأصحاب حيث حكت قولاً بإباحة يسير الذهب تبعاً في الآنية عن أبي بكر، ... فائدة: حد الكثير ما عُدَّ كثيراً، على الصحيح من المذهب، وقيل: ما استوعب أحد جوانب الإناء، وقيل: ما لاح على بعد؛ ... يسيره بالشروط المتقدمة فتباح، وكثيره لغير حاجة فلا تباح مطلقاً على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب، وجزم به. واختار الشيخ تقي الدين الإباحة إذا كانت أقل مما هي فيه، وكثيره لحاجة4 فلا تباح على الصحيح من المذهب، وعليه الجمهور وهو ظاهر في المحرر5؛ ... وقيل لا يحرم اختاره ابن عقيل وهو مقتضى اختيار الشيخ تقي الدين بطريق الأولى، ... ويسيره لحاجة، فلا تباح على الصحيح من المذهب نص عليه وقطع به في الهداية ... " 6.

_ 1 هو أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المروذي عالم بالفقه والحديث كان من أجلّ أصحاب الإمام أحمد خصيصا بخدمته يأنس به الإمام توفي ببغداد سنة 275 هـ. راجع: الأعلام للزركلي 1/205. 2 هو ابن حمدان الحنبلي. 3 هو محمد بن تميم أبو عبد الله الحراني فقيه حنبلي، تفقه على الشيخ مجد الدين ابن تيمية وعلي أبي الفرح ابن أبي الفهم وناصر الدين البيضاوي وغيرهم، من تصانيفه "المختصر" وصل فيه إلى أثناء الزكاة هو يدل على علم صاحبه وفقه نفسه وجودة فهمه. راجع: طبقات الحنابلة لابن رجب 2/290. 4 جاء في المجموع: "أما الحاجة: فقال الأصحاب: المراد بها غرض يتعلق بالتضبيب سوى الزينة كإصلاح موضع الكسر ونحوه ولا يتجاوز به موضع الكسر إلا بقدر ما يتمسك به" راجع: النووي 1/314 – 315. 5 المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل لمجد الدين ابن تيمية أبي البركات المتوفى سنة652هـ. 6 المرداوي 1/82 – 83 – 84.

وجاء في كشاف القناع: "إلا المضبب بضبة يسيرة عرفاً، أي في عرف الناس، لأنه لم يرد تحديدها من فضة لحاجة1، كتشعيب قدح احتاج إلى ذلك فيجوز تشعيبه واستعماله؛ ... بخلاف الكبيرة والتي لغير حاجة، وعلم منه أن ضبة الذهب حرام مطلقاً ... ومباشرتها بدونها أي بدون الحاجة تكره، لأن فيها استعمالاً للضبة بلا حاجة في الجملة، ولا تحرم لإباحة الاتخاذ"2. فالخلاف حاصل في مذهب الحنابلة بشأن استعمال المضبب بالذهب على هذا النحو: فصحيح المذهب أن الضبة من الذهب لا يباح استعمالها مطلقاً أي سواء كانت قليلة أم كثيرة لحاجة أم لزينة، وهذا ما عليه الأصحاب في المذهب الحنبلي، وقال: أبو بكر بإباحة يسير الذهب، وقيل يباح لحاجة وهذا ما اختاره الشيخ تقي الدين وصاحب الرعاية، وقال ابن تميم بالوجهين، ونص كشاف القناع يفيد أن ضبة الذهب حرام مطلقاً. الموازنة: من خلال مطالعة نصوص الفقهاء بشأن حكم الشرع في استعمال المضبب بالذهب يتبين الآتي: أن الحنفية مختلفون بشأن هذه المسألة حيث يرى الإمام أبو حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني أنه لا بأس بالأكل والشرب في الإناء المضبب بالذهب، باعتبار أن المدار على المتبوع دون التابع، فطالما كان الإناء وهو المتبوع لا بأس به، كان التابع وهو القدر من الذهب في الضبة كذلك لا بأس به، في حين أن أبا يوسف يرى كراهية ذلك، وهذا الخلاف. يجري بالنسبة للكرسي والسرير واللجام ونحو ذلك، خلافاً للسكين والسيف ونحو

_ 1 الحاجة: أن يتعلق بها أي الضبة غرض غير زينة، بأن تدعو الحاجة إلى فعلها لا أن لا تندفع بغيرها، فتجوز الضبة المذكورة عند انكسار القدح ونحوه، ولو وجد غيرها أي غير الضبة اليسيرة من الفضة، لأن احتياجها إلى كونها من ذهب أو فضة بأن لا يجد غيرهما ضرورة، وهي تبيح المنفرد وتباح مباشرتها أي الضبة الجائزة لحاجة تدعو إلى مباشرتها كاندفاق الماء بدون ذلك ونحوه. راجع: كشاف القناع 1/65 – 66. 2 البهوتي1/65 – 66.

ذلك حيث لا بأس به على سبيل الإجماع. أن المالكية يرون حرمة استعمال المضبب بالذهب مطلقاً، سواء كانت قليلة أو كثيرة، لحاجة أو لزينة، وهناك رأي في المذهب يقول بكراهية استعمال الإناء المضبب بالذهب في الأكل والشرب خاصة. أن أساس مذهب الشافعية هو حرمة استعمال المضبب بالذهب، وإن كان الخلاف في مقدار الضبة والغرض منها. وأن صحيح مذهب الحنابلة أنه لا يباح استعمال الضبة من الذهب مطلقاً، سواء كانت قليلة، أم كثيرة، لحاجة، أم لزينة، وقال أبو بكر بإباحة يسير الذهب، وقيل يباح لحاجة. فخلاصة القول في مسألة استعمال المضبب بضبة الذهب تنحصر في مذهبين: المذهب الأول: يرى حرمة استعمال المضبب بالذهب، وإلى هذا ذهب المالكية، وهو أساس مذهب الشافعية، على خلاف وتفصيل بشأن مقدار الضبة، والغرض منها، وهو صحيح مذهب الحنابلة، وهذا ما ذهب إليه أبو يوسف من الحنفية. المذهب الثاني: يرى إباحة استعمال المضبب بالذهب، وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة ومحمد بن الحسن حيث عبرا عن هذا بأنه لا بأس به، وهو قول لأبي بكر من الحنابلة خاصة ما إذا كانت الضبة يسيرة، وفي قول عندهم إذا كانت الضبة لحاجة. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول القائلون بحرمة استعمال المضبب بالذهب بما يلي: 1- ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم". 2- وبما روي عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة". فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استعمال المتخذ من الذهب في الأكل والشرب، وهذا يفيد التحريم للوعيد الشديد الوارد في حديث أم سلمة، ويقاس على الأكل

والشرب غيرهما من وجوه الاستعمال كما سبق بيانه1 فتحرم كذلك، وما ضبب بذهب قد اشتمل على ذهب، وإذا حرم استعمال المتخذ من الذهب، فإنه يحرم استعمال المشتمل عليه كذلك. 3- فضلاً عن أن علة التحريم هي الفخر، والخيلاء، والسرف، وكسر قلوب الفقراء، وإذا كانت هذه هي علة التحريم، فإن الخيلاء والفخر وغيرهما من وجوه الاستعلاء والتجبر تكون موجودة في ذلك التضبيب، وأنها في الذهب أشد من الفضة2. واستدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بإباحة استعمال المضبب بالذهب بما يلي: 1- ما روي عن مزيدة العصري3 قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وعلى سيفه ذهب وفضة"4. فدل هذا الحديث على إباحة استعمال المضبب بالذهب، وقد استدل به الحنابلة على ما ذهبوا إليه من إباحة استعمال السيف إذا كانت قبيعته من الذهب. 2- فضلاً عن أن مقدار الذهب الذي تتخذ فيه الضبة تابع لما ضبب به، والعبرة للمتبوع دون التابع، كالثوب المعلم 5، والجبة المكفوفة 6 بالحرير7.

_ 1 في صفحة 285. 2 مغني المحتاج 1/46. 3 هو مزيدة - بوزن كبيرة - ابن جابر، وقيل ابن مالك العَصَري -بفتح المهملتين- العبدي صحابي مقل. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 2546، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 9/177. 4 الحديث أخرجه الترمذي برقم 1690 وقال هذا حديث حسن غريب، والطبراني في الكبير 20/46، راجع: نصب الراية للزيلعي 4/233. 5 الثوب المعلم: هو الذي عليه أعلام من حرير طرز بها. راجع: مختار الصحاح للرازي صفحة 62. 6 المكفوف: الثوب خاط حاشيته وهي الخياطة الثانية بعد الشّل، ويقال هو ما جعل له كفة، فكيف بها جوانبه ويعطف عليه، ويكون هذا في الذيل والفرّج والكمين، والمكفوف بالحرير هو ما اتخذ جبة من حرير وكان لذيله وأكمامه كفاف منه. راجع: مختار الصحاح للرازي صفحة 263، نيل الأوطار للشوكاني 2/87. 7 بدائع الصنائع 5/132....................الأصل أن يكون هنا=

والراجح في هذا: ما ذهب إليه القائلون بتحريم استعمال الأواني والآلات وغيرها المضببة بالذهب مطلقاً، سواء كانت الضبة كبيرة أو صغيرة، وهو ما عليه مذهب المالكية والشافعية وجمهور الحنابلة، لقوة ما استدلوا به، ولأنه لا حاجة إلى اتخاذ هذه الضبة من الذهب إذ يمكن اتخاذها من معدن آخر فتندفع الحاجة به، والله تعالى أعلم.

المطلب الثاني: حكم بيع المضبب بالذهب

المطلب الثاني: حكم بيع المضبب بالذهب ما سبق كان عن حكم الشرع بالنسبة لاستعمال الآنية المضببة بالذهب، وهذا الحكم على ما فيه من خلاف وما يترجح بشأنه، يخرج عليه حكم بيع المضبب بالذهب، بناء على أن عامة كتب الفقه فيما اطلعت عليه لم تنص صراحة على هذا اكتفاء منها بما تقرر بشأن اتخاذ واستعمال ما ضبب من الآنية بضبة الذهب. مذهب الحنفية: اختلف فقهاء الحنفية بشأن بيع المضبب بالذهب بناء على اختلافهم في استعماله فيرى الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن إباحة بيع المضبب بالذهب، مشياً على أن العبرة بالأصل دون التبع، فطالما كان الأصل مباحاً وبيعه لا منع منه، كان حكمه كذلك بعد أن ضبب بالذهب، سواء كان ذلك في السيف أو السكين أو المنطقة والسرج واللجام والركاب ونحو ذلك من آنية الأكل والشرب، في حين أن أبا يوسف رحمه الله يرى حرمة بيع المضبب بالذهب تخريجاً على قوله بحرمة استعماله واتخاذه، بناء على أن القول ببيعه يؤدي إلى استعماله، وهذا ممنوع عنده فما يعتبر ذريعة إليه ممنوع هو الآخر فكان البيع ممنوعاً. فقد ورد حكم الاستعمال للمضبب بالذهب عند الحنفية المخرج عليه حكم البيع هنا في بدائع الصنائع " ... وأما الإناء المضبب بالذهب فلا بأس بالأكل والشرب فيه عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو قول محمد ذكره في الموطأ، وعند أبي يوسف يكره "وجه" قول أبي يوسف أن استعمال الذهب حرام بالنص، وقد حصل باستعمال الإناء فيكره "وجه" قولهما إن هذا القدر من الذهب الذي عليه هو تابع له والعبرة للمتبوع دون التابع كالثوب

المعلم ... "1. مذهب المالكية: منع بيع المضبب بالذهب بحسب أصل المذهب المالكي، سواء كانت الضبة يسيره أم كثيرة، وسواء كانت لحاجة أم كانت لزينة، وإن كان هناك قول في المذهب استخلص من أن الإمام مالكاً يقول بأنه لا يعجبه الشرب في مثل هذا الإناء، ومفاد هذا القول كراهية البيع، بناء على كراهية الاستعمال، والأصح القول بمنع بيع المضبب بالذهب، فقد ورد حكم الاستعمال لهذا المضبب في مواهب الجليل " ... والأصح في القولين في المضبب وذي الحلقة المنع، كما صرح به ابن الحاجب وابن الفاكهاني وغيرهما ... "2. مذهب الشافعية: منع بيع المضبب بالذهب، بناء على أن الأصل في المذهب الشافعي حرمة استعمال ذلك المضبب على هذا النحو، وإن كان الخلاف فقط قد تعلق بمقدار الضبة المستخدمة بين من يقول بحرمة القليل، وأن شأنه في هذا شأن الكثير، وبين من بنى قوله في الاستعمال على مقدار الضبة، وعلى الغرض من استعمالها، فجوز القليل إن كان لحاجة، وبناء عليه قد خرج حكم بيع المضبب بالذهب عند الشافعية على حكم الاستعمال، ولما كان الأصل في المذهب حرمة الاستعمال مطلقاً سواء كانت الضبة يسيرة أم لا، وسواء كانت قليلة أم لا؟ فإن هذا يعتبر هنا هو أساس المذهب والأصل فيه مع مراعاة الخلاف في الضبة اليسيرة أو الكبيرة لحاجة بين من أجراها على الأصل، ومن قال بجواز الاستعمال على هذا النحو. فقد جاء في مغني المحتاج: "وما ضبب من إناء ذهب أو فضة ضبة كبيرة وكلها أو بعضها وإن قل لزينة حرم استعماله واتخاذه ... "3.

_ 1 الكاساني 5/132. 2 الحطاب 1/129. 3 الشربيني 1/46.

مذهب الحنابلة: منع بيع المضبب بالذهب، وذلك بحسب أصل المذهب الحنبلي، وما عليه الأصحاب في المذهب، وأن هذا شامل للضبة اليسيرة والكثيره على سواء، طالما كانت لزينة، وذلك بناء على ما استقر في أصل المذهب بالنسبة للاستعمال لمثل هذه الضبة، وذلك خلافاً لما عليه القاضي أبو بكر، وما اختار الشيخ تقي الدين، وصاحب الرعاية، بإباحة ذلك البيع. فقد جاء في الإنصاف حكم استعمال المضبب بضبة الذهب المخرج عليه حكم بيع ذلك المضبب، فجاء فيه: " ... الضبة من الذهب فلا تباح مطلقاً، وهو الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم، ... وقيل: يباح يسير الذهب ... "1. الموازنة: بمراجعة ما استقر عليه الفقهاء بشأن بيع المضبب بالذهب بناء على تخريجهم هذا الحكم على ما نصوا عليه من حكم الاستعمال يتضح الآتي: أن الحنفية مختلفون بشأن بيع المضبب بالذهب، بناء على خلافهم في أصل المسألة، وهو الاستعمال، فالإمام أبو حنيفة ومحمد بن الحسن على إباحة بيع ذلك المضبب بصرف النظر عن كم هذه الضبة أو الغرض من استعمالها، وذلك خلافاً لما عليه أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة من القول بكراهية بيع المضبب بالذهب تأسياً على قول كراهية استعماله. المالكية على حرمة بيع الإناء المضبب بالذهب مطلقاً بصرف النظر عن كم الضبة والغرض منها، وهناك رأي في المذهب يرى كراهية ذلك البيع. أن أصل مذهب الشافعية منع بيع المضبب بالذهب، مع خلاف طفيف بشأن مقدار الضبة والغرض منها، حيث يوجد قول في المذهب بأنه لا بأس بإباحة بيع الضبة اليسيرة للحاجة. الحنابلة على منع بيع المضبب بالذهب مطلقاً، تخريجاً على صحيح مذهبهم من

_ 1 المرداوي 1/82 – 83.

القول بعدم إباحة استعمال المضبب بالذهب، خلافاً لما عليه أبو بكر منهم بإباحة بيع الضبة اليسيرة خاصة لو كانت للحاجة. يتضح لنا أن العلماء لهم في مسألة بيع المضبب بالذهب آراء متعددة تخلص في مذهبين: المذهب الأول: يرى منع بيع المضبب بالذهب، وإلى هذا ذهب المالكية وما عليه أصل مذهب الشافعية، وصحيح مذهب الحنابلة وهو قول أبي يوسف من الحنفية. المذهب الثاني: يرى إباحة بيع المضبب بالذهب، وإلى هذا ذهب كل من الإمام أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن الشيباني، وهو قول لأبي بكر من الحنابلة خاصة ما إذا كانت الضبة يسيرة، وهو قول عند الحنابلة إذا كانت لحاجة. الأدلة: باعتبار أن حكم بيع الضبة من الذهب قد خرج على حكم استعمالها واتخاذها، فإن أدلة المذهب هنا هي ذات الأدلة التي تمسك بها كل بحسب قوله في الاستعمال، على نحو ما تقرر في المطلب السابق، ولذات السبب المقرر هنا وهو تخريج الحكم على سابقه باعتباره أصلاً فيه. الراجح في هذا: بعد مراجعة ما انتهى إليه الخلاف في أصل هذه المسألة، وهو ما ترجح لدى العلماء بشأن استعمال الأواني والآلات ونحوها مما ضبب بالذهب مطلقاً، يتضح هنا فيما تخرج عليه رجحان ما ذهب إليه أنصار المذهب الأول من القول بحرمة ومنع بيع المضبب بالذهب، وذلك لقوة ما تمسكوا به، ومنعاً لما يؤدي إلى كسر قلوب الفقراء بتداول هذه الأواني على هيئة تضبيبها بالذهب. والله تعالى أعلم.

المطلب الثالث: حكم استعمال المضبب بالفضة

المطلب الثالث: حكم استعمال المضبب بالفضة اختلف الفقهاء في حكم استعمال المضبب بالفضة 1على النحو الآتي: مذهب الحنفية: إباحة استعمال السيف والسكين والمنطقة المضببة بالفضة، وإباحة استعمال الإناء والكرسي والسرير وغيرها مما ضبب بالفضة قليلة كانت الضبة أو

_ 1 المضبب بالفضة له خصوصية في العرض على وجه خاص حيث إنه يشتمل على تجاوز وتسامح في الحكم الشرعي بعض الشيء، وهذا غير متحقق في المضبب بالذهب.

كثيرة، إذا كان يتقى موضع الضبة من هذه الأشياء. فقد جاء في بدائع الصنائع: "وأما السيف المضبب والسكين فلا بأس به بالإجماع، وكذا المنطقة المضببة، لورود الآثار بالرخصة بذلك في السلاح، ولا بأس بشد الفص بمسمار الذهب لأنه تبع للفص، والعبرة للأصل دون التبع، كالعلم للثوب ونحوه، ... وأما شد السن المتحرك بالذهب فقد ذكر الكرخي رحمه الله أنه يجوز، ولم يذكر خلافاً، وذكر في الجامع الصغير أنه يكره عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يكره، ولو شدها بالفضة لا يكره بالإجماع""1. فمذهب الحنفية: أنه لا بأس من استعمال السيف المضبب والسكين ونحو ذلك، وأنه لا يكره بالإجماع عند الحنفية شد السن المتحرك بالفضة. مذهب المالكية: كراهية الشرب في الإناء المضبب بالفضة. فقد جاء في مواهب الجليل: " ... وقال مالك في العتبية لا يعجبني أن يشرب في إناء مضبب، ولا ينظر في مرآة فيها حلقة، وهو يحتمل التحريم والكراهة، قال ابن عبد السلام وظاهره الكراهة، وهو الذي عزاه المازري للمذهب، وكذا بعض من تكلم على الخلاف، ... والمذهب عندنا كراهة الشرب في الإناء المضبب، كما كره النظر في مرآة فيها حلقة فضة، قال القاضي عبد الوهاب ويجوز عندنا استعمال المضبب إذا كان يسيراً، ... وعلة مجرد السرف لا تقتضي التحريم، كأواني البلور التي لها الثمن الكثير والياقوت فإن استعمالها عندنا جائز غير حرام لكنه مكروه للسرف انتهى ... "2. فمذهب المالكية: أن الإمام مالكاً لا يعجبه الشرب في إناء مضبب، وذكرت كتب المالكية أنه يحتمل التحريم ويحتمل الكراهة، غير أن الظاهر هو الكراهة، وقال صاحب مواهب الجليل إن المذهب كراهة الشرب في الإناء المضبب، وقال القاضي عبد الوهاب بجواز استعمال المضبب إذا كان يسيراً. مذهب الشافعية: يرى جمهور الشافعية أن ما ضبب بضبة كبيرة كلها أو بعضها

_ 1 الكاساني 5/132. 2 الحطاب 1/129.

لزينة حرم استعمالها، وإن كانت صغيرة بقدر الحاجة فلا يحرم للصغر، ولا يكره للحاجة، فإن كانت الضبة صغيرة وكلها أو بعضها لزينة، أو كانت كبيرة كلها لحاجة، جاز مع الكراهة فيهما، أما في الأولى فللصغر، ولقدرة معظم الناس على مثلها، وكره لفقد الحاجة، وأما الثانية فللحاجة وكره للكبر. فقد جاء في المهذب: "وأما المضبب بالفضة فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال إن كان قليلاً للحاجة لم يكره لما روى أنس رضي الله عنه: "أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشَّفة سلسلة من فضة"1 وإن كان للزينة كره لأنه غير محتاج إليه، ولا يحرم، لما روى أنس قال: "كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة، وقبيعة سيفه من فضة، وما بين ذلك حلق الفضة"2، وإن كثيراً للحاجة كره لكثرته، ولم يحرم للحاجة، وإن كان كثيراً للزينة حرم، لقول ابن عمر: "لا يتوضأ ولا يشرب من قدح فيه حلقة من فضة أو ضبة من فضة"3 ... ومن أصحابنا من قال: يحرم في موضع الشرب، لأنه يقع الاستعمال به، ولا يحرم فيما سواه، لأنه لا يقع به الاستعمال، ومنهم من قال يكره ولا يحرم، لحديث أنس في سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم"4. فمذهب الشافعية: أن استعمال المضبب بالفضة مختلف فيه بحسب ما إذا كان قليلاً أم لا؟ ولحاجة أم لا؟ في موضع شرب أم لا؟ وأن منهم من قال: إن كان قليلاً للحاجة لم يكره وإن كان للزينة كره، ومنهم من قال: إن كان كثيراً للحاجة: كره وإن كان للزينة حرم؛ ومنهم من قال: يحرم استعمال المضبب في موضع الشرب، ولا يحرم فيما سواه؛ ومنهم قال: يكره ولا يحرم.

_ 1 الحديث أخرجه البخاري برقم 2942. وفي "المهذب": "فاتخذ مكان الشفة" هو تصحيف، والصواب ما في صحيح البخاري وغيره "فاتخذ مكان الشعب" والمراد بالشعب الشق والصدع، وقوله: انكسر معناه انشق، والمراد أنه شد الشق بخيط فضة فصارت صورته صورة سلسلة وفي رواية البخاري فسلسله بفضة. راجع: المجموع: 1/313 2 الحديث أخرجه النسائي في سننه كتاب الزينة باب حلية السيف برقم 5374. 3 الأثر أخرج نحوه البيهقي في السنن 1/29. 4 الشيرازي 1/63 – 64.

مذهب الحنابلة: أن الضبة إن كانت كثيرة حرم الاستعمال، سواء كانت الضبة لحاجة أو لغيرها، وإن كانت يسيرة أبيح استعمال المضبب بها، واشترط أبو الخطاب لإباحة استعمال المضبب أن تدعو الحاجة إلى هذه الضبة، وقال القاضي يباح الاستعمال سواء دعت الحاجة إلى الضبة أو لم تدع، ويرون أنه تكره مباشرة موضع الفضة بالاستعمال حتى لا يكون مستعملاً لها. فقد جاء في الإنصاف: قوله: "إلا أن تكون الضبة يسيرة من الفضة". استثنى للإباحة مسألة واحدة؛ لكن بشروط: منها: أن تكون ضبة، وأن تكون يسيرة، وأن تكون لحاجة، ولم يستثنها المصنف، لكن في كلامه أومأ إليها، وأن تكون من الفضة ولا خلاف في جواز ذلك، بل هو إجماع بهذه الشروط، ولا يكره على الصحيح من المذهب، وقيل: يكره. فائدة: في "الضبة" أربع مسائل، كلها داخلة في كلام المصنف في المستثنى والمستثنى منه يسيرة بالشروط المتقدمة، فتباح، وكثيرة لغير حاجة فلا تباح مطلقاً على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب وجزم به، واختار الشيخ تقي الدين الإباحة إذا كانت أقل مما هي فيه، وكثيرة لحاجة، فلا تباح على الصحيح من المذهب وعليه الجمهور ... ويسيره لحاجة: فلا تباح على الصحيح من المذهب، نص عليه، ... وإن كان التضبيب بالفضة وكان يسيراً على قدر حاجة الكسر فمباح، ... قال في تجريد العناية1: لا تباح اليسيرة لزينة في الأظهر وقيل: لا يحرم، اختاره جماعة من الأصحاب"2. فمذهب الحنابلة: استثناء الضبة اليسيرة من الفضة واعتبار استعمالها مباحاً، غير أن هذا مشروط بعدة شروط: أن تكون ضبة، وأن تكون يسيرة، وأن تكون لحاجة،

_ 1 تجريد العناية في تحرير أحكام النهاية للقاضي علاء الدين ابن اللحام، اعتمده المردواي كما في مقدمة الإنصاف1/15 والنهاية لابن رزين وقد حقق في رسالة ماجستير في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض. راجع: معجم مصنفات الحنابلة للدكتور عبد الله الطريقي 4/262. 2 المرداوي 1/82 - 83.

وأن تكون من الفضة، وأنه لا خلاف في جواز هذا الاستعمال على وجه تحقيق هذه الشروط، وأن هذا لا يكره على الصحيح من المذهب، وقيل يكره. الموازنة: بمطالعة كتب الفقهاء على اختلاف مذاهبها بشأن استعمال المضبب بالفضة يتضح الآتي: أن الحنفية يرون إباحة استعمال المضبب بالفضة، وأنه لا بأس بشد السن المتحرك بضبة من فضة. أن الظاهر من مذهب المالكية كراهية استعمال المضبب والشرب فيه، وأن هذا يقابله احتمال القول بالتحريم، وأن هذين الاحتمالين فهما من قول الإمام مالك أنه لا يعجبه الشرب في إناء مضبب، وإن كان القاضي عبد الوهاب المالكي يقول بجواز استعمال المضبب إذا كان يسيراً. أن الخلاف حاصل لدى الشافعية بشأن استعمال المضبب بالفضة، وذلك بحسب ما إذا كان قليلاً أو كثيراً، فإن كانت قليلة وكانت للحاجة لم يكره ذلك الاستعمال، وإن كانت للزينة كره، وإن كانت كثيرة لحاجة كره، وللزينة حرم، ومنهم من قال بأنها يحرم استعمالها في موضع الشرب، ولا يحرم فيما سواه. أن الحنابلة قد استثنوا الضبة اليسيرة من الفضة، وقالوا بإباحتها طالما كانت ضبة يسيرة لحاجة، وكانت من فضة، وقيل بكراهية ذلك. والصحيح عدم الكراهة. فخلاصة ما قاله الفقهاء في هذه المسألة يتلخص في مذهبين: المذهب الأول: يرى إباحة استعمال المضبب بالفضة، وإلى هذا ذهب الحنفية وما قال به القاضي عبد الوهاب المالكي إذا كانت الضبة يسيرة، وما قال به الشافعية في الضبة اليسيرة للحاجة، خاصة ما إذا لم تكن في موضع الشرب على نحو ما ذكر بعضهم، وهذا ما عليه الحنابلة عند تحقق شروط هذه الإباحة. المذهب الثاني: يرى كراهية استعمال المضبب بالفضة، وإلى هذا ذهب المالكية في صحيح مذهبهم والشافعية، سواء كانت قليلة للزينة أو كثيرة لحاجة، وهو قول عند الحنابلة.

الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول على إباحة استعمال المضبب بالفضة بما يلي: 1- بما روي عن عاصم الأحول1 قال: "رأيت قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك وكان قد انصدع، فسلسله بفضة، وقال أنس: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا"2. 2- بما روي عن أنس رضي الله عنه قال: "كانت قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم من فضة"3. لقد أفاد الحديثان جواز استعمال المحلى أو المضبب بالفضة، وقد استدل بالحديث الأول من يقصر حل الاستعمال على اليسير من الضبة، وقال: إن موضع الشعب من القدح كان يسيراً، ولهذا جاز ما كان في مقداره. 3- أن الحاجة تدعو إلى هذه الضبة، فإذا كانت يسيرة فلا يكون فيها سرف، ولا خيلاء، فكانت بمثابة الضبة من الصفر4. استدل أصحاب المذهب الثاني على كراهة استعمال المضبب بالفضة بما يلي: 1- حديثا أم سلمة وحذيفة بن اليمان السابقان، اللذان يدلان على كراهة الأكل والشرب في أواني الفضة، ويقاس على الأكل والشرب فيهما وجوه الاستعمال المختلفة كما قال الجمهور، وإذا كره استعمال المتخذ من الفضة فإن هذا الاستعمال

_ 1 هو عاصم بن سليمان بن الأحول، أبو عبد الرحمن البصري ثقة. تقريب التهذيب لابن حجر صفحة 159. 2 الحديث أخرجه البخاري برقم 5315. 3 الحديث أخرجه الترمذي برقم 1691، وأبو داود برقم 2583، 2584، والنسائي برقم 5373، 5375، كلهم من طريق جرير عن قتادة عن أنس به، وأيضا عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن مرسلا، قال الحافظ ابن حجر: ورجحه – أي الإرسال – أحمد وأبو داود والنسائي وأبو حاتم والبزار والدارمي والبيهقي. اهـ. وله شاهد من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف أخرجه النسائي الكبرى 5/508 برقم 9815، وقال الحافظ عنه: إسناده صحيح. راجع: التلخيص الحبير 1/52. 4 راجع: كشاف القناع للبهوتي 1/63، والمغني لابن قدامة 1/78.

يحصل باستعمال المضبب بها فيكره ذلك. 2- بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه كان لا يشرب في قدح فيه حلقه أو ضبة من فضة"1. 3- بما روي عن عائشة رضي الله عنها: "أنها نهت أن تضبب الآنية، أو تحلق بالفضة"2. لقد كان امتناع ابن عمر عن الشرب من قدح فيه حلقة أو ضبة من فضة، ونهي عائشة عن تضبيب الآنية أو تحلقيها بالفضة، لا يكون منهما إلا عن توقيف، لأنه لا مدخل للرأي فيه، فدل هذان الأثران على كراهة استعمال المضبب بالفضة. والراجح في هذا: هو ما ذهب إليه القائلون بإباحة استعمال المضبب بالفضة إذا كانت الضبة يسيرة ودعت الحاجة إليها، على نحو ما ذهب إليه جمهور الحنفية والشافعية والحنابلة ومن وافقهم من المالكية كالقاضي عبد الوهاب، لقوة ما استدلوا به، فضلاً عن أن هذه الضبة تابعة لما ضبب بها فأبيحت، لأن العبرة بالمتبوع دون التابع، وأن الحاجة تدعو إلى هذه الضبة، فإن كانت يسيرة فلا يكون سرفاً ولا خيلاء. وأما ما استدل به القائلون بكراهة استعمال المضبب من حديثي أم سلمة وحذيفة فلا دلالة فيهما على ذلك، لأنه لم يرد فيهما النهي صراحة عن استعمال المضبب بالفضة أو ذكر حكم التضبيب بها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

_ 1 السنن الكبرى للبهقي 1/29. 2 الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 5/105.

المطلب الرابع: حكم بيع المضبب بالفضة

المطلب الرابع: حكم بيع المضبب بالفضة اكتفت كتب الفقه المختلفة حسب ما اطلعت عليه بالنص على حكم استعمال واتخاذ المضبب بالفضة، وما جرى بشأن ذلك من خلاف بين العلماء على نحو ما تقرر في المطلب السابق، ولهذا فلا مناص من تخريج حكم بيع ذلك المضبب واستخلاص حكمه مما ذكره العلماء بشأن استعمال ذلك المضبب، فالخلاف هناك له أثره هنا على

نحو ما يلي: مذهب الحنفية: إباحة بيع المضبب بالفضة من نحو السيف والسكين والمنطقة المضببة، وقالوا: إن العبرة في عين ذلك المضبب بالفضة، فطالما كان الأصل مباحاً في استعماله واتخاذه، كان التابع كذلك، وأن هذا الحكم يسري بعينه في البيع، فلا بأس من بيع المضبب بالفضة عندهم، بناء على جواز استعماله وتخريجاً عليه. مذهب المالكية: كراهية بيع الإناء المضبب بالفضة، وأن هذا لا يعجب الإمام مالكاً على نحو ما ورد في العتبية بشأن الأكل والشرب في الإناء المضبب بالفضة، المعتبر أصلاً لحكم الشرع بالنسبة لبيع هذا الإناء على هذا النحو تخريجا للحكم هناك على ما استقر عند المالكية هناك؛ وعند القاضي عبد الوهاب المالكي جواز بيع ذلك الإناء بناء على جواز الأكل والشرب فيه عنده إذا كانت الضبة يسيرة. مذهب الشافعية: حرمة بيع المضبب بالفضة، وهذا ما عليه جمهور فقهاء الشافعية إذا كانت الضبة كبيرة كلها أو بعضها لزينة، وإن كانت لحاجة فإن بيعها لا يكون محرماً بل يقف عند حد الكراهة، وهذا الحكم تخريجاً على ما قاله جمهور الشافعية بشأن استعمال واتخاذ المضبب بالفضة، واستخلاصاً لحكم غير المنصوص مما شمله النص الشرعي. مذهب الحنابلة: إباحة بيع المضبب بالفضة بناء على قولهم بإباحة استعمالها واتخاذها، وأن هذا الحكم مشروط بعدة شروط منها: أن تكون الضبة يسيرة، ولحاجة، ومن الفضة، وأن الصحيح في المذهب الحنبلي عدم كراهية البيع المتحقق فيه هذه الشروط، وقيل يكره ذلك البيع. الموازنة: بمراجعة ما تم استخلاصه وتخريجه في مسألة بيع المضبب بالفضة يتضح الآتي: أن الحنفية يرون أنه لا بأس من بيع المضبب بالفضة، بناء على إباحة استعماله واتخاذه.

أن ظاهر مذهب المالكية كراهة بيع المضبب، تخريجا على قولهم بهذا في حكم استعماله واتخاذه؛ وهناك وجه مقابل لهذا على القول بتحريم ذلك البيع، وإن كان القاضي عبد الوهاب المالكي يرى أن ذلك البيع جائز. أن الخلاف عند الشافعية تشعب كثيراً ما بين من قال بعدم كراهية بيع المضبب، طالما كان قليلاً ولحاجة، وإن كان للزينة، أو كان كثيراً، فإن بيعه يكون مكروهاً حتى ولو كان لحاجة، ومنهم من قال إن بيعه للزينة محرم مطلقاً، أي قليلا كان أم كثيراً، ومنهم من يقول بأنه يحرم بيعه للشرب ولا يحرم فيما سواه. أن الصحيح عند الحنابلة عدم كراهة بيع المضبب بالفضة، وقيل إن هذا البيع مكروه. وعلى هذا فمسألة بيع المضبب بالفضة يحكمها مذهبان مخرجان على خلاف العلماء بشأن أصل هذه المسألة، وهو حكم استعمال واتخاذ المضبب بالفضة. المذهب الأول: يرى إباحة بيع المضبب بالفضة، وإلى هذا ذهب الحنفية، وهو قول القاضي عبد الوهاب المالكي إذا كانت الضبة يسيرة، وهو قول الشافعية إذا كانت الضبة يسيرة، ولحاجة، وفي غير موضع الشرب، وهذا ما عليه الحنابلة عند تحقق شروط هذه الإباحة عندهم. المذهب الثاني: يرى أن بيع المضبب بالفضة مكروه، وهذا ما عليه صحيح مذهب المالكية، وهو قول للشافعية، ورواية للحنابلة. الأدلة: لما كان حكم بيع المضبب بالفضة مخرجاً على حكم الاستعمال والاتخاذ، فقد كانت الآراء في المسألة هي ذات الآراء، وعليه فإن الأدلة التي استند إليها كل فريق هي ذات الأدلة هنا، ووجه الاستدلال بها لا يخرج عما سبق بيانه حيث كان وجه الدعوى واحداً. الراجح في هذا: هو القول بإباحة بيع المضبب بالفضة خاصة إذا كانت الضبة يسيرة، وكانت لحاجة داعية إليها حيث لا سرف فيها ولا خيلاء، وأن الحكم يكون للأصل وهو المتبوع دون التابع وهو الضبة، والله تعالى أعلم.

المطلب الخامس: حكم استعمال المموه بالذهب والفضة

المطلب الخامس: حكم استعمال المموه بالذهب والفضة اختلف الفقهاء في حكم استعمال المموه بالذهب أو الفضة في الأكل والشرب أو غيرهما على نحو ما يأتي: مذهب الحنفية: حل وإباحة استعمال المموه بالذهب والفضة والانتفاع به، إذا كان لا يخلص منه شيء، سواء كان ذلك مستعملاً في الأكل، أو في الشرب، أو غيرهما. فقد جاء في بدائع الصنائع: "وأما الأواني المموهة بماء الذهب والفضة الذي لا يخلص منه شيء فلا بأس بالانتفاع بها في الأكل والشرب وغير ذلك بالإجماع، وكذا لا بأس بالانتفاع بالسرج، والركاب، والسلاح، والسرير، والسقف المموه، لأن التمويه ليس بشيء"1. فمذهب الحنفية: على أنه لا بأس باستعمال المموه، سواء كان التمويه بالذهب أو بالفضة، لأن التمويه لا أثر له لقلته. مذهب المالكية: حرمة استعمال المموه بالذهب أو الفضة، وأنه يحرم كذلك استعمال المطعم بذهب أو فضة أو المكفف بها، واستظهر ابن عبد السلام في المموه الإباحة، وتردد في المغشي، ويرجح الناقل عنه المنع. فقد جاء في مواهب الجليل: "وفي المغشي والمموه" 2 ... قال في التوضيح تردد ابن عبد السلام في المغشي، واستظهر في المموه الإباحة لأنه ليس بإناء ذهب، انتهى.

_ 1 الكاساني 5/133. 2 المغشي: إناء من ذهب أو فضة غطي برصاص أو نحاس أو غيره. والمموه: إناء نحاس أو رصاص طلي بفضة أو ذهب. راجع: مختار الصحاح للرازي 223 – 291، مواهب الجليل للحطاب 1/ 128 – 129، وفي جواهر الإكليل نفس المعنى حيث ورد فيه أنه بضم الميم وفتح الثانية أي المطلية بذهب أو فضة. راجع: جواهر الإكليل للأزهري 1/34.

قلت: بل في كلام ابن عبد السلام ميل إلى ترجيح المنع في المغشي، وأما المموه فالأظهر فيه الإباحة والمنع بعيد ... "1. فقد تردد ابن عبد السلام بالنسبة للمغشي غير أنه قد استظهر في المموه الإباحة، معللاً هذا بأن ما حدث به التمويه لا يجعل الإناء إناء ذهب حتى يمنع، ويرى المصنف في قول ابن عبد السلام المنع في المغشي. مذهب الشافعية: اختلف فقهاء الشافعية بشأن استعمال المموه بالذهب أو الفضة، فيرى أكثرهم حل استعماله، والانتفاع به، بشرط ألا يحصل من المموه شيء عند العرض على النار، وإلا فإن حصل منه شيء فإن استعماله يكون محرماً، وذلك لكثرته، وهذا هو الأصح. ويرى البعض أن المموه إذا حك فاجتمع منه شيء حرم، وإلا فلا، وهو قريب من القول الأول، بناء على كثرة التموية من عدمه. ومقابل الأصح أن استعمال المموه حرام مطلقاً، سواء كان قليلاً أم كثيراً، وذلك للخيلاء وكسر قلوب الفقراء. فقد جاء في مغني المحتاج: "ويحل المموه أي المطلي بذهب أو فضة، ومنه تمويه القول: أي تلبيسه. فإن موَّه غير النقد كإناء نحاس وخاتم وآلة حرب منه بالنقد ولم يحصل منه شيء ولو بالعرض على النار، أو مموَّه النقد بغيره أو صدئ مع حصول شيء من المموه به أو الصدأ حل استعماله في الأصح ... فإن حصل شيء من النقد في الأولى لكثرته، أو لم يحصل شيء من غيره في الثانية لقلته، حرم استعماله ... "2. وفي نهاية المحتاج: " ... ويحل الإناء المموه أي المطلي بذهب أو فضة أي يجوز استعماله في الأصح لقلة المموَّه به فكأنه معدوم. والثاني يحرم للخيلاء وكسر قلوب الفقراء، فإن كثر المموَّه به بأن كان يحصل منه شيء بالعرض على النار حرم ... "3. مذهب الحنابلة: اختلف الحنابلة بشأن حكم استعمال واتخاذ المموه والمطلي

_ 1 الحطاب 1/128 – 129. 2 الشربيني 1/46. 3 الرملي 1/104.

بالذهب أو الفضة، فالصحيح في المذهب أنه يحرم استعمال المموه بالذهب أو الفضة، أو المطعم بأحدهما، أو المطلي، أو المكفت بشيء من ذلك، وقيل إن هذا الاستعمال غير محرم، وقيل إن بقي لون الذهب أو الفضة حرم، وإلا فلا، وقيل إن اجتمع منه شيء عند حكه حرم وإلا فلا بناء على الكثرة والقلة. فقد جاء في الإنصاف: "حكم المموه والمطلي، والمطعم، والمكفف ونحوه بأحدهما كالمصمت على الصحيح من المذهب؛ وقيل: لا، وقيل: إن بقي لون الذهب أو الفضة، وقيل: واجتمع منه شيء إذا حُكُّ حرم، وإلا فلا ... "1. وجاء في كشاف القناع: " ... ويحرم اتخاذ واستعمال إناء مموه بذهب أو فضة ... ويحرم اتخاذ واستعمال إناء ونحوه مطعم بذهب أو فضة، ... ويحرم اتخاذ واستعمال إناء ونحوه مطلي بذهب أو فضة، ... ويحرم اتخاذ واستعمال إناء ونحوه مكفت كالمنقوش منهما أي من الذهب والفضة أو من أحدهما"2 الموازنة: إن من يطالع كتب الفقه المختلفة بشأن المموه والمطلي ونحوهما بالذهب والفضة، يتضح له الآتي: أن مذهب الحنفية يرى أنه لا بأس من استعمال المموه بالذهب أو بالفضة في الأكل ونحوه، معللين ذلك بأن طبيعة التموية تكون قليلة بالنسبة لأصل الشيء الحاصل له التمويه ولهذا فلا أثر لها. أن أصل مذهب المالكية على حرمة استعمال المموه بالذهب أو بالفضة، وكذلك الشأن بالنسبة للمطعم، وإن كان ابن عبد السلام قد استظهر في المموه الإباحة. أن فقهاء الشافعية مختلفون بشأن استعمال المموه فعند أكثرهم أن الأصل في هذا الاستعمال هو الإباحة إلا إذا أثر التمويه على الاستعمال، بأن كان كثيراً

_ 1 المرداوي 1/81. 2 البهوتي 1/64.

ملحوظاً، فإنه يكون حراماً، وهذا هو الأصح في المذهب، ومقابل الأصح أن استعمال المموه حرام مطلقاً. أن الحنابلة صحيح مذهبهم حرمة استعمال المموه والمطلي والمطعم مطلقاً، أي سواء كان بالذهب أم لا، وسواء كان كثيراً أم كان قليلاً، وهناك رأي في المذهب يرى أنه غير محرم على الإطلاق، وقيل إن بقي لون الذهب أو الفضة حرم وإلا فلا. وقيل إن اجتمع عند حكه حرم وإلا فلا. هذا بمراعاة أن إطلاق الفقهاء لهذه الأحكام شامل لحكم استعمال المموه والمطلي والمطعم بالذهب أو الفضة القليل والكثير على السواء. وبناء عليه فالمسألة فيها مذهبان: المذهب الأول: يرى حل استعمال المموه بالذهب أو الفضة، وهذا ما ذهب إليه الحنفية، وهو قول ابن عبد السلام من المالكية، وقول الشافعية في الأصح عندهم، وهو قول عند الحنابلة. المذهب الثاني: يرى حرمة استعمال المموه، وهذا هو أصل مذهب المالكية والحنابلة، ومقابل الأصح عند الشافعية، وقول عند الشافعية والحنابلة، إذا كان التموية كثيراً. هذا وإطلاق الفقهاء لهذه الأحكام شامل لحكم استعمال المموه والمطلي والمطعم بالذهب أو الفضة سواء كان ذلك قليلاً أو كثيراً، وإن كان المالكية يفرقون بين المموه. والمغشى حيث تردد ابن عبد السلام في المغشى واستظهر الإباحة في المموه. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول القائلون بحل استعمال المموه بالذهب أو الفضة بما يلي: 1- أن المموه بالذهب أو الفضة إذا عرض على النار ولم يحصل شيء من المعدن المموه به فهذا يدل على قلة المموه به وكأنه معدوم، ومثل هذا لا يؤدي إلى خيلاء أو كسر لقلوب

الفقراء1. 2- أن التمويه ليس بشيء، لأنه لا يخلص منه شيء من المعدن المموه به، ولهذا فلا يحرم استعمال المموه به2. واستدل أصحاب المذهب الثاني على حرمة استعمال المموه بالذهب أو الفضة بما يلي: 1- بما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب في إناء ذهب أو فضة أو من إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم" 3. فقد بين هذا الحديث الشريف الوعيد الشديد لمن يشرب في إناء فيه شيء من الذهب أو الفضة، والذي يتمثل في تجرعه نار جهنم، وهذا الوعيد لا يكون إلا على فعل أمر حرمه الشارع، فدل هذا على حرمة استعمال المموه بالذهب أو الفضة، لأن فيه شيئاً من هذين المعدنين. 2- أن العلة التي من أجلها حرم المتخذ من الذهب أو الفضة وهو الخيلاء وكسر قلوب الفقراء توجد في المموه بأي من هذين المعدنين فحرم استعماله4. والراجح في هذا: هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول، خاصة ما تقرر عند الشافعية من تحفظ في الاستعمال للمموه بالذهب أو الفضة في وجوه الاستعمال المختلفة، على نحو ما ذهب الحنفية في إطلاق الاستعمال إذا كان ذلك التمويه قليلاً لا يجتمع منه شيء إذا حك أو عرض على النار، ولأن هذا التمويه لا يعد سرفاً، ولا يترتب عليه ما يترتب على ما اتخذ بكامله من الذهب والفضة، والله تعالى أعلم.

_ 1 نهاية المحتاج 1/104. 2 بدائع الصنائع 5/133. 3 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى صفحة 29. 4 راجع كشاف القناع 1/64.

المطلب السادس: حكم بيع المموه بالذهب أو الفضة

المطلب السادس: حكم بيع المموه بالذهب أو الفضة لم أجد فيما اطلعت عليه من كتب الفقه المختلفة النص الصريح على حكم بيع

المموه بالذهب أو الفضة1، وعلى هذا فإن حكم البيع يخرج على حكم الاستعمال والاتخاذ باعتبار أن العلاقة وطيدة بين البيع والاستعمال، فمن ناحية يعتبر البيع وسيلة للاستعمال، كما أن البيع في ذات الوقت يترتب حكمه على حكم هذا الاستعمال. مذهب الحنفية: إباحة بيع المموه بالذهب أو الفضة، بناء على قولهم بأنه لا بأس من استعماله واتخاذه، واستناداً على أن طبيعة التمويه تكون يسيرة بالنسبة لأصل الشيء، ولهذا فلا أثر لها على الأصل حيث كان هو المتبوع والعبرة به بيعاً وتعاملاً واستعمالاً واتخاذاً. مذهب المالكية: حرمة بيع المموه بالذهب أو الفضة، تأسياً على حرمة اتخاذه واستعماله، وهذا بحسب أصل المذهب المالكي، وإن كان ابن عبد السلام من المالكية يرى إباحة بيعه بناء على قوله بإباحة استعماله واتخاذه باعتبار أن التمويه لا أثر له لقلته. مذهب الشافعية: في الأصح إباحة بيع المموه بالذهب أو الفضة، ومقابل الأصح أن بيع المموه بالذهب أو الفضة حرام بناء على حرمة استعماله عندهم. مذهب الحنابلة: اختلف فقهاء الحنابلة بشأن بيع المموه بالذهب أو الفضة، بناء على الخلاف الحاصل بينهم بشأن استعمال واتخاذ ذلك المموه. فصحيح مذهبهم حرمة بيعه مطلقاً قليلاً كان أم كثيراً. الموازنة: بمراجعة ما سبق تخريجاً واستخلاصاً يتضح أن آراء العلماء بشأن بيع المموه بالذهب والفضة تنحصر في مذهبين: المذهب الأول: يرى حل وإباحة بيع المموه بالذهب والفضة، باعتبار أن التمويه بطبيعته يسير ولا أثر له، وهذا ما ذهب إليه الحنفية، وابن عبد السلام من المالكية، وقول للشافعية في الأصح عندهم، وقول للحنابلة.

_ 1 من هذه الكتب: بدائع الصنائع للكاساني، والهداية للمرغيناني، ومواهب الجليل للحطاب، ومغني المحتاج للشربيني، والإنصاف للمرداوي، والمغني لابن قدامة وغير ذلك.

المذهب الثاني: يرى حرمة بيع المموه بالذهب والفضة، وهذا ما قال به أصل مذهب المالكية والحنابلة، ومقابل الأصح عند الشافعية. الأدلة: استدل كل فريق على ما ذهب إليه بنفس ما استدلوا به في أصل هذه المسألة، وهو ما قالوا به بشأن استعمال واستخدام المموه بالذهب والفضة باعتبار أن تلك المسألة أصل لما نحن بشأنه هنا تأصيلاً واستدلالاً. الراجح في هذا: تأصيلاً على ما سبق يتضح رجحان ما ذهب إليه أنصار المذهب الأول من القول بحل وإباحة بيع المموه بالذهب، بناء على كونه يسيراً ولا أثر له، وباعتبار أن الراجح في أصل الخلاف هو إباحة الاستعمال لهذا المموه، والله تعالى أعلم.

المطلب السابع: حكم اتخاذ خاتم وساعة الذهب المعدين للرجال واستعمالهما

المطلب السابع: حكم اتخاذ خاتم وساعة الذهب المعدين للرجال واستعمالهما اتفق الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أن تحلي الرجال بالذهب حرام، وأن التحلي والتزين بالذهب خاص بالنساء، وبناء على هذا فإذا كان الذهب يصاغ أو يصنع ليلبسه الرجال خاصة فإنه يحرم لبسه وكذا يحرم بيعه كالخواتم الذهبية الخاصة بالرجال المعروفة عند الصاغة. مذهب الحنفية: النص على كراهية التزين بالذهب بالنسبة للرجال، وهو يشمل كالتختم ونحو ذلك كلبس ساعة من ذهب ونحوها. فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... يكره للرجال التزين بالذهب كالتختم ونحوه ولا يكره للمرأة ... "1. مذهب المالكية: عدم جواز تختم الرجال بالذهب وكذا التختم بالنحاس والحديد ونحو ذلك. جاء في مواهب الجليل: " ... مسألة التختم بالذهب ... لا يجوز – قال البرزلي المنقول أن الذهب لا يجوز، واختلف إذا كان فيه مسمار ذهب، وأما النحاس والحديد

_ 1 الكاساني 5/132 – 133.

فمكروه، حكاه ابن رشد وغيره، ومثل ذلك القزدير والرصاص، وأخذ من قوله "التمس ولو خاتماً من حديد" الجواز ... وخاتم الفضة مستحب، ويستحب جعله في اليد اليسرى "قلت" عن بعض الأوائل كراهته إلا لضرورة الطبع كما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاء المسلمين بعده، وقال شيخنا الفقيه الإمام وهذا إذا اتخذ للسنة، وأما اليوم فلا يفعله غالباً إلا من لا خلاق له، أو يقصد به غرض سوء، فأرى أنه لا يباح لمثل هؤلاء اتخاذه، لأنه زينة لمعصية، أو لمباهاة، لا لقصد حسن ... "1. فمذهب المالكية: أن التختم بالذهب للرجال لا يجوز، ولو أن النص لم يخص الرجال بالذكر فإن هذا مفهوم من الأصل العام من إباحة تزين المرأة بالذهب ونحوه، فالكلام يخص الرجال هنا، والحكم خاص بهم دون النساء من الأمة. مذهب الشافعية: أنه يحرم على الرجال التزين بالذهب باعتبار الأصل في المسألة وهو المنصوص عليه شرعاً وأنه لم يبح هذا إلا للنساء فقط دون الرجال، وعلى هذا فالتختم بالذهب هو الآخر مشمول بذات الحكم وهو الحرمة. ففي مغني المحتاج: ".. ويحرم على الرجال حلي الذهب ولو في آلة الحرب ... "2. مذهب الحنابلة: حرمة التختم بالذهب للرجال، حتى ولو كان ذلك يسيراً، وأن هذا على عكس التختم بغير الذهب. ففي كشاف القناع: " ... وكذلك يباح فص الخاتم جوهره ولو بلغ ثمنها مهما بلغ، ويحرم ذهباً ولو كان يسيراً"3. الموازنة: بمراجعة ما قاله الفقهاء بالنسبة لتختم الرجال بالذهب نجد أن عامة أهل العلم وكافة الفقهاء يرون منع تختم الرجال بالذهب، وأن هذا لم يبح سوى للنساء، وأن جمهورهم عبر عن هذا بالحرمة، في حين أن الحنفية قد عبروا عنه

_ 1 الحطاب 1/126 – 127. 2 الشربيني 1/530. 3 البهوتي 1/63.

بالكراهة، ولعل قصدهم بهذا هو الكراهة التحريمية القريبة في تدرجها الشرعي من التحريم، وهكذا يتقرر أن جمهور الفقهاء يرون أن تحلي الرجال بالذهب محرماً شرعاً وذلك على سبيل الإطلاق سواء. كان ذلك في التختم أم في غير ذلك وسواء كان في ذلك كثيراً أم كان قليلاً وقد استندوا في هذا إلى ما يأتي: 1 – ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم" 1. 2 – ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن خاتم الذهب"2. 3 – ما روي عن عمران بن حصين قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب"3. 4 – ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل، فنَزعه وطرحه وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيطرحها في يده" فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم"4.

_ 1 الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/394، والترمذي برقم 1720 وقال حديث حسن صحيح، والنسائي برقم 5148 من حديث أبي موسى رضي الله عنه، قال الحافظ ابن حجر في الفتح 10/296: وأعله ابن حبان وغيره بالانقطاع وأن رواية سعيد بن أبي هند لم تسمع من أبي موسى. اهـ. لكن له شواهد، منها حديث علي رضي الله عنه أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم، قال علي بن المديني حديث حسن ورجاله معروفون. اهـ. خلاصة البدر المنير1/26، وحديث مسلمة بن مخلد أخرجه أحمد والطحاوي وصححه، قال الحافظ: إسناده حسن، وراجع: نصب الراية للزيعلي 4/222-224، التلخيص الحبير 1/52-54. 2 أخرجه البخاري برقم 5526، ومسلم برقم 2089. 3 أخرجه الترمذي برقم 1538، والنسائي في الكبرى 5/148 برقم 9500 وفي الصغرى برقم 1587، وابن حبان في صحيحه 12/227، والنهي عن التختم بالذهب رواه مسلم برقم 2078. 4 الحديث أخرجه مسلم برقم 2090.

هذا: فضلاً عن أن الأصل في تحلي الرجال بالذهب إنما هو التحريم، وأن الإباحة لضرورة الختم أو النموذج وقد اندفعت هذه الضرورة بالأدنى وهي الفضة. ومثل هذا الحكم وهو تحريم تحلي الرجال بخاتم الذهب ينصرف على لبس الساعة المصنوعة من الذهب أو ما فيها شيء من الذهب، وهذا الحكم يسري كذلك بالنسبة للساعة المطلية والمموهة بالذهب لذات العلة في التحريم.

المطلب الثامن: حكم بيع خاتم وساعة الذهب المعدين للرجال

المطلب الثامن: حكم بيع خاتم وساعة الذهب المعدين للرجال استبان لنا فيما سبق الإجماع على حرمة تختم الرجال بخاتم الذهب وما في حكم ذلك كساعة الذهب ونحوها، وحيث إنني لم أجد فيما اطلعت عليه من كتب المذاهب ما يفيد حكم بيع خاتم الذهب وما في حكمه حيث إن هذه الأمور مستحدثه وعلى هذا فلا مناص من تخريج حكم البيع على حكم الاتخاذ والاستعمال وذلك إعمالاً لقاعدة: أن ما حرم استعماله حرم تبعاً لذلك اتخاذه وادخاره، ويترتب على هذا حرمة بيعه والتعامل فيه، لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه، ولأن البيع يترتب عليه إمكان الاتخاذ وبالتالي الاستعمال فما يؤدي إليهما وهو البيع يكون محرماً هو الآخر. وبالنسبة لساعة الذهب المعدة للرجال فإنها من الأمور المستحدثة، وعلى هذا كان حكمها من حيث البيع وعدمه مخرجاً على ما انتهى إليه حكم بيع الخاتم وهو المنع، وذلك لاشتراكهما في ذات العلة وهي الزينة والخيلاء مع شمولها لذات الحكم المنصوص عليه وهو حرمة تزين الرجال بالذهب على أي وجه من وجوه التزين. وبطبيعة الحال فإن الخاتم أو الساعة المخلوطة بالذهب فإن الحكم للغالب في ذلك المخلوط فإن غلب الذهب كان مشمولاً بالحكم المقرر وهو الحرمة وإن لم يكن الذهب غالبا كان مشمولا بالحكم المقرر وهو الحل، أما الخاتم أو الساعة المطليان أو المموهان بالذهب فالأصل فيهما الحل بناء على ما ترجح من القول بحل استعمال المموه وإباحة بيعه.

المطلب التاسع: في المستثنيات

المطلب التاسع في المستثنيات سبق أن تقرر ما نص عليه الفقهاء من أن تحريم بيع الأواني والأدوات المصنوعة من الذهب والفضة كان بسبب حرمة الاستعمال المترتب بدوره على حرمة الاتخاذ والاقتناء ولهذا فإنه إذا جاز الاستعمال استثناء لضرورة شرعية جاز تبعاً لهذا اعتباره محلاً للبيع وذلك بمراعاة حدوده إعمالاً لقاعدة أن الضرورة تقدر بقدرها. وعلى هذا فإن الفقهاء أباحوا اتخاذ الأنف من الذهب أو الفضة إذا احتيج إلى ذلك، استناداً إلى ما روي عن عبد الرحمن بن طرفة: "أن جده عرفجة بن أسعد الكناني1 أصيب أنفه يوم الكُلاب2 فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتخذ أنفاً من ذهب"3. فقد أفاد هذا الحديث جواز اتخاذ الأنف من الذهب أو الفضة، والحكمة في استعمال الذهب في ذلك أنه لا يصدأ إذا كان خالصاً، بخلاف الفضة، وأن الأنف ينتن إذا اتخذ من الفضة فلا بد من اتخاذه من ذهب فكان ضرورة، فسقط اعتبار حرمته4. أما اتخاذ السن وإن تعددت من الذهب أو الفضة أو ربطها بشريط متخذ من أي منهما أو حشو السن، فالفقهاء لهم تفصيل في حكمه، فالخلاف بينهم على جواز اتخاذ السن وإن تعددت، والشريط الذي يربطها عند التخلخل أو حشوها أو اتخاذ

_ 1 عرفجة بن أسعد بن كريب- بفتح الكاف وكسر الراء بعدها موحدة- التميمي، صحابي، نزل البصرة، كان من الفرسان في الجاهلية، ثم أسلم. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 1795، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 6/411 برقم 5498. 2 هو يوم معروف من أيام الجاهلية كانت لهم وقعة مشهورة والكلاب اسم لماء من مياه العرب كانت عنده الوقعة فسمي ذلك اليوم يوم الكلاب وقيل عنده وقعتان مشهورتان يقال فيهما الكلاب الأول والكلاب الثاني المجموع للنووي 1/311 ولسان العرب 12/138. 3 أخرجه أحمد في المسند 5161, 5162 وأبو داود برقم 4232, 4233, 4234 والترمذي برقم 1770 والنسائي برقم 5161, 5162 وابن حبان في صحيحه 12/276 ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين غير عبد الرحمن بن طرفة وقد وثقه العجلي وذكره ابن حبان في الثقات راجع تهذيب التهذيب ترجمة عبد الرحمن بن طرفة. 4 بدائع الصنائع للكاساني 5/132 والمغني لابن قدامة 8/323.

الأنملة أو الأذن من الفضة فيما يأتي: مذهب الحنفية: اختلف الحنفية في هذا، ففي رواية عن أبي حنيفة ورواية عن أبي يوسف أنه لا يحل شد الأسنان بالذهب ولا اتخاذها أو اتخاذ الأنملة أو الأذن منه، وأن هذا مكروه، ورواية أخرى عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن بأنه يحل اتخاذ السن من الذهب وإن تعددت والشريط الذي يربطها والأنملة والأذن. فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... وأما شد السن المتحرك بالذهب، فقد ذكر الكرخي رحمه الله أنه يجوز، ولم يذكر خلافاً، وذكر في الجامع الصغير أنه يكره عند أبي حنيفة؛ وعند محمد رحمه الله لا يكره ولو شدها بالفضة لا يكره بالإجماع ... وكذا لو جدع أنفه فاتخذ أنفا من ذهب لا يكره بالاتفاق، لأن الأنف ينتن بالفضة فلا بد من اتخاذه من ذهب، فكان فيه ضرورة فسقط اعتبار حرمته" 1. وعليه فنص البدائع: يفيد أن الخلاف في شد السن المتحرك بالذهب بين المجوز والقائل بكراهته، وأنه لا خلاف بالنسبة لشدها بالفضة وكذلك لا خلاف فيما لو اتخذ أنفاً من ذهب عند جدعه، وذلك لضرورة أنه لو اتخذه من فضة لأصابه النتن. وجاء في حاشية ابن عابدين: " ... قوله: "المتحرك" قيد به لما قال الكرخي: إذا سقطت ثنية رجل فإن أبا حنيفة يكره أن يعيدها ويشدها بفضة أو ذهب ويقول هي كسن ميتة، ولكن يأخذ سن شاة ذكية يشد مكانها، وخالفه أبو يوسف فقال: لا بأس به، ولا يشبه سنه سن ميتة استحسن ذلك. وبينهما فرق عندي – وإن لم يحضرني. زاد في التاترخانية2: قال بشر3: قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن ذلك في مجلس

_ 1 الكاساني 5/132. 2 هو عالم بن علاء عالم حنفي فاضل من آثاره "الفتاوى التتارخانية" مطبوع، لم يسمها مؤلفها باسم فسميت بذلك نسبة للملك "تاتارخان" وقيل انه سماها "زاد المسافر" جمع فيها مسائل المحيط البرهاني والذخيرة والفتاوى الخانية والفتاوى الظهيرية، رتبه على أبواب الهداية، توفي رحمه الله تعالى سنة 286?. راجع: معجم المؤلفين لعمر كحالة 2/52، وهداية العارفين للبغدادي 1/435. 3 هو بشر بن غياث بن أبي كريمة عبد الرحمن المريسيّ العدوي بالولاء، فقيه عارف بالفلسفة أدرك مجلس أبي حنيفة وأخذ نبذاً منه، ثم لازم أبا يوسف وأخذ الفقه عنه وبرع حتى صار من أخص أصحابه، من تصانيفه "التوحيد" و "الإرجاء" توفي سنة 218?. راجع الأعلام للزركلي 2/55، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 3/406.

آخر فلم ير بإعادتها بأساً. قوله: "وجوزهما محمد" أي: جوز الذهب والفضة أي جوز الشد بهما، وأما أبو يوسف فقيل معه، وقيل مع الإمام قوله "لأن الفضة تنتنه" ... وأشار إلى الفرق للإمام بين شدّ السن واتخاذ الأنف، فجوز الأنف من الذهب لضرورة نتن الفضة، لأن المحرم لا يباح إلا لضرورة، وقد اندفعت في السن بالفضة فلا حاجة إلى الأعلى وهو الذهب، قال الإتقاني1: ولقائل أن يقول مساعدة لمحمد: لا نسلم أنها في السن ترتفع بالفضة لأنها تنتن أيضاً"2. فمذهب الحنفية: عدم شد السن المتحركة بذهب، وإنما يمكن شدها بالفضة، وخالف في هذا محمد بن الحسن، وجوز شدها بالذهب والفضة على السواء، فشد السن بالفضة لا خلاف فيه، وإنما الخلاف فقط في شدها بالذهب وقد كره أبو حنيفة شدها بفضة أو بذهب. وجوز ذلك محمد بن الحسن، واختلف النقل عن أبي يوسف، فقيل إنه مع الإمام، وقيل إنه موافق لصاحبه محمد بن الحسن ووجهة نظر الإمام أن الحاجة تندفع بالشد بالفضة وأنه لا ضرورة في شدها بالذهب، في حين أن محمد بن الحسن وجه كلامه بأن الفضة تنتنه، وفرق الإمام بين الشد واتخاذ الأنف حيث اعتبر الضرورة في الأنف، وقال بجواز اتخاذ الذهب في الأنف باعتبار أن الفضة تنتنه. مذهب المالكية: القول بأنه لا مانع من اتخاذ الأنف من ذهب عند جدعها، وذلك لضرورة أنها تنتن لو اتخذت من فضة، وأنه من باب التداوي، وأنه بالنسبة لشد السن المتحرك بالذهب فقد ورد بشأنه الخلاف، فقال ابن عرفة إنه لا مانع من ذلك، وإنه يستوي في هذا الذهب والفضة، وأن هذا ما عليه الأكثر من المالكية.

_ 1 هو أمير كاتب بن أمير عمر بن أمير غازي، قوام الدين أبو حنيفة الإتقاني الفارابي ولد بإتقان سنة 685? وإتقان قصبة فاراب، وفاراب ولاية وراء نهر سيحون، كان رأساً في الحنيفة بارعاً في الفقه واللغة العربية وغير ذلك من العلوم، من تصانيفة "غاية البيان ونادرة الزمان في آخر الأوان" توفي بالقاهرة سنة 758?. راجع: معجم المؤلفين 3/4. 2 ابن عابدين 9/597 - 598.

فقد جاء في مواهب الجليل: "ص1: "والسيف" ش: قال في التوضيح في كتاب الذكاة وسواء اتصلت الحلية بأصله كالقبضة أو كانت في الغمد ص: "والأنف" ش لئلا ينتن فهو من باب التداوي ص: "وربط سن" ش: كذلك ما يشد به محل سن سقطت قاله ابن عرفة ص "مطلقاً" ش: أي بالذهب والفضة وهو راجع إلى جميع ما تقدم على المعروف الذي عليه الأكثر ... "2. فمذهب المالكية: أنه لا خلاف في أخذ الأنف من الذهب عند جدعه، لأنه من باب التداوي، ولضرورة أن ينتن لو اتخذ من فضة، وأن الخلاف بشأن ربط السن المتحركة بالذهب، وأن الأكثر فيما ذكره ابن عرفة على جوازه، وأن شأنه في هذا الحكم شأن الفضة على السواء. مذهب الشافعية: يحل اتخاذ السن، وإن تعددت من الذهب، وكذلك الشريط الذي يربط بها طالما أن ذلك كان لضرورة. فقد جاء في المجموع: " ... وقال أصحابنا: فيباح له الأنف والسن من الذهب، ومن الفضة، وكذا شد السن العليلة بذهب وفضة جائز ويباح أيضاً الأنملة منهما ... "3. مذهب الحنابلة: يحل اتخاذ السن، وإن تعددت، والشريط الذي يربطها والأنملة والأذن من الذهب. فقد جاء في الكافي: " ... ويباح ربط أسنانه بالذهب إذا خشي سقوطها لأنه في معنى أنف الذهب ... "4. وفي مجموع فتاوى ابن تيمية: " ... فإنما أبيح الذهب للأنف، وربط الأسنان لأنه اضطرار، وهو يسد الحاجة يقيناً كالأكل في المخمصة"5.

_ 1 رمز يرمز به الحطاب في شرحه مواهب الجليل على مختصر خليل يعني به: الأصل. 2 الحطاب 1/126. 3 النووي 1/312. 4 ابن قدامة 1/42. 5 21/567.

الموازنة: بمراجعة ما قاله الفقهاء بشأن ربط السن المتحركة أو اتخاذها من الذهب أو الفضة وكذا اتخاذ الأنف من هذا عند جدعها أو اتخاذ الأنملة ونحوها يتضح الآتي: أنه بالنسبة لاتخاذ الأنف من الذهب عند جدعها، فالاتفاق حاصل بين الفقهاء على جواز هذا، وذلك لضرورة أنها تنتن لو اتخذت من الفضة، وأن هذا من باب التداوي، وإنما الخلاف حاصل فقط بشأن ربط السن المتحركة أو سد مكانها أو اتخاذها من ذهب بعد أن اتفقوا على جواز هذا بالفضة. فالحنفية: على خلاف في هذا، فعند الإمام أو ما وافقه عليه أبو يوسف في رواية له أنه لا يجوز هذا، وعند محمد بن الحسن، وفي رواية أخرى لأبي يوسف أنه يجوز اتخاذ السن من الذهب أو ربطها عند تحركها به. والمالكية: على جواز ذلك عند أكثرهم فيما قاله ابن عرفة، وأن ربط السن أو شدها بالذهب يجوز مثل شدها بالفضة وإن كانت عبارة كتبهم يتضح منها أن هناك من يرى عدم جواز ذلك. والشافعية والحنابلة: متفقون على حل اتخاذ السن أو شدها وكذا الأنملة من الذهب. وعليه فالخلاف في هذه المسألة وهو شد السن المتحركة بالذهب ينحصر في مذهبين: المذهب الأول: يرى حل ذلك وجوزاه على نحو ما ذهب الشافعية والحنابلة وجمهور المالكية ورواية أبي حنيفة وقول لأبي يوسف من الحنفية. المذهب الثاني: يرى عدم جواز هذا، وهو قول محمد بن الحسن، ورواية أخرى لأبي يوسف وبعض المالكية. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول على حل اتخاذ السن والشريط الذي يربطها والأذن والأنملة من الذهب بما يلي:

1- ما روى هشام بن عروه عن أبيه عن ابن عمر "أن أباه سقطت ثنيته1 فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يشدها بذهب"2. 2- ما روى هشام بن عروه عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول قال: "اندقت ثنيتي يوم أحد، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ ثنية من ذهب"3. 3- بما روي عن إبراهيم بن عبد الرحمن مولى موسى بن طلحة قال: "رأيت موسى بن طلحة بن عبد الله قد شد أسنانه بذهب"4. 4- بما روي عن واقد بن عبد الله التميمي5 عمن رأى عثمان رضي الله عنه "أنه كان يشد أسنانه بالذهب6، وفي رواية أخرى. أنه ضبب أسنانه بذهب"7. 5- بما روى محمد بن سعدان عن أبيه قال: "رأيت أنس بن مالك يطوف به بنوه على سواعدهم وقد شد أسنانه بذهب"8.

_ 1 الثنية: من السن، قال في المحكم: الثنية من الأضراس أول ما في الفم، وقال غيره: ثنايا الإنسان في فمه الأربع التي في مقدم فيه، ثنتان من فوق وثنتان من أسفل. راجع: لسان العرب لابن منظور 2/141. 2 الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط 8/171، وذكره الهيثمي في المجمع 5/150. 3 الحديث أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة2/109، من طريق عاصم بن عمارة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله به، وعاصم قال أبو علي بن السكن مجهول، وعروة لم يلق عبد الله بن عبد الله، قال الحافظ: ورواه أيضا نصر بن طريف عن هشام عن أبيه. اهـ. ونصر متهم، راجع: ميزان الاعتدال للذهبي 7/21-22، ولسان الميزان لابن حجر 6/153-154. 4 أخرجه النسائي في الكنى كما في نصب الراية 4/237 من طريق محمد بن سعدان عن أبيه، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 6/211، وابن أبي شيبة في المصنف 5/205، وأبو نعيم في الحلية عن طعمة بن عمرو الجعفري قال رأيت أنس بن مالك ... الخ. 5 هو واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين التميمي الحنظلي حليف بني كعب. راجع: تعجيل المنفعة لابن حجر ص 487 برقم 1148. 6 أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/56. 7 وهذه الرواية أخرجها الإمام أحمد في المسند 1/73 من طريق واقد بن عبد الله التيمي عمن رأى عثمان رضي الله عنه. 8 الأثر أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 1/104، والطبراني في الكبير 1/241، والبيهقي في السنن 2/426، وذكره الهيثمي في المجمع 5/151.

واستدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بعدم جواز اتخاذ الأجزاء السابقة من الذهب: أن الأصل في الذهب هو حرمة استعماله، وإباحته للضرورة، وهي تندفع بالأدنى وهو الفضة، فلا حاجة إلى الأعلى وهو الذهب، فبقي على أصل الحرمة والضرورة في حديث عرفجة لم تندفع باستعمال ما هو دون الذهب، حيث أنتن فتعين استعمال الذهب لدفع الضرورة1. والراجح في هذا: جواز اتخاذ السن والشريط الذي يربطها والأنملة والأذن ونحوها من الذهب طالما أن الضرورة أو الحاجة ماسة لهذا الاستعمال وأشار بها طبيب مسلم عدل ثقة حاذق ولم يترتب على اتخاذها حدوث الضرر بالمريض، وأن جواز استعمال واتخاذ هذه الأجزاء من الذهب والفضة يترتب عليه، فإنه لا مانع من تداولها بالبيع إعمالاً للضرورة ودفع الضرر عن العباد. والله تعالى أعلم.

_ 1 راجع: حاشية ابن عابدين 9/598.

الفصل الثاني: وبيع الأصنام والصور

الفصل الثاني: وبيع الأصنام والصور وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: بيان حكم الشرع للصور بأنواعها. المبحث الثاني: حكم بيع الصور بأنواعها. المبحث الثالث: في المستثنيات.

تمهيد

تمهيد الأصنام: جمع صنم. وهو تمثال من حجر أو خشب أو معدن، كانوا يزعمون أن عبادته تقربهم إلى الله، وقيل هو الوثن، وقيل إن الوثن له جثة، والصنم ما كان مصوراً، فبينهما عموم وخصوص وجهي، لأنه لو كان مصوراً كان وثناً وصنماً 1. ويطلق التصوير المجسم على فعل الأصنام والتماثيل. فالصورة المجسمة: هي جوهر متصل بسيط لا وجود لمحله دونه، قابل للأبعاد الثلاثة هي الطول والعرض والعمق وهذا هو شأن كل ذي جسم شاخص، وهذا النوع من الصور هو ما يعرف بذوات الظل من المجسمات التي تتميز عن غيرها بأنها لها طول وعرض وعمق ويكون لها جسم بحيث تكون أعضاؤها نافرة بارزة تشغل حيزاً من الفراغ وتتميز باللمس بالإضافة إلى تميزها بالنظر2. أما التصوير اليدوي: وهو فن تمثيل الأشخاص والأشياء بالألوان، ويسمى الرسم، وذلك للتفريق بينه وبين التصوير بآلة التصوير. فقد جاء في المعجم الوسيط: "بأنه نقش صورة الأشياء، أو الأشخاص على لوح أو حائط أو نحوهما بالقلم أو بالفرجون أو بآلة التصوير"3. وعلى هذا فإنه أي التصوير اليدوي يخرج عن فعل الأصنام وسمي هذا النوع من التصوير يدوياً مع أن المصور يستخدم آلة كالريشة والقلم ونحوهما وذلك لأن هذا التصوير يعتمد في إتقانه على مهارة يد المصور4. والصور في اللغة: جمع صورة ويجمع أيضاً على تصاوير يقال: صور الشيء جعل

_ 1 راجع: لسان العرب لابن منظور 7/440، ومختار الصحاح للرازي 1/180، المعجم الوسيط لإبراهيم أنيس 1/526. 2 مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني صفحة 196، التعريفات للجرجاني صفحة 177 - 178. 3 إبراهيم أنيس 1/528. 4 مفردات ألفاظ القرآن صفحة 196.

له صورة مجسمة، والتصوير هو نقش صورة الأشياء أو الأشخاص على لوح أو حائط أو نحوهما بالقلم أو ما شابه ذلك، أو بآلة التصوير "التصوير الشمسي" وهذا التصوير ولو أنه يعتمد على بعض الآلات، إلا أنه من حيث اعتماده على مهارة يد المصور المعتبرة أساساً في الإتقان يسمى يدوياً 1. وهناك علاقة وثيقة بين الأصنام والصور. فقد ورد في لسان العرب: "إن التمثال في اللغة: الصورة، وقيدها بعضهم بذات الظل، والتمثال اسم مصدر من فعل مثل، وجمعه تماثيل، وظل كل شيء تمثاله، وهو مأخوذ من المماثلة والمشابهة بين الشيئين والمساواة بينهما2. وجاء في القاموس المحيط: "التمثال بالفتح: التمثيل "يعني عمل مثيل للشيء كالتصوير. وبالكسر: الصورة" 3 ولم يقيد الصورة بكونها مجسمة بل أطلق، وهذا يدل على أن لفظ التمثال لا يختص استعماله بالصور المجسمة فقط. وفي المعجم الوسيط: "إن التمثال يطلق على الصورة في الثوب يقال: في ثوبه تماثيل: صور حيوانات"4. فأطلق على المجسده وهي المجسمة والمسطحة، وهي التي تنقش بالألوان لفظاً واحداً وهو التماثيل. وهذا يدل على أن أهل اللغة يطلقون لفظ التمثال على الصورة عموما ً. فعلماء اللغة: يعتبرون التمثال هو الصورة، وإن كان بعضهم قيدها بذات الظل، وقالوا إن ظل كل شيء تمثاله، حيث المشابهة والمماثلة بين الشيئين. وما في المعجم الوسيط: أن التمثال يطلق على الصورة في الثوب ونحوه. ومراد أهل اللغة: أن لفظ التمثال لا يختص استعماله بصور ذات الظل بل إن

_ 1 المعجم الوسيط لإبراهيم أنيس 1/528. 2 ابن منظور 7/438، ومختار الصحاح للرازي صفحة 180. 3 الفيروز أبادي 4/49. 4 إبراهيم أنيس 2/854.

لفظ تمثال وتماثيل يطلق – أيضاً حتى على الصور المجسمة من غير ذوات الظل. والمقرر في الشريعة الإسلامية أنها حاربت اتخاذ واقتناء التماثيل في بيوت المسلمين، وذلك في إطار محاربة الترف في كل مظاهر أرباب الترف والتنعم الذي كان يملأ البيوت في العصور الجاهلية، وفي المباحث الآتية نستوضح حكم الشرع بالنسبة لكافة الصور وأنواعها ومدى جواز بيعها والتعامل بشأنها، وما استثناه الشارع الكريم من الأحكام العامة لبيع الصور والتعامل فيها.

المبحث الأول: بيان حكم الشرع للصور بأنواعها

المبحث الأول: بيان حكم الشرع للصور بأنواعها للصور والتصوير أنواع مختلفة باعتبارات مختلفة، فباعتبار الوسيلة المستخدمة فيه نوعان: تصوير يدوي، سواء كان ذلك التصوير مسطحا أو كان مجسما، أما النوع الثاني فهو التصوير الآلي، وهذا النوع له أقسام متعددة: فمنه التصوير الفوتوغرافي، ومنه السنمائي، ومنه التلفزيوني، ومنه التصوير بالأشعة. وينقسم التصوير باعتبار ذات الصورة - أي من حيث طبيعة الصورة نفسها - إلى قسمين: الأول: التصوير المجسم، والثاني: التصوير المسطح. كما أن التصوير ينقسم كذلك من حيث الحياة وعدمها إلى قسمين: الأول: صور ذوات الروح. أما الثاني: صور غير ذوات الروح 1. المطلب الأول الصور المجسمة وهي التي تعرف في الواقع بالتماثيل، والتي تعتبر في السابق والحاضر من مظاهر الترف والتنعم يزين بها أرباب الترف بيوتهم وقصورهم ويتفننون في صنعها. والمراد بالتصوير المجسم: كل تمثال أو صورة لها جسم شاخص وحجم بارز وأعضاء نافرة، إن كانت الصورة لذي روح، تشغل حيزا من الفراغ يدرك بالنظر وباللمس معا، ويكون لها بسبب ذلك الجسم البارز ظل إذا قابلت أحد مصادر الضوء، سواء كانت هذه الصورة كاملة أو ناقصة، مشوهة أو غير مشوهة، وسواء كانت لإنسان، أو حيوان لذي روح، أو لغير ذي روح2. وقد أجمع الفقهاء على حرمة اتخاذ واقتناء هذا النوع من الصور المجسمة، والتي

_ 1 التصوير والحياة للدكتور/محمد نبهان سويلم صفحة 46، والتصوير بين حاجة العصر وضوابط الشريعة للدكتور/محمد توفيق رمضان البوطي صفحة 101. 2 التعريفات للجرجاني صفحة 177 - 178، تفسير آيات الأحكام للصابوني 2/392، والمجموع الثمين لابن عثيمين 1/153.

تتميز بأنها تحتوي على ظل، حيث وردت الأحاديث الصحيحة والصريحة بالنهي عن صناعتها وعن تصوير ما فيه روح، سواء كان إنساناً أو حيواناً أو طيراً، ولا غرابة في محاربة الإسلام الحنيف لهذه التماثيل وتواجدها في بيوت المسلمين، وعلة تحريم التصوير على هذا النحو متعددة فمنها: أن التصوير فيه مضاهاة لخلق الله سبحانه، وتشبيه فعل المخلوق بفعل الخالق، وأن صناعة صور ذوات الروح المحرمة واتخاذها فيه تشبيه بفعل من كانوا يصنعون الصور والتماثيل ويعبدونها من دون الله تعالى، فقد كان أهل الشرك ومن نحا نحوهم من اليهود والنصارى يضعون الصور والتماثيل ليتخذوها واسطة بين الله وخلقه، أو لأجل أن تذكرهم بحال الأنبياء والصالحين، كما صنع قوم نوح وأهل الكتاب، ثم آل بهم الأمر إلى عبادتها من دون الله الواحد القهار، فقد كان تصوير ذوات الأرواح وسيلة إلى الغلو فيها من دون الله تعالى، وربما جر ذلك إلى عبادة تلك الصورة وتعظيمها، هذا فضلاً أن النهي عن إضاعة المال وتبذيره، والمعروف أن إنفاق المال في التصوير والصور مما لا ضرورة إليه، ولا مصلحة تترتب عليه، وفيه إسراف وتبذير. موقف الفقهاء من التصوير للصور المجسمة لذوات الأرواح: مذهب الحنفية: القول بكراهة الصورة المجسمة لذوات الأرواح، حيث نصت كتبهم على عدم كراهة تصوير غير ذي الروح كالشجر، وبينت المراد من النهي الوارد هنا إنما هو ذي الروح. فقد جاء في شرح فتح القدير: ".... والتمثال خاص بمثال ذي الروح لكن المراد هنا ذو الروح فإن غير ذي الروح لا يكره كالشجر,.." 1. وفي بدائع الصنائع: " ... وكذا النهي إنما جاء عن تصوير ذي الروح,.." 2. وفي البناية شرح الهداية: " ... التمثال ما يصور تشبيها بخلق الله تعالى من ذوات الروح، والصورة عام، وروى عن ابن عباس ما يدل على أن التمثال والصورة واحد وهو أنه نهى مصوراً عن التصوير فقال كيف أصنع وهو كسبي؟ فقال: إن لم يكن لك بد

_ 1 ابن الهمام 1/414. 2 الكاساني 1/116.

فعليك بتمثال الأشجار,.." 1. فقد نصت كتب الحنفية على عدم كراهية غير ذوي الروح، وهذا يفهم منه أن تصوير ذي الروح مكروه شرعاً. مذهب المالكية: القول بتحريم الصورة المجسمة لذوات الأرواح، أي ماله ظل ويقيم، فهو حرام. فقد جاء في حاشية الخرشي: " ... التمثال إذا كان لغير حيوان كالشجر جائز، وإذا كان لحيوان فماله ظل ويقيم فهو حرام بإجماع,.. وما لا ظل له إذا كان غير ممتهن فهو مكروه، وإن كان ممتهنا فتركه أولى,.." 2. فالتمثال إذا كان لغير حيوان كان جائزاً، أما إذا كان لحيوان، فإن كان له ظل فهو حرام، وإن لم يكن له ظل، فإن كان غير ممتهن، كان مكروهاً، وإن كان ممتهناً فالأولى تركه. وجاء في شرح منح الجليل: ".... يحرم صور مجسدة لحيوان عاقل أو غيره، كامل الأعضاء الظاهرة التي لا يعيش بدونها ولها ظل على كجدار لا مبنية في وسطه، لأنها لا ظل لها، كالنقش، ويحرم تصوير ما استوفى الشروط المتقدمة، إن كان يدوم كخشب وطين وسكر وعجين إجماعاً، وكذا إذا كان لا يدوم كقشر بطيخ خلافاً لأصبغ، وغير ذي الظل يكره إن كان في غير ممتهن كحائط وورق، فإن كان في ممتهن كحصير وبساط فخلاف الأولى,.." 3. يستفاد من هذا النص: أن الصور المجسدة لحيوان عاقل أو غير عاقل يحرم صنعها، ويحرم تصوير ما استوفى الشروط، بأن كان كامل الأعضاء الظاهرة التي لا يعيش بدونها، ولها ظل إن كان يدوم كخشب وطين وسكر وعجين إجماعاً، وكذلك الحكم إذا كان لا يدوم كما لو صنع من قشر البطيخ خلافاً لما ذهب إليه أصبغ، أما غير ذي الظل فإنه مكروه إذا كان في غير ممتهن، كحائط وورق، أما إذا كان في ممتهن كحصير

_ 1 العيني 2/455. 2 الخرشي 4/395. 3 الشيخ محمد عليش 2/166 – 167.

ونحوه كان اتخاذه خلافاً للأولى. مذهب الشافعية: القول بتحريم الصورة المجسمة لذوات الأرواح، وقال بعضهم بجواز ذلك. فقد جاء في الزواجر عن اقتراف الكبائر: " ... وأما فعل التصوير لذي الروح فهو حرام مطلقاً، وإن أغفل من الصورة أعضاؤها الباطنة أو بعض الظاهرة مما توجد الحياة مع فقده ... وأما المصور صورة الحيوان فإن كان معلقاً على حائط أو ملبوس كثوب وعمامة أو نحوه مما لا يعد ممتهناً فحرام، أو ممتهناً كبساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها فلا يحرم ... "1. " ... ويحرم تصوير حيوان ... قال المتولى2: وسواء أعمل لها رأساً أم لا؟ وقال الأوزاعي: إن المشهور عندنا جواز التصوير إن لم يكن له رأس,.. وهذا هو الظاهر"3. وجاء في الحاوي الكبير "وقال أبو سعيد الإصطخري 4: إنما كان التحريم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لقرب عهدهم بالأصنام ومشاهدتهم بعبادتها ليستقر في نفوسهم بطلان عبادتها وزوال تعظيمها، وهذا المعنى قد زال في وقتنا لما قد استقر في النفوس من العدول عن تعظيمها، فزال حكم تحريمها وحظر استعمالها، وقد كان في الجاهلية من يعبد كل ما استحسن من حجر أو شجر، فلو كان حكم الحظر باقياً لكان استعمال كل ما استحسن حراما ... " 5.

_ 1 الهيتمي 2/62 – 63. 2 عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري أبو سعد المعروف بالمتولي فقيه مناظر عالم بالأصول ولد بنيسابور سنة 426? وتعلم بمرو وتولى التدريس بالمدرسة النظامية من مصنفاته "تتمة الإبانه للفوراني" وكتاب في "الفرائض" توفي رحمه الله سنة 478 هـ. راجع: الأعلام للزركلي 3/323. 3 مغني المحتاج للشربيني 3/316. 4 هو أبو سعيد الحسين بن أحمد الإصطخري، "244 – 328 هـ"، قال الأسنوي: كان هو وابن سريج شيخي الشافعية ببغداد، وصنف كتباً كثيرة منها: "أدب القضاة"، وكان زاهداً متقللاً من الدنيا ولكن في أخلاقه قدوة، ولاّه المقتدر بالله قضاء سجستان فرفض، ثم حبسه ببغداد. راجع: طبقات الشافعية للأسنوي 1/34. 5 الماوردي 9/564.

فمذهب الشافعية: أن فعل التصوير للصور المجسمة لذوات الأرواح محرم شرعاً، حتى ولو أغفل من الصور ما يستشف منه ملامحها، وأما صورة الحيوان على ما هو ممتهن كسجادة أو بساط أو مخدة أو وسادة ونحو ذلك فلا بأس به، وقال المتولى: التصوير للحيوان حرام، سواء كان للصورة رأس أم لا؟ وقال الأوزاعي إن المشهور عند الشافعية جواز التصوير لما لا رأس له، وذكر صاحب المغني أن هذا هو الظاهر. غير أن صاحب الحاوي الكبير قد أورد أن أبا سعيد الأصطخري قال إن هذا التحريم كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لقرب العهد بالأصنام، وحيث زال هذا المعنى، فلا معنى للقول بالتحريم، وقال إنه لو كان حكم الحظر باقياً لكان استعمال كل ما استحسن حراماً. مذهب الحنابلة: القول بحرمة تصوير ما فيه روح خلافاً للأجرى وغيره. فقد جاء في الإنصاف: ".... يحرم تصوير ما فيه روح ... وأطلق بعضهم تحريم التصوير,.. وقال في الوجيز: ويحرم التصوير واستعماله، وكره الآجري1 وغيره ... يحرم تعليق ما فيه صورة حيوان وستر الجدار به وتصويره على الصحيح من المذهب وقيل: لا يحرم.... وهو ظاهر ما جزم به في المغني والشرح, ... ولا يحرم افتراشه ولا جعله مخدة بل ولا يكره فيها,.."2. فمذهب الحنابلة: حرمة تصوير ما فيه روح، وعند الآجري وغيره هذا التصوير مكروه، ويحرم تصوير الحيوان وستر الجدار بصورته، وقيل لا يحرم ولا يحرم افتراشه، ولا جعله مخدة، بل ولا يكره ذلك. الموازنة: بمراجعة نصوص الفقهاء بشأن حكم الشرع بالنسبة لتصوير ذي الروح يتضح الآتي: الحنفية يرون كراهة تصوير ذي الروح، ونصوا على أن تصوير غير ذي الروح

_ 1 هو أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الآجري، من تآليفه الشريعة وآداب العلماء، توفي رحمه الله بمكة عام 360?. راجع: تاريخ بغداد للبغدادي 2/343، سير أعلام النبلاء للذهبي 16/133-136. 2 المرداوي 1/436.

ليس بمكروه. المالكية أن الاتفاق حاصل لديهم بشأن تحريم الصور المجسدة لحيوان عاقل أو غير عاقل، كالتمثال ونحوه، طالما كان كامل الأعضاء، أو كان له ظل ويدوم، أي يمكن استمراره، وأن الخلاف فيما لو كان التمثال مصنوعاً مما لا يدوم، كما لو صنع من قشر البطيخ مثلا، فالمذهب أنه الآخر يحرم تصويره، ويرى أصبغ أنه غير محرم، وقالوا بالنسبة لغير ذي الظل: إنه إن كان في غير ممتهن كحائط وورق فإن تصويره يكون مكروهاً، وإن كان ممتهناً كحصير وبساط كان تصويره خلاف الأولى. أن الخلاف حاصل بين الشافعية بشأن التصوير لذي الروح من حيوان وغيره. أ – فالمذهب أن فعل التصوير لذي الروح حرام مطلقاً، حتى وإن أغفل من الصورة بعض أجزائها، أي بأن كانت غير مكتملة، وإلى هذا ذهب المتولي موافقاً لأصل المذهب هنا. ب – وقيل: إن المصور صورة الحيوان على ما لا يعد ممتهناً، فإن التصوير يكون حراماً بخلاف ما لو كانت الصورة هذه معلقة على ممتهن كبساط يداس، ومخدة، ووسادة، فلا يحرم. ج – وقال الأوزاعي: إن المشهور عندنا جواز التصوير إن لم يكن له رأس، وهذا هو الظاهر في المذهب. د – وقال الإصطخري: إن التصوير جائز مطلقاً، لأن تحريمه كان في بداية عهد الناس بالإسلام مع قرب عهدهم بالأصنام، وقد زال هذا السبب الآن. أما مذهب الحنابلة في التصوير فعلى الخلاف الآتي: أ – أن التصوير محرم مطلقاً، أي سواء كان لذي الروح أم لا، وهذا ما أطلقه بعض الحنابلة وما نص عليه في الوجيز من حرمة التصوير واستعماله. ب – وقال الآجري ومن معه بكراهة التصوير مطلقاً، أي سواء كان لذي روح أم لا؟

ج – أن التصوير لذي الروح فقط هو المحرم، ويفهم منه أن غير ذي الروح لا يحرم تصويره، وهذا أصل المذهب الحنبلي. وعلى هذا فمن خلال النظر في الآراء السابقة نستخلص في المسألة أربعة مذاهب: المذهب الأول: يرى تحريم التصوير لذي الروح، وهي الصور المجسمة لحيوان أو غيره، سواء كان ذلك عاقلاً أم لا؟ وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية في أصل مذهبهم، وهذا ما قال به المتولي وغيره، وهذا ما أطلقه بعض الحنابلة، وما نص عليه في الوجيز. المذهب الثاني: يرى كراهة تصوير ذي الروح، وهذا ما ذهب إليه الحنفية بعد أن نصوا على عدم كراهة تصوير غير ذي الروح، وهو مذهب الآجري، ومن معه من الحنابلة. المذهب الثالث: يرى جواز تصوير غير ذي الروح طالما كان بلا رأس، أو بدون الأجزاء التي يعيش منها، وهو قول المالكية والأوزاعي من الشافعية. المذهب الرابع: التصوير جائز مطلقا، وهو مذهب الإصطخري من الشافعية. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول القائلون بحرمة الصور المجسمة بما يأتي: 1- أن القرآن الكريم حقر التماثيل، وقلل من شأنها، واستهان بها وبصانعيها، وعابديها، وسفه أحلامهم، وضلل عقولهم، كما أخبر أن الذين يصنعون هذه التماثيل هالكون ومدمرون لا محالة، وما ذلك إلا لشدة تحريم صناعتها واتخاذها. وقد وردت آيات قرآنية كثيرة تبين هذه المعاني؛ منها: قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ*وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 1. قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ*لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2.

_ 1 سورة الصافات: الآية 95 – 96. 2 سورة الأنبياء: الآية 51 – 54.

2- ما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 1. 3- ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً، فجعل يطعنها بعود في يده وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 2 3. 4- ما رواه جابر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها حتى محيت كل صورة فيها"4. 5- عن أبي الهياج الأسدي5 قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" 6. واستدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بكراهة الصور المجسمة لذي الروح: بذات الأدلة التي ساقها القائلون بالتحريم، غير أنهم نحوا ناحية تفسيرها على غير عمومها، وحملوا النهي الوارد بشأنها على محمل الكراهة، ليشفع ذلك لهم في استدلالهم على وجه كراهة ذلك التصوير. واستدل أصحاب المذهب الثالث القائلون بإباحة الصور المجسمة وجواز صنعها بما يلي: 1- قوله تعالى {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} 7.

_ 1 أخرجه البخاري برقم 5607 ومسلم برقم 2108. 2 سورة الإسراء: الآية 81. 3 أخرجه البخاري برقم 2346 وبرقم 4036، وبرقم 4443،ومسلم برقم 1781. 4 أخرجه أحمد في المسند 3/335، 336، 383، وأبو داود برقم 4156، وابن حبان في صحيحه 13/168. 5 هو حيان بن حصين أبو الهياج الأسدي الكوفي، ثقة. راجع: تقريب التهذيب لابن حجر صفحة 86. 6 أخرجه مسلم في كتاب الجنائز باب الأمر بتسوية القبر برقم 969. 7 سورة المائدة: الآية 110.

حيث إن عمل عيسى عليه السلام وخلقه من الطين كهيئة الطير يعد تصويراً لذوات الأرواح من الطير، ومع ذلك لم ينكر الله تعالى عليه فعله، بل امتن عليه بذلك وجعلها نعمة منه سبحانه على سيدنا عيسى عليه السلام، وفي هذا الدلالة على جواز صناعة التماثيل والصور لذوات الأرواح 1. 2- قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} 2. حيث دلت هذه الآية على أن صناعة التماثيل في شريعة سيدنا سليمان عليه السلام كانت جائزة، فقد أخبر الله سبحانه بهذا ممتنا عليه بذلك. 3- قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "يا عائشة إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة: المصورون" 3. حيث حمل الوعيد الوارد في الحديث على من صنع التماثيل لتعبد من دون الله تعالى فقط4. 4- ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال فيما يرويه عن الله سبحانه وتعالى: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي فليخلقوا ذره أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة" 5. فإن هذا الحديث وأمثاله كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذين يضاهون بخلق الله" 6، وفي بعض الروايات: "الذين يشبهون بخلق الله" بعد أن قال: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة". إن هذه النصوص يتعين حملها على من قصد بتصويرها أن تحدى صنعة الخالق

_ 1 الموسوعة الفقهية الكويتية 12/101. 2 سورة سبأ: الآية 13. 3 أخرجه البخاري برقم 5758، ومسلم برقم 2107. 4 الموسوعة الفقهية الكويتية 12/101. 5 الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري برقم 5609 ومسلم برقم 2110. 6 الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في الفتح 1/385 ومسلم 3/ 1671.

عز وجل، ويفتري عليه بأن يخلق مثل خلقه، أما من لم يقصد بذلك فلا 1. واستدل الإصطخري -صاحب المذهب الرابع، القائل بجواز التصوير مطلقا- استدل بأن التحريم كان مقرراً على عهد النبوة وذلك لقرب العهد بالأصنام، وقرب مشاهدة الناس لعبادة الأصنام، فحرم التصوير واتخاذ التماثيل حتى يستقر في نفوسهم بطلان عبادة الأوثان، ولما كان هذا المعنى المقصود من التحريم غير موجود الآن بسبب استقرار النفوس على العدول عن تعظيم الأصنام، فإن التحريم يكون لا معنى له، لأن المقرر أن الحكم يدور مع علته، وأنه يزول بزواله علته، وقد زالت العلة فيزول الحكم ويبقى التصوير على الإباحة والجواز، ودعم الاصطخري استدلاله هذا بقوله إنه لو كان حكم الحظر باقياً لكان استعمال كل من استحسن محرماً، وهو لم يقل به أحد. والراجح في هذا: هو القول بتحريم الصور المجسمة لذي الروح، كالإنسان والحيوان والتي تعرف بالتماثيل، حيث إنه يشتمل على المضاهاة لخلق الله سبحانه، وبالتالي فلا يجوز بيعها أو شراؤها ونحو ذلك من جميع التصرفات الأخرى. والله تعالى أعلم. ومن المسائل المفرعة: حكم صناعة واتخاذ هذه الصور إذا كانت غير ممتهنه، كأن تكون معلقة، أو منصوبة مصانة عن الوطء أو الدوس ونحوهما، فقد اختلف الفقهاء في هذا: مذهب الحنفية: القول بكراهة اتخاذ الصور غير الممتهنة. فقد جاء في شرح فتح القدير: "ويكره أن يكون فوق رأسه في السقف، أو بين يديه، أو بحذائه تصاوير أو صورة معلقة,.."2. وجاء في بدائع الصنائع: " ... وكذا يكره الدخول إلى بيت فيه صور على سقفه أو حيطانه أو على الستور والأزر والوسائد والعظام...."3.

_ 1 الموسوعة الفقهية الكويتية 12/100 – 101. 2 ابن الهمام 1/415. 3 الكاساني 1/116.

فالمستفاد من نصوص الحنفية: القول بكراهة الصور غير الممتهنة كالصور على السقف أو الحيطان والوسائد ونحوها، وكأن الحنفية سووا في الحكم بين الصور الممتهنة وغير الممتهنة في الحكم وهو الكراهية. مذهب المالكية: قالوا بكراهة اتخاذ الصور غير الممتهنة. فقد جاء في حاشية الدسوقي: ".... وغير ذي ظل كالمنقوش في حائط، أو ورق، فيكره إن كان غير ممتهن,.."1. وجاء في مواهب الجليل: " ... وما لا ظل له فإن كان غير ممتهن فهو مكروه"2. فالمستفاد من نصوص المالكية: أن اتخاذ الصور غير الممتهنة كالصور المنقوشة في حائط أو ورق ونحو ذلك مكروه شرعاً. مذهب الشافعية: قالوا بحرمة اتخاذ الصور غير الممتهنة. فقد جاء في الزواجر عن اقتراب الكبائر: " ... وأما المصور صورة الحيوان فإن كان معلقاً على حائط، أو ملبوس كثوب أو عمامة مما لا يعد ممتهناً فحرام,.."3. وفي شرح النووي على مسلم: "وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان، فإن كان معلقاً على حائط، أو ثوباً ملبوساً، أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهناً، فهو حرام,.."4. فمذهب الشافعية: أن اتخاذ الصور غير الممتهنة كالمعلق على الحوائط ونحو ذلك محرم شرعاً، فصورة الحيوان في المعلق على حائط أو ملبوس كثوب أو عمامة مما لا يعد ممتهناً فهو حرام. مذهب الحنابلة: قالوا بحرمة اتخاذ الصور غير الممتهنة. فقد جاء في كشاف القناع: "ويحرم على ذكر وأنثى لبس ما فيه صورة حيوان,.. وتعليقه، أي ما فيه صورة.

_ 1 الدسوقي 2/338. 2 الحطاب 1/552. 3 الهيتمي 2/63. 4 14/81.

وستر الجدر به، وتصويره، كبيرة للوعيد عليه,.."1. وجاء في حاشية الروض المربع: " ... فتصوير الحيوان حرام وكبيرة، سواء صنعه لما يمتهن أو لغيره، وسواء كان في الدراهم أو الحيطان أو الثياب أو الورق,.."2. فمذهب الحنابلة: حرمة اتخاذ الصور غير الممتهنة، وتعليق ذلك على الجدار، وقد سووا بين الممتهن وغيره، وقالوا تصوير الحيوان حرام وكبيرة، سواء صنعه لما يمتهن أو لغيره، وسواء كان في الدراهم أو الحيطان أو الثياب أو الورق أو نحو ذلك. الموازنة: بمطالعة ما قاله الفقهاء بشأن تصوير الصور في غير الممتهن كأن تكون معلقة مصانة عن الدوس والوطء ونحو ذلك يتضح الآتي: أ - أن الحنفية وكذا المالكية يرون كراهية اتخاذ مثل هذه الصور. ب - أن الشافعية وكذا الحنابلة يرون حرمة اتخاذ مثل هذه الصور. فخلاصة الأقوال في هذه المسألة مذهبان: المذهب الأول: يرى كراهة اتخاذ وصناعة الصور غير الممتهنة، وإلى هذا ذهب الحنفية والمالكية. المذهب الثاني: يرى حرمة اتخاذ وصناعة الصور غير الممتهنة، وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول القائلون بكراهة اتخاذ الصور غير الممتهنة: 1- بما روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث قالت: كان لنا ستر فيه تمثال ظاهر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا"3. فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهتكه أو نزعه بل أمر بتحويله فقط، وهذا يدل على الكراهة

_ 1 البهوتي 1/329 – 330 2 ابن القاسم 1/516. 3 الحديث أخرجه مسلم كتاب اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الحيوان برقم 2107.

فقط. 2- بما روي عن أنس رضي الله عنه قال: كان قرام1 لعائشة رضي الله سترت به جانب بيتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أميطى هذا عني فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي" 2. واستدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بتحريم اتخاذ الصور غير الممتهنة: 1 - بعموم الأدلة الدالة على تحريم الصور مطلقاً، والتي سبق عرضها كأدلة لمن قال بتحريم الصور مطلقاً. 2- أن متخذ الصور قد تشبه بالكفار الذين يتخذون الصور في بيوتهم، ويعظمونها، فكرهت الملائكة ذلك، لأن اتخاذ الصور معصية، والمعصية تمنع دخول الملائكة لبيته وصلاتها فيه واستغفارها وتبريكها عليه. والذي يترجح لدي: هو ما قال به الشافعية والحنابلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع عن دخول البيت الذي فيه ستر عليه صورة، وأمر بنَزعه وهتكه، وما ورد في بعض روايات الحديث أنه أظهر كراهيته له وتركه، فهذا -والله أعلم- محمول على صورة غير ذي الروح كالشجرة ونحوه كما قال الحافظ في الفتح، أو يحمل هذا على أنه كان قبل التحريم، كما أشار إليه النووي في شرحه على مسلم، وبالتالي لا يجوز بيع صور ذي الروح التي تعلق على الحائط أو التي توجد في الستائر المعلقة، لأنها غير ممتهنة لما في ذلك من المعصية وشيوع المنكر. والله تعالى أعلم. حكم الصور الممتهنة: مذهب الحنفية: لم تصرح كتب الحنفية بحكم الصور الممتهنة غير أنه يفهم من قولهم بكراهة الصور المجسمة لذي الروح، وأنه إذا كانت الصورة غير مجسمة وكانت لغير ذي الروح أو كانت ممتهنة فإنه لا بأس من اتخاذها واستعمالها، تخريجاً على مفهوم قولهم بالكراهة

_ 1 القِرام: الستر الرقيق، وبعضهم يزيد وفيه رقم ونقوش. المصباح المنير للفيومي صفحة 500 القاموس المحيط للفيروز آبادي 1482. 2 الحديث أخرجه البخاري برقم 367، برقم 5614.

فيما عدا ذلك. مذهب المالكية: أن التصوير الموضوع على ما هو ممتهن كحصير وبساط فالأولى تركه. فقد جاء في حاشية الخرشي: "وإن كان ممتهناً فتركه أولى,.."1. وفي شرح منح الجليل: " ... وإن كان في ممتهن كحصير وبساط فخلاف الأولى,.."2. مذهب الشافعية: القول بعدم حرمة الصور على الممتهن كبساط ووسادة ونحو ذلك، ولعل هذا فيه احتمال الجواز. فقد جاء في الزواجر عن اقتراف الكبائر: " ... أو ممتهنا كبساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها فلا يحرم, ... "3. فمذهب الشافعية: أن صورة الحيوان على ما هو ممتهن كسجادة أو بساط أو حصيرة أو مخدة أو وسادة ونحو ذلك أنه لا بأس من استعمالها واتخاذها. مذهب الحنابلة: النص على أنه لا يحرم افتراش ما فيه صورة، ولا جعله مخدة، بل وأنه لا يكره فيها ذلك. فقد جاء في الإنصاف: " ... ولا يحرم افتراشه ولا جعله مخدة، بل ولا يكره فيها,.."4. الموازنة: حاصل هذه المذاهب أن اتخاذ ما فيه صورة واستعماله على نحو الامتهان كأن كان موضوعاً في وسادة أو مخدة أو بساط أو حصير ونحو ذلك لا بأس به، مع خلاف لفظي في التعبير عن هذا ما بين التصريح بهذا، أو من قال بأنه خلاف الأولى، أو من نص صراحة على عدم حرمة ذلك وعدم كراهته، كما فعل الحنابلة، أو أنه نص على تحريم تصوير ذي الروح وسكت عن غيره، فما يفهم منه أنه لا بأس من استخدامه، خاصة مع وجه امتهانه. وهذا هو تحقيق القول في مسألة اتخاذ ما به صورة لحيوان ونحوه من شجر وغير ذلك طالما كانت على وجه الامتهان، وهذا هو الراجح في المسألة، تقريراً لوجه ما

_ 1 الخرشي 4/395. 2 الشيخ عليش 2/166 – 167. 3 الهيتمي 2/62 – 63. 4 المرداوي 1/436.

قالوه هناك، وما استدلوا به، والمستفاد منه ما تقرر هنا قولاً واستدلالاً. والله تعالى أعلم.

المطلب الثاني: التصوير لغير ذي الروح

المطلب الثاني: التصوير لغير ذي الروح يدخل في هذه المسألة التصوير المجسم والمرقوم لما لا روح له، وقد اختلف الفقهاء في هذا على النحو الآتي: مذهب الحنفية: القول بجواز التصوير لما لا روح له كالشجرة ونحوه، وقالوا بأن مثل هذا النوع من التصوير لا يوجب الكراهة، لأنه لا يحصل الشبه به بمن يعبد التمثال ونحوه. فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... فأما صورة ما لا حياة له كالشجر ونحو ذلك فلا يوجب الكراهة، لأن عبدة الصورة لا يعبدون تمثال ما ليس بذي روح فلا يحصل الشبه بهم,.."1. وجاء في شرح فتح القدير: " ... ولا يكره تمثال غير ذي الروح، لأنه لا يعبد,.."2. مذهب المالكية: القول بجواز التصوير لما لا روح له كغير الحيوان كالشجر ونحوه. فقد جاء في شرح منح الجليل: " ... وأما تصوير غير الحيوان كشجرة وسفينة وجامع ومنار فجائز، ولو كان له ظل ويدوم,.."3. وفي مواهب الجليل: " ... قال الشيخ: التمثال إن كان لغير حيوان كالشجر جاز ... "4. مذهب الشافعية: القول بجواز تصوير ما لا روح له مثل الشجر والشمس والقمر ونحو ذلك. فقد جاء في الزواجر عن اقتراب الكبائر: " ... وأما تصوير صور الشجر ونحوها

_ 1 الكاساني 1/116. 2 ابن الهمام 1/416. 3 الشيخ محمد عليش 2/167. 4 الحطاب 1/551.

مما ليس بحيوان فليس بحرام...."1. وفي مغني المحتاج: "ويجوز ... صورة شجر ونحوه مما لا روح فيه، كشمس وقمر ... "2. وجاء في شرح النووي: " ... وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام،,.. وأما الشجر ونحوه مما لا روح فيه فلا تحرم صنعته، ولا التكسب به، وسواء الشجر المثمر وغيره، وهذا مذهب العلماء كافة إلا مجاهداً3 فإنه جعل الشجر المثمر من المكروه، قال القاضي4: لم يقله أحد غير مجاهد,.."5. مذهب الحنابلة: جواز تصوير شجر وسفن وشمس وقمر ونحو ذلك، من غير ذي الروح. فقد جاء في كشاف القناع: " ... وتباح صورة غير حيوان كشجر وكل ما لا روح فيه,.."6. وجاء في الإنصاف: ".... لا يحرم تصوير الشجر ونحوه,.."7. وفي إعلان النكير على بعض المفتونين بالتصوير: " ... فقوله في هذا الحديث: "يخلق خلقا كخلقي" يعم ذوات الأرواح والشجر وغيره,.."8. الموازنة: بمراجعة نصوص الفقهاء بشأن تصوير غير ذي الروح يتضح الآتي:

_ 1 الهيتمي 2/63. 2 الشربيني 3/316. 3 هو مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي مولى بني مخزوم، تابعي مفسر من أهل مكة، أخذ التفسير عن ابن عباس، قرأه عليه ثلاث مرات يقف عند كل آية يسأله فيم نزلت وكيف كانت تنقل في الأسفار، واستقر في الكوفة، ويقال إنه مات رحمه الله وهو ساجد سنة 104 هـ. راجع: الأعلام للزركلي 5/278. 4 هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي ولد بسبته سنة 496هـ كان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم، توفي رحمه الله بمراكش سنة 544هـ. راجع: الأعلام للزركلي 5/99. 5 النووي 14/81 – 91. 6 البهوتي 1/331. 7 المرداوي 1/436. 8 حمود عبد الله التويجري صفحة 45.

أ- أن عامة الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية وكذا الحنابلة يرون جواز تصوير ما لا روح له نحو الشجر والقمر وغيره، على خلاف طفيف في التعبير عن هذا، فمنهم من قال بالجواز كالحنفية والمالكية والشافعية، ومنهم من عبر بالإباحة كالحنابلة. ب- أن بعض الفقهاء والمحدثين يرون حرمة تصوير غير ذي الروح، وأنه في هذا شأنه شأن تصوير ذي الروح كالحيوان ونحوه، وذلك على نحو ما ورد بإعلان النكير المقرر فيه رأي بعض الحنابلة المحدثين. ?- أن مجاهداً -صاحب ابن عباس- فرق بين الشجر المثمر الذي قال بأن تصويره مكروه، وبين الشجر غير المثمر الذي جوز تصويره. وعليه فالمسألة فيها ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: يقول بالجواز على الإطلاق. المذهب الثاني: يقول بالحرمة على الإطلاق. المذهب الثالث: فرق بين تصوير الشجر المثمر وغير المثمر، وهذا ما قال به مجاهد - صاحب ابن عباس رضي الله عنهما -، حيث ذكر مذهب هذا صاحب فتح الباري فقد ورد فيه "وقد قيد مجاهد -صاحب ابن عباس- جواز تصوير الشجر بما لا يثمر، أما ما يثمر فألحقه بماله روح، قال عياض: لم يقله أحد غير مجاهد, ... "1. الأدلة: أ - استدل القائلون بجواز التصوير لغير ذى الروح بما يأتي: 1- ما روي أن رجلاً 2 جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما: فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فافتني فيها؟ فقال له أدن مني، فدنا

_ 1 ابن حجر العسقلاني 10/409. 2 هذا الرجل من أهل العراق كما جاء ذلك في رواية عند النسائي أنه قال: "إني من أهل العراق، وإني أصور هذه التصاوير....". راجع: السنن الكبرى للبيهقي 7/269.

منه، ثم قال: ادن مني، فدنا منه، حتى وضع يده على رأسه وقال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فيعذبه في جهنم"، فقال: "إن كنت لا بد فاعلاً، فاصنع الشجر وما لا نفس له" 1. فحديث ابن عباس رضي الله عنهما نص صريح على جواز تصوير الشجر وكل شيء ليس فيه روح، فتُخصص به عموم النصوص الواردة في النهي عن كل صورة، لأنه في حكم المرفوع. 2- ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل عليك البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان فيه تمثال، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، فُمر برأس التمثال يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومُر بالستر يقطع فيجعل منه وسادتان، ومر بالكلب فيخرج" 2. 3- ما روي عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". وفي الحديث: "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" 3. ففي الحديث تخصيص النهي بذوات الأرواح، إذ إن المصور سيؤمر يوم القيامة بنفخ الروح فيما صوّره، ولا يكون النفخ إلا فيما له روح. قال النووي: "أي اجعلوه حيواناً ذا روح كما ضاهيتم" 4. ب - استدل القائلون بتحريم التصوير لغير ذي الروح: بعموم الأدلة الواردة في حرمة التصوير عموماً، حيث إنها لم تفرق بين ذي الروح وغيره، ومن هذه الأدلة. 1 – قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا

_ 1 أخرجه البخاري برقم 2112. مسلم برقم 2110. 2 أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/305، وأبو داود كتاب اللباس برقم 4158 والترمذي برقم 2804 وقال هذا حديث حسن صحيح. 3 الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 2112. مسلم برقم 2110. 4 شرح النووي على صحيح مسلم 14/91.

بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} 1. قال القرطبي عند تفسير الآية: "وقد يستدل من هذا على منع تصوير شيء 2 سواء كان له روح أم لم يكن"3. 2 – ما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة". وهذا الحديث عام شمل الذم والتهديد والتقبيح، فعم كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله وضاهاه في التشبيه في خلقه فيما انفرد به سبحانه من الخلق والاختراع وهذا واضح 4، وهو يشمل ما فيه روح وما ليس فيه روح. 3 – عموم الأحاديث الواردة في تحريم التصوير والصور وزجر المصورين، حيث إنها لم تفرق بين ذي الروح وغيره، ومن هذه الأدلة بما روى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". وقوله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون". 4 – أن من الكفار من كان يصور مالا روح فيه كالشمس والقمر فيعبده من دون الله، فيمتنع تصويره لذلك5. ج- استدل مجاهد صاحب ابن عباس فيما يتعلق بالشق الأول، وهو كراهية

_ 1 سورة النمل: الآية 60. 2 هكذا في النص ولعلها أي شيء. 3 الجامع لأحكام القرآن 13/147. 4 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/147. 5 راجع: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر 1/409.

تصوير الشجر المثمر خاصة بنفس الأدلة التي ساقها المانعون من تصوير غير ذي الروح، أما فيما يتعلق بالشق الثاني وهو إباحة تصوير الشجر غير المثمر خاصة فقد تمسك بذات ما استدل به المجوزون لتصوير غير ذي الروح مطلقاً. والذي يترجح لدي: هو القول بجواز تصوير غير ذي الروح كالشجر والنبات والشمس ونحوها، وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وذلك لقوة ما استدلوا به، وأنه لا وجه لتفرقة مجاهد بين الشجر المثمر وغير المثمر، ويترتب على هذا الرجحان القول بجواز التجارة فيها بيعاً وشراء فضلاً عن القيام بصناعتها، وأن القول بحرمة تصوير غير ذي الروح قول ضعيف، وأن الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما وقد جوز تصوير الشجر وما لا نفس فيه، وكل شيء ليس فيه روح، وما يدعم ذلك: أن هذا الحديث ورد في الصحيحين، ويمكن الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض فيجب حمل التصوير المذموم في الأحاديث على تصوير ذي الروح. وقد جاء في عمدة القارى: أن مراد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح" هو أن المصور إنما يستحق هذا العذاب لكونه قد باشر تصوير حيوان مختص بالله تعالى، وتصوير جماد ليس في معنى ذلك فلا بأس به" 1 والله تعالى أعلم. أما بالنسبة للصور الشمسية "الفوتوغرافية": فقد اختلف أهل العلم بشأن حكم الشرع فيما يتعلق بالتصوير الفوتوغرافي، وذلك على قولين: فمنهم من قال بحرمة هذا التصوير كغيره مما سبق، ومنهم من قال بعدم حرمته لعدم وجود علة التحريم فيه، ولهذا كان منشأ هذا الخلاف هو الإجابة على سؤال مهم وهو: هل التصوير الفوتوغرافي يشتمل على العلة التي من أجلها حرم التصوير بالأيدي أم لا؟ وبمعنى آخر هل التصوير الفوتوغرافي مثل التصوير بالأيدي؟ أم أنه غير مماثل له؟ فمن رأى أنه مثله واشتمل على نفس العلة قال بتحريمه، ومن رأى أنه غير مماثل له قال بجوازه وعدم حرمته، وذلك على النحو الآتي:

_ 1 العيني 12/39.

المذهب الأول: يرى أن التصوير الفوتوغرافي غير محرم، وأنه مباح شرعاً، وذلك لعدم وجود علة التحريم فيه، وذلك لأن أخذ الصورة بالفوتوغرافيا ليس إلا حبس للضوء، ولهذا كان أخذ الصورة على هذا الوجه ليس خلقاً للصورة، فالتصوير بواسطة هذه الآلة المستحدثة ليس من التصوير المنهي عنه، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم المعاصرين. فقد جاء في فقه السنة: " ... والصور الفوتوغرافية فهذه كلها جائزة، وكانت ممنوعة في أول الأمر ثم رخص فيها بعد,.."1. وجاء في الجواب الشافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي: " ... إن أخذ الصورة بالفوتوغرافيا الذي هو عبارة عن حبس الظل بالوسائط المعلومة لأرباب هذه الصناعة، ليس من التصوير المنهي عنه في شيء، لأن التصوير المنهي عنه هو إيجاد صورة وصنع صورة لم تكن موجودة ولا مصنوعة من قبل، يضاهي بها حيواناً خلقه الله تعالى، وليس هذا المعنى موجوداً في أخذ الصورة بتلك الآلة"2. وجاء في كتاب الحلال والحرام: " ... وأما الصور الشمسية الفوتوغرافية فالأصل فيها الإباحة، ما لم يشتمل موضوع الصورة على محرم كتقديس صاحبها تقديساً دينياً أو تعظيمه تعظيماً دنيوياً، وخاصة إذا كان المعظم من أهل الكفر والفساق,.."3. وجاء في كتاب المجموع الثمين: " ... والتقاط الصورة بالآلة ليس مضاهاة لخلق الله، بل هو نقل الصورة التي خلقها الله تعالى نفسها، فهو ناقل لخلق الله لا مضاهاة له، ... فلو قلد شخص كتابة شخص لكانت كتابة الثاني غير كتابة الأول وهي مشابهة لها، ولو نقل كتابته بالصورة الفوتوغرافية لكانت الصورة هي كتابة الأول، وإن كان عمل نقلها من الثاني، فهكذا نقل الصورة بالآلة الفوتوغرافية الكاميرا هي تصوير

_ 1 السيد سابق 3/262. 2 الشيخ محمد نجيب المطيعي صفحة 22. 3 د. يوسف القرضاوي صفحة 113.

الله نقل بواسطة آلة التصوير ... "1. المذهب الثاني: فيرى تحريم التصوير الفوتوغرافي وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم المعاصرين. فقد جاء في كتاب الإعلام بنقد كتاب الحلال والحرام: ".... أن التصوير بجميع أنواعه تماثيل أو غير تماثيل منقوشاً باليد أو فوتوغرافيا مأخوذاً بالآلة كله حرام,.."2. وجاء في كتاب إعلان النكير على المفتونين بالتصوير: " ... ولا يخفي على عاقل أن التصوير بالآلة الفوتوغرافية هو الذي يطابق صور الحيوانات غاية المطابقة، بخلاف التصوير المنقوش بالأيدي فإنه قد لا يطابقها من كل وجه وعلى هذا فيكون التصوير بالآلة الفوتوغرافية أشد تحريماً من التصوير المنقوش بالأيدي والله أعلم,.."3. وجاء في كتاب آداب الزفاف: ".... سواء كانت مجسمة أو غير مجسمة، لها ظل أو لا ظل لها، يدوية أو فوتوغرافية، فإن ذلك كله لا يجوز,.."4. جاء في كتاب النهضة الإصلاحية: " ... وإني أحب أن تجزم الجزم كله أن التصوير بآلة التصوير "الفوتوغراف" كالتصوير باليد تماماً، فيحرم على المؤمن تسليطها للتصوير، ويحرم عليه تمكين مسلطها لالتقاط صورته بها، ولأنه بهذا التمكين يعين فعلاً على فعل محرم غليظ، وليس من الصواب في شيء ما ذهب إليه أحد علماء عصرنا هذا من استباحة التصوير بتلك الآلة,.."5. الأدلة: استدل المذهب الأول القائل بأن التصوير الفوتوغرافي غير محرم وأنه مباح بما يأتي: 1- أن الأصل في الأشياء الإباحة وذلك عملاً بقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي

_ 1 الشيخ محمد بن صالح العثيمين 2/247. 2 الدكتور صالح فوزان الفوزان صفحة 53. 3 الشيخ حمود عبد الله التويجري صفحة 94. 4 محمد ناصر الدين الألباني صفحة 113. 5 كتاب النهضة الإصلاحية للشيخ مصطفى الحمامي نقلاً عن كتاب الإعلام للشيخ صالح االفوزان صفحة 40 – 41.

خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعا} 1. فقد دلت هذه الآية على إباحة كل ما أوجده الله لنا في الأرض2، والتصوير الفوتوغرافي يدخل في معنى هذه الآية، لأنه مما خلق الله لنا في الأرض، ولم يرد في الشرع نص على تحريمه3. 2 – إن هذا النوع من التصوير غير متحقق فيه علة التحريم التي قام على أساسها النهي عن التصوير وهي المضاهاة التي تعتبر علة التحريم في التصوير، وذلك لأن التقاط الصورة بالآلة ليس مضاهاة لخلق الله، بل هو نقل للصورة التي خلقها الله تعالى نفسها، فهو ناقل لخلق الله وليس مضاهاة له، فالصورة في التصوير الفوتوغرافي مجرد نقل لتصوير الله سبحانه بآلة التصوير المستخدمة لهذا الغرض4. 3 – أن التصوير الفوتوغرافي لا يخرج عن مجرد حبس للصورة الموجودة، وأنه بهذا لا يسمى تصويرا، لأن التصوير إيجاد صورة لم تكن، ولهذا فإن التصوير الفوتوغرافي يشبه الصورة في المرآة وهي لا يمكن أن يقال لها صورة أو إن أحدا صورها، والذي تصنعه آلة التصوير هو صورة لما في المرآة، غاية الأمر أن المرآة "الفوتوغرافي" تثبت الظل الذي يقع عليها، والمرآة ليست كذلك5. 4 – أن التصوير الفوتوغرافي له فوائد عديدة، وأن الحاجة داعية إليه، وفيه تحقيق لمنافع العباد حيث إن فيه الإعانة على كمال أمور الدنيا والدين بالنسبة للأمة في مجموعها في هذا العصر. ب- واستدل المذهب الثاني القائل بتحريم التصوير الفوتوغرافي: 1 – أن علل تحريم التصوير الواردة في النصوص الشرعية موجودة في الصور

_ 1 سورة البقرة: الآية 29. 2 الحلال والحرام في الإسلام د. يوسف القرضاوي صفحة 113. 3 حكم ممارسة الفن في الشريعة الإسلامية للشيخ صالح الغزالي 371. 4 المجموع الثمين محمد بن صالح العثيمين بتصرف 2/247. 5 تفسير آيات الأحكام محمد علي السايس 4/431 – 432.

الفوتوغرافية، فمن ذلك كونها -أي الصورة- سبباً لتعظيم غير الله، ومن ذلك كونها مضاهاة لخلق الله، ومن ذلك كونها تمنع دخول الملائكة. 2 – أن عموم الأحاديث المستفاد منها تحريم التصوير ولعن المصورين والأمر بطمس الصورة وهتكها وتمزيقها، أن هذا العموم يرد على التصوير الفوتوغرافي، حيث إن هذا يسمى صوراً، وأن ذات العمل يسمى تصويراً، ومن يقوم به يسمى مصوراً، ومن هذه النصوص: قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المصورين" 1 حيث إن لفظ المصورين في الحديث عام بدخول أل المفيدة استغراق الجنس، أي جنس المصورين جميعاً دون استثناء، ومنهم أصحاب التصوير الفوتوغرافي. قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مصور في النار" 2 والمعروف أن لفظ "كل" من ألفاظ العموم ولهذا شمل النص كل مصور، ومنه صاحب التصوير الفوتوغرافي. 3 – أن الأحاديث الآمرة باتقاء الشبهات شاملة للتصوير الفوتوغرافي، حيث إنه لا يخرج عن دائرة المتشبهات التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باجتنابها والاحتياط بالامتناع منه، ومن الأحاديث الآمرة باتقاء الشبهات قولهصلى الله عليه وسلم "دع ما يريبك إلى مالا يريبك" 3 وقوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" 4. وبعد الموازنة بين القولين السابقين: تقرر أن التصوير الفوتوغرافي لاشك داخل في

_ 1 أخرجه البخاري برقم 5617 بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور، وفي كتاب الطلاق برقم 5032 بلفظ: ولعن المصورين. 2 الحديث أخرجه مسلم وقد سبق تخريجه. 3 أخرجه أحمد 1/200، والترمذي برقم 2518 والنسائي برقم 5711 من طريق الحسن بن علي، وصححه الشيخ الألباني. راجع: إرواء الغليل للشيخ الألباني برقم 12، 2074. 4 أخرجه البخاري برقم 52، وبرقم 1946، ومسلم برقم 1599.

عموم نصوص النهي عن التصوير، وذلك بحسب الأصل، لأن النصوص عامة شاملة لكل أنواع التصوير، وعلة التحريم حاصلة في التصوير الفوتوغرافي من عدم دخول الملائكة المكان الذي توجد به صور، وأن الشرع لم يصرح باستثناء ذلك النوع من التصوير، غير أن الحاجة إلى التصوير الفوتوغرافي ماسة في العصر الحاضر مما يجوز إباحته استثناء من أصل المنع والتحريم، عملاً بقواعد الشرع في إباحة بعض المحرمات عند وجود الحاجة الداعية إليها. فالتصوير الفوتوغرافي على هذا جائز خاصة في العصر الحالي، وذلك لترتب قضاء مصالح الناس عليه كالتصوير من أجل استخراج البطاقات الشخصية والعائلية وجواز السفر ورخصة القيادة ونحو ذلك. وهذا الجواز وإن كان فيه خروجاً عن الأصل إلا أنه ورد في السنة الصحيحة إباحة جواز اتخاذ الصور المحرمة عند وجود الحاجة إليها ترتب المصلحة المعتبرة عليها، ومن ذلك ما صح عن الربيع بنت معوذ قالت: "أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة، من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد، ونصوم صبياننا الصغار منهم -إن شاء الله- ونذهب إلى المسجد ونجعل لهم اللعبة من العهن1 فنذهب بهم معنا، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناهم ذاك حتى يكون عند الإفطار وفي رواية: فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم"2. فقد أجازت السنة الشريفة بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن. ومن ذلك أيضاً ما صح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "أنها كانت تلعب بالبنات– أي اللعب الصغيرة على صورة البنات– فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي لي بصواحبي يلعبن

_ 1 العهن: هو الصوف الملون: ومفرده: عهنة. راجع: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3/295 مادة عهن. 2 أخرجه البخاري برقم 1859، ومسلم برقم 1136.

معي"1 فقد خص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصورة، وبه جزم القاضي عياض ونقله عن الجمهور2. وعليه: فأرى إباحة وجواز التصوير الفوتوغرافي للحاجة الماسة إليه في الوقت الحاضر، ولتحقيقه للمصلحة العامة، فهو يحقق مصلحة دينية متمثلة في تصوير الأعمال الحربية النافعة، ومصلحة دنيوية تتمثل في تصوير من يشتبه في أمرهم، وتصوير من يحتاج إلى تحقيق شخصيتهم لئلا يشبهوا بغيرهم، كما أن المصور بالآلة الفوتوغرافية لا يفعل إلا مجرد تثبيت الصورة التي أمامه بحالها على نحو ما خلق الله سبحانه، فهو لا يحاكي الخالق بل يثبت ما أوجده الله سبحانه بنفس الهيئة والرسم، وهذا الجواز مشروط بعدم اشتمال موضع الصور على محرم كإظهار مواطن الفتنة والأنوثة في النساء بتصويرهن عاريات أو شبه عاريات أو متبرجات ونحو ذلك مما حرم شرعاً، فلا مانع من ممارسة هذا العمل والاتجار فيه بيعاً وشراء وإن الضرورات تقدر بقدرها. والله تعالى أعلم.

_ 1 أخرجه مسلم برقم 2440، وأحمد في المسند 6/57، 166، 233، 234. 2 فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر 10/544.

المبحث الثاني: حكم بيع الصور بأنواعها

المبحث الثاني: حكم بيع الصور بأنواعها لم أجد فيما اطلعت عليه من كتب المذاهب الأربعة نصاً على حكم بيع الصور بأنواعها المختلفة، وإنما وجدت في بعض كتب الشافعية والحنابلة نصوصاً تمنع بيع الأصنام ومن هذه النصوص: ما جاء في مغني المحتاج: ".... أن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام وقيس بها ما في معناها"1. فهذا نص على حرمة بيع الأصنام ومعها ما ذكر، ونص على أن ما في معناها يقاس ويخرج حكمه عليها. وجاء في كشاف القناع: " ... ولا يصح بيع دم وخنزير وصنم"2. والمقرر أن الأصنام تدخل في الصور المجسمة، وعليه استخرجت من هذه النصوص حرمة بيع الصور بجميع أنواعها. هذا فضلاً عن أن صحة البيع وصحة التصرفات الأخرى الناقلة للملكية مبني على جواز اتخاذ واقتناء واستعمال تلك الأعيان أو عدم جواز ذلك ومنعه، وقد بينا في المبحث السابق آراء الفقهاء في اتخاذ الصور: أ- بالنسبة للصور المجسمة: المذهب الأول: يرى حرمة الصور المجسمة، وعليه يمكن أن نخرج حرمة بيعها تبعاً وإعمالاً لما تقرر من حرمة اتخاذها، وإلى هذا ذهب كل من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. المذهب الثاني: يرى جواز صناعة الصور المجسمة واتخاذها، هذا عند بعض

_ 1 الشربيني 3/393. 2 البهوتي 4/1386.

الشافعية، وبناء عليه يجوز بيعها تبعاً لما تقرر لديهم من جواز الاتخاذ والصنعة. والراجح: ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول المنتهي إلى حرمة بيع الصور المجسمة. ب- بالنسبة للصور غير الممتهنة: المذهب الأول: رأى كراهية اتخاذ وصناعة الصور غير الممتهنة، وإلى هذا ذهب الحنفية والمالكية وبناءً عليه فإن بيع هذه الصور يكون مكروهاً. المذهب الثاني: يرى حرمة اتخاذ وصناعة الصور غير الممتهنة، وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة وبناءً عليه فإن بيع هذه الصور يكون محرماً. والراجح: هو حرمة بيع مثل هذه الصور على نحو ما ذهب الشافعية والحنابلة. والله تعالى أعلم. ج – بالنسبة للصور الممتهنة: فإنه لا مناص من سحب ما تقرر لدينا بشأن اتخاذ وصنع الصور للأشجار ونحوها، المشتبه على ما هو ممتهن بالدوس ونحوه مثل المتخذ على وسادة أو مخدة أو سجادة أو بساط أو حصير ونحو ذلك مما يتحقق معه وجه امتهان المصنوع وعدم تقديسه أو تعظيمه بصونه عن الامتهان، ولما كان المقرر أنه لا بأس من اتخاذ مثل هذه الصور على ذلك النحو، فإن الحكم هنا بشأن بيعها وتداولها وإجراء جميع التصرفات عليها مخرج على ذلك الحكم، وبالتالي فلا بأس من بيعها طالما أننا قد تفادينا تقديسها أو تعظيمها بالامتهان. د- بالنسبة لصور غير ذي الروح: المذهب الأول: يرى جواز اتخاذ الصور لغير ذي الروح وإلى هذا ذهب كل من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة فهو مذهب عامة الفقهاء، وعليه يخرج جواز بيع الصور المصورة عليها غير ذي الروح وفقا لما ذهب إليه الجمهور. المذهب الثاني: يرى حرمة الصور لغير ذي الروح وهذا عند بعض العلماء خلافا للجمهور، وعليه يخرج حرمة بيع صور غير ذي الروح عندهم.

المذهب الثالث: يرى جواز الصور لغير ذي الروح من الشجر غير المثمر دون الشجر المثمر، وهذا ما قال به مجاهد صاحب ابن عباس، وعليه نخرج جواز بيع صور الشجر غير المثمر دون صور الشجر المثمر عنده. والراجح: هو القول بجواز بيع صور غير ذي الروح من الشجر ونحوه مطلقاً، وهو ما قال به جمهور الفقهاء بناءً على ما ترجح هناك من قولهم بجواز ذلك النوع من التصوير. والله تعالى أعلم. هـ- بالنسبة للصور الفوتوغرافية: المذهب الأول: يرى جواز صناعة واتخاذ الصور الفوتوغرافية سداً لحاجة الناس إليها، وهذا ما قال به جمهور أهل العلم المعاصرين، وعليه نخرج جواز بيعها عندهم. المذهب الثاني: يرى حرمة صناعة واتخاذ الصور الفوتوغرافية، وهذا ما ذهب إليه بعض المعاصرين. والراجح: ما قال به أصحاب المذهب الأول من جمهور أهل العلم المعاصرين رفعاً للحرج عن الناس، وتحقيقاً لمصالحهم، وذلك بمراعاة عدم اشتمال موضوع الصورة على محرم كتقديس صاحبه تقديساً دينياً أو تعظيمه تعظيماً دنيوياً خاصة ما إذا كان المعظم من أهل الكفر والفساق1.

_ 1 الحلال والحرام للدكتور/يوسف القرضاوي صفحة 113.

المبحث الثالث: المستثنيات

المبحث الثالث: المستثنيات حكم لعب الأطفال وحكم بيعهن مذهب الحنفية: القول بجواز بيع لعب الأطفال تخريجاً على قولهم بجواز صناعة الصور غير المجسمة لغير ذي الروح، فلم تنص كتبهم فيما اطلعت عليه على حكم صناعة واتخاذ لعب الأطفال وحكم بيعها1، فكان الحكم لهذه الأمور مخرجا على ما استقر لديهم من جواز صناعة واتخاذ الصور لغير ذي الروح. مذهب المالكية: جواز بيع لعب الأطفال لتلعب بها وللتدريب على تربية الأولاد. فقد جاء في حاشية الدسوقي: " ... يستثنى من المحرم تصوير لعبة على هيئة بنت صغيرة لتلعب بها البنات الصغار فإنه جائز، ويجوز بيعهن وشرؤاهن لتدريب البنات على تربية الأولاد,.."2. وجاء في مواهب الجليل: " ... وكلما قل الشبه قوي الجواز، لما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلعب بها بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكر ذلك عليها، بل كان يرسل الجواري إليها، وكل ما جاز اللعب به جاز عمله وبيعه، قال ذلك أصبغ في سماعه من الجامع والله الموفق. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها كنت ألعب بالبنات في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النووي3 قال القاضي عياض فيه جواز اللعب بهن، قال وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها بهذا الحديث، ولما فيه من تدريب النساء في صغرهن لأمر أنفسهن وبيوتهن وأولادهن

_ 1 ومن هذه الكتب: بدائع الصنائع للكاساني، وشرح فتح القدير لابن الهمام، والهداية للمرغيناني. 2 الدسوقي 2/338. 3 هو الإمام محي الدين أبو زكريا يحي بن شرف بن مري الحواربي الشافعي عاش حياته مجداً في طلب العلم وتعليمه وتصنيف الكتب، من مؤلفاته "شرح صحيح مسلم" و"روضة الطالبين" و"المجموع شرح المهذب" ولم يكمله، توفي سنة 676 هـ. راجع: طبقات الشافعية للأسنوي 2/266 – 267.

قال وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن,.."1. مذهب الشافعية: قالوا بجواز البيع تخريجاً على جواز صنعها استثناء من الأصل بتحريم الصور المجسمة تخريجاً على جواز اللعب وصناعة هذه اللعب واتخاذها. فقد جاء في حاشية إعانة الطالبين: " ... نعم يجوز تصوير لعب البنات،,.. وحكمته تدريبهن أمر التربية, ... "2. وجاء في مغني المحتاج: "فائدة: يستثنى من صورة الحيوان لعب البنات، فلا تحرم,.."3. وهكذا يستفاد من هذه النصوص: تخريج الشافعية حكم بيع لعب البنات على حكم صناعتها واتخاذها على سبيل الاستثناء، وعدم تحريمها. مذهب الحنابلة: يرى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عدم جواز بيع أو اتخاذ لعب الأطفال إلا إذا كانت صورة مقطوعة الرأس أو لم تكن صورة، أما اللعبة إذا كانت صورة غير مقطوعة الرأس فلا يجوز اللعب بها أو اتخاذها وبالتالي لا يجوز بيعها، أما إذا كانت صورة مقطوعة الرأس أو لم تكن صورة فقد جوز شراؤها، وهذا الحكم خرج عند الحنابلة على قولهم بشأن صناعة واتخاذ مثل هذه اللعب. فقد جاء في المغني: " ... قال أحمد ولا بأس باللعب ما لم تكن صورة, ... "4. وجاء في كشاف القناع: ".... ولا بأس بلعب الصغيرة بلعب غير مصورة أو مقطوع رأسها أو صورة بلا رأس، ولا بأس بشرائها نصاً,.."5. الموازنة: بمطالعة كتب الفقه استبان لنا أن معظم هذه الكتب فيما اطلعت عليه لم تنص صراحة على حكم بيع لعب الأطفال باستثناء بعض كتب المالكية التي صرحت بهذا وعليه فقد خُرج حكم بيع هذه اللعب عند عامة الفقهاء على حكم

_ 1 الحطاب 4/266 – 267. 2 السيد البكري 3/412 – 413. 3 الشربيني 3/316. 4 ابن قدامه 7/10. 5 البهوتي 1/331.

صنعها واتخاذها وخلاصة القول في هذا الشأن مذهبان: المذهب الأول: يرى جواز بيع لعب الأطفال، وهو منصوص مذهب المالكية وما خُرج عند الحنفية والشافعية على حكم صناعتها واتخاذها حيث جوزوا ذلك. المذهب الثاني: يرى منع بيع لعب الأطفال إلا إذا كانت اللعبة على هيئة صورة مقطوعة الرأس، أو لم تكن صورة أصلاً، وهذا ما ذهب إليه الحنابلة تخريجاًَ على قولهم بشأن صناعة واتخاذ مثل هذه اللعب للأطفال، حيث اعتبروا هذا القيد هناك. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول بما يأتي: 1- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها1 ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة، لعب، فقال:"ما هذا يا عائشة؟ " قالت: بناتي، ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع فقال: "ما هذا الذي أرى وسطهن؟ " قالت: فرس قال: "ما هذا الذي عليه؟ " قالت: جناحان قال: "فرس له جناحان؟ " قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأ يت نواجذه2"3. 2- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي فكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن4 منه فُيسرّ بهن5 إلى فيلعبن معي"6.

_ 1 السهوة: هي بيت صغير منحدر في الأرض قليلاًً شبيه بالمخدع والخزانة وقيل هي كالصُفة التي تكون بين يدي البيت، وقيل بل السهوة ما يكون شبيهاً بالرف أو الطاق الذي يوضع فيه الشيء راجع: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/386 مادة سها. 2 النواجذ: من الأسنان الضواحك وهي التي تبدو عند الضحك، والمشهور أنها تطلق على أقصى الأسنان والمراد هنا الأسنان التي في مقدمة الفم لأنه لم يكن يبلغ به الضحك حتى تبدو أواخر أضراسه. راجع: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 5/17. مادة نجذ. 3 أخرجه أبو داود برقم 4932، والبيهقي في السنن 10/29. 4 انقمعن أو ينقمعن معناه: تغيبن ودخلن في بيت أو من وراء ستر وأصله القِمَع الذي على رأس الثمرة أي يدخلن فيه كما تدخل الثمرة في قِمَعها. راجع: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4/95. 5 فيسر بهن: أي يرسلن إليها يلعبن معها يقال: سرب، إذا أرسل. راجع: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/321 مادة سرب. 6 أخرجه البخاري برقم 5779، ومسلم برقم 2440.

3- حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها: "أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: " من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم" قالت: فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار". 4- أن لعب الأطفال تعتبر حاجة ماسة وأمراً لا بد من وجوده، وذلك من أجل تدريب البنات على تربية أولادهن في المستقبل، وتدبير شؤون بيوتهن، وكفاً لإيذائهن داخل البيت، وهذه مصلحة كبيرة تتعلق بحق الصغار والكبار. استدل أصحاب المذهب الثاني: استدل الحنابلة فيما ذهبوا إليه من قولهم بعدم جواز بيع واتخاذ لعب الأطفال بنفس ما استدل به من قال بحرمة الصور وحرمة اتخاذها وحرمة بيعها. واستدلوا على ما قالوه من جواز اتخاذ وبيع لعب الأطفال إذا كانت على هيئة صورة غير أنها مقطوعة الرأس أو لم تكن صورة أصلاً بنفس ما استدل به الجمهور هنا من جواز اتخاذ وبيع لعب الأطفال. والذي يترجح لدي: هو جواز بيع لعب الأطفال وهي المصنوعة من العهن والرقاع والخرق ونحو ذلك، وأن مثل هذه اللعب تدخل السرور والبهجة على قلوب الأطفال الصغار، مما يجعلهم مرحين متفائلين في الحياة غير منقبضين على أنفسهم، وقد لمحنا هذا الفرح والسرور من لعب السيدة عائشة رضي الله عنها ومعها الجواري. والله تعالى أعلم.

الفصل الثالث: بيع آلات اللهو

الفصل الثالث: بيع آلات اللهو وفيه ثلاثة مباحث المبحث الأول: آلات اللهو. المبحث الثاني: النرد. المبحث الثالث: الشطرنج.

تمهيد

تمهيد اللهو لغة: من لهى عن الشيء لَهياً ولُهيَاناً بمعنى: سها عنه وترك ذكره، وأضرب عنه. وألهاه شغله ولها بالشيء من باب عدا: لعب به، وتلهى مثله1، ويقال: لهوت بالشيء ألهو به لهواً، وتلهيت به إذا لعبت به وتشاغلت وغفلت به عن غيره2. فاللهو: أساسه اللعب والتشاغل والغفلة بما يتلهى به عن غيره، سواء كان ذلك الغير يتعلق بأمر الدين أو أمر الدنيا، فالإضراب والسهو عن شيء ما يعد لهواً عنه وانشغالاً وتركاً لذكره أو تذكره. ومن هنا: كان التلهي والسهو من الإنسان بهذه الملاهي عن ذكر الله والانشغال عنه والغفلة والصد عن ذكر الله سبحانه. وآلات اللهو: هي الأدوات التي يتهلى بها وتسمى بالملاهي،3 كآلة اللعب المعروف قديماً بالنرد الطاولة والشطرنج، وآلات الموسيقى بكافة أنواعها المعازف كالعود4 والقيتار5 والناي6

_ 1 راجع: مختار الصحاح للرازي صفحة: 277. 2 راجع: لسان العرب لابن منظور 12/347. 3 راجع: المرجع السابق نفس الموضع. 4 العود: هو آلة قديمة، يتخذ شكله هيئة نصف بيضاوي، كأن يشد عليه أربعة أوتار، ثم أصبح يشد عليه خمسة أوتار مزدوجة أو ستة أو سبعة ويعزف عليه بشد أوتاره بأنملة الإبهام وكان يطلق عليه أسماء عدة منها: البربط، المزهر، الكران، الموتر، العرطبة، الكبارة، القنين. راجع: الموسوعة العربيه 2/1246. 5 القيتار: هي صندوق من الخشب مسطح الوجهين، جانباه ينحيان إلى الداخل فيشبه إلى حد ما صندوق آلة الكمان أو القيولا، ويشد به أربعة أوتار وقد تزيد إلى سبعة، ويعزف عليه بجذب أوتاره بالأنامل، فتؤدي وظيفة آلة إيقاعية. راجع: المرجع السابق 2/1363. 6 الناي: هو قصبة مجوفة من ذوات العقد على ظهرها ستة ثقوب يستخرج منها النضم بالنفخ فيها مع تبديل الأصابع على الثقوب، وتغيير العمود الهوائي النازل على جدار القصبة. راجع: المرجع السابق 2/1819.

والطبل1 والدف2 والطنبور3 وغير ذلك. بعد أن عرفنا أن اللهو يراد به السهو والغفلة ذاتهما، فهذه آلات وأدوات ووسائل ذلك التلهي والسهو والغفلة. وقد سميت بالملاهي ومنها آلات اللعب المعروفة قديماً كالنرد والشطرنج وجميع الآلات الموسيقيه من العود والناي والقيتار والدف والطنبور والطبل ونحو ذلك من المعازف الحديث.

_ 1 الطبل: هو اسم يطلق على كل مغشى بالجلد من جهة واحدة أو من جهتين – ولا يدخل فيه الدف – ويتنوع الطبل إلى نوعين: نوع على هئية الأسطوانة وآخر على هئية حرف "ب" ومن هذه الطبول ما يضرب به في الحرب، أو عند التسحير أو عند التشويق للحج أو غير ذلك راجع: المرجع السابق 1/310 – 1154. 2 الدف: هو الغربال أو الطار المعروف، وهو يتخذ من إطار خشبي يغشى بالجلد من جهة واحدة، وقد يكون له جلاجل أو صراصر من النحاس أو غيره توضع في خروق تفتح لها في جوانب الدف. راجع: لسان العرب لابن منظور 4/371. 3 الطنبور: آلة وترية قديمة العهد، لها عنق طويل ذو صندوق كروي أو نصف بيضاوي يشد فيه وتران أو ثلاثة، وكيفية العزف عليها كما في العود، والصغير من أصناف الطنبور يسميه أهل الصناعة البزق. وقد عرف بعض الفقهاء الطنبور بأنه: آلة مجوفة عليها سلوك من نحاس يمر عليها بقضيب من نحاس فيحصل لها صوت مطرب. راجع: الموسوعة العربية 2/1164.

المبحث الأول: آلات اللهو

المبحث الأول: آلات اللهو تتنوع آلات اللهو إلى نوعين: نوع يستعمل في الغناء مثل المعازف 1 والمزامير والنايات ونحوها، ونوع لا يستعمل في الغناء وإنما يتخذ في اللهو والقمار مثل النرد والشطرنج. الغناء لغة 2: بالكسر والمد - السماع، وقيل: هو رفع الصوت وموالاته وقيل: الغناء من الصوت ما طرب به، ويقال: غناه الشعر وغنى به وتغنى به بمعنى واحد، وغنى بالمرأة: تغزل بها، إذا ذكرها في شعره وغنى يزيد مدحه أو هجاه كتغنى به فيهما، ويراد به رفع الصوت بالشعر أو ما يقال به من الزجر على نحو مخصوص. المطلب الأول: حكم سماع الغناء مذهب الحنفية: اختلف فقهاء الحنفية في حكم الغناء المجرد عن الآلة أي غير المصحوب بآلة عزف، فقال بعضهم حرام مطلقاً -أي فعل الغناء-، أما الاستماع إليه فهو معصية، وقال البعض يجوز أن يتغنى الشخص لزوال الوحشة عن نفسه إذا كان وحده، أما الغناء المصحوب بالمزامير فحرام، وكذلك يحرم الاستماع إليه، ولا يجوز قصد الاستماع إلى الغناء بالمزامير، ولا الجلوس عليها، فإذا كان المستمع للغناء شخصاً يقتدى به فله أن يمنعهم ويكفهم عن الغناء إذا قدر على ذلك، وإلا فعليه أن يخرج ولا يقعد معهم، أما إذا كان المستمع للغناء شخصاً غير مقتدى به فلا يلزمه الخروج إذا ابتلي بذلك بعد أن حضر، أما إذا علم أن هنالك غناء بمزامير ودعي إليه فلا يلزمه إجابة الدعوى، فالحرمة عندهم شاملة للغناء والاستماع إليه ويدخل فيه رقص المتصوفة.

_ 1 وهي الملاهي كالعود والطنبور ونحوهما ووحداها معزف والعازف هو اللاعب بها. راجع: القاموس المحيط للفيروز أبادي 3/180. 2 راجع: تاج العروس للزبيدي 10/271، ومختار الصحاح للرازي صفحة 226.

فقد جاء في البحر الرائق: "ومن دعي إلى وليمة وثمة لعب بها وغناء يقعد ويأكل ... يعني إذا أحدث الغناء واللعب بعد حضوره يقعد ويأكل ولا يترك ولا يخرج"1. وجاء في الفتاوى الهندية: ".... يجوز التغني لدفع الوحشة إذا كان وحده على سبيل اللهو.... السماع والقول.... في زماننا حرام لا يجوز القصد إليه والجلوس عليه وهو الغناء والمزامير...." 2. وجاء في تبيين الحقائق: "وقال أبو حنيفة: ابتليت بهذا مرة، هذا إذا لم يكن مقتدى به، فإن كان مقتدى به ولم يقدر على منعهم يخرج ولا يقعد، لأن في ذلك شين الدين، وفتح باب المعصية على المسلمين ... وإن كان ذلك على المائدة فلا يقعد ... وإن كان هناك لعب وغناء قبل أن يحضرها فلا يحضرها، لأنه لا يلزمه إجابة الدعوة إذا كان هناك منكر ... ودلت المسألة على أن الملاهي كلها حرام حتى التغني بضرب القضيب، وكذا قول أبي حنيفة: ابتليت يدل على ذلك لأن الابتلاء يكون بالمحرم ... واختلفوا في التغني المجرد، قال بعضهم: إنه حرام مطلقاً والاستماع إليه معصية ... "3. وجاء في مجمع الأنهر: ".... استماع صوت الملاهي معصية، والجلوس عليها فسق؛.... والإطلاق شامل لنفس الفعل واستماعه بالفعل كرقص المتصوفة والتصفيق وضرب الأوتار والصنج والبوق ونحوها ... "4. فالمستفاد من نصوص مذهب الحنفية: أن الاستماع لصوت الملاهي معصية وأن الجلوس والحضور في مجالسها فسق، وأنه يجب على الإنسان ألا يحضر مجالس الغناء خاصة لو كان بالمزامير، وأنه إذا تواجد في مثل هذه المجالس عليه أن يخرج لأن في ذلك فتحاً لباب المعصية على المسلمين، وأنه إذا دعي إلى مائدة على هذا النحو لا يجب عليه تلبية الدعوة.

_ 1 ابن نجيم 8/345. 2 الشيخ نظام 5/351 – 352. 3 الزيلعي 7/30 – 31. 4 عبد الرحمن الكيبولي 4/222.

أما الغناء المجرد فقد اختلفوا فيه فقال بعضهم: إنه حرام مطلقاً والاستماع إليه معصية، وقال بعض الحنفية يجوز أن يتغنى الشخص لزوال الوحشة عن نفسه إذا كان وحده. مذهب المالكية: الاستماع إلى الغناء مكروه بشرط ألا يكون مصحوباً بآلة عزف، وألا يكون الغناء قبيحاً، ولا يحمل على قبيح، وسواء في هذه الكراهية إذا كان الغناء بسب عرس أو صنيع أو بدونهما، وسواء في الحرمة إن تكرر الاستماع أو لم يتكرر، ويكره فعل الغناء ككراهة الاستماع. أما الاستماع إلى الغناء القبيح أو الذي يحمل على القبيح فحرام ولو لم يكن مصحوباً بآلة العزف. أما الغناء المصحوب بآلة عزف والاستماع إليه فحرام، سواء كان قبيحاً أو لم يكن قبيحاً، وسواء حمل على قبيح أو لم يحمل عليه، وسواء أكان بسبب عرس أو صنيع أو لم يكن بسببهما، وسواء تكرر ذلك أم لم يتكرر. فقد جاء في شرح منح الجليل: "سماع الغناء" ... وظاهره كان مع آلة أم لا؟..، وذكر ابن عبد الحكم: سماع العود جرحة ... والغناء إن كان بغير آلة فهو مكروه، أما إذا كان الغناء بآلة فإن كانت ذات أوتار كالعود والطنبور فممنوع وكذا المزمار واستظهر إلحاقه بالمحرمات ... وإن أطلق محمد في سماع العود أنه مكروه وقد يريد به التحريم ... "1. وجاء في حاشية الدسوقي: "سماع الغناء".... مكروه إذا لم يكن بقبيح ولا حمل عليه ولا بآلة، وإلا حرم ... ولكن المعتمد كما قال شيخنا أنه متى كان بكلام قبيح، أو يحمل على قبيح، أو كان بآلة كان حراماً، سواء كان بعرس أو صنيع أو غيرهما، تكرر أم لا، فعلاً أو سماعاً، وإن لم يكن بقبيح ولم يحمل عليه ولم يكن بآلة فالكراهة، سواء كان بعرس أو صنيع أو غيرهما، تكرر أم لا، فعلاً أو سماعاً ... ولا بآلة أي كعود وقانون2، وقوله وإلا حرم، أي وإلا بأن تخلف شرط من الشروط

_ 1 الشيخ محمد عليش 4/220. 2 آلة من آلات الطرب ذات أوتار تحرك بالكشتبان. المعجم الوسيط للدكتور أنيس وجماعه 2/763.

الثلاثة كان سماعه وكذا فعله حراماً، ولو في عرس على المعتمد ... "1. فالمستفاد من نصوص المالكية: أن الغناء المجرد مكروه بشرط أن لا يكون قبيحاً ولا يدعوا إلى قبيح، وأما إذا كان قبيحاً أو دعا إلى قبيح فيكون حراماً وأن الاستماع إليه إذا لم يكن قبيحاً ولا يدعو إلى قبيح مكروه وأن الاستماع للغناء القبيح أو الذي يدعوا إلى قبيح حرام. أما عن الغناء المصحوب بالآلة: فهو حرام والاستماع إليه حرام هو الآخر قبيحاً كان أم غير قبيح دعا إلى قبيح أم لم يدع. مذهب الشافعية: قالوا بأنه يكره الغناء بلا آلة، ويكره استماعه، وتشتد الكراهة إذا كان الاستماع إلى مغنية أجنبية، أو كان المغني فتاً أمرد، حتى لو سلم من خوف الفتنة من الاستماع إلى غنائهما، وحكى القاضي أبو الطيب تحريم الاستماع إلى غنائهما في هذه الحالة، أما إذا خشي الفتنة أو خافها من الاستماع إلى غناء الجارية الأجنبية والفتى الأمرد فيحرم السماع مطلقاً. أما إذا كان الغناء مصحوباً بآلة فيحرم، وكذلك يحرم الاستماع إليه، ويحرم كذلك العزف والضرب على الآلات التي يستعملها القوم المجتمعون على شرب المحرم مثل العود والطنبور والمزمار العراقي، كما يحرم الاستماع للعزف على هذه لتسببها للطرب، ولا يكره سماع الغناء في غير قصد إذا لم يكن مصحوباً بآلة. فقد جاء في مغني المحتاج: "ويكره الغناء بلا آلة ويكره سماعه" والمراد استماعه ... أما مع الآلة فحرامان واستماعه بلا آلة في الأجنبية أشد كراهة، فإن خيف من استماعه منها أو من أمرد فتنة فحرام قطعاً، ... ويحرم استعمال أو اتخاذ آلة من شعار "الشّربة" ... واستعمال الآلة هو الضرب بها كالطنبور وعود وصنج ومزمار عراقي، ويحرم استماعها أي الآلة المذكورة لأنه يطرب"2.

_ 1 الدسوقي 4/166 – 167. 2 الشربيني 4/542- 543 - 544.

وجاء في روضة الطالبين: "غناء الإنسان قد يقع بمجرد صوته، وقد يقع بآلة، أما القسم الأول فمكروه وسماعه مكروه ... فإن كان سماعه من أجنبية فأشد كراهة وحكى القاضي أبو الطيب تحريمه ... فإن كان في السماع منها خوف فتنة فحرام بلا خلاف، وكذا السماع من صبي يخاف منه الفتنة ... "1. وجاء في نهاية المحتاج: " ... ويكره الغناء بلا آلة وسماعه" يعني استماعه لا مجرد سماعه من غير قصد ... ويحرم استعمال آلة من شعار الشربة كطنبور وعود وصنج ومزمار عراقي واستماعها"2. فالمستفاد من نصوص مذهب الشافعية: أن الغناء المجرد مكروه، وأن هذه الكراهة تشتد إذا كانت المغنية أجنبية أو كان المغني فتاً أمرد حتى ولو سلم الفتنة، وأن الاستماع إلى الغناء المجرد مكروه، وأن الكراهة تشتد إذا كان المغني فتاً أمرد أو أجنبية إذا لم يخش الفتنة، وأن هذا الاستماع يحرم إذا خشي الفتنة من سماع غناء الأجنبية أو الأمرد، وأنه لا كراهة إذا كان الاستماع من غير قصد، أما بالنسبة للغناء المصحوب بالآلة فهو حرام، وكذا الاستماع إليه. مذهب الحنابلة: اختلف فقهاء الحنابلة في حكم فعل الغناء والاستماع إليه، فروى عن الإمام أحمد أنه قال إن ذلك لا يعجبه، لأنه ينبت النفاق في القلب، وذهب بعضهم إلى أن فعل الغناء والاستماع إليه محرم، وذهب أبو بكر والخلال3 إلى إباحة فعل الغناء والاستماع إليه مع الكراهة في ذلك. وقيل إن الغناء إذا لم يكن مصحوباً بآلة فمكروه، ويكره الاستماع إليه، أما إذا كان الغناء مصحوباً بآلة فيحرم، ويحرم الاستماع إليه، أما ضرب الأوتار والنايات والمزامير فحرام، ومن داوم على فعل ذلك

_ 1 النووي 11/227. 2 الرملي 8/296- 297. 3 أحمد بن محمد بن هارون أبو بكرالخلال مفسر عالم بالحديث واللغة من كبار الحنابلة من أهل بغداد كانت حلقته بجامع المهدي من تصانيفه: "تفسير الغريب" و"طبقات أصحاب ابن حنبل" توفي رحمه الله تعالى سنة 311هـ. راجع: الأعلام للزركلي 1/206، طبقات الحنابلة 2/11.

أو الاستماع إليه ترد شهادته. فقد جاء في كشاف القناع: "ويكره سماع الغناء والنوح بلا آلة لهو من عود وطنبور ونحوها، ويحرم معها - أي آلة اللهو- سماع الغناء"1. وجاء في المغني: "فصل في الملاهي" وهي ثلاثة أضرب "محرم" وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير والعود والطنبور والمعزفة والرباب ونحوها، فمن أدام استماعها ردت شهادته ... "2. وجاء في الكافي: "وهي نوعان: محرم: وهي الآلات المطربة من غير غناء كالمزمار، وسواء كان من عود أو قصب كالشبابة، أو غيره كالطنبور، والعود والمعزفة ... قال أحمد رضي الله عنه: لا يعجبني الغناء لأنه ينبت النفاق في القلب، وقال: من خلف ولداً يتيماً له جارية مغنية تباع ساذجة، واختلف أصحابنا فيه، فذهب طائفة إلى تحريمه، وذهب أبو بكر والخلال إلى إباحته مع الكراهة، وهو قول القاضي"3. فالمستفاد من نصوص مذهب الحنابلة: أنه بالنسبة للغناء المجرد عن الأله فالأصل في المذهب أن يكون مكروها، وكذا الاستماع إليه يكون مكروها، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يعجبه الغناء والاستماع إليه، وفي المذهب قول بأن هذا الغناء محرم، وكذا الاستماع إليه محرم هو الآخر، وقال أبو بكر والخلال من الحنابلة إنه مباح مع الكراهة، ومقصده فعل الغناء المجرد والاستماع إليه. أما بالنسبة للغناء المصحوب بالآلة: فهو حرام وكذا الاستماع إليه. الموازنة: أولاً: بالنسبة لسماع الغناء المجرد بمراجعة نصوص الفقهاء في هذا الشأن نجد أن: الحنفية: يرون أن فعل الغناء حرام مطلقاً، وأن الاستماع إليه معصية، وإن كان بعضهم يرى أنه يجوز أن يتغنى الشخص لزوال الوحشة عن نفسه بشرط أن يكون وحده.

_ 1 البهوتي 9/3311. 2 ابن قدامة 9/173. 3 ابن قدامة 4/341 – 342.

المالكية: يرون أن فعل الغناء المجرد مكروه بشرط أن لا يكون قبيحاً ولا يدعو إلى قبيح، وكذا الاستماع إليه على هذا النحو يكون مكروهاً، فإن كان قبيحا أو يدعو إلى قبيح كان فعله حراماً وكذا الاستماع إليه. الشافعية: يرون أن الغناء المجرد مكروه وكذا الاستماع إليه، وأن هذه الكراهة تشتد إذا كانت المغنية أجنبية أو كان المغني فتاً أمرد، وأن الاستماع إلى المغنية الأجنبية أو إلى الفتى الأمرد يكون حراماً إذا خشي الفتنة، وأنه لا كراهة إذا كان الاستماع من غير قصد. الحنابلة: يرون أن فعل الغناء المجرد والاستماع إليه مكروه، وذكر في المذهب قول بأن هذا الغناء محرم وكذا الاستماع إليه، وروي عن الإمام أحمد أنه لا يعجبه الغناء والاستماع إليه وقال أبو بكر والخلال إنه مباح مع الكراهة. وخلاصة القول في حكم الغناء المجرد والاستماع إليه: المذهب الأول: يرى أن فعل الغناء المجرد وكذا الاستماع إليه محرم شرعاً وإلى هذا ذهب الحنفية والمالكية إن كان الغناء قبيحاً أو يدعو إلى قبيح، والشافعية إذا كان فعل الغناء والاستماع إليه من أجنبية أو فتى أمرد إذا خشي الفتنة، وهو قول لدى الحنابلة. المذهب الثاني: يرى أن فعل الغناء المجرد وكذا الاستماع إليه مكروه شرعاً وإلى هذا ذهب المالكية إذا لم يكن الغناء قبيحاً ولا يدعو إلى قبيح، وهو مذهب الشافعية ما لم يكن من مغنية أجنبية أو فتى أمرد، وهو مذهب الحنابلة. المذهب الثالث: يرى إباحة الغناء المجرد وذلك عند بعض الحنفية إذا كان الشخص وحده ولا يكون على سبيل اللهو وكان ذلك بقصد زوال الوحشة، وهو قول لأبي بكر والخلال غير أن هذا مع الكراهة وأن الاستماع من غير قصد لا يكون مكروهاً وهذا يستفاد منه القول بإباحته وهو قول لدى الشافعية.

الأدلة: أ - استدل أصحاب المذهب الأول على حرمة سماع الغناء المجرد بما يلي: 1- قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} 1. أن لهو الحديث الذي ورد في هذه الآية فسر بالغناء وأشباهه فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية {مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قال: نزلت في الغناء وأشباهه"2. وقال عبد الله بن مسعود وقد سئل عن هذه الآية: "هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات"3 وبمثل قولهما قال جابر وعكرمة والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد. وقال الحسن البصري "نزلت في الغناء والمزامير"4. 2- قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} 5. أن اللغو في هذه الآية عام، وهو في اللغة الباطل من الكلام الذي لا فائدة فيه، والآية خارجة مخرج المدح لمن يعرض عن اللغو، ولا يخالط أهله 6. 3- روى القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامه الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل تعليم المغنيات، ولا شراؤهن، ولا بيعهن، ولا اتخاذهن؛ وثمنهن حرام، وقد أنزل الله ذلك في كتابه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، والذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا ارتدفه شيطانان يضربان بأرجلهما

_ 1 سورة لقمان: الآية 6. 2 أخرجه البخاري في الأدب المفرد صفحة 234، 432، والطبري في التفسير 21/61، والبيهقي في السنن 10/221، 223. 3 أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4/368، والطبري في التفسير 21/61، والحاكم في المستدرك 2/445 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الحافظ ابن حجر أيضا. راجع: التلخيص الحبير 4/200. 4 السنن الكبرى 10/223. 5 سورة القصص: الآية 55. 6 نيل الأوطار للشوكاني 8/104.

صدره وظهره حتى يسكت" 1. 4- بما روي عن عبد الرحمن بن غنم2 قال: حدثني أبو مالك الأشعري3 أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير" 4. 5- بما روي عن عقبة بن عامر5 رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل شيء يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله فإنهن من الحق" 6. 6- أن الغناء يخرج الإنسان عن الاعتدال، ويغير العقل وبيان هذا: أن الإنسان إذا طرب فعل ما يستقبحه في حال صمته من غيره، من تحريك رأسه وتصفيق يديه

_ 1 الحديث أخرجه الحارث في مسنده 2/843 زوائد الهيثمي، والطبري في التفسير 21/60، وأخرج نحوه الترمذي في كتاب البيوع باب ما جاء في كراهية بيع المغنيات برقم 1205وكتاب تفسير القرآن باب ومن سورة لقمان برقم 3195، والطبراني في المعجم الكبير 8/180. 2 هو عبد الرحمن بن غَنْم بن كريز الأشعري شيخ أهل فلسطين وفقيه الشام في عصره ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعثه عمر بن الخطاب إلى الشام ليفقه أهلها وكان كبير القدر توفي رحمه الله تعالى سنة 78?. راجع: الأعلام للزر كلي 3/322 والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 6/314-315 برقم 5173. 3 أبو مالك الأشعري، قيل اسمه عبيد، وقيل عبد الله، وقيل عمرو، وقيل كعب بن عاصم وقيل عامر بن الحارث، صحابي جليل، مات في طاعون عمواس عام 18?. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 7/295، تقريب التهذيب لابن حجر صفحة 424. 4 أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 1/304، وابن ماجة في السنن كتاب الفتن باب العقوبات برقم 4020، وابن حبان في صحيحه 15/160، والطبراني في الكبير 3/283. 5 عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو الجهني الصحابي المشهور، شهد الفتوح، وكان هو البريد إلى عمر بفتح دمشق، وشهد صفين مع معاوية، وأمرّه بعد ذلك على مصر لمدة ثلاث سنين، توفي رضي الله عنه في خلافة معاوية 58هـ. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 1843، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 7/21، 22، 23 برقم 5594. 6 أخرجه أحمد في المسند 4/144، 148، والترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله برقم 1637 وقال حديث حسن صحيح، وابن ماجة في السنن كتاب الجهاد باب الرمي في سبيل الله برقم 2811، والدارمي في السنن كتاب الجهاد باب في فضل الرمي والأمر به برقم 2405 عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.

ودق الأرض برجليه إلى غير ذلك مما يفعله أصحاب العقول السخيفة، والغناء يوجب ذلك، بل يقارب فعله فعل الخمر في تغطية العقل، فينبغي أن يقع المنع منه" 1. ب - واستدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بكراهة سماع الغناء المجرد: 1- بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} 2. أن لهو الحديث في الآية الكريمة يراد به الغناء على ما فسره ابن عباس وابن مسعود وجابر وغيرهم، ولذا فإن من اتخذ الغناء سبيلاً إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله، واتخذ سبيل الله هزواً يستهزي بها استحق العذاب الدائم يوم القيامة، باستهانته بآيات الله وسبيله، إلا أنهم حملوا النكير في الآية على من يتخذ الغناء وسيلة للإضلال عن سبيل الله – على الكراهة وليس الحرمة3. 2- ما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل" 4. أن الغناء يكون سبباً لحصول النفاق في قلب من يغني ومن يستمع، وذلك لأنه يورث فاعله المنكر كارتكابه أمراً تحمله على أن يظهر خلاف ما يبطن، والنفاق محرم، ومقتضى هذا أن يحرم الغناء، لأنه سبب لحصول النفاق، إلا أن ما ورد في هذا الحديث من ذم الغناء محمول على الكراهة، فلا يحرم لورود أخبار تصرفه عن الحرمة إلى الكراهة ومن هذه الأخبار ما يلي: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية لحسان بن ثابت وهي تغني فتقول: هل علي

_ 1 تلبيس إبليس لابن الجوزي صفحة 290. 2 سورة لقمان: الآية 6. 3 تفسير ابن كثير 3/442. 4 الحديث أخرجه أبو داود في السنن كتاب الأدب باب في النهي عن الغناء برقم 4927 والبيهقي في السنن 10/223.

ويحكما ... إن لهوت من حرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حرج إن شاء الله" 1 فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الجارية ترنمها بهذا البيت، ولو كان محرماً لزجرها عن ذلك، وإنما أجاب عن تساؤلها بأنه لا حرج عليها إن لهت. ج- استدل أصحاب المذهب الثالث والقائلون بإباحة استماع الغناء المجرد: 1- قول الحق تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 2. أن الطيبات في الآية الكريمة جمع، عرف بـ"أل"، فيشمل كل طيب، والطيب يطلق بإزاء المستلذ، ومنه ما يستلذ سماعه من الأصوات، وهذا هو الأكثر المتبادر إلى الفهم عند التجرد عن القرائن كما يطلق بإزاء الطاهر والحلال، وصيغة العموم كلية تتناول كل فرد من أفراد العام، فتدخل في أفراد المعاني الثلاثة كلها، ولو قصر العام على بعض أفراده لكان قصره على المتبادر هو الظاهر، وقد صرح ابن عبد السلام في دلائل الأحكام بأن المراد "بالطيبات" في الآية المستلذات3. 2- بما روى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني، وقال: أمزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعهما" 4. 3- بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "الغناء زاد الراكب"5.

_ 1 الحديث رواه الأصبهاني في أماليه برقم 13 وقال: غريب من حديث عكرمة، لا أعلم رواه عنه إلا حسين. وهو حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، وبه ضعفه الذهبي في ميزان الاعتدال 2/292 وذكره ابن عراق في تنْزيه الشريعة 2/223، وعزاه للدارقطني وقال: تفرد به حسين بن عبد الله عن عكرمة، وتفرد به عن حسين أويس عبد الله بن أويس، وحسين متروك، وأبو أويس ضعيف. والحديث ذكره الشوكاني في الفوائد 254 وقال: في إسناده متروك، وقد رواه أبو نعيم من غير طريقه. وذكره السيوطي في اللآليء 2/112، والفتني في التذكرة برقم 1977. 2 سورة الأعراف: الآية 157. 3 نيل الأوطار للشوكاني 8/105. 4 أخرجه البخاري برقم 907، وكتاب الجهاد باب الدرق برقم 2750، ومسلم برقم 892. 5 الأثر أخرجه البيهقي في السنن 5/68، وابن عبد البر في التمهيد 22/197

والذي يترجح لدي: هو القول بحرمة سماع الغناء خاصة وأن ابن عباس رضي الله عنه وهو ترجمان القرآن قد فسر لهو الحديث في الآية الكريمة التي تمسك بها أنصار هذا المذهب فسره بأنه الغناء، وقال ابن العربي: إن أصح ما قيل: إنه الباطل ولا يضر في هذا ما قاله ابن قتيبة من أن تفسيرها بالغناء خطأ1، لأن الثابت عن الصحابة والتابعين أنه يقصد به الغناء. والله تعالى أعلم. ثانياً: أما بالنسبة للغناء المصحوب بالآلات الموسيقية والاستماع إليه: فبمراجعة نصوص الفقهاء في هذا الشأن نجد أن: الحنفية: يرون حرمة الغناء المصحوب بالآلة، وقالوا بأنه معصية وفسق وكذا الاستماع إليه، وأن المرء لا تجب عليه إجابة الدعوة لمثل هذه المجالس، لأن في ذلك فتحاً لباب المعصية على المسلمين. المالكية: يرون حرمة الغناء المصحوب بالآلة، وكذا حرمة الاستماع إليه. الشافعية: يرون حرمة الغناء المصحوب بالآلة، وكذا حرمة الاستماع إليه. الحنابلة: يرون هم الآخرون حرمة الغناء المصحوب بالآلة، وكذا الاستماع إليه. وهكذا: نجد أن عامة الفقهاء يرون حرمة الغناء المصحوب بالآلة، وأن الاستماع إليه محرم تبعاً لهذا، وقد وجدنا الحنفية يعتبرون الاستماع لصوت الملاهي معصية، وأن الجلوس والحضور في مجالسها فسق، حتى إنهم قالوا بأنه يجب على الإنسان ألا يحضر مجالس الغناء وإن حضر عليه الخروج وإن دعي لا تجب عليه الإجابة. فالإجماع حاصل بين الفقهاء على حرمة الغناء المصحوب بالآلة وكذا الاستماع إليه. هذا وقد دعم الجمهور ما ذهبوا إليه بهذه الأدلة: ما روي عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليشربن أناس من أمتي الخمر

_ 1 إتحاف السادة المتقين للزبيدي 6/516.

يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير" 1. وما روي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة وخمش وجه وشق جيب ورنة شيطان" 2 وما روي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير وتبعث على أحياء من أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسف من كان قبلهم باستحلالهم الخمر، وضربهم بالدفوف، واتخاذهم القينات" 3.

_ 1 الحديث سبق تخريجه صفحة 391. 2 الحديث أخرجه الترمذي كتاب الجنائز باب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت برقم 1005، والحاكم في المستدرك 4/43، والبيهقي في السنن 4/69، من طريق ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر به، وذكره الهيثمي في المجمع 3/17. 3 الحديث أخرجه أحمد في المسند 5/259، والهيثمي في المجمع 5/75.

المطلب الثاني: حكم بيع آلات اللهو

المطلب الثاني: حكم بيع آلات اللهو مذهب الحنفية: يرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله جواز بيع هذه الآلات مع الكراهة، وقد خالفه في هذا أبو يوسف ومحمد رحمهما الله، بأن بيع هذه الآلات لا ينعقد أصلاً، لأنها آلات معدة للتلهي بها، موضوعة للفسق والفساد، فلا تكون أموالاً، فلا يجوز بيعها. فقد جاء في بدائع الصنائع: ".... يجوز بيع آلات الملاهي من البربط والطبل والمزمار والدف ونحو ذلك عند أبي حنيفة، لكنه يكره، وعند أبي يوسف ومحمد لا ينعقد بيع هذه الأشياء، لأنها آلات معدة للتلهي بها موضوعة للفسق والفساد، فلا تكون أموالاً، فلا يجوز بيعها، ولأبي حنيفة رحمه الله أنه يمكن الانتفاع بها شرعاً من جهة أخرى بأن تجعل ظروفاً لأشياء ونحو ذلك من المصالح فلا تخرج عن كونها أموالاً، وقولهما إنها آلات التلهي والفسق بها، قلنا: نعم هذا لا يوجب سقوط ماليتها كالمغنيات والقيان وبدن

الفاسق وحياته وماله، وهذا لأنها كما تصلح للتلهي تصلح لغيره على ماليتها بجهة إطلاق الانتفاع بها لا بجهة الحرمة، ولو كسرها إنسان ضمن عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يضمن"1. ويستفاد من هذا: أن بيع آلات الملاهي جائز مع الكراهة عند أبي حنيفة، للانتفاع بها شرعاً على نحو خاص، وأنها بهذا تحتفظ بماليتها، خلافاً لأبي يوسف ومحمد حيث قالا بعدم انعقاد البيع أصلاً، وذلك لأنها آلات معدة للتلهي بها، وهذا فسق وفساد ينفي ماليتها، فلا يجوز بيعها شرعاً. وقد ترتب على هذا الخلاف في مذهب الحنفية بين الإمام وصاحبيه ضمان كسرها عنده، وعدم ضمان ذلك عند الصاحبين. مذهب المالكية: عدم صحة بيع آلات اللهو كالمعازف والمزامير وغيرها. فقد جاء في مواهب الجليل: "ومن اشترى من آلة اللهو شيئاً كالبوق وغيره فسخ البيع وأدب أهله، ... لا يجوز بيع الحر والخنْزير والقرد والخمر والدم والميتة والنجاسة ومالا منفعة فيه كخشاش الأرض والحيات والكلاب غير المأذون في اتخاذها وتراب الصواغين وآلة الملاهي"2. وجاء في الشرح الكبير: "وبيع نرد وطنبور ومزمار ونحوها من جميع آلات الملاهي مسقط للشهادة"3. فمذهب المالكية: النص على فساد البيع وفسخه، وذلك لعدم جوازه شرعاً حيث إنه معدود لديهم مع بيع الخمر والخنزير ونحو ذلك، وقالوا بأن بيع النرد والطنبور والمزمار من جميع آلات الملاهي يسقط الشهادة لفساد ذلك البيع. مذهب الشافعية: عدم صحة بيع آلات اللهو لعدم إمكان النفع بها شرعاً، حيث اشترطوا في المبيع لصحة البيع كونه منتفعاً به على وجه يجيزه الشرع، وأن بعض الشافعية يرون أنه يصح بيع آلة اللهو إن عد رضاضها مالاً بخلاف أصلها.

_ 1 الكاساني 5/144. 2 الحطاب 4/263، 265. 3 الدردير 4/182.

فقد جاء في فتح الوهاب بشرح المنهاج: "ولا بيع آلة لهو محرمة كطنبور ومزمار، وإن تمول رضاضها أي مكسرها إذ لا نفع بها شرعاً، ولا يقدح فيه نفع متوقع برضاضها لأنها بهيئتها لا يقصد منها غير المعصية"1. وجاء في مغني المحتاج: "الثاني: النفع فلا يصح بيع الحشرات وكل سبع لا ينفع ولا حبتي الحنطة ونحوها وآلة اللهو، وقيل يصح في الآلة إن عد رضاضها مالاً"2. وجاء في الحاوي الكبير: "فأما الملاهي كالطنبور والعود والدف والمزمار، فإن أمكن الانتفاع بها إذا فصلت جاز بيعها وكذلك اللعب.... لكن يكره بيع ذلك قبل تفصيله لبقاء المعصية فيه فإن بيع على حاله جاز ... "3 وجاء في روضة الطالبين: "آلات الملاهي: كالمزمار والطنبور وغيرهما، إن كانت بحيث لا تعد بعد الرض والحل مالاً، لم يصح بيعها لأن منفعتها معدومة شرعاً، وإن كان رضاضها يعدّ مالاً ففي صحة بيعها ... وجهان! الصحيح: المنع. وتوسط الإمام فذكر الإمام وجهاً ثالثاً اختاره هو والغزالي: أنه إن اتخذت من جوهر نفيس، صح بيعها، وإن اتخذت من خشب ونحوه، فلا، والمذهب: المنع المطلق، وبه أجاب عامة الأصحاب"4. فأصل مذهب الشافعية: عدم صحة بيع آلات اللهو، وذلك لعدم إمكان الانتفاع بها شرعاً أي على نحو ما يجيزه الشرع. فقد نصت كتب الشافعية على أن ما عليه المذهب – عندهم – هو عدم صحة بيع هذه الآلات من مزمار وطنبور ونحوهما حتى ولو كان رضاضها يصدق عليه أنه مال، وذلك على الصحيح في المذهب بالنسبة لهذه الرضاض، وإن كان هناك وجه ضعيف في المذهب يرى صحة بيع هذه الرضاض لإمكان الانتفاع بها، ولاعتبار عنصر المالية بشأنها. وهناك وجه ثالث في الرضاض ذكره الإمام واختاره هو والغزالي وهو أنه إذ كانت الرضاض متخذة من جوهر نفيس

_ 1 زكريا الأنصاري 1/158 – 159. 2 الشربيني 2/15 – 16. 3 الماوردي 5/385. 4 النووي 3/354.

فإن بيعها يكون صحيحاً، وإن كانت من غير ذلك كأن كانت من خشب مثلاً ونحوه فلا يصح بيعها، غير أن الصحيح بالنسبة لهذه الرضاض كما قلت المنع وعدم صحة البيع كأصل هذه الآلات، وقد نص على هذا صاحب فتح الوهاب حيث قال: ولا يقدح فيه نفع متوقع برضاضها لأنها بهيئتها لا يقصد منها غير المعصية، وذكر صاحب الروضة أن المذهب هو المنع المطلق، وقال وبه أجاب عامة الأصحاب. مذهب الحنابلة: عدم صحة بيع آلات اللهو. فقد جاء في كشاف القناع: "ولا يصح بيع آلة اللهو كمزمار وطنبور"1. وجاء في حاشية ابن القاسم على الروض المربع: "ولا يصح بيع آلة لهو، كمزمار وطنبور.... لأنه لا نفع فيها"2. فمذهب الحنابلة: النص على عدم صحة بيع آلات اللهو مثل المزمار والطنبور وذلك لعدم إمكان النفع بها خاصة وان هذا شرط مهم في عقد البيع عندهم. الموازنة: بالمقارنة بين ما ذكره الفقهاء بشأن بيع آلات اللهو كالمزامير والمعازف ونحوها يتضح الآتي: أن الخلاف حاصل بين الحنفية بهذا الخصوص: أ – يرى الإمام أبو حنيفة أن بيع آلات الملاهي جائز مع الكراهة معللا هذا بإمكان الانتفاع بها على نحو خاص فضلا عن ماليتها، وعلى هذا فإنه يضُمنّ من كسرها. ب – يرى الصاحبان أبو يوسف ومحمد رحمهما الله عدم انعقاد بيعها أصلاً باعتبار أنها معدة للهو والفسق، وأن هذا ينفي ماليتها وعلى هذا فلا يضمن من أتلفها. المالكية على أن بيع آلات الملاهي ممنوع، وأنه مسقط للشهادة، ونصوا على فساد ذلك البيع وفسخه لعدم جوازه شرعاً.

_ 1 البهوتي 4/1386. 2 ابن القاسم 4/336.

عند الشافعية يمنع بيع أصل آلات اللهو على الصحيح عندهم، وإن اختلفوا بالنسبة لبيع رضاضها: أ – أن رضاض آلات اللهو ممنوع بيعه وإن كان هذا الرضاض يصدق عليه أنه مال، وهذا تمشياً مع صحيح المذهب بالنسبة للآلات ذاتها من حيث عدم صحة بيعها. ب – أنه يمكن بيع هذا الرضاض لامكان الانتفاع به ولاعتبار ماليته، وهذا وجه ضعيف في مذهب الشافعية. ج- أنه إذا كان الرضاض متخذا من جوهر نفيس صح بيعه، وإلا فلا يصح، هذا البيع وهذا المذهب ذكره الإمام واختاره ووافقه على هذا الإمام الغزالي. أما الحنابلة فيرون عدم صحة بيع آلات اللهو لعدم إمكان الانتفاع بها. وعلى هذا: فأقوال الفقهاء بشأن بيع آلات اللهو تتلخص في مذهبين: على سبيل الإجمال وذلك لأن المانعين من البيع قد تعددت عباراتهم: فمنهم من عبر عن هذا بعدم الانعقاد وذلك على نحو ما فعل أبو يوسف ومحمد من الحنفية، ومنهم من عبر بالمنع كما نص المالكية. ومنهم من عبر عن هذا بعدم الصحة كما هو منهج كل من الشافعية والحنابلة، وإن كان عدم الانعقاد عند أبي يوسف ومحمد يعني الفساد، والمنع عند المالكية يعني عدم الانعقاد، والكل ينتهي إلى عدم الصحة، ولهذا اعتبرت هذه الاتجاهات جميعها مذهباً واحداً عبّرت عنه بالمنع، وذلك في مقابل المذهب الآخر المجوز للبيع مع الكراهة على نحو ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة. المذهب الأول: يرى منع بيع آلات اللهو كالمزامير والمعازف، وهو ما ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة. أما المذهب الثاني: فيرى جواز بيع آلات اللهو مع الكراهة، وهو ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، إلا أننا نجد أن الشافعية قد انفردوا ببيان حكم بيع رضاض آلات اللهو على مذاهب:

أ – أن رضاض آلات اللهو ممنوع بيعه وإن كان هذا الرضاض يصدق عليه أنه مال، وهذا تمشياً مع صحيح المذهب بالنسبة للآلات ذاتها من حيث عدم صحة بيعها. ب – أنه يمكن بيع هذا الرضاض لامكان الانتفاع به ولاعتبار ماليته، وهذا وجه ضعيف في مذهب الشافعية. ج- أنه إذا كان الرضاض متخذا من جوهر نفيس صح بيعه، وإلا فلا يصح، هذا البيع وهذا المذهب ذكره الإمام واختاره ووافقه على هذا الإمام الغزالي. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول القائلون بعدم صحة بيع آلات اللهو بما يأتي: 1- ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل بعثني هدى ورحمة للمؤمنين، وأمرني بمحق المعازف والمزامير، لا يحل بيعهن، ولا شراؤهن، ولا تعليمهن، ولا التجارة فيهن، وثمنهن حرام" 1. 2- ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، وذكر منها ظهور القينات2، والمعازف وشربت الخمور" 3. 3- ما روي عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في هذه الأمة خسف4 ومسخ5 وقذف6 فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهر

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/268، والطبراني في الكبير 8/196. 2 القينات: جمع القينة وهي المرأة المغنية وهي مثل الجارية التي تغني للرجال في مجلس الشراب. راجع: لسان العرب لابن منظور 11/377. 3 أخرجه الترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف برقم 2210 وقال: هذا حديث غريب، والطبراني في الأوسط 1/150 4 الخسف: من خسف الله به الأرض، وخسف المكان يخسف خسوفاً ذهب في الأرض. راجع: لسان العرب لابن منظور 4/91. 5 مسخ: تحويل الصورة إلى صورة أقبح منها. راجع: المرجع السابق 13/102 6 القذف: قذف بالشيء يقذف قذفاً إذا رمى وقذفه به أصابه. راجع: المرجع السابق 11/74.

القينات والمعازف، وشربت الخمور" 1. فظاهر هذا الحديث ترتيب هذه المهلكات المشار إليها وهي الخسف والمسخ والقذف على ظهور الأشياء المذكورة في الحديث، وهي القينات والمعازف وشرب الخمر، لأن هذا الترتيب يفيد تحريمها، وذلك لأن العقاب لا يكون إلا على فعل المحرم أو ترك الواجب. 4- ما روي عن عبد الرحمن بن غنم أنه قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر2، والحرير، والخمر، والمعازف" 3. حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون من أمته من يستحل المحرمات ومنها المعازف، مراده الآلات المعدة للهو، فدل الحديث على حرمة سماع صوت المعازف، وبالتالي حرمة بيعها تبعاً لذلك. واستدل من قال بجواز بيع المعازف وغيرها من آلات اللهو بما يأتي: 1- قوله تعالى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 4. فإن الآية الكريمة دلت بعمومها على إباحة جميع البيوع، إلا ما نص على تحريمه وجاء به دليل خاص فيعمل به، ولم يأت نص يحرم بيع آلات اللهو فيكون بيعها مباحاً استناداً إلي عموم الآية. اعتراض على هذا الاستدلال: أن هذه الآية إن كانت تدل بعمومها على حل

_ 1 أخرجه الترمذي برقم 2210 وقال: هذا حديث غريب، وقد صحح الحديث الشيخ الألباني بشواهده. راجع: الصحيحة للألباني 4/393. 2 الحر: الفرج ويقصد باستحلاله استحلاله بالزنا. راجع: نيل الأوطار للشوكاني 8/97. 3 أخرجه البخاري في كتاب الأشربة برقم 5268، وزعم ابن حزم أن الحديث منقطع، وأنه معلق في صحيح البخاري، وليس مسندا، وقد رد عليه الحافظ ابن حجر، وأثبت أن الحديث متصل. راجع: فتح الباري 10/52-55. 4 سورة البقرة: الآية 275.

جميع البيوع، إلا أن عمومها مخصوص بما حرم بيعه من كل ما يؤدي إلى الربا أو الغرر ونحوهما، فيخص عمومها كذلك بحرمة بيع آلات اللهو، وذلك لورود الحديث الشريف الذي يأمر بمحوها وإزالتها. 2- بأنها أموال متقومة، وأنه بهذا يقوم ركن البيع الأساسي خاصة عند الحنفية وإمكان الانتفاع بها حيث يصح ذلك لدى صاحبها طالما كان ذلك لغير اللهو بها. والراجح في هذا: هو ما ذهب إليه القائلون بعدم صحة بيع آلات اللهو كالمعازف ونحوها، وذلك للأحاديث الواردة، فضلاً عن أن هذه الآلات ونحوها تشغل القلب وتلهي الإنسان وتصده عن ذكر الله، وأن المشغول بسماع هذه الآلات قلبه ليس عامراً بحب الله تعالى، حتى إن المالكية قالوا: إن من يبيع هذه الآلات شهادته غير معتبرة شرعاً لأن هذه معصية، أما بخصوص ما انفرد به الشافعية بالنسبة لبيع الرضاض فلا بأس ببيعها أي ببيع جواهرها وأصولها فضة كانت أو حديداً أو خشبا، ويستفاد بثمنها فيما يباح، والله تعالى أعلم. هذا: ومن الجدير بالتنبيه عليه هنا – كتفريع لهذه المسألة - هو حكم بيع الأشرطة المسجل عليها الغناء، وكذا الأفلام السينمائية، والمسلسلات، والمسرحيات، ونحو ذلك، سواء كانت هذه صوتاً وصورة، أو صوتاً فقط دون الصورة، حيث يجري ذات الخلاف لذات العلة بالنسبة للغناء المجرد، والغناء المصحوب بالآلة، وما ترجح في كل منهما، فأقول: إنه بالنسبة لبيع الأشرطة والمسجل عليها الغناء المجرد من الآلة وبدون صورة، وكذا المسلسلات والتي تعالج مسائل دينية أو اجتماعية أو تاريخية وتدعو إلى الفضيلة، فالراجح فيها جواز بيعها. بخلاف الأشرطة المسجل عليها الغناء المصحوب بالآلة، وكذا الأفلام السينمائية والمسلسلات المحتوية على الصوت والصورة، فإن الراجح فيها منع بيعها منعاً لفتح باب الرذيلة، واللهو المحرم والفساد والصد عن ذكر الله والدين. والله تعالى أعلم.

المبحث الثاني: النرد

المبحث الثاني: النرد النرد: فارسي معرَّب وهو النرد شير1، والنرد عبارة عن قطع صغيرة من مادة العاج أو الخشب وله أوجه ستة ولكل وجه من الأوجه الستة نقاط مرتبة من الواحد إلى الستة جميعاً، وهي منقسمة بحيث يكون مجموع النقاط في وجهين متقابلين سبعة ويسمى في عرف المشارقة "بلعبة الطاولة" وفي عرف المغاربة "دادوس" ويسمى بأسماء مختلفة حسب اختلاف اللعب به2. المطلب الأول حكم اللعب بالنرد مذهب الحنفية: القول بحرمة اللعب بالنرد. فقد جاء في مجمع الأنهر: "ويحرم اللعب بالنرد، أو الشطرنج، والأربعة عشر"3. وجاء في البحر الرائق: "واللعب بالشطرنج والنرد، وكل لهو، يعني لا يجوز ... "4. فمذهب الحنفية: على حرمة اللعب بالنرد وعدم جواز مباشرته. مذهب المالكية: حرمة اللعب بالنرد. فقد جاء في شرح منح الجليل: "ولم يباشر لعب نرد.... وهو آلة مربعة مخططة يلعب عليها بفصوص ويقال لها نرد شير، وتسمى في عرف مصر طاولة، فمباشر لعبها لا تقبل شهادته ولو مرة بغير قمار"5. فمذهب المالكية: حرمة اللعب بالنرد حتى ولو كان بدون قمار وأن هذا اللعب يرد الشهادة.

_ 1 راجع: لسان العرب لابن منظور 14/103. 2 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/188. 3 عبد الرحمن الكيبولي 4/221 - 222. 4 ابن نجيم 8/379 - 380. 5 الشيخ محمد عليش 4/219.

وجاء في حاشية الخرشي: "وحكم اللعب بالنرد الحرمة...."1. وهكذا يرى المالكية حرمة اللعب بالنرد، وأن من يلعب به ترد شهادته ولا تقبل لما فيه من الفساد وأن الذي يلعب النرد ملعون شرعاً. مذهب الشافعية: القول بحرمة اللعب بالنرد، وذلك على الصحيح في المذهب، ومقابل هذا القول كراهية اللعب بالنرد، والصحيح الحرمة. فقد جاء في شرح جلال الدين المحلي على منهاج الطالبين مع حاشتي قليوبي وعميرة: "ويحرم اللعب بالنرد على الصحيح"2. وجاء في الأم: ".... يكره من وجه الخبر اللعب بالنرد أكثر مما يكره اللعب بشيء من الملاهي...."3. وجاء في الزواجر عن اقتراب الكبائر: ".... قال عامة أصحابنا يكره اللعب بالنرد، وترد به الشهادة، والكراهة للتحريم...."4 فمذهب الشافعية: على حرمة اللعب بالنرد، وأن هذا هو الصحيح من مذهب الشافعية وترد الشهادة، ومقابلة القول بالكراهة والكراهية للتحريم. مذهب الحنابلة: حرمة اللعب بالنرد حتى ولو كان ذلك بدون قمار، أي مع عدم العوض المشروط من الجانبين ولا من أحدهما. فقد جاء في المغني والشرح الكبير: "كل لعب فيه قمار فهو محرم أي لعب كان، وهو الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه، ... وما خلا من القمار وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما، فمنه ما هو محرم، ومنه ما هو مباح، فأما المحرم فاللعب بالنرد ... "5. فالمستفاد من هذا: أن اللعب بالنرد محرم شرعاً، حتى ولو لم يكن على سبيل المقامرة أي سواء كان بعوض من الجانبين أو من أحدهما، أو لم يكن كذلك، فهو محرم

_ 1 الخرشي 8/8. 2 النووي 4/319. 3 الإمام الشافعي 6/208. 4 الهيتمي 2/399. 5 ابن قدامة 12/35

على الإطلاق. الموازنة: بمراجعة ما قاله الفقهاء على اختلاف مذاهبهم يتضح لنا أن عامة الفقهاء وأهل العلم على أن اللعب بالنرد محرم شرعاً، سواء كان على سبيل المقامرة أو لم يكن كذلك، وأنه محرم على الإطلاق، وأن مباشرته ممنوعة، وأنها تسبب إسقاط الشهادة. وهذا هو إجماع الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وهناك قول لدى الشافعية بكراهة اللعب بالنرد. واستدل الجمهور بما يأتي: ما روي عن بريدة بن حصيب رضي الله عنه أن رسول الله قال "من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في دم خنْزير" 1. وما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله" 2. وما روي عنه –أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالكعاب فقد عصى الله ورسوله" 3. هذا: ولم أجد دليلاً على القول في مذهب الشافعية القائل بكراهية اللعب بالنرد علماً بأن الأمام الشافعي رضي الله عنه كثيراً ما يطلق الكراهية ويريد بها التحريم 4. ولهذا كان الراجح: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء أن اللعب بالنرد محرم، لقوة ما استدلوا به، ولخلو القول بالكراهية عن دليل يرتكن إليه، ومما يقوي هذا الترجيح أن

_ 1 أخرجه مسلم في كتاب الشعر باب تحريم اللعب بالنرد شير برقم 2260. 2 أخرجه الإمام مالك برقم 1718، وأبو داود برقم 4938، وابن ماجة كتاب الأدب باب اللعب بالنرد برقم 3762، والحاكم في المستدرك 1/114 وقال صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي في السنن 214، 215. راجع: إرواء الغليل برقم 2670. 3 الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/392، والحاكم في المستدرك، عن سعيد بن أبي هند عن رجل عن أبي موسى الأشعري. 4 الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي 2/400.

اللعب بالنرد يؤدي إلى التخاصم والتباغض والتشاحن والفتن بدون غاية أو هدف أو نتيجة مرجوة منه سوى الشر والعواقب الوخيمة التي نهانا عنها الإسلام، فضلاً عن أنه مبني على التخمين، وفيه تضييع للوقت والعمر بدون فائدة تعود على المسلم لا في دينه ولا في دنياه والله تعالى أعلم.

المطلب الثاني: حكم بيع النرد

المطلب الثاني: حكم بيع النرد مذهب الحنفية: اختلف فقهاء المذهب الحنفي بالنسبة لحكم بيع النرد ترتيباً على نفس الحكم بالنسبة للاقتناء والاتخاذ، بين الإمام أبي حنفية المجوز لهذا البيع مع الكراهة، وبين كل من أبي يوسف ومحمد بن الحسن حيث قالا بعدم إمكان انعقاد هذا البيع. فقد جاء في بدائع الصنائع: "وعلى هذا الخلاف1 بيع النرد والشطرنج والصحيح قول أبي حنيفة، لأن كل واحد منهما منتفع به شرعاً من وجه آخر بأن يجعل صنجات الميزان فكان مالاً من هذا الوجه فكان محلاً للبيع مضموناً بالإتلاف ... "2 فمذهب الحنفية: بالنسبة لبيع النرد، فأبو حنيفة رحمه الله على القول بجواز ذلك البيع مع الكراهة، خلافاً لما عليه أبو يوسف ومحمد من القول بعدم انعقاد مثل ذلك البيع، وأن كتب الحنفية مثل بدائع الصنائع قد صححت ما قال به الإمام من جواز ذلك البيع مع الكراهة.

_ 1 أي الخلاف في بيع آلات اللهو لدى الحنيفة، ففي بدائع الصنائع للكاساني "ويجوز بيع آلات اللهو من البربط والطبل والمزمار والدف ونحو ذلك عند أبي حنيفة لكنه يكره، وعند أبي يوسف ومحمد لا ينعقد بيع هذه الأشياء لأنها آلات معدة للتلهي بها موضوعة للفسق والفساد فلا تكون أموالا، فلا يجوز بيعها، ولأبي حنيفة رحمه الله أنه يمكن الانتفاع بها شرعا من جهة أخرى بأن تجعل ظروفا لأشياء ونحو ذلك من المصالح، فلا تخرج عن كونها أموالا، وقولهما أنها آلات التلهي والفسق بها قلنا نعم لكن هذا لا يوجب سقوط ماليتها كالمغنيات والقيان وبدن الفاسق وحياته وماله، وهذا لأنها كما تصلح للتلهي تصلح لغيره على ماليتها بجهة إطلاق الانتفاع بها لا بجهة الحرفة، ولو كسرها إنسان ضمن عند أبي حنيفة وعندهما لا يضمن ... " 5/144. 2 الكاساني 5/144.

مذهب المالكية: القول بأن بيع النرد محرم بناء على كون اللعب به محرماً هو الآخر، ولهذا منع بيعه وتداوله والاتجار فيه، وقد نص المذهب على منع اللعب به. فقد جاء في الشرح الكبير: ".... وبيع نرد وطنبور ومزمار ونحوها من جميع آلات الملاهي مسقط للشهادة ... "1. وهكذا نصت بعض كتب المالكية على حكم بيع النرد ونحوه من آلات الملاهي، وقالوا بأنه مسقط للشهادة، وإن كانت الكتب الأخرى لم تتعرض صراحة لحكم بيع النرد مكتفية ببيان حكم اللعب به واتخاذه وقد خرجوا حكم البيع على هذا. فالمالكية: على منع بيع النرد بناء على اعتبار اللعب به واتخاذه محرم شرعاً، وقد جاء في كتب المالكية أن بيع النرد والطنبور والمزمار ونحوها من كافة آلات الملاهي مسقط للشهادة، وهذا يستفاد منه ما تقرر في المذهب من القول بمنع بيع هذه الأشياء ومنها النرد. مذهب الشافعية: أن بيع النرد لا يصح إلا في حالة واحدة وهي ما إذا صلح لأن يكون بيادق للشطرنج، فإن بيعه لهذا الغرض يكون صحيحاً مع الكراهة كبيع الشطرنج. فقد جاء في مغني المحتاج: ".... ولا يصح بيع النرد إلا إذا صلح بيادق للشطرنج، فيصح مع الكراهة كبيع الشطرنج...."2. مذهب الحنابلة: النص على عدم صحة بيع النرد فقد جاء في كشاف القناع: "ولا يصح بيع آلة لهو كمزمار وطنبور ومنها النرد والشطرنج"3. فالحنابلة: يرون عدم صحة بيع النرد، وأنه في هذا شأنه شأن الشطرنج وقد نصت كتبهم على عدم صحة هذا البيع. الموازنة: من خلال مطالعة كتب الفقه المختلفة بشأن حكم بيع النرد يتضح الآتي:

_ 1 الدردير 4/182. 2 الشربيني 2/17. 3 البهوتي 4/1386.

أ – أن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وما عليه أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة يرون عدم جواز بيع النرد، على خلاف طفيف بشأن التعبير عن ذلك، فمنهم من عبر بعدم الصحة، ومنهم من عبر بعدم الجواز، ومنهم من عبر بعدم الانعقاد مثلما فعل أبو يوسف ومحمد. ب – أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول بجواز بيع النرد مع الكراهة، وقد نصت كتب الحنفية كالبدائع على تصحيح هذا القول لدى الحنفية، وهو قول للشافعية إن صلح استخدامه بيادق للشطرنج. فالمسألة فيها مذهبان: الأول: يقول بمنع بيع النرد. واستدل على هذا: بأن النرد يعد ضمن آلات اللهو والفسق المحرم شرعاً، من أجل هذا كان ممنوعاً تداوله وكذا بيعه وشراؤه. وذلك سداً لما يترتب عليه من شرور وانشغال وصد الناس عن ذكر الله وعن الصلاة وما يوقعه في القلوب من البغضاء والكراهية والشحناء. الثاني: يقول بجواز بيع النرد. واستدل على هذا: بأنه مع التسليم بكونها آلة تلهي وفسق إلا أنه لا تسقط ماليتها، وهذا لأنهاكما تصلح للتلهي تصلح لغيره على ماليتها من حيث إطلاق الانتفاع بها، فقد ينتفع به كأن يجعل صنجات للميزان فكان مالاً من هذا الوجه فكان محلاً للبيع مضموناً بالإتلاف. والراجح في هذا: المذهب القائل بمنع بيع النرد وذلك لقوة ما استدلوا به، ولأن في القول بهذا دفعاً لشيوع الرذيلة والفساد وانشغال الناس عن ذكر الله، والله تعالى أعلم.

المبحث الثالث: الشطرنج

المبحث الثالث: الشطرنج الشطرنج: بالشين المعجمة فارسي معرب 1 مأخوذ من المشاطرة وهو المقاسمة، لأن كلا من الفريقين له شطر ما يستحقه من اللعب وهو النصيب، وقيل: هو بالسين المهملة "سطرنج" لأنه مأخوذ من التسطير أي التنظيم من التعبئة للرقعة. المطلب الأول: حكم اللعب بالشطرنج اتفق الفقهاء على تحريم الشطرنج إن كان اللعب به على وجه التقامر، واختلفوا فيما إذا تجرد عن القمار على النحو الآتي: مذهب الحنفية: القول بكراهية اللعب بالشطرنج، بشرط ألا يكون ذلك على وجه القمار مع عدم المداومة، عليه مما يؤدي إلى ترك الواجب، وإلا كان حراما ً إجماعاً، ووجه القول بالكراهة مع اعتبار هذا القيد أن من اشتغل به ذهب عناؤه الدنيوي وجاءه العناء الأخروي، وفي إباحته أعانة الشيطان على الإسلام والمسلمين. فقد جاء في البناية: "قال: ويكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل لهو، لأنه إن قامر2 بها فالميسر3 حرام بالنص، وهو اسم لكل قمار وإن لم يقامر بها فهو عبث ولهو....، وقال بعض الناس: يباح اللعب بالشطرنج لما فيه من تشحيذ الخواطر وتذكية الأفهام....، ثم

_ 1 المصباح المنير للفيومي 1/312. 2 القمار: كل لعب فيه مراهنة: يقال: قامره مقامرة وقماراً لا عبه القمار وقيل هو كل ما لا يخلو الملاعب فيه من ربح أو خسارة وقيل كل مراهنة على غرر محض. راجع: المعجم الوسيط للدكتور إبراهيم أنيس 2/758. 3 الميسر: مأخوذ من اليسر وهو وجوب الشيء لصاحبه. يقال يسر لي كذا إذا وجب فهو َييسر يسراً وميسراً، والياسر: اللاعب بالقداح، والميسر: الجزور نفسه الذي كانوا يتقامرون عليه، وسمى ميسراً لأنه يُجزأ أجزاء فكأنه موضع التجزئة وكل شيء جزأته فقد يسرته، والياسر الجازر لأنه يجزئ لحم الجزور، ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور ياسرون لأنهم أيضاً جازرون، والميسر الذي نزل تحريمه في القرآن الكريم هو ضرب القداح على أجزاء الجزور قماراً ويعرف قمار العرب بالأزلام. راجع: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/36 - 37.

إن قامر به تسقط عدالته، وإن لم يقامر لا تسقط لأنه متأول فيه، وكره أبو يوسف ومحمد رحمهما الله التسليم عليهم تحذيراً لهم، ولم ير أبو حنيفة رحمه الله به بأساً ليشغلهم عما هم فيه.... أي بالسلام عليهم"1. فالمستفاد من نص البناية: أن اللعب بالشطرنج مكروه، لأنه إن كان على سبيل المقامرة كان ميسراً محرماً، وإن لم يكن على سبيل المقامرة كان عبثاً ولهواً، وهناك من قال بإباحة اللعب بالشطرنج بناء على أن فيه تشحيذاً وتذكية الأفهام، وأنه إذا كان قماراً فإنه يسقط عدالة من يلعب به، والمستفاد من قول أبي يوسف ومحمد بكراهية التسليم عليهم قولها بكراهية اللعب بالشطرنج، ورأى الإمام أبو حنيفة أنه لا بأس به بالتسليم عليهم ويفهم من هذا قوله بأنه لا بأس من اللعب به. وجاء في حاشية ابن عابدين: ".... أما الشطرنج فلشبهة الاختلاف2 شرط واحد من ست، فلذا قال: أو يقامر بشطرنج، أو يترك به الصلاة حتى يفوت وقتها، أو يحلف عليه كثيراً، أو يلعب به على الطريق، أو يذكر عليه فسقاً، أو يداوم عليه"3. وجاء في البحر الرائق: " ... ويكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر لأنها لعب اليهود ... "4. فالمستفاد من نصوص مذهب الحنفية: على القول بكراهية اللعب بالشطرنج والنرد، وذلك لأن هذه الألعاب من فعل اليهود، ولأن هذا إن كان على وجه القمار فهو حرام، لاعتباره ميسراً على هذا النحو، وإن لم يكن على وجه القمار كان مكروها باعتبار أنه عبث وضياع للوقت واللهو عن ذكر الله سبحانه، وهناك من قال بإباحة اللعب بالشطرنج حيث إنه يؤدي إلى تذكية الأفهام وتشحيذ الخواطر.

_ 1 العيني 12/ 249 – 253. 2 "فلشبهة الاختلاف" علة مقدمة على معلولها: أي اختلاف مالك والشافعي في قوليهما بإباحته وهو رواية عن أبي يوسف. 3 ابن عابدين 11/202 – 203 – 204. 4 ابن نجيم 8/38.

مذهب المالكية: أن الشطرنج مكروه لعبه، وفي قول يجوز لعبه في الخلوة مع نظيره لا مع الأوباش. فقد جاء في المدونة: "قلت -القائل سحنون- وكان مالك يكره أن يلعب بالشطرنج قليلاً كان ذلك أو كثيراً؟ قال ابن القاسم: نعم كان يراها أشد من النرد قال: وسألت مالكاً عن هذا كله فأخبرني بما أخبرتك به...."1. وجاء في مواهب الجليل: ".... وكره مالك اللعب بها، وقال هي أشد من النرد ... إن لعبه محرم مع الأوباش على طريق حرم، وفي الخلوة مع نظائره بلا إدمان وترك مهم ولهي عن عبادة جاز، وقيل إن ألهى عن الصلاة في وقتها حرم وإلا جاز انتهى"2. فالمستفاد من نصوص مذهب المالكية: أنه روي عن الإمام مالك كراهية اللعب بالشطرنج قليلاً كان ذلك أم كثيراً. وقيل: إنه كان يرى أن اللعب بالشطرنج أشد من النرد، علماً بأنه قد روي عنه حرمة اللعب بالنرد. وقيل لعب الشطرنج مع الأوباش حرام، وكذا يحرم لعبه على الطريق العام، وكذلك يحرم لعبه إذا ألهى عن الصلاة. وعلى هذا: فالأقوال في مذهب المالكية في حكم اللعب بالشطرنج، فالمروي عن مالك أنه مكروه، وقيل يحرم إذا لعبه مع الأوباش، أو في الطريق العام، وإذا أدى لعبة إلى اللهي عن الصلاة، وقيل: يجوز لعبه إذا كان ذلك في غير إدمان ولم يؤد إلى ترك مهم أو ألهى عن عبادة وكان مع نظير له. إلا أننا نلاحظ أنه جاء عن ابن القاسم أن مالكا يرى أنه أشد من النرد. مذهب الشافعية: كراهية الشطرنج واللعب به وذلك بشرط: ألا يخرج اللاعب الصلاة عن وقتها، فالكراهية مقيدة بهذا القيد، وإن شرط في الشطرنج مال من الجانبين فإنه يعتبر قمار، وبالتالي يكون الشطرنج حراماً بالإجماع. فقد جاء في مغني المحتاج: "ويكره الشطرنج وفرق الأول بأن الشطرنج وهو بكسر أوله وفتحه معجماً ومهملاً، وضع لصحة الفكر والتدبير فهو يعين على تدبير

_ 1 الإمام مالك 5/153. 2 الحطاب 6/153 – 154.

الحروب والحساب ... فإن شرط فيه أي اللعب بالشطرنج مال من الجانبين على أن من غلب من اللاعبين فله على الآخر كذا؛ فقمار فيحرم بالإجماع ... "1. فالمستفاد من نصوص مذهب الشافعية: كراهية الشطرنج واللعب به، وأن الحكم يأخذ صفة الحرمة إذا شرط فيه مال من الجانبين بمعنى أن من غلب من اللاعبين فله على الآخر كذا لأنه قمار. مذهب الحنابلة: القول بتحريم الشطرنج واللعب به إذا شرط فيه عوض وكان مؤدياً إلى ترك واجب أو فعل محرم على القول الصحيح في المذهب. فقد جاء في الإنصاف: "فائدة: اللعب بالشطرنج حرام. على الصحيح من المذهب، ونص عليه، وعليه الأصحاب، كمع عوض، أو ترك واجب، أو فعل محرم، إجماعاً في المقيس عليه، قال في الرعاية: فإن داوم عليه فسق، وقيل: لا يحرم إذا خلا من ذلك بل يكره"2. وجاء في المغني: "فأما الشطرنج فهو كالنرد في التحريم...."3. فالمستفاد من نصوص مذهب الحنابلة: القول بتحريم اللعب بالشطرنج إذا شرط فيه عوض أي مال، وكذلك إذا أدى إلى ترك واجب أو فعل محرم على القول الصحيح في المذهب وقيل: يكره إذا خلا من ذلك. الموازنة: بمراجعة نصوص كتب الفقه على اختلاف مذاهبها بشأن مسألة حكم اللعب بالشطرنج يتضح الآتي: أن الحنفية مختلفون فيما بينهم على نحو ما يلي: أ- أن اللعب بالشطرنج مكروه، وإلى هذا ذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن رحمهما الله تخريجا على قولها بكراهة التسليم على من يلعب بالشطرنج. ب – أنه لا بأس به، وإلى هذا ذهب الإمام أبو حنيفة تخريجا على أنه يرى عدم

_ 1 الشربيني 4/542. 2 المرداوي 12/45. 3 ابن قدامة 9/171.

البأس من التسليم عليهم بإشغالهم عليهم عما هم فيه من التلهي باللعب بالشطرنج. ج - أنه إذا كان الشطرنج على سبيل المقامرة، فإنه يكون محرماً شرعاً. د - أن اللعب بالشطرنج مباح مطلقاً أي سواء كان على سبيل المقامرة أم لا؟ أما فقهاء المالكية فقد اختلفوا في حكم اللعب بالشطرنج على هذا النحو: أ – أن اللعب بالشطرنج مكروه، وهذا ما عليه مذهب المالكية. ب – أن اللعب بالشطرنج أشد كراهة من النرد، وإلى هذا ذهب الإمام مالك. ج – أن اللعب بالشطرنج يكون محرماً، إذا كان مع الأوباش، أو ألهى عن الصلاة، وهذا ما عليه بعض فقهاء المالكية. د – أن اللعب بالشطرنج جائز، إذا كان غير مؤدٍ إلى ترك مهم، أو عبادة، وكان مع نظير لمن يلعب به، وإلى هذا ذهب البعض الآخر من المالكية. وفي مذهب الشافعية قولان بالنسبة لحكم اللعب بالشطرنج: أحدهما: أن اللعب بالشطرنج إذا كان على سبيل المقامرة، فإنه يكون محرماً شرعاً، وذلك بالإجماع، وهذا أصل المذهب الشافعي. الثاني: يرى أن اللعب بالشطرنج، مكروه، بقيود خاصة، ويفهم من هذا أن أهم هذه القيود أن لا يكون على سبيل المقامرة، وهذا ما قال به بعض الشافعية. أما الحنابلة: فعندهم رأيان في المسألة: أحدهما: أن اللعب بالشطرنج محرم، إذا كان على مال، أو أدى إلى ترك واجب أو فعل محرم. الثاني: يرى أن اللعب بالشطرنج مكروه، إذا خلا مما سبق، أي إذا لم يكن على مال- يعني بدون مقامرة، ولم يؤد إلى ترك واجب أو فعل محرم، وهذا ما قال به بعض الحنابلة. فخلاصة القول بالنسبة لحكم الشطرنج كالآتي: المذهب الأول: يرى حرمة اللعب بالشطرنج، وهذا ما عليه بعض الحنفية في حالة ما إذا كان اللعب على سبيل المقامرة، وما عليه إجماع المذهب الشافعي، إذا كان

على هذا النحو، وهذا ما قال به بعض المالكية، حيث وجدناهم يصرحون بحرمة اللعب بالشطرنج، إذا كان مع الأوباش أو ألهى عن الصلاة، وهو مذهب بعض الحنابلة إذا كان على مال أو أدى إلى ترك واجب أو فعل محرم. المذهب الثاني: يرى كراهية اللعب بالشطرنج، وهذا ما عليه الصاحبان أبو يوسف ومحمد رحمهما الله، وهذا ما قال به المالكية في أصل مذهبهم، وهو قول عند الشافعية، طالما أنه لم يكن على سبيل المقامرة، وبه قال بعض الحنابلة إذا خلا من مسالك القول بالتحريم. المذهب الثالث: يرى جواز اللعب بالشطرنج، وإلى هذا ذهب بعض الحنفية، وبعض المالكية طالما كان اللعب به غير مؤدٍ إلى ترك مهم أو عبادة، وكان مع نظير اللاعب. هذا: وهناك أقوال أخرى بعضها قريب من بعض الآراء السابقة مع خلاف في العبارة، وعلى هذا فكل قول قريب يستدل له بما استدل لما يقرب منه، ومن هذه الأقوال: قول الإمام مالك أن الشطرنج أشد كراهة من النرد، ويستدل لهذا بنفس أدلة من قال بالكراهة. قول أبي حنيفة رحمه الله أنه لا بأس به، ويستدل بأدلة من قال بالجواز. بعض الحنفية أنه مباح مطلقا سواء كان على سبيل المقامرة أم لا، ويستدل لهذين القولين بذات ما استدل به المذهب الثالث المجوز للعب بالشطرنج. الأدلة: استدل القائلون بحرمة اللعب بالشطرنج بما يلي: 1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 1.

_ 1 سورة المائدة: الآيتان 90 – 91.

فهذا النص الكريم يدل على تحريم اللعب بالنرد والشطرنج قماراً أو غير قمار، وذلك لأن اللهو ولو كان قليلاً فإنه يوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، ويصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراماً مثله1. 2- أخرج أبو بكر الأثرم2 في جامعه بسنده عن واثلة بن الأسقع3 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله عز وجل في كل يوم وليله ثلاثمائة وستين نظرة إلى خلقه، ليس لصاحب الشاه فيها نصيب" 4. وفسر صاحب الشاه بلاعب الشطرنج، لأنه يقول شاه5. 3- عن علي رضي الله عنه أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون"6. 4- وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الشطرنج فقال: "هي أشد من النرد"7. واستدل القائلون بكراهة اللعب بالشطرنج: بأنه ليس كالنرد، بل دونه ويمنعون

_ 1 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/188. 2 هو أحمد بن محمد بن هاني الطائي الإسكافي، أبو بكر، صاحب الإمام أحمد، كان إمامًا من أهل الحفظ والاتقان، وكان من أهل العناية بالحديث، توفي رحمه الله تعالى سنة 261 هـ. راجع: الأعلام للزركلي 1/194. 3 الصحابي الجليل واثلة بن الأسقع بن كعب الليثي، أسلم قبل تبوك وشهدها، وكان من أهل الصفة، ثم نزل الشام، توفي رضي الله عنه سنة 83? في خلافة عبد الملك، وهو آخر من توفي من الصحابة بدمشق. الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 2775، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 6/462 برقم 9107. 4 قال السخاوي: وفي رواته من اتهم بالوضع، مع أن في بعضهم من لم أعرفه. اهـ. عمدة المحتج في حكم الشطرنج، نقلا عن إرواء الغليل للشيخ الألباني صفحة 287. 5 نيل الأوطار للشوكاني 8/108. 6 الأثر أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 5/287، والبيهقي في السنن 10/212، والضياء في المختارة 2/361 وقال إسناده حسن. 7 الأثر أخرجه البيهقي في السنن 10/212.

قياسه على النرد، لأن التعويل في النرد على ما يخرجه الكعبان، فهو كالأزلام، أما التعويل في الشطرنج فهو على الفكر والتأمل، وأنه ينفع في تدبير الحرب 1 وأنه ما كره إلا لأنه لعب لليهود، ولأنه عبث ولهو، حتى في حالة عدم المقامرة المحرمة. واستدل القائلون بجواز اللعب بالشطرنج: بأنه يؤدي إلى تشحيذ الخواطر وتذكية الأفهام فضلاً عن أن هذا الجواز مقيد بكون اللعب بالشطرنج غير مؤد إلى ترك واجب أو لهو عن عبادة وطالما كان مع نظير. والذي يترجح لدي: هو القول بحرمة اللعب بالشطرنج على التفصيل الآتي: 1- إذا كان اللعب على وجه القمار. 2- وإذا كان على غير قمار، ولكنه يفُضي إلى محرم كتأخير الصلاة، وتلفظ بكلام فاحش أو إثارة عداوة أو بغضاء أو دوام عليه، والله تعالى أعلم.

_ 1 المجموع للنووي 9/244، وقليوبي وعميره 4/319.

المطلب الثاني: بيع الشطرنج

المطلب الثاني بيع الشطرنج مذهب الحنفية: اختلف فقهاء المذهب الحنفي بشأن بيع الشطرنج وذلك على ما سبق بالنسبة لبيع آلات الملاهي كالنرد. فيرى الإمام أبو حنيفة جواز بيع الشطرنج مع الكراهة، وأن هذا هو الصحيح في المذهب الحنفي، وذلك خلافاً لما ذهب إليه كل من أبي يوسف ومحمد من أنه يمتنع بيع الشطرنج وأن هذا البيع لا ينعقد. فقد جاء في بدائع الصنائع: ".... ويجوز بيع آلات الملاهي من البربط والطبل والمزمار والدف ونحو ذلك عند أبي حنيفة، لكنه يكره، وعند أبي يوسف ومحمد لا ينعقد بيع هذه الأشياء ... ومع هذا الخلاف بيع النرد والشطرنج والصحيح قول أبي حنيفة رضي الله عنه"2. فالمستفاد من هذا النص: أن الإمام أبا حنيفة صحح بيع آلات اللهو والشطرنج

_ 1 المجموع للنووي 9/244، وقليوبي وعميره 4/319. 2 الكاساني 5/144.

والنرد مع الكراهة، أما صاحبا الإمام أبو يوسف ومحمد فيريان عدم انعقاد بيع هذه الأشياء، والصحيح هو قول الإمام. مذهب المالكية: القول بأن بيع الشطرنج ممنوع، باعتبار أن بيع النرد عندهم كذلك، فمن باب أولى بيع الشطرنج، وقد نص الإمام مالك على أن كراهية اللعب بالشطرنج أشد كراهة من اللعب بالنرد، وبيع النرد ممنوع، فمن باب أولى منع بيع الشطرنج فضلاً عن كونه من آلات اللهو التي نص على عدم صحة بيعها. فقد جاء في الشرح الكبير: ".... وبيع النرد وطنبور ومزمار ونحوها من جميع آلات الملاهي مسقط للشهادة...."1. مذهب الشافعية: لم أجد نصاً صريحاً في كتب الشافعية فيما اطلعت عليه يعالج مسألة بيع الشطرنج سوى ما أشار إليه صاحب مغني المحتاج، والذي يفيد أن بيع الشطرنج صحيح مع الكراهة، فقد ورد فيه وهو يتحدث عن بيع النرد قوله: ".... ولا يصح بيع النرد إلا إن صلح بيادق للشطرنج فيصح مع الكراهة كبيع الشطرنج...."2. مذهب الحنابلة: القول بعدم صحة بيع الشطرنج، وقد نصت كتبهم على هذا صراحة، وذكروا أنه في هذا شأنه شأن النرد وجميع آلات اللهو كالمزمار والطنبور ونحوهما. فقد جاء في كشاف القناع: "ولا يصح بيع آلة لهو كمزمار وطنبور ومنها النرد والشطرنج"3. الموازنة: بمراجعة ما ذكره الفقهاء بشأن حكم بيع الشطرنج يتضح لنا ما يلي: أن ما عليه مذهب الحنفية: هو أن بيع الشطرنج جائز مع الكراهة، خلافاً لما قال به الصاحبان أبو يوسف ومحمد من أن بيع الشطرنج لا ينعقد أصلاً.

_ 1 الدردير 4/182. 2 الشربيني 2/17. 3 البهوتي 4/1386.

أن المالكية: يرون منع بيع الشطرنج باعتبار أن بيع النرد ممنوع، ولما كان الإمام مالك قد اعتبر أن لعب الشطرنج أشد كراهة من لعب النرد فكأن الشطرنج أولى بمنع بيعه من النرد. أن الشافعية: يرون صحة بيع الشطرنج مع الكراهة. أن الحنابلة: يرون عدم صحة بيع الشطرنج. وبناء عليه: فالمذاهب في حكم بيع الشطرنج تنتهي إلى مذهبين: المذهب الأول: يرى منع بيع الشطرنج، وهذا ما عليه الحنابلة والمالكية، وهو مذهب كل من أبي يوسف ومحمد من الحنفية، حيث إنهما يريان عدم انعقاد البيع، وهذا القول يترتب عليه بطلان البيع. المذهب الثاني: يرى صحة بيع الشطرنج مع الكراهة، وهذا ما عليه الإمام أبو حنيفة وما عليه الشافعية. الأدلة: استدل كل فريق على ما ذهب إليه بنفس ما استدل به بشأن بيع آلات الملاهي –عامة- على نحو ما سبق بيانه في حينه، وقد تم سحب هذه الأدلة على حكم بيع النرد، وكذا هنا على حكم بيع الشطرنج، فالأدلة هي هي، ووجه تعليل كل قول ومنهجه في عرض استدلاله يسري هنا حيث لا فرق. والذي يترجح لدي: هو القول بمنع بيع آلة الشطرنج، لأن هذا هو الأحوط والأسلم في الدين، والله تعالى أعلم. وبالنسبة لما سوى النرد والشطرنج من الألعاب الملهية المنتشرة في زماننا، فورق اللعب المعروف "بالكوتشينة" تنعدم فيه المقاصد الشرعية من الترويح والترفيه، فلا توجد بها مهارة جهادية، ولا خبرة علمية، ولا فائدة اجتماعية، ولا استراحة نفسية تهدأ فيها الأعصاب وترتاح بها النفوس، وهي لعبة مجردة من كل خير، بل فيها محض هرج، وجدل، وقتل وقت، ترتكز على التخمين، فشابهت النرد، وتفضي إلى الخصام والشجار فشابهت الخمر والقمار.

وقد أفتى بهذا فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين1 رحمه الله من الفقهاء المعاصرين بالمملكة العربية السعودية وذلك بناءً على إفضائها إلى العداوة والبغضاء، والإلهاء الشديد والصد عن ذكر الله، وضياع الأوقات وتفويتها في غير طاعة الله2. وبناءً على هذا: فإن الكوتشينة حرام في تناولها باللعب والبيع، لأنها تعتمد على ما يقع في يد اللاعب من ورق أو صور معينة فأساسها الحرز والتخمين. فلينتبه المسلمون إلى هذا الخطر العظيم حيث إنها منتشرة في المقاهي والبيوت، وتباع في كثير من المحلات، وإذا رغب الإنسان في الترويح عن نفسه فهناك الكثير من المباحات الكثيرة والبعيدة والآمنة من الفتن كجلسات السمر البريئة من الكذب والخداع مع الأهل والأصدقاء وغير ذلك، ولو تأمل الإنسان المسلم لوجد حاجته وتسليته بعيداً عما يغضب الله تعالى، وهو سبحانه أعلم.

_ 1 هو محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين المقبل الوهيبي التميمي أبو عبد الله، ولد في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم من عائلة معروفة بالتدين والاستقامة فنشأ في كنفها وتتلمذ على بعض أفراد عائلته، وممن أخذ عنهم العلم العلامة/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، فتعلم وعلّم، ثم تصدر للتدريس والفتيا، توفي رحمه الله تعالى ودفن بمكة المكرمة سنة 1421?. راجع: ابن عثيمين الإمام الزاهد للدكتور/ناصر الزهراني. 2 فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين 2/933.

الفصل الرابع: بيع المخدرات والمفترات

الفصل الرابع: بيع المخدرات والمفترات وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: التعريف بالمخدرات والمفترات. المبحث الثاني: حكم بيع المخدرات. المبحث الثالث: حكم بيع المفترات.

المبحث الأول: التعريف بالمخدرات والمفترات

المبحث الأول: التعريف بالمخدرات والمفترات المخدرات: جمع مخدر، وهو مأخوذ من الخدر، وهو الضعف والكسل والفتور والاسترخاء، فيقال: تخدر العضو إذا استرخى فلا يطيق الحركة أي فتر1. والمخدر اسم فاعل من خدر، ومصدره التخدير، 2 ولفظة "خدر" تطلق على معان عدة، فهي تطلق على الفتر والكسل الذي يعتري الشارب في ابتداء سكره، وعلى الستر الذي يمد للجارية في ناحية البيت، وعلى فتور العين وثقلها من قذى ونحوه3. وعلى هذا: فالمخدر من خدر، وهذه المادة على اختلاف اشتقاقاتها تتفق على معنى واحد وهو الاسترخاء والفتور المترتب عليه كل من الضعف والكسل. ومن هذا: أن أهل اللغة يطلقون هذه المادة وما اشتق منها على كل من الفتر

_ 1 راجع: لسان العرب لابن منظور 4/34 وتاج العروس للزبيدي 3/170 - 171. هذا: ولم يذكر الحشيش بمعنى المخدر في المعاجم العربية القديمة، فالحشيش كما ورد في لسان العرب: يابس الكلأ ولا يقال وهو رطب حشيش واحدته حشيشة، والحشيشة: هو الاسم الذي عرف به المخدر منذ عرف في كتب الفقهاء وعلماء النبات والأطباء، وأطلق لفظ الحشيش أيضا - وهو الاسم الذي شاع وعرف به هذا المخدر حتى الآن وقد أقره مجمع اللغة العربية قال: الحشيش نبات مخدر. راجع: المعجم الوسيط للدكتور إبراهيم أنيس وجماعته 1/176، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 4/255 - 256. 2 والتخدير في الاصطلاح الطبي الحديث: هو علم هدفه معرفة وتطبيق الوسائط التي من شأنها أن تحدث عند المريض زوال حس جزئي أو تام بقصد إجراء تدخل جراحي، وهذا التخدير نوعان: تخدير عام: وهو الذي يؤثر في الجملة العصبية المركزية ويسبب ضياع الإدراك وفقدان الحس التام من سائر الجسم فيتنقل فيه الشخص المخدر إلى حالة النوم العميق وعدم الوعي الكامل ويحصل له ارتخاء عضلي تام. تخدير موضعي: وهو الذي يسبب زوال الحس في منطقة محدودة من الجسم. راجع: التخدير الموضعي في جراحة الفم والأسنان للدكتور/شفيق الأيوبي صفحة 7 والشفاء بالجراحة للدكتور/محمد فاعور صفحة 312. 3 راجع: لسان العرب لابن منظور 4/34، ومختار الصحاح للرازي 2/150، والقاموس المحيط للفيروز آبادي 2/18، والمصباح المنير للفيومي 1/165.

والكسل وعلى الستر، وقالوا إن منها فتور العين وثقلها من قذى ونحو ذلك. المخدرات في عرف الفقهاء: عرفها الإمام القرافي رحمه الله فقال: "هي ما غيب العقل والحواس دون أن يصحب ذلك نشوة أو سرور" 1. وعرفها ابن حجر الهيتمي2 فقال: "ما يترتب عليه تغطية العقل لامع الشدة المطربة"3. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية أن: "التخدير تغشية العقل من غيره شدة مطربة"4. فمن الفقهاء من اصطلح على ذلك بعبارة التغييب، مثلما فعل الإمام القرافي، ومنهم من عبر بلفظ التغطية على نحو ما ذهب إليه ابن حجر الهيتمي في حين أن البعض الآخر اختار في التعبير عن ذلك لفظ "التغشية" وذلك على نحو ما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية. وبالنظر في هذه الاتجاهات نجد أن التعبير بالتغطية أو التغشية يحقق المعنى الكامل للتأثير على العقل، وهذا قريب جداً من عبارة الإمام القرافي بالتغييب غير أن التعبير الأخير أقرب وأولى من سابقيه. هذا: ويتضح من خلال النظر في هذه التعاريف أنها متفقة كذلك على أن التخدير قائم على عدم تحقق الشدة المطربة أو الباعثة على السرور والبهجة والانتشاء وذلك ليختلف التخدير عن مزيل العقل مع الشدة والطرب والسرور والانتشاء وهو الخمر. ولعل التعريف المحقق لهذه المعاني: ما ورد مستقراً عليه رأي الموسوعة الفقهية

_ 1 الفروق 1/374 – 375. 2 هو أحمد بن حجر الهيتمي وعند البعض الهيثمي السعدي الأنصاري شهاب الدين أبو العباس ولد في محلة أبي الهيثم بمصر ونشأ وتعلم بها فقيه شافعي مشارك في أنواع من العلوم تلقى العلم بالأزهر وانتقل إلى مكة من تصانيفه "تحفة المحتاج شرح المنهاج" توفي رحمه الله سنة 973هـ. راجع: الأعلام للزركلي 1/223، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 2/152. 3 الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر 1/468. 4 4/258.

الكويتية من أن التخدير تغشية العقل من غير شدة مطربة. هذا وتتنوع المواد المخدرة بحسب اعتبارات مختلفة: فمنها ما كان بحسب حقيقتها: مثل الأفيون1 والحشيش2 والقات3 والمورفين4 والهرويين5

_ 1 الأفيون: هو العصارة المستخرجة من ثمرة نبات الخشخاش غير الناضجة حيث يتم تشريطها فيخرج منها عصير أبيض لزج سرعان ما يتحول لونه إلى البني عند تعرضه للهواء، فثمرة نبات الخشخاش هي المصدر المستخرج منه الأفيون، وهو نبات عشبي حولي عرفته البشرية منذ آلاف السنين وتعتبر آسيا الصغرى الموطن الأصلي لشجرة الخشخاش ثم انتشرت زراعتها في العراق، ومصر، وإيران، وشبه القارة الهندية. راجع: لسان العرب لابن منظور 4/99، وفقه الأشربة وحدها لعبد الوهاب طويله صفحة 355. 2 الحشيش: تطلق على العشب والكلأ، وهو مخدر يستخرج من شجرة "القنب الهندي" والحشيشة: نبات حولي لها جذور عمودية، وسيقان عشبية منتصبة الشكل، ويتراوح طول النبتة ما بين متر إلى أربعة أمتار وأوراقها بسيطة متبادلة على الساق وهي مسننة من النوع المركب أي تتكون الورقة من عدة وريقات – أما أزهارها فوحيدة الجنس صغيرة الحجم، ذات غلاف زهري أخضر اللون ويكثر ظهور نبات الحشيشة في شبه القارة الهندية، وجبال الصين، وإيران، وتركيا، ولبنان، والمناطق الحارة والمعتدلة في إفريقيا وأميركا الشمالية والجنوبية. راجع: لسان العرب لابن المنظور 3/187، فقه الأشربة وحدها لعبد الوهاب طويله صفحة 365، الأضرار الناجمة عن تعاطي المسكرات والمخدرات صفحة 13. 3 القات: نبات مخدر ذو أوراق وشجيرات صغيرة دائمة الخضرة ويتراوح طول الشجرة ما بين المتر إلى المترين، إلا أنها عادة تقلم إذا زادت عن المترين ليسهل جنيها، وتزرع شجيرات القات متباعدة عن بعضها، والأوراق هي الجزء الهام في النبات، وخاصة تلك التي على قمته، وهي ناعمة الملمس مصقولة من الجهة العليا، ولونها أخضر غامق وليس لها رائحة مميزة، وهي تنمو في جميع الظروف البيئة فتتحمل البرد والرياح ولا تحتاج إلى ماء كثير، ويزرع القات في اليمن الشمالي والجنوبي، وكينيا، وأثيوبيا، والصومال. راجع: فقه الأشربة وحدها لعبد الوهاب طويله صفحة 375، المخدرات والإدمان للواء محمد عباس صفحة 33، جحيم المخدرات ليوسف العريني صفحة 50. 4 المورفين: هي المادة الأساسية الفعالة في الأفيون، ويعتبر أقوى مسكن للألم عرفه الإنسان ويتم استخلاص المورفين من الأفيون ويوجد على شكل مسحوق ناعم أبيض أو على شكل مادة سائلة، أو أقراص دائرية مكعبة، ويتم تعاطيه عن طريق الحقن تحت الجلد، أو البلع أو التدخين، أو الاستنشاق عبر الأنف. راجع: جحيم المخدرات ليوسف العريني صفحة 58. 5 الهيروين: وهو عبارة عن مسحوق بلوري يتراوح بين الأبيض والبني الغامق، وهو أخطر مشتقات الأفيون، فهو أقوى من المورفين بثمانية أضعاف، وقيل ستة أضعاف ويتم تعاطيه عن طريق الاستنشاق أو حرقه =

والكوكائين1 ونحوها ومنها ما كان بحسب لونها فمنه الأبيض كالكوكائين والمورفين، ومنه الأسود كالأفيون والحشيش. وذكر العلماء أن جميع ما يسكر ويذهب العقل سواء كان من السوائل المائعات مثل الخمر وغيرها من المشروبات المسكرة، أو من الجامدات مثل الحشيش والأفيون والخشخاش ونحو ذلك، فإن كل هذا يندرج تحت المواد المخدرة والمذهبة للعقل، وقد أدرجها الفقهاء على اختلاف العصور تحت حكم الخمر في الحرمة2. وذهب جمهور الفقهاء إلى حرمة تناول المخدرات، ولو كانت لا تحدث الشدة المطربة التي لا ينفك عنها المسكر المائع، وكذلك يحرم مطلقاً ما يخدر من الأشياء الجامدة المضرة بالعقل أو غيره من أعضاء الجسد، ويحرم تناول البنج والحشيشة والأفيون في غير حالة التداوي، لأن ذلك مفسد للعقل، لكن تحريم ذلك ليس لعينه بل لنتائجه، ويحرم القدر المسكر المؤذي من جوزة الطيب فإنها مخدرة لكن حرمتها دون حرمة الحشيش وقد حكى القرافي وابن تيمية: ومن استحلها فقد كفر وإنما لم

_ = واستنشاق أبخرته أو حقنه تحت الجلد، وهذا النوع من المخدرات هو الخطر الداهم الذي بدأ يزحف على الشباب في الآونة الأخيرة بشكل سريع ليشكل واحداً من أكبر الأخطار التي تواجهها المجتمعات البشرية. راجع: المخدرات والمؤثرات العقلية للدكتور سيف الدين شاهين صفحة 66، فقه الأشربة وحدها لعبد الوهاب طويله صفحة 363. 1 الكوكائين: يستخرج الكوكائين من أوراق شجرة "الكوكا" وهي شجرة يبلغ ارتفاعها من مترين إلى مترين ونصف أوراقها خضراء رفيعة بيضاوية الشكل وتنتشر شجرة "الكوكا" في جبال – بيرو – وكولومبيا – وبوليفيا بأمريكا الجنوبية وفي جزر الهند الشرقية والغربية وبعض دول أفريقيا، ويتم استخلاص مادة الكوكائين من نبات هذه الشجرة عن طريق معالجة أوراقها بحمض كلوريد الهيدروجين فتتحول إلى مادة تذوب في الماء بسهولة والكوكائين مادة بيضاء ناعمة على شكل مسحوق عديم الرائحة ويتم استنشاقه من قبل المتعاطين له أو عن طريق حقنه في الوريد. راجع: أضرار تعاطي المخدرات لخالد إسماعيل صفحة 29، فقه الأشربة وحدها لعبد الوهاب طويله صفحة 372، المخدرات والمؤثرات العقلية للدكتور سيف الدين شاهين صفحة 64. 2 راجع: الخمر بين الطب والفقه للدكتور محمد علي البار صفحة 62- 63.

تتكلم فيها الأئمة الأربعة رضي الله عنهم لأنها لم تكن في زمنهم1. أما المفتر في عرف أهل اللغة: هو الذي يحدث الفتر في الجسم إذا شرب، إذ تكون منه حرارة في الجسم وانكسار في الأطراف مع الضعف والاسترخاء. والفترة: الانكسار والضعف: يقال: فتر جسمه: إذا لانت مفاصله وضعف، ويقال: للشيخ قد علته كبرة وعدته فترة2. فالمفتر عند أهل اللغة: ما يترتب على تناول ما يؤثر في العقل من سكر ونحوه، فالفتر هو الضعف والانكسار ولين المفاصل والأطراف مع الضعف والاسترخاء. فالأعضاء والمفاصل والأطراف وغيرها من مكونات الجسم الأساسية يشوبها الضعف والكسل والانكسار ونحو ذلك من كل ما يؤثر في هذه الأعضاء بعدم إمكانها من القيام بمهامها. والمفتر في عرف الفقهاء: اختلفت عبارات الفقهاء بشأن تعريف المفتر، غير أن المعنى يكاد يكون متقارباً: فقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: "أن المفتر شأنه أن يضعف الأعضاء ويلين الجسم بشدة ويسكن حدته"3. وجاء في نهاية المحتاج: "إن المفتر هو الذي إذا شرب أحمى الجسد وصار فيه فتور وضعف وانكسار"4. وجاء في معالم السنن: "بأنه كل شراب يورث الفتور والرخاوة في الأعضاء والخدر في الأطراف وهو مقدمة السكر"5. وفي عون المعبود: "بأنه ما يحدث استرخاء الأطراف وصيرورتها إلى وهن

_ 1 راجع: الفروق للقرافي 1/219، الموسوعة الفقهية الكويتية 11/34 – 35، والسياسة الشرعية لابن تيمية صفحة 108. 2 راجع: لسان العرب لابن منظور 10/374، ومختار الصحاح للرازي صفحة 229 مادة فتر. 3 4/258. 4 الرملي 8/61 – 62. 5 الخطابي 4/247.

وانكسار وإن لم ينته إلى حد الإسكار"1. فالمفتر في اصطلاح الفقهاء: هو كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف، وذلك كأثر لتناول الحشيش الذي يسكر ويخدر ويفتر ويلحق بالحشيش الأفيون، وكل ما من شانه أن يترتب على تناوله نفس الآثار والنتائج مع اختلاف مسمياتها، وذلك لأن عبارات الفقهاء تدور في مجملها حول هذه المعاني. فالفتور والرخاوة في الأعضاء والخدر في الأطراف والاسترخاء والوهن والانكسار، كل هذه المعاني هي المناط في تحقيق الفتور طالما أنه لم يحدث الإسكار باعتبار أن ذلك الفتور يعد مقدمة للإسكار ولم يصل إلى حده. فالتعاريف متفقة في معناها، وإن اختلفت اختلافاً طفيفاً في التعبير عن هذا المعنى، وهذا الاختلاف في اللفظ والعبارة فقط، ولا أثر له طالما أن الاتفاق حاصل بالنسبة للمعنى المراد للفقهاء. هذا: والمخدرات والمفترات يتفرع حكمها من حيث التناول وكذا البيع وخلافه على حكم الخمر، فالمخدرات ترتبط بالخمر بعلة التحريم وهي الإسكار، وما يترتب على تعاطيها من ضرر بإذهاب العقل وإفساده كما هو الحال في تناول الخمر، وترتبط كذلك بالخمر في كونها نجسة على قول من قال بهذا حيث جرى الخلاف بين العلماء بشأن نجاسة المخدرات، حيث عرض ابن تيمية في فتاويه لهذا الخلاف قائلاً: تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال: في مذهب أحمد وغيره: فقيل: هي نجسة كالخمر المشروبة وهذا هو الاعتبار الصحيح، وقيل: لا لجمودها وقيل: يفرق بين جامدها ومائعها وبكل حال فهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظاً ومعنى2. وفي موضع آخر من الفتاوى قال: "وتنازعوا في نجاستها على ثلاثة أوجه في مذهب أحمد وغيره فقيل: هي نجسة وقيل: ليست بنجسة وقيل: رطبها نجس كالخمر

_ 1 محمد شمس الحق آبادي 10/91. 2 راجع: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 28/240.

ويابسها ليس بنجس والصحيح أن النجاسة تتناول الجميع كما تتناول النجاسة جامد الخمر ومائعها"1. وفي موضع آخر قال: وتنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال أحدها: أنها ليست نجسة، والثاني أن مائعها نجس، وأن جامدها طاهر، والثالث وهو الصحيح أنها نجسة كالخمر فهي تشبه العذرة وذلك يشبه البول وكلاهما من الخبائث التي حرمها الله ورسوله، ومن ظهر منه أكل الحشيشة فهو بمنْزلة من ظهر منه شرب الخمر وشر منه من بعض الوجوه، ويهجر ويعاقب على ذلك كما يعاقب هذا للوعيد الوارد في الخمر ... "2. وجاء في زاد المعاد: "أن الخمر يدخل فيها كل مسكر مائعاً كان أو جامداً، عصيراً أو مطبوخاً فيدخل فيه عصير العنب ... واللقمة الملعونة لقمة الفسق والقلب ... "3. وجاء في حاشية قليوبي على شرح المحلي على منهاج الطالبين: "البنج ونحوه من كل ما فيه تخدير وتغطية للعقل فهو طاهر وإن حرم تناوله"4. وفي مغني المحتاج: ".... وخرج به البنج ونحوه من الحشيش المسكر فإنه ليس بنجس وإن كان حراماً...."5. فالمخدرات الجامدة كلها طاهرة غير نجسة وإن حرم تعاطيها، ولا تعتبر نجسة بمجرد إذابتها في الماء، ولو قصد شربها، لأنهم يرون أن الحكم الفقهي أن نجاسة المسكرات مخصوصة بالمائعات منها وهي الخمر التي سميت رجساً في القرآن الكريم وما يلحق بها من سائر المسكرات المائعة حتى إن ابن دقيق العيد قد حكى الإجماع على طهارة المخدرات، في حين أن بعض الحنابلة قد رجح الحكم بنجاسة هذه المخدرات الجامدة، وذكر الإمام بدر الدين الزركشي أن ما ادعاه ابن دقيق العيد من الإجماع فيه نظر لما ذكره القرافي من أنه سمع من

_ 1 ابن تيمية 34/206. 2 المرجع السابق 34/212. 3 ابن القيم 4/240. 4 قليوبي 1/69. 5 الشربيني 1/111.

الأفواه في نجاسة الحشيش قولين1. وإن كان الفقهاء اختلفوا في طهارة المخدرات ونجاستها إلا أنهم أجمعوا على تحريم تعاطيها.

_ 1 راجع: زهرة العريش في تحريم الحشيش للإمام بدر الدين الزركشي صفحة 124.

المبحث الثاني: حكم بيع المخدرات

المبحث الثاني: حكم بيع المخدرات إن المقرر لدى فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم، تحريم المخدرات تحريماً قاطعاً قياساً على تحريم الخمر، لاتحادهما في علة التحريم وهي الإسكار، والمراد بالإسكار هنا هو تغطية العقل لا مع الشدة المطربة، لأنها من خصوصيات المسكر المائع، فضلاً عن الأضرار الفردية والجماعية التي لا تخفى على أحد، لما فيها من ضرر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" 1. قال المناوي: "فيه تحريم سائر أنواع الضرر، وأنه لا يخرج عن هذا إلا بدليل، لأن النكرة في سياق النفي تعم"2. فتحريم المخدرات ومنع بيعها، يأتي بالتخريج على حكم الخمر المحرمة شرعاً عند من لم ينص صراحة على تحريمها باعتبارها من الأمور المستحدثة، فالفقهاء قد خرجوا حكم بيع المخدرات على حكم بيع الخمر أو للنص على تحريم المخدرات كما هو الحال عند الشافعية: فقد ورد في مغني المحتاج: ".... وخرج به البنج ونحوه من الحشيش المسكر، فإنه ليس بنجس وإن كان حراماً...."3. وفي حاشية قليوبي على شرح المحلي على منهاج الطالبين: "البنج ونحوه من كل

_ 1 الحديث روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فروي عن أبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس، وعبادة بن الصامت، وعائشة، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وثعلبة، رضي الله عنهم أجمعين، وصححه الشيخ الألباني. راجع: نصب الراية للزيلعي 4/384-386، والسلسلة الصحيحة للألباني 1/443-448 برقم 250. 2 فيض القدير 6/431 – 432. 3 الشربيني 1/111.

ما فيه من تخدير وتغطية للعقل، فهو طاهر وإن حرم تناوله"1. مذهب الحنفية: أنه لا يحل بيع الحشيشة، ويحرم أكلها لقيام المعصية بعينها، لأنها مفسدة للعقل، وتلهي عن ذكر الله سبحانه. فقد جاء في حاشية ابن عابدين: " ... قلت: وقد سئل ابن نجيم2 عن بيع الحشيشة هل يجوز؟ فكتب لا يجوز، فيحمل على أن مراده بعدم الجواز عدم الحل.... أي لقيام المعصية بعينها.... ويحرم أكل البنج والحشيشة" 3. وفي بدائع الصنائع: "ويجوز بيع ما سوى الخمر من الأشربة المحرمة كالسكر ونقيع الزبيب والمنصف ونحوها عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد لا يجوز، لأنه إذا حرم شربها لم تكن مالاً، فلا تكون محلاً للبيع كالخمر، ولأن ما حرم شربه لا يجوز بيعه ... "4. فالمستفاد من نص البدائع: هو أن الإمام أبا حنيفة يرى جواز بيع جميع الأشربة المحرمة غير الخمر كالسكر ونقيع العنب والمنصف، لأنها غير نجسة العين كالخمر، وخالفه في ذلك الصاحبان أبو يوسف ومحمد من الحنفية حيث إنهما يريان عدم صحة بيع هذه الأشربة المحرمة لأن تحريمها يقتضي نجاستها وعدم ماليتها، لأن ما حرم شربه لا يصح بيعه. مذهب المالكية: القول بجواز بيع الأفيون والبنج والجوزه ونحوها، والظاهر أن يقال فيها ما قال ابن رشد في المذر5 على أساس حرمة أكلها، فإذا كان هناك فائدة

_ 1 قليوبي 1/69. 2 هو زين الدين بن إبراهيم بن محمد الشهير بابن نجيم من أهل مصر، فقيه وأصولي حنفي، كان عالماً محققاً ومكثراً من التصنيف، أخذ عن شرف الدين البلقيني، وشهاب الدين الشلبي، وغيرهما. أجيز بالإفتاء والتدريس، وانتفع به خلائق، من تصانيفه "البحر الرائق في شرح كنْز الدقائق" و "الأشباه والنظائر" توفي رحمه الله سنة 970هـ. راجع: الأعلام للزركلي 3/104، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 4/192. 3 ابن عابدين 10/41 – 46 – 48. 4 الكاساني 5/144 – 145. 5 المذررت البيضة فسدت والمذرة تطلق على البيض الذي استحال دما بحيث لا ينتفع به. تهذيب الأسماء واللغات للنووي 3/313.

غير الأكل جاز بيعها لمن يصرفها في غير الأكل، ويؤمن من بيعه لمن يأكله ويسري حكم جواز البيع على سائر المعاجين المغيبة للعقل لمن لا يستعمل منها القدر المغيب للعقل ويؤمن أن يبيعها لمن يستعملها في تغيب العقل، وإلاّ كان بيعها ممنوعاً على نحو ما ذكره الخرشي وقال إنه المذهب. فقد جاء في مواهب الجليل: ".... جواز بيع هذه الأشياء من الأفيون والبنج والجوزه ونحوها ولم أر فيه نصاً صريحاً، والظاهر أن يقال في ذلك كما قال ابن رشد في المذر على القول بحرمة أكله إن كان فيه منفعة غير الأكل جاز بيعه ممن يصرفه في غير الأكل، ويؤمن أن يبيعه ممن يأكله، وكذلك يقال في هذه الأشياء في سائر المعاجين المغيبة للعقل، يجوز بيع ذلك لمن لا يستعمل منه القدر المغيب للعقل، ويؤمن أن يبيعه ممن يستعمل ذلك، والله أعلم ... "1. وجاء في حاشية الخرشي: " ... قال الحطاب2 جواز بيع هذه الأشياء من الأفيون والبنج والجوزه ونحوه ولم أر فيه نصاً صريحاً، والظاهر أن يقال في ذلك يجوز بيعه لمن لا يستعمل منه القدر المغيب للعقل ويؤمن أن يبيعه من يستعمل ذلك ... "3. فمذهب المالكية: أن بيع الأفيون والبنج والمخدر جائز، وبهذا قال بعض المالكية كالحطاب، وقال: لم أر فيه نصاً صريحاً غير أن الخرشي المالكي يرى أن الظاهر في المذهب هو جواز البيع لمن لا يستعمل من هذه الأشياء القدر المغيب للعقل ويؤمن ذلك منه، بمعنى التأكد من أنه لا يبيع منه شيئاً لمن يستعمله في القدر المغيب للعقل، وعلى هذا فإن لم يتحقق هذا الاحتياط فإن البيع يكون ممنوعاً. مذهب الشافعية: لم تنص كتب الشافعية فيما اطلعت عليه على حكم بيع

_ 1 الحطاب 1/90. 2 هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المعروف بالحطاب، فقيه مالكي من علماء المتصوفين، أصله من المغرب، ولد واشتهر بمكة من مصنفاته "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" توفي في طرابلس الغرب رحمه الله سنة 954هـ. راجع: الأعلام للزركلي 7/286، الديباج المذهب لابن فرحون 2/337. 3 الخرشي 1/156.

المخدرات وما في حكمها، فقد اقتصرت هذه الكتب على بيان حكم المخدرات من حيث التناول والعقوبة المقررة لمن يتناولها وأن هذا الحكم قيس على حكم تناول الخمر. وعلى هذا فمن الممكن تخريج حكم بيع المخدرات على حكم بيع الخمر، ولما كان بيع الخمر ممنوعاً عند الشافعية لنجاستها ولحرمة شربها كانت المخدرات هي الأخرى كذلك فيشملها المنع فلا يجوز بيعها لتحقق ذات العلة، وهي حرمة التناول والتعاطي على خلاف في كونها نجسة أم لا؟. فقد جاء في المجموع: ".... وأما ما يزيل العقل من غير الأشربة كالبنج وهذه الحشيشة المعروفة فحكمه حكم الخمر في التحريم، ووجوب قضاء الصلوات، ويجب فيه التعزير دون الحد.... لا يحل أكل ما فيه ضرر من الطاهرات كالسم القاتل والزجاج والتراب الذي يؤذي البدن ... قال الروياني1: النبات الذي يسكر وليس فيه شدة مطربة يحرم أكله، ولا حد على أكله...."2. وجاء في مغني المحتاج: ".... كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وحد شاربه ... والمراد بالشارب المتعاطي شراباً ... وخرج بالشراب النبات قال الدميري3: كالحشيشة التي تأكلها الحرافيش، ونقل الشيخان في باب الأطعمة.... أن أكلها حرام ولا حد فيها.... يحرم تناول ما يضر البدن أو العقل ... كالأفيون وهو لبن

_ 1 هو عبد الواحد بن إسماعيل أحمد بن محمد أبو المحاسن الروياني فقيه شافعي، درس نيسابور وبخارى، أحد أئمة مذهب الشافعي اشتهر بحفظ المذهب حتى يحكى عنه أنه قال: "لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من حفظي" ولي قضاء طبرستان ورويان وقراها، قتله الملاحدة بوطن أهله آمل سنة 502 ? راجع: الأعلام للزركلي 4/324، وطبقات الشافعين للأسنوي 4/264. 2 النووي 3/9، 9/36. 3 هو محمد بن موسى بن عيسى بن علي الدميري أبو البقاء كمال الدين باحث أديب من فقهاء الشافعية من أهل دميره بمصر ولد ونشأ بالقاهرة سنة 742 هـ كان يتكسب بالخياطة ثم أقبل على العلم وأفتى ودّرس وكانت له في الأزهر حلقة خاصة وأقام مدة بمكة والمدينة من كتبه "حياة الحيوان" توفي في القاهرة رحمه الله سنة 808هـ. راجع: الأعلام للزركلي 7/118.

الخشخاش لأن ذلك مضر وربما يقتل"1. وفي إعانة الطالبين: " ... كل شراب أسكر كثيره من خمر وغيرها حرم قليله وكثيره ... وخرج بالشراب ما حرم من الجامدات فلا حد فيها وإن حرمت وأسكرت. بل التعزير ككثير البنج والحشيشة والأفيون ... وعلق قائلاً ... إن العلماء قد ذكروا في مضار الحشيشة نحو مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية ... "2. وجاء في نهاية المحتاج: ".... وخرج بالشرب ما حرم من الجامدات كالبنج والأفيون وكثير الزعفران والجوزة والحشيش" 3. وهكذا: فقد قاس الشافعية حكم المخدرات على حكم الخمر، وقالوا بعدم جواز بيعها تبعاً لهذا، خاصة وأن كتب الفقه الشافعي لم تتحدث صراحة عن حكم بيع المخدرات مما جعلنا نخّرج الحكم على أمرين: أحدهما: القياس على الخمر، لتحقق ذات العلة في هذا القياس وهي الحرمة، لأن ما أسكر كثيره فقليله حرام. أما الثاني: فهو النص في كتب الشافعية على حكم تناول المخدرات بأنواعها، حيث تقرر حرمة ذلك لإفسادها للعقل والإضرار به، والواقع أنه لا إشكال، فالشافعية بالنسبة للتناول نصوا عليه، أما بالنسبة للبيع فقد خرجوا الحكم على حكم التناول. وتجدر ملاحظة أن بعض نصوص الشافعية في هذا الشأن فرقت بين المخدرات التي تشرب، وبين غير المشروبة كالبنج والأفيون ونحوهما، من حيث حكم الكثير والقليل، ومن حيث العقوبة. فقالوا إنه بالنسبة للجامدات من المخدرات، فرغم أنها محرمة، غير أنها لا تستوجب الحد كالخمر وإنما يكتفي فيها بالتعزير فقط.

_ 1 الشربيني 4/232 –386. 2 السيد البكرى 4/176 – 177. 3 الرملي 8/12.

وعلى هذا فكثير الشراب المحرم وقليله ممنوع وفيه الحد، بخلاف الجامدات كالبنج والأفيون والزعفران والجوزة والحشيش، فإنها مشمولة بحكم التحريم كالخمر، ومنع البيع والتداول، إلاّ أنه من حيث العقوبة المقررة، فإنها تقف عند التعزير دون الحد. مذهب الحنابلة: لم تذكر كتب الحنابلة فيما اطلعت عليه حكم بيع المخدرات، وما في حكمها، واكتفت بذكر العقوبة على من يتناولها، وأنها أخبث من الخمر من ناحية أنها تفسد العقل وتؤدي إلى التخنث والدياثة ونحو ذلك، كما أن بعض الكتب مثل كشاف القناع نصت على عدم إباحة أكل الحشيشة المسكرة، حيث إنه لا يباح كل ما فيه مضرة من السموم وغيرها. وعليه: فحكم بيع المخدرات وما في حكمها مخرج على حكم بيع الخمر الذي قال الحنابلة بعدم جواز بيعها، فكذلك يكون حكم بيع المخدرات وما في حكمها على ذات الحكم فقد جاء في مجموع الفتاوى: "والحشيشة المصنوعة من ورق القنب أيضاً – يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة"1. وجاء في المغني: " ... فأما إن شرب البنج ونحوه مما يزيل عقله عالما بمعصية فأشبه السكران"2. وفي كشاف القناع: ".... ولا يباح أكل الحشيشة المسكرة.... ولا يباح كل ما فيه مضرة من السموم وغيرها"3. فمذهب الحنابلة: القول بعدم صحة بيع المخدرات قياساً على الخمر، رغم أنهم لم يصرحوا بحكم بيع هذه الأشياء، مما استلزمنا عرض النصوص الواردة بحكم التناول لنخرج عليها حكم البيع، وحيث جاء في النصوص الواردة تحريم التناول للحشيشة وما في حكمها لأنها تفسد العقل وتضر بالإنسان، كان بيعها كذلك ممنوعاً لذات

_ 1 ابن تيمية 28/339. 2 ابن قدامة 7/114. 3 البهوتي 9/3091.

السبب تخريجاً على حكم بيع الخمر لذات وجه التعليل فيها، وعلى قول من قال بنجاسة المخدرات كابن تيمية ومن وافقه على نحو ما سبق بيانه1. الموازنة: بمراجعة ما قاله العلماء بشأن بيع المخدرات بكافة أنواعها يتضح الآتي: أن الحنفية مختلفون في هذا، حيث جوز الإمام أبو حنيفة بيع جميع الأشربة غير الخمر، وخالفه في هذا الصاحبان أبو يوسف ومحمد حيث منعا بيعها على أساس عدم ماليتها بسبب تحريمها، وقالا ما حرم شربه حرم بيعه، فالمخدرات عندهما محكومة بهذا المنع. أن المالكية مختلفون بشأن بيع المخدرات مما هو سوى الخمر، فبعضهم يرى جواز بيع البنج والأفيون ونحوهما، وعلى هذا الحطاب من المالكية، في حين أن الخرشي يرى هذا الجواز بشرط التأكد أن البيع لمن لم يستعمل هذه الأشياء في القدر المغيب للعقل، وإلا كان البيع ممنوعاً، أي إنه بنى الحكم على القدر المستعمل من هذه الأشياء. أن الشافعية قد خرجوا حكم بيع المخدرات على حكم بيع الخمر، ودعّموا هذا بالنص على حرمة تناول المخدرات، وانتهوا إلى منع بيع هذه المخدرات من الحشيش والأفيون ونحو ذلك. أن الحنابلة قد خرجوا حكم بيع المخدرات على حكم بيع الخمر، خاصة عند من قال منهم بنجاسة المخدرات، كشيخ الإسلام ابن تيمية. وعليه فالمسألة فيها مذهبان: المذهب الأول: يرى عدم جواز بيع المخدرات، وإلى هذا ذهب كل من الشافعية والحنابلة، وقال به أبو يوسف ومحمد من الحنفية والخرشي من المالكية، إذا كان البيع

_ 1 فقد تقرر لدى شيخ الإسلام ابن تيمية القول بنجاسة المخدرات مطلقاً وأنه لا فرق بين جامدها ومائعها في هذا الحكم. راجع: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 28/340، 34/206 – 212.

لمن يستعمل منها القدر المغيب للعقل أو لا يؤمن منه ذلك. المذهب الثاني: يرى جواز بيع جميع الأشربة مما هو سوى الخمر، ومن هذا المخدرات، وإلى هذا ذهب الإمام أبو حنيفة، ووافقه في هذا بعض المالكية كالحطاب، وهو قول الخرشي، بشرط التأكد من أن البيع لمن لا يستعمل منها القدر المغيب للعقل أو يؤمن منه ذلك. الأدلة: استدل القائلون بحرمة بيع المخدرات بما يأتي: 1 – قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 1 حيث حرم الله سبحانه وتعالى كل ضار خبيث، ولما كان من شأن المواد السابقة الضرر بعقل من يتناولها، كانت خبيثة، ونهى عنها الشارع، ولأن المحافظة على العقل من المصالح الضرورية التي قصد الشارع إلى تحقيقها من تشريع الأحكام، فتناول هذه المواد يخل بما قصد إليه الشارع من ذلك. 2 – قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} 2، وقال: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 3. ففي هاتين الآيتين نهى الله سبحانه وتعالى عن قتل النفس، والإلقاء بها إلى ما فيه هلاكها، والنهي يفيد التحريم عند الإطلاق، وأن المواد السابقة تفتك ببدن من تناولها، وقد تؤدي إلى وفاته، فإنه يحرم بيع وتناول ما يؤدي إلى ذلك منها. 3 – قوله صلى الله عليه وسلم: فيما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "كل مسكر حرام" 4، فقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر" عام يشمل ما وقع به الإسكار سواء كان شراباً أو جامداً أو مائعاً، والمخدرات مسكرة مزيلة للعقول سواء كانت نباتية أو مصنعة.

_ 1 سورة الأعراف: الآية 157. 2 سورة النساء: الآية 29. 3 سورة البقرة: الآية 195. 4 أخرجه البخاري برقم 4087، 4088 برقم 5773، وكتاب الأحكام باب أمر الوالي إذا وجه أميرين إلى موضع أن يتطاوعا ولا يتعاصيا برقم 6751، ومسلم برقم 2001، وبرقم 2001 وبرقم 2002 وبرقم 2003.

ولهذا وجدت ابن حجر رحمه الله يقول: "واستدل بمطلق قوله صلى الله عليه وسلم "كل مسكر حرام" على تحريم ما يسكر ولو لم يكن شراباً فيدخل في ذلك الحشيشة والبنج وما في حكمها"1. ويعضد هذا بما جاء من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر"2. حيث يقتضي هذا الحديث حرمة المخدرات، لأنه نص على تحريم كل ما يسكر ويفتر، والمعروف أن المخدرات فيها العلتان فهي مسكرة ومفترة. هذا فضلا ً عن الحديث التي روته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول وقد سئل عن البتع3؟ فقال: "إن كل شراب أسكر فهو حرام" 4. فقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم كل ما يغيب العقل ويستره دون تفريق بين المسكر المائع أو الجامد، حيث يصدق على ذلك مسمى الخمر المحرمة، لأنها تخمر العقل أي تغطيه وتستره، أو لأنها تخامره أي تخالطه. والناظر في هذه الأحاديث الشريفة يجد أن إطلاق التحريم شامل لكل ما يحصل به الإسكار، ومن ذلك الحشيشة وما يجري مجراها من المواد المخدرة، وأن العلة الموجودة في الخمر موجودة في الحشيشة، فوجب أن يتخذ الحكم بالتحريم فيهما. يقول ابن القيم: "إن الخمر يدخل فيها كل مسكر، مائعاً كان أو جامداً، عصيراً أو مطبوخاً" 5.

_ 1 راجع: فتح الباري 10/45. 2 أخرجه الإمام أحمد 6/309، وأبو داود كتاب الأشربة باب النهي عن المسكر برقم 3686، والبيهقي في السنن 8/296، والطبراني في الكبير 23/337، من طريق شهر بن حوشب عن أم سلمة به، وشهر قال عنه الحافظ: صدوق كثير الإرسال والأوهام، لكنه قال في الفتح 10/44: أخرجه أبو داود بسند حسن. ا?. وقال أيضا 10/45: فقد ثبت عن أبي داود النهي عن كل مسكر ومفتر. ا?. 3 هو نبيذ العسل. المعجم الوسيط للدكتور إبراهيم أنيس وجماعه 1/37 ص 37. 4 أخرجه مسلم كتاب الأشربة باب بيان أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام برقم 2001. 5 زاد المعاد 2/197.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكل ما يغيب العقل، فإنه حرام، وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين.... ومن اعتقد حل ذلك كفر" 1. هذا كله فضلاً عن أن العقل والقياس والاعتبار الصحيح، كل هذا يدل على أن المخدرات كالخمر في الحكم، وهو التحريم، وذلك بجامع زوال العقل في كل، وحيث كان هذا الحال بالنسبة للعلة فإنه يجب الاتحاد في الحكم وهو التحريم، كما أن القواعد الشرعية تدل كذلك على ذات الحكم، وأن الشريعة الإسلامية قد راعت درء المفاسد ومن قواعدها "الضرر يزال" 2. والمعروف أن المواد المخدرة على اختلاف أنواعها وأشكالها، فيها أضرار بالغة ومفاسد كثيرة، فقد أجمع الأطباء على أنها مضرة بالإنسان، وقال أهل العلم: إن الحشيشة بها مائة وعشرون مضرة دينية ودنيوية3. واستدل من قال بجواز بيع جميع الأشربة مما هو سوى الخمر: فقد تمسك من جوز بيع ما سوى الخمر من السكر ونقيع الزبيب والمنصف، ونحو ذلك، بأن هذه الأشياء لا يوجد دليل مقطوع به ومتيقن على عدم ماليتها أو حرمتها أو نجاستها، وأن هذه الأمور كلها محل اجتهاد، خاصة وأن هذه الأشياء لها صفة المالية قبل حدوث الشدة على سبيل اليقين، ولهذا كانت الحرمة مجتهداً فيها في مقابل أن المالية متيقنة، والمقرر أن المتيقن لا يرفع بما هو مجتهد فيه، وهذه المالية كافية لإمكان البيع خاصة عند من لم يشترط طهارة المبيع والاكتفاء بماليته، كالحنفية فضلاً على أن القول بنجاسة هذه الأشياء محل خلاف بين العلماء، والقول بنجاستها مرجوح وهذا مقيد أيضاً عند من يرى ضرورة طهارة المبيع. والراجح في هذا: هو القول بمنع بيع المخدرات ونحوها مما سوى الخمر لقوة ما استدل به وسداً لذريعة تداولها بين الناس لما فيها من أضرار وفتن لا تقل عن مثيلتها في الخمر، والله تعالى أعلم.

_ 1 مجموع الفتاوى 34/211. 2 الأشباه والنظائر للسيوطي صفحة 83. 3 الزواجر لابن حجر 4/232، مجموع فتاوى ابن تيمية 34/205.

المبحث الثالث: حكم بيع المفترات

المبحث الثالث: حكم بيع المفترات المفتر: على ما استقر عليه رأي العلماء هو كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف مثل الحشيش والأفيون، وذلك لأن تناول أحدهما يسكر ويخدر ويفتر الجسم. هذا ويلحق بالحشيش والأفيون كل ما من شأنه أن يترتب على تناوله نفس الآثار والنتائج، وإن اختلفت مسمياته. وقد ثبتت حرمة تناول المفترات للنهي الوارد فيما روته أم سلمة رضي الله عنها حيث قالت "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر" وذلك على نحو ما سبق تحقيق وجه الدلالة منه في المبحث السابق حيث استبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن المسكر، ثم عطف عليه المفتر، والعطف يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم. وفي هذا يقول الإمام القرافي: "إن القاعدة عند الأصوليين والمحدثين: أنه إذا ورد النهي عن شيئين مقترنين، ثم نص على حكم النهي عن أحدهما من حرمة أو غيرها، أعطي الآخر ذلك الحكم بدليل اقترانهما في الذكر والنهي، وفي الحديث المذكور ذكر المفتر مقروناً بالمسكر، وقد تقرر تحريم المسكر بالكتاب والسنة والإجماع فيجب أن يعطى المفتر حكمه بقرينة النهي عنهما مقترنين"1. فالثابت لدى الفقهاء أن ما حرم تناوله حرم بيعه وامتنع تبعاً لذلك أن يكون محلاً للتعاقد، فإنه يحرم بيع جميع المفترات تخريجاً وقياساً على حرمة تناول وبيع المسكرات من خمر ومخدرات، ونحوها، وذلك لتحقق نفس العلة المقرر من أجلها تحريم الخمر بأصل النص على ذلك. وقد تفرع على هذا: بيع الدخان "التبغ" مذهب الحنفية: القول بمنع بيع الدخان. فقد جاء في حاشية ابن عابدين: ".... في

_ 1 الفروق 1/376.

شرح الوهبانية للشرنبلالي1: أنه يمنع من بيع الدخان ... والتتن الذي حدث وكان حدوثه بدمشق في سنة خمس عشره بعد الألف يدعي شاربه أنه لا يسكر، وإن سلم له فإنه مفتر وهو حرام"2. فمذهب الحنفية: القول بمنع بيع الدخان، وما في حكمه مثل التتن المزروع بدمشق. وقد عللوا ذلك المنع باعتبار أن الدخان مفتر، وأن المفتر حرام على نحو ما تقرر سابقاً، والمقرر تبعاً لهذا حرمة بيع الحرام. مذهب المالكية: القول بجواز بيع الدخان. فقد جاء في فتح العلي المالك: " ... فقد سئل الشيخ عليش3 في الدخان الذي يشرب في القصبة، والذي يستنشق به، هل كل منهما متمول؟ فإذا أتلف شخص شيئاً من أحدهما مملوكاً لغيره يكون عليه الضمان أو كيف الحال؟.... فأجاب: نعم كل منهما متمول لأنه طاهر فيه منفعة شرعية لمن اختلت طبيعته باستعماله وصار له كالدواء فكل منهما كسائر العقاقير التي يتداوى بها من العلل ولا يرتاب عاقل متشرع في أنها متمولة فكذلك هذان، كيف والانتفاع على الوجه المذكور والتنافس حاصلان بالمشاهدة ... فإذا أتلف شخص شيئاً من أحدهما مملوكاً لغيره كان عليه الضمان...."4.

_ 1 هو الحسن بن عمار بن علي الشرنبلالي فقيه حنفي مكثر من التصنيف نسبته إلى شبرى بلولة بالمنوفية جاء به والده منها إلى القاهرة وعمره ست سنوات فنشأ بها ودرس بالأزهر وأصبح المعول عليه في الفتيا من كتبه "شرح نور الإيضاح" و "شرح منظومة ابن وهبان" توفي رحمه الله تعالى سنة 1069هـ. راجع: الأعلام للزركلي 2/225. 2 ابن عابدين 10/49 – 50. 3 هو محمد بن أحمد بن محمد عليش أبو عبد الله، فقيه من أعيان المالكية، مغربي الأصل، من أهل طرابلس الغرب، ولد بالقاهرة، وتعلم في الأزهر، وولي مشيخة المالكية فيه، ولما كانت ثورة عرابي باشا اتهم بموالاتها فأخذ من داره وهو مريض محمولاً لا حراك به، وألقي في سجن المستشفى من تصانيفه "فتح العلى المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك" و "منح الجليل على مختصر خليل" توفي رحمه الله تعالى بالقاهرة سنة 1299هـ. راجع: الأعلام للزركلي 6/19. 4 فتح العلى المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ عليش 2/181.

وهكذا يرى المالكية جواز بيع الدخان الذي يشرب في القصبة الشيشة والذي يستنشق به، وذلك لطهارته، ولكونه منتفعاً به شرعاً. ويترتب على هذا القول بالضمان على من أتلفه. مذهب الشافعية: اختلف فقهاء الشافعية بشأن بيع الدخان، فمن قائل بصحة ذلك البيع، لطهارة المبيع، ومن قائل بعدم صحته، لعدم المنفعة فيه، ومن قائل بإباحة البيع، وإن كان المعتمد في المذهب القول بكراهة ذلك البيع. فقد جاء في حاشية الشرواني على تحفة المحتاج: " ... وقع السؤال في الدرس عن الدخان المعروف في زماننا هل يصح بيعه أم لا؟ والجواب عنه الصحة لأنه طاهر منتفع به ... قيل مما لا يصح بيعه الدخان المعروف لأنه لا منفعة فيه، بل يحرم استعماله، لأن فيه ضرراً كبيراً، وهذا ضعيف، وكذا القول بأنه مباح والمعتمد أنه مكروه بل قد يعتريه الوجوب كما إذا كان يعلم الضرر بتركه وحينئذ فبيعه صحيح، وقد تعتريه الحرمة، كما إذا كان يشتريه بما يحتاجه لنفقة عياله أو تيقن ضرره ... "1. وعلى هذا فالخلاف قائم في مذهب الشافعية، بشأن بيع الدخان، فقد قالوا بصحة هذا البيع، بناء على طهارة المبيع المشترطة في عقد البيع عندهم، وقيل بعدم صحة البيع، لأنه لا منفعة فيه، وأن استعماله محرم، وذلك لضرره الكبير، وهذا القول ضعيف، وكذا ضعف القول الثالث القائل بإباحته، والمعتمد في المذهب القول بأنه مكروه، أي من حيث الاستعمال، وكذا من حيث بيعه تبعاً لهذا، وهناك قول بأن تناوله يكون واجباً، وذلك لمن يلحق الضرر بترك تناوله، وفي هذه الحالة يكون بيعه صحيحاً، وقيل قد يكون بيعه حراماً، إذا كان المشتري قد اشتراه بما يحتاجه لنفقة عياله، أو عند تيقن الضرر من استعماله. مذهب الحنابلة: تردد فقهاء الحنابلة بشأن بيع الدخان بناءً على أن كتب الفقه الحنبلي لم تنص صراحة على حكم الدخان، وقد خرج حكمه على حكم تناول الحشيشة والأفيون والبنج وما شاكله، ذلك والذي تقرر فيه من قبل منع تناوله وعدم

_ 1 الشيخ عبد الحميد الشرواني 4/236 – 237.

إباحة كل ما فيه مضرة من السموم وغيرها. فقد جاء في كشاف القناع: "ولا يباح أكل الحشيشة المسكرة ... ولا يباح كل ما فيه مضرة من السموم وغيرها ... فأما السم من الحشائش والنبات فإن كان لا ينتفع به أو كان يقتل قليله لم يجز بيعه، وإن انتفع به وأمكن التداوي بيسيره كالسقمونيا ونحوها جاز بيعه لما فيه من النفع المباح ... "1. وهكذا يستفاد من ذلك: أن الحنابلة قد علقوا حكم بيع الدخان والتبغ ونحوهما على إمكان الانتفاع بالتداوي ونحوه خاصة لو كان قدر ذلك المتناول يسيراً فإن أمكن ذلك الانتفاع جاز تناوله وبالتالي بيعه وإلاّ فلا. الموازنة: بالرجوع إلى ما استقر عليه رأي العلماء بشأن حكم بيع الدخان، سواء كان ذلك بالنص، أو كان تخريجاً على حكم الحشيش والمخدرات عامة، والمخرج بدوره عند بعضهم على حكم الخمر لتحقق ذات العلة المقررة لربط الدخان بالمخدرات وغيرها. وبمراجعة هذا يتضح أن العلماء مختلفون بشأنه من حيث شربه وتناوله، وبالتالي من حيث بيعه بمراعاة أن الحديث عن حكم بيع الدخان والتبغ ونحوهما كان قليلاً غير أنه يمكن أن يقال في الجملة إن الذين حرموه استتبع ذلك عندهم حرمة بيعه، والذين أباحوه قالوا بإباحة بيعه، وخلاصة ما قالوه على نحو ما سبق عرضه ما يأتي: 1- أن الحنفية: يرون منع بيع الدخان والتبغ ونحوهما، وذلك لحرمة تناولهما، للنهي عن كل مسكر ومفتر. 2- أن المالكية: يرون جواز بيع الدخان والتبغ ونحوهما، وقالوا بأن كلا منهما متمول أي له الصفة المالية فضلاً عن طهارتهما وإمكان الانتفاع بهما شرعاً قياساً على الدواء ونحوه من سائر العقاقير التي يتداوى بها من العلل، وترتب على هذا القول

_ 1 البهوتي 4/1385، 9/3091.

بضمان متلفه على تفصيل في وجه هذا الضمان. 3- وهكذا قال الشافعية: إنه يصح بيع الدخان، لأنه طاهر منتفع به طالما أنه لم يتيقن ضرره فإن تيقن ضرره حرم تناوله وتبعاً لهذا حرم بيعه. 4- أما الحنابلة: فقد علقوا حكم الدخان والتبغ ونحوهما من حيث التناول والبيع على إمكان الانتفاع به، فإن أمكن الانتفاع به، وأمكن التداوي بيسيره، جاز تناوله وجاز بيعه، وإن لم يمكن الانتفاع به، حرم تناوله ولم يجز بيعه. وهكذا كان في مسألة بيع الدخان مذهبان: المذهب الأول: يرى منع بيع الدخان والتبغ، وما في حكم هذا، وإلى هذا القول ذهب الحنفية والشافعية إن تيقن الضرر منه، والحنابلة إذا لم يمكن الانتفاع به خاصة يسيره في التداوي ونحوه. المذهب الثاني: يرى جواز بيع الدخان ونحوه، وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية بشرط عدم تيقن الضرر، والحنابلة إذا أمكن الانتفاع به في التداوي ونحو ذلك. الأدلة: استدل من قال بمنع بيع الدخان ونحوه بذات الأدلة التي تمسكوا بها في قولهم بمنع بيع الخمر والمخدرات والمفترات عامة، ومنها الدخان، وذلك بناء على قولهم بنجاسة هذه الأشياء، وأنها في هذا مثل الخمر علة وحكماً، ودعّموا هذا خاصة عند الحنفية بعدم المالية، وذلك بسبب عدم الانتفاع. واستدل من قال بجواز بيع الدخان بذات ما تمسك به القائل بجواز بيع المفترات ونحوها، بناء على عدم قوله بنجاسة هذه الأشياء، وأنها يمكن أن تكون محلاً للانتفاع بيسيرها في التداوي ونحوه، ورتبوا على هذا إمكان بيعها لهذا الغرض. وما يترجح لديّ: هو حرمة بيع الدخان، وحرمة زراعته وصناعته، وذلك لضرره المحقق على صحة الإنسان، ولأنه يتلف المال، ولأنه من الخبائث، ولأن المدخن يؤذي غيره، وأن أطباء العصر الحديث قد أثبتوا الضرر المحقق لاستخدام الدخان، وما دام الضرر محققاً، فإن تناوله بيعاً أو شراء أو ما شابه ذلك كله حرام، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:

"لا ضرر ولا ضرار" 1. ولما روي عن المغيرة بن شعبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال" 2 وبما روي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" 3. وقد أفتى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في حكم شرب الدخان وبيعه وشرائه فقال: "شرب الدخان محرم، وكذلك بيعه وشرؤاه، وتأجير المحلات لمن يبيعه، لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، ودليل تحريمه قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} 4ووجه الدلالة من ذلك أن الله تعالى نهى عن أن نؤتي السفهاء أموالنا، لأن السفيه يتصرف فيها بما لا ينفع، وبين سبحانه وتعالى أن هذه الأموال قيام للناس لمصالح دينهم ودنياهم وصرفها في الدخان ليس من مصالح الدين، ولا من مصالح الدنيا، فيكون صرفها في ذلك منافياً لما جعله الله تعالى لعباده ... "5. فتحريم بيع الدخان وتحريم زراعته وصناعته هو المرجح في هذا الخلاف، وذلك لما يحققه من ضرر بصحة الإنسان وإتلاف ماله وعقله، فضلاً عن أن التدخين يعد من الخبائث، كما أن المدخن يتسبب في إيذاء غيره، وقد نصت الحكومات على أن التدخين ضار بالصحة فشرب الدخان محرم، وكذلك بيعه وشراؤه، وتأجير المحلات لمن يبيعه، لأن ذلك من باب التعاون على الإثم والعدوان، وهما منهي عنهما شرعاً واعتبار جانب السفه في ذلك التناول.

_ 1 الحديث سبق تخريجه. 2 أخرجه البخاري برقم 1407، ومسلم برقم 593. 3 أخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساجد باب نهي من أكل ثوما أو بصلا عن حضور المسجد برقم 564. 4 سورة النساء: الآية 5. 5 راجع: المصّة الأخيرة من الدخينة: عبد العزيز بن عبد الفتاح رَواه صفحة 70، نقلاً عن أسئلة مهمة للشيخ محمد صالح العثيمين ص 16-17.

الفصل الخامس: بيع الإنسان الحر وأجزائه

الفصل الخامس: بيع الإنسان الحر وأجزائه وفيه مبحثان المبحث الأول: حكم بيع الإنسان الحر. المبحث الثاني: حكم نقل وبيع بعض أجزاء الإنسان الحر.

تمهيد

تمهيد من المقرر لدى العقلاء أن الإنسان ليس مالاً في الشرع، ولا في الطبع، ولا في العقل، فالشرع يأبى أن يعامل الإنسان الذي كرمه الله سبحانه معاملة الأموال، فالإنسان الحر ليس بمال، حيث عرف الحنفية المال بأنه اسم لغير الآدمي، خلق لصالح الآدمي، وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار1. كما أن فقهاء المسلمين قد قرروا أن الإنسان الحي، وكذا الميت، لا يمكن أن يكون محلاً ممكناً ومشروعاً للمعاملات بحسب الأصل، فمحل العقود والحقوق عندهم هو الأموال، كما يشترط في المال أن يكون متقوماً. والإسلام الحنيف قد اهتم بتكريم الإنسان، سواءً في حياته أو بعد مماته، حيث إن الآدمي محترم حياً أو ميتاً، ولهذا ثبتت حرمته في الحياة وبعد الممات، وفي هذا يقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} 2 وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ*الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ*فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 3. وفي سبيل ذلك حرم الإسلام على الإنسان الخبائث من الأطعمة، حيث قال سبحانه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4 وقال أيضاً: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 5. فالاتفاق قائم على مبدأ حماية جسد الآدمي، وأن الشريعة الإسلامية الغراء هي

_ 1 البحر الرائق لابن نجيم 5/277. 2 سورة الإسراء: الآية 70. 3 سورة الانفطار: الآية 6، 8. 4 سورة البقرة: الآية 173. 5 سورة ص: الآية 72.

السباقة بتقرير مبدأ تكريم الإنسان حياً أو ميتاً، فهي التي حرمت بيع الحر، وتدرجت في مسألة بيع الرقيق، حتى قضت عليها نهائياً. ولم تكتف الشريعة الإسلامية بما قررته في هذا الشأن، من أن الإنسان هو المستخلف في الأرض، وله من مظاهر التكريم أوجه متعددة، ومنها: أنها حرمت بيعه إن كان حراً تحريماً مطلقاً، وذلك لأن جسده ليس من الأموال التي ترد عليها العقود، وأن أجزاءه المنفصلة عنه طاهرة، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، فقررت له الحماية الجسدية، وأحاطت النفس البشرية بسياج من الرعاية والحصانة، فقررت عصمة دمه وحرمته، ومنعت الاعتداء عليه، سواء كان مسلماً أو غير مسلم، فقال سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} 1.

_ 1 سورة الإسراء: الآية 33.

المبحث الأول: حكم بيع الإنسان الحر

المبحث الأول: حكم بيع الإنسان الحر إن المتتبع للنصوص الشرعية يجد أن الشريعة الإسلامية قد حرمت بيع الحر مطلقاً، وأغلقت كثيراً من منافذ الرق، وفتحت كثيراً من الأبواب لتحرير الأرقاء، وأن الإطار العام لهذا التحريم هو أن جسم الإنسان سواء كان حياً أو ميتاً لا يعد من الأموال، وبالتالي لا يجوز بيعه، حتى إن العلامة ابن قدامة قال: "لا نعلم في ذلك خلافاً" 1 ولهذا كان المظهر الحقيقي لتكريم الإنسان هو عدم جواز بيع الإنسان الحر، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} 2 فقد كرم الله سبحانه بني آدم بالنطق، والتمييز، وحسن الصورة، وتسخير سائر الخلق لهم، وفضلهم على غيرهم من البهائم والدواب وغيرهما، فكان الإنسان لهذا مكرماً، لأنه حامل للأمانة، ولأنه خليفة الله في أرضه، وهو المطالب بالتعمير والإصلاح في ظل شرع الله سبحانه، ولهذا سخر الله سبحانه سائر الخلق له، وجعله مسلطاً على غيره من المخلوقات، ومن هنا لم يخضع الإنسان شرعاً لما يخضع له غيره من جواز بيعه والتصرف فيه، لأن فعل ذلك في الإنسان إذلال، وهذا يتنافى مع أساس تكريمه ورفعته، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره" 3. وبناء على هذا كان إجماع الفقهاء وجميع علماء المسلمين قديماً وحديثاً على حرمة بيع الآدمي الحر. فمذهب الحنفية: النص على أن الآدمي مكرم شرعاً - وإن كان كافراً - فإيراد

_ 1 المغنى والشرح الكبير 4/302. 2 سورة الإسراء: الآية 70. 3 الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه 4/487.

العقد عليه، وابتذاله، وإلحاقه بالجمادات إذلال له، وهو غير جائز. وفي حاشية ابن عابدين: " ... والآدمي مكرم شرعاً - وإن كان كافراً - فإيراد العقد عليه وابتذاله به وإلحاقه بالجامدات إذلال له وهو غير جائز، وبعضه في حكمه، وصرح في فتح القدير ببطلانه"1. فقد جاء في شرح فتح القدير: " ... وكذا بيع الميتة والدم والحر باطل، لأنها ليست أموالاً فلا تكون محلاً للبيع ... "2. وجاء في البحر الرائق: " ... ولم ينعقد بيع ما ليس بمال متقوم، كبيع الحر، والمدبر المطلق، وأم الولد، والمكاتب، ومعتق البعض، وأولادهم إلا ولد المكاتب المشترى في كتابته، والميتة، والدم، وذبيحة المجوسي، والمرتد ... "3. وأراد بالمتقوم: المنتفع به بوجه شرعي كما يفهم من بيانه. وفي بدائع الصنائع: " ... فلا ينعقد بيع الحر لأنه ليس بمال"4. وجاء في مجمع الأنهر: " ... بيع ما ليس بمال، والبيع أي بيع الشيء به، أي جعله ثمناً بإدخال الباء عليه، كأن يقول بعت هذا الثوب بهذه الميتة مثلا باطل، كالدم المسفوح، والميتة التي ماتت حتف أنفها، لأن المنخنقة وأمثالها مال عند أهل الذمة، والحر لانعدام ركن البيع وهو مبادلة المال بالمال، لأن هذه الأشياء لا تعد مالاً عند أحد ممن له دين سماوي، كما في أكثر الكتب، لكن الحر مال في شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام، حتى استرق السارق على ما قالوا، فلا ينبغي أن يقال: إنه لم يكن مالاً عند أحد ... "5. فمذهب الحنفية: أن بيع الإنسان الحر باطل، وذلك لانعدام ركن البيع، وهو مبادلة المال بالمال، فلا تنعقد مثل هذه العقود المعقودة على الإنسان الحر، وكذا المدبر المطلق، وأم الولد، والمكاتب، ومعتق البعض، إلا ولد المكاتب المشترى في كتابته،

_ 1 ابن عابدين 7/245. 2 ابن الهمام 6/405. 3 ابن نجيم 5/434. 4 الكاساني 5/140. 5 عبد الرحمن الكليبولي 3/77.

وعللوا ذلك الحكم الشامل عندهم بأن الآدمي مكرم شرعاً، وإن كان كافراً، فإيراد العقد عليه وابتذاله به وإلحاقه بالجمادات إذلال له، وهذا غير جائز، وقالوا بأن بعض الإنسان في حكم كله، وقد صرحت معظم كتبهم ببطلان ذلك البيع. مذهب المالكية: يرون أن لحم الآدمي يحرم أكله، ولو كان الشخص في حالة الضرورة، وذلك لأن ميتته كالسم فلا يزيل الضرورة، وبالتالي يحرم بيعه، فنص مذهب المالكية أنه لا يجوز بيع الحر. فقد جاء في مواهب الجليل: " ... ولا يجوز بيع الحر والخنْزير والقرد والخمر والدم والميتة والنجاسة، وما لا منفعة فيه كخشاش الأرض والحيات، والكلاب غير المأذون في اتخاذها، وتراب الصواغين، وآلة الملاهي ... فلا ينبغي أن يباع، ويجب على الإمام أن ينهى عن ذلك، وهذا إذا لم يكن له وجه إلا الأكل وهو مضر بكل حال، فهو كالسم الذي أجمع العلماء على تحريم بيعه، وقال سحنون في كتاب الشرح: لا يحل بيعه ... "1. فمذهب المالكية: عدم جواز بيع الحر، وبالتالي جميع أجزائه، حيث عدوا هذا ضمن البيوع غير الجائزة عندهم. مذهب الشافعية: عدم جواز بيع الحر وبطلان ذلك، وهذا إجماع الفقهاء. فقد جاء في المجموع: "وأما ما فيه منفعة فلا يجوز بيع الحر ... وبيع الحر باطل بالإجماع"2. وجاء في الحاوي الكبير: "الآدمي ضربان: حر ومملوك، فالحر لا يجوز بيعه"3. فمذهب الشافعية: عدم جواز بيع الحر، وذكرت كتبهم أن بيع الحر باطل بالإجماع.

_ 1 الحطاب 4/265 – 266. 2 النووي 9/289. 3 الماوردي 5/381.

مذهب الحنابلة: القول بعدم جواز بيع الحر. فقد جاء في المغنى والشرح الكبير: " ... ولا يجوز بيع الحر، وما ليس بمملوك كالمباحات قبل حيازتها ومِلْكها، ولا نعلم في ذلك خلافاً ... "1. وجاء في كشاف القناع: " ... ولا يصح بيع الحر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة - ذكر منهم: رجل باع حراً وأكل ثمنه" 2 ... ولو باع أمة حاملاً بحرّ قبل وضعه صح البيع فيها، لأنها معلومة، وجهالة الحمل لا تضر ... "3. وجاء في الكافي في فقه الإمام أحمد: "ولا يجوز بيع الحر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة - ذكر منهم: رجل باع حراً فأكل ثمنه" رواه البخاري"4. فمذهب الحنابلة: على أنه لا يصح بيع الحر، للنهي عن ذلك شرعاً، وقد ذكروا على أنه لا يوجد في هذا خلاف في المذهب. الموازنة: بمراجعة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الحر وإيراد العقد عليه، يتضح أن الاتفاق حاصل بينهم على أنه لا يجوز أن يباع الحر، أو يشترى، وأن العقد عليه باطل. فالحنفية: عبروا عن هذا بالبطلان، باعتبار أن الإنسان الحر ليس بمال، ومن شرط المعقود عليه عندهم كونه مالاً، فركن البيع على هذا منعدم، فلا ينعقد البيع أصلاً. المالكية: يعبرون عن منع بيع الحر بعدم الجواز، وذكروه ضمن البيوع غير الجائزة عندهم. الشافعية: يعبرون عن هذا بعدم الجواز، وبعض كتبهم صرحت بأن بيع الحر باطل بالإجماع. الحنابلة: بعض كتبهم عبرت عن هذا بعدم الجواز، في حين أن البعض الآخر عبر عن هذا بعدم الصحة. وعلى ذكر هذا الخلاف في اللفظ والعبارة فقط يتقرر أن الإجماع حاصل بين الفقهاء على منع بيع الإنسان الحر، وأن هذا الحكم شامل للحي والميت على السواء،

_ 1 ابن قدامه 4/302. 2 سبق تخريجه صفحة 456. 3 البهوتي 4/1387. 4 ابن قدامه 2/7.

وقد استند الفقهاء على ما يأتي: 1 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} 1. فإن البيع والتملك يتنافى مع هذا التكريم. 2 – ما جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يخاصم من يخضع الإنسان لما يخضع له الحيوان، من بيعه والتصرف فيه، بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى "اثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره". فهذا الحديث يدل على أن بيع الآدمي الحر حرام حرمة شديدة، لأن الناس أكفاء في الحرية، فمن باع حراً فقد منعه من التصرف فيما أباح الله له، وألزمه الذل الذي أنقذه الله منه، حتى قال ابن الجوزي: "الحر عبد الله، فمن جنى عليه فخصمه سيده"2. وهكذا وجدنا أن الاتفاق قائم بين الفقهاء على حرمة جسد الإنسان الحي وحمايته، وكذا الميت على السواء، وإذا لم يصح بيع الإنسان الحر ولا التصرف فيه فمن باب أولى لا يصح هبته، ولا التبرع به، وذلك لأن المشرع الحكيم أبطل التصرف فيه بمقابل، وهو الثمن، فمن باب أولى يبطله إذا لم يكن هناك مقابل، ولأن المشرع الحكيم لم يجعله ملكا لأحد سواه، فلم يحق لأي كائن أن يتصرف فيه، لأن التصرف معاوضة أو تبرعاً إنما يكون فيما يملكه الإنسان، والإنسان غير مملوك للإنسان، وإنما هو مملوك لخالقه جل شأنه، وهذه الأحكام لا تسري في مواجهة الرقيق، لأن أهلية الرقيق ومع أنها موجودة وعصمة دمه قائمة وصيانة أعضائه مقررة إلا أن إباحة الرق أثر على أهليته للتملك، وعلى جعله سلعة يباع ويشترى، كلاً أو جزءاً، قائماً أو مقطعاً، والآن والحمد لله قد تحقق هدف الشرع وهو منع الرق بكل أنواعه من جميع العالم، ومن ثم لا يثور أي تساؤل بشأنه، ولا يصح جعله ركيزة لموضوع البحث هنا لهذا السبب.

_ 1 سورة الإسراء: الآية 70. 2 فتح الباري شرح صحيح البخاري 4/488.

المبحث الثاني: حكم نقل وبيع بعض أجزاء الإنسان الحر

المبحث الثاني: حكم نقل وبيع بعض أجزاء الإنسان الحر حرمت الشريعة الإسلامية بيع الآدمي الحر مطلقاً، لأن الإنسان الحر ليس بمال، وهو محترم مكرم، وليس من الكرامة والاحترام ابتذاله بالبيع والشراء. وقد يتفرع على هذه المسألة ما يلي: حكم نقل أعضاء الإنسان حكم بيع بعض أجزاء الإنسان المطلب الأول حكم نقل أعضاء الإنسان أن موضوع نقل الأعضاء الآدمية -سواء من الحي أم من الميت - من المسائل المستحدثة والمستجدة، حيث فرضها تقدم الطب، تمشياً مع تقدم المعارف والتطور التكنولوجي والتقني في جميع نواحي الحياة، فهو لم يحدث في زمن أئمة المذاهب الفقهية، ولهذا لم يتعرضوا لبحثه، وإن كانت بعض نصوص كتبهم تفيد في استخراج حكم هذه المسألة تخريجاً وتعضيداً لما قاله الفقهاء المحدثون في هذا الموضوع الشائك، وسأعرض بعض الأقوال هنا أثراً للبحث وتحقيقاً للقول في مسألة نقل الأعضاء الآدمية، وذلك من خلال ما ينحصر في الآتي: المذهب الأول: يرى أنه لا يجوز نقل الأعضاء الآدمية مطلقاً، سواء من الحي أو من الميت، وقالوا بتحريم الانتفاع بأعضاء الآدمي، ولو كان كافراً، أو في حالة الضرورة، ومن باب أولى ما كان دون ذلك، فضلاً عن عدم إباحة أي تصرف من الإنسان في أعضائه، حتى ولو كان ذلك على سبيل التبرع لغيره. وممن قال بهذا بعض العلماء المعاصرين منهم: فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي1، فقد أوضح في

_ 1 هو: الشيخ محمد متولي الشعراوي المفسر المشهور رحمه الله كتب عن حكم هذه المسألة وموقفه منها مقالاً بعنوان "الإنسان لا يملك جسده فكيف يتبرع بأجزائه أو يبيعها"، نشر في جريده اللواء الإسلامي العدد 226 يوم الخميس 27 جمادى الآخر سنة 1407?.

تصريح خاص أدلى به لجريدة الشرق الأوسط - وهو على فراش المرض: أن التبرع بالأعضاء لا يعتبر تداوياً، والتنازل عن أعضاء الإنسان حرام ... حرام ... حرام، لأن الإنسان لا يملك ذاته ولا أبعاضه، وكرر قوله مشدداً على أن التبرع لا يعتبر تداوياً، ويجب أن نكرم الإنسان الذي كرمه الله تعالى1. والشيخ محمد برهان الدين السنبهلي2، حيث قال: "إن استعمال أعضاء الإنسان سواء كان حياً أو ميتاً بحيث يُفصل عضو من البدن ويزرع في جسد إنسان آخر غير جائز، ولو أذن له صاحب العضو، لأن صاحبه لا يملكه، والمالك هو الله ... والله أعلم"3. وفضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوي، مفتى مصر سابقاً، عن موضوع نقل الأعضاء "اتفق المحققون من الفقهاء على أنه لا يجوز المتاجرة في جسد الإنسان، لا عن طريق البيع، أو الشراء، لأن هذا الجسد ليس محلاً لذلك، ولأن الإنسان أمين على جسده، ومأمور أن يتصرف في هذه الأمانة بما يصلحها لا يفسدها ... "4. هذا ويدعم ما ذهب إليه هؤلاء العلماء ما يستفاد مما ذهب إليه عامة أهل العلم من الفقهاء القدامى من عدم جواز قطع أي عضو من أعضاء الآدمي، حتى ولو كان كافراً، وذلك لعدم إهانته وابتذاله، ترتيباً على منع المساس بالآدمي ذاته، وهذه بعض النصوص الفقهية التي يمكن تخريج هذا المذهب عليها، استنتاجاً واستخلاصاً لما ذهب إليه العلماء المعاصرون في هذا الشأن.

_ 1 جريدة الشرق الأوسط العدد 3725 الأربعاء 08-02 – 1989 م – ويدعم قول الشيخ الشعراوي بهذا المنع ما ورد في بدائع الصنائع: " ... وكذا قطع عضو من أعضائه ... ولو أذن له المكره عليه ... فقال للمكره: افعل لا يباح له لأن هذا مما لا يباح بالإباحة ... " الكاساني 7/177. ومثله ما ورد في بلغة السالك: " ... فلا يجوز استخدام ظفر الميت ولا جزء منه ولا شعره لأن هذه الأجزاء محرمة وفي أخذها انتهاك لحرمتها ... " الصاوي 1/432. 2 هو: الشيخ محمد برهان السنبهلي مؤلف معاصر له إسهامات في بحوث القضايا الفقهية المعاصرة. 3 قضايا فقهية معاصرة صفحة 67. 4 جريدة الشرق الأوسط العدد 3725 الأربعاء 8 – 2 – 1989 م.

فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... وأما النوع الذي لا يباح ولا يرخص بالإكراه أصلاً فهو قتل المسلم بغير حق، سواء كان الإكراه ناقصاً أو تاماً ... وكذا قطع عضو من أعضائه ... ولو أذن له المكره عليه ... فقال للمكره: افعل، لا يباح له، لأن هذا مما لا يباح بالإباحة ... "1 وجاء في بلغة السالك: " ... إن كسر عظم الميت انتهاك لحرمته ... فإن بقي شيء من عظامه فالحرمة باقية لجميعه، فلا يجوز استخدام ظفر الميت ولا جزء منه، ولا شعره لأن هذه الأجزاء محرمة، وفي أخذها انتهاك لحرمتها ... "2. وفي المجموع: "ولا يجوز للمضطر أن يقطع من معصوم غيره بلا خلاف، وليس للغير أن يقطع من أعضائه شيئاً ليدفعه إلى المضطر بلا خلاف، صرح به إمام الحرمين والأصحاب"3. وجاء في كشاف القناع: " ... فإن لم يجد المضطر إلاّ آدمياً محقون الدم لم يبح له قتله، ولا إتلاف عضو منه، مسلماً كان المحقون، أو كافراً ذمياً أو مستأمناً، لأن المعصوم الحي مثل المضطر فلا يجوز له إبقاء نفسه بإتلاف مثله ... وإن لم يجد المضطر شيئاً مباحاً ولا محرماً لم يبح له أكل بعض أعضائه، لأنه يتلفه لتحصيل ما هو موهوم ... ولا يجوز التداوي بشيء محرم، أو بشيء فيه محرم، كألبان الأتن ولحم شيء من المحرمات، ولا يشرب مسكر ... "4. المذهب الثاني: يرى جواز نقل الأعضاء الآدميه، وهو صادر عن مجمع الفقه الإسلامي، فقد قرر المجلس في دورته الثامنة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 28 ربيع الآخر إلى 7 جمادى الأولى عام 1405? الموافق 19 – 28 يناير 1985م القول بجواز النقل بشروط أربعة: عدم ضرر المنقول منه، وأن يكون متبرعاً ومختاراً، وأن يتعين النقل لعلاج المرض، وأن يغلب الظن أو يتحقق بنجاح الجراحة. وهذا نص القرار:

_ 1 الكاساني 7/177. 2 الصاوي 1/424، 432. 3 النووي 9/47. 4 البهوتي 9/3099 – 3100 – 3101 – 3102.

"إن أخذ عضو من جسم إنسان حي وزرعه في جسم إنسان آخر مضطر إليه، لإنقاذ حياته، أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية هو عمل جائز، لا يتنافى مع الكرامة الإنسانية بالنسبة للمأخوذ منه، كما أن فيه مصلحة كبيرة وإعانة خيرة للمزروع فيه، وهو عمل مشروع وحميد" إذا توفرت فيه الشروط التالية: 1 – أن لا يضر أخذ العضو من المتبرع به ضرراً يخل بحياته العادية، لأن القاعدة الشرعية: "أن الضرر لا يزال بضرر مثله ولا بأشد منه"، ولأن التبرع حينئذ يكون من قبيل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة وهو أمر غير جائز شرعاً. 2 – أن يكون إعطاء العضو طوعاً من المتبرع دون إكراه. 3 – أن يكون زرع العضو هو الوسيلة الطبية الوحيدة الممكنة لمعالجة المريض المضطر. 4 – أن يكون نجاح كل من عمليتي النّزع والزرع محققاً في العادة أو غالباً. وقد توقف الدكتور بكر عبد الله أبو زيد، ولم ير الدكتور صالح بن فوزان الفوزان جواز النقل من الميت. وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية حيث قرر مجلس الهيئة بالإجماع جواز نقل عضو أو جزء من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه إذا دعت الحاجة إليه وأمن الخطر في نزعه، وغلب على الظن نجاح زرعه، وقرر بالأكثرية جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك، وأمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه. كما قرر جواز التبرع إلى المسلم المضطر لذلك قرار رقم 99 وتاريخ 6/11/1402? حيث قرر المجلس بالإجماع جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه إذا دعت الحاجة إليه، وأمن الخطر في نزعه، وغلب على الظن نجاح زرعه كما قرر بالأكثرية ما يلي: 1 – جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم، إذا اضطر إلى ذلك، وأمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه.

2- جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك. ولجنة الفتوى في المملكة الأردنية الهاشمية، حيث تضمن القرار جواز النقل بشروط خمسة بالنسبة للنقل من الميت، منها: موافقة الميت أو والديه، أو وليه بعد وفاته، أو ولي الأمر المسلم إذا كان المتوفى مجهول الهوية، وأن توجد الحاجة أو الاضطرار، وألا يكون بمقابل مادي، وأن لجنة الفتوى تنبه إلى أن جواز النقل أو التشريح يجب أن يكون مقيداً بالشروط الآتية، وذلك لحفظ كرامة الميت، ولئلا يتخذ للعبث والإهانة: 1- أن تكون هناك موافقة خطية من المتبرع في حياته، ثم موافقة أحد أبويه أو وليه بعد وفاته، أو موافقة ولي الأمر المسلم إذا كان المتوفى مجهول الهوية. 2- أن يكون المتبرع له محتاجاً أو مضطراً إلى العضو المتبرع به، وأن تتوقف حياة المنقول له على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة أحد أجهزة الجسم عليه، وذلك بتقرير من لجنة طبية موثوقة في دينها وعلمها وخبرتها. 3- إن كان المنقول منه العضو أو الدم حيّاً فيشترط ألا يقع النقل على عضو أساسي للحياة، إذا كان هذا النقل قد يؤدي لوفاة المتبرع ولو كان ذلك بموافقته. 4- ألا يحدث النقل تشويها في جثة المتبرع. 5- لا يجوز أن يتم التبرع مقابل بدل مادي أو بقصد الربح. هذا وإن اللجنة تذكر بأنه لا بد من الاحتياط والحذر في ذلك، أي في نقل الأعضاء من حي إلى حي، أو من ميت إلى حي، أو نقل الدم من حي إلى آخر، حتى لا يتوسع فيه الناس بلا مبالاة، وليقتصر فيه على قدر الضرورة، إذ هي علة الحكم الذي يدور معها وجوداً وعدماً، وليتق الله الأطباء الذين يتولون ذلك، وليعلموا أن الناقد بصير، والمهيمن قدير، والله يتولى هداية الجميع"1.

_ 1 راجع: مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة الربعة العدد الرابع الجزء الأول 1408 ? - 1988م صفحة 413.

لجنة الفتوى بالأزهر، حيث أجابوا على سؤال عن نقل الدم وحاسة البصر فقالوا: فقد أجاز كثير من متأخري علماء الشافعية جبر المنكسر من عظم إنسان حي بعظم إنسان ميت إذا لم يمكن جبره بغيره، وقياساً على هذا ترى اللجنة جواز نقل جزء من عين الميت لإصلاح عين الحي إذا توقف على ذلك إصلاحها وقيامها بما خلقها الله له، هذا ما تفتي به اللجنة، والله الهادي إلى سواء السبيل1. وهو قول لطائفة من العلماء والباحثين كفضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق2، فقد قال: "إنه يجوز نقل عضو أو جزء عضو من إنسان حي متبرع لوضعه في جسم إنسان حي بشروط، وهي: أن ذلك للضرورة، وأن لا يترتب على اقتطاعه ضرر للمتبرع، وأن يكون ذلك مفيداً لمن ينقل إليه في غالب ظن الطبيب. والدكتور عبد الجليل شلبي فقد قال: "إن التبرع بالأعضاء لا شيء فيه إذا ضمن الطبيب عدم تعريض المتبرع لسوء. ثم قال: لكن بعد الوفاة لا يصح أخذ شيء من جسم المتوفى، لأنه صار في ذمة الله، كما أن تشويه الميت محرم، لأن المثلة بالموتى حرام، وأوضح أن تبرع الأحياء للأحياء مباح، مشيراً إلى أن حكم الإباحة هذا باب عريض طويل بعيد عن الحلال والحرام فما يباح لأنه قد لا يباح للآخر لأن الأمر يتوقف على الظروف والأحوال ... "3. وعلى هذا: فالمذهب الأول: انتهى إلى عدم جواز نقل عضو الإنسان مطلقاً، حياً كان أو ميتاً، مسلماً أو غير مسلم، بالبيع أو بالتبرع، في حالة الضرورة أم لا. أما المذهب الثاني: فقد رأى جواز نقل الأعضاء من الحي والميت، غير أنهم اشترطوا لجواز هذا النقل شروطاً مهمة تجب مراعاتها بكل دقة، فبالنسبة للنقل من الحي يشترط

_ 1 راجع: مجلة الأزهر المجلد 20 لسنة 1368 ? صفحة 742. 2 هو الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر سابقاً رحمه الله، الفتوى رقم 1323 بتاريخ 15/1/1400? الموافق 5/12/1979 م نقلاً عن: الموقف الفقهي والأخلاقي للدكتور محمد علي البار. 3 هو الدكتور عبد الجليل شلبي الأمين العام السابق لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر يرى أن هذا التبرع قد يصل إلى درجة الوجوب. راجع: جريدة الشرق الأوسط العدد 3725 الأربعاء 8/2/1989 م.

كون الحاجة داعية إلى ذلك النقل، بأن يتعين النقل علاجاً للمريض، وأمن الخطر من نزع العضو المنقول، وغلبة الظن في نجاح الزرع فيمن نقل إليه، إضافة إلى رضا وموافقة المنقول منه. أما بالنسبة للنقل من الميت فالجواز بشروط دقيقة مثل: 1 – أن لا توجد ميتة أخرى غير ميتة الآدمي، وإلا فلا يحل الانتفاع بميتة الآدمي. 2 - أن يكون المضطر معصوم الدم، وذلك لأنه لو كان مستحق القتل شرعاً كان دمه غير معصوم، ومن ثم فلا يجوز شرعاً العمل على مد أسباب حياته. 3 – أن يكون المنتفع مضطراً إلى هذا النقل بمعنى أنه إذا لم يتم النقل المحرم هلك كله أو بعضه. 4 – أن يكون هناك إذن بالانتفاع بأجزاء الميت، وهذا الإذن يمكن أن يكون صادراً من الميت قبل موته باعتبار ولايته على نفسه، ويمكن أن يكون صادراً من ورثته بعد موته، وهو مَن لهم الحق مِن ميراث تركته شرعاً، ولهم المطالبة بالقصاص في حالة الجناية عليه عمداً. وعلى هذا فجواز الانتفاع بأجزاء الآدمي الميت عند الضرورة كان بسبب إحياء النفس الآدمية، ومداً لأسباب البقاء لها، خاصة وأن النفس الميتة إن لم ينتفع بها تحللت وصارت تراباً، فإنقاذ نفس حية بشيء من نفس ميتة حفاظاً على النفس وإحياء لها هو هدف مشروع، ومصلحة مقدرة شرعاً، ومعتد بها، فضلاً عن أن رعاية مصلحة الحي في امتداد حياته أولى من رعاية مصلحة الميت في عدم المساس بجسمه، لأن جسمه تحول إلى تحلل وفناء1.

_ 1 انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً للدكتور حسن على الشاذلي من بحوث مجمع الفقه الإسلامي الدورة الرابعة العدد الرابع صفحة 263.

الأدلة: استدل القائلون بعدم جواز نقل الأعضاء الآدمية: 1- قوله تعالى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 1. حيث نهانا الله سبحانه أن نلقي بأنفسنا في مواطن التهلكة، وإقدام الشخص على التبرع بجزء من جسده هو سعى لإهلاك نفسه في سبيل إحياء غيره، وليس ذلك مطلوباً منه، ولفظ التهلكة عام على نحو ما ورد في الآية يشمل كل ما يؤدي إليها، وقطع العضو من نفسه الموجب لإزالة منفعته فرد من أفراد ما يؤدي إلى الهلاك، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وذلك على حد ما ذكره علماء الأصول2. 2- قوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} 3. حيث دلت هذه الآية الكريمة على تكريم الله سبحانه للآدمي، وهذا التكريم شامل لحال حياته وما بعد موته، وانتزاع العضو منه مخالف لذلك التكريم، سواء في حال الحياة أو بعد الموت4. 3- واستدلوا كذلك بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: "لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو5، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض فجزع، فأخذ مشاقص6 فقطع بها براجمه7، فشخبت8 يداه حتى

_ 1 سورة البقرة: الآية 195. 2 نقل وزراعة الأعضاء الآدمية من منظور إسلامي د. السكري صفحة 107. 3 سورة الإسراء: الآية 70. 4 الامتناع والاستقصاء للسقاف صفحة 28 – 29. 5 الصحابي الجليل طفيل بن عمرو بن طريف بن العاص الدوسي، لقبه ذو النور، استشهد رضي الله عنه باليمامة، وقيل باليرموك. راجع: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 1281، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 3/422-424 برقم 4273. 6 المشاقص: جمع مشقص وهو السهم الذي فيه نصل عريض. راجع: المصباح المنير للفيومي صفحة 319. 7 البراجم: رءوس السلاميات من ظهر الكف إذا قبض الشخص كفه نشزت وارتفعت. راجع: المصباح المنير للفيومي صفحة 42. 8 معنى تشخبت: يداه أي جرى دمها. راجع: المصباح المنير للفيومي صفحة 306.

مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، وهيئته حسنة، ورآه مغطياً يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: مالي أراك مغطياً يدك؟ قال: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم وليديه فاغفر" 1. فقد أفاد هذا الحديث أن من تصرف في عضو منه بتبرع أو غيره فإنه يبعث يوم القيامة ناقصاً منه ذلك العضو عقوبة له، لأنه قوله "لن نصلح منك ما أفسدت" لا يتعلق بقتل النفس وإنما يتعلق بجرح براجمه وتقطيعهما2. 4- بما روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم" 3. فقد أفاد الحديث أن الحي يحرم كسر عظمه، أو قطع أي جزء منه، وكذا الميت لأي سبب، إلا الحي لسبب أذن الشارع فيه4. وقد دعموا استدلالهم بقولهم: إن الإنسان ليس مالكاً لجسده، ولا مفوضاً في التصرف فيه، وبالتالي فليس له الحق في التصرف فيه بالتبرع أو أي نوع آخر من أنواع التصرفات كالبيع ونحوه، وعلى هذا: فلا يجوز استقطاع الأعضاء الآدمية قياساً على عدم جواز الأبضاع، حيث إنه قد تقرر أن الأصل في الأبضاع التحريم وكل منها من أعضاء الجسد5. واستدل القائلون بجواز نقل الأعضاء الآدمية بما يأتي: 1- قوله تعالى {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ

_ 1 الحديث رواه أحمد في مسنده 3/370 ومسلم في صحيحه 1/108 برقم 116. 2 الامتناع والاستقصاء للسقاف صفحة 20. 3 الحديث رواه أبو داود برقم 3207 وابن ماجه 1616 والطحاوي في المشكل 2/108، وابن حبان 776، وأحمد 6/58، 105، 168، 200، 264، وابن عدي في الكامل 3/1189، والدارقطني 3/188 والبيهقي 4/58، من طرق عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كسر المؤمن ميتا مثل كسره حيّا "وهو حديث صحيح. 4 الامتناع والاستقصاء للسقاف صفحة 21. 5 الأشباه والنظائر للسيوطي صفحة 133.

بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. 2- قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2. إلى قوله {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3- قوله تعالى {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ*وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 3. وقالوا إن هذه الآيات الكريمات قد دلت على استثناء حالة الضرورة من التحريم المنصوص عليه فيها، فالإنسان المريض إذا احتاج إلى نقل العضو، فإنه سيكون في حكم المضطر، لأن حياته مهددة بالموت، وإذا كانت حالته حالة اضطرار، فإنه يدخل في عموم الاستثناء الوارد في هذه الآيات، ويباح نقل ذلك العضو إليه4. هذا: فضلاً عن أن هناك نصوصاً قرآنية أخرى تدل على أن مقصود الشارع الكريم إنما هو التيسير على العباد لا التعسير عليهم، والمقرر أن القول بجواز نقل الأعضاء الآدمية فيه التيسير على العباد، وتحقيق الرحمة بهم، وكل ذلك موافق لمقصود الشرع، بخلاف القول بغير ذلك5، ومن هذه النصوص: قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} 6.

_ 1 سورة البقرة: الآية 173. 2 سورة البقرة: الآية 173. 3 سورة الأنعام: الآية 118 – 119. 4 أحكام الجراحة الطبية للدكتور محمد بن محمد المختار صفحة 371 – 372.5 شفاء التباريح والأدواء لليعقوبي 19/23 – 28 – 34. 6 سورة المائدة: الآية 32.

قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} 1. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2. قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3. قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} 4. 4- قالوا بأن الله تعالى امتدح من آثر أخاه على نفسه بطعام أو شراب أو مال هو أحق به5، فإذا كان ذلك في هذه الأمور اليسيرة، فكيف بمن آثر أخاه بعضو أو جزئه لكي ينقذه من الهلاك المحقق، لا شك أنه أولى وأحرى بالمدح والثناء، ومن ثم يعتبر فعله جائزاً أو مشروعاً6. 5- إن نقل الأعضاء الآدمية كان قبل ترقي الطب يعتبر ضرراً وخطيراً، والآن بعد تقدم الطب أصبح سهلاً مأمون العاقبة بالتجربة، فوجب تغيير الحكم بتغير الحال، فنقول: هو حرام حينما كان في العصور السابقة التي يغلب على الظن فيها الهلاك بعملية النقل، ويعتبر حلالاً في هذه العصور الحديثة التي أصبح فيها دواء وعلاجاً نافعاً7. 6- واستدلوا كذلك بأقوال الفقهاء المتقدمين رحمهم الله بجواز قتل الآدمي غير معصوم الدم، وأكل لحمه عند الاضطرار، ويظهر ذلك جلياً في النصوص الآتية: قال الإمام النووي – رحمه الله: " ... ويجوز له8 قتل الحربي، والمرتد، وأكلهما

_ 1 سورة المائدة: الآية 6. 2 سورة الحج: الآية 78. 3 سورة البقرة: الآية 185. 4 سورة النساء: الآية 28. 5 يشهد لذلك قوله تعالى في الثناء على الأنصار رضي الله عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} سورة الحشر: الآية 9. 6 فتوى لجنة الإفتاء التابعة للمجلس الأعلى بالجزائر. راجع: مجلة البحوث الإسلامية عدد 22 صفحة 47. 7 المختارات الجلية لابن سعدي صفحة 325. 8 أي للمضطر.

بلا خوف، وأما الزاني المحصن، والمحارب، وتارك الصلاة ففيهم وجهان: أصحهما، وبه قطع إمام الحرمين، والمصنف، والجمهور: يجوز. قال الإمام: لأنا إنما منعنا من قتل هؤلاء تفويضاً إلى السلطان لئلا يفتات عليه، وهذا العذر لا يوجب التحريم عند تحقق ضرورة المضطر، وأما إذا وجد المضطر من له عليه قصاص فله قتله قصاصاً وأكله، سواء حضره السلطان أم لا ... وأما نساء أهل الحرب وصبيانهم ففيهم وجهان: أحدهما: وبه قطع البغوي1 لا يجوز قتلهم للأكل، لأن قتلهم حرام، فأشبه الذمي، والثاني: وهو الأصح: يجوز ... وأما إذا لم يجد المضطر إلا آدمياً ميتاً معصوماً ففيه طريقان: أصحهما وأشهرهما يجوز ... "2. وقال الإمام العز بن عبد السلام3 رحمه الله: "لو وجد المضطر من يحل قتله كالحربي، والزاني المحصن، وقاطع الطريق الذي تحتم قتله، واللائط، والمصر على ترك الصلاة جاز له ذبحهم وأكلهم إذ لا حرمة لحياتهم، لأنها مستحقة الإزالة، فكانت المفسدة في زوالها أقل من المفسدة في فوات حياة المعصوم ... "4. ويترجح – هنا – جواز نقل الأعضاء من الحي والميت على نحو ما ذهب إليه أنصار المذهب الثاني غير أن هذا مشروط بشروط مهمة تجب مراعاتها والتأكد من توافرها، ومن أهمها: عدم الأضرار بالمنقول منه، والتأكد من هذا عن طريق طبيب مسلم ثقة بأن

_ 1 هو الحسين بن مسعود بن محمد ابن الفراء أبو محمد البغوي فقيه، محدث مفسر نسبته إلى بغا من قرى خراسان بين هراة ومرو، من تصانيفه "التهذيب في فقه الشافعية" توفي رحمه الله تعالى بمرو الروذ سنة 510 ?. راجع: الأعلام للزكلي 2/259. 2 راجع: المجموع 9/46. 3 هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد المهذب أبو محمد السلمي الدمشقي فقيه شافعي مغربي الأصل، ولد ونشأ بمدينة دمشق، فدرس الفقه والأصول والحديث، ورحل إلى بغداد وأخذ عن شيوخها، من تصانيفه "القواعد الكبرى" و"الغاية في اختصار النهاية" توفي بالقاهرة رحمه الله تعالى سنة 660 ?. راجع: الأعلام للزركلي 4/21. 4 قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/81.

يكون العضو له بديل آخر. رضا المنقول منه حياً أو ميتاً، عن طريق رضائه، أو ورثته، أو وليه، أو نحو ذلك. وجود حالة ضرورة ملحة يمكن دفعها بهذا النقل، وأن يتقرر هذا عن طريق طبيب مسلم عدل ثقة. عدم المقابل لهذا، بمعنى أن يكون هذا على سبيل التبرع لإنقاذ حياة المنقول إليه، طالما أن الضرر لم يرفع بضرر آخر1 والله تعالى أعلم.

_ 1 الأشباه والنظائر للسيوطي 1/178.

المطلب الثاني: حكم بيع بعض أجزاء الإنسان

المطلب الثاني: حكم بيع بعض أجزاء الإنسان أما عن بيع هذه الأعضاء أو الحصول على مقابل مادي فهذا غير جائز شرعاً، لانتفاء شرط صحة البيع وهو ملكية المبيع وماليته، فالأعضاء لا مالية لها بسبب عدم ملكيتها فضلاً عن أن هذه الجزئية مشمولة بذات أحكام بيع الإنسان التي تقرر فيما سبق الإجماع على منع هذا البيع، لأنه مخالف لمقصود الشارع من تكريم الآدمي وصونه عن الابتذال بالبيع ونحوه، خاصة وان الأعضاء الآدمية ليست ملكاً للإنسان، ولأن من شروط صحة البيع أن يكون المبيع ملكاً للبائع، وقد نهى الشارع عن بيع ما لا يملكه. والمقرر أن أجزاء الإنسان الظاهرة والباطنة هي مكوناته، وهي حقيقته، وهي المؤدية لغايته، والمؤلفة لوحدة هذا الجسم وتناسقه، وحمايته على المدى القريب والبعيد، وهي المناط بها استمرار حياته، وكل جزء من أجزاء الإنسان خلق ليؤدي وظيفته، ويقوم بمهام ضمن الإطار العام لجسم الإنسان، ولما كان المقرر هو حرمة بيع الإنسان أو التصرف فيه حرم - تبعاً لهذا - بيع أي جزء من أجزائه غير المتجددة، ظاهراً كان ذلك العضو أو باطناً، وهذه الأجزاء جميعاً هي مكونات الآدمي، فما تأخذه الحقيقة الكلية من حكم يأخذه كل جزء من أجزائها، لأنها نفس واحدة وروح واحدة، فإذا حرم التصرف في الآدمي حرم التصرف في كل جزء

من أجزائه. جاء في حاشية ابن عابدين: " ... والآدمي مكرم شرعاً وإن كان كافراً، فإيراد العقد عليه وابتذاله به وإلحاقه بالجمادات إذلال له وهو غير جائز ... "1. هذا ومن المناسب هنا أن أتعرض في عجالة لما تفرع على مسألة بيع ونقل أجزاء الإنسان من أمور وبصورة خاصة لإظهار حكم الشرع بشأن مدى التصرف فيها، وهذه الأمور هي بيع دم الإنسان، وبيع اللبن، وبيع شعر الآدمي، وذلك على نحو ما يأتي: أولاً: بيع دم الإنسان: ثار التساؤل بشأن مسألة نقل الدم لإسعاف المريض في الجراحة ونحوها أي أنه هل يجوز نقل الدم في حالات الضرورة؟، وإذا كان جائزاً فما هي شروط ذلك؟، وهل يجوز للإنسان إذا لم يجد من يتبرع له بالدم أن يدفع إليه المال؟ الأصل المقرر شرعاً هو منع بيع الدم لنجاسته، ولعموم النهي عنه الوارد مع الميتة والخمر ونحو ذلك، وبالنسبة لدم الإنسان فإن الحكم يسري عليه، ولا يجوز اعتبار دم الإنسان محلاً للبيع ونحوه مع جميع التصرفات الأخرى، باعتبار أنه جزء من الإنسان، وأنه محرم بتحريم أصله وهو ذات الإنسان، فضلاً عن أنه قد يؤثر في سريان الحرمة بسريانه في جسد المنقول إليه خاصة قبل مرور الحولين. والكلام فقط في حالة نقل الدم لضرورة إسعاف مريض، أو إنقاذ حالات الحوادث في الحروب ونحوها، وذلك عن طريق التبرع. والمقرر أنه لا مانع من هذا التبرع لإنقاذ الغير في حالة المرض الذي يستدعي إسعافه الفوري2، وهذا ما استقر عليه الرأي واعتبر مسلكاً للفتاوى في هذا العصر إعمالاً لقاعدة: الضرورات تبيح المحظورات 3، وهذا بطبيعة الحال له شروط

_ 1 ابن عابدين 7/245. 2 فتوى رئيس لجنة الفتوى بالأزهر بتاريخ 17/2/1989 م. 3 قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/98-102، الأشباه والنظائر للسيوطي 1 / 168.

خاصة، أي إن أساس ذلك في المقام الأول إنما هو مصلحة المريض، حيث إنه لو قفل هذا الباب تماماً ربما لا نجد من يتبرع بجزء من دمه لإنقاذ غيره، فالدم وإن كان محرماً شرعاً بنص القرآن الكريم والسنة المطهرة على نحو ما سبق بيانه غير أن الضرورة الملجئة إلى التداوي به تبيح نقله من شخص إلى آخر إذا توقف شفاء المريض عليه، عملاً بقواعد الشريعة الإسلامية التي تثبت على أساسها الأحكام مثل: الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها1، والحاجة تنزل منْزلة الضرورة 2، والمشقة تجلب التيسير 3، فلا حرج على المريض ولا على الطبيب ولا على المتبرع نظراً لحالة الضرورة الداعية إلى هذا النقل4. وقد تأكد هذا الحكم فضلاً عما سبق بما يأتي: 1-قوله تعالى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} 5. حيث دلت هذه الآية الكريمة على فضل التسبب في إحياء النفس المحرمة، ولا شك في أن الأطباء والأشخاص المتبرعين بدمائهم يعتبرون متسببين في إحياء النفس ذلك المريض التي تعتبر مهددة بالموت في حالة تركها بدون إسعافها بذلك الدم ونقله. 2-كما انه قد ورد النص باستثناء حالات الاضطرار حيث قال سبحانه {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 6. فقد نفت هذه الآية الإثم عمن اضطر إلى المحرم، والمريض مضطر إسعافه بالدم، ومن ثم لا حرج عليه في طلبه وقبوله، ولا حرج على الغير في تبرعه وبذله، وكذلك لا حرج على الأطباء في قيامهم

_ 1 راجع: مجلة الأحكام العدلية مادة 22، الأشباه والنظائر للسيوطي 1 / 170. 2 راجع: الأشباه والنظائر للسيوطي 1 / 190، الأشباه والنظائر لابن نجيم صفحة 91. 3 راجع: الأشباه والنظائر للسيوطي 1 / 157، الأشباه والنظائر لابن نجيم صفحة 74. 4 أحكام الجراحة الطبية للدكتور محمد بن محمد المختار صفحة 580. 5 سورة المائدة: الآية 32. 6 سورة البقرة الآية 173.

بذلك. 3- كما أن المريض نفسه لو احتاج إنقاذه إلى نقل الدم وامتنع عن ذلك -لأي سبب - كان متعاطياً للسبب الموجب لهلاكه، وقد حرم الله سبحانه ذلك الصنيع في قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 1 وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} 2. 4 - إن بعض الفقهاء رحمهم الله نصوا في كتبهم على جواز التداوي بالدم عند الحاجة إليه، والحاجة موجودة هنا، بل هي أعلى مراتب الحاجة الموجبة للترخيص شرعاً وهي الضرورة. فقد جاء في الفتاوى الهندية: " ... ولا بأس أن يسعط الرجل بلبن المرأة ويشربه للدواء"3. وإذا قيس الدم على اللبن فليس ذلك ببعيد عن القياس لاشتراكهما في كونهما جزئين من الإنسان، والفرق بينهما في أن اللبن طاهر والدم نجس، فإن سبب الحرمة الأول وهو كونه جزءاً من الإنسان لم يبق للضرورة تحريم، فبقي أمر كونه نجساً فقط، وقد رخص بعض الفقهاء باستعمال الدم دواء للضرورة، والمراد بحالة الضرورة خوف هلاك المريض، وذلك بشرط أن لا تتعرض حياة المتبرع بالدم أو صحته إلى الخطر، وأن لا يخشى بذلك إهدار كرامة الدم الإنساني وقيمته عن طريق تداوله بالبيع ونحوه. وفي الفتاوى أيضاً " ... ولا بأس بالتداوي بالعظم إذا كان عظم شاة أو بقرة أو بعير أو فرس أو غيره من الدواب إلا عظم الخنْزير والآدمي فإنه يكره التداوي بها ... "4. هذا فضلاً عن أن قواعد الشريعة الإسلامية والتي سبق إيرادها تقضي جواز

_ 1 سورة البقرة الآية 195. 2 سورة النساء الآية 29. 3 الشيخ نظام وجماعة 5/355. 4 المرجع السابق 5/354.

التبرع، ولهذا فإنه يجوز نقل الدم والتبرع به للغير، ويعتبر المتبرع قد فعل الحسن بسبب إنقاذه للمريض ودفع الهلاك عنه، وقد اشترط الفقهاء لهذا التبرع عدة شروط: 1- أن يكون المريض محتاجاً إلى نقل الدم، ويثبت ذلك بشهادة الطبيب العدل. 2 – أن يتعذر البديل الذي يمكن إسعافه به. 3- أن لا يتضرر الشخص المنقول منه الدم بأخذه منه. 4- أن يقتصر في نقل الدم على مقدار الحاجة، وذلك إعمالاًً للقاعدة الشرعية: "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها"1. وهذه نفس الشروط التي اعتبرها من قال بجواز نقل الأعضاء الآدمية من الحي ومن الميت على السواء. وأما إذا لم يجد الإنسان من يتبرع له بالدم إلا بمقابل فإنه يجوز له دفع ذلك المقابل ويكون الإثم على الآخذ، وذلك لأن بيع الدم محرم شرعاً لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: "أنه نهى عن ثمن الدم"2 غير أنه قد أجيز للمريض دفع المقابل لرفع الأضرار عنه، وقد أوضح هذا الحكم الإمام النووي رحمه الله تعالى عند بيانه لأخذ الأجرة على فعل المحرم حيث قال: "وكما يحرم أخذ الأجرة في هذا يحرم إعطاؤها، وإنما يباح الإعطاء دون الأخذ في موضع ضرورة"3. وجاء في فتوى رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف أنه "لا مانع من أن يُعطي المتبرع بالدم المقابل في صورة أغذية تعوضه عن الدم المأخوذ منه، وذلك بطبيعة الحال بعد أخذ الدم منه وليس قبله، فضلاً عن أنه لا يشترط قدراً معيناً وإلا صار بيعاً"4. وقد صدرت في هذا الشأن فتوى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي ونصت على أن "حكم أخذ العوض عن الدم، وبعبارة أخرى بيع الدم فقد رأى المجلس: أنه

_ 1 شرح القواعد الفقهية للزرقاء صفحة 133، الأشباه والنظائر للسيوطي 1 / 168. 2 الحديث رواه البخاري 2/780 وأحمد 4/308. 3 روضة الطالبين 5/194 – 195. 4 فتوى رئيس لجنة الفتوى بالأزهر بتاريخ 17/2/1989 م.

لا يجوز، لأنه من المحرمات المنصوص عليها في القرآن الكريم مع الميتة ولحم الخنْزير، فلا يجوز بيعه وأخذ عوض عنه، وقد صح في الحديث: "إن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه"1 كما صح أنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الدم" ويستثنى من ذلك حالات الضرورة إليه للأغراض الطبية ولا يوجد من يتبرع إلا بعوض، فإن الضرورات تبيح المحظورات بقدر ما ترفع الضرورة، وعندئذ يحل للمشتري دفع العوض ويكون الإثم على الآخذ، ولا مانع من إعطاء المال على سبيل الهبة أو المكافأة تشجيعاً على القيام بهذا العمل الإنساني الخيري، لأنه يكون من باب التبرعات لا من باب المعاوضات"2. فهذه الفتوى مع غيرها تقرر عدم جواز بيع الدم، لكرامة الإنسان ولنجاسته الدم وحرمة بيعه. أما عن نشر الحرمة بالدم: فقد اتفق الفقهاء المعاصرون على أن نقل الدم قبل الحولين لا ينشر الحرمة، ولا يقاس بذلك على الرضاع، وذلك بطبيعة الحال في حالة التبرع به لضرورة إنقاذ الغير، ومن آخر الفتاوى الصادرة في هذا الشأن فتوى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي المذكورة أعلاه، وإنما ورد فيها: "وبعد مناقشات من أعضاء المجلس انتهى بإجماع الآراء إلى أن نقل الدم لا يحصل به التحريم، وأن التحريم خاص بالرضاع". ثانياً: مسألة بيع اللبن: اللبن من الرزق الخالص في الحياة حيث قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} 3. واللبن طاهر، لأنه من الطيبات التي أحلها الله سبحانه وتعالى للإنسان بالغذاء منه، حيث قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ

_ 1 سبق تخريجه صفحة 54. 2 فتوى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة من 13 – 20 رجب 1409 ? الموافق 19 – 26/2/1989 م. 3 سور النحل: الآية 66.

قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 1. فالآيتان تدلان على طهارة لبن بنات آدم وما أكل لحمه من الحيوانات، فالألبان طاهرة من مأكول اللحم، وكذلك لبن بنات آدم، لأن تحريم ذات الآدمية كان لحرمتها وصونها عن الابتذال والمهانة، ولأن الرضاع جائز بعد انقطاع زمن الضرورة إليه، فلو لم يكن اللبن طاهراً لمنع الرضاع بعد انقضاء فترة الحولين. وعليه فإن لبن الآدميات جزء من الجسم غير أنه جزء سائل، وهو بدون شك أثر من آثار رحمة الله سبحانه حيث جعله غذاء يتغذى به الأطفال، وهو ضرورة لهم لإقامة حياتهم حين يتمرؤن الطعام واللبن مثل الدم باعتباره جزءاً سائلاً غير أنه يفترق عنه عدة فروق: أ – أن اللبن يفارق الدم من حيث اللون والطعم والرائحة، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان2. ب – أن تحريم الدم منصوص عليه في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة على نحو ما سبق بيانه، وهذا بخلاف اللبن، حتى عند من حرم بيعه كان التحريم راجعاً إلى كون اللبن تابعاً للجسم، وحيث كان الآدمي الحر يحرم بيعه إجماعاً على نحو ما سبق بيانه فكان جزؤه كذلك محرماً. جـ – أن الحكمة من وجود اللبن في الآدميات هي كون ذلك اللبن غذاء للأطفال لبقاء النوع الإنساني بخلاف الدم، حيث كان شربه وتناوله مضراً بالإنسان وذلك لعسر هضمه فضلاً عن أنه لا يغلي كما يغلي اللبن فتبقى جراثيم المرض فيه حية تؤثر في الجسم الذي يدخله. د- أن لبن الآدميات تتعلق به حرمة الزواج بين الرضاعين من الذكور والإناث

_ 1 سورة الأعراف: الآية 32. 2 تفسير المنار للسيد محمد رشيد رضا 6/112.

في مدة الرضاع بخلاف الدم، فإنه لا تتعلق به هذه الحرمة بين المتناولين له على فرض حدوث ذلك التناول1. ولهذا فقد أجمع أهل العلم على أن لبن الآدميات باعتباره جزءاً منفصلاً عن جسم الآدمي فإنه يمكن الانتفاع به في الشرع، وذلك لورود آيات بينات في هذا المعنى، ومن ذلك قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} 2، وقوله سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 3 هذا فضلاً عن أن العرف والعادة يقرران أن اللبن بطبيعته مخصص للخروج من جسم المرأة لينتفع به4. ورغم هذا فقد اختلف الفقهاء بشأن مدى إمكان تعلق العقود - خاصة البيع - بلبن الآدميات، وسبب هذا الاختلاف أنهم لم يتفقوا على تحديد طبيعة ذلك اللبن، مع اختلافهم كذلك في طبيعة جواز الشرع للانتفاع به، وهل هذا جواز مطلق أم أنه مقرر في حالة الضرورة فقط؟ 5. والفقهاء متفقون على جواز الانتفاع بلبن الآدميات عن طريق إجارة الظئر، وهي وسيلة عقدية تعني أن المرأة تستطيع أن تلزم نفسها بإرضاع طفل لا تلتزم شرعاً بإرضاعه وذلك في نظير حصولها على أجر. فقد جاء في الاختيار لتعليل المختار: " ... ويجوز استئجار الظئر بأجرة معلومة ويجوز بطعامها وكسوتها وليس للمستأجر أن يمنع زوجها من وطئها ... "6. وقد نص الشيخ الدردير في الشرح الصغير على جواز إجارة الظئر فقال: "وكجواز

_ 1 فتوى لجنة الأزهر والمنشورة بمجلة الأزهر المجلد الرابع صفحة 521 عام 1962. 2 سورة البقرة: الآية 233. 3 سورة الطلاق: الآية 6. 4 بدائع الصنائع 4/209. 5 مدى مشروعية التصرف في جسم الإنسان للدكتور/أسامه السيد عبد السميع صفحة 202. 6 عبد الغني الغنيمي 1/259.

إيجار مرضع لترضع طفلا وإن كان فيه استيفاء عين قصدا للضرورة، وسواء كانت آدمية أم لا كانت الأجرة طعاما أو غيره ... "1. وجاء في بلغة السالك: "تنبيه" قال في المدونة: ومن واجر ظئرين فماتت واحدة فللباقية أن ترضع وحدها، ومن واجر واحدة ثم واجر أخرى فماتت الثانية فالرضاع للأولى لازم كما كانت، وإن ماتت الأولى فعليه أن يأتي بمن ترضع مع الثانية أ.?2. وفي مغني المحتاج: " ... وتصح الإجارة ولو من زوج ... لحضانة أي حضانة امرأة لولد وإرضاع له معا ... ولأحدهما فقط ... "3. وجاء في المغنى لابن قدامه: " ... وأجمع أهل العلم على جواز استئجار الظئر وهي المرضعة، وهو في كتاب الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 4 واسترضع النبي صلى الله عليه وسلم لولده إبراهيم، ولأن الحاجة تدعو إليه فوق دعائها إلى غيره فإن الطفل في العادة إنما يعيش بالرضاعة وقد يتعذر إرضاعه من أمه فجاز ذلك كالإجارة في سائر المنافع ... "5. أما عن بيع اللبن المنفصل من الآدميات فقد اختلف الفقهاء بشأنه: مذهب الحنفية: منع بيع لبن الآدميات، وهذا ما قال به الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وقال بعدم ضمان متلفه وذلك لأنه لا يباح الانتفاع به شرعاً إلا ما كان لضرورة تغذية الطفل، وما كان حراماً من حيث الانتفاع به شرعاً إلا لضرورة فإنه لا يعد مالاً وذلك كالخمر، ومما يؤكد هذا عدم تداوله وبيعه في الأسواق حيث إن هذا فيه الدلالة على عدم ماليته، ولهذا فلا يجوز بيعه، هذا فضلاً عن أنه جزء من الآدمي، والآدمي بجميع أجزائه محترم مكرم، من أجل هذا لم يجز بيعه ولا ابتذاله، فلا مجال لامكان العقد على لبن الآدمية الحرة.

_ 1 3/139. 2 أحمد الصاوي 3/140. 3 الشربيني 2/466. 4 سورة الطلاق: الآية 6. 5 5/496.

وهذا ما عليه ظاهر الرواية عند الحنفية أيضاً بالنسبة للبن الأمة، خلافاً لما ذهب إليه أبو يوسف من القول بجواز بيع لبن الأمة باعتباره أحد أجزائها، وحيث كان الأصل يجوز بيعه كان الجزء كذلك. فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... ولا ينعقد بيع لبن المرأة في قدح عندنا ... لأن اللبن ليس بمال فلا يجوز بيعه ... ثم لا فرق بين لبن الحرة وبين لبن الأمة في ظاهر الرواية، وعند أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز بيع لبن الأمة لأنه جزء من آدمي هو مال فكان محلاً للبيع كسائر أجزائه ... "1. فالمستفاد من النص: عدم انعقاد بيع لبن المرأة منفصلاً، وعبر عن هذا بكونه في قدح، معللاً هذا بأن اللبن ليس بمال فلا يجوز بيعه، وأن هذا الحكم يشمل لبن الحرة والأمة على السواء، وذلك في ظاهر رواية الحنفية، خلافاً لما قال به أبو يوسف من جواز بيع لبن الأمة باعتبار مالية أصله فكان اللبن محلاً للبيع كسائر أجزائه. وجاء في حاشية ابن عابدين: "ولا يجوز بيع لبن امرأة ولو في وعاء، ولو أمة على الأظهر، لأنه جزء آدمي، والرق مختص بالحي ولا حياة في اللبن فلا يحله الرق، قوله "على الأظهر" أي ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف جواز بيع لبن الأمة لجواز إيراد البيع لنفسها فكذا على جزئها، قلنا: الرق حلّ نفسها فأما اللبن فلا رق فيه لأنه يختص بمحل تتحقق فيه القوة التي هي ضده وهو الحي ولا حياة في اللبن، فلا يكون محلاً للعتق ولا للرق فكذا البيع، وأشار إلى أنه لا يضمن متلفه لكونه ليس بمال ... "2. وجاء في الهداية: "ولا يجوز بيع لبن امرأة في قدح، وقال الشافعي رحمه الله يجوز بيعه لأنه مشروب طاهر، ولنا أنه جزء الآدمي وهو بجميع أجزائه مكرم مصون عن الابتذال بالبيع، ولا فرق في ظاهر الرواية بين الحرة والأمة وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز بيع لبن الأمة لأنه يجوز إيراد العقد على نفسها فكذا على جزئها، قلنا: الرق قد حل نفسها فأما اللبن فلا رق

_ 1 الكاساني 5/145. 2 ابن عابدين 7/265.

فيه، لأنه يختص بمحل يتحقق فيه القوة التي هي ضده وهو الحي ولا حياة في اللبن"1. وجاء في مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر: "ولا يجوز بيع لبن امرأة سواء كانت حرة أو أمة، ولو للوصل بعد الحلب لأنه جزء الآدمي، وهو بجميع أجزائه مكرم مصون عن الابتذال بالبيع، وأما بيع نفس الأمة فحلال لاختصاصه للحي ولا حياة في لبنها، وقال الشافعي: يكون اللبن محلاً للبيع لكونه مشروباً طاهراً، وعند أبي يوسف يصح في لبن الأمة اعتباراً لبيعها، وفي الهداية وغيرها ولا فرق في ظاهر الرواية بين لبن الحرة والأمة، وعن أبي يوسف أنه يجوز بيع لبن الأمة ... "2. فمذهب الحنفية: أنه لا يجوز بيع لبن الآدميات لعدم ماليته، ولأن في بيعه إهانة للآدمي، لأنه جزء من ذلك الآدمي المحترم بكافة أجزائه، وهذا ما عليه أبو حنيفة فيما يشمل لبن الأمة بمعنى أنه لا فرق بين لبن الحرة ولبن الأمة خلافاً لما ذهب إليه أبو يوسف من جواز بيع لبن الأمة لأنه جزء من أدمي يجوز بيعه وحيث جاز بيع الكل فلا مانع من بيع أحد أجزائه. مذهب المالكية: جواز بيع لبن الآدميات باعتباره جزءاً منفصلاً من جسم آدمي يمكن الانتفاع به في الشرع فضلاً عن طهارته، بخلاف ما لو كان لبن ميتة فإنه لا يجوز بيعه لنجاسته بنجاسة الميتة. فقد جاء في مواهب الجليل: "ولبن الآدمي إلا الميت" أي والطاهر لبن الآدمي ذكراً كان أو أنثى، مسلم أو كافر، وقوله "إلا" الآدمي الميتة فلبنه نجس بناء على أنه نجس ... ويجوز بيع لبن الآدميات لأنه طاهر منتفع به ... "3. فقد بنى المالكية قولهم بجواز بيع لبن الآدميات على أنه طاهر طالما كان من حي، فإن كان من ميتة فإنه يمتنع بيعه لنجاسته بنجاسة أصله وهو الميتة. وجاء في حاشية الدسوقي: "ولبن الآدمي إلا الميت" أي والطاهر لبن الآدمي

_ 1 المرغيناني 6/423 – 424. 2 عبد الرحمن الكيبولي 3/85. 3 الحطاب 1/93، 4/265.

ذكر كان أو أنثى، مسلم أو كافر، وقوله "إلا" الآدمي "الميت" فلبنه نجس لأن ميتته نجسة ... "1. فمذهب المالكية: أن لبن الآدمي الحي أي المنفصل عنه حال حياته طاهر، وأنه يستوي في هذا لبن الذكر والأنثى والمسلم والكافر خلافاً للآدمي الميت فإن لبنه نجس، وبالنسبة لمسألة بيع لبن الآدميات فقد قال المالكية إنه لا مانع من بيع هذا اللبن طالما كان من امرأة حية، لطهارته ولضرورة تغذية الطفل. أما بالنسبة للبن الآدميين الذكور فلم يرد نص بشأن بيعه، وأنه رغم طهارته إلا أنه لا يجوز بيعه ولا التعامل فيه نظراً لعدم تحقق حالة الضرورة التي تقرر من أجلها جواز بيع لبن الآدمية وهي تغذية الطفل. وبالنسبة للبن الميتة فقد استثناه المالكية من أصل الحكم عندهم وهو الجواز، وذلك لنجاسة ذلك اللبن بنجاسة أصله وهو الميتة. مذهب الشافعية: جواز بيع لبن الآدميات، وأنه لا مانع من إيراد عقد البيع عليه طالما انفصل عن المرأة حال حياتها، وهذا هو المذهب وما قطع به الأصحاب، خلافاً لما حكاه الماوردي والروياني والشاشي2 عن أبي القاسم الأنماطي3 الشافعي أنه قال بعدم جواز بيعه بناء على قوله بنجاسته وإنما يربى به الصغير للحاجة إليه، ومن قال بنجاسة لبن الميتة ولبن الذكر قد فرّع هذا على نجاسة ميتة الآدمي على نحو ما قال ابن

_ 1 الدسوقي 1/50. 2 شيخ الشافعية أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي التركي، مولده بميَّا فارقين سنة 429?، من مصنفاته الحلية، توفي رحمه الله في شوال سنة 507?. راجع: طبقات الشافعية للأسنوي 2/9، سير أعلام النبلاء للذهبي 19/393-394. 3 هو شيخ الشافعية أبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار البغدادي الأنماطي الأحول، تفقه على المزني والربيع المرادي، توفي رحمه الله في شوال سنة 288? ببغداد. تاريخ بغداد للبغدادي 11/292-293، سير أعلام النبلاء للذهبي 13/429-430.

الصباغ1 والقاضي أبو الطيب وذلك على نحو ما أفاد الروياني من الشافعية، وعلى أية حال فقد ذكرت كتب الفقه الشافعي أن الصواب جواز بيعه أي لبن الآدميات على نحو ما قال به الأصحاب. فقد جاء في المجموع: "فرع" بيع لبن الآدميات جائز عندنا لا كراهة فيه، هذا هو المذهب وقطع به الأصحاب إلا الماوردى والشاشي والروياني فحكوا وجهاً شاذاً عن أبي القاسم الأنماطي من أصحابنا أنه نجس لا يجوز بيعه ... فالصواب جواز بيعه، قال الشيخ أبو حامد هكذا قاله الأصحاب، قال: ولا نص للشافعي في المسألة هذا مذهبنا ... "2. وجاء في مغنى المحتاج: " ... وكذا لبن الآدمي، إذ لا يليق بكرامته أن يكون منشؤة نجساً ... ولبن الذكر والصغيرة وهو المعتمد الموافق لتعبير الصيمري3 بقوله: ألبان الآدميين والآدميات لم يختلف المذهب في طهارتها وجواز بيعها، وقال الزركشي: إنه الصواب، وقول القاضي أبي الطيب وابن الصباغ: لبن الميتة والذكر نجس مفرع على نجاسة ميتة الآدمي كما أفاده الروياني ... "4. فمذهب الشافعية: جواز بيع لبن الآدميات طالما انفصل عن المرأة وهي حية، وذلك لطهارته، ولضرورة تغذية الطفل به، وأن أبا القاسم الأنماطي الشافعي قد خالف في هذا وقال بعدم الجواز بناء على قوله بنجاسته ولو أنه يقول بجواز تربيه الصغير به للحاجة.

_ 1 هو عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد أبو نصر بن الصباغ، فقيه شافعي من أهل بغداد، تولى التدريس بالمدرسة النظامية أول ما فتحت، وعمى في آخر عمره، من تصانيفه "الشامل في الفقه" و"العدة في أصول الفقه" توفى رحمه الله تعالى سنة 477 ?. راجع: الأعلام للزركلي 4/10، طبقات الشافعية للأسنوي 2/39. 2 النووي 9/304 – 305. 3 هو القاضي أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين بن محمد الصيمري منسوب إلى صيمر وهو نهر من أنهار البصرة، عليه عدة قرى، سكن البصرة وحضر مجلس القاضي أبي حامد كان حافظاً للمذهب، من تصانيفه "الإيضاح" و"الكافية" توفي رحمه الله تعالى سنة 386 ?. راجع: طبقات الشافعية للأسنوي 2/37. 4 الشربيني 1/144.

وذكر صاحب المجموع أن هذا الوجه غلط من قائله فقد سبق بيانه في باب إزالة النجاسة. هذا ومنصوص كتب الفقه الشافعي أن الصحيح في المذهب هو القول بجواز بيع لبن الآدميات وهذا ما عليه أصحاب الشافعي رحمه الله، وبالنسبة للبن الذكر والصغيرة، فقد اعتبر صاحب مغني المحتاج سريان ذات حكم لبن الآدميان على هذا، معللاً قوله بأنه لا يليق بكرامة الآدمي أن يكون نجساً، وقال إن هذا هو المعتمد الموافق لتعبير الصيمري حيث قال: ألبان الآدميين والآدميات لم يختلف المذهب في طهارتها وجواز بيعها، وقال الزركشي: إنه الصواب، وعلق صاحب مغني المحتاج على قول القاضي أبي الطيب وابن الصباغ بأن لبن الميتة والذكر نجس بقوله إن هذا مفرع على نجاسة ميتة الآدمي كما أفاده الروياني. مذهب الحنابلة: اختلف فقهاء الحنابلة بشأن بيع لبن الآدميات. فالمذهب عندهم القول بجوازه بناء على أنه جزء منفصل من جسم آدمي وأنه يمكن الانتفاع به شرعاً فضلاً عن طهارته، وقياسه على لبن الشاة، كما أنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر وهذا هو ظاهر كلام الخرقي. والوجه الثاني المقابل لهذا: أن بيع لبن الآدميات لا يصح مطلقاً، وهناك جماعة من الحنابلة يذهبون إلى تحريم ذلك البيع، وقيل: إنه يصح من الأمة دون الحرة، وقيل: يكره مطلقاً. وهكذا كانت أقوال الحنابلة في هذا الشأن خمسة أقوال، وذكرت كتبهم أن أصح هذه الأقوال وما عليه المذهب عندهم هو القول بجواز بيع لبن الآدميات مطلقاً حرة أو أمة كانت صاحبة اللبن. وأما بالنسبة للبن الرجل فقد نصوا على عدم صحة بيعه وعدم ضمان متلفه. فقد جاء في كشاف القناع: " ... يصح بيع لبن آدمية ولو كانت حرة أي المنفصل منها لأنه طاهر منتفع به كلبن الشاة، ولأنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر فيضمنه متلفه، ويكره للمرأة بيع لبنها نص عليه، ولا يصح بيع لبن الرجل، فلا يضمن بإتلافه

.."1. فالمستفاد من هذا النص: أن المذهب صحة بيع لبن المرأة، وهناك رأي يقول بكراهة بيع المرأة للبنها، وبالنسبة لبيع لبن الرجل فالاتفاق عندهم أنه لا يصح بيعه. وجاء في الإنصاف: "وأما بيع لبن الآدميات: فأطلق المصنف فيه وجهين: ... أحدهما: يصح مطلقاً. وهو المذهب، وهو ظاهر كلام الخرقي وصححه المصنف ... والوجه الثاني: لا يصح مطلقاً، قال المصنف والشارح: ذهب جماعة من أصحابنا إلى تحريم بيعه ... فعليه: لو أتلفه متلف ضمنه على الصحيح من المذهب، ويحتمل ألا يضمنه كالدمع والعرق قاله القاضي ... وقيل: يصح من الأمة دون الحرة ... وأطلق الإمام أحمد رحمه الله الكراهة. فائدة: لا يجوز بيع لبن الرجل. ذكره القاضي محل وفاق ... "2. فالمستفاد من هذا النص: أن المرداوي ذكر رأيين للمذهب في بيع لبن الآدميات: الأول: أنه يصح مطلقاً، وهو المذهب وظاهر كلام الخرقي وصححه المصنف. والثاني: لا يصح مطلقاً، وذكر المصنف أنه لجماعة من الأصحاب، وهناك قول بأنه يصح بيع لبن الأمة دون الحرة، وأطلق الإمام أحمد كراهة بيع لبن الآدمية، أما بيع لبن الرجل فلا يجوز وهو محل اتفاق في المذهب ذكره القاضي. وجاء في المغنى والشرح الكبير: "فصل" "فأما بيع لبن الآدميات فقال أحمد أكرهه، واختلف أصحابنا في جوازه فظاهر كلام الخرقي جوازه لقوله: وكل ما فيه المنفعة جاز بيعه، وهذا قول ابن حامد3 ... وذهب جماعة من أصحابنا إلى تحريم بيعه ... والأول

_ 1 البهوتي 4/1384. 2 المرداوي 4/265 – 266. 3 هو الحسن بن حامد بن علي بن مروان أبو عبد الله الوراق البغدادي إمام الحنبلية في زمانهم ومدرسهم ومفتيهم كان يبتدئ مجلسه بإقراء القرآن ثم بالتدريس ثم ينسخ بيده ويقتات من أجرته فسمي ابن حامد الوراق، من تصانيفه الجامع في فقه ابن حنبل وشرح أصول الدين وأصول الفقه توفي رحمه الله تعال راجعا من مكة بقرب واقصة سنة 402?. راجع: الأعلام للزركلي 2/201.

أصح ... "1. فالمستفاد من هذا النص: أن الحنابلة مختلفون بشأن بيع لبن الآدميات، فالإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله يقول بكراهته، والخرقي من الحنابلة يرى جواز ذلك البيع، في حين أن جماعة من الحنابلة يرون تحريم بيع ذلك اللبن، وصحيح النص القول بالجواز. فخلاصة مذهب الحنابلة أربعة أقوال: الأول: يجوز بيع لبن الآدميات مطلقاً، وهذا ظاهر كلام الخرقي، وهو المذهب لدى الحنابلة. الثاني: عدم جواز بيع لبن الآدميات مطلقاً، وهذا ما ذكره جماعة من الأصحاب. الثالث: كراهة بيع لبن الآدميات، وهو للإمام أحمد رحمه الله. الرابع: صحة بيع لبن الأمة دون الحرة، وهو لبعض الحنابلة. الموازنة: بمراجعة ما ذكره الفقهاء بشأن حكم بيع لبن الآدميات يتضح ما يأتي: أن الحنفية متفقون على عدم جواز بيع لبن الآدمية الحرة بناء على عدم ماليته ومنعاً من إهانته لأنه جزء من آدمي محترم. أما بالنسبة للبن الأمة فما عليه الإمام أبو حنيفة وعامة الأصحاب هو منع بيعه هو الآخر على معنى أنه لا فرق بين لبن الأمة والحرة في هذا الشأن، ولم يخالف منهم في هذا سوى أبي يوسف حيث قال بجواز بيع لبن الأمة باعتبار أنه جزء من آدمي يجوز بيعه فجاز بيع أحد أجزائه. أن المالكية: يرون أنه لا مانع من بيع لبن الآدميات طالما كان من امرأة حية، وذلك بناء على طهارته ولضرورة تغذية الطفل، وعلى هذا فإنه يمتنع بيع لبن الآدمية الميتة لأن ذلك اللبن نجس بناء على نجاسة ميتته. أن الشافعية: يرون جواز بيع لبن الآدميات طالما انفصل عن المرأة وهي حية، وذلك بناء على القول بطهارته، ولضرورة تغذية الطفل، وقد حكي خلاف

_ 1 ابن قدامة 4/304.

هذا عن أبي القاسم الأنماطي منهم حيث نقل عنه القول بعدم جواز بيع لبن الآدميات بناء على القول بنجاسته. أما الحنابلة: فقد اختلفوا بشأن حكم بيع لبن الآدميات، وأن المذهب عندهم جواز بيعه لإمكان الانتفاع به، ولطهارته، ولقياسه على لبن الشاة، وهذا ما عليه ظاهر كلام الخرقي، وفي الوجه المقابل لهذا أنه لا يصح بيع لبن الآدميات مطلقاً، أي سواء كان من حرة أم من أمة، وعن بعض الحنابلة أنه يحرم بيعه، وقال الإمام أحمد بكراهة ذلك البيع، وقيل يصح من الأمة دون الحرة، وقد أجمعوا على عدم جواز بيع لبن الرجل. وبناء على هذا فإن حكم بيع لبن الآدميات يتحقق في الأقوال الآتية: القول الأول: يرى جواز بيع لبن الآدميات مطلقاً، أي سواء كانت تلك الآدمية حرة أم كانت أمة، وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية وما عليه المذهب عند الحنابلة. القول الثاني: يرى عدم جواز بيع لبن الآدميات مطلقاً، وإلى هذا ذهب الحنفية وأبو القاسم الأنماطي من الشافعية، وهو الوجه الثاني عند الحنابلة وقد عبروا عن هذا المنع بالتحريم المطلق لبيع لبن الآدميات. القول الثالث: كراهة بيع لبن الآدميات على الإطلاق، أي سواء كان من حر أم أمة، وهذا ما قال به الإمام أحمد رحمه الله. القول الرابع: جواز بيع لبن الأمة دون لبن الحرة، وهذا ما عليه أبو يوسف من الحنفية وبعض الحنابلة. وعلى هذا فالمذاهب في المسألة أربعة وذلك على النحو الآتي: المذهب الأول: يرى جواز بيع لبن الآدميات مطلقاً، وهذا ما ذهب إليه كل من المالكية والشافعية وما عليه المذهب عند الحنابلة. المذهب الثاني: يرى عدم جواز بيع لبن الآدميات مطلقاً، وهذا ما ذهب إليه الحنفية وأبو القاسم الأنماطي من الشافعية وهو الوجه الثاني عند الحنابلة.

المذهب الثالث: كراهة بيع لبن الآدميات مطلقاً، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل. المذهب الرابع: فعلى نحو من التفصيل، حيث يرى جواز بيع لبن الأمة دون الحرة، وهذا ما ذهب إليه أبو يوسف من الحنفية وبعض الحنابلة. الأدلة: استدل القائلون بجواز بيع لبن الآدميات بما يأتي: أن لبن الآدميات طاهر، وأنه يجوز الانتفاع به خاصة وأنه من حي، ولضرورة تغذية الطفل به، وقد قال الحنابلة في تعليل وجه جواز بيعه أنه منفصل عن حي وهو طاهر منتفع به كلبن الشاة، ولأنه يجوز أخذ العوض عنه كما في إجارة الظئر فأشبه المنافع، فضلاً عن أنه غذاء للآدمي فجاز بيعه كالخبز، وقد وردت آيات في ذات المعنى المقرر هنا وهو إمكان الانتفاع به وجواز اعتباره محلاً للتصرفات ومنها البيع حيث قال سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 1 وقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} 2 وقد استرضع النبي صلى الله عليه وسلم لولده إبراهيم، ولأن الحاجة تدعو إليه أكثر من غيره، فإن الطفل في العادة إنما يعيش بالرضاعة، وقد يتعذر إرضاعه من أمه فجاز ذلك على الإجارة في سائر المنافع، فضلاً عن أن اللبن مشروب طاهر فيحل بيعه قياساً على بيع المشروبات الطاهرة المنتفع بها. وأنه يكفي في جواز بيع الشيء وجود أصل المنفعة فيه وإن قلّت أو قلّت قيمتها، فيصح بيع التراب والماء ولبن الآدميات قياساً على لبن الغنم فضلاً عن إباحة شرب اللبن وطهارته. واستدل المانعون لبيع لبن الآدميات بما يأتي: أن اللبن ليس مالاً ولهذا فلا يمكن تداوله، وأنه جزء من الآدمي والآدمي بجميع أجزائه محترم مكرم لا يجوز إهانته وابتذاله بالبيع ونحوه، وهذا عند الحنفية، وقد علل أبو القاسم الأنماطي عدم البيع بنجاسته فضلاً عما تقرر لدى الحنفية من أنه جزء من آدمي فلا يجوز بيعه اعتباراً بأصله.

_ 1 سورة الطلاق: الآية 6. 2 سورة البقرة: الآية 233.

وقالوا: إن اللبن جزء من الآدمي لا يباح الانتفاع به على الإطلاق، وأن تغذية الطفل به تقرر لضرورة فلا يتوسع فيها حيث كانت مشروعيتها استحساناً تسوغها ضرورة المحافظة على حياة الطفل، فعقد البيع على هذا يختلف عن الرضاعة فلا يقاس عليه في الحكم وهو الجواز، وقالوا إنه مائع خارج من آدمية فلم يجز بيعه كالعرق. ونوقش هذا: بأن قياس اللبن على العرق قياس مع الفارق، لأن العرق لا نفع فيه ولهذا لا يباع عرق الشاة ويباع لبنها، كما أنه جاز بيع سائر أجزاء الآدمي وجاز بيع العبد والأمة وإنما حرم بيع الحر لأنه ليس بمملوك، وحرم بيع العضو المقطوع لأنه لا نفع فيه1. واستدل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله على قوله بكراهة بيع لبن الآدمية مطلقاً بذات ما استدل به القائلون بالمنع والتحريم المطلق، غير أنه وجه عدم الجواز بالكراهة مفسراً النهي عن هذا بحد الكراهة دون التحريم كما قال بعض الحنابلة، وفي هذا يقول الإمام أحمد فيما ورد في الكافي في فقه الإمام أحمد: " ... أكره بيع لبن الآدميات فيحتمل التحريم، لأنه مائع خارج من آدمية، أشبه العرق، ويحتمل كراهية التنْزيه لأنه طاهر منتفع به أشبه لبن الشاة ... "2. ونوقش هذا: في الشق الخاص بقياس اللبن على العرق فيما يتعلق بتفسير صاحب الكافي كراهة الإمام أحمد بيع لبن الآدميات، نوقش بذات المناقشة الواردة على استدلال المانعين بيع لبن الآدميات مطلقا من أن قياس اللبن على العرق قياس مع الفارق. واستدل المفصلون بما يأتي: استدلوا على قولهم بمنع بيع لبن الآدمية الحرة بذات ما تمسك به المانعون من بيع لبن الآدميات مطلقاً، ويرد عليهم ذات الاعتراض بشأن وجه الاستدلال على نحو ما سبق. واستدلوا على قولهم بجواز بيع لبن الأمة بأنه جزء من آدمي يجوز بيعه، وحيث

_ 1 المغنى والشرح الكبير لابن قدامه 4/304. 2 ابن قدامه 2/5.

جاز بيع الكل فلا مانع من بيع أحد أجزائه ومنها اللبن محل النّزاع هنا، فضلاً عن تمسكهم بذات الأدلة التي ساقها المجوزون لبيع لبن الآدميات على الإطلاق. الترجيح: بعد عرض الآراء على نحو ما استخلصناه ومراجعة ما استدل به كل فريق، يتضح لنا رجحان القول بعدم جواز بيع لبن الآدمية الحرة، ومستند هذا الترجيح ما يأتي: 1 – ان الآدمي مكرم شرعاً وأنه غير مبتذل وهذا لم ينكره أحد من العلماء سواء من منع بيع اللبن، أو من أجاز بيعه، والمقرر أن البيع وما شابهه من التصرفات يحقق الإهانة والابتذال للشيء المباع وإخضاعه لإرادة بائعه والمتصرف فيه. 2 – ان الآدمي الحر ليس مالاً يباع ويشترى، ويوهب ويتصدق به، ويؤكل، وهذا محل اتفاق كذلك بين العلماء، وعلى هذا لا يجرى عليه ما يجري على الأموال. 3 – ان قول المجوزين لبيع لبن الآدمية الحرة أن اللبن مشروب طاهر منتفع به فيحل بيعه، قياساً على حل بيع المشروبات الطاهرة المنتفع بها؛ يمكن أن يرد عليه بأن اعتبار اللبن مشروباً كان للضرورة حتى إذا استغنى الطفل عن الرضاع لا يجوز شربه والانتفاع به. فالقول في الاستدلال بأنه مشروب طاهر إلى أخره منعه بعض الفقهاء ولم يجعلوه مشروباً طاهراً جائزاً بيعه، ولكنهم قالوا بأنه ليس مشروباً وأنه أبيح استثناء رضاعة للطفل حفاظاً على حياته، وفيما عدا ذلك يحرم، فهذا الدليل غير مسلم عند كل الفقهاء فهو استدلال بمختلف فيه ولا يصح الاستدلال به، وتبقى الأدلة الأخرى سالمة عن المعارضة. 4 – ان قياس لبن الآدميات في جواز بيعه على لبن الغنم قياس مع الفارق، وذلك لأن الإنسان مالك للغنم، والغنم مملوكة له، وفرق بين الأمرين، وأن لحم الإنسان محرم ولحم الغنم حلال، وأن الإنسان مكرم غير مبتذل، في حين أن الأغنام مسخرة للإنسان ومبتذلة له، وهذا كله فضلاً عن أن لبن الآدميين تتعلق به أحكام دقيقة وخطيرة من حيث تحريم النكاح ونحوه ولا تتعلق بلبن الغنم أحكام، لكل هذا

كان قياس لبن الآدميات على لبن الأغنام قياساً مع الفارق لا يعتد به. 5 – أن القول بالانتفاع به وان كل ما كان منتفعاً به جاز بيعه، غير مسلم على الإطلاق، لأن كل المحرمات لا تعدم نوعا من النفع، فالخمر مثلاً بها قدر من المنفعة غير أن الشرع قد أهدر هذه المنفعة فيها، ولهذا كان من شرط إباحة التصرف في الشيء أن يكون أصل الشيء حلالاً في ذاته، ومباحاً في ذاته، فإذا وجد فيه منفعة وان قلت أبيح بيعه والتصرف فيه كما تقولون، ولكن هذا لمن ملك أصل الشيء، والسؤال الآن: هل ملك الإنسان نفسه؟، أو هل ملك أحد إنساناً حراً، حتى نقول بجواز بيع ذلك الإنسان أو بيع جزء منه، فالإجابة على ذلك: لا، لأن الحر غير مملوك وأنه يحرم المساس به كلاً أو بعضاً الا بحق وهذا معروف ومقرر. وبناء على هذا: أرى عدم جواز بيع لبن الآدمية الحرة، ولا الآدمي، ترتيباً على عدم جواز بيعهما، ولا بيع شيء من أجزائها. والله تعالى أعلم1. هذا: وقد تفرع على القول المرجوح هنا من جواز بيع لبن الآدميات، مسألة حرمة الرضاع المترتب عليها مسألة حرمة النكاح تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" 2. وقد تعرض الفقهاء المعاصرون لهذه الأمور عند حديثهم عن بنوك الحليب، واختلفوا كثيراً، وتشعبت آراؤهم، بمراعاة أن المحذور هو أن الرضيع عن طريق هذا الحليب قد يريد أن يتزوج فيما بعد من إحدى الفتيات، وهو لا يدري فقد تكون هذه الفتاة قد رضعت معه من ذات اللبن، فتحرم عليه أم لا؛ وهذا يجعلنا نقف عند معنى الرضاع شرعاً: فعند جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي

_ 1 وممن قال بها فضيلة الأستاذ الدكتور حسن الشاذلي عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر في بحثه المقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة عن "انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً في الفقه الإسلامي" العدد الرابع 1408 ? - 1988 م. 2 حديث صحيح، ورد من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم، وله طرق. راجع: إرواء الغليل 6/282- 285 برقم 1876.

هو كل ما يصل إلى جوف الصبي عن طريق حلقة مثل الوجور، وهو أن يصب اللبن في حلقه، بل ألحقوا به السعوط، وهو أن يصب اللبن في أنفه، بل بالغ بعضهم فألحق الحقنة عن طريق الدبر بالوجور والسعوط. ولم يخالف في هذا سوى الليث بن سعد1، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وإن كانت الرواية الأخرى موافقة لما عليه الجمهور. وما انتهى إليه القول لدى عامة الفقهاء هو أنه تناول خمس رضعات "على خلاف في العدد" مشبعات، توجب التحريم بين المرضعة والرضيع، ويحرم بالتالي جميع ما يحرم بالنسب، وأنه لا فرق في ثبوت التحريم بالرضاع بين أن يرتضع الطفل من الثدي مباشرة أو أن يشرب لبن المرأة من زجاجة مثلاً بعد حلبه، حتى لو صار لبن المرأة جبنا أو مخيضا فإنه يثبت به التحريم عند الشافعية والحنابلة، وقال أبو حنفية: إذا صار جبنا أو مخيضا لا يثبت به التحريم لزوال الاسم، ولم يخالف في هذا سوى بعض العلماء كالليث بن سعد وبعض العلماء المعاصرين كالشيخ يوسف القرضاوي والشيخ عبد اللطيف حمزة مفتي مصر الأسبق، وذلك عند الكلام على بنوك الحليب. وعلى هذا: وبناء على ما ترجح لدينا سابقاً من عدم جواز بيع لبن الآدميات، سداً لذريعة الاتجار خاصة وأن بنوك الحليب عليها محاذير كثيرة، وأنه لا ضرورة إليها لأنه قد يؤدي إلى اختلاط الأنساب غالباً، فضلاً عن أن فيه عزوف النساء المترفات عن إرضاع أبنائهن، ولجوء الأمهات الفقيرات إلى حرمان أبنائهن من الإرضاع بسبب بيعهن لألبانهن فتزداد المخاطر على الأطفال، ولهذا كان الراجح هنا ما عليه الجمهور من القول بالتحريم من رضاعة لبن يجمع من أمهات متعددات ويبقى على هيئته أي دون تجفيفه. وبناء على هذا وبمناسبة عرض موضوع بنوك الحليب للمناقشة من جانب مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة

_ 1 هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصري، ثقة ثبت، فقيه إمام مشهور. راجع: تقريب التهذيب لابن حجر 287.

من 10 – 16 ربيع الثاني 1406? / 22- 28 ديسمبر 1985 م تمت مناقشة الدراسات الفقهية والطبية حول هذا الموضوع وقرر المجلس ما يلي: 1- أن بنوك الحليب تجربة ما قامت بها الأمم الغربية، ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها فانكمشت وقل الاهتمام بها. 2 – أن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب، يحرم به ما يحرم من النسب بإجماع المسلمين، ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط أو الريبة. 3 – أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج، أو ناقصي الوزن، أو المحتاج إلى اللبن البشري في الحالات الخاصة، ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب. وبناء على ذلك قرر: أولاً: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي. ثانياً: حرمة الرضاع منها؛ والله تعالى أعلم. ثالثاً: بيع شعر الآدمي الحر والانتفاع به مما لا شك فيه أن شعر الإنسان له من الأهمية الشأن الكبير بالنسبة لرأس الآدمي الذي يوجد به مركز الإحساس وهو المخ، ولهذا فإن أهمية الشعر - وإن كان من الأعضاء المتجددة - فإنه يأتي في الأهمية الأولى، وذلك للمحافظة علية، وحماية لهذا الجزء المهم من أجزاء الجسم الإنساني، وقد اهتم بعض الفقهاء بحكم بيع شعر الإنسان ونصوا عليه مع بيان ما استندوا إليه من أدلة في حين أن البعض الآخر أغفل ذكر هذه المسألة اعتماداً على أن الشعر من أجزاء الإنسان ويسري عليه ما يسري على بقية الأجزاء. اختلف الفقهاء في بيع شعر الآدمي والانتفاع به: مذهب الحنفية: عدم جواز بيع شعور الإنسان ولا الانتفاع بها، ورواية عن محمد

بن الحسن بجواز ذلك، أي أن محمد بن الحسن يرى جواز الانتفاع بشعر الآدمي. فقد جاء في شرح فتح القدير: " ... ولا يجوز بيع شعور الإنسان ولا الانتفاع بها، لأن الآدمي مكرم لا مبتذل، فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهاناً ومبتذلاً، وعن محمد أنه يجوز الانتفاع بها ... "1. وجاء في مجمع الأنهر: " ... ولا يجوز بيع شعر الآدمي، ولا الانتفاع به، ولا بشيء من أجزائه، لأن الآدمي مكرم غير مبتذل، فلا يجوز أن يكون شيئاً من أجزائه مهاناً مبتذلاً ... وعن محمد أنه يجوز الانتفاع به ... "2. وفي شرح العناية على الهداية: "بيع شعور الآدميين والانتفاع بها لا يجوز، وعن محمد أنه يجوز الانتفاع بها ... "3. وجاء في بدائع الصنائع: " ... وأما عظم الآدمي وشعره فلا يجوز بيعه، لا لنجاسته لأنه طاهر في الصحيح من الرواية، لكن احتراما له والابتذال بالبيع يشعر بالإهانة ... "4. وورد في الهداية: "لا يجوز بيع شعور الإنسان ولا الانتفاع بها ... "5. وفي حاشية ابن عابدين: " ... والآدمي مكرم شرعاً وإن كان كافراً، فإيراد العقد عليه وابتذاله به وإلحاقه بالجمادات إذلال له. ا?: أي وهو غير جائز وبعضه "أي بعض الإنسان" في حكمه ... "6 فمذهب الحنفية: على أنه لا يجوز بيع شعر الآدمي، ولا الانتفاع به، خلافاً لمحمد بن الحسن الذي جوز الانتفاع به، وإن كان البيع قد سكت عنه، ونصت كتب الحنفية على أن السبب في عدم جواز بيع شعر الآدمي لم يكن هو النجاسة لأنه طاهر، وإنما كان ذلك بسبب أن الآدمي مكرم غير مبتذل، وأن هذا التكريم يتنافى مع البيع من أجل ذلك منع البيع.

_ 1 ابن الهمام 6/425 – 426. 2 عبد الرحمن الكيبولي 3/85 – 86. 3 البابرتي 6/425. 4 الكاساني 5/142. 5 المرغيناني 6/425. 6 ابن عابدين 7/245.

مذهب المالكية: أنه لا يجوز بيع أو استخدام شعر الآدمي، لأنها أجزاء محترمة ولا يجوز انتهاكها لحرمتها. فقد جاء في بلغة السالك: " ... إن كسر عظم الميت انتهاك لحرمته ... فإن بقى شيء من عظامه فالحرمة باقية لجميعه، فلا يجوز استخدام ظفر الميت، ولا جزء منه، ولا شعره، لأن هذه الأجزاء محترمة وفي أخذها انتهاك لحرمتها ... "1. فنص مذهب المالكية: عدم استخدام شعر الميت، لأنه محترم وأن في أخذه إهانة له، وأنه يستفاد من هذا عدم إمكان استخدام أو أخذ شعر الحي ويخرج على هذا عدم جواز بيعه لذات السبب. مذهب الشافعية: بعدم جواز بيع عضو من أعضاء الإنسان فيما ذلك شعره حياً كان أو ميتاً، بناء على عدم جواز قطع أي عضو من هذه الأعضاء. فقد جاء في المجموع: " ... ولا يجوز للمضطر أن يقطع لنفسه من معصوم غيره بلا خلاف، وليس للغير أن يقطع من أعضائه شيئاً ليدفعه إلى المضطر بلا خلاف، صرح به إمام الحرمين والأصحاب ... "2 وجاء في نهاية المحتاج: " ... ويحرم قطعه أي البعض من نفسه لغيره، ولو مضطراً ... "3. فمذهب الشافعية: عدم جواز بيع شعر الآدمي الحي، وكذا الميت، تخريجاً على عدم جواز قطع أي عضو من أعضاء ذلك الآدمي، وذلك باعتبار أن البيع يعد أثراً لإمكان القطع والاستخدام. مذهب الحنابلة: اختلف مذهب الحنابلة بشأن طهارة شعر الآدمي، فالصحيح في المذهب وما عليه الأصحاب أنه طاهر، وفي رواية أنه نجس عدا شعر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه طاهر، وقيل: إن النجس هو شعر الكافر فقط، وهو قول في الرعاية، وهو اختيار بعض الأصحاب أما بالنسبة لبيع الشعر فيخرج على المذهب عدم جواز البيع لمن قال

_ 1 أحمد الصاوي 1/424 – 432. 2 النووي 9/47. 3 الرملي 8/163.

بطهارته، وذلك لحرمة الآدمي وعدم ابتذاله، أما بالنسبة لمن قال بنجاسة شعر الآدمي غير النبي صلى الله عليه وسلم، أومن قال بنجاسة شعر الكافر فقط، فمنع بيع الشعر ظاهر، لحكمهم بنجاسة الشعر، وكل نجس العين يمنع بيعه لعدم الانتفاع به. فقد جاء في الإنصاف: "وأما شعر الآدمي المنفصل في الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب طهارته قطع به كثير منهم، وعنه نجاسته غير شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه نجاسته من كافر وهو قول في الرعاية واختاره بعض الأصحاب"1. وجاء في كشاف القناع: "ولا يجوز استعمال شعر الآدمي مع الحكم بطهارته لحرمته أي لحرمة احترامه ... "2. الموازنة: من خلال مطالعة ما قاله الفقهاء بشأن بيع شعر الآدمي يتضح أن أغلب كتب الفقه لم تتعرض صراحة لحكم البيع مكتفية ببيان حكم الاستعمال والاتخاذ وحكم الطهارة، وأن حكم البيع عندهم قد خرج على هذا: الحنفية: نصوا صراحة على حكم البيع، وقالوا بعدم جواز بيع شعر الآدمي مع قولهم بطهارته، وأن هذا المنع للبيع كان بسبب حرمة الآدمي وعدم ابتذاله، وأن البيع يتنافى مع تكريم الإنسان، والنص على عدم جواز البيع مقرون بعدم جواز الانتفاع، وأن محمد بن الحسن جوز الانتفاع وسكت عن البيع، وهذا لا يمنع أنه مع الجمهور في القول بعدم جواز البيع. المالكية: خرجوا حكم بيع الشعر على إمكان القطع والاستخدام، ولما كان ذلك ممنوعاً عندهم كان بيع الشعر هو الآخر ممنوعاً لعدم ابتذال الإنسان وامتهانه. الشافعية: يقولون بعدم جواز بيع شعر الآدمي الحي، وكذا الميت، تخريجاً على عدم جواز قطع أو استخدام أحد أعضاء الآدمي. الحنابلة: قالوا بعدم جواز بيع شعر الآدمي الحي أو الميت عند من قال بطهارته بناء على أنه جزء من الآدمي المحرم باعتبار أصله، وبناء على من قال بنجاسته لغير الأنبياء أو من قال بنجاسته بالنسبة للكافر بناء على تلك النجاسة.

_ 1 المرداوي 1/94. 2 البهوتي 1/70.

فقد خرجوا حكم بيع شعر الآدمي على خلافهم بشأن طهارته من عدمها؛ فمن قال بطهارته منع بيعه بناء على أنه جزء من الآدمي المحرم باعتبار أصله، وعند من قال بنجاسة شعر غير الأنبياء، أو من قال بنجاسة شعر الكافر فإنه يمنع بيع ذلك الشعر، تخريجاً أيضاً على كل ما حكم بنجاسة عينه يمتنع بيعه لعدم إمكان الانتفاع به. وعلى هذا: فالإجماع قائم على عدم جواز بيع شعر الآدمي الحي أو الميت، لكرامته وعدم ابتذاله بإهانته، سواء كان ذلك بالنص على الشعر بذاته، أو كان بالنص على عموم أعضاء الآدمي، وسواء كان ذلك بالنسبة للحي أو الميت، وسواء كان ذلك بناء على القول بطهارته أو على القول بنجاسته على قول للحنابلة، أو على القول بنجاسة شعر الكافر على قول آخر لهم، وإلى هذا ذهب عامة الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ومحمد بن الحسن من الحنفية الذي جوز الانتفاع وسكت عن البيع مما يشعر بأنه مع غيره من العلماء في القول بمنع بيع شعر الآدمي. وقد استند الفقهاء في إجماعهم هذا على ما يأتي: 1 – ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة" 1. فقد نص هذا الحديث على لعن هؤلاء، والمعروف أن اللعنة هي أقوى دلالة على تحريم الشيء، وقد ورد في شرح النووي أن هذا الحديث وأمثاله مما ورد في هذه المسألة فيه الدلالة الصريحة على تحريم الوصل والوشم مطلقاً، وهذا هو الظاهر المختار. ثم ذكر النووي – أيضاً- أن الأصحاب من الشافعية قد فصلوا القول في هذا الشأن وقالوا إذا كان الوصل بشعر الآدمي فهو حرام، سواء كان شعر رجل أو امرأة، وسواء كان شعر المحرم أو الزوج وغيرهما، بلا خلاف في ذلك عملاً بعموم الأحاديث، أما إذا كان الوصل بغير شعر الآدمي، فإن كان نجساً كشعر الميتة وشعر ما

_ 1 الحديث رواه البخاري 7/213، ومسلم 6/166.

لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حياته فهو حرام أيضا للحديث، لأنه محل نجاسة في صلابته. وقد تمسك الإمام مالك بعموم هذا الحديث، وقال هو الآخر بمنع وصل الشعر بأي شيء سواء كان شعر آدمي أو غيره أو صوفاً أو نحوه1. 2- بما روي عن جابر بن عبد الله حيث قال "زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة برأسها شيئاً"2. فهذا الحديث ظاهر في أنه لا يجوز أن تصل المرأة بشعرها شيئاً، فضلاً عن التدليس على الناس وغشهم بإظهار أمور غير واقعة، وهذا مستفاد من رواية البخاري من قول معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الزور يعني الواصلة في الشعر3. ولهذا قال الإمام النووي: إنه يحرم على المرأة التي لم يكن لها زوج أن تصل شعرها بشعر طاهر غير الآدمي، وتلزم برفعها لهذا التدليس4. ومما يدعم هذا: ما روي من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه حيث قالت "جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن لي ابنة ً عريساً أصابتها حصبة5 فتمزق شعرها أفأصله؟ وفي رواية وزوجها يتحسنها أفأصل شعرها؟ فقال: " لعن الله الواصلة والمستوصلة" 6. حيث دل هذا على حرمة انتفاع المرأة بشعر غيرها وهو جزء من ذلك الغير، فيعتبر أصلاً في المنع من الانتفاع بأجزاء الآدمي ولو كان ذلك الانتفاع غير ضار

_ 1 فتح الباري شرح صحيح البخاري 10/375. 2 الحديث رواه مسلم في صحيحه 3/1679. 3 فتح الباري شرح صحيح البخاري 10/374. 4 شرح النووي على صحيح مسلم 14/103 – 104. 5 الحصبة: هي بثر يخرج بالجسد ويقال هي الجدرى. راجع: المصباح المنير للفيومي 1/138. 6 الحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير 23/411 عن أم سلمة أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ابنة لي زوجتها فأصابتها الحصبة ... الخ

بالمأخوذ منه1. وعليه فالمستقر: هو القول بعدم جواز بيع شعر الآدمي، وكذا الانتفاع به، وذلك على نحو ما ذهب إليه عامة أهل العلم، تحقيقاً للحكمة الشرعية التي يقوم عليها صيانة الجسد الإنساني عن الابتذال، ولأنه بعض الإنسان منسوب إليه، وقد كرم الله الإنسان وحرم بيعه، فيكون بيع شعره حراماً كحرمته هو، فضلاً عن الأحاديث الدالة على لعن كل من الواصلة والمستوصلة. هذا: بمراعاة أنه إذا دعت الضرورة إلى الانتفاع بشعر الآدمي للتداوي، كما هو الشأن بالنسبة لزرع شعر الآدمي في الرأس حماية للرأس من الظواهر الطبيعة، فإنه يجوز ذلك أعمالاً لقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"2، مع قاعدة "الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"3، وبناء على هذا تكون سلطة الإنسان على شعره مقيدة في حالة الضرورة بالقدر المقرر شرعاً، وبشرط عدم تعدي هذا القدر الدافع للضرورة4 وأن هذا ليس بالبيع بل يكون عن طريق التبرع عملاً بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 5.

_ 1 قضايا فقهية معاصرة للسنبهلي صفحة 61 – 62. 2 قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/98 – 102. 3 الأشباه والنظائر للسيوطي صفحة 87. 4 نشرت مجلة منبر الإسلام الصادرة عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف الصادر في جمادى الأولى 1412? - نوفمبر 1991م فتوى لفضيلة الشيخ/عطية صقر صفحة 135 ونصها: هل يجوز لشاب مصاب بالصلع الشديد أن يجري عملية زرع شعر، أو يلبس شعراً مستعاراً "الباروكة"، أو يستخدم دهانات لتثبيت الشعر ونموه، حيث يسبب له الصلع حرجاً شديداً، ويؤثر على مظهره؛ الجواب: هذا العمل يدخل تحت حديث "لعن الله الواصلة والمستوصلة" متفق عليه، وخلاصة الحكم كما قال المحققون كابن الجوزي وغيره أن زرع الشعر إذا كان يدوم كالشعر العادي فلا غش فيه ولا خداع، أما إذا كان ينبت مؤقتاً لمدة قصيرة ثم يختفى فهو كالباروكة إن قصد بها التدليس والغش – عندما يريد الزواج مثلا أو قصد به فتنة الجنس الآخر بالوقوع في الإثم فهو حرام لا شك فيه، أما إذا لم يقصد شيئاً من ذلك فلا حرمة فيه. 5 سورة المائدة: الآية 2.

الفصل السادس: بيع الأشياء المحرمة لقدسيتها

الفصل السادس: بيع الأشياء المحرمة لقدسيتها وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: بيع المصحف. المبحث الثاني: بيع المصحف للكافر. المبحث الثالث: بيع أرض مكة المكرمة.

المبحث الأول: بيع المصحف

المبحث الأول: بيع المصحف الحنفية: لم أجد نصاً صريحاً للحنفية يبين حكم بيع المصحف، إلا أنني أرى أنهم يجوزون بيعه. لما جاء في بدائع الصنائع: "ولهذا لو بيع المصحف دخل المتصل به في البيع ... "1 لأن قوله "لو بيع المصحف دخل المتصل به في البيع" يفيد أن البيع جائز لأن دخول المتصل به يفيد جواز البيع، لأن البيع إذا لم يكن جائزاً لما دخل المتصل به لفساد البيع وبطلانه. المالكية: قالوا بجواز بيع المصحف وأنه لا بأس به، لأن ذلك تم في عهد الصحابة في المدينة ولم ينكروه. فقد جاء في مواهب الجليل: " ... تجوز إجارة المصحف لجواز بيعه، وأجاز بيعه كثير من التابعين ... "2. وجاء في المدونة: " ... لا بأس به، وكان الناس يبيعون المصاحف بالمدينة والصحابة موجودون ولا ينكرون عليهم ذلك"3. الشافعية: يكره بيع المصحف عند الشافعية إلا لحاجة. فقد جاء في نهاية المحتاج: " ... ويكره بيع المصحف بلا حاجة لا شراؤه ... "4. الحنابلة: اختلفت الرواية في مذهب الحنابلة في بيع المصحف، فالرواية الصحيحة في المذهب أنه لا يجوز بيع المصحف، فقد نقل عن الإمام أحمد أنه قال لا يعلم في بيع المصحف رخصة. والرواية الثانية في المذهب أنه يجوز بيع المصحف مع الكراهة، وقيل هناك رواية ثالثة تجوز بيع المصحف دون كراهة. فقد جاء في الإنصاف: "قوله: "وفي جواز بيع المصحف روايتان" إحداهما: لا يجوز ولا يصح. وهو المذهب، وقال الإمام

_ 1 الكاساني 1/34. 2 الحطاب 5/423. 3 رواية سحنون بن سعيد التنوخي 11/408. 4 الرملي 3/389.

أحمد: لا أعلم في بيعه رخصة، ... الرواية الثانية: يجوز بيعه ويكره، ... وعنه رواية ثالثة: يجوز من غير كراهة ... "1. الموازنة: بمراجعة ما قاله الفقهاء في بيع المصحف نخلص إلى ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: القائل بجواز بيعه، وهو ما ذهب إليه المالكية والحنفية والرواية الثالثة عند الحنابلة. المذهب الثاني: القائل بعدم جواز بيعه مطلقاً، وهو صحيح مذهب الحنابلة. المذهب الثالث: يكره بيعه عند الشافعية، والرواية الثانية عند الحنابلة. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول: بأن الذي يباع هو الورق والمداد والتجليد إن كان مجلداً، والحلية إن كان مُحَلاً، وأما العلم فلا يباع، ولأنه ليس جسماً، ولأن المصحف طاهر منتفع به فهو كسائر الأموال يجوز بيعه فيدخل تحت قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 2. واستدل أصحاب المذهب الثاني: 1- بأنه كان عمر رضي الله عنه يمر بأصحاب المصاحف ويقول: "بئس التجارة"3. 2 - عن ابن عمر رضي الله عنه أنه شدد في بيعه وقال: "وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف" 4. 3- لأنه يشتمل على كلام الله فيجب صيانته عن البيع والابتذال. استدل أصحاب المذهب الثالث: 1 - بما روي عن بعض الصحابة كأبي موسى الأشعري: أنه كان أصحاب

_ 1 المرداوي 4/266 – 267. 2 سورة البقرة: الآية 275. 3 رواه الجعد في مسنده 1/328، وعبد الرزاق 8/114، والبيهقي في السنن 6/16 وابن أبي داود في المصاحف صفحة 159. 4 رواه سعيد بن منصور في سننه 2/385 ومن طريقه البيهقي في سننه 6/16 وابن أبي داود في المصاحف صفحة 180 وابن أبي شيبة في المصنف 6/62 برقم 255.

رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون بيع المصاحف1. 2 - عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كره شراء المصحف وبيعه2. والذي يترجح لدي: هو قول من قال بجواز بيع المصحف، لأن هذا يساعد على انتشاره وتداوله، وهذا نفع مفيد للمسلمين، والبيع يكون نظير تكلفه طبع المصحف من ورق وحبر وطباعة وتجليد ولا يخفى على أحد غلاء تكاليف الطباعة، وهذه الأشياء هي التي تباع لا المصحف نفسه فهو كلام الله تعالى ولا يقدر بمال وبثمن، والله تعالى أعلم.

_ 1 رواه ابن أبي شيبة في المصنف 7/4. 2 رواه الشافعي في الأم 7/176، وعبد الرزاق في مصنفه 8/110، والبيهقي في السنن 6/16.

المبحث الثاني: بيع المصحف للكافر

المبحث الثاني: بيع المصحف للكافر اختلف الفقهاء بشأن بيع المصحف للكافر. مذهب الحنفية: لم أجد نصا في هذا الموضوع فيما اطلعت عليه من كتب الحنفية1. مذهب المالكية: لا يجوز بيع المصحف لكافر، وإن باعه مسلم لكافر فمشهور المذهب يجبر الكافر على إخراجه من ملكه من غير فسخ ببيع ونحوه، ومقابل المشهور أنه يفسخ البيع إذا كان قائماً، وذكر ابن رشد أن الخلاف يفيد بما إذا علم البائع أن المشتري كافر، أما إذا ظن أنه مسلم فلا يفسخ البيع بلا خلاف، ويجبر الكافر على إخراجه من ملكة ببيع ونحوه. فقد جاء في مواهب الجليل: " ... ومنع بيع مسلم ومصحف وصغير لكافر ... وأما ... المصحف فلا يصح بيعه منه بلا خلاف، فإن وقع ذلك فاختلف فيه، فمذهب المدونة أن البيع يمضي ويجبر الكافر على إخراج ذلك من ملكه، ... قال في المدونة ... فإن ابتاع الذمي أو المعاهد مسلماً أو مصحفاً أجبر على بيعه، ... وقيد ابن رشد الخلاف بأن يكون البائع عالماً بأن المشتري نصراني، قال ولو باعه من نصراني وهو يظن أنه مسلم بيع عليه ولم يفسخ اتفاقاً ... "2. مذهب الشافعية: قالوا بأن بيع المصحف للكافر فيه طريقان مشهوران، الأول فيه قولان أصحهما لا يصح بيع المصحف للكافر، والثاني يصح البيع، والطريق الثاني: القطع بأنه لا يصح البيع، والخلاف عندهم في صحة البيع أو عدم صحته، أما البيع نفسه فحرام بلا خلاف. فقد جاء في المجموع شرح المهذب: "أما إذا اشترى الكافر مصحفاً ففيه طريقان

_ 1 كحاشية ابن عابدين والبحر الرائق لابن نجيم. 2 الحطاب 4/253.

مشهوران أحدهما ... أنه لا يصح البيع، والثاني يصح "والطريق الثاني" القطع بأنه لا يصح البيع وقطع به جماعة، ... والخلاف إنما هو في صحة البيع، ولا خلاف أنه حرام ... "1. مذهب الحنابلة: يرى الحنابلة عدم جواز بيع المصحف مطلقاً للكافر، وأن البيع يكون باطلاً. فقد جاء في المغنى والشرح الكبير: " ... ولا يجوز بيعه لكافر، فإن اشتراه فالبيع باطل ... "2. الموازنة: بمراجعة نصوص الفقهاء نستخلص في المسألة ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: يرى صحة بيع المصحف للكافر ويجبر الكافر على إخراجه من ملكه، وهو مذهب المالكية. المذهب الثاني: أنه لا يصح بيعه لكافر، وهو مذهب الحنابلة، ومشهور مذهب الشافعية، وقد عبر الشافعية عن ذلك بعدم الصحة، في حين قال الحنابلة إن البيع يكون باطلاً. المذهب الثالث: يرى صحة بيع المصحف للكافر مع حرمة ذلك البيع وهو قول عند الشافعية. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول القائلون بصحة بيع المصحف للكافر، وإن الكافر يجبر على إخراجه من ملكه: 1 - بأن الكافر أهل للشراء، والمصحف محل له فصح البيع، ويجبر الكافر على ان يخرجه من ملكه لأن فيه حفظ لكتاب الله من الإهانة والابتذال إن وقع في أيدي الكفار.

_ 1 النووي 9/434. 2 ابن قدامة 4/13.

واستدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بعدم جواز بيع المصحف للكافر بمايلي: حفظ كتاب الله من الإهانة والابتذال إن وقع في أيدي الكفار، كما أن الكافر يمنع من استدامة الملك عليه فمنع من ابتدائه كسائر ما يحرم بيعه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم "عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو"1. مخافة أن تناله أيديهم، فلا يجوز تمكينهم من ذلك ببيع ونحوه، هذا فضلاً عن أن تمكين الكافر من ملك المصحف فيه تعريض له للإهانة والابتذال، ولأن بيع المصحف للكافر عقد منع منه لحرمة الإسلام فلم يصح كتزويج المسلمة من الكافر. واستدل أصحاب المذهب الثالث القائلون بجواز بيع المصحف للكافر مع حرمة ذلك البيع: بأن الكفار أهل للشراء، ولكن تمكينهم من ملكه فيه تعريض وإهانة لكتاب الله لأنهم لا يستأمنون عليه. والذي يترجح لدي: هو عدم صحة بيع المصحف للكافر، وأن البيع يقع باطلاً كما هو مذهب الحنابلة، لأن الكافر لا يؤتمن على كلام الله لعداوته للإسلام فلا يمكن مما يوصله إلى ذلك حفظاً لكتاب الله من المهانة والابتذال والله تعالى أعلم.

_ 1 رواه البخاري 3/1090 برقم 2828، ومسلم 3/1490 برقم 1869.

المبحث الثالث: بيع أرض مكة

المبحث الثالث: بيع أرض مكة اختلف الفقهاء بشأن حكم بيع أرض مكة. فمذهب الحنفية: ذهب الإمام أبو حنيفة إلى عدم جواز بيع أرض مكة، وروي عنه جواز بيع أرضها. فقد جاء في بدائع الصنائع: " ... وعلى هذا يخرج بيع رباع مكة وإجارتها أنه لا يجوز عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وروي عنه أنه يجوز ... "1. مذهب المالكية: ورد عن المالكية ثلاث روايات بشأن بيع أرض مكة الأول: المنع، والثاني: الجواز، والثالث: الكراهة مع عدم فسخ البيع إن وقع. فقد جاء في المقدمات الممهدات لابن رشد: " ... فالظاهر من مذهب ابن القاسم في المدونة إجازة ذلك، والظاهر من قول مالك في سماع ابن القاسم في كتاب الحج المنع في ذلك، وحكى الداودي2 عنه أنه كره كراءها في أيام الموسم، وقال اللخمي اختلف قوله في كراء دور مكة وبيعها فمنع من ذلك مرة، وحكى أبو جعفر الأبهري3 عنه أنه كره بيعها وكراءها فإن بيعت أو كريت لم يفسخ ذلك، فيتحصل عنه في ذلك أربع روايات: الجواز والمنع والكراهة وكراهة كرائها في أيام الموسم خاصة ... "4. مذهب الشافعية: قالوا بجواز بيع أرض مكة. فقد جاء في روضة الطالبين: "يجوز

_ 1 الكاساني 5/146. 2 هو عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود أبو الحسن الداودي، البوسنجي، فقيه محدث تفقه على أبي بكر القفال وأبو الطيب الصعلوكي وغيرهم توفي رحمه الله تعالى سنة 467?. راجع: معجم المؤلفين لعمر كحالة 5/192. 3 أبو جعفر محمد بن عبد الله الأبهري، ويعرف بالأبهري الصغير وبابن الخصاص الإمام العالم بالفقه وأصوله تفقه بأبي بكر الأبهري وسمع من زيد المروزي له كتاب كبير في مسائل الخلاف، وكتاب تعليق المختصر الكبير، توفي رحمه الله تعالى سنة 265?. راجع: شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف صفحة 91، والديباج المذهب لابن فرحون 2/228. 4 2/218 - 219.

بيع دور مكة"1. وجاء في المجموع للنووي: "يجوز بيع دور مكة وغيرها من أرض الحرم ... "2. مذهب الحنابلة: روي عن الحنابلة في ذلك روايتان الأولى ترى عدم جواز بيع رباع مكة وهي المذهب، والثانية ترى صحة ذلك. فقد جاء في كشاف القناع: "ولا يصح بيع رباع مكة ... "3. وجاء في الإنصاف: "ولا يجوز بيع رباع مكة ولا إجارتها، هذا هو المذهب المنصوص، ... وقيل يجوز اختاره المصنف والشارح ... "4. الموازنة: بمراجعة نصوص ما قاله الفقهاء نخلص إلى مذهبين: المذهب الأول: يرى جواز بيع أرض مكة، وهو مذهب الشافعية، ورواية عن الإمام أبي حنيفة، وظاهر مذهب ابن القاسم في المدونة، ورواية عند الحنابلة. المذهب الثاني: يرى عدم جواز بيع أرض مكة، وهو الصحيح عن الإمام أبي حنيفة وقول مالك في سماع ابن القاسم، وهو صحيح مذهب الحنابلة. الأدلة: استدل أصحاب المذهب الأول القائلون بجواز بيع أرض مكة بما يلي: أ- قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} 5 فقد ثبت أن الله سبحانه أضاف الديار إلى المهاجرين، والإضافة تقتضي الملك وهذا الملك يقتضي جواز التصرف في المملوك بكافة أنواع التصرف من البيع والشراء وخلافه، والمهاجرون هم من تركوا الديار والأموال والأهل والعشائر حباً لله ولرسوله وهم الذين أخرجوا من مكة للمدينة ففهم من ذلك جواز التصرف في أرض مكة.

_ 1 النووي 3/420. 29/298. 3 البهوتي 4/1390. 4 المرداوي 4/277. 5 سورة: الحشر الآية 8.

فإن قيل: تكون الإضافة لليد والسكنى لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} 1. فالجواب أن حقيقة الإضافة تقتضي الملك ولهذا ولو قال: هذه الدار لزيد حكم بملكها لزيد، ولو قال: أردت به السكنى لم يقبل. ب – ما رواه أسامة بن زيد بن حارثة حيث قال يا رسول الله: "انزل في دارك بمكة؟ فقال: "وهل ترك لنا عقيل2 من رباع أو دور"، وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا علي لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين"3. فدل هذا على جواز إرث دورها والتصرف فيها. ج - ما روي من أن حكيم بن حزام4 باع دار الندوة بمكة من معاوية بن أبي سفيان5 بمائة ألف، فقال له عبد الله بن الزبير6: يا أبا خالد بعت مآثره قريش وكريمتها, فقال: هيهات، ذهبت المكارم فلا مكرمة اليوم إلاّ الإسلام، فقال: أشهد أنها في سبيل الله يعني الدراهم7. د – أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم دور بمكة كأبي بكر والزبير وحكيم بن حزام وأبي

_ 1 سورة: الأحزاب الآية 33. 2 هو عقيل بن عبد مناف أبا طالب بن عبد المطلب بن هاشم أبو يزيد القرشي، صحابي أخو علي وجعفر لأبويهما، وكان أسن منهما، توفي رضي الله عنه سنة 60?. راجع: أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير 3/560، والأعلام للزركلي 4/242. 3 الحديث رواه البخاري 3/1113 برقم 2893، و 4/1560 برقم 4032، ومسلم 2/984 برقم 1351. 4 هو حكيم بن حزام بن خويلد ابن أسد بن عبد العزيز بن قصي الأسدي ابن أخي خديجة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ولد قبل الفيل بثلاثة عشر سنة وتوفي سنة 50 ?. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1/348. 5 هو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية القرشي الأموي، ولد بمكة وأسلم عام الفتح، ولاّه أبو بكر ثم عمر وأقره عثمان على الديار الشامية،. راجع الأعلام للزركلي 7/261. 6 هو عبد الله بن الزبير بن العوام من بني أسد من قريش فارس قريش في زمنه أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق أول مولود للمسلمين بعد الهجرة، مات سنة 73?. راجع: الأعلام للزركلي 4/87. 7 أخرجه البيهقي في سننه 6/34 – 35، وأورده البيهقي في الخلافيات كما أفاده الحافظ في التلخيص الحبير 3/20، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر 3/1085 برقم 1839، والذهبي في السير 3/50، وابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة 4/539برقم 5643.

سفيان وسائر أهل مكة فمنهم من باع داره ومنهم من تركها فهي في يد أعقابهم، فالمقرر أن أهل مكة لا يزالون يتصرفون في دورهم تصرف الملاك بالبيع وغيره ولم ينكره منكر فقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم نسبة دورهم إليهم فقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قصة فتح مكة قال: "فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله: أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن" 1. استدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بعدم جواز بيع أرض مكة: أ- بما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم: - قال "مكة حرام لا تباع رباعها ولا تورث" 2. وهذا نص في الموضوع يفيد منع بيع رباعها وثوارتها، وقال الكاساني في البدائع: إن الله تبارك وتعالى وضع للحرم حرمة، وفضله، وكذلك جعله سبحانه وتعالى مأمناً، فابتذاله بالبيع والشراء والتمليك والتملك امتهان3. ب – ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى حرم مكة يوم خلقها، ولم تحل لأحد من بعدي، وإنما حلت لي ساعة من نهار، ولا يختلي خلاها4، ولا يعضد شجرها5، ولا يتحشى حشيشها6". ففي هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم إن مكة حرام، وهي اسم للبقعة الحرام، فلا يحق لأحد بيعها.

_ 1 الحديث رواه مسلم 3/1405-1409. 2 الحديث رواه أبو عبيد في الأموال صفحة 83 وحميد بن زنجويه من طريقه في الأموال له 1/204 وأبو بكر بن أبي شيبة المصنف 3/329 برقم 14679 و 14680 والفاكهي في أخبار مكة 3/246- 347 كلهم من طريق معاوية عن الأعمش عن مجاهد مرفوعا. راجع: نصب الراية للزيلعي 4/265. 3 5/146. 4 الخلاء مقصور: الرطبة من الحشيش الواحدة خلاة، ومعنى لا يختلي خلاها أي لا يقطع خلاها. 5 لا يعضد شجرها: أي لا ينقطع في العضد وهو القلع. 6 الحديث رواه البخاري 3/449، 4/46-47، 5/87، 6/283، 8/26، ومسلم 2/986-987 واللفظ له.

ج– روى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مكة حرام، حرمها الله لا يحل بيع رباعها، ولا إجارة بيوتها" 1. وهذا نص في الموضوع يفيد حرمة بيع أراضي مكة وإجارتها. د- كما أن أرض مكة فتحت عنوة. ولم تقسم، فصارت موقوفة، فلم يجز بيعها كسائر الأراضي التي فتحها المسلمون عنوة ولم يقسموها. والذي يترجح لدي من هذا الخلاف: هو جواز بيع أرض مكة لأنه قد وردت أثار تفيد التصرف فيها، ويؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهلها على أملاكهم، فهذا يدل على أنه تركها لهم، أما الآثار التي استدل بها القائلون بعدم جواز التصرف فيها فإن كانت صحيحة، فلا تدل على عدم جواز التصرف فيها صراحة، وأما الآثار التي تدل على عدم جواز التصرف فيها صراحة فهي آثار ضعيفة والله أعلم.

_ 1 الحديث رواه أبو عبيد في الأموال صفحة 83، وحميد بن زنجويه من طريقه في الأموال له 1/204 وأبو بكر بن أبي شيبة المصنف 3/329 برقم 14679 و 14680 والفاكهي في أخبار مكة 3/246- 347 كلهم من طريق معاوية عن الأعمش عن مجاهد مرفوعا. راجع: نصب الراية للزيلعي 4/256.

الخاتمة

الخاتمة بعد أن وفقني الله تعالى لإتمام هذا البحث رأيت أن أعمل خاتمة تشتمل على ملخص لما ورد فيه؛ وقد تناولت في هذه الرسالة الموضوع في مقدمة وتمهيد وبابين. أما المقدمة: فقد اشتملت على أهمية الموضوع، وسبب اختياره، ومنهج البحث، وخطته. أما الفصل التمهيدي: فتناولت فيه تعريف البيع لغة، واصطلاحاً، وانتهيت إلى ترجيح أن البيع عند علماء اللغة هو المبادلة وأنه ضد الشراء، ورجحت كون البيع في الاصطلاح عقد يتضمن مقابلة مال بمال بشرط خاص، لاستفادة ملك عين أو منفعة مؤيده، وبينت حكمة مشروعية البيع، وهي تحقيق المنافع بين العباد بالتوسعة عليهم، وأن أثر البيع هو ثبوت ملك في المبيع للمشتري، وثبوت ملك الثمن للبائع، ورجحت ما ذهب إليه الجمهور من أن أركان البيع هي: الصيغة، والعاقدان، والمعقود عليه "المبيع والثمن"، وقد اشترط الفقهاء شروطاً في المعقود عليه، وهي كونه مالاً مملوكاً للعاقد، مقدوراً على تسليمه، موجوداً حين العقد، معلوماً لكل من العاقدين. وأوضحت أن الأعيان المحرمة تتنوع بحسب ما يعتريها من وصف، فهي قد تكون محرمة لنجاستها، وقد تكون محرمة لاتصال النجاسة بها، وقد تكون محرمة لغلبة المفسدة في بيعها؛ كما أنها قد تكون محرمة لكرامتها وقدسيتها. والباب الأول: في النجاسات واشتمل على تمهيد وستة فصول وقد بينت في التمهيد: اختلاف الفقهاء في حرمة بيع النجاسات وأسبابه. أما الفصل الأول: ففي بيع الميتة – وفيه ثلاثة مباحث تناولت في المبحث الأول: حكم بيع الميتة، وأوضحت أن الإجماع منعقد على منع بيع الميتة، لنجاستها، ولتحريم ثمنها، ولعدم ماليتها، وعدم إمكان الانتفاع بها. وفي المبحث الثاني: تناولت حكم بيع أجزاء الميتة كأثر من الآثار المهمة لحكم بيع

الميتة ذاتها، ومن هذه الأجزاء العظم، والجلد، والشعر، والوبر، والصوف؛ وبينت أن الراجح بشأن بيع عظم الميتة هو الجواز، وهذا ما ذهب إليه الحنفية بناءً على ما ترجح من قولهم بطهارة عظام الميتة وأنه لا مانع من اعتبار عظم الميتة، محلاً للتصرفات المالية، ومنها البيع، والاتجار فيه، تحقيقاً لمنافع العباد، ومراعاة لمصالحهم باستثناء عظم الخنْزير الذي شمله الحكم الأصلي وهو منع البيع، وأما بالنسبة لعظم الفيل فقد رجحت منع بيعه كذلك، لأنه أقرب ما يكون في نجاسته للخنْزير، وأن المعنى القائم عليه استثناء الخنْزير موجود ومتحقق في الفيل. وبالنسبة لبيع جلد الميتة: فقد توصلت إلى ترجيح القول الذي يرى طهارة جلد الميتة بالدباغ، ما عدا جلد الكلب والخنْزير فإن الدبغ لا يؤثر في إزالة نجاستهما لنجاسة عينهما، وعليه رجحت القول بصحة وجواز بيع جلد الميتة بعد دبغه سوى ما استثنى من الكلب والخنْزير. أما بالنسبة لشعر الميتة: فقد رجحت القول بجواز بيع شعر الميتة وصوفها وريشها ونحو ذلك، بناء على القول بطهارة هذه الأشياء، باستثناء شعر الخنْزير فلا يجوز بيعه لنجاسة عينه، وأن القول بجواز بيع شعر الميتة وصوفها وريشها ونحو ذلك يتلائم مع مقاصد الشريعة الإسلامية من تحقيق مصالح العباد، لأن هذه الأشياء غالباً ما تدخل في الصناعات المتعددة والتي يتحقق منها النفع العظيم للعباد والذي يعد هدفاً أسمى من تشريع الأحكام للعباد. والفصل الثاني: في بيع الدم وتناولت في المبحث الأول منه: تعريف الدم المسفوح، وحكم الدم عند الفقهاء، وأن حكم الدم المسفوح هو تحريم تناوله كثيراً كان أو قليلاً، وأن هذا محل اتفاق لدى الفقهاء بسبب ما يحمله هذا الدم من الرطوبات النجسة، وأن اللحم لا يطيب إلاَّ بخروجه، وأن هذا الحكم شامل لكل من مأكول اللحم وغيره وذلك لنجاسة الدم المسفوح. وفي المبحث الثاني: تناولت حكم بيع الدم المسفوح، وبينت أن الاتفاق بين جميع

الفقهاء على حرمة بيع الدم المسفوح، وذلك لنجاسته، وعدم إمكان الانتفاع به، وذلك تأسيساً على أن ما حرمه الله علينا لا يجوز بيعه ولا يجوز الانتفاع به بأي وجه من الوجوه. وتناولت في المبحث الثالث: خلاصة ما قاله الفقهاء بشأن بيع الدم، وبينت حكم بعض الدماء التي لا يمكن الاحتراز منها كالدم المتبقى على العروق وما بين العظام وما اختلط باللحم، ورجحت ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أنه لا بأس من تناوله مع اللحم بسبب عدم إمكان التحرز منه، ثم أوضحت حكم الكبد والطحال من حيث التناول والبيع، وتوصلت إلى أن حكمها هو إباحة الاستعمال وجواز البيع، وبينت حكم بيع دم السمك، وأوضحت أنه على الجواز بناء على إمكان تناوله وأنه لا يمكن التحرز عنه وفي الفصل الثالث: تناولت حكم الشرع بالنسبة لبيع فضلات الإنسان والحيوان. وفي المبحث الأول: أوضحت حكم المني، وحكم بيعه، ورجحت القول بطهارة المني بناءً على أنه يعد أصل خلق الإنسان، وأنه لو كان نجساً لكان ذلك مخالفة لمبدأ تكريم الآدمي، وللزم نجاسة جسد الإنسان لأن ما تكون من نجس فهو نجس، ومع أنه طاهر إلاَّ أنه يمتنع بيعه وتداوله سداً لباب اختلاط الأنساب. وفي المبحث الثاني: تناولت حكم أرواث الحيوانات، وحكم بيعها، وقد رجحت ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من القول بنجاسة أرواث البهائم وما في حكمها، وأنه يحل التداوي بأبوال الحيوانات إذا لم يوجد طاهر يقوم مقامها في التداوي به، ووصفها للمريض طبيب مسلم، عدل، ثقة، حاذق بمهنة الطب، وخلصت إلى عدم جواز بيع العذرة بناءً على نجاستها، وأنه لا توجد ضرورة للانتفاع بها عند عامة الناس، وأنها إذا كانت مخلوطة بغيرها من نحو تراب وغيره فالحكم للغالب من هذا المخلوط. أما بالنسبة للسرقين فقد توصلت إلى صحة بيعها رغم نجاستها، وذلك لماليتها، وإمكان الانتفاع بها في إخصاب الأرض وتحسين التربة. وفي الفصل الرابع: أوضحت حكم بيع الكلب والخنْزير.

وتناولت في المبحث الأول: حكم الكلب وحكم بيعه، ورجحت القول بنجاسة الكلب، وأنه مثل الخنْزير نجاسته عينية، أما بالنسبة لبيعه فقد توصلت إلى عدم جواز بيع الكلب لما رءاه جمهور الفقهاء سوى الحنفية، وذلك لنجاسة عين الكلب باستثناء كلب الصيد والحراسة وغيرهما من الكلاب المدربة فإنه يجوز بيعهما، لما في ذلك من مصالح للعباد. وتناولت في المبحث الثاني: حكم الخنْزير، وحكم بيعه، وبيع شعره، وأوضحت أن الراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من القول بنجاسة عين الخنْزير، وأنه رجس، وذلك لأن هذا الحكم متفق مع طبيعة الأمور لأن النفس البشرية تعاف الخنْزير وتستقذره، وأن الراجح تبعاً لهذا ما أجمع عليه أهل العلم وعامة الفقهاء من القول بمنع بيع الخنْزير، بصرف النظر عن التعبير عن ذلك المنع، وبالنسبة لشعر الخنْزير فقد ترجح أيضاً القول بمنع بيعه، لنجاسته، أو لعدم ماليته، وإهانته، وأنه لا ضرورة في استعماله وذلك لوجود البدائل الكثيرة وهي أفضل وأمتن منه. وتناولت في الفصل الخامس: حكم الخمر، وبيعها، فتعرضت لتعريفها في تمهيد، وأوضحت أن إطلاق اسم الخمر عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إطلاق أوسع مما عليه الحال عند الحنفية الذين قصروا مسمى الخمر على المعتصر من العنب النيئ الذي غلا واشتد وقذف بالزبد فقط بخلاف غيره من سائر الأنبذة. وفي المبحث الأول: تناولت حكمة تحريم الخمر، وأنها أم الخبائث بسبب إفسادها للعقول، ولصدها عن ذكر الله سبحانه، وعن الصلاة، فضلاً عن إيقاعها للعداوة بين الناس، وأنها رجس من عمل الشيطان، وأنها أداة لتلاعب الشيطان بالناس من أجل هذا حرمت الشريعة الإسلامية الخمر من أجل إسعاد البشرية وحمايتها من شرورها وأذاها. وفي المبحث الثاني: أوضحت حكم الخمر من حيث نجاستها أو اعتبارها طاهرة، وعرضت لآراء الفقهاء في هذا الشأن، ورجحت ما ذهب إليه الجمهور من القول بنجاسة الخمر لقوة ما استدلوا به.

وفي المبحث الثالث: تناولت حكم التداوي بالخمر، وحكم بيعها، وانتهيت إلى رجحان القول بتحريم التداوي بالخمر، للنص على هذا، ولأنها رجس وأن الناس مأمورون باجتنابها، وهذا هو الأصل في المسألة. غير أنه إذا حصل اليقين أو غلبة الظن بأنه لا يمكن إنقاذ الحياة إلاَّ بهذا الدواء المحرم، مع التيقن بأن هذا الدواء الحرام يعد منقذاً للحياة عادة، فإنه لا مانع من التداوي به على هذا النحو بهذه الضوابط، أما بالنسبة لبيع الخمر فالراجح القول بحرمة بيع الخمر وجميع التصرفات الأخرى بشأنها، وأن هذا يسري بطبيعة الحال على جميع الأشربة المحرمة الأخرى كالنبيذ، ونقيع الزبيب، ونحو ذلك. أما الفصل السادس: فقد تناولت فيه حكم بيع المتنجسات، والانتفاع بها، وأوضحت أن الراجح هو القول بجواز بيع الأدهان المتنجسة والانتفاع بها بناء على ما فيها من بعض المنافع التي تقوم بالمال، بشرط أن يعلم البائع المشتري بتنجيسه حتى يكون على بينة منه. أما الباب الثاني: والمخصص لحكم الشرع في بيع ما نهى الشارع عن الانتفاع به، وقد اشتمل على ستة فصول تناولت فيها حكم بيع أواني الذهب والفضة، وبيع الأصنام والصور، وبيع آلات اللهو، وبيع المخدرات والمفترات، وبيع الإنسان الحر وأجزائه، وبيع الأشياء المحرمة لقدسيتها. ففي الفصل الأول: تناولت بيع أواني الذهب والفضة. وفي المبحث الأول: أوضحت حكم بيع أواني الذهب والفضة، ورجحت ما ذهب إليه جمهور الفقهاء القائلون بحرمة استعمال الرجال والنساء ما اتخذ من الذهب والفضة في غير التحلي والتزين، وذلك لقوة ما استدلوا به، ولما في استعمالها من السرف والفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء، ورجحت القول بعدم صحة بيع أواني الذهب والفضة مطلقاً على نحو ما ذهب إليه الجمهور، وذلك تأسيساً على ما ترجح من القول بحرمة الاتخاذ والاستعمال لهذه في الأكل والشرب ونحو ذلك. وفي المبحث الثاني: تناولت حكم المضبب بالذهب والفضة، وأوضحت أن

الراجح هو القول بتحريم استعمال الأواني والآلات وغيرها المضببة بالذهب مطلقاً، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، وهذا ما ذهب إليه المالكية والشافعية وجمهور الحنابلة، لأنه لا حاجة إلى اتخاذ هذه الضبة من الذهب إذ يمكن اتخاذها من معدن آخر فتندفع الحاجة به، وعليه فقد رجحت منع بيع المضبب بالذهب، لقوة ما تمسك به أنصار هذا القول، ولأنه يؤدي إلى كسر قلوب الفقراء بتداول هذه الأواني على هيئة تضبيبها بالذهب، أما المضبب بالفضة فقد رجحت إباحة استعماله إذا كانت الضبة صغيرة، ودعت الحاجة إليها، ولا سرف فيها ولا خيلاء، ولأن الحكم يكون للأصل وهو المتبوع دون التابع وهو الضبة، أما بالنسبة لاستعمال المموه بالذهب أو الفضة فقد رجحت حل هذا الاستعمال استناداً لقول جمهور الفقهاء، وترتيباً على هذا رجحت القول بجواز بيع المموه بالذهب أو الفضة باعتبار أن قدر التمويه يسير ولا أثر له، كما أن المتفق عليه لدى عامة الفقهاء هو القول بتحريم تحلي الرجال بالذهب، وأنه إذا كان الذهب يصاغ ليلبسه الرجال خاصة فإنه يحرم لبسه، ويحرم بيعه، كالخواتم الذهبية الخاصة بالرجال المعروفة عند الصاغة، وأن هذا الحكم يشمل الساعة المصنوعة من الذهب، أما الخاتم والساعة المموهان بقليل الذهب فلا بأس من استعمالهما وبيعهما تبعاً لهذا، أما بالنسبة لاتخاذ السن والشريط الذي يربطها، والأنملة، والأذن، ونحو ذلك من الذهب فالراجح الجواز، طالما أن الضرورة أو الحاجة ماسة لهذا الاتخاذ، وأشار به طبيب مسلم عدل ثقة حاذق، ولم يترتب على اتخاذها حدوث الضرر بالمريض، وأن جواز استعمال واتخاذ هذه الأجزاء من الذهب والفضة يترتب عليه نفع، فإنه لا مانع من تداولها بالبيع إعمالاً للضرورة، ودفعاً للضرر عن العباد. وفي الفصل الثاني: تناولت بيع الأصنام والصور وبينت في المبحث الأول: الحكم الشرعي للصور بأنواعها، فبينت حكم الصور المجسمة، وهي التي تعرف بالتماثيل، والتي تعتبر من مظاهر الترف والتنعم يزين بها أرباب الترف بيوتهم وقصورهم، ورجحت تحريم الصور المجسمة لذي الروح كالإنسان والحيوان، لأنها تشتمل على المضاهاة لخلق الله سبحانه، وخلصت إلى منع

بيعها وشرائها، أما بالنسبة لتصوير غير ذي الروح كالشجر والنبات والشمس ونحوها فقد رجحت القول بجواز هذا النوع من التصوير وما يترتب عليه من جواز بيع هذه الصور، أما بالنسبة للصور الفوتوغرافية فالراجح هو القول بإباحتها وجواز هذا التصوير، للحاجة الماسة إليه في الوقت الحاضر، ولتحقيقه لمصالح العامة، وعليه خلصت إلى القول بإباحة بيع مثل هذه الصور وبيع الآلات المستخدمة لهذا الغرض، رفعاً للحرج عن الناس، وتحقيقاً لمصالحهم بمراعاة عدم اشتمال موضوع الصورة على محرم، كتقديس صاحبه تقديساً دينياً، أو تعظيمه تعظيماً دنيوياً، خاصة إذا كان المعظم من أهل الكفر والفسوق، كما رجحت القول بجواز بيع لعب الأطفال وهي المصنوعة من العهن والرقاع والخرق. وفي الفصل الثالث: تناولت بيع آلات اللهو، وذكرت أن الآت اللهو تتنوع إلى نوعين، نوع يستعمل في الغناء، مثل المعازف، والمزامير، والنايات، ونحوها، ونوع لا يستعمل في الغناء وإنما يتخذ في اللهو والقمار، مثل النرد، والشطرنج. وفي المبحث الأول: أوضحت حكم الشرع في الغناء المجرد عن الآلة وانتهيت إلى ترجيح القول بتحريم الاستماع للغناء لأنه من لهو الحديث، أما الغناء المصحوب بالآلة فإن الاستماع إليه محرم تبعاً لهذا، وقد وجدت الحنفية يعتبرون الاستماع لصوت الملاهي معصية، وأن الجلوس والحضور في مجالسها فسق، حتى إنهم قالوا: بأنه يجب على الإنسان أن لا يحضر مجلس الغناء، وإن حضر عليه الخروج، وإن دعى لا تجب عليه الإجابة، وقد رجحت منع بيع آلات اللهو كالمعازف ونحوها لأنها تشغل القلب، وتلهي الإنسان وتصده عن ذكر الله سبحانه، غير أن هذه الآلات إن تغيرت حالتها ولم تستعمل فيما حرمت من أجله، بأن كانت أجزاء ً فقط لا يمكن استعمالها في المحرم، وهي ما تعرف بالرضاض فلا بأس ببيعها، أي بيع جواهرها وأصولها فضة كانت أو حديداً أو خشباً ويستفاد بثمنها فيما يباح، وبالنسبة لبيع الأشرطة المسجل عليها الغناء المجرد من الآلة وبدون صورة، وكذا المسلسلات التي تعالج مسائل دينية أو اجتماعية أو تاريخية وتدعو إلى الفضيلة فإن الراجح بشأنها هو جواز بيعها، بخلاف الأشرطة

المسجل عليها الغناء المصحوب بالآلة، وكذا الأفلام السينمائية المحتوية على الصوت والصورة، فإن الراجح بشأنها منع بيعها سداً لباب الرذيلة والصد عن ذكر الله. وفي المبحث الثاني: أوضحت حكم النرد، وحكم بيعه، وانتهيت إلى أن الراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن اللعب بالنرد محرم شرعاً، لأنه يؤدي إلى التخاصم والتباغض والتشاحن والفتن، بدون غاية أو هدف أو نتيجة مرجوه منه سوى الشر والعواقب الوخيمة التي نهانا عنها الإسلام، فضلاً عن أنه مبني على التخمين، وفيه تضييع للوقت والعمر بدون فائدة تعود على المسلم لا في دينه ولا في دنياه، وبالنسبة لبيعه فقد ترجح تبعاً لهذا منع بيع النرد دفعاً لشيوع الرذيلة والفساد وانشغال الناس عن ذكر الله. وفي المبحث الثالث: تناولت حكم الشطرنج، وحكم بيعه، وذكرت أن الاتفاق حاصل بين الفقهاء على تحريم الشطرنج إن كان اللعب به على وجه التقامر، وأن الراجح هو القول بحرمته كذلك وإن كان على غير قمار، لأنه يفضي إلى محرم كتأخير الصلاة والتلفظ بكلام فاحش أو إثارة عداوة أو بغضاء أو دوام عليه. أما بالنسبة لبيعه فالراجح هو منع بيع الشطرنج، لأن هذا هو الأحوط والأسلم في الدين، وهذا الحكم يسري كذلك بشأن ما سوى النرد والشطرنج من الألعاب الملهية المنتشرة في زماننا كورق اللعب المعروف بالكوتشينة ونحوها. وتناولت في الفصل الرابع: بيع المخدرات والمفترات، ومهدت لهذا بتعريف المخدر والمفتر في اللغة وفي عرف الشرع. وانتهيت في المبحث الأول: إلى أن التخدير قائم على عدم تحقق الشدة المطربة أو الباعثة على السرور والبهجة والانتشاء وهو يختلف عن الخمر، فكان التعريف المحقق لهذه المعاني: أن التخدير هو تغشية العقل من غير شدة مطربة، وذكرت أن المخدرات تتنوع بحسب اعتبارات مختلفة، وأن كل هذه الأنواع في النهاية تتفق في الوصف وهي كونها مخدراً وبالتالي تتفق في حكمها الشرعي، ثم تعرضت لآراء الفقهاء بالنسبة لتعريف المفتر وبينت أن عباراتهم قد اختلفت في هذا غير أن المعنى فيها متقارب، وقد

انتهيت إلى أن المفتر هو كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف، سواء كان ذلك بسبب تناول الحشيش أو الأفيون وغيرهما. هذا: ومن الجدير بالتنبيه عليه في هذه الخلاصة هو أن المخدرات والمفترات يتفرع حكمهما من حيث التناول والبيع وخلافه على حكم الخمر، فالمخدرات ترتبط بالخمر بكون كل منهما محرماً، وبعلة هذا التحريم وهي الإسكار، وما يترتب على تعاطيهما من ضرر بإذهاب العقل وإفساده، وترتبط كذلك بالخمر في كونها نجسة على قول من قال بنجاستها من العلماء. وفي المبحث الثاني: تناولت حكم بيع المخدرات، ورجحت منع بيعها لقوة أدلة هذا القول، وسداً لذريعة تداولها بين الناس لما فيها من أضرار وفتن لا تقل عن الخمر، وأوضحت أن تحريم المخدرات ومنع بيعها كان بالتخريج على حكم الخمر المحرمة شرعاً عند من لم ينص صراحة على تحريمها باعتبارها من الأمور المستحدثة، فالفقهاء قد خرجوا حكم بيع المخدرات على حكم بيع الخمر المحرمة أو للنص على تحريم المخدرات كما هو الحال عند الشافعية. وفي المبحث الثالث: تناولت حكم المفترات، وانتهيت إلى القول بحرمة بيعها بناء على ما استقر لدى الفقهاء من أن ما حرم تناوله حرم بيعه، وامتنع تبعاً لذلك أن يكون محلاً للتعاقد، ولهذا حرمت جميع المفترات تخريجاً وقياساً على حرمة تناول وبيع المسكرات من خمر ومخدرات ونحوها، وذلك لتحقق ذات العلة المقرر من أجلها تحريم الخمر بأصل النص على ذلك، ثم بينت حكم الدخان كأثر للأحكام السابقة، ورجحت القول بحرمة بيع الدخان، وحرمة زراعته، وصناعته، لأنه يسبب الضرر للإنسان في صحته وماله، ولأنه من الخبائث، ولأن المدخن يؤذي غيره، فضلاً عن أن الطب الحديث قد أثبت أن الدخان سبب في الأضرار بصحة الإنسان. أما الفصل الخامس: فقد تعرضت فيه لحكم الشرع في بيع الإنسان الحر، وحكم بيع أجزائه، ومهدت ببيان ما تقرر من تكريم الإنسان وصونه عن الابتذال والإهانة ونحو ذلك

وفي المبحث الأول: أوضحت حكم بيع الإنسان الحر، وان هذا محرم على الإطلاق، فالاتفاق قائم على حرمة جسد الإنسان الحي وحمايته، وكذا الميت على السواء. وفي المبحث الثاني: تعرضت لمسألة لها علاقة وثيقة بالمساس بجسد الإنسان، وهي حكم نقل وبيع بعض أجزاء الإنسان الحر، وتكلمت عن حكم نقل أعضاء الإنسان وترجح لدي جواز نقل الأعضاء من الحي والميت، غير أن هذا مشروط بشروط مهمة تجب مراعاتها والتأكد من توافرها، ثم بينت حكم بيع أجزاء الإنسان فتناولت حكم بيع الدم، وأوضحت أن الأصل المقرر شرعاً هو منع بيع الدم للنهي عنه الوارد مع الميتة والخمر، فلا يجوز بيع دم الإنسان بإعتبار أنه جزء من الإنسان، وأنه محرم بتحريم أصله وهو ذات الإنسان، وخروجاً على هذا الأصل فإنه لا مانع من التبرع بالدم في حالة الضرورة ولإسعاف مريض وإنقاذ المصابين في الحرب طالما كان ذلك بدون مقابل، ثم انتقلت لبيان حكم بيع اللبن وأوضحت أن إجماع أهل العلم على أن لبن الآدميات باعتباره جزءاً منفصلاً عن جسم الآدمي فإنه يمكن الإنتفاع به في الشرع، وأنه رغم هذا فقد اختلف الفقهاء بشأن تعلق العقود خاصة البيع بلبن الآدميات، وسبب هذا الاختلاف أنهم لم يتفقوا على تحديد طبيعة لبن الآدمي، واختلفوا حول جواز الانتفاع به وهل هو جواز مطلق، أم أنه مقرر في حالة الضرورة فقط، رغم اتفاقهم على جواز الانتفاع بلبن الآدميات عن طريق إجارة الظئر، وهي وسيلة عقدية تعني أن المرأة تستطيع أن تلزم نفسها بإرضاع طفل لا تلتزم شرعاً بإرضاعه وذلك في نظير حصولها على أجر، وخلصت إلى عدم جواز بيع لبن الآدميات باعتبار أن الآدمي مكرم وليس محلاً للإهانة والإبتذال بالبيع، وأن الآدمي الحر ليس محلاً للبيع فكذا أجزاؤه ومنها اللبن؛ وبالنسبة لبيع شعر الآدمي الحر والانتفاع به فقد استبان لنا أن عامة الفقهاء لم يتعرضوا صراحة لهذه المسألة مكتفين ببيان حكم الشرع في مدى طهارته والانتفاع به من عدمه، وقد خرجت حكم البيع على هذا كما أنه قد استقر الرأي على عدم جواز بيع شعر الآدمي الحر تحقيقاً لمبدأ صيانة جسده وعدم ابتذاله

وإهانته. أما الفصل السادس والأخير من الباب الثاني: تناولت فيه حكم الشرع في بيع الأشياء المحرمة لقدسيتها. وفي المبحث الأول: أوضحت حكم بيع المصحف ورجحت جواز ذلك تحقيقاً للنفع العظيم بين المسلمين، لأن المبيع ليس هو كلام الله وإنما هو نظير طبعه من حبر وورق وتجليد. وفي المبحث الثاني: بينت حكم بيع المصحف للكافر، ورجحت عدم جواز ذلك البيع صوناً وحفظاً للمصحف من المهانة والابتذال. أما المبحث الثالث: فقد أوضحت فيه حكم بيع أراضي مكة، وقد رجحت جواز ذلك البيع. وبعد: فهذه خلاصة موجزة لمحتوى الرسالة، عرَّجت فيها على جميع ما تناولته، عرضاً ومناقشةً وترجيحاً في حالة الخلاف والله سبحانه وتعالى أعلم. وأسال الله أن يكون هذا العمل في سجل حسناتي يوم العرض، إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

الخلاصة البيع مبادلة مال بمال وأركانه هي البائع والمشتري والمبيع والثمن والصيغة "الإيجاب والقبول" ويشترط لصحة البيع أن يكون المبيع مالاً وأن يكون معلوماً للعاقدين موجوداً وقت العقد، والأعيان المحرمة هي الأعيان التي يمتنع بيعها إما لكونها نجسة العين أو متنجسة أو لأن في بيعها مظنة المفسدة أو لكرامتها وقدسيتها. فالأعيان المحرم بيعها لنجاسة عينها هي الميتة والدم والخنزير والكلب والخمر وفضلات الآدمي وأرواث الحيوانات. الميتة هي ما مات حتف أنفه أو لم يذكي ذكاة شرعية اجمع الفقهاء على حرمة بيعها، ويجوز بيع جلد الميتة بعد دبغه وكذا عظمها وشعرها، وصوفها ووبرها. أما الدم المسفوح وهو المراق الجاري بعد موجب خروجه فمجمع على عدم بيعه أما الدم العالق بالعروق والمختلط باللحم بعد التذكية فالراجح أنه لا باس من تناوله مع اللحم لعدم إمكان التحرز منه. أما الخنزير فنجس العين لا يجوز بيعه ولا بيع كافة أجزاؤه من عظم وجلد وشعر. أما الكلب فقد اختلف الفقهاء بشأن بيعه والراجح ما ذهب إليه الجمهور من منع بيعه باستثناء كلب الحراسة والصيد والكلاب المدربة ونحوها. أما الخمر فهي كل ما خامر العقل بالإسكار سواء أكان قليلاً أم كثيراً وسواء أكان من العنب أو من غيره فيحرم بيعها. أما بالنسبة لفضلات الإنسان وأرواث الحيوانات، فالعذرة يحرم بيعها خالصة وجوز البعض بيعها مخلوطة بالتراب ونحوه بشرط أن يكون ما خلط بها هو الغالب.

أما السرقين فالراجح جواز بيعه للانتفاع به في خصوبة الأرض. أما الأعيان المحرم بيعها لاتصال النجاسة بها وهي ما تسمى بالمتنجسات كالأدهان المتنجسة ونحوها فقد اختلف الفقهاء بشأن بيعها فالراجح جواز بيعها لما فيها من المنافع كالاستصباح بها. أما الأعيان المحرم بيعها لغلبة المفسدة فيها مثل أواني الذهب والفضة والأصنام والصور وآلات اللهو والمخدرات والمفترات، فيحرم بيعها ويحرم كذلك بيع الخاتم والساعة المعدين من الذهب للرجال، أما ما ضبب بالفضة فالراجح إباحة بيعه وكذا المموه بالذهب والفضة والخاتم والساعة المخلوطين بالذهب وإن لم يكن المخلوط غالباً. أما بالنسبة للتصوير المجسم وهو ما يعرف بالأصنام والتماثيل وإذا كان لذات روح كالإنسان فقد رجحت تحريمه وتحريم بيعه، أما التصوير المسطح وتصوير غير ذي الروح والصور الفوتوغرافية فيصح ويصح بيعه سداً لحاجة الناس. أما بالنسبة لآلات اللهو التي يتلهى بها كالمعازف والمزامير والنايات أو التي تتخذ في القمار مثل النرد والشطرنج فيحرم بيعها. أما المخدرات وهي ما غير العقل والحواس دون أن يصحب ذلك نشوة أو سرور والمفترات وهي كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف فيحرم بيعها كذلك. أما الأعيان المحرمة لكرامتها وقدسيتها كالإنسان وأجزائه والمصحف وأرض مكة المكرمة، فالإنسان مكرم والإسلام حريص على صيانته من الإهانة والابتذال فيحرم بيعه وبيع جميع أجزاؤه. أما المصحف فلا يجوز بيعه لكافر، أما أرض مكة المكرمة ورباعها فيجوز بيعها.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع

أولاً: القرآن الكريم ثانياً: التفسير وعلوم القرآن 1 - أحكام القرآن لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفي سنة 370هـ دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان 1414هـ. 2 - أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي المتوفي سنة 543هـ دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان. 3 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي مطبعة المدني - القاهرة. 4 - أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير أبي بكر جابر الجزائري مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة الطبعة الثالثة 1418هـ - 1997 م. 5 - التحرير والتنوير الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس. 6 - تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل أي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة 310 ? دار القلم بد مشق الطبعة الأولى 1418هـ - 1999 م. 7 - تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار للسيد الإمام محمد رشيد رضا المتوفي سنة 1935 م دار الكتب العلمية الطبعة الأولى. سنة 1420هـ - 1999 م. 8 - تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء إسماعيل ابن كثير المتوفي سنة 774هـ مطبعة المشهد الحسيني بمصر. 9 - تفسير آيات الأحكام لمحمد على السايس دار ابن كثير دمشق - الطبعة الثالثة 1420هـ - 1999 م. 10 - الجامع لأحكام القرآن لأبي بكر عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفي سنة 671 ? دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الخامسة 1417هـ - 1996 م. 11 - روائع البيان تفسير آيات الأحكام لمحمد علي الصابوني المتوفى سنة 1250هـ مكتبة الغزالي - دمشق - سوريا الطبعة الثالثة 1400هـ - 1980 م.

12 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية لمحمد علي الشوكاني المتوفي سنة 1250 هـ شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر الطبعة الثانية 1383? - 1964م. 13 - في ظلال القرآن سيد قطب المتوفي سنة 1387 هـ دار الشروق – بيروت الطبعة التاسعة 1400 ? - 1980 م. 14 - فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير التذير محمد بن عبد الرؤف المناوي المتوفي سنة 1013 ? دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة الأولى 1415 ? - 1994 م. ثالثاً: كتب الحديث والآثار 15 - تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري المتوفي سنة 1353 هـ نشر دار الكتاب العربي. 16 - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير للحافظ الإمام أبي الفضل شهاب الدين ابن أحمد بن علي العسقلاني المتوفي سنة 852هـ دار المعرفة بيروت – لبنان. 17 - تهذيب التهذيب للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني المتوفي سنة 852هـ طبعة دار المعارف النظامية بالهند الطبعة الأولى سنة 1327هـ. 18 - جامع الأصول في أحاديث الرسول لمجد الدين ابن الأثير الجزري المتوفي سنة 606هـ نشر وتوزيع مطبعة الملاح أو مكتبة دار البيان 1389هـ - 1969 م. 19 - سبل السلام شرح بلوغ المرام للإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفي سنة 1182هـ مطبعة مصطفي البابي الحلبي وأولاده الطبعة الرابعة 1379هـ - 1960 م. 20 - سنن ابن ماجه لأبي عبد الله محمد القزويني المتوفي سنة 275هـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي دار الريان للتراث. 21 - سنن أبي داود للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث المتوفي سنة 275هـ طبعة دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع 1419هـ - 1998 م.

22 - سنن الترمذي الجامع الصحيح للإمام أبي عيسى محمد الترمذي المتوفي سنة 279 هـ طبعة دار أحياء الكتب العربية. 23 - سنن الدارقطني للإمام الحافظ علي بن عمر الدار قطبي المتوفي سنة 385 هـ دار الكتب العلمية الطبعة الأولى سنة 1417هـ - 1996م. 24 - السنن الكبري للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي المتوفي سنة 458 هـ تحقيق محمد عبد القادر عطا دار الكتب العلمية الطبعة الأولى سنة 1420هـ - 1999م. 25 - سنن النسائي للحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفي سنة 303 هـ مطبعة البابي الحلبي – بمصر 1384 هـ - 1965 م. 26 - شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك لمحمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري المتوفي سنة1122هـ دار الكتب العلمية 1411 هـ - 1990 م. 27 - صحيح الإمام البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري المتوفي سنة 256 هـ طبعة المكتبة الإسلامية – اسطنبول تركيا 1981 م. 28 - صحيح مسلم بشرح النووي للإمام يحي بن شرف النووي المتوفي سنة 676 هـ المطبعة المصرية ومكتبتها. 29 - عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للإمام الحافظ ابن العربي المالكي المتوفي سنة 543 هـ طبعة دار الفكر 1415هـ - 1995م. 30 - عمدة القارئ شرح صحيح البخاري لأبي محمد محمود بن أحمد العيني المتوفي سنة 855 هـ نشر دار أحياء التراث العربي – بيروت. 31 - عون المعبود شرح سنن أبي داود للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي مع شرح الحافظ شمس الدين بن القيم الجوزية دار الكتب العلمية – بيروت 1419هـ - 1998م.

32 - فتح البارى شرح صحيح البخاري للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفي سنة 852 هـ دار الريان للتراث – الطبعة الأولي 1407 هـ - 1986م تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. 33 - مسند الإمام أحمد للإمام أحمد بن حنبل المتوفي سنة 241هـ دار الفكر للطباعة والنشر. 34 - معالم السنن شرح سنن أبي داود للإمام أبي سليمان حمد محمد الخطابي البُستي المتوفي سنة 388 هـ دار الكتب العلمية بيروت – لبنان 1416هـ- 1996م. 35 - موطأ الإمام مالك للإمام مالك ابن أنس المتوفي سنة 179 هـ دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الثانية1420 هـ - 1999 م. 36 - النهاية في غريب الحديث والأثر للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد ابن الأثير الجزري المتوفي سنة 606 هـ دار الكتب العلمية 1418هـ1997م. 37 - نيل الأوطار شرح منتقي الأخبار للإمام محمد بن علي الشوكاني المتوفي سنة 1255? دار الفكر للطباعة والنشر 1400هـ 1980م. رابعاً: كتب الفقه "أ" الفقه الحنفي 38 - الاختيار لتعليل المختار لعبد الله محمود بن مودون الموصلي الحنفي المتوفى سنة 683 هـ دار المعرفة – بيروت – لبنان. 39 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق للعلامة زين الدين بن إبراهيم بن محمد المعروف بإبن نجيم المصري الحنفي المتوفي سنة 970 هـ دار الكتب العلمية بيروت – لبنان 1418 هـ- 1997م. 40 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي الملقب بملك العلماء المتوفي سنة 587هـ دار الكتب العلمية 1406 هـ - 1986 م.

41 - البناية شرح الهداية محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد الحسين المعروف ببدر الدين العيني الحنفي المتوفي سنة 855 هـ دار الكتب العلمية بيروت – لبنان 1420 هـ - 2000م. 42 - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي المتوفي سنة 742 هـ الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1313 هـ. 43 - حاشية الشلبي على تبين الحقائق لشهاب الدين أحمد الشلبي الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق سنة 1313 هـ. 44 - حاشية رد المختار على الدر المختار المعروفة بحاشية ابن عابدين، لمحمد أمين بن عمر عابدين الشهير بابن عابدين المتوفي سنة 1252 هـ. دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1420 هـ - 2000 م. 45 - الدر المختار شرح تنوير الأبصار محمد بن علي الحصني المعروف بالعلاء الحصكفي المتوفي سنة 1088 هـ دار الفكر – 1979 م. 46 - الدر المنتقى شرح الملتقى محمد بن علي الحصني المعروف بالعلاء الحصكفي المتوفي سنة 1088 هـ دار الكتب العلمية بيروت – لبنان 1419 هـ - 1998م. 47 - شرح العناية على الهداية أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي المتوفي سنة 786 م طبعة دار الفكر بيروت لبنان الطبعة الثانية 1970م. 48 - شرح فتح القدير للإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد السّيواسي المعروف بإبن الهمام المتوفي سنة 861 هـ طبعة دار الفكر بيروت – لبنان الطبعة الثانية. 49 - الفتاوى الهندية للشيخ نظام وجماعة من كبار العلماء علماء الهند دار أحياء التراث العربي للنشر والتوزيع الطبعة الرابعة. 50 - اللباب شرح الكتاب لعبد الغني بن طالب الغنيمي الميداني المتوفي سنة 1298 هـ طبعة دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1418 هـ - 1998 م. 51 - المبسوط للإمام محمد بن أحمد بن سهل السرخسي المتوفي سنة 483 هـ دار المعرفة بيروت الطبعة الثالثة 1398هـ - 1978م.

52 - مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر لعبد الرحمن بن محمد بن سليمان الكيبولي المعروف بشيخ زاده المتوفي سنة 1078 هـ دار الكتب العلمية بيروت – لبنان 1419 هـ - 1998م. 53 - الهداية شرح بداية المبتدي للإمام برهان الدين علي بن أبي بكر الميرغيناني المتوفي سنة 593 هـ طبعة دار الفكر بيروت – لبنان – الطبعة الثانية. "ب" الفقه المالكي 54 - الإشراف على نكت مسائل الخلاف القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي المتوفي سنة 422 هـ دار ابن حزم للطباعة والنشر بيروت – لبنان. 55 - أنوار البروق في أنواء الفروق للإمام أبي العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي المتوفي سنة 684 هـ دار الكتب العلمية – بيروت لبنان 1418 هـ - 1998م. 56 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المتوفي سنة 595 هـ شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر الطبعة الرابعة 1395 هـ - 1975 م. 57 - بلغة السالك لأقرب المسالك على الشرح الصغير للشيخ أحمد بن محمد الصاوي المالكي طبعة مصطفى الحلبي سنة 1952 هـ. 58 - التاج والأكليل شرح مختصر خليل لأبي عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري الشهير بالمواق المتوفي سنة 897هـ طبعة دار الفكر الطبعة الثالثة 1412 هـ. 59 - جواهر الأكليل شرح مختصرخليل للشيخ صالح عبد السميع الأبي الأزهري المطبعة العصرية – صيدا – بيروت الطبعة الأولى 1421 هـ - 2000 م. 60 - حاشية الخرشي على مختصر خليل وبهامشة حاشية العدوى محمد بن عبد الله الخرشي المالكي المتوفي سنة 1101 هـ، طبعة دار الكتب العلمية بيروت لبنان – الطبعة الأولى1417 هـ - 1997م.

61 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للشيخ محمد أحمد بن عرفة الدسوقي المتوفي سنة 1230 هـ طبعة دار الفكر للطباعة والنشر الطبعة الأولى1421 هـ - 2000 م. 62 - الذخيرة شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المتوفي سنة 684 هـ دار الغرب الإسلامي 1994 م. 63 - شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل وبها مشة حاشية الشيخ محمد البناني محمد عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المتوفي سنة 1122 هـ دار الفكر – بيروت 1398 هـ. 64 - شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك محمد عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري المتوفي سنة 1122 هـ دار الكتب العلمية 1411 هـ - 1990 م. 65 - الشرح الصغير على أقرب المسالك على مذهب الإمام مالك مع بلغة السالك طبعة مصطفى الحلبي محمد بن أحمد الدردير المتوفي سنة 1201هـ 66 - الشرح الكبير على مختصر الشيخ خليل مع حاشية الدسوقي محمد بن أحمد الدردير المتوفي سنة 1201هـ طبعة دار الفكر للطباعة والنشر الطبعة الأولى 1421 هـ - 2000 م. 67 - شرح المواق على مختصر خليل المسمى بالتاج والإكليل الشيخ أبي عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري الشهير بالمواق المتوفي سنة 897 هـ طبعة دار الفكر الطبعة الثالثة 1412 هـ. 68 - شرح منح الجليل على مختصر خليل للشيخ محمد عليش المتوفي سنة 1299 هـ طبعة مكتبة النجاح بليبيا. 69 - فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد عليش المتوفي سنة 1299 هـ دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت لبنان. 70 - قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية محمد بن أحمد بن جزى الكلبي المالكي المتوفي سنة 741 هـ، نشر دار العلم – بيروت 1974.

71 - الكافي في فقه أهل المدينة المالكي أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المتوفي سنة 463 هـ مكتبة الرياض الحديثة – الرياض البطحاء 1398 هـ - 1978 م. 72 - المدونة الكبرى التي رواها الإمام سحنون بن سعيد التنوخي عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم العتقي عن إمام دار الهجرة أبي عبد الله الإمام مالك بن أنس الأصبحي للإمام مالك بن أنس الأصبحي المتوفي سنة 179 هـ مطبعة السعادة بمصر 1323 هـ. 73 - المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعية والتحصيلات المحكمات الشرعيات لأمهات مسائلها المشكلات للإمام أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المتوفي سنة 520 هـ، مطبعة دار الغرب الإسلامي – بيروت لبنان 1408 هـ - 1988م. 74 - المنتقى شرح موطأ مالك القاضي أبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب الباجي المتوفي سنة 494 هـ دار الكتب العلمية – بيروت لبنان 1420 هـ - 1999م. 75 - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب المتوفي سنة 954 هـ دار الفكر الطبعة الثالثة 1412هـ - 1992م. "ج" الفقه الشافعي 76 - أسني المطالب شرح روض الطالب للإمام أبي زكريا الأنصاري المتوفي سنة 926 هـ طبعة المكتبة الإسلامية 1313 هـ. 77 - الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفي سنة 911 هـ - دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1403 هـ. 78 - الأم - دار المعرفة – للإمام أبي عبد الله محمد إدريس الشافعي المتوفي سنة 204 هـ بيروت لبنان 1393 هـ - 1973 م. 79 - تحفة المحتاج بشرح المنهاج للإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي المتوفي سنة 974 هـ دار الفكر – بيروت – لبنان.

80 - حاشية إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين للعلامة أبي بكر المشهور بالسيد البكري ابن السيد محمد شطا الدميطي المتوفي سنة 1360 هـ دار الفكر للطباعة 1418هـ - 1997م. 81 - حاشية الشرواني وابن القاسم على تحفة المحتاج بشرح المنهاج الشيخ عبد الحميد الشرواني، والشيخ أحمد بن القاسم العبادي دار الفكر بيروت – لبنان. 82 - حاشية قليوبي وعميره على شرح جلال الدين المحلى على منهاج الطالبين للنووي للإمامين شهاب الدين أحمد البرلسي الملقب بعميره المتوفي سنة 957 هـ وشهاب الدين أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي المصري المتوفي سنة 1069 هـ طبعة دار الفكر. 83 - الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي لأبي الحسن علي محمد بن حبيب الماوردي البصري المتوفي سنة 450 هـ دار الكتب العلمية 1419هـ - 1999م. 84 - حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء سيف الدين أبي بكر محمد أحمد الشاشي القفال طبعة مكتبة الرسالة الحديثة 1988 م. 85 - روضة الطالبين وعمدة المفتين لأبي زكريا يحي بن شرف النووي المتوفي سنة 676 هـ طبعة المكتب الإسلامي – الطبعة الثالثة 1412 هـ - 1991م. 86 - الزواجر عن اقتراف الكبائر أبي العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي الهيثمي المتوفي سنة 974 هـ دار المعرفة – بيروت – الطبعة الأولى 1419 هـ - 1998 م. 87 - فتح الوهاب بشرح منهاج الطلاب الإمام أبي يحي زكريا الأنصاري المتوفي سنة 925هـ دار إحياء الكتب العربية للبابي الحلبي بمصر. 88 - متن المنهاج مع مغني المحتاج للإمام أبي زكريا يحي بن شرف النووي المتوفي سنة 676 هـ دار الفكر – بيروت – لبنان 1415 هـ - 1995 م. 89 - المجموع شرح المهذب للأمام أبي زكريا محي الدين بن شرف النووي المتوفي سنة 676 هـ طبع مكتبة الأرشاد – جدة – المملكة العربية السعودية.

90 - مختصر المزني إسماعيل بن يحي المزني المتوفي سنة 264 هـ - دار المعرفة – بيروت – لبنان – 1373هـ - 1993 م. 91 - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشيخ شمس الدين محمد بن الخطيب الشربيني المتوفي سنة 972 هـ دار الفكر – بيرو ت – لبنان - 1415هـ 1995 م. 92 - المهذب في فقه الإمام الشافعي لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي الشيرازي المتوفي سنة 476هـ دار القلم للطباعة والنشر 1412 هـ - 1992 م. 93 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج في الفقه على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله شمس الدين محمد أبي العباس أحمد بن حمزة بن شهاب الرملي المصري الأنصاري الشهير بالشافعي المتوفي سنة 1004 هـ دارالكتب العلمية 1414هـ - 1993م. "د" الفقه الحنبلي 94 - الأسئلة والأجوبة الفقهية المقرونة بالأدلة الشرعية عبد العزيز المحمد السليمان - الطبعة الثانية 1979م. 95 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل علاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي السعدي الحنبلي المتوفي سنة 885 هـ دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان. 1418هـ - 1997م الطبعة الأولى. 96 - الإقناع لطالب الانتفاع لشرف الدين موسى بن أحمد أبو النجار المتوفي سنة 968هـ تحقيق الدكتور عبد الله التركي طبعة هجر 1997م. 97 - حاشية الروض المربع شرح زاد المستنقع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي رحمه الله المتوفي سنة 1392هـ مؤسسة فؤاد بعينو - بيروت – الطبعة التاسعة 1423هـ. 98 - الروض المربع شرح زاد المستقنع للعلامة الشيخ أبي السعادات منصور بن يونس البهوتي المتوفي سنة 1051 هـ دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع 1414هـ - 1993م.

99 - الشرح الممتع على زاد المستقنع للعلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين المتوفي سنة 1422 هـ دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1422 هـ. 100 - شرح منتهي الإرادات منصور بن يونس بن إدريس البهوتي المتوفي سنة 1051 هـ مكتبة نزار مصطفي الباز الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م. 101 - الفروع للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن مفلح المتوفي سنة 763 هـ - مطبعة عالم الكتب – بيروت – لبنان الطبعة الرابعة 1405هـ. 102 - الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل شيخ الإسلام أبي محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامه المتوفي سنة 620هـ دار الفكر 1412هـ - 1992م. 103 - كشاف القناع عن متن الإقناع منصور بن يونس بن إدريس البهوتي المتوفي سنة 1051 هـ مكتبة نزار مصطفي الباز الطبعة الثانية 1418هـ - 1997م. 104 - المبدع في شرح المقنع لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي المتوفي سنة 884هـ المكتب الإسلامي – بيروت 1399هـ. 105 - مجموعة الفتاوى جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية المتوفي سنة 728 هـ تصوير الطبعة الأولى بدار الكتب العربية للطباعة والنشر بلبنان 1398هـ. 106 - المحرر في الفقة على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الشيخ مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية المتوفي سنة 652 هـ - مطبعة السنة المحمدية 1950 م. 107 - المغني شرح الخرقي مع الشرح الكبير للإمام أبي محمد عبد الله أحمد بن محمد بن قدامه المقدسي المتوفي سنة 620 هـ مطبعة المنار بمصر سنة 1345هـ الطبعة الأولى. 108 - المغني على مختصر أبي القاسم عمر بن حسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي للإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن قدامه المقدسي المتوفي سنة 620 هـ مكتبة الرياض الحديثة 1401هـ - 1981م.

109 - المقنع للإمام أبي محمد عبد الله أحمد بن محمد بن قدامه المقدسي المتوفي سنة 620 هـ - مكتبة الرياض الحديثة 1400هـ - 1980م. 110 - نيل المآرب بشرح دليل الطالب عبد القادر بن عمر الشيباني الشهير بابن أبي تغلب المتوفي سنة 1135 هـ تحقيق محمد سليمان الأشقر مكتبة الفلاح 1983م. خامساً: كتب عامة 111 - إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين محمد بن محمد الدين الزبيدي الحيني دار إحياء التراث العربي بيروت. 112 - أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام الشيخ تقي الدين أبي الفتح الشهير بابن دقيق العيد المتوفي سنة 702 هـ دار الكتاب العربي – بيرو ت - لبنان. 113 - أحكام التصوير في الفقه الإسلامي محمد أحمد علي واصل دار طيبة للنشر والتوزيع 1420 هـ - 1999 م الطبعة الأولى. 114 - أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها الدكتور محمد بن محمد مختار الشنقيطي مطابع مؤسسة المدينة للصحافة 1418 هـ - 1997م الطبعة الثالثة. 115 - آداب الزفاف في السنة المطهرة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني المتوفى سنة 1420هـ طبع المكتب الإسلامي الطبعة السابعة 1404 هـ. 116 - الأشباه والنظائر على مذهب الإمام أبي حنيفة لزين العابدين بن إبراهيم بن نجيم المتوفي سنة 970 هـ - دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان - 1405هـ. 117 - الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفي سنة 911 هـ دار الكتاب العربي – بيرو ت - لبنان. 118 - الأضرار الناجمة عن تعاطي المسكرات والمخدرات للأستاذ الدكتور عبد الكريم بن صنيتان العمري، دار المآثر والتوزيع 1421هـ. 119 - أضرار تعاطي المخدرات خالد إسماعيل مكتبة التوبة – الطبعة الأولى 1412 هـ. 120 - إعلام الموقعين عن رب العالمين شمس الدين أبي عبد الله بن محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية المتوفي سنة 751 هـ دار الجبل لنشر والتوزيع 1973 م.

121 - الإعلام بنقد كتاب الحلال والحرام صالح بن فوزان الفوزان مطبوعات جامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية الطبعة الثالثة. 122 - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بإبن قيم الجوزية المتوفي سنة 751هـ دار الكتاب العربي الطبعة الخامسة 1422هـ - 2002م. 123 - إعلان النكير على المفتونين بالتصوير للشيخ حمود بن عبد الله التويجري مؤسسة النور بالرياض – الطبعة الأولى. 124 - الامتناع والاستقصاء لحسن بن علي السقاف القرشي المطابع التعاونية بالأردن 1409 هـ الطبعة الأولى. 125 - بحوث في قضايا فقهية معاصرة محمد تقي الدين العثماني دار القلم – دمشق – 1419 هـ - 1998 م الطبعة الأولى. 126 - بنوك النطف والأجنة دكتور عطا عبد العاطي السنباطي دار النهضة العربية الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001م. 127 - بيع الأعيان المحرمة في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي دكتور محمد وفا دار الفكر العربي – القاهرة 1998 م. 128 - البيوع الشائعة وأثر ضوابط المبيع على شرعيتها للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي دار الفكر للطباعة والتوزيع – دمشق الطبعة الأولى 1419 هـ - 1998م. 129 - تحريم النرد والشطرنج والملاهي لأبي بكر بن الحسن بن عبد الله الأجري المتوفي سنة 360 هـ دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان1408 هـ - 1988 م الطبعة الأولى. 130 - التخدير الموضعي في جراحة الفم والأسنان الدكتور شقيق الأيوبي - مطبعة جامعة دمشق – الطبعة الرابعة 1393 هـ.

131 - التصوير بين حاجة العصر وضوابط الشريعة للدكتور محمد توفيق رمضان البوطي دار الفكر للطباعة والتوزيع. 132 - التصوير والحياة الدكتور محمد نبهان سويلم – عالم المعرفة 1404هـ. 133 - التعريفات لعلي بن محمد الشريف الجرجاني المتوفي سنة 816 هـ دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان 1413 هـ. 134 - تلبيس إبليس الإمام جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن علي محمد ابن الجوزي البغدادي المتوفي سنة 597 هـ دار الكتاب العربي – بيروت الطبعة السابعة 1414 هـ - 1994 م. 135 - جحيم المخدرات الأستاذ يوسف العريني مطابع الفرزدق – الرياض – الطبعة الثانية 1410 هـ. 136-الجواب الشافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي محمد نجيب المطيعي طبع دار الخير – دمشق – وبيروت الطبعة الأولى 1407 هـ. 137 - الجواب المفيد في أحكام التصوير للشيخ عبد العزيز بن باز المتوفي سنة 1420هـ طبع تحت إشراف الرئاسة العامة بالرياض 1406 هـ. 138 - حكم الغناء والمعازف في الفقه الإسلامي الدكتور عبد الفتاح محمود إدريس الدار المصرية للكتاب الطبعة الثانية 1415 هـ - 1994 م. 139 - حكم ممارسة الفن في الشريعة الإسلامية صالح أحمد الغزالي مطبعة دار الوطن بالرياض الطبعة الأولى 1417 هـ. 140 - الحلال والحرام في الإسلام د. يوسف القرضاوي المكتب الإسلامي – بيروت 1415 هـ - 1994 م الطبعة الخامسة عشر. 141 - الخمر بين الطب والفقه الدار السعودية للنشر والتوزيع جده الدكتور محمد علي البار 1406 هـ - 1986 م الطبعة السابعة.

142 - دراسات في قضايا طبية معاصر للدكتور عمر سليمان الأشقر والدكتور محمد عثمان شبير دار النفائس للنشر والتوزيع الأردن الطبعة الأولى 1421 هـ - 2001 م. 143 - الدم ومشتقاته للدكتوره زينب السيكي مؤسسة الزغبي – الطبعة الأولى. 144 - زاد المعاد في هدى خير العباد للإمام الحافظ أبي عبد الله بن القيم الجوزي المتوفي سنة 751 هـ المطبعة المصرية ومكتبتها. 145 - شرح القواعد الفقهية الشيخ أحمد بن محمد الزرقاء المتوفي سنة 1357 هـ دار القلم – دمشق – الطبعة الثانية 1409 هـ. 146 - شرح معاني الأثار للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي المتوفي سنة 321 هـ دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى 1399 هـ. 147 - الشفاء بالجراحة الدكتور محمود فاعور - دار العلم للملايين – الطبعة الأولى 1986 م. 148 - الطبيب أدبه وفقهه للدكتور زهير أحمد السباعي والدكتور محمد علي البار دار القلم – دمشق 1413هـ - 1993م. 149 - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية شمس الدين أبي عبد الله بن محمد بن ابي بكر المعروف بإبن قيم الجوزية المتوفي سنة 751 هـ. 150 - الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبه الزحيلي دار الفكر للطباعة والنشر 1418 هـ - 1997م الطبعة الرابعة. 151 - فقه الأشربة وحدها عبد الوهاب عبد السلام طويله دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع سنة 1406 هـ - 1986 م. 152 - فقه السنة للشيخ سيد سابق - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 1415هـ - 1995م. 153 - فقه النوازل للدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر الطبعة الأولى 1416 هـ - 1996 م.

154 - الفقه على المذاهب الأربعة للشيخ عبد الرحمن الجزيري دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م. 155 - قضايا اللهو والترفيه بين الحاجة النفسية والضوابط الشرعية مادون رشيد - دار طيبة للنشر والتوزيع الرياض 1419 هـ - 1988م. 156 - قضايا فقهية معاصرة للشيخ محمد برهان الدين السنبهلي دار القلم بدمشق ودار العلم بيروت. 1408 هـ - 1988 م الطبعة الأولى. 157 - كتاب الأغراب في أحكام الكلاب جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن حسن أحمد بن حسن بن أحمد عبد الهادي الحنبلي المعروف بإبن المِبرد المتوفي سنة 909 هـ دار الوطن – الرياض الطبعة الأولى 1417 هـ. 158 - كتاب السماع لأبن القسَيراني المتوفي سنة 507 هـ تحقيق أبو الوفاء المراغي - مطابع الأهرام التجارية القاهرة 1390هـ - 1997 م. 159 - مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة الثالثة العدد الثالث الجزء الأول 1408 هـ - 1987 م. 160 - المجموع الثمين من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين محمد بن صالح العثيمين المتوفي سنة1422 هـ - دار الوطن للنشر – الرياض الطبعة الأولى 1411 هـ. 161 - المخدرات الخطر الداهم للدكتور محمد علي البار دار القلم ودار العلوم بدمشق الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م. 162 - المخدرات والإدمان اللواء محمد عباس أخبار اليوم القاهرة – الطبعة الأولى 1989 م. 163 - المخدرات والمؤثرات العقلية للدكتور سيف الدين شاهين شركة العبيكان للطباعة الرياض – الطبعة الثالثة 1409هـ. 164 - المدخل الفقهي العام مصطفى أحمد الزرقاء مطابع ألف باء الأديب دمشق 1967 م – 1968 م. 165 - مدى مشروعية التصرف في جسم الإنسان في ضوء الشريعة والقانون الوضعي أسامة السيد عبد السميع دار النهضة العربية 1419 هـ - 1998 م.

166 - المصة الأخيرة من الدخينة عبد العزيز عبد الفتاح راوه مكتبة الرياض – الطبعة الأولى 1417 هـ. 167 - الموسوعة العربيية الميسرة مجموعة من العلماء بإشراف محمد شفيق غربال دار النهضة – لبنان للطبع والنشر 1406 هـ - 1986 م. 168 - الموسوعة الفقهية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت مطبعة ذات السلاسل 1990 م. 169 - النهضة الإصلاحية الشيخ مصطفى الحمامي. سادساً: كتب التاريخ والتراجم 170 - ابن عثيمين الإمام الزاهد الدكتور ناصر الزهراني. 171 - الإستيعاب في معرفة الأصحاب مع الإصابة لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي المتوفي سنة 463 هـ دار الكتاب العربي 1359 هـ. 172 - أسد الغابة في معرفة الصحابة لعز الدين بن الأثير أبي الحسن علي بن محمد الجزري المتوفي سنة 630 هـ دار الشعب – بالقاهرة 1390 هـ - 1970 م. 173 - الإصابة في تمييز الصحابة لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفي سنة 852 هـ مطبعة النهضة الجديدة 1397 هـ - 1977 م. 174 - الأعلام خير الدين الزركلي - دار العلم للملايين – الطبعة العاشرة 1992 م. 175 - البداية والنهاية للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي المتوفي سنة 774 هـ دار الحديث – القاهرة 1414 هـ - 1994 م. 176 - تاريخ الأمم والملوك للطبري. 177 - تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر أحمد بن الخطيب البغدادي المتوفي سنة 463 هـ نشر دار الكتاب العربي – بيروت. 178 - تقريب التهذيب لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفي سنة 852 هـ دار نشر الكتب الإسلامية – باكستان 1393 هـ - 1973 م. 179 - تهذيب التاريخ الكبير لابن عساكر.

180 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبن نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني مطبعة السعادة بمصر الطبعة الأولى 1351هـ. 181 - الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن فرحون المتوفي سنة 799 هـ - دار التراث للطباعة والنشر القاهرة 1972 م. 182 - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية للشيخ محمد بن محمد مخلوف دار الفكر للطباعة والنشر – بيروت الطبعة الأولى بالمطبعة السلفية 1349 هـ. 183 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب للشيخ عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفي سنة 1089 هـ نشر مكتبة القدسي بمصر سنة 1350 هـ. 184 - طبقات الحفاظ للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفي سنة 911 هـ مطبعة أميره – القاهرة الطبعة الثانية 1415 هـ - 1994 م. 185 - طبقات الحنابلة الإمام القاضي أبي الحسين محمد بن محمد بن الحسين ابن أبي يعلى الحنبلي المتوفي سنة 526 هـ دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان 1417 هـ - 1997 م الطبعة الأولى. 186 - طبقات الشافعية لجمال الدين عبد الرحيم الأسنوي المتوفي سنة 772 هـ دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان 1407 هـ - 1987 م. 187 - طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي المتوفي سنة 467 هـ تحقيق الدكتور إحسان عباس نشر دار الرائد العربي - بيروت سنة 1970 هـ. 188 - معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة، تراجم مصنفي الكتب الغربية مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الأولى سنة 1414 هـ. 189 - هدية العارفين أسماء المؤلفين واثار المصنفين إسماعيل باشا محمد أمين البغدادي دار الكتب العلمية – بيروت – 1413 هـ - 1992م. سابعاً: كتب اللغة 190 - تاج العروس من جواهر القاموس السيد محمد مرتضي الزبيدي دار صادر – بيروت.

191 - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية للشيخ أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفي سنة 393 هـ – تحقيق أحمد العطار طبع على نفقة السيد حسن عباس شربتلي 1402 هـ - 1982 م الطبعة الثانية. 192 - القاموس المحيط محمد بن يعقوب الفيروز أبادي المتوفي سنة 807 هـ دار الفكر – بيروت. 193 - لسان العرب للإمام محمد بن مكرم جمال الدين بن منظور المتوفي سنة 711 هـ طبعة دار أحياء التراث العربي 1419 هـ - 1999 م الطبعة الثالثة. 194 - مختار الصحاح للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي مطابع شركة الأمل للطباعة والنشر 1993م. 195 - المصباح المنير دار الكتب العلمية أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المتوفي سنة 770 هـ المطبعة الأولى 1414 هـ - 1994 م. 196 - المعجم الوجيز مجمع اللغة العربية طبعة وزارة التربية والتعليم – القاهرة 1991م. 197 - المعجم الوسيط للدكتور إبراهيم أنيس وجماعه المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع تركيا – 1960م. 198 - مفردات الفاظ القرآن للإمام أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني المتوفي سنة 502 هـ مطبعة البابي الحلبي سنة 1381 هـ.

§1/1