البيهقي وموقفه من الإلهيات

أحمد بن عطية بن علي الغامدي

مقدمة

البيهقي وموقفه من الإلهيات ... أحمد بن عطية الغامدي مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم شكر وتقدير الحمد لله الذي وفقني وأعانني، فهو الذي بيده العون ومنه التوفيق والسداد. وبعد: فاعترافاً بالفضل لأهله، واستجابة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تروا إن قد كافأتموه". أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير لأستاذي الجليل فضيلة الدكتور عبد العزيز عبد الله عبيد، الذي تولى الإشراف على هذه الرسالة، فكان لخبرته الطويلة ومراسه المتواصل في هذا المضمار أكبر الأثر في إنجاز هذا البحث وإخراجه إلى حيز الوجود، فقد فتح لي صدره الرحب، وجاد في بتوجيهاته السديدة وأعطاني من وقته الكثير، إذ لم يكن يقتصر - حفظه الله - على ساعات الإشراف الرسمية، بل كان يستقبلني في منزله متى شئت من ليل أو نهار بوجه مشرق، ونفس راضية، وسرور بالغ، فجزاه الله عني وعن جميع زملائي بل وعن العلم وجميع طلابه أحسن الجزاء. كما أتقدم بخالص الشكر لجامعة الملك عبد العزيز ممثلة في القائمين عليها، وأخص منهم عميد كلية الشريعة، ورئيس قسم الدراسات العليا فقد قاموا بما يجب عليهم نحو طلابهم خير قيام، وحرصوا على تقديم كل ما يعينهم على أداء مهمتهم. وأشكر الجامعة الإسلامية التي أتاحت لي فرصة مواصلتي دراستي العليا في هذه الجامعة العريقة.

من هؤلاء الأئمة الأعلام الإمام أحمد بن الحسين بن علي البيهقي الذي فهم العقيدة من منبعها الصافي الأصيل وأسهم في توضيحها كما جاءت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولما كانت آراء هذا الإمام - كما جاءت في مؤلفاته - من الأهمية بمكان خاصة ما يتعلق منها بجانب العقيدة إذ سار فيها على طريقة المحدثين، وكان في إيضاحه لمسائلها متبعاً طريقة السلف - إلاّ في قليل منها. لذا كان خيراً كثيراً جداً ... ما قام به فضيلة الدكتور/ أحمد بن عطيّة الغامدي - عميد كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، من إبرازه في هذا المؤلف القيّم لآراء البيهقي في إثبات وجود الله تعالى وصفاته وأسمائه وسائر ما يتعلق بجانب الإلهيات، هذه الموضوعات الذي نتج عن تدخل سلطان العقل فيها، وعدم الاقتصار على كلمات الله وحدها ظهور الفرق في الإسلام وتعددها تعدداً هدد وحدة الأمة وعصف بكيانها، حتى اقترب الخطر من صميم العقائد. وقد أبان المؤلف فيما عرضه من حقائق وآراء عوار هذا الشذوذ ... وكان يجب على الجميع - لو خلصت النيات - أن يصدروا فيه على نصوص الوحي الإلهي فقط. والحاجة كانت وما زالت شديدة إلى تجلية مثال هذه الحقائق التي تقوم عليها أركان العقيدة الإسلامية، فإن أعراض مرض التأويل والتشويه لا يزال منتشراً في الأمة، ولا تزال بحاجة إلى عناية العلماء الفاقهين ليصغوا

حقائق الإسلام وقواعده في أسلوب يتقبله أبناء الإسلام طعاماً شهياً - وشراباً سائغاً كما هو في أصله وحقيقته. ولذا، فالكتاب جاء في وقته ليجد مكانه في المكتبة الإسلامية. والأبحاث التي تضمنها الكتاب حول وجود الله وأسمائه وصفاته تدل على أن عقيدتنا سهلة صافية لا مكان فيها للغموض والالتواء، ولا تحتاج عند بسطها إلى كل هذا الجدل الذي ثار ويثور حولها، وإنما هي أصول واضحات يأخذ بعضها بحجز بعض من السهولة والوضوح لتكون مصداقاً لما أراده الله لعباده بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [1] . ولم يفت المؤلف أن يناقش البيهقي فيما خالف فيه مذهب السلف، فالأمر كما قال: "قصدت من وراء ذلك تأييد الحق الذي يمثله رأي السلف وتوطيد دعائمه ببيان سلامة المنهج الذي سلكوه، وصحة الاستدلال الذي اعتمدوا عليه". وكأني بفضيلته يعمق مفهوم الإمام الشافعي حين قال رحمه الله: "أبى [2] الله العصمة لغير كتابه، وهذا ما قدرنا عليه فإن كان حقاً فمن الله وإن كان خطأ رجعنا عنه". ومقالة أستاذه الإمام مالك: "كل شخص يؤخذ من قوله ويترك إلاّ صاحب هذا القبر"، وأشار إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. والحق أن الأمة لو تجردت من خلافاتها وجدلها حول كثير من مسائل الخلاف والعقيدة لالتقت على كلمة سواء.

_ 1 سورة المائدة، آية: 3. 2 الرسالة التدمرية لابن تيمية/4.

والعصمة في ذلك ما جاء به القرآن الكريم وبينته السنة المطهرة، والتزم به سلف الأمة، ووصفه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "الأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة السلف وأئمتهم إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه" [1] . كما سبق أن أكد علماء الأمة ومنهم الإمام البيهقي الذي ذكر فضيلة المؤلف خلاصة منهجه في الموضوع بقوله "إثبات أسماء الله تعالى ذكره بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة" [2] . كما نقل قول البيهقي في إثبات الصفات بأنه: "لا يجوز وصفه - سبحانه - إلاّ بما دل عليه كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أجمع عليه سلف هذه الأمة" ومن قبل يذكر أن البيهقي رحمه الله سلك منهجاً متميزاً يتسم بحب واضح وتفصيل أكيد لسلوك، الأدلة النقلية الواردة لإثبات مسائل العقيدة مع الأخذ بالأدلة العقلية إلى جانب النقلية، وذلك فيما للعقل فيه مجال، كإثبات الوجود والوحدانية والصفات العقلية. وبعد ... فلقد كانت رحلة المؤلف فيما يتعلق بالإلهيات رحلة مستوعبة اتصلت بأسس بنائها في القرآن الكريم فكانت من أسباب توفييقه، وبواعث غبطتي.

_ 1 الرسالة التدمرية لابن تيمية/4. 2 الرسالة التدمرية لابن تيمية/4.

كما أشكر كلّ من قدم لي عوناً لإنجاز هذا البحث من كافة زملائي وأساتذتي وأخص منهم زميلي الأخ أحمد بنا عبد الله الزهراني الذي أعارني كتاب الأسماء والصفات للبيهقي الذي يعتبر الركيزة الأولى لمادة هذا البحث فلهؤلاء جميعاً أتقدم بخالص الشكر ووافر الثناء ضارعاً إلى الله تعالى أن يجزيهم عني أحسن الجزاء.

تقديم بقلم فضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد (نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه ... أما بعد ... فإن للعقيدة عند المسلمين - بأصولها وأركانها - المكانة الأولى في حياتهم، ثقافة وإيماناً. ولذا، فإن من حقها عليهم أن تلقى من العناية والاهتمام ما يناسب مكانتها، ويليق بجلال موضوعها، وأن تكثر فيها الأبحاث القيمة التي تشرح أصولها، وتبين جوهرها وأثرها في حياة المسلمين. ومن حق الكلام عن الإلهيات خاصة، وما ينبغي لله من صفات وتوقير أن يبرز بمفهومه الصافي الواضح كما عايشه مجتمع العصر المحمدي وأن يقدم إلى أبناء هذا الجيل غذاء لروحه وقلبه بعيداً عن تأويل الجاهلين وتعقيدات المتكلمين، فإن غرس هذه الأصول في الأفئدة والقلوب لن يثمر ويزدهر إلاّ بأسلوب الإسلام نفسه من القرآن الكريم الذي أرسى دعائمها، ووضح معالمه، ومن صحيح السنة المبينة للقرآن.

وأحسب أن المناهج الملتوية التي تشعبت آراؤها، واختلفت أهواؤها وأشربتها بعض النفوس التي تأثرت بالثقافات الواردة قد حجبت أصحاب هذه المناهج من الرؤية الصحيحة التي أعطانا إياها القرآن الكريم في هذا السبيل. ولقد تعرضت جوانب العقيدة الإسلامية في بعض فترات التاريخ إلى كثير من صور التأويل والتشبيه، والتعطيل والتشويه، الأمر الذي أبعدها عن نقائها وصفائها، فانحسر أثرها في المجتمع الإسلامي، وذاقت الأمة بسبب ذلك من الفوادح الكثير. إلاّ أن الله عز وجل - رحمة بهذه الأمة - قيض لها من أبنائها - في حلقات متصلة - من حفظ لها تراثها، وتوفر على شرح قواعد عقيدتها، ونفي كل دخيل عليها، والإبقاء على هذه القواعد نقية صافية كما تنزلت من قبل الوحي الأعلى. وفي الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرّها من خالفها" [1] . وهذه الطائفة هم العلماء والمجاهدون الذين ينشرون الخير وله يحرسون كما قال عليه السلام: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين" [2] .

_ 1 ابن ماجة وأحمد (فيض القدير، 6/396) . 2 مجمع الزوائد، 1/140، ط ثانية، وقال: رواه البزار.

والحق أن سلامة المنهج ووضوح الحجة والبيان، مع صحة الاعتقاد والالتزام بمفاهيم الوحي من أكبر عوامل التوفيق والتأثير، وأحسب أن الله تعالى قد آثر فضيلة المؤلف بهذه المزايا فيما جلاه من حقائق. فجزاه الله خير الجزاء ... وسدد خطاه ونفع به ... وإننا لنحمد الله على توفيقه لنا لتقديم هذا التراث ونرجوه سبحانه أن يحفظ لهذه البلاد جلالة الملك خالد بن عبد العزيز وسمو ولي عهده الأمين فهد، ونتقدم إليهما بشكرنا العميم على رعايتهما لهذه الجامعة الإسلامية، فإنهما دائبان بالنهوض بها إلى مستوى أرفع وأفضل، لتساير في تطورها وتقدمها ركب الحضارة. جزاهما الله عن أبناء هذه الجامعة - أبناء الأمة الإسلامية - خير الجزاء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...

بسم الله الرحمن الرحيم المقدّمة الحمد لله الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، لا إله غيره ولا ربّ سواه، والصلاة والسلام على خير خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد، فإن مسائل العقيدة قد حظيت باهتمام العلماء قديماً وحديثاً خاصة ما يتعلق منها بذات الله تبارك وتعالى إذ كان الحديث عنها مجالاً لجدل عنيف حصل بين طوائف الأمة الإسلامية، سيما بعد ظهور مدرسة علم الكلام التي كانت بدعة ممقوتة من جانب علماء السلف نظراً لأنه يبعد بأصحابه عن المصدر الأصلي للعقيدة الصافية.. ألا وهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولما كان نظام جامعة الملك عبد العزيز ملزماً لمن يريد الحصول على درجة التخصص العليا (الدكتوراه) أن يكتب بحثاً في مجال تخصصه، فقد استخرت الله تعالى، واخترت أن يكون بحثي بعنوان "البيهقي وموقفه من الإلهيات"ويتمثل الدافع الذي حملني على تفضيل هذا الموضوع على سواه في الأمور الآتية: 1- أن البيهقي من أشهر علماء الأمة الإسلامية الذين كان لهم أثر بالغ في حفظ تراث هذه الأمة. 2- أن من أبرز الجوانب التي ساهم البيهقي في إثراء مادتها وتحقيق ما كتبه فيها هو جانب العقيدة. 3 - انه يعتبر مصدراً أميناً لآراء كثير من علماء السلف التي استعان بها كثير من المحقّقين فيما بعد، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية

وتلميذه ابن القيم، إذ وجدناهما كثيراً ما يستندان في إيراد الرأي بعض علماء السلف إلىما أورده البيهقي عنهم. 4 - أنه - وإن كان أشعري العقيدة - يتميز بطريقة خاصة في عرض أدلته، أشبه ما تكون بطريقة السلف - وإن كان يختلف عنهم في الاستنتاج - ولذلك وافق السلف في إثبات بعض ما أوّل أصحابه من الصفات. 5 - أن مؤلّفاته في العقيدة تعتبر موسوعة فريدة بأدلتها، إذ كان من أكثر العلماء اهتماماً بجمعها، وإن كان في توجيهاته لما اشتملت عليه تلك الأدلة يبدو متأثراً تأّثراً كبيراً بعلم الكلام لذلك أردت أن أميط اللثام عن آراء هذا العلم الجليل التي قد يتصوّرها من اطلع على كتبه ولم يمعن النظر فيها ممثّلة لآراء السلف ومتفقة معها، نظراً لاتفاقه معهم في منهج الاستدلال وهذا هو أهم الأسباب التي دفعتني إلى اختيار هذا الموضوع الذي يشتمل على مقدّمة وبابين، وخاتمة. أما المقدّمة فقد تناولت فيها الأسباب التي حملتني على اختيار هذا الموضوع، والخطة التي سرت عليها فيه. وأما الباب الأوّل فقد خصصته للحديث عن حياة البيهقي، وقسمته إلى ستة فصول: الفصل الأوّل: عن عصر البيهقي. الفصل الثاني: عن سيرته. النصل الثالث: نشأته العلمية.

الفصل الرابع: شيوخه وتلاميذه. الفصل الخامس: ثقافته ومؤلفاته. الفصل السادس: منهجه في الاستدلال. وأما الباب الثاني فكان عن موقف البيهقي من مباحث الإلهيات وقد قررت تقسيمه إلى ثمانية فصول: الفصل الأوّل: منهجه في إثبات وجود الله. الفصل الثاني: أسماء الله تعالى. الفصل الثالث: أقسام الصفات. الفصل الرابع: الصفات العقلية، وفيه مبحثان: المبحث الأوّل: صفات الذات العقلية. المبحث الثاني. صفات الفعل العقلية. الفصل الخامس: صفة الكلام، وقد أفردتها بالحديث في فصل مستقل - مع أنها من صفات الذات العقلية - لأن الكلام فيها متشعب وخطير، لذلك أوليتها أهمية خاصة. الفصل السادس: الصفات الخبريّة وفيه مبحثان أيضاً: المبحث االأوّل: صفات الذات الخبريّة. المبحث الثاني: صفات الفعل الخبريّة. النصل السابع: رؤية الله تعالى. الفصل الثامن: موقفه من خلق أفعال العباد.

أما الخاتمة فقد تناولت فيها النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث. وكان حديثي عن كل مسألة من المسائل السابقة مصدراً في كلّ فصل بذكر آراء الفرق الأخرى فيها على سبيل الاختصار، ثم أتناول بعد ذلك الحديث عن رأي البيهقي تفصيلاً، ثم أعقب عليه بذكر موافقته لرأي السلف، أو عدمها، مع مناقشة مستفيضة للآراء التي خالف السلف فيها، وتأييد ما وافقهم عليه بعبارات أوردها من كتبهم، وقد قصدت من وراء ذلك تأييد الحق الذي يمثله رأي السلف، وتوطيد دعائمه ببيان سلامة المنهج الذي سلكوه، وصحة الاستدلال الذي اعتمدوا عليه. وليس لأحد أن يتصوّر مناقشتي للبيهقي محاولة للانتقاص من قدره والحط من مكانته، لأنني إنما أنشد الحق الذي اجتهد البيهقي في الوصول إليه، ولا ريب أن الحقّ أحب إلينا من كلّ شيء. وقد أثّر عن الإمام مالك قوله: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" مشيراً إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومكانة البيهقي في نفوسنا جميعاً ستبقى أبد الدهر، وكتبه التي ألّفها لحفظ التراث ستظلّ مناراً هادياً لطلاب الثقافة في كلّ عصر، فجزاه عنا خير الجزاء. وقد بذلت في بحثي هذا كل جهدي وغاية طاقتي، حتى وصلت به إلى هذا المستوى الذي أرجو الله تبارك وتعالى أن يكون مفيداً لطلاب الحقيقة، ومصدراً أميناً لمن أراد الكتابة عن هذا العلم الشامخ من أعلام

الإسلام. ولا أزعم أنني قد بلغت فيه الكمال وإنما الكمال لله وحده ولكن حسبي أنني لم أدخر جهداً في سبيل الوصول به إلى أرفع مستوى. وإنني إذ أتقدم بهذه الرسالة لقسم الدراسات العليا بجامعة الملك عبد العزيز، لأشكر القائمين عليها حسن صنيعهم لما بذلوه من جهد في سبيل توفير جميع السبل الكفيلة بتسهيل مهمة الباحث. كما أتقدم بخالص شكري للجامعة الإسلامية التي أتاحت لي مواصلة دراستي في هذه الجامعة الأصيلة، سائلاً المولى سبحانه أن أوفق في أداء المهمة التي تنتظرني، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.. المؤلّف

الباب الأول: حياة البيهقي

الباب الأول: حياة البيهقي الفصل الأوّل: عصر البيهقي لقد رأيت من الضروري - وقد اخترت مجال بحثي شخصية هامة من أبرز الشخصيات التي كان لها أثر بارز في حفظ التراث الإسلامي، وخدمته وتقديمه لطلابه في أبهى صوره وأكمل حالاته - رأيت من الضروري أن أقدم بين يدي دراستي لهذه الشخصية دراسة موجزة للظروف التي أحاطت بها وبيئتها التي ترعرعت في أكنافها. ذلك لأن عادة الباحثين في مجال كهذا قد جرت بذلك، وهو أمر من الضرورة بمكان، إذ إنه يمكن ذلك الباحث من الوقوف على العوامل التي كان لها دور فعال في نبوغ تلك الشخصية، وفي التأثير على اتجاهها، لأن الإنسان كما يتأثر ببيئته التي يعيش فيها ومشايخه الذين تلقى عنهم، فإنه بنفسه القدر يكون تأثره بالأحوال والظروف المحيطة به من الناحيتين: السياسية، وللاجتماعية. إذ إن هذه الظروف يكون لها - حتماً - أثر بارز في المسلك الذي ينهجه من عايشها. لذلك كان لزاماً علي وأنا أدرس شخصية إسلامية مهمة، أن أعطي القارئ فكرة موجزة عن عصرها من نواحي ثلاث: 1 - الناحية السياسية. 2 - الناحية الاجتماعية. 3 - الناحية العلمية.

الناحية السياسية عاش البيهقي - رحمه الله- في الفترة الواقعة ما بين عام أربعة وثمانين وثلاثمائة (384) حيث كانت ولادته، وثمانية وخمسين وأربعمائة (458) حيث كانت وفاته. ومعنى ذلك أن البيهقي عاصر الدولة العباسية في أحلك أيامها حيث كان عهد الدويلات المتناحرة، وحيث أفل الوجود الفعلي للسلطة العليا. فقد عاصر البيهقي من خلفاء بني العباس القادر بالله الذي تربع على عرش الخلافة سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة (371) ، أثر قبضه على الخليفة الطائع لله، وخلعه له [1] . واستمرت خلافته إلى حين وفاته سنة سبع وستين وأربعمائة (467) [2] . وكان الضعف قد دب في أوصال الدولة العباسية منذ عهد الخليفة محمد المنتصر بن المتوكل، الذي تواطأ مع جماعة من الأمراء سنة سبع وأربعين ومائتين على قتل أبيه المتوكل [3] . ذلك الرجل العظيم الذي أعز الله به السنة، وقمع به البدعة، حين أنهى مهزلة دامت ردحاً طويلاً من الزمن امتحن فيها أئمة عظام من أئمة أهل السنة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ألا وهي محنة القول بخلق القرآن.

_ 1 البداية والنهاية11/308. 2 المصدر نفسه12/110. 3 المصدر نفسه10/349.

فبعد مقتل هذا الخليفة العظيم، بدأت الفتن تستشري والأحوال تضطرب، وسلطان الخلفاء يتلاشى، وذلك بسبب اعتمادهم على الفرس والترك وفتكهم ببني أمية ومناصبتهم العلويين العداء، وظهور كثير من الطوائف المارقة عن الدين، مما أدى في نهاية الأمر إلى سقوطها في أيدي التتار سنة ست وخمسين وستمائة، بعد مقتل آخر خلفائها أبي أحمد، عبد الله المستعصم على يد هولاكو خان [1] . لذلك فإن هذين الخليفتين اللذين عاصرهما البيهقي يعتبران من آخر خلفاء بني العباس، وكان تربعهما على عرش الخلافة اسماً فقط، أما السلطة الفعلية فقد سلبت منهم إذ أصبحوا ألعوبة في يد البويهيين والسلاجقة، الذين بالغوا في إذلالهم، حتى بلغ بهم الأمر إلى أن ضيقوا عليهم حتى في حياتهم الخاصة، واضطروهم إلى بيع ما يملكون، فضاقت على الخليفة رقعة بلاده رغم اتساعها، فلم يبق له غير بغداد وأعمالها، وحتى هذه لم تكن له عليها سيطرة كاملة [2] . ومع ذلك فقد كان الخليفة آنذاك يتمتع بقوة معنوية عظيمة، جعلت الحكام والسلاطين يحرصون على الظفر بموافقته حتى يكتسبوا الصفة الشرعية فكان يستقبل السفراء، ويلبس بردة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويضع أمامه مصحف عثمان توكيداً لسلطته الدينية [3] . ولا يخفى أن حالاً كهذه، مشجعة لذوي الطموحات للظفر بالسلطة كي يتسببوا في التمرد الذي يؤدي إلى الانقسام، وهذا ما حدث فعلاً في جهات كثيرة من نواحي الدولة العباسية آنذاك.

_ 1 تاريخ الأمم الإسلامية للخضري2/480. 2 تاريخ الإسلام السياسي، د. حسن إبراهيم حسن3/249. 3 المصدر نفسه.

فناحية المشرق - وهي الجهة التي كان يقطنها البيهقي - تنازعتها في تلك الفترة ثلاث دول. 1 - الدولة البويهية من 334- 447هـ. 2 - الدولة الغزنوية من 351- 582هـ. 3 - الدولة السلجوقية من 429- 522هـ. فالبويهيون كانت لهم السيطرة على بغداد ونواحيها، وقد استبدوا بأمر الدولة، رغم قربهم من مقر الخليفة، حيث شاركوه في بعض مظاهر الخلافة، إذ كان الأمير البويهي هو الذي يتولى إصدار الأوامر، أما الخليفة فما عليه إلا توقيعها، لتأخذ صفة الشرعية أمام الرأي العام. وأما الدولتان الأخريان فقد كانتا في خراسان، ناحية شيخنا البيهقيئ، وقد كان الأمراء فيهما يستقلون بالتصرف في شؤونها، دون رجوع إلى الخليفة في ذلك. وقد كانت معاصرة البيهقي في صدر حياته للنغزنويين، وهم في أوج قوتهم، إذ كانت لهم السيطرة الكاملة على هذه البلاد في أواخر القرن الرابع، وأوائل القرن الخامس الهجريين، وكان السلطان محمود بن سبكتكين المتوفى سنة إحدى وعشرين وأربعمائة من أعظم ملوكهما، وأكثرهم فتوحاً، وأشدهم بطشاً بأعدائه، حتى ألقى بزعماء السلاجقة في غياهب السجون [1] .

_ 1 تاريخ دولة آل سلجوق، لعماد الدين الأصفهاني ص: 6.

وما إن توفي هذا السلطان، حتى دب النزاع بين ولديه بشأن الملك مما شجع السلاجقة على تجميع صفوفهم، وإعادة كرتهم في محاولة الاستيلاء على خراسان، حتى تمكنوا من ذلك سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وأعلنوا قيام دولتهم في هذا التاريخ، إلا أن اعتراف الخليفة العباسي بهما تأخر حتى عام اثنين وثلاثين وأربعمائة [1] . وهذا من أوضح الشواهد على ضعف سلطان الخليفة، لأن حدوث الخلافات بين الأمراء في الولايات التابعة له، واقتتالهم من أجل السلطة وعدم تدخله لحسم النزاع فيما بينهم، إلى حين تمام الغلبة لأحد الفريقين فيكون تدخله حينئذ قاصراً على الاعتراف بالسلطة الجديدة، التي تمت دون إرادة منه، ذلك كله يدل على أنه لم يكن له حول ولا طول، وأنه مغلوب على أمره. وقد بلغ من تحرج مركزه وضعفه، وانتزاع سلطانه منه، أن عمت الفوضى البلاد، وكثر فيها الفساد. أما بقية أنحاء العالم الإسلامي، فلم تكن بأحسن حالاً من المشرق فقدكانت مشتتة على رأس كل منها أمير أو خليفة،. فالأمويون في الأندلس ينازهم العلويون من ذرية إدريس بن عبد الله، فكانت الحال هناك في اضطراب يشبه ما كان في المشرق، ويزيد عليه [2] .

_ 1 العبر في ديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون3/452. 2 تاريخ الأمم الإسلامية للخضري2/400.

أما أفريقيا، ومصر، والشام، فقد تعاقب عليها تلك الفترة أمراء فاطميون، إلى غير ذلك من الانقسامات التي تميز بها ذلك العصر، مما كان له أثره البالغ في تفرق كلمة المسلمين، وإطماع أعدائهم في النيل منهم. وقصارى القول: أن عصر البيهقي تميز بكثرة الدويلات الإسلامية المتناحرة، وانعدام االسلطة المركزية، وتفشي الفساد السياسي، وكثرة القتل والنهب والترويع، الأمر الذي أقضّ مضاجع العلماء في ذلك العصر ومنهم البيهقي. ولا ريب أن فساد الحالة السياسية سينعكس على الحالة الاجتماعية كما ستبيّن فيما يلي.

الناحية الاجتماعية لقد اتضح لنا فيما سبق أن الحالة السياسية في تلك الحقبة من أيام الدولة العباسية - التي عاصرها البيهقي - قد بلغت من الفوضى أقصاها فليس لنا بعد ذلك أن نتصور الحالة الاجتماعية طيبة ثابتة، لأن الفزع والرعب سيطرا على القلوب، حتى أصبح لا يطمئن أحد من الناس على نفسه وماله، فمن المعلوم بداهة أن الحروب تحدث دائماً تأثيراً بالغاً في حياة المجتمعات التي تعاصرها، لأنها تنهك الاقتصاد، وتقضي على موارد البلاد، وتشجع على إشاعة الفوضى في شتى ميادين الحياة. فبدلاً من أن يعنى الحكام بالموارد الشرعية للدولة، وتوزيع نتائجها توزيعاً عادلاً بين الناس، نراهم يسلكون لجمع المال طرقاً غير سليمة، فالغنائم الحاصلة من الحروب فيما بينهم تشكل أهم الموارد لأموال الدولة، كما أن أموال الناس التي كانت تصادر لأتفه الأسباب تشكل مورداً آخر [1] . وبيوت الحكام كانت تتعرض في بعض الأحيان للنهب والسلب من قبل جنودهم الخارجين عليهم [2] . فإذا كان الحكام أنفسهم يتطلعون لما في أيدي الآخرين ويتحينون الفرص لضمه لما في أيديهم، وإذا كانت منازلهم قد تعرضت للسلب والنهب فكيف لنا أن نتصوّر المجتمع الذي يحكمونه بمساعدة أولئك الجند، كيف يمكن أن نتصوّره إلا راسخاً في أوحال تلك الفوضى؟

_ 1 الكامل لابن الأثير7/182-206. 2 الكامل8/2، وشذرات الذهب لابن العماد3/204.

فإن أولئك الأجناد، كانوا إذا غضبوا على الحاكم تمردوا عليه، ونهبوا أمواله، ثم التفتوا إلى أموال الناس فنهبوها، وقتلوا من يقف في طريقهم، كما حدث في سنة سبع عشرة وأربعمائة [1] . إن حالاً كهذه تؤكد لنا المعاناة التي كان يعيشها الناس، فضعف السلطان كان سبباً مباشراً لشيوع شريعة الغاب بين الناس في ذلك العهد حين استفحل أمر اللصوص فأغاروا على المنازل في وضح النهار، حتى إذا لم يجدوا شيئاً مما يريدون في المنزل الذي أغاروا عليه أخذوا صاحبه، وتفننوا في تعذيبه حتى يرشدهم إلى المكان الذي أخفى فيه ماله - إن كان له مال - كما حدث من جماعة العيارين ببغداد [2] . واشتد أمر هؤلاء المجرمين سنة أربع وعشرين وأربعمائة وست وعشرين وأربعمائة، حين أخذوا أموال الناس عياناً، وقتلوا صاحب الشرطة، ونهبوا المتاجر، وأظهروا الفسق والفجور، والفطر في رمضان [3] . وقد صاحب هذه الحوادث المروعة غلاء شديد في المعيشة، فقد اشتد الغلاء بخراسان جميعها وعدم القوت، فكان الإنسان يصيح: الخبز، الخبز ويموت [4] . ولم تكن الحالة في العراق بأحسن مما هي عليه في خراسان، فقد اضطر الناس من شدة الجوع - إلى أكل الكلاب والحمر [5] .

_ 1 الكامل7/325. 2 شذرات الذهب3/204، والكامل7/323. 3 شذرات الذهب3/226-229. 4 الكامل7/255. 5 شذرات الذهب3/192.

وزاد الأمر سوءا تفشي الرذيلة في العراق، لضعف الحكم، فانتشر شرب الخمر، وكثرت المواخير، وظهرت موجة انحلال خلقي [1] . كما كان للكوارث الأخرى من أوبئة وزلازل دورها في تنغيص العيش وإنزال النكبات، وتدهور الأحوال، فقد انتشرت الأوبئة، وعمت جميع البلاد وكثر الموت في الناس، حتى عجزوا عن أن يتدافنوا من كثرة الموتى [2] . كما وقع سنة أربع وأربعين وأربعمائة زلزال عظيم بخراسان هلك بسببه كثير، وكان أشده بمدينة بيهق، ناحية شيخنا البيهقي [3] . وخلاصة القول: أنك إذا استعرضت صفحات التاريخ لتلك الحقبة من الزمن وجدتها تطالعك بحوادث مروعة تعكس مدى الوضع الاجتماعي المتدهور، الذي عاشه الناس في ذلك العصر، فمن نهب وسلب، إلى قتل وانتهاك للحرمات، إلى جوع شديد يصير من اعتراه إلى الموت في أحيان كثيرة، إلى زلازل وأوبئة فتّاكة. فهي فترة عصيبة، اتسمت حياة أهلها الاجتماعية، بمثل ما كانت عليه من الناحية السياسية، التي انعكست أحداثها الرهيبة على الوضع الاجتماعي الذي وصل إلى مثل ما وصلت إليه من انحطاط رهيب يشيب لهوله الولدان فإنا لله وإنا إليه راجعون.

_ 1 ظهر الإسلام لأحمد أمين1/124. 2 الكامل4/55، و8/3. 3 الكامل8/64.

أما الحالة العلمية فسنرى في المبحث التالي كيف أنها كانت على العكس من الحالتين السالفتين، حيث بذل العلماء جهوداً مضنية للحفاظ على العلم، ومحاولة جعله بعيداً عن التأثيرات السلبية للأحداث السابقة حتى كان ذلك، العصر - بحق - عصر النهضة العلمية كما سيتضح لنا ذلك في المبحث التالي إن شاء الله.

الحالة العلمية إن من يطلع على الأحوال السياسية والاجتماعية في ذلك العصر، ويقف على ما وصلت إليه من سوء وانحطاط، فإنه لا يبعد بالناحية العلمية عنهما بل يتصورها كما وجد في الحالتين الأخريين، إلا أن الواقع كان خلاف ذلك فإن سوء الحالتين السياسية والاجتماعية لم يكن له أي أثر سلبي على الناحية الثقافية فقد عرفت تلك الحقبة من الزمن أنها كانت من أزهى عصور الإسلام الثقافية، إذ توافر فيها عدد ضخم من رواد العلم والثقافة، ففيها عاش أئمة المحدثين وجهابذة المفسرين وأساطين الأدباء، ومشاهير الفلاسفة وأرباب الكلام، وكانت الثقافة قد بلغت أوجها، والاهتمام بالتأليف بلغ ذروته. وها نحن اليوم نعيش أثر تلك النهضة العلمية الجبارة فنستقبل كل يوم من كتبهم أسفاراً ضخمة يقدمها لنا المحققون في عصرنا الحاضر، وما بين أيدينا اليوم من تراثهم الوفير إنما هو غيض من فيض، لأنهم قدموا لطلاب العلم والثقافة آلاف المجلدات في كلّ فنّ، إلا أن الحروب الدامية لم تقتصر على إراقة دماء البشر، بل امتدّ أوارها حتى أتى على كثير من مكتبات العالم الإسلامي، كما حدث إبان إغارة التتار على بغداد، التي كانت مكتباتها تزخر بدرر العلم، التي جادت بها قرائح علمائنا الأجلاء في ذلك العصر وقبله وبعده. وقد بلغ الاهتمام بنشر العلم في ذلك العصر، إلى حدّ أن بعض كبار العلماء قام بإنشاء مدارس مستقلة عن المسجد لأوّل مرة في تاريخ الإسلام الأمر الذي كان له أكبر الأثر في الإقبال على التحصيل، وتشجيع طلاب العلم وصيانته عن أيدي العابثين.

ويعتبر البيهقي من أوّل من ساهم في إنشاء تلك المدارس، حيث قام بإنشاء مدرسة بنيسابور، عرفت باسمه، وعنها وعن غيرها من المدارس التي ظهرت في ذلك العصر يقول المقريزي في خططه: "ويعتبر ظهور المدرسة في هذا العصر بشكل مستقل عن المسجد خير دليل على الاهتمام بالعلم وكانت الأولى هي المدرسة البيهقية بنيسابور التي تعددت فيها المدارس بعد ذلك" [1] . ويذكر تاج الدين السبكي عدداً من المدارس التي كانت بنيسابور في ذلك العصر، بالإضافة إلى مدرسة البيهقي التي ذكرها المقريزي ومن تلك المدارس: المدرسة السعدية، بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود، لما كان والياً بنيسابور، ومدرسة ثالثة بنيسابور بناها أبو سعد إسماعيل بن علي بن المثنى الإستراباذي، ومدرسة رابعة بنيسابور أيضاً بنيت للأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني [2] . كما قام الوزير نظام الملك، الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي ببناء مدارس جديدة، مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراه، ومدرسة بأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان، ومدرسة بالموصل [3] . وهذه المدارس تعرف بالمدارس النظامية [4] .

_ 1 الخططة للمقريزي2/363. 2 طبقات الشافعية الكبرى للسبكي4/314. 3 طبقات الشافعية الكبرى للسبكي4/314. 4 كان أشهر هذه المدارس مدرسة نيسابور التي كان يدرس بها إمام الحرمين الجويني.

وقد كان لتعدد المدارس في ذلك العهد أثر كبير في انتشار العلوم الإسلامية وكثرة العلماء. ولعل من أهم الأسباب التي حدت بذوي الشأن لإقامة هذه المدارس أن المساجد لم يكن يحسن تخصيصها للتدريس بما يتبعه من مناظرة وجدل، قد يخرج بأصحابه أحياناً عن الأدب الذي تجب مراعاته للمسجد [1] . فالقرن الرابع كان بداية ظهور هذه المعاهد، التي بقيت طريقة متبعة إلى أيامنا هذه. ومما سلف يتضح لنا أن نيسابور كانت مهد هذه المعاهد، فكانت بذلك تضاهي بغداد، حاضرة العلم والعلماء في ذلك العصر. وقد بلغت العناية بالعلم وطلابه إلى حد أن كثيراً من أهل الفضل كانوا ينفقون على الطلاب من مالهم الخاص، ويقفون عليهم كتبهم، كما حدث من أبي بكر البستي الذي بنى مدرسة لطلاب العلم على باب داره، وأوقف عليها جملة من ماله الوفير، وهذا الرجل كان من كبار المدرسين والمناظرين بنيسابور [2] . وهكذا نتبين أن الحالة العلمية في ذلك العصر كانت قد بلغت أرقى درجاتها، وأن تلك الحقبة قد تميزت بابتكار أسلوب جديد للتعليم، وهو إنشاء المدارس مستقلة عن المسجد، وإن تلك الناحية من البلاد الإسلامية كانت ثرية بأعلام العلماء، ولا أدل على ثرائها بهم مما ذكره الذهبي من

_ 1 انظر: الحضارة الإسلامية لآدم متز1/336. 2 طبقات الشافعية للسكبي4/80.

أن الخطيب البغدادي المتوفى سنة: 463هـ، أراد الرحلة إلى ابن النحاس في مصر فاستشار البرقاني في ذلك فقال له: "إن خرجت إلى مصر إنما تخرج إلى رجل واحد، فإن فاتك ضاعت رحلتك، وإن خرجت إلى نيسابور ففيها جماعة فخرج إلى نيسابور" [1] . ويقول المقدسي عن أهل خراسان: "إنهم أشد الناس فقهاً، وهم أكبر الأقاليم علماً" [2] . وهكذا نرى أن الإمام البيهقي عاصر نهضة علمية جبارة كان له فيها نصيب الأسد، فاقترن اسمه بها منذ ذلك العهد، لمشاركته الإيجابية وأثره في مدارسها معلماً ومتعلماً.

_ 1 تذكرة الحفاظ3/1137. 2 أحسن التقاسيم ص: 294، 322، 334.

الفصل الثاني: سيرة البيهقي

الفصل الثاني: سيرة البيهقي اسمه ونسبه: هو: أحمد بن الحسين بن عليّ بن عبد الله بن موسى. ولم يتفق المؤرخون على ذكر نسبه بهذه الطريقة، لأن منهم من وقف عند جده الأوّل علي [1] ، ومنهم من اقتصر على ذكر جده الثاني عبد الله [2] ، وجماعة ثالثة استوفت ذكر نسبه إلى جده الثالث موسى [3] . إلاّ أن اختلافهم هذا لا يعني شيئاً سوى إرادة الاختصار من بعضهم وإرادة الاستيفاء من بعضهم الآخر. إلاّ أن للسمعاني خلافاً جوهرياً حين قدم جده الثالث على جده الثاني فقال: "أحمد بن الحسين بن عليّ بن موسى بن عبد الله، وتابعه عليه ابن الأثير في تهذيبه للأنساب [4] . كما أن الذهبي في سير أعلام النبلاء وتذكرة الحفاظ ذكر موسى جداً ثانياً للبيهقي مع إغفال جده الثالث [5] .

_ 1 الكامل لابن الأثير8/104، وشذرات الذهب3/304. 2 النجوم الزاهرة5/87، وكشف الظنون1/53. 3 البداية والنهاية12/94، وطبقات الشافعية للسبكي4/8. 4 الأنساب للسمعاني1/101، واللباب لابن الأثير1/202. 5 سير أعلام النبلاء11/ ل184، وتذكرة الحفاظ3/1132.

وهذا يشير إلى خلاف في أيهما الجد الثاني من الثالث للبيهقي هل هو عبد الله أو موسى، فالسمعاني، وتابعه ابن الأثير والذهبي ذكروا موسى جداً ثانياً للبيهقي، أما بقية المؤرخين المستوفين لنسب البيهقي حتى الجد الثالث فذكروا موسى جداً ثالثاً، وعبد الله ثانياً. ولعل تقديم عبد الله على موسى هو الأرجح، لأن ذلك ما فعله ابن عساكر الذي يعتبر من أقرب المؤرخين في عهد البيهقي [1] . كنيته ولقبه أما كنيته فأبو بكر، وأما لقبه فيلقب بالحافظ، ولم أجد مخالفاً في إطلاق تلك الكنية وهذا اللقب اللذين اشتهر بهما البيهقي، وانفرد حاجي خليفة بتلقيبه بشمس الدين [2] . نسبته وينسب شيخنا إلى خُسْرَوْ جِرْد [3] ، وإلى بيهق [4] ، فيقال الخسرجردي البيهقي.

_ 1 تبيين كذب المفتري ص: 266. 2 كشف الظنون1/53. 3 خسرو جرد بضم الخاء المعجمة، وسكون السين المهملة وفتح الراء وسكون الواو، وكسر الجيم، وسكون الراء، وفي آخرها الدال المهملة، قرية من ناحية بيهق. كذا قال السبكي في الطبقات الكبري4/9. 4 بيهق ناحية كبيرة، وكورة واسعة، كثيرة البلدان والعمارة من نواحي نيسابور، تشتمل على ثلاثمائة وإحدى قرية… وقد أخرجت الكورة من لا يحصى من الفضلاء، والعلماء، والفقهاء، والأدباء ذكر ذلك ياقوت في المعجمة1/537، 538.

أما نسبته إلى خسرو جرد فلأنها القرية التي كانت مسقط رأسه وأما نسبته إلى بيهق فلأنها الناحية التي دفن بها، والتي تضم فيما بين قراها خسر وجرد، التي تعتبر عاصمتها. وقد ينسب - رحمه الله - إلى نيسابور [1] ، لأنها قد حظيت بمقدمه إليها، وبها كان جل نشاطه العلمي، إذ عقد فيها المجلس لإسماع كتبه لعلمائها، وطلاب العلم فيها، فأصبحت شهرته مرتبطة بها، وممن نسبه إليها الذهبي وابن عساكر [2] . مولده ولد- رحمه الله- بخسرو جرد في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة [3] وقد أجمعت المصادر التاريخية على ذلك، عدا ما ورد في

_ 1 قال ياقوت: "نيسابور: بفتح أوّله، والعامة يسمونها نشاوور، وهي مدينة عظيمة، ذات فضائل جسيمة، معدن الفضلاء، ومنبع العلماء، لم أر فيما طوفت من البلاد مدينة كانت مثلها، وكان المسلمون قد فتحوها أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه ". معجم البلدان 5/331. 2 تبيين كذب المفتري ص: 265، سير أعلام البلاء 11: ل 184. 3 انظر مختصر طبقات المحدثين لابن عبد الهادي ص: 200، وسير أعلام النبلاء للذهبي 11: ل 184، وتذكرة الحفاظ3/1132، وطبقات الشافعية للسبكي4/9، والبداية والنهاية12/94.

الكامل لابن الأثير من أن ولادته كانت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة [1] . إلاّ أن هذا خطأ واضح، لأنه هو نفسه وافق في لبابه بقية المؤرخين على التاريخ السابق [2] . أسرته أما أسرة البيهقي التي ترعرع في أكنافها، فإن المراجع التاريخية التي عنيت بحياته التزمت الصمت حيالها، فلم تذكر لنا عن أبيه شيئاً، ولا عن حال أسرته من الناحية العلمية والاجتماعية. إلاّ أن نبوغ البيهقي في شتى مجالات العلم يدلنا دلالة واضحة على أن أسرته كانت تضع العلم في مقدمة اهتماماتها، مما كان له أثره البالغ في اتجاه ابنها إليه، وقصر اهتمامه عليه. كما أن ذلك يدلنا أيضاً على أن تلك الأسرة كانت ميسورة الحال مما جعل ابنها يتفرغ، وينتج على أن الفقر - إن قدر أنه هو واقعها - لا يمكن أن يثني همة البيهقي لشغفه بالعلم، مما جعله لا يهتم بحطام الدنيا، بل يكتفي منها بما يسد رمقه، ويقيم صلبه، شأنه في ذلك شأن سلفه من علماء الأمة وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، وشيخه الشافعي، ومع ذلك حصل لهما من العلم والنبوغ ما جعلهما من أعظم أئمة الإسلام.

_ 1 الكامل8/104. 2 اللباب1/202.

أمّا أبناؤه فقد لاحظنا اهتمام المؤرخين بذكر ابن له وحفيد، ولم يتعرضوا لغيرهما، ذلك لأنهما شاركاه في حياته العلمية، وخاضا معه غمارها وتتلمذا على يديه، وهما: ابنه إسماعيل بن أحمد، وحفيده أبو الحسن عبيد الله بن محمّد بن أحمد. وسيأتي إن شاء الله زيادة بيان لحياتهما عندما نتحدث عن تلاميذه فيما بعد. وفاته أجمعت المصادر التاريخية على أن وفاة البيهقي كانت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة بنيسابور، ومنها نقل في تابوت إلى بيهق حيث دفن بها [1] . وقد وجد خلاف في الشهر من ذلك العام، فابن الأثير وابن تغري بردى يذكران أنها كانت في جمادى الآخرة [2] . أما من سواهما فاتفقوا على جمادى الأولى، ولعله الأصح لأن منهم من حدد اليوم بالعاشر منه، مما يدل على زيادة يقين.

_ 1 انظر: المصادر السابقة. 2 الكامل8/104، والنجوم الزاهرة5/77، وانظر عن حياة البيهقي سوى ما تقدم: طبقات الشافعية للأسنوي ص: 198-200، والعبر للذهبي 3/342، وطبقات الشافعية لابن هداية الله (ص) ، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص: 433-434،ودائرة المعارف الإسلامية لأحمد شاكر 4/429،والأعلام للزركلي1/113.

وانفرد ياقوت الحموي بأن وفاته كانت سنة أربع وخمسين وأربعمائة [1] . وكانت وفاته - رحمه الله - بعد عمر مديد بلغ أربعاً وسبعين سنة كله خير وبركة، إذ بذل الجزء الأعظم منه خادماً للعلم وطلابه، فكان عطاؤه العلمي الوفير منارة شامخة من منارات العلوم الإسلامية الخالدة، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

_ 1 معجم البلدان1/538.

الفصل الثالث: نشأته العلمية

الفصل الثالث: نشأته العلمية لقد بدأ البيهقي- رحمه الله- حياته العلمية في سن متأخرة نسبيآ بالنظر إلى أبناء عصره، إذ بدأ بسماع الحديث وهو في سن الخامسة عشرة من عمره1. وليس بعيداً أن يكون قد بدأ بحفظ القرآن الكريم قبل بدئه بسماع الحديث، لأن ذلك من عادة العلماء في ذلك العصر، وإن كنا لا نجد في المصادر التاريخية ما يشير إلى ذلك. ويذكر المؤرخون أن أوّل سماعه كان من مشايخ خراسان2، ثم رحل إلى أماكن شتى في سبيل طلب العلم، فكانت مرحلة التلقي قد بدأت برحلة إلى خراسان، وفيما يلي نذكر رحلاته العلمية التي كان لها أثر كبير في تحصيله وسعة علمه.

_ 1 سير أعلام النبلاء11/ ل184. 2 قال ياقوت: "خراسان بلاد واسعة، أوّل حدودها مما يلي العراق أزاذوار، قصبة جوين وبيهق، وآخر حدودها مما يلي الهند طخارستان، وغزنة وسجستان، وكرمان. وليس ذلك منها، إنما هو أطراف حدودها". معجم البلدان 2/350.

رحلاته العلمية لقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - حريصين على عدم مغادرة المدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن حبهم العظيم له جعلهم لا يقوون على الابتعاد عنه، لذلك وجدنا المكثرين من رواية الحديث عنه لازموا المدينة حتى وفاته عليه السلام، ولم يغادروها الاّ لحاجة، ثم يعودوا إليها. حتى كان عهد الفتوحات الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين حيث بدأت رحلاتهم، وخروجهم من المدينة، فانتشروا في الأمصار، حاملين معهم حديث رسوله الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكونوا جميعاً بدرجة واحدة في التحمل من رسوله الله صلى الله عليه وسلم، بل كان أحدهم يسمع ما لا يسمعه الآخر، ويحفظ ما نسيه غيره، مما جعلهم هم أنفسهم يرحلون إلى بعضهم لسماع حديث اختص بتحمله واحد منهم دون سواه، أو التثبت من حديث بلغه ذكره عن أحدهم، فكانت الرحلة لطلب الحديث منذ ذلك الحين سنة متبعة، سلكها علماء هذا الفن الشريف، حتى حملت إلينا كتب التاريخ عجائب رحلاتهم، فقد كان أحدهم يقطع المسافات الشاسعة لسماع حديث واحد بلغه عن غيره. فهذا الصحابي الجليل، جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: "بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهراً، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ فقلت: تعم، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني أنك سمعته

من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة – أو قال العباد – عراة غرلاً بهماً" قال: قلنا وما بهما؟ قال: ليس معه شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة. قال: قلنا كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات 1. وكانت الرحلة في عهد التابعين أوسع، لأن كل واحد منهم كان يطمع في الحصول على أكبر قدر ممكن من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع ذلك إلاّ بالرحلة إلى أقطار شتى، حيث تفرق فيها الصحابة رضوان الله عليهم. وثمة عامل آخر للرحلة، وهو طلب علو الإسناد، فكان بعضهم إذا بلغه الحديث بواسطة شخص ما عن أحد الصحابة يحرص على سماعه من الصحابي نفسه فيرحل إليه، وإذا بلغه عن شخص بينه وبين الصحابي آخر، وكان الصحابي قد مات يحرص أيضاً على سماعه ممن سمعه من الصحابي مباشرة لإسقاط إحدى الواسطتين حتى يعلو إسناده. وهكذا أصبحت الرحلة لطلب العلم سنة متبعة بين طلابه. وقد حرص البيهقي - رحمه الله - على أن يحوز ما أمكنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلك هذه الطريقة التي سنها الصحابة

_ 1 مسند أحمد3/495.

والتابعون، فرحل إلى خراسان، والعراق، والحجاز، وفيما يلي عرض لهذه الرحلات، وأسماء بعض شيوخه الذين أخذ عنهم فيها: رحلته إلى خراسان ذكر الذهبي أن البيهقي - رحمه الله - بدأ سماع الحديث وهو ابن خمس عشرة سنة من أبي الحسن محمد بن الحسين العلوي والحاكم أبي عبد الله الحافظ وعبد الله بن يوسف الأصبهاني، وأبي علي الروذباري وأبي عبد الرحمن السلمي، وأبي بكر بن فورك ... ثم سرد عشرين شيخاً من أوّل من سمع منهم البيهقي1. وفي تذكرة الحفاظ ذكر هؤلاء الستة الذين نقلتهم عنه من سير أعلام النبلاء، ثم ذكر أن سماعه منهم كان بخراسان2، كما ذكر هؤلاء أيضاً ابن هداية الله، وذكر أن سماعه منهم كان أيضاً بخراسان3. وذلك كله يؤكد لنا أن سماعه بخراسان لم يسبقه سماع بغيرها، فبدأ الرحلة قبل السماع من علماء بلده بيهق، وبهذا يتحدد لنا تاريخ رحلته إلى خراسان بعام تسعة وتسعين وثلاثمائة، وهي السنة التي شهدت بداية طلبه لعلم الحديث.

_ 1 سير أعلام النبلاء11/ ل184. 2 تذكرة الحفاظ3/1132. 3 مختصر طبقات المحدّثين ص: 200.

رحلته إلى العراق كما رحل البيهقي - رحمه الله - إلى العراق قاصداً حاضرة العلم والعلماء في ذلك الوقت، مدينة بغداد، وسمع بها من هلال بن محمد بن جعفر الحفار وعلي بن يعقوب الأيادي، وأبي الحسين بن بشران وطبقتهم1. ثم توجه إلى الكوفة أيضاً قاصداً علماءها، فأفاد بها من جناح بن نذير القاضي وغيره2. ولم أجد ذكراً لتاريخ رحلته هذه، ولا المدة التي قضاها في كل من بغداد والكوفة، إلاّ أن السبكي يشير إلى أن ذلك كان وهو في طريقه إلى الحج3. رحلته إلى الحجاز ولما كان الحجاز يضم مهوى أفئدة المسلمين، شد البيهقي رحاله إليه، قاصداً مكة المكرمة، لأداء فريضة الحجّ، ولكنه رأى هذه المناسبة فرصة سانحة للاستفادة من علماء البلد الحرام، فجلس فيها إلى الحسن بن أحمد بن ضراس، وأبي عبد الله بن نظيف، وغيرهما. فأفاد منهما فائدة كبيرة4.

_ 1 سير أعلام النبلاء 11/ل 184، ومختصر طبقات المحدّثين ص: 200. 2 المصدر نفسه. 3 طبقات الشافعية4/8. 4 طبقات الشافعية4/8، ومختصر طبقات المحدّثين ص: 200.

وهذه الرحلة – كسابقتها – لا يعرف لها تاريخ، إذ إن حياة البيهقي يكتنفها شيء من الغموض في بعض جوانبها، ومن تلك الجوانب تحركاته لتحصيل العلم، إذ لم نجد تفصيلات كافية عن مدى الفائدة التي حصلها من كل رحلة وإن كانت رحلاته في جملتها ذات أثر عظيم في تكوينه العلمي. ويذكر الأستاذ السيد أحمد صقر في مقدمته (لمعرفة السنن والآثار) أن للبيهقي تحركات كثيرة في البلدان المجاورة لموطنه، إذ سمع بكنوقان واسفرايين، وطوس، والمهرجان، وأسداباذ، وهمذان، والدامغان وأصبهان والري، والطابران1. إلاً أنني لم أجد ذكراً لمشايخه بها، لذلك اقتصرت على رحلاته التي أطلعنا على شيوخه الذين أفاد منهم خلالها.

_ 1 معرفة السنن والآثار، مقدّمة المحقّق ص: 1.

الفصل الرابع: شيوخه وتلاميذه

الفصل الرابع: شيوخه وتلاميذه شيوخه لقد كان العلماء في ذلك العصر يحرصون على بذل أقصى جهدهم من أجل تحصيل أكبر قدر من العلم، لذلك نرى الكثرة في مشايخ كل منهم ظاهرة طبيعية، والبيهقي - رحمه الله - معروف بأنه واسع العلم، كثير الاطلاع، موفور الإنتاج ومن أبرز الأسباب التي وصل بها إلى تلك المكانة السامقة، تتبعه لعلماء عصره، وأخذه عن المبرزين منهم، فأكثر من المشايخ الذين كان لهم الأثر البالغ في حياته العلمية، فيذكر تاج الدين السبكي أن شيوخه يبلغون أكثر من مائة شيخ1. واستقصاء ذكر شيوخه ليس من غرضنا، وكثرتهم تحول دون ذلك - إن أردناه - لذلك أكتفي بذكر ترجمة موجزة لأبرز المؤثرين في مجرى حياته وتكوينه العلمي. والبيهقي - رحمه الله - كما برز في الحديث، فإنه أنتج في الفقه والعقيدة، وبرز فيهما أيضاً، لذلك سنأخذ بعين الاعتبار أبرز مشايخه الذين تأثر بهم في كل مجال.

_ 1 طبقات الشافعية4/9.

فأمّا الحديث فأجمع المؤرخون على أن أشهر أساتذته فيه الحاكم أبو عبد الله محمّد بن عبد الله الحافظ. كما ذكر السبكي أن أكبر شيخ له في هذا المجال أبو الحسن محمد نجده الحسين العلوي، وأنه سمع الكثير منه1. وذكر السمعاني أنه تفقه على ناصر العمري المروزي2. أما في العقيدة فقد عاصر الكثير من أساطين المتكلمين، وأخذ عنهم مذهب الأشعري، إلا أن أبرزهم الشيخ أبو بكر بن فورك الذي وصفه الذهبي بأنه كان أشعرياً رأساً في فن الكلام3. ويعد أبرز مشايخه الذين تأثر بهم من الناحية العقدية. لذلك سوف أقتصر هنا على ذكر ترجمة موجزة لهؤلاء الشيوخ الأربعة: 1 - أبو الحسن العلوي 4: هو: محمّد بن الحسين بن داود بن علي بن الحسين بن عيسى بن محمّد بن الحسن بن زيد، بن الحسن، بن علي بن أبي طالب5.

_ 1 طبقات الشافعية4/9. 2 الأنساب1/ل 101. 3 سير أعلام النبلاء11/ل 48. 4 قال ابن الأثير: "العلوي بفتح العين واللام وفي آخرها الواو - هذه النسبة إلى أربعة رجال، أحدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي أولاده كثرة.." انظر اللباب2/353. فالنسبة هنا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. 5 كذا ساق السبكي نسبه نقلاً عن الحاكم. انظر طبقات الشافعية 3/148.

وقال ابن العماد: "أبو الحسن العلوي الحسني النيسابوري ... شيخ الأشراف، سمع أبا حامد الشرقي، ومحمد بن إسماعيل المروزي صاحب علي بن حجر وطبقتهما، وكان سيداً نبيلاً صالحاً"1. وهو أكبر مشايخ البيهقى، لأنه بدأ السماع منه وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان ذلك بخراسان2. ويعني ذلك أنه كان سنة تسع وتسعين وثلاثمائة. ويذكر ابن العماد أن وفاته كانت فجأة في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعمائة3. ولا ريب أنه كان صاحب أثر عظيم في توجيه البيهقي، وفي خط سير حياته العلمية، الحافلة بالثراء العلمي، وذلك باعتباره أوّل موجه له، وأنه سمع منه الكثير، فرحمه الله رحمة واسعة. 2- أبو عبد الله الحاكم: هو: محمّد بن عبد الله بن محمّد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري، الحافظ أبو عبد الله الحاكم، المعروف بابن البيع. ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بنيسابور، في شهر ربيع الأول، وكان أول سماعه سنة ثلاثين وثلاثمائة، واستملى على أبي حاتم بن حبان سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وأكثر التجوال في سبيل طلب الحديث، فرحل إلى خراسان، والعراق، وما وراء النهر، وسمع من نحو ألفي شيخ، منهم نحو ألف شيخ بنيسابور وحدها.

_ 1 شذرات الذهب3/162. 2 سير أعلام النبلاء11/ل 184، ومختصر طبقات المحدّثين ص: 200. 3 شذرات الذهب3/162.

له تصانيف كثيرة في علم الحديث، من أشهرها: المستدرك على الصحيحين، كما أن له مصنفات أخرى مثل فضائل الشافعي، وتاريخ نيسابور توفي - رحمه الله - سنة خمس وأربعمائة1. وكان قد رمى بالتشيع، إلا أن السبكي رد هذا الاتهام، وبين عدم صحته2. والإمام أبو عبد الله الحاكم عالم جليل، مبرز في الحديث، ولا أدل على ذلك من تلقيبه بالحاكم، الذي يعتبر أعلى لقب علمي في هذا المجال. ويعد الحاكم الأستاذ الأوّل للبيهقي في الحديث، أكثر عنه وأفاد منه فائدة عظمى، ولذلك يقول الذهبي: " ... وسمع من الحاكم أبي عبد الله الحافظ، فأكثر جداً، وتخرج به "3. وقال السبكي: "البيهقي أجل أصحاب الحاكم"4. ولا ريب أن أستاذاً بهذه المنزلة، سيكون صاحب أثر كبير في الاتجاه العلمي لتلميذه. وكانت مؤلفات الحاكم موضع اهتمام كبير من البيهقي، إذ أفاد منها كثيراً في مؤلفاته الحديثية، يلمس ذلك كل من قرأ للبيهقي. ولا أدل على عمق تأثير الحاكم في تلميذه البيهقي من أنه سار على منواله في تأليف كتاب مناقب الشافعي، حيث إن الحاكم قد سبقه إلى تأليف كتاب في الموضوع نفسه بعنوان فضائل الشافعي.

_ 1 مصادر الترجمة: سير أعلام النبلاء11/ل36، وطبقات الشافعية4/155، وشذارت الذهب3/176. 2 طبقات الشافعية4/161 وما بعدعها. 3 سير أعلام النبلاء11/ل184. 4 طبقات الشافعية4/8.

3 - أبو الفتح العمري: هو: ناصر بن الحسين بن محمّد بن علي بن القاسم بن عمر بن يحيى ابن محمّد بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو الفتح العمري المروزي، أحد أئمة الدين، تفقه على القفال، وأبي الطيب الصعلوكي، وأبي طاهر الزيادي توفي في ذي القعدة سنة أربع وأربعين وأربعمائة بنيسابور وله مصنفات كثيرة1. ويعد أبو الفتح العمري شيخ البيهقي في علم الفقه، كما ذكر ذلك السمعاني2. وخص السبكي البيهقي بالذكر من بين الذين تفقهوا على يديه، حيث قال: "وتفقه به خلق منهم البيهقي"3. وسعة علم البيهقي في الفقه يدلّ على أن شيخه هذا - الذي أخذ عنه - معين دفاق، ولا أدل على ذلك من الوصف السابق له بأنه أحد أئمة الدين. 4 - ابن فورك: محمّد بن الحسن بن فورك، أبو بكر الأنصاري الأصبهاني، كان ورعاً مهيباً، اشتغل بعلم الكلام حتى برز فيه، فأصبح - كما يقول الذهبي -: شيخ المتكلمين، وكان اشتغاله بعلم الكلام، وبروزه فيه على مذهب

_ 1 انظر هذه الترجمة في طبقات الشافعية للسبكي5/35، وشذرات الذهب3/272. 2 الأنساب1/ل101. 3 للسبكي، المصدر السابق.

أبي الحسن الأشعري، مستمداً ذلك من شيخه أبي الحسن الباهلي الذي أخذ عنه بالعراق. ولم يكن متكلماً فحسب، بل كان محدثاً بارعاً، وفقيهاً بارزاً، ومن أبرز مشايخه الذين أخذ عنهم الحديث عبد الله بن جعفر بن فارس الأصبهاني. وكما أن له شيوخاً فإن له تلاميذ من أبرزهم: أبو بكر البيهقي وأبو القاسم القشيري، وله تصانيف كثيرة بلغت أكثر من مائة مصنف، من أبرزها كتاب (مشكل الحديث) الذي تناول فيه تأويل الأخبار الواردة في الصفات، وكتاب الجامع في أصول الدين، وغيرها. توفي - رحمه الله - سنة ست وأربعمائة، وهو عائد من غزنة، ونقل إلى نيسابور، ودفن بالحيرة1. وقد كان صاحب أثر كبير في الاتجاه العقدي لشيخنا البيهقي إذ الناظر في الكتب التي خصصها البيهقي لمسائل العقيدة كالأسماء والصفات، والاعتقاد، وغيرهما، يراها على اتفاق كبير مع ما ورد في كتاب ابن فورك (مشكل الحديث) من تأويل لأحاديث الصفات، سيما ما يتعلق بالصفات الخبرية. كما سيتضح ذلك أثناء بحثنا لها إن شاء الله. فابن فورك الذي كان رأساً في فن الكلام - كما وصفه الذهبي - يعد أبرز مشايخ البيهقي في هذا الفن. ولم تكن استفادة البيهقي منه قاصرة على هذا المجال، بل استفاد منه كثيراً في الحديث أيضاً، كما هو ملموسة من رواياته الكثيرة عنه.

_ 1 مصادر الترجمة: سير أعلام النبلاء11/48، وطبقات الشافعية للسبكي4/127، وشذرات الذهب3/181.

تلاميذه بعد أن كان البيهقي تلميذاً يتلقى ما جاد به أساتذته عليه من علم وفير، حتى استوعبه، وحققه، وبرع في تصنيفه وتدوينه، ما لبث أن أصبح شيخاً بارزاً، يعطي تلاميذه بنفس البذل الذي أخذه من مشايخه. وقد تواجد لسماع كتبه الكثير من تلاميذه، الذين حرصوا على ألا يفوتهم الأخذ عنه، لما له من مكانة علمية سامقة، فقد استدعي إلى نيسابور سنة إحدى وأربعين وأربعمائة لينشر العلم، فأجاب، وأقام بها مدة، وحدّث بتصانيفه1. بالإضافة إلى ما عقده من مجالس علمية في بلده بيهق، وغيرها من البلدان المجاورة. ومن أبرز تلاميذه الذين أخذوا عنه، وكان له فيهم أثر كبير ابنه أبو علي إسماعيل بن أحمد الملقب بشيخ القضاة وحفيده أبو الحسن عبيد الله ابن محمّد بن أحمد، والفراوي أبو عبد الله محمد بن أفضل الصاعدي، وابن منده أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن الحافظ محمد بن إسحاق بن منده وغيرهم كثير. إلاّ أنني هنا أكتفي بترجمة موجزة لهؤلاء الأربعة من تلاميذه. 1 - ابنه أبو علي: إسماعيل بن أحمد بن الحسين الخسرو جردي، شيخ القضاة. ولد بخسرو جرد سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وسمع أباه، وأبا حفص بن مسرور وأبا عثمان الصابوني، وغيرهم.

_ 1 طبقات الشافعية للأسنوي ص: 198.

كانت له رحلات كثيرة، إذ رحل إلى خوارزم، فسكن بها مدة وولي بها الخطابة، وتدريس مذهب الشافعي، كما ولي القضاء بما وراء جيحون، ثم سافر إلى بلخ، وأقام بها مدة، ثم عاد إلى بيهق بعد أن غاب عنها نحو ثلاثين سنة، وتوفي بها في جمادى الآخرة سنة سبع وخمسمائة. ويعد والده أهم مشايخه الذين أخذ عنهما الحديث والفقه. وقد وصفه ابن الجوزي بأنه كان فاضلاً مرضي الطريقة1. ولم أجد ذكراً لتصانيفه، ولم يشر أحد ممن ترجم له إلى أنه ألف في أيّ فن من الفنون التي اشتغل بها، مما يشير أنه لم يتجه إلى ذلك ولعل شهرته كانت مستمدة من شهرة والده وعظيم مكانته. ويظهر لي من تلقيبه بشيخ القضاة أنه كان ذا أسلوب متميز في القضاء، جعله ينال رضا الناس، ويطلقون عليه هذا اللقب. 2 - حفيده أبو الحسن: عبيد الله بن محمّد بن أحمد، سمع الكتب من جده، ومن أبي يعلى الصابوني وجماعة، وحدث ببغداد، قال عنه ابن العماد: "كان قليل الفضيلة". وقال ابن عساكر فيما حكاه عنه الذهبي: "سمع لنفسه تسميعاً طرئاً وما عدا ذلك فصحيح". توفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وله أربع وسبعون سنة، أي: أن ولادته كانت سنة تسع وأربعين وأربعمائة2.

_ 1 مصادر الترجمة: طبقات الشافعية للسبكي7/44، والمنتظم لابن الجوزي9/175، و176، والكامل لابن الأثير8/267، والبداية والنهاية لابن كثير12/176. 2 انظر: ميزان الاعتدال للذهبي3/15، وشذرات الذهب4/96.

3 - أبو عبد الله الفراوي: محمّد بن الفضل بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن أبي العباس، أبو عبد الله الفراوي الصاعدي النيسابوري، ولد سنة إحدى وأربعين وأربعمائة تقريباً، كان شافعياً فقيهاً مناظراً، وقد لقب بفقيه الحرمين، لأنه أقام بهما مدة طويلة ينشر العلم، ويسمع الحديث، ويعظ الناس كما لقب أيضاً بمسند خراسان، أخذ الأصول والتفسير عن أبي القاسم القشيري، وتفقه على يد إمام الحرمين الجويني، وسمع من شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني ومن أبرز مشايخه الذين تتلمذ على أيديهم، واعتنى بمؤلفاتهم الشيخ أبو بكر البيهقي، إذ تفرد برواية بعض كتبه، مثل دلائل النبوة، والأسماء والصفات والدعوات، والبعث والنشور. توفي سنة ثلاثين وخمسمائة عن عمر قارب تسعين عاماً1. 4 - ابن منده: أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن الحافظ محمد بن إسحاق بن منده العبدي الأصبهاني الحافظ، الحنبلي، مؤرخ حافظ للحديث، روى الكثر عن جماعة منهم أبوه وعماه، ودخل نيسابور للإفادة من علمائها، وكان على رأسهم البيهقي، فأخذ عنه الكثير. دخل بغداد حاجاً، وحدّث بها، وأملى بجامع المنصور من كتبه تاريخ أصبهان، وكتاباً على الصحيحين في الحديث، ومناقب الإمام أحمد وغيرها. كان من بيت علم وفضل مشهور في أصبهان، وكانت ولادته ووفاته بها.

_ 1 انظر: طبقات الشافعية للسبكي6/166، وشذرات الذهب4/96.

فأما ولادته فكانت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وأما وفاته ففيها قولان: فقيل سنة إحدى عشرة، وقيل اثنتا عشرة وخمسمائة1. وللبيهقي سوى هؤلاء تلاميذ كثيرون، لا يتسع المقام لذكرهم، وقد لاحظنا أن جميع تلاميذه لم يبلغ أحد منهم مبلغه، ولم يقاربه، إلا أنهم كانوا أصحاب فضل كبير في نشر كتب البيهقي وروايتها.

_ 1 انظر: شذرات الذهب4/32، والأعلام للزركلي9/194.

الفصل الخامس: ثقافته ومؤلفاته

الفصل الخامس: ثقافته ومؤلّفاته ثقافته لقد أفنى البيهقي - رحمه الله - حياته راتعاً في رياض العلم والمعرفة حتى برز في جوانب شتى من العلوم الإسلامية، وبز فيها حتى مشايخه وأقرانه، فذاع صيته في كل حدب وصوب، وسار الركبان بإنتاجه العلمي إلى كل صقع من أصقاع العام الإسلامي، فكان شاهداً حياً على سعة اطلاع البيهقي، وأصالة ثقافته. وكان نبوغه - رحمه الله - في علوم الشريعة الإسلامية أصولاً وفروعاً محل إعجاب كثير من العلماء قديماً وحديثاً حتى إن السبكي وصفه بأنه أحد أئمة المسلمين.. حافظ كبير، وأصولي نحرير ... جبلاً من جبال العلم1. ولذلك فإن مؤلفاته في العقيدة والحديث والفقه كانت موضع عناية العلماء، حتى لا نكاد نجد مؤلفاً في هذه الفنون - ممن جاء بعد البيهقي - لم يفد منها، لأن مصنفاته العظام أصبحت فيما بعد مرتعاً خصباً ومورداً عذباً لطلاب هذا العلم الجليل، بل ولحذاقة الذين عرفوا قيمة ما حصله البيهقي من علم وجاد به لطلابه. أما في التفسير واللغة فكان صاحب اطلاع واسع، وإن لم يكن إنتاجه فيهما بدرجة إنتاجه في العلوم الإسلامية الأخرى.

_ 1 طبقات الشافعية4/8.

ولكي تتضح لنا ثقافة البيهقي بعمقها وأصالتها نعرض لكل فن اشتغل به، فحصل منه وأفاد طلابه. 1 - العقيدة: فأما في العقيدة فقد كان صاحب معرفة واسعة بالمذاهب المختلفة التي تشعبت آراؤها واختلفت أهواؤها، فكانت بمنأى عن العقيدة الإسلامية االصافية، لذلك رأى من واجبه - وهو العالم البصير - أن يدرس العقيدة كما جاءت في منبعها الصافي الأصيل، حتى يسهم في توضيحها كما جاءت في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فألف في ذلك المؤلفات العظيمة، التي سار في تأليفها على طريقة المحدثين، وإن كان في تعليقات وإيضاحه لمسائل العقيدة، قد رضي أن يكون المذهب الأشعري هو السائد على آرائه، مع استقلاله عن الأشاعرة ببعض الآراء في مسائل مهمة متبعاً طريقة السلف فيها، وراضياً بمذهبهم، كما سيتضح لنا ذلك في ثنايا البحث إن شاء الله. وقد شمل إنتاجه العلمي في هذا المجال كتباً قيمة، منها الخاص في مسائل معينة، ومنها العام لكل مسائل العقيدة. فكتاب الأسماء والصفات، وكتاب البعث والنشور، وكتاب القدر وإثبات عذاب القبر، جميعها كتب متخصصة، كل منها يدل عنوانه على موضوعه. أما الشمول فقد اختص به كتاب الاعتقاد. وسيكون بحثنا هذا من أوضح الشواهد على سعة اطلاع البيهقي ومعرفته في مسائل العقيدة، تقريراً للمعتقد ومناقشة لآراء الخصوم.

2 - الحديث: وقد كان أشهر الجوانب التي نبغ فيها البيهقي على الإطلاق، إذ كرس جهده لخدمة هذا العلم الجليل فحقق ودقق، وصنف المجلدات الضخام التي تشهد بغزارة علمه، وسعة اطلاعه. وقد كانت للبيهقي بين علماء الحديث مكانة لا تسامى، ولا أدل على مكانته تلك من استحقاقه للقب الحافظ، وهو لقب لم يظفر به إلاّ عدد قليل من المحدثين، رغم أن الكثير ممن لم يحظوا بإطلاق هذا اللقب عليهم محدثون عظام لا يستهان بهم. إلاّ أن البيهقي يعد من أكثر رواد هذا الفن حفظاً إتقاناً، فقد كان إنتاجه الغزير في هذا الجانب من أهم المصادر التي اعتمدها طلابه، مما يشهد بغزارة علمه ورسوخ قدمه، وإمامته في هذا المجال. ولم يكن مجرد جمع الحديث هو الهدف الوحيد للبيهقي، بل اتجه إلى جانب ذلك، لنقد رجاله، حتى ينفي عنه ما ليس منه، ويبين صحيحه من سقيمه، إذ العدالة في راوي الحديث أمر لابد منه، بل هي - عند البيهقي - ألزم من عدالة الشهود، ويوضح هذا المبدأ بقوله: "إن القاضي إذا توقف في قبول شهادة من لا يعرفه على درهم حتى يعرفه، فأولى بنا أن نقف في رواية من لا نعرفه في مثل هذا الأمر العظيم حتى نعرفه"1. وكان دائم الحرص على أن لا تتضمن كتبه إلاّ ما صح من الأخبار وإن اشتملت على غير ذلك، فمع بيان شاف لدرجة ذلك الخبر، حتى يكون التمييز بين صحيح الأخبار، وحسنها، وضعيفها واضحاً. ولذلك يقول:

_ 1 القراءة خلف الإمام ص: 127.

"وعادتي في كتبي المصنفة في الأصول والفروع، الاقتصار على ما يصح منها دون ما لا يصح، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح، ليكون الناظر فيها من أهل السنة على بصيرة مما يقع الاعتماد عليه، لا يجد من زاغ قلبه من أهل البدع عن قبول الأخبار مغمزاً فيما اعتمد عليه أهل السنة من الآثار"1. ومن اكبر الشواهد على نبوغ البيهقي في علم الحديث، حتى أصبح حجة يركن إليها، ما حدث من أمره مع شيخه أبي محمد والد إمام الحرمين2 حين شرع هذا الأخير في تأليف كتاب في الفقه، عزم على أن لا يتقيد فيه بالمذهب، بل يقف على موارد الأحاديث لا يتجاوزها. وما إن أنجز من هذا المؤلف الذي سماه (المحيط) ثلاثة مجلدات، حتى اطلع عليه البيهقي، فعثر فبه على أخطاء حديثية، رأى من واجبه التنبيه عليها، فكتب إلى الجويني بذلك، بأسلوب العالم الحاذق، والناقد البصير. فقد كانت تلك الرسالة القيمة مثالاً للنقد العلمي البناء، الذي تميز بالأدب الرفيع، وقوة الحجة، والقدرة على الدفع بالتي هي أحسن ولكي ندلل على ذلك نورد من تلك الرسالة اقتباسات تدل على ذلك كله وعلى ما هو أكثر منه.

_ 1 المدخل إلى دلائل النبوّة1/39، تحقيق عبد الكريم عثمان. 2 هو: أبو محمّد، عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمّد بن حيويه الجويني، ثم النيسابوري. الإمام الفقيه الأصولي تخرج به جماعة من أئمة الإسلام، توفي في ذي القعدة عام ثمانية وثلاثين وأربعمائة. انظر تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص: 257.

قال البيهقي في صدر رسالته: "أما بعد، عصمنا الله بطاعته وأقمنا بالاعتصام بسنة خيرته من بريته صلى الله عليه وسلم، وأعاننا على الاقتداء بالسلف الصالحين من أمته وعافانا في ديننا ودنيانا، وكفانا كل هول دون الجنة بفضله ورحمته، إنه واسع المغفرة والرحمة به التوفيق والعصمة. فقلبي للشيخ – أدام الله عصمته، وأيد أيامه - مفتد، ولساني له بالخير ذاكر، ولله على حسن توفيقه إياه شاكر. وقد علم الشيخ اشتغالي بالحديث، واجتهادي في طلبه، ومعظم مقصودي منه في الابتداء، التمييز بين ما يصح الاحتجاج به من الأخبار وبين ما لا يصح، حين رأيت المحدثين من أصحابنا يرسلونها في المسائل على ما يحضرهم من ألفاظها، من غير تمييز منهم بين صحيحها، وسقيمها ثم إذا احتج عليهم بعض مخالفيهم بحديث يشق عليهم تأويله، أخذوا في تعليله بما وجدوه في كتب المتقدمين من أصحابنا تقليداً، ولو عرفوه معرفتهم لميزوا صحيح ما يوافق أقوالهم من سقيمه، ولأمسكوا عن كثير مما يحتجون به، وإن كان يطابق آراءهم، ولاقتدوا في ترك الاحتجاج برواية الضعفاء والمجهولين بإمامهم، فشرطه فيمن يقبل خبره عند من يعتني بمعرفته مشهور، وهو بشرحه في كتاب الرسالة مسطور". وبعد أبحاث دقيقة مفيدة قال: "وكنت أسمع رغبة الشيخ - رضي الله عنه - في سماع الحديث، والنظر في كتب أهله، فأسكن إليه، وأشكر الله تعالى عليه، وأقول في نفسي ثم فيما بين الناس: قد جاء الله بمن يرغب في الحديث، ويرغب فيه

من بين الفقهاء ويميز فيما يرويه ويحتج به الصحيح من السقيم، من جملة العلماء، وأرجو من الله أن يحمي سنة إمامنا المطلبي في قبول الآثار، حيث أماتها أكثر فقهاء الأمصار، بعد من مضى من الأئمة الكبار الذين جمعوا بين نوعي علم الفقه والأخبار، ثم لم يرض بعضهم بالجهل به، حتى رأيته حمل العالم به بالوقوع فيه، والإزراء به، والضحك منه، وهو مع ذلك يعظم صاحب مذهبه ويجله، ويزعم أنه لا يفارق في منصوصاته قوله، ثم لم يدع في كيفية قبول الحديث ورده طريقته، ولا يسلك فيها سيرته، لقلة معرفته بما عرف، وكثرة غفلته عما عليه وقف. هلا نظر في كتبه ثم اعتبر باحتياطه في انتقاده لرواة خبره؟ واعتماده فيمن اشتبه عليه حاله على رواية غيره؟ فيرى سلوك مذهبه مع دلالة العقل والسمع واجباً على كلّ من انتصب للفتيا، فإما أن يجتهد في تعلمه أو يسكت عن الوقوع فيمن يعلمه، فلا يجتمع عليه وزران، حيث فاته الأجران والله المستعان وعليه التكلان. ثم إن بعض أصحاب الشيخ وقع إلى هذه الناحية فعرض على أجزاء ثلاثة مما أملاه من كتابه المسمى (المحيط) فسررت به، ورجوت أن يكون الأمر فيما يورده من الأخبار على طريقة من مضى من الأئمة الكبار، لائقاً بما خص به من علم الأصل والفرع، موافقاً لما ميز به من فضل العلم والورع، فإذا أوّل حديث وقع عليه بصري فيه الحديث المرفوع في النهي عن الاغتسال بالماء المشمس، فقلت في نفسي: يورده ثم يضعفه أو يصحح القول فيه. فرأيته قد أملى: "والخبر فيه ما روى مالك

عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة" فقلت: هلا قال: روي عن عائشة؟ أو روى عن ابن وهب عن مالك؟ أو روى عن إسماعيل بن عمرو الكوفي عن ابن وهب عن مالك؟ أو روى خالد ابن إسماعيل أو وهب بن وهب أبو البختر، عن هشام بن عروة؟ أو روى عمرو بن محمد الأعسم، عن فليح، عن الزهري، عن عروة؟ ليكون الحديث مضافاً إلى من يليق به مثل هذه الرواية، ولا يكون شاهداً على مالك بن أنس بما أظنه يبرأ إلى الله تعالى من روايته، ظناً مقروناً بعلم. والله أعلم1. وهكذا سار البيهقي في نقده لكتاب الجويني، بهذا الأسلوب البارع الذي جعل الجويني ينزل عند حسن ظن البيهقي، فقد حمل رسالته هذه على أحسن المحامل، وعدها نصيحة نافعة تستوجب الشكر والثناء، بدليل عدوله عن إكمال الكتاب. 3 - الفقه: وقد أولاه عناية فائقة، حتى أصبح فيه إماماً ذا مكانة كبيرة، وقد فضل أن يتمسك في ذلك بمذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، لأنه كان يرى فيه أنه أكثر المذاهب موافقة للحديث الذي وهبه جل حياته. فبعد اعتذاره للأئمة عند وقوعهم في خطأ ما، بأن أحدهم إنما يخطئ عن غير قصد، بل لأنه غفل عن الحديث الذي خالفه أو عن موضع الحجة

_ 1 انظر: الرسالة التي أخذت منها هذه المقتطفات في طبقات الشافعية للسبكي5/77-90، وهي ناقصة هنا، إلاّ أن الرسالة توجد مخطوطة كاملة، كما سأشير إلى مكان وجودها فيما بعد إن شاء الله.

فيه، ولو علم ذلك لما تردد عن القول بما يدل عليه، وقال بعد ذلك - مبرراً تفضيله لمذهب الشافعي على سواه: "وقد قابلت - بتوفيق الله تعالى - أقوال كل واحد منهم بمبلغ علمي من كتاب الله عز وجل، ثم بما جمعت من السنن والآثار في الفرائض والنوافل، والحلال، والحرام، والحدود والأحكام، فوجدت الشافعي - رحمه الله - أكثرهم اتباعاً، وأقواهم احتجاجاً وأصحهم قياساً، وأوضحهم إرشاداً.. فخرجت - بحمد الله ونعمته - أقواله مستقيمة وفتاواه صحيحة"1. من أجل هذه النظرة لآراء الإمام الشافعي، أولى مذهبه عناية عظيمة حتى إن إمام الحرمين الجويني أحد معاصري البيهقي قد تملكه العجب من فرط اهتمام البيهقي بأقوال الإمام الشافعي حين ألف كتابه (المبسوط) جامعاً فيه نصوصه في الفقه، فوصفه بقوله: "ما من شافعي إلاّ وللشافعي في عنقه منة، إلاّ البيهقي فإن له على الشافعي منة، لتصانيفه في نصرته لمذهبه وأقاويله"2. وقد بلغ من اهتمامه بالفقه أن أفرد بعض مسائله المهمة بالتأليف مثل القراءة خلف الإمام، ومسألة الخاتم، كما ألف كتاباً تناول فيه المسائل الخلافية بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة. وقد أشاد الذهبي بسعة اطلاع البيهقي في الفقه حيث قال عنه لو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهباً يجتهد فيه لكان قادراً على ذلك لسعة علومه، ومعرفته بالاختلاف3.

_ 1 معرفة السنن والآثار1/141، 142. 2 طبقات الشافعية للسبكي4/10. 3 سير أعلام النبلاء11/ ل 185.

4 - التفسير: أما عن التفسير فإن البيهقي - رحمه الله - لم يكن له فيه من المكانة ماله في الفنون السابقة، إلاّ أنه كان ذا معرفة واسعة به، بدليل ما يتخلل كتبه من آراء، بعضها يرويها عن أئمة التفسير ويجتهد في الاختيار، وأفضل منهج عنده هو التفسير بالثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أبعد عن الشبهات، أو ما روى عن الصحابة. أما إذا صار الأمر إلى تأويل الفقهاء فلا يجعل قول بعضهم حجة على بعض1. ومن أهم الآراء - في نظره - التي توافق منهجه هذا: آراء الإمام الشافعي، إذ يقول عنها إنها من أصح الآراء، لدلالة الأدلة عليها. لذلك قام بعمل جليل، حيث جمع آراء الإمام الشافعي في التفسير في كتاب مستقل سمّاه (أحكام القرآن) . 5 - اللغة: وهذا العلم أيضاً كان للبيهقي منه نصيب الأسد، لأن من اشتغل بالعلوم الإسلامية لا بد وأن يكون على علم بالعربية وقواعدها، لأنها لغة القرآن. وإدراكاً من البيهقي لأهمية هذا العلم تضلع فيه، حتى أصبح من أهل الخبرة به، ولا أدل على ذلك من الكتاب الذي ألّفه للرد على منتقدي الإمام الشافعي في مسائل لغوية ادعوا غلطه فيها، فرد عليهم البيهقي في

_ 1 القراءة خلف الإمام ص: 151.

كتاب خصّصه لهذا العرض سمّاه (الانتقاد على أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي) . وذكر ثناء علماء اللغة على الشافعي، وأثبت صحة ما قاله، وخطأ انتقادهم، وذلك بأدلة لغوية دامغة مما ينبئ عن اطلاع واسع، وتمكن من هذا العلم الأصيل. فالبيهقي - رحمه الله - كان ذا ثقافة واسعة، وعلم راسخ مما جعله يحتل المرتبة الأولى بين علماء عصره. وقد وصفه أبو الحسن عبد الغافر1 في ذيل تاريخ نيسابور بقوله: "أبو بكر البيهقي الفقيه الحافظ الأصولي، ... واحد زمانه في الحفظ، وفرد أقرانه في الإتقان والضبط، من كبار أصحاب الحاكم، ويزيد عليه بأنواع من العلوم"2. وسيتضح لنا من خلال عرضنا لإنتاجه العلمي - فيما يأتي - بالإضافة إلى ما تقدم ذكره، سيتضح لنا من ذلك كله مدى ما وصل إليه البيهقي - رحمه الله من تعمق في العلوم الإسلامية، التي قضى عمره من المهد إلى اللحد خادما لها ولطلابها.

_ 1 أبو الحسن، عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي، من علماء العربية والتاريخ والحديث، فارسي الأصل، من أهل نيسابور، ولد سنة أربعمائة وإحدى وخمسين، وتوفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة. انظر الأعلام للزركلي4/157. 2 نقلاً عن تذكرة الحفاظ للذهبي3/1133.

مؤلفاته لقد كان للبيهقي - رحمه الله - إنتاج علمي وفير، أثرى به المكتبة الإسلامية، سيما في مجال الحديث النبوي الشريف، الذي عُنِيَ به عناية فائقة شأنه في ذلك شأن أمثاله من المحدثين العظام، الذين بذلوا جهوداً مضنية في سبيل حفظ السنة وتنقيتها من كل دخيل، ببيان صحيحها من سقيمها، وجمعها في مؤلفات ضخمة، كانت ولا تزال إلى يومنا هذا، وستظل - إن شاء الله - نبراساً يضيء الطريق لطلاب المعرفة الصافية، ويبدد ظلمات الجهل، ويحفظ على الإسلام مصدراً من أهم مصادر العقيدة والتشريع. وكان نبوغه في الحديث سبباً في أن مؤلفاته العقدية، جاءت ذات صبغة حديثية واضحة، نظراً لأنه سلفي المنهج، وتأليفه في العقيدة جاء على طريقة المحدثين. وقد بلغت مصنفاته ما يقارب ألف جزء1. وكانت لها ميزة خاصة انفردت بها، حيث جاءت منظمة تنظيماً دقيقاً لا يكاد يوجد في غيرها، ولذلك وصفت بأنه لم يسبق إلى مثلها، ولا يدرك فيها2.

_ 1 طبقات الحفاظ للسيوطي ص: 434، وتبيين كذب المفتري ص: 266. 2 انظر: البداية والنهاية لابن كثير12/94، ومختصر طبقات المحدّثين لابن عبد الهادي ص: 200.

كما وصفها السبكي بأنها كلها مصنفات نظاف، مليحة الترتيب والتهذيب، كثيرة الفائدة، يشهد من يراها من العارفين بأنها لم تتهيأ لأحد من السابقين1. وفيما يلي عرض لمؤلفاته، مع التعريف بما اطلعت عليه منها، وهذه المؤلفات جميعها ذكرت في المصادر التي ترجمت للبيهقي ومنها ما ذكره البيهقي نفسه وأحال عليه وهذه المصنفات هي: 1 - إثبات عذاب القبر: تناول فيه البيهقي ما يتعلق بإثبات هذه القضية، وما يتقدمها من سؤال الملكين، بسياق أدلة ذلك الإثبات من الكتاب والسنة، وتوضيح تلك الدلالة بأقاويل سلف الأمة. ويوجد من هذا الكتاب نسخة مخطوطة بمكتبة أحمد الثالث ضمن مكتبة المتحف باستنبول، ضمن مجموعة رقمها: 4288. كما يوجد نسخة أخرى منه بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة. 2 - أحكام القرآن: ويقع في جزئين. وقد خصصه البيهقي لجمع أقوال الإمام الشافعي في تفسير آيات الأحكام، بعد أن كانت مفرقة في كتبه المصنفة في الأصول والأحكام2. وقد قام بتحقيقه الشيخ محمّد زاهد الكوثري، وعني بنشره عزت العطار سنة 1371هـ، 1951م. وقد أعيد نشره بدار الكتب العلمية في بيروت سنة 1395هـ.

_ 1 طبقات الشافعية4/10. 2 انظر: مقدمة البيهقي لهذا الكتاب ص: 19.

وهو الكتاب الوحيد الذي خصصه البيهقي لعلم التفسير مختاراً ما يتعلق بالأحكام من الآيات. وقد وصف السبكي هذا الكتاب بأنه كتاب نفيس من ظريف مصنفات البيهقي1. 3 - الآداب: من هذا الكتاب نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقمها: 43 حديث. ويقع في اثنتين وستين ومائتي ورقة، ويتناول البيهقي في هذا الكتاب جملة من الآداب والأخلاق، التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان المسلم، مع نفسه ومع أخيه ومع مجتمعه، وغير ذلك من الآداب الإسلامية الفاضلة التي حفل هذا الكتاب بذكرها، والحث عليها. 4 - الأربعين الكبرى، والأربعين الصغرى: كتابان متشابهان في التبويب والتنسيق، مختلفان في الجوهر والموضوع وقد ذكرهما جماعة ممن ترجموا للبيهقي بهذين الاسمين. وقد ذكر حاجي خليفة كتاباً بعنوان الأربعين في الأخلاق، وذكر اشتماله على مائة حديث مرتبة على أربعين باباً، وأن أوله: الحمد لله كفاء حقه2. وقد عثرت على نسخة من هذا الكتاب في مكتبة عاشر أفندي ضمن المكتبة السليمانية باستنبول، مع مجموعة منوعة، تحمل رقم 1179.

_ 1 طبقات الشافعية2/97. 2 كشف الظنون1/53.

كما أشار البيهقي في مقدمته لهذا الكتاب إلى أنه ذكر فيه ما يحتاج أصحاب الحديث إلى معرفته، للاستعمال في أحوالهم وأخلاقهم، ليكون بلغة لهم فيما لا بد لهم من معرفته في عبادة الله تعالى1. وأشار في نفسه الموضع إلى أنه ألف كتاباً آخر بنفس العنوان خصصه لبيان معالم دين الله تعالى. ويدل ذلك – بوضوح - على صحة وجود كتابين بعنوان واحد ونعت مختلف. ولكن أيهما الكبرى، وأيهما الصغرى؟ هذا ما لا أستطيع تبينه لانعدام الدليل. 5 - الأسماء والصفات: ويعد هذا الكتاب من أهم المراجع التي اعتمدها العلماء في النصوص الواردة في موضوع الأسماء والصفات، لأنه يعد مني أوفى الكتب التي ألفت في هذه القضية، حيث شرحها البيهقي فيه شرحاً وافياً. وقد طبع هذا الكتاب طبعتين، إحداهما بالهند سنة 1313? قام بتحقيقها محمّد محيي الدين الجعفري. والأخرى بمطبعة السعادة بمصر سنة 1358?، وقد قام بتحقيقها والتعليق عليها الشيخ محمد زاهد الكوثري. ويوجد له نسخة خطية بمكتبة فيض الله باستنبول، رقمها: 1307، كتبت سنة 577?، وعدد أوراقها: 205 ورقات. وينقسم هذا الكتاب إلى قسمين رئيسيين: أحدهما تناول فيه أسماء الله تعالى، وثانيهما تناولت فيه الصفات وما يتعلق بها.

_ 1 كتاب الأربعين ل 3.

وقد وصف السبكي هذا الكتاب بقوله: "وأما كتاب الأسماء والصفات فلا أعرف له نظيراً" 1. وهو كتاب عظيم، نادر المثال دون شك، لأنه قد جمع فيه عق قضية الأسماء والصفات، من النصوص والآثار، ما لم يحصل لغيره مثله. 6 - الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، على مذهب السلف، أهل السنة والجماعة: وقد وضع هذا الكتاب ليكون مختصراً شاملاً لجميع مسائل العقيدة التي تناولها في كتب شتَّى، كما ذكر هو ذلك في مقدمته لهذا الكتاب2. وقد طبع هذا الكتاب في القاهرة سنة: 1380?، بتصحيح الشيخ أحمد مرسي. ويوجد لهذا الكتاب نسختان خطيتان، إحداهما بمكتبة لاله لي برقم: 2423، تقع في 81 ورقة. والثانية بمكتبة نور عثمانية برقم: 1208/2، وتقع في 98 ورقة. وكلتاهما في استنبول. كما يوجد نسخة ثالثة في مكتبة شستربتي بلندن تحت رقم 35 ضمن مجموعة. ومنها صورة بمكتبة مركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة. وقد ذكر حاجي خليفة في كشف الظنون أن الإمام برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي، المتوفى سنة: 885? قد اختصر هذا الكتاب3.

_ 1 طبقات الشافعية4/9. 2 الاعتقاد ص: 4. 3 كشف الظنون2/1393.

7 - الألف مسألة: وهو عبارة عن رسالة صغيرة لا تزيد عن أربع ورقات، بيّن فيها ضعف الحديث الذي رواه الجويباري أحمد بن عبد الله بن مخلد بسنده، عن عبد الله بن سلام أنه سأل النبيصلى الله عليه وسلمعن ألف مسألة، وبيّن أن الصحيح الثابت أن عبد الله بن سلام، إنما سأل النبيصلى الله عليه وسلمعن ثلاث مسائل فقط. يوجد لهذه الرسالة نسخة ضمن مجموعة رقمها: 1127 بمكتبة أحمد الثالث باستنبول. 8 - الانتقاد على الشافعي: يرد البيهقي في هذا الكتاب على جماعة من المخالفين انتقدوا على الإمام الشافعي حروفاً من العربية، زعموا أنه خالف فيها أهل اللغة فبين البيهقي عدم صحة تلك الانتقادات بأسلوب علمي رصين، يدل على سعة اطلاع البيهقي وتمكنه من هذا الفن. ويوجد من هذا الكتاب نسخة بخط حديث بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة، تقع في خمس عشرة ورقة. 9 - البعث والنشور. تناول في هذا الكتاب قضية البعث، وما يعقبها من أحداث. ويتفتت لنا موضوع الكتاب تفصيلاً من قول مؤلفه - رحمه الله - في مقدمته: "نذكر ما ورد في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلمثم في أقاويل أهل التفسير من وجوب الإيمان به - أي بالبعث - وأشراط الساعة، وما يكون عند قيامها من بعث الناس وحشرهم إلى موقفها وأهوالها، وما جاء في الحساب والميزان، والحوض، والمرور على الصراط

ودخول الجنة والنار، وما جاء في خلقهما، ومن يخرج من النار بالشفاعة ومن يخلد فيها، وغير ذلك مما يتعلق بهذه الجملة1. ويذكر الأستاذ السيد أحمد صقران الإمام الذهبي قد اختصر هذا الكتاب2. ويوجد له مجموعة من النسخ مفرقة في بعض مكتبات العالم، منها ثلاث نسخ في استنبول بتركيا، إحداها بالمكتبة السليمانية ورقمها 1872 والأخريان بمكتبة المتحف رقم 2665-2666. ونسختان بمكتبة شستربتي بلندن. إحداهما تحمل رقم 3909 والأخرى رقمها 3280، ويوجد لهما صورة ميكروفيلم بمكتبة مركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة. وقد ذكر بروكلمان - سوى هذه النسخ - نسختين، إحداهما بمكتبة الموصل بالعراق برقم 228/ 17. والأخرى بمكتبة برلين برقم 27343. 10 - بيان خطأ من أخطأ على الشافعي: خصّص البيهقي هذا الكتاب للرد على من زعم أن للإمام الشافعي أخطاء حديثية، مبيناً أن ما نسب إليه من ذلك لا يخلو من أحد أمرين: فإما أن يكون ذلك الخط الذي وجد في كتب الشافعي من جهة غيره بتقصيره، وعدم دقته في النقل عن الشافعي. وإما يكون ناسب الخطأ إلى الشافعي قد وهم في اعتباره خطأ وليس كذلك.

_ 1 البعث والنشور. مخطوط بمكتبة شستربتي بلند. 2 انظر: مقدمة كتاب معرفة السنن والآثار ص: 12. 3 انظر: تاريخ التراث العربي1/447 ط/ الألمانية.

وقد ناقش البيهقي - رحمه الله - تلك الأخطاء المنسوبة خطأ إلى الشافعي، وهذه الأوهام، مناقشة علمية دقيقة. ويوجد لهذا المؤلّف نسخة خطية بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة تحت رقم (195) عام، و (80) مجاميع. 11 - تخريج أحاديث الأم: وقد تناول في هذا الكتاب تخريج أحاديث كتاب الأم للشافعي حديثاً حديثاً، مع ذكر سنده والتعليق عليه. وقسمه على أبواب كتاب الأم. ويوجد الجزء الأوّل منه بمكتبة شستربتي بلندن تحت رقم 3280، ويبلغ مجموع أوراقه 148 ورقة. ويوجد الجزء الثاني بدار الكتب المصرية تحت رقم (911) حديث يقيم في 298 ورقة. أما الجزء الثالث فلم أجد ذكراً له، ولم أعثر عليه. 12 - الجامع في الخاتم: رسالة صغيرة، لا تتجاوز خمس ورقات، بحث فيها مسألة لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم للخاتم ومن أي معدن كان خاتمه عليه السلام، وصفة ذلك الخاتم. ويوجد من هذه الرسالة القيمة نسخة بمكتبة أحمد الثالث ضمن المجموعة المشار إليها سابقا - عند رسالة الألف مسألة. كما يوجد أخرى منها بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة.

13 - الجامع لشعب الإيمان: قسم البيهقي - رحمه الله - كتابه هذا على سبعة وسبعين باباً، تشمل مسائل شتى في أصول الدين وفروعه. وتقسيمه هذا كان مبنياً على ما صح عنده من ألفاظ حديث "الإيمان بضع وستون، أو سبعون شعبة" حيث أحصى في كتابه هذا بالتفصيل ما أشار إليه الحديث مجملاً وذكر أن السبب لتأليفه لهذا الكتاب، أن شيخه أبا عبد الله الحليمي قد ألف في هذا الموضوع كتاباً، كان مرشداً له في تقسيمه لأبواب هذا الكتاب، إلاّ أنه إنما ذكر المتون وحذف الأسانيد، تحرياً للاختصار، فرأى أن يذكر ما أورده شيخه مسنداً مع الاقتصار على ما لا يغلب كونه كذباً1. وقد طبع جزء صغير من هذا الكتاب النفيس في حيدر أباد بالهند سنة 1395?، ويوجد له نسخة خطية من ثلاثة مجلدات في مكتبة المتحف باستنبول من رقم: 2667-2669 وقام باختصاره الشيخ أبو جعفر عمر القزويني المتوفى سنة 619?. وقام بتحقيق هذا المختصر والتعليق عليه زكريا علي يوسف، ونشره بالقاهرة. 14 - حياة الأنبياء في قبورهم: وهو عبارة عن كتيب صغير تناول فيه البيهقي ما يتعلق بحياة الأنبياء في قبورهم، وما ورد في ذلك مما رآه دليلاً على هذه القضية، وهذا الكتاب طبع في القاهرة بالمطبعة المحمودية، سنة: 1357?، بتعليق الشيخ محمّد بن محمّد الخانجي البوسنوي من علماء الأزهر.

_ 1 انظر: الجامع لشعب الإيمان ل 1، وكتاب الحليمي الذي أشار إليه البيهقي يوجد منه نسختان بمكتبة المتحف باستنبول، إحداهما لا تحمل رقماً، وتقع في مجلد واحد بخط نسخ رفيع، وأوراقه من الحجم الكبير، والأخرى تقع في ثلاثة مجلدات من رقم: 2618-2620.

وقد وجدت نسخة من هذا الكتاب ضمن المجموعة المشار إليها عند الكلام على كتاب إثبات عذاب القبر، وهي بعنوان (كتاب العدة) ولم أجد أحداً ممن ذكره أشار إلى هذا العنوان. وقد غلط حاجي خليفة عندما ذكر هذا الكتاب، ووصفه بأنه يشتمل على ألف مسألة جمعها البيهقي1. لأن الألف مسألة عبارة عن كتاب آخر، وقد تقدم ذكره. كما غلط بروكلمان حينما ذكر كتابين مشيراً لكل منهما منفرداً عن الآخر، أحدهما بعنوان (حياة الأنبياء في قبورهم) والآخر بعنوان (ما ورد في حياة الأنبياء بعد وفاتهم) 2 وأشار إلى وجود الأخير بالمدينة المنورة دون الأوّل، والواقع أن الإثنين كتاب واحد هو (حياة الأنبياء في قبورهم) وهو بعينه الموجود في مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة. 15 - الخلافيات بين الشافعي وأبي حنيفة: تناول البيهقي في هذا الكتاب جميع المسائل الفقهية التي وقع الاختلاف فيها بين الشافعي وأبي حنيفة، ورتبه على أبواب الفقه. ويوجد لهذا الكتاب نسخة بمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية مصورة عن نسخة أصلية في مكتبة سليم آغا من نسخة كتبت في القرن السابع. وتقع جزئين الأوّل يتكون من 172 ورقة والثاني من 174 ورقة. والجزءان بهما خروم من الأول والآخر. ومنه نسخة أخرى بدار الكتب المصرية تحت رقم (94 فقه شافعي) مكتوب عليها أنها الجزء الثاني وتقع في 172 ورقة.

_ 1 كشف الظنون2/1455. 2 تاريخ التراث العربي1/447.

ويبدو أن هذا الجزء مكمل لنسخة جامعة الدول العربية وإن لم تكن النسخة واحدة. لأن نسخة جامعة الدول العربية ينتهي جزؤها الثاني منها بمسائل الحج، التي بدأ بها الجزء الموجود بدار الكتب المصرية. 16 - الدعوات الكبيرى: ألف البيهقي - رحمه الله - هذا الكتاب استجابة لطلب أحد إخوانه أن يجمع له ما ورد من الأخبار المأثورة في الأدعية المرجوة، التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو علمها أحداً من صحابته، وقد ذكرها بأسانيدها، ورتبها على ترتيب كتاب المختصر لأبي بكر محمّد بن إسحاق بن خزيمة، وضمنه زيادات لم يذكرها ابن خزيمة1. وبدأ كتابه هذا بذكر ما للدعاء والذكر من الأجر والثواب. ويوجد لهذا الكتاب نسخة مخطوطة بالمكتبة الأصفية بحيدر آباد بالهند رقمها (14) أدعية. ويوجد منها صورة ميكروفيلم بمعهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية برقم 3163. 17 - دلائل النبوة: وهو كتاب قيم، يعتبر من أجمع المؤلفات في بابه، وقد تكلم فيه البيهقي - رحمه الله - عما يتعلق بالنبي محمّد صلى الله عليه وسلممن صفات ومعجزات، وفي إيضاح موضوعه يقول البيهقي: " ... أردت - والمشيئة لله تعالى – أن أجمع بعض ما بلغنا من معجزات نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم، ودلائل نبوته، ليكون عوناً لهم على إثبات رسالته، فاستخرت الله تعالى في الابتداء بما أردته، واستعنت به في إتمام ما قصدته، مع ما نقل إلينا من شرف أصله، وطهارة مولده، وبيان أسمائه

_ 1 انظر: ل2 من المخطوطة.

وصفاته، وقدر حياته، ووقت وفاته، وغير ذلك مما يتعلق بمعرفته صلى الله عليه وسلم، على نحو ما شرطته في مصنفاتي، من الاكتفاء بالصحيح من السقيم، والاجتزاء من المعروف بالقريب، إلا فيما لا يتضح المراد من الصحيح أو المعروف دونه فأورده"1. ويعتبر هذا الكتاب من أوثق كتب السيرة قاطبة، لما لمؤلفه من علو مكانة في معرفة صحيح الأخبار من سقيمها. وقد قام الشيخ عبد الرحمن محمّد عثمان بتحقيق وطبع الجزئين الأولين منه بدار النصر للطباعة بالقاهرة سنة 1389?. كما قام الأستاذ السيد أحمد صقر بتحقيق الجزء الأوّل منه، وتولى نشره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة سنة 1395?. ويوجد له نسخة خطية بمكتبة المتحف باستنبول تقع في أربعة مجلدات رقمها (6000-6003) كما يوجد له عدة نسخ بدار الكتب المصرية إلا أن جميعها ناقصة. 18 - رسالة إلى أبي محمّد الجويني: أوضح البيهقي للجويني في هذه الرسالة ما وقع فيه الأخير من أخطاء حديثية في كتابه الذي سماه (المحيط) عزم على أن لا يتقيد فيه بالمذهب وأن يقف على موارد الأحاديث مما حمل الجويني على العدول عن إتمام التأليف، شاكراً للبيهقي حسن صنيعه، وجميل نصحه. ويوجد لهذه الرسالة نسخة خطية مكونة من سبع ورقات بمكتبة أحمد الثالث باستنبول ضمن مجموعة رقمها 1127. وقد طبعت ناقصة ضمن طبقات الشافعية للسبكي، كما سبق أن ذكرت.

_ 1 دلائل النبوّة1/63 تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان.

19 - الزهد الكبير: يتناول البيهقي - رحمه الله - في هذا الكتاب ما ورد من الأخبار والآثار عن السلف والخلف في الترغيب في الزهد في الدنيا، حيث ذكر - رحمه الله - أنه أورد في كتاب الجامع كثيراً من الأخبار، والآثار الواردة في هذا الموضوع، وأنه أورد في كتاب (دلائل النبوّة) وغيره، كيف كان يعيش النبي صلى الله عليه وسلم، ونظراً لكثرة أقاويل السلف والخلف في فضيلة الزهد وكيفيته، أفرد لذكرها هذا المؤلف1 الذي يقع في خمسة أجزاء صغيرة، يبلغ عدد أوراقها مائة وتسع عشرة ورقة، ويوجد منه نسخة خطية نادرة بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة تحت رقم (142) حديث، كتبت سنة ست وعشرين وستمائة، وعليها عدة سماعات. 20 - السنن الصغرى: بيّن البيهقي في مقدمة قصيرة وضعها لهذا الكتاب أنه كما جعل كتاب الاعتقاد مختصراً في العقائد فقد جعل هذا المصنف مختصراً يرجع إليه في العبادات والمعاملات، والمناكحات، والحدود، والسير، والحكومات ويوجد لهذا الكتاب نسخة كاملة بمكتبة المتحف باستنبول تقع في اثنتين وتسعين وثلاثمائة ورقة، ورقمها:2664. 21 - معرفة السنن والآثار: وهو كتاب نفيس لا يستغني عنه فقيه شافعي - كما قال السبكي. بل لا يستغني عنه فقيه كائناً من كان. ويبيّن - رحمه الله - موضوع الكتاب وسبب تأليفه له بقوله في مقدمة الطويلة: "ثم إني رأيت المتفقهة من أصحابنا يأخذهم الملال من

_ 1 انظر: مقدمة الكتاب ل3.

طول الكتاب، فخرجت ما احتج به الشافعي - رحمه الله - من الأحاديث بأسانيده في الأصول والفروع، مع ما رواه مستأنساً به غير معتمد عليه، أو حكاه لغيره مجيباً عنه، على ترتيب (المختصر) ، ونقلت ما وجدت من كلامه على الأخبار بالجرح والتعديل، والتصحيح والتعليل. وأضفت إلى بعض ما أجمله من ذلك من كلام غيره ما فسره، وإلى بعض ما رواه من رواية غيره ما قواه"1. ويوجد لهذا الكتاب نسخة بمكتبة المتحف باستنبول، تبدأ من رقم 2638-2643. وقد قام الأستاذ السيد أحمد صقر بتحقيق الجزء الأوّل منه، وتولى طبعه المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر. ويطلق بعض العلماء على هذا الكتاب اسم (السنن الوسطى) 2. 22 - السنن الكبرى: ويعتبر هذا الكتاب أهم مؤلفات البيهقي وأشهرها، جمع فيه أحاديث الأحكام، من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأفعاله وتقريراته وما يتعلق بالأحكام من موقوفات الصحابة، ومراسيل التابعين، فكان موسوعة كبرى، رتبه مؤلفه على المباحث الفقهية مبتدئاً بكتاب الطهارة، ومنتهياً بكتاب عتق أمهات الأولاد، ويقع هذا الكتاب العظيم في عشرة مجلدات، قام بتحقيقه جماعة من علماء الدولة العثمانية، وطبع بمطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، وقد طبع بحاشيتها (الجوهر النقي في الرد على البيهقي) لابن التركماني.

_ 1 معرفة السنن والآثار1/144. 2 انظر: مقدمة الكوثري على كتاب أحكام القرآن ص:17.

ويوجد منه بدار الكتب المصرية نسخة مخطوطة تحمل رقم (254- 267) حديث. وأخرى بمكتبة المتحف باستنبول رقم (2644-2660) . ومما يدلّ على عظم مكانة هذا الكتاب بين كتب السنة، وانفراده بخصائص لم يحظ بها غيره، ما ورد من وصفه على ألسنة عدد كبير من جهابذة العلماء. فمنهم الشيخ تقي الدين السبكي الذي قال عنه: "أما السنن الكبير فما صنف في علم الحديث مثله، تهذيباً، وترتيباً، وجودة"1. ويقول الإمام الذهبي في وصف مصنفات البيهقي عامة وكتابه هذا خاصة: "تصانيف البيهقي عظيمة القدر، غزيرة الفوائد، قلّ من جود تواليفه مثل الإمام أبي بكر البيهقي، فينبغي للعالم أن يعتني بها، سيما سننه الكبير"2. وقال الإمام السخاوي عند ذكره: "فلا تعد عنه، لاستيعابه لأكثر أحاديث الأحكام، بل لا تعلم - كما قال ابن الصلاح - في بابه مثله، ولذا كان حقه التقديم على سائر كتب السنن، ولكن قدمت تلك لتقدم مصنفيها في الوفاة، ومزيد جلالتهم"3. وكان البيهقي - رحمه الله - قد قضى ردحاً طويلاً من حياته في تصنيف هذا الكتاب، حيث بدأ تأليفه سنة خمس وأربعمائة، وفرغ منه سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة4.

_ 1 طبقات الشافعية4/9. 2 سير أعلام النبلاء11/ل185. 3 فتح المغيث للسخاوي2/333. 4 السنن الكبرى1/2، 10/351.

ونظراً لما لهذا الكتاب من أهمية بالغة فقد نال عناية العلماء دراسة وتهذيباً، إذ يذكر حاجي خليفة أن الشيخ إبراهيم بن علي المعروف بابن عبد الخالق الدمشقي المتوفى سنة 744? اختصر هذا الكتاب في خمسة مجلدات، كما ذكر ممن اختصره الحافظ شمس الدين محمّد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748?، والشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني المتوفى سنة 974?، وأن الجوهر النقي في الرد على البيهقي، الذي أشرت إليه سابقاً - قد قام بتلخيصه وترتيبه على حروف المعجم الشيخ زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفى سنة 879? وسمّاه ترجيع الجوهر النقي1. وهكذا تتضح لنا أهمية هذا الكتاب الجليل، الذي يعتبر – بحق – من أوسع الموسوعات العلمية قي أحاديث الأحكام. 23 - القراءة خلف الإمام: وهو من مصنفات البيهقي ذات الموضوع الواحد، تناول فيه مسألة القراءة للمأموم خلف الإمام، مورداً النصوص التي تناولتها، ومتبعاً أقوال العلماء فيها. يوجد لهذا الكتاب نسخة مصورة بمعهد إحياء المخطوطات العربية تحت رقم (123) فقه شافعي، والأصل الذي صورت عنه يوجد بمكتبة أحمد الثالث، وتبلغ أوراقها إحدى وثمانين ورقة. كما تم طبع هذا الكتاب طبعة حجرية بالهند بعناية (تلطف حسين) .

_ 1 انظر: كشف الظنون2/1007، ويوجد من مختصر الذهبي المشار إليه هنا نسخة في مكتبة المتحف باستنبول، في ثلاثة مجلدات من رقم: 26661-2663.

24 - القضاء والقدر: خصّصه البيهقي - رحمه الله - لبحث ما يتعلق بهذا الموضوع، ويبين ما يشتمل عليه بقوله في أوّله: "كتاب إثبات القدر، والبيان من كتاب الله جل ثناؤه، وسنة رسوله محمّد صلى الله عليه وسلموعلى آله، وأقاويل الصحابة والتابعة، وأئمة المسلمين، رضي الله عنهم أجمعين أن أفعال الخلق كلّها مقدرة لله عز وجل، مكتوبة له، وإن الله عز وجل لم يزل عالماً بما يكون، ولا يزال عالماً بما كان ويكون"1. وقد عثرت لهذا الكتاب القيم على نسخة خطية نادرة بمكتبة الشهيد علي باشا، ضمن المكتبة السليمانية باستنبول، تقع في 110 ورقات، كتبت سنة ست وستين وخمسمائة وعليها عدة سماعات ورقمها في المكتبة المذكورة 1488. 25 - المبسوط: ألّفه البيهقي ليكون جامعاً لكلام الإمام الشافعي ونصوصه في المسائل الفقهية مضبوطة، بعد ما ضاق صدره بما وجده في الكتب الجامعة لكلام الإمام الشافعي، والموردة للحكايات عنه دون تثبت. ولهذا السبب قام بتأليف هذا الكتاب، كما قال في رسالته إلى أبي محمّد الجويني: " ... وكنت أدام الله عزّ الشيخ أنظر في كتب بعض أصحابنا وحكايات من حكى منهم عن الشافعي نصاً، وأبصر اختلافهم في بعضها فيضيق قلبي بالاختلاف، مع كراهية الحكاية من غير تثبت، فحملني ذلك على نقل مبسوط ما اختصره المزني على ترتيب المختصر"2.

_ 1 القضاء والقدر ل2. 2 رسالة البيهقي إلى الجويني ل16 من المجموعة.

ثم ذكر - رحمه الله - من تلك الكتب التي وجد الاختلاف بينها في النقل عن الشافعي ثلاثة أورد أسماءها، ولم يذكر مؤلفيها وهي: التقريب وجمع الجوامع، وعيون المسائل1. وقد وصف السبكي هذا الكتاب بأنه لم يصنف في نوعه مثله2. كما وصفه حاجي خليفة بأنه من أعظم كتبه قدراً، وأبسطها علما، يكون في عشرين مجلداً3. 26 - المدخل إلى كتاب السنن: وهو عبارة عن مقدمة وضعها البيهقي لكتاب السنن الكبرى في كتاب مستقل، وموضوع الكتاب يدور حول فضل العلم والعلماء، وما يجب أن يتحلى به العالم من خصال حميدة. ويوجد لهذا الكتاب نسخة خطية بمكتبة الجمعية الآسيوية بكلكتا تحت رقم 368، ويوجد من نفس النسخة صورة ميكروفيلم بمركز البحث العلمي بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرّمة، وأخرى بمكتبة الشيخ عبد الرحيم صديقي. إلا أن النسخة ناقصة من أولها، حيث تبتدئ

_ 1 ذكر الأستاذ السيد أحمد صقر مؤلفي هذه الكتب على النحو التالي: (التقريب) : للقاسم بن محمّد بن علي الشاشي، ابن الإمام القفال الكبير. وكتاب (جمع الجوامع) ألفه أبو سهل بن العفريس الزوزني تلميذ الأصم. أما (عيون المسائل) فمؤلفه أبو بكر الفاسي، أحمد بن الحسن بن سهل تلميذ ابن سريج. انظر مقدمة السنن والآثار ص: 25، 26. 2 طبقات الشافعية4/9. 3 كشف الظنون2/1582.

بأثناء الباب الذي يسبق باب (الحديث الذي لم يرو خلافه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) وتنتهي بباب (ما يخشى من رفع العلم وظهور الجهل) . وهذه النسخة التي اطلعت عليها نادرة، وقد كان الفراغ من كتابتها سنة 635?، وعليها عدة سماعات بخط ابن الصلاح، والحافظ المزي وعدة سماعات أخرى. 27 - مناقب الشافعي: تناول البيهقي في هذا المصنف حياة الإمام الشافعي بجميع جوانبها استجابة لطلب بعض العلماء وفي ذلك يقول: "وقد سألني بعض أصحابنا من أهل العلم والبصيرة أن أجمع كتاباً مشتملاً على ذكر مولد الشافعي ونسبه، وتعلمه، وتعليمه، وتصرفه في العلم، وتصانيفه، واعتراف علماء دهره بفضله، وما يستدل به على كمال عقله، وزهده في الدنيا، وورعه، واشتهاره بخصال الخير، ومكارم الأخلاق - في وقته وبعد وفاته - فأجبته إلى مسألته"1. ويقع هذا المؤلف في جزئين، قام بتحقيقهما الأستاذ السيد أحمد صقر، وطبع لأوّل مرة بدار النصر للطباعة بالقاهرة سنة 1391?. وقد فاق البيهقي الكثيرين ممن كتبوا عن حياة الإمام الشافعي إذ أصبح كتابه هذا نموذجاً للتأليف في المناقب. وقد نقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء عند ترجمته للإمام الشافعي قدراً كبيراً من هذا الكتاب2.

_ 1 انظر: مقدمة المحقّق1/8. 2 انظر: معجم الأدباء11/310-320.

وثمة مؤلفات أخرى سوى ما ذكرت فيما تقدم، عدها العلماء الذين ترجموا للبيهقي ضمن مؤلفاته، وقد أشار البيهقي إلى بعضها، وهذه المؤلفات هي: 1 - كتاب الأسرى. 2 - كتاب الإيمان. 3 - الترغيب والترهيب. 4 - الدعوات الصغير. 5 - كتاب الرؤية. 6 - الزهد الصغير. 7 - فضائل الأوقات. 8 - فضائل الصحابة. 9 - مناقب الإمام أحمد. ويوجد في فهرس المخطوطات المصورة بدار الكتب القطرية اسم لكتاب منسوب للبيهقي، وهذا الكتاب هو: العيون في الرد على أهل البدع1 وأشير عند ذكره إلى أنه مصور عن نسخة مخطوطة بمكتبة أمبروزيانا في ميلانو بإيطاليا تحت رقم 66. وأخيراً أحب أن أشير إلى أن أحداً ممن ترجم للبيهقي، وعد مؤلفاته لم يدع استقصاءها، بل الكل يشير إلى أنه إنما ذكر بعضاً منها، وذلك

_ 1 انظر: ص: 16 من الفهرس المذكور. وهو موجود بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة.

يدل على أن له مؤلفات غير هذه لم نهتد إلى أسمائها، وقد سبق أن نقلت عني السيوطي وابن عساكر أن مؤلفاته تصل إلى ألف جزء، مما يشير إلى أن بعضاً من كتب البيهقي لا زال في عالم المجهول. وكثرة مؤلفاته - رحمه الله - تدل على عنايته بالتأليف واتجاهه إليه مما جعله ينتج هذا المقدار الضخم من المؤلفات في شتى ميادين المعرفة فجزاه الله عن الإسلام وأهله أوفر الجزاء.

الفصل السادس: منهج البيهقي في الاستدلال

الفصل السادس: منهج البيهقي في الاستدلال لقد تعددت السبل، واختلفت المناهج في الاستدلال على مسائل العقيدة، سيما ما يتعلق منها بذات الله تبارك وتعالى، من إثبات لوجوده ووحدانيته، وأسمائه، وصفاته. فقد ذهب أناس إلى تقديم الجانب العقلي على الجانب السمعي واعتبار العقل هو الأساس الذي يجب أن يكون تصوّره منطلقاً لإثبات مسائل العقيدة، وذلك هو ما اشتهر عن المعتزلة ومتكلمي الأشاعرة، لذلك اتبع هؤلاء منهجاً فلسفياً، وصفه الدكتور محمود قاسم بأنه أقل وضوحاً وقوة، وأنه منهج واه، لأنه منهج جدل، لا منهج إقناع، وأنه لا يصلح لا للعلماء، ولا للعامة بل هو أعجز عن أن يقنع المتكلمين أنفسهم1. إلاّ أن البيهقي - رحمه الله - وإن كان أشعري العقيدة - كما سيتضح لنا ذلك فيما بعد إن شاء الله - فإنه سلك منهجاً متميزاً يتسم بحب واضح، وتفضيل أكيد لسلوك الأدلة النقلية الواردة لإثبات مسائل العقيدة، مع الأخذ بالأدلة العقلية إلى جانب النقلية، وذلك فيما للعقل فيه مجال، كإثبات الوجود، والوحدانية والصفات العقلية.

_ 1 انظر: مقدمة مناهج الأدلة لابن رشد، تقديم الدكتور محمود قاسم ص: 9.

فإثبات وجود الله مثلاً - وهو من أكبر قضايا العقيدة - كان المنهج فيه بين المتكلمين والفلاسفة محل اتفاق، إذ اتفقوا جميعاً على أن الإيمان بوجود الله تعالى، لا يكون إلاّ باستخدام العقل، والاعتماد عليه1. وهو أمر سيتضح لنا في موضعه من هذا البحث إن شاء الله. والبيهقي - رحمه الله - وإن اعترف للعقل بفضله ومكانته في إثبات هذه القضية، إلاّ أن الطرق العقلية التي سلكها في هذا المجال شرعية أيضاً، لأن الشرع أرشد إليها، ونبه الخلق عليها، مثل طريقي النظر في الملكوت وفي الأنفس، كما سلك طريق المعجزة، وكلّها طرق شرعية صحيحة إلاّ أنه أضاف إليها طريق الحدوث، وهو طريق سليم لا غبار عليه، لولا ما صاحبه من استدلال بحدوث الأعراض على حدوث الجواهر، وهو استدلال قرره المتكلمون، ووافقهم عليه البيهقي، إلاّ أنه لم يجعله أصلاً كما جعلوه بل وافق على إمكان سلوكه للاستدلال على وجود الله تعالى، مع أنه يرى أن طريقي النظر أولى بدليل فرط عنايته بهما، كما سيتبين لنا ذلك فيما بعد إن شاء الله. وإذا كان هذا هو منهج الييهقي في إثبات قضية الوجود فإن منهجه في إثبات الأسماء والصفات رسم له حدوداً واضحة المعالم، إذ قال في إثبات أسماء الله تعالى: "إثبات أسماء الله تعالى ذكره بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة"2.

_ 1 انظر: المصدر نفسه ص: 11. 2 الأسماء والصفات ص: 3.

وقال في إثبات الصفات: "لا يجوز وصفه إلاّ بما دل عليه كتاب الله تعالى، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمع عليه سلف هذه الأمة"1. وهذا منهج واضح حدده البيهقي لإثبات الأسماء والصفات وسار عليه في الاستدلال، فإننا نجده يستدل لكل مسألة من مسائل العقيدة بإيراد نصوصها التي جاءت بإثباتها، وذكر الآثار المروية عن السلف في ذلك. وهذا منهج سلفي قويم طالما أكد السلف الالتزام به، وحذروا من تنكبه، فمن يطالع كتب السلف، ويقارن بها كتب البيهقي يجد منهج الاستدلال واحداً، وأسلوب العرض هو نفس الأسلوب الذي سلكه البيهقي. وقد وصف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - منهج السلف بقوله: "فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسله، نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه وقد علم أن طريقة السلف وأئمتهم إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه"2. وإذا كان البيهقي قد اتفق مع السلف في منهج الاستدلال فهل اتفق معهم في تطبيق ذلك المنهج على جميع الصفات؟ الواقع أن الباب الثاني من هذا البحث سيفصل الجواب عن هذا السؤال، إلاّ أنني هنا أجمل الجواب ببيان موجز لمنهج التطبيق بعد أن عرفنا منهج الاستدلال.

_ 1 المصدر السابق ص:110. 2 الرسالة التدمرية لابن تيمية ص: 4.

فالتطبيق الطبيعي لمنهج البيهقي السالف كان ينبغي أن تكون نتيجته الإثبات لجميع الصفات لتوفر جميع العناصر التي اشترطها في أدلتها. فكل صفة من صفات الله تعالى ورد إثباتها بالكتاب أو بالسنة أو بهما معاً، مع توفر الإجماع من جانب السلف على وصفه سبحانه بها لوضوح أدلتها، وصراحتها في ذلك. إلاّ أن ما حصل من البيهقي كان بخلاف ذلك، لأنه اتفق مع السلف في إثبات بعض الصفات، وخالفهم في بعضها الآخر، حيث أوله، أو فوض فيه. فهذه ثلاثة مناهج سلكها البيهقي في أمر كان ينبغي أن يكون الكلام فيه على نمط واحد لأن ما يقال في بعض الصفات ينبغي أن يقال في بعضها الآخر، وهو إلزام لجميع نفاة الصفات لإثباتهم لذات الله تعالى والكلام عن الصفات لا بد وأن يكون فرعاً عن الكلام في الذات، فإذا ثبتت الذات كان لا بد من ثبوت صفاتها يقيناً، وأي شبهة يوردها أولئك النفاة فإنها تلزم ما أثبتوه من صفات، إذ لا فرق حينئذٍ بين القول في صفة والقول في أخرى. وللبيهقي أسلوب خاص في التفريق بين ما يرى إثباته حقيقة وبين ما أوله أو فوض فيه، وذلك عن طريق الترجمة لبحث الصفة، لأنه حين يرمي إلى إثباتها إثباتاًحقيقياً يترجم لأدلتها بقوله: (باب ما جاء في إثبات كذا) كما هو الحال عند كلامه على الصفات العقلية كالحياة، والعلم، والقدرة وغيرها. حيث ترجم لصفة الحياة بقوله: (باب ما جاء في إثبات صفة الحياة) 1 وسلك في الترجمة نفس الأسلوب لبقية هذا النوع من الصفات.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 111.

وكذا كان فعله فيما أثبته من الصفات الخبرية، كاليدين والوجه والعينين. أما ما لا يرى إثباته منها، بل سلك فيه أحد المنهجين الآخرين التفويض أو التأويل، فإنه اتخذ له طريقة أخرى في الترجمة كأن يقول (باب ما جاء في كذا، أو في ذكر كذا) . كما فعل في ترجمته لليمين والكف، والأصابع1. وقال في ترجمته لصفة الاستواء التي فوض فيها (باب ما جاء في قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2. وهو يرمي من وراء هذا الأسلوب أن يكون رأيه واضحاً من أول وهلة فما صرح فيه بالإثبات في الترجمة فإن ذلك يعني أنه يثبته إثباتاً حقيقياً على طريق السلف في ذلك. أما إذا سلك أحد الطريقين الآخرين فإن ذلك يعني أنه إما مفوض في تلك الصفة، أو مؤول فيها. فالصفات العقلية بنوعيها سنرى كيف أنه مثبت لها على طريقة السلف فوافق بذلك الإثبات ما أورده من أدلة لها. أما بقية الصفات فإن البيهقي لم يتفق مع السلف في منهج التطبيق لما وردت به أدلتها، عدا ثلاث صفات هي: الوجه واليدين والعين من صفات الذات الخبرية مع أن ما أورده من أدلة لبقية الصفات صريحة في ذلك الإثبات، ومع ذلك أولها، لسبب سنعرفه في موضعه بإذن الله.

_ 1 المصدر نفسه ص: 333. 2 المصدر نفسه ص: 405.

أما صفات الفعل الخبرية فلم يسعد منها شيء بالإثبات عند البيهقي إذ إنه سلك فيها مسلكين بعيدين كل البعد عن الإثبات هما: التأويل والتفويض. ففوض في الاستواء، والنزول وما في معناه كالإتيان والمجيء، وأول في ما تبقى منها. وسنرى جميع ما أوجزته هنا واضحاً ومفصلاً في الجزء الثاني من هذا البحث بإذن الله. إلاّ أنني أحب أن أنبه هنا إلى أن ما تقدم من عرض موجز لمنهج الاستدلال ومنهج التطبيق عند البيهقي يوضح لنا كيف أنه اتفق مع السلف في منهج الاستدلال وطريقة العرض لمسائل العقيدة، إلاّ أنه خالفهم عند التطبيق الذي هو الأهم، فلم يثبت جميع ما أثبتته الأدلة التي ساقها بل كان متردداً في منهج التطبيق، فهو سلفي في بعضه، وأشعري في بعضه الآخر. وهو أسلوب يجعلنا نحكم على البيهقي بالتناقض المنهجي في مجال التطبيق، لتردده بين الأشعرية والسلفية في ذلك، بينما كان السلف أصحاب منهج واحد استدلالاً وتطبيقاً، فأثبتوا ما كان مثبتاً بالدليل من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، وكانوا بذلك أبعد الناس عن منهجي التأويل والتفويض. وقد لاحظت من منهج البيهقي في إيراده لمسائل العقيدة والاستدلال عليها أنه لا يهتم برأي الخصوم في كل مسألة يوردها إذ أحيانا يتعرض لها ويناقشها، كما فعل عند بحثه لمسألة القول بخلق القرآن حين ذكر أن ذلك مذهب الجهمية، ثم تناول الرد عليهم بإسهاب

وتفصيل، وكما فعل حين رد على مؤولي ما أثبته من الصفات الخبرية، الوجه، واليدين، والعين بطريقة تشعر أساساً بأنه قصد أولاً بيان سلامة مذهبه ومن ثم رد ما ذهب إليه مخالفوه، وأحياناً أخرى لا يزيد على إيراد مذهبه وحده. والحاصل أن ما احتوته مباحث الإلهيات عند البيهقي قصد منه أساساً تقرير ما يراه واجب الاعتقاد، حتى فيما تعرض له من آراء الخصوم. وهذه أمور سيتضح لنا بيانها أكثر في الباب الثاني من هذا البحث الذي أنقل القارئ إليه في الصفحات التالية.

الباب الثاني: موقف البيهقي من الإلهيات

الباب الثاني: موقف البيهقي من الإلهيات الفصل الأوّل: منهج البيهقي في إثبات وجود الله 1 - تمهيد. 2 - منهج البيهقي. 3 - طريق النظر إلى المخلوقات. 4 - طريق المعجزة. 5 - طريق الحدوث. تمهيد: يعتبر الإيمان بوجود الله تعالى أصل الأصول في الدين، وهذا الإيمان أمر فطري في البشر جميعاً، إذ كل إنسان يقر بوجود الله تعالى - منذ عهد آدم عليه السلام، والعقل البشري يدرك هذه الحقيقة الجلية، بما أودع الله فيه من ضرورة يحس بها، دون أن يكون بحاجة إلى منهج مرسوم يسلكه للتعرف على خالقه، بارئه ومكونه، موجده من العدم، وميسر رزقه وتقلبه في هذه الحياة، إذ كانت الإشارات التي تشير إلى الله أكثر من أن تحصى، إنها تنبعث من كل موجود، من النبتة الصغيرة الملتصقة بالأرض، إلى النخلة الباسقة الذاهبة في السماء ومن النمل يدب على الأرض إلى النسور المحلقة في الفضاء. بل من كل كائن في الأرض، إلى كل كوكب ونجم في السماء، كل هذه المخلوقات تشير إلى هذه الحقيقة، إشارة ضرورة لازمة، وحتمية مطلقة، فهي من الأمور القطعية، التي تضافرت الأدلة الحسية على إثباتها، يشهد لذلك قول ذلك الأعرابي: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير؟ "1

_ 1 من خطبة لقس بن ساعده. انظر: جوهر الأدب لأحمد الهاشمي2/19، والبيان والتبيين للجاحظ1/163.

فهذا الأعرابي قد أدرك بفطرته السليمة التي فطره الله عليها أن هذه المخلوقات بما فيها من عجائب، ونظام محكم، من تعاقب الليل والنهار، ومن سماء مزينة بالنجوم والكواكب مسيرة بدقة متناهية لا يمكن أن توجد إلاّ بسبب أوجدها، وصيرها إلى ما هي فيه من إحكام وإتقان. والتاريخ المصري القديم يحكي لنا قصة ذلك الرجل المغامر (سنوحى) الذي فر من مصر، وأخذ يتنقل في بلاد الشرق الأدنى وحظي فيها بضروب النعيم والشرف، ولكنه لم يطق فراق وطنه، فقد برح به، الحنين إلى بلاده، فاتخذ سبيله للعودة إليها، وفي الطريق لقي أهوالاً مروعة، فكان يناجي من يأخذ بيده، أنه لا يعرف من يناجيه ولكنه يثق في ضميره بأن هناك قوة مطلقة لا حدود لها، ولكن أين هي؟، وما كنهها؟ إنه لا يدري، ومع هذا فهو يهتف بها في أعماقه قائلاً: "ألا أيها الإله، أيا كنت، يا من قدرت على الفرار، أعدني إلى وطني"1. إنها صرخة الاستغاثة والنجدة، تنطلق من ضمير الإنسان إلى تلك القوة المطلقة، التي يؤمن بوجودها دون أن يراها. والقرآن الكريم يحكي لنا وجود هذه الفطرة في قلوب المشركين فهم يلوذون بها في حال الشدة كما قال تعالى عنهم: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2.

_ 1 قصة الحضارة، ول، ديورانت 2/111. 2 سورة يونس آية: 33.

وهكذا، فإن هذه القضية وإن كانت جافة على الصعيد الفلسفي فهي بدهية على الصعيد الحسي، لا تحتاج إلى برهان، لأنها من ضرورات الفطرة، لذا فإن القرآن الكريم يطرحها كقضية مسلمة لا تحتاج إلى استدلال، ولا تحتمل الجدال والمماراة، انظر إلى قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2. وهاك مثلاً آخر على ارتكاز هذه القضية في الفطرة، وضرورة الإحساس بها، فنحن نعلم جميعاً المطلب الأسمى الذي أفنى الفلاسفة حياتهم في سبيل الوصول إليه وتبين حقيقته فكل منهم سلك الطريق التي رآها مناسبة لإيصاله إلى بغيته، فوضع الأدلة، ووصل بها إلى ما أراد، فضلاً عن كونهم وصلوا إلى الإله الحق، أم أنهم وصلوا إلى مجرد وجود إله، أياً كان في تصورهم، إذ المهم أنهم وصلوا إلى حقيقة أحسوا بالضرورة إليها وعدم الاستغناء عنها فأدركوا أن لهذا الكون موجداً ثم إن هذه الغريزة الفطرية لم تكن قاصرة على البشر وحدهم بل كل مخلوق على هذه الأرض يحس بها ويهرع إليها، ولعل من أبرز الأدلة على ذلك قصة الهدهد مع سليمان عليه السلام، التي ذكرها القرآن الكريم في قوله سبحانه حكاية عن الهدهد: {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} - إلى قوله – {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 3.

_ 1 سورة العنكبوت آية: 51. 2 سورة الزخرف آية: 87. 3 سورة النمل آية: 22-26.

فهذا كلام الهدهد كما اتفق على ذلك المفسرون، وهو طير من الطيور، فهو - كما يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – "غديم العقل، يصيح كغيره من الطيور، قد خاطب سليمان بأعظم التوحيد، وأعلمه بغير ذلك"1. بعد هذا كله يتبين لنا أن وجود الله تعالى أمر فطري لا يحتاج إلى دليل، والدليل إنما يكون عند تغير الفطرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "الإقرار بالخالق وكماله يكون فطرياً في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك قد تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة وأحوال تعرض لها"2. والشيطان دائم الحرص على تغيير هذه الفطرة، وإفسادها باجتبال من يقدر عليه من بني الإنسان، فنحن نلاحظ أن المجتمع الإنساني لا يخلو من وجود فئة ملحدة، تنكر وجود الله تعالى، لذلك وجد الاستدلال على هذه القضية الفطرية، لتقوم الحجة على تلك الطائفة الشاذة عن الطبيعة الإنسانية، والمتمردة على الفطرة الثابتة في نفوس البشر جميعاً، حتى فيهم أنفسهم، إذ إن ما يظهر من بعض الملحدين من الكفر بالله، والاستهزاء

_ 1 مجموعة الرسائل الكبرى2/344. 2 مجموع الفتاوى6/73، وما قررناه هنا من أن الإقرار بالخالق أمر فطري، وأن الانحراف أمر طارئ على الإنسانية حين فساد الفطرة، هو ما قرره الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) (1/ 93، 94) ، وابن القيم في (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان) (2/152) ، وعزاه شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة إلى الجمهور 2/202.

برسله الداعين إليه، وإلى إفراده بالعبادة فإن ذلك لا يعني أنه مبني على يقين كامل بعدم وجود إله واحد، خالق لهذا الكون، ومصرف لأموره، وإنما هو مكابرة، وتحويل للفطرة التي فطر الله الناس عليها، من أجل الحصول على غرض شخصي، من ادعاء للألوهية، كما فعل فرعودن، أو من أجل التجرد عن القيم الإنسانية التي دعا إليها الرسل والتفرغ للمادة وجعلها هي الإله كما فعل الملحدون في العصر الحديث. والملحدون لا يقدرون على تقديم أدلة على إلحادهم، وكل ما يفعلونه شبه واهية، يوجهونها إلى الدين، وهي شبه واضحة البطلان. وقصارى القول: إن الأدلة التي يرشد إليها القرآن الكريم إنما تكون للمؤمن ليزداد معرفة بالله، وعظمته، وكمال قدرته، وفي حق من فسدت فطرته واعظة ومرشدة للعودة إلى الفطرة التي ند عنها، وتنكر لها. وقبل أن أبدأ في بيان الأدلة التي سلكها البيهقي لإثبات وجود الله، إليك إيجازاً لمسلك كل من الفلاسفة والمتكلمين في الاستدلال على هذه القضية، حتى يتبين لنا اتجاه شيخنا البيهقي: 1 - المتكلمون: سلك المفكرون في إثبات وجود الله تعالى طرقاً متعددة، فالمتكلمون كان عمدتهم في ذلك حدوث العالم، وقد بين ذلك صاحب المواقف بقوله: "قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض، وقد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه، فهذه وجوه أربعة"1.

_ 1 المواقف للإيجي (قسم الإلهيّات) تحقيق الدكتور أحمد المهدي ص: هـ، وقد ذكر ابن رشد هذا المسلك على أنه للأشاعرة إلا أنه أشار إلى موافقة المعتزلة لهم فيه بقوله: "وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى، ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشاعرة". انظر مناهج الأدلة ص: 151، والأمر كما قال. انظر شرح الأصول الخمسة ص: 92.

ولسنا بحاجة إلى بيان هذه الطرق جميعها، فإن فيها كلاماً كثيراً لا موضع له هنا، وحسبنا أن نشير إلى أن المتكلمين جميعاً بنوا رأيهم في إثبات وجود الله تعالى على حدوث العالم، ذهاباً منهم إلى أن الحدوث هو العلة المحوجة إلى المؤثر، وأنه إذا ثبت أن العالم حادث، كان لا بد له من محدث يخرجه من حيز العدم إلى حيز الوجود وسيأتي لهذا الدليل مزيد بيان - إن شاء الله - حيث إنه من الأدلة التي سلكها البيهقي، لاقتناعه بصحتها. 2 - الفلاسفة: وقد سلكوا في إثبات وجود الله تعالى طريق الوجوب والإمكان وقسموا الموجودات إلى واجب، وممكن، بدلاً من قديم وحادث، وذلك نظراً لأنهم لا يقولون بحدوث العالم، فاستدلوا بالإمكان بدل الحدوث، وقد لخص صاحب المواقف هذا الاستدلال فقال: "المسلك الثاني: للحكماء وهو أن - في الواقع - موجوداً، فإن كان واجباً فذاك، وإن كان ممكناً احتاج إلى مؤثر، ولا بد من الانتهاء إلى الواجب وإلا لزم الدور أو التسلسل"1. وهذا محال. وليس هذا محل تفصيل لهذا الدليل فأكتفي بما أوردته من تلخيص الإيجي له، ومن أراد المزيد فعليه بإشارات ابن سينا الذي استوفى تفصيله هناك2.

_ 1 المواقف ص:8. 2 انظر: الإشارات والتنبيهات لابن سينا3/447-445.

منهج البيهقي: أمّا عن الشيخ البيهقي، فإنه قد تبين لنا من خلال تتبعنا لما ذكره من استدلال على هذه القضية أنه يركز على الأدلة الشرعية الواردة في هذا الموضوع، ويذكر طريقة المتكلمين أيضاً على أنها طريقة صحيحة، ورد بها القرآن الكريم، جرياً على ما ذكروه من تأييد لها، إلا أنه - كما سيتبين إن شاء الله - اهتم اهتماماً بالغاً بطريقة النظر التي أوردها القرآن الكريم، وبطريق المعجزة التي هي الأخرى من الطرق الشرعية التي يمكن الاستدلال بها. أما عن طريق الفلاسفة فإن البيهقي لم يتعرض لها بتأييد ولا نقد. وإذاً فالطرق التي سلكها تنحصر في ثلاث: - طريق النظر في المخلوقات. - طريق المعجزة. - طريق الحدوث. ولنبدأ أوّلاً بأهم الطرق التي سلكها البيهقي - رحمه الله - وهي: طريق النظر في المخلوقات: فهذا الكون الفسيح، بما فيه من عجائب مخلوقات الله تعالى بل نفس الإنسان، وهي أقرب ما يمكن التفكر فيه، والتدبر في ذلك التناسق العجيب بين كافة الأعضاء، التي خلقها الله، وركبها في الجسم البشري، ووكل إلى كل منها وظيفة مهمة يؤديها على أكمل وجه وأدق نظام.

كلّ هذه الأمور وغيرها مما يشتمل عليه هذا الكون الفسيح من عجائب مخلوقات الله، كل ذلك يدل بوضوح على أن لهذا الكون خالقاً أوجده، وقدر جميع ما يجري فيه. فالإنسان أينما جال بنظره، وتمعن بفكره، رأى دليلاً على وجود الله. وهذا النظر عند البيهقي - إما أن يتجه إلى الكون بما فيه من مخلوقات، وإما أن يتجه إلى الإنسان نفسه. 1 - فأما النظر في الملكوت: فإن من نظر إلى السماوات، بما فيها من أجرام، وإلى الأرض بما فيها من كائنات مختلفة الأنواع والألوان، استطاع أن يصل من نظره ذاك إلى إثبات وجود الله خلق تلك الكائنات، وسيرها بنظام، وحكمة تدل على عظم خالقها، وقدرته البالغة. يقول البيهقي بعد سوقه لقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. يقول: "فذكر الله عز وجل خلق السماوات، بما فيها الشمس، والقمر، والنجوم المسخرات، وذكر خلق الأرض بما فيها من البحار، والأنهار والجبال، والمعادن، وذكر اختلاف الليل والنهار، وأخذ أحدهما من الآخر

_ 1 سورة البقرة آية: 164.

وذكر الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وذكر ما أنزل من السماء من المطر الذي فيه حياة البلاد، وبه وبما وضع الله في الليل والنهار من الحر والبرد يتم رزق العباد، والبهائم والدواب، وذكر ما بث في الأرض من كل دابة مختلفة الصور والأجساد، مختلفة الألسنة والألوان، وذكر تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، وما فيهما من منافع الحيوانات وما في جميع ذلك من الآيات البينات لقوم يعقلون"1. فهذه أمور واضحة محسوسة، إذا تمعن فيها الإنسان وحكم عقله خلص من ذلك إلى أن هذه كائنات لم يكن وجودها ذاتياً، ولم يكن لها أن تسير أنفسها بتلك الدقة المتناهية، وذلك التناسق العجيب بل وجودها وفق هذا النظام المحكم دليل واضح على أن لها موجداً خلقها، وقدر فيها وظائفها الموكول إليها تأديتها، وسيرها نحو أداء الغرض الذي خلقت من أجله بغاية الدقة والإحكام. ثم أردف البيهقي - رحمه الله - بسوق آية أخرى تتضمن الأمر الإلهي بالنظر السابق حيث قال: "ثم أمر في آية أخرى بالنظر فيهما فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 2. يعني - والله أعلم - من الآيات الواضحات والدلالات النيرات، وهذا لأنك إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك، واعتبرتها بفكرك، وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ساكنه من آلة وعتاد، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض

_ 1 الاعتقاد ص:6، 7. 2 سورة يونس آية: 101.

مبسوطة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وضروب النبات مهيأة للمطاعم والملابس والمآرب، وصنوف الحيوان مسخرة للمراكب، مستعملة في المرافق، والإنسان كالمملك البيت المخول ما فيه، وفي هذا دلالة واضحة، على أن العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام، وأن له صانعاً حكيماً، تام القدرة، بالغ الحكمة 1. فهذا التكامل التام الذي نجده مودعاً في هذا الكون، أرضه وسماءه، يدلّ على وجود الخالق الذي أوجده وقدر ذلك الإحكام الكامل والتناسق التام، إذ لا قيمة لأرض بدون سماء هي مصدر نورها، ومنبع حياتها إذ منها ينزل المطر الذي جعله الله مصدر الحياة، ثم هذه الحياة لا قيمة لها بدون هذه الأرض التي أودع الله فيها صنوف الخيرات من أجل إسعاد هذا الإنسان الذي استخلفه الله، واستعمره فيها. فالبيهقي - رحمه الله تعالى - يرى ضرورة الاستدلال لإثبات الصانع، بالأدلة الشرعية التي ورد بها القرآن الكريم، وهي نفس الآيات التي يستلزم العلم بها العلم بالله تعالى، استلزام العلم بالشعاع العلم بوجود مصدره. وهي - ولا ريب - طريقة سليمة، خالية من التعقيد، وجلية عن الغموض الذي اكتنف طرق المتكلمين، ولا غرو فهي طريقة القرآن الكريم التي أراد الله سبحانه وتعالى من خلالها أن تكون في متناول جميع الطبقات، وفي مستوى جميع العقول. وهذه الطرق قد اشتملت على نوعين، ذكرها ابن رشد، وبين أنهما الطرق الشرعية السليمة التي سلكها القران الكريم، وأرشد إليها2.

_ 1 الاعتقاد ص: 7. 2 انظر: مناهج الأدلة ص: 151-155.

وهما ما يسمى بدليل العناية، ودليل الاختراع. وكلا الآيتين السابقتين متضمنة لهذين النوعين من الأدلة. 2 - وأما النظر في الأنفس: فإن فيها من آثار الصنعة الإلهية ما يشير إلى إثبات الصانع، لأن الإنسان إذا نظر في نفسه وجدها تشتمل على ما لا يستطيع هو إيجاده فللإنسان يدان يبطش بهما، ورجلان يمشي عليهما، وعينان يبصر بهما ويلاحظ من نفسه أموراً عجيبة، لا يمكن أن تكون وليدة صدفة، فلا بد لها من مكون، حكيم في صنعه وتقديره، فالإنسان بعد خروجه من بطن أمه يمر بأطوار شتى، فمن الطفولة يرتقي إلى طور أشد فأشد، ثم يرد في نهاية ذلك إلى أرذل العمر، وقبل ذلك في بطن أمه، يمر بأطوار أيضاً لا قدرة لمخلوق على القيام بإمرار نفسه فيها، فمن نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، ثم إلى عظام، ثم يكسو العظام لحماً، ثم يكون خلقاً آخر.. فتبارك الله أحسن الخالقين. ولبيان هذه الطريق يقول البيهقي: "وحثهم على النظر في أنفسهم والتفكر فيها، فقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 1. يعني لما فيها من الإشارة إلى آثار الصنعة الموجودة في الإنسان، من يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما وعين يبصر بها، وأذن يسمع بها، ولسان يتكلم به، وأضراس تحدث له عند غناه عن الرضاع، وحاجته إلى الغذاء، يطحن بها الطعام، ومعدة أعدت لطبخ

_ 1 سورة الذاريات آية: 21.

الغذاء، وكبد يسلك إليها صفوه، وعروق ومعابر تنفذ فيها إلى الأطراف، وأمعاء يرسب إليها ثقل الطعام، ويبرز عن أسفل البدن فيستدل بها على أن لها صانعاً حكيماً، عالماً قديراً"1. وهناك ظاهرة أخرى يلاحظها البيهقي في جسد الإنسان وهي وجود المتضادات والمتنافرات مجتمعة فيه من حرارة، وبرودة ورطوبة ويبوسة ورأى ذلك دليلاً حياً على أن هناك من قدر اجتماعها في بدن الإنسان، مع أنها من المتضادات التي لا يمكن لمخلوق أن يجمع بينها، وفي بيان ذلك يقول البيهقي: "ثم إنا رأينا أشياء متضادة من شأنها التنافر والتباين والتفاسد، مجموعة في بدن الإنسان، وأبدان سائر الحيوان، وهي الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، فقلنا إن جامعاً جمعها وقهرها على الاجتماع، وأقامها بلطفه، ولولا ذلك لتنافرت، ولتفاسدت، ولو جاز أن تجتمع المتضادات المتنافرات، وتتقاوم من غير جامع يجمعها، لجاز أن يجتمع الماء والنار، ويتقاوما من ذاتهما من غير جامع يجمعهما، ومقيم يقيمهما، وهذا محال لا يتوهم، فثبت أن اجتماعها إنما كان بجامع قهرها على الاجتماع والالتئام، وهو الله الواحد القهار"2. وهذا النوع من الاستدلال أشار إليه القرآن الكريم بقوله سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} 3.

_ 1 الاعتقاد ص:8. 2 الاعتقاد ص:8. 3 سورة يس آية: 80.

ثم يلتفت البيهقي بعد ذلك إلى خلق الإنسان، ومروره بأطوار مختلفة، يستحيل عليه أن يمر بها بتقدير من نفسه وتدبير من ذاته حيث قال: "وقد بين الله تعالى في كتابه العزيز، تحول أنفسنا من حالة إلى حالة، وتغيرها، ليستدل بذلك على خالقها، ومحولها، فقال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} 1. وقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} 2. فالإنسان إذا فكر في نفسه، رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحماً وعظماً، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل، التي هي حال كمال عقله، وبلوغ أشده، عضواً من الأعضاء ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز، وقد يرى نفسه شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة، إلى الشيخوخة والهرم ولا اختاره لنفسه، ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب، ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أن ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه وأن له صانعاً صنعه، وناقلاً نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل، ولا مدبر"3.

_ 1 سورة نوح آية: 13-14. 2 سورة المؤمنون آية: 12-15. 3 الاعتقاد ص:9.

فهذا استدلال بخلق الإنسان على هذه الصورة على وجود خالقه ومدبره، وهو الله سبحانه، وهو دليل واضح لا غموض فيه، وسهل خال عن التعقيد، وعن هذا الدليل القيم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "الاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحسن والاستقامة، وهي طريقة عقلية صحيحة، وهي شرعية دل القرآن عليها وهدى الناس إليها، وبينها وأرشد إليها، وهي عقلية، فإن نفس كون الإنسان حادثاً، بعد أن لم يكن، ومولوداً ومخلوقاً من نطفة، ثم من علقة، هذا لم يعلم بمجرد خبر الرسول، بل هذا يعلمه الناس كلهم بعقولهم، سواء أخبر به الرسول، أو لم يخبر، لكن الرسول أمر أن يستدل به، ودل به، وبينه، واحتج به، فهو دليل شرعي، لأن الشارع استدل به، وأمر أن يستدل به، وهو عقلي لأنه بالعقل تعلم صحته"1. وإذاً، فهاتان الطريقتان اللتان سلكهما البيهقي للاستدلال على وجود الله، - أعني النظر في الملكوت والأنفس، - هما عقليتان، وشرعيتان في نفس الوقت، والاستدلال بمثل هذا النوع من الأدلة هو منهج السلف إذ من منهجهم قبول كل دليل اتفقت العقول على صحته، وكان شرعياً بمعنى أن الشارع قد أتى به، وأمر الناس أن يستدلوا به. وبذلك تتضح موافقة البيهقي للسلف في هذا الاستدلال.

_ 1 كتاب النبوّات ص:48.

طريق المعجزة: وهي الطريق الثانية من الطرق التي سلكها البيهقي لإثبات وجود الله تعالى، فبعد أن ذكر طريق النظر السالفة، وساق أدلته عليها، عمد إلى هذه الطريق، وعزاها إلى بعض مشايخه، فساقها مؤيداً وموضحاً. فالمجتمع الذي يبعث فيه نبي من الأنبياء، يجري الله تعالى على يديه معجزات تؤيد صدقه فيما ادعاه من النبوة، وإذا ثبتت النبوة أو الرسالة بتلك المعجزة، ثبت أن هناك مرسلاً لذلك الرسول أيده بها، لتكون دليلاً على صدقه، فيصدقونه في جميع ما أخبر به. وأهم ذلك كله وجود خالق واحد، خلقهم من العدم، واستخلفهم في هذه الأرض، من أجل عبادته فيها وحده لا شريك له، وهو الله سبحانه وتعالى، هذا إذا كانت تلك المعجزة عن شهود من ذلك المدعو وحضور لوقائعها، أما من غاب

عنها، فإن دلائلها تثبت عنده بطريق الاستفاضة لتلك المعجزة ورسالة صاحبها. فإذا ثبتت النبوة فإنها تكون أصلاً في وجوب قبول جميع ما دعا إليه النبي. وفي بيان هذه الطريق يقول الشيخ البيهقي - رحمه الله -: "وقد سلك بعض مشايخنا1 - رحمنا الله وإياهم - في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمقدمات النبوة، ومعجزات الرسالة، لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها، ومن طريق الاستفاضة لمن غاب عنها، فلما ثبتت النبوة صارت أصلاً في وجوب قبول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا الوجه كان إيمان أكثر المستجيبين للرسل صلوات الله عليهم أجمعين"2. ثم ذكر قصة جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم مع النجاشي، ليدلل بها على صحة هذه الطريق، حيث ساقها بسنده عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "إن النبي صلى الله عليه وسلم، لما فتن أصحابه بمكة أشار عليهم أن يلحقوا بأرض الحبشة، فذكر3 الحديث بطوله إلى أن قال: فكلمه جعفر رضي الله عنه - يعني النجاشي - فقال: كنا على دينهم - يعني على دين أهل مكة - حتى بعث الله عز وجل فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وعفافه، فدعا إلى أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئاً، ونخلع ما يعبد قومنا وغيرهم من دونه، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر، وأمرنا بالصلاة والصيام، والصدقة وصلة الرحم، وكل ما يعرف من الأخلاق الحسنة، فتلا علينا تنزيلاً جاءه من الله عز وجل لا يشهد شيء غيره، فصدقناه، وآمنا به، وعرفنا أن ما جاء به هو الحق من عند الله عز وجل، ففارقنا عند ذلك قومنا، وآذونا. فقال النجاشي: هل معكم مما نزل عليه شيء تقرؤونه عليّ؟ فقال جعفر: نعم، فقرأ {كهيعص} فلما قرأها بكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلت مصاحفهم، وقال النجاشي:

_ 1 يقصد أبا سليمان الخطابي، وسيأتي ذكره فيما بعد إن شاء الله. 2 الاعتقاد ص: 10. 3 الضمير هنا راجع إلى أبي بكر بن عبد الرحمن راوي الحديث عن أم سلمة.

"إن هذا الكلام والكلام الذي جاء به عيسى عليه السلام ليخرجان من مشكاة واحدة"1. ثم ذكر - رحمه الله - بعد سوقه لهذا الحديث وجه الاستدلال به حيث قال: "فهؤلاء مع النجاشي وأصحابه استدلوا بإعجاز القرآن على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من الرسالة فاكتفوا به وآمنوا به، وبما جاء به من عند الله، فكان فيما جاء به إثبات الصانع وحدوث العالم"2. ولم يكن البيهقي- بكلامه هذا- ليظن بأن النجاشي وأصحابه لا يعرفون وجود الله تعالى، فلما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم - الذي عرف صدقه عن طريق معجزته وهي القرآن علموا ذلك - لكنه يقصد بهذا أن ثبوت صدق الرسول بالمعجزة التي استدل بها هؤلاء يقتضي تصديقه في جميع ما يخبر به، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن لهذا الكون خالقاً، كما في حديث أنس رضي الله عنه الذي أردف البيهقي بذكره لبيان مقصوده، حيث ساق بسنده إلى أنس رضي الله عنه أنه قال: "كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يأتيه الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع، فأتاه رجل منهم فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، فقال: صدق. قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله. قال فمن نصب هذه الجبال؟ قال: الله. قال: فمن جعل فيها هذه المنافع؟ قال: الله. قال فبالذي خلق السماء والأرض، ونصب الجبال، وجعل فيها هذه المنافع آلله أرسلك؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال صدق. قال فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا

_ 1 الاعتقاد ص: 11. 2 المصدر نفسه.

صدقة في أموالنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال نعم. قال: وزعم رسولك أن خلينا صوم شهر في سنتنا، قال. صدق قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال. نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إلبه سبيلاً، قال: صدق، قال فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فلما مضى قال: لئن صدق ليدخلن الجنة" 1. قال البيهقي - رحمه الله - في بيان وجهة الاستدلال بهذا الحديث: "فهذا السائل كان قد سمع بمعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت مستفيضة في زمانه، ولعله سمع أيضاً ما كان يتلوه من القرآن، فاقتصر في إثبات الخالق، ومعرفة خلقه على سؤاله وجوابه عنه وقد طالبه بعض من لم يقف على معجزاته بأن يريه من آياته ما يدل على صدقه، فلما أراه إياه، ووقف عليه آمن به، وصدقه فيما جاء به من عند الله عز وجل "2. وقد ذهب إلى الاستدلال بهذه الطريق الشيخ أبو سليمان الخطابي3 في كتاب الغنية عن الكلام وأهله، والقاضي أبو يعلى4 في عيون المسائل. ذكر ذلك عنهما شيخ الإسلام ابن تيمية5.

_ 1 الاعتقاد ص: 12. 2 المصدر نفسه. 3 حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، الخطابي، البستي مصنف غريب الحديث، ومعالم السنن، ونسبته (الخطابي) إلى جده، ولد سنة سبع عشرة وثلاثمائة ببست، وتوفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. انظر: اللباب1/452. 4 هو: محمّد بن الحسين بن محمّد بن خلف به الفراء، أبو يعلى الحنبلي ولد سنة: 380?، وتوفي سنة 458?، انظر تاريخ بغداد 2/256. 5 مجموع الفتاوى11/377.

وهي طريقة شرعية سليمة، لأن القرآن الكريم قد جاء بها، كما في قصة فرعون الذي كان منكراً للربّ سبحانه وتعالى، فعرض عليه موسى عليه السلام معجزة واضحة، تدل على صدق ما ادعاه من وجود الله الذي أرسله إلى فرعون وقومه ليؤمنوا به وحده لا شريك له، لأنه هو وحده القادر على كل شيء، إذ دلت المعجزة على وجوده وكمال قدرته سبحانه على جميع خلقه بمن فيهم فرعون الذي أبى واستكبر وادعى الألوهية من دون الله سبحانه، منكراً أن يكون ثمة إله غيره، حتى بعد مشاهدة تلك المعجزة البينة، والحجة الدامغة، وما ذلك إلاّ استكباراً وعناداً. قال الله تعالى - مخاطباً موسى وهارون عليهما السلام -: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ، قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} إلى قوله - {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قال قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} 1. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد سوقه للآيات السالفة الذكر: "فهنا قد عرض عليه موسى الحجة البينة، التي جعلها دليلاً على صدقه في

_ 1 سورة الشعراء آيات: 15-33.

كونه رسول ربّ العالمين، وفي أن له إلهاً غير فرعون يتخذه، وكذلك قال تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} الآية1. فبين أن المعجزة تدل على الوحدانية والرسالة، وذلك لأن المعجزة - التي هي فعل خارق للعادة - تدل بنفسها على ثبوت الصانع، كسائر الحوادث، بل هي أخص من ذلك لأن الحوادث المعتادة ليست في الدلالة كالحوادث الغريبة، ولهذا يسبح الربّ عندها، ويمجد، ويعظم ما لا يكون عند المعتاد، ويحصل في النفوس ذلة من ذكر عظمته، ما لا يحصل للمعتاد، إذ هي آيات جديدة فتعطى حقها، وتدل بظهورها على الرسول، وإذا تبيّن أنه تدعو إلى الإقرار بأنه رسول الله، فتقرر بها الربوبية والرسالة"2. فهذه ملاحظات هامة من ابن تيمية على هذه الطريق إذ رآها أبين دلالة من الطريقين السالفين، نظراً لأن هناك استدلالاً بحوادث معتادة يشاهدها الناس – غالباً - كل يوم، لا تنفك عن حياتهم. أما المعجزة فهي شيء غريب يشاهد على خلاف المعتاد، مما يعطيها مكانة أقوى في الدلالة. وقد هاجم ابن رشد من ذهب إلى هذه الطريق، واستدل بها ووصمهم بأنهم حشوية - ويقصد بذلك السلف - وزعم وجوب معرفة الباري سبحانه عن طريق الاقتصار على الأدلة العقلية المنصوص عليها، وهي ما تقدم ذكره من النظر3.

_ 1 سورة هود آية: 14. 2 مجموع الفتاوى11/378. 3 انظر: مناهج الأدلة ص: 135.

ورأيه في هذه الطريق واضح التهافت، لأن فيه هجراً لأصول شرعية أخرى، وهي ما ورد من وجوب تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يقول، والسلف - رحمهم الله - ذهبوا إلى الجمع بين طريقي العقل والسمع، وكلاهما شرعي، إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين جميع الأدلة والبراهين الحسية، والعقلية والآيات الدالة على هذا المطلب أحسن بيان، فدل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية، والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية، من إثبات للربوبية والوحدانية، والصفات، والمعاد الجسماني، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة السمعية، وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية، وإن كان لا يحتاج إلى بعضها فإن كثيراً من الأمور يعرف بالخبر الصادق، ومع هذا فالرسول صلى الله عليه وسلم بيّن الأدلة العقلية الدالة عليها، فجمع بين الطريقين؛ السمعي والعقلي. فهذه الطريق التي سلكها البيهقي، إلى جانب الطريق العقلي السالف، طريق صحيحة لا غبار عليها، وانتقاد ابن رشد لها في غير محله، لأن السلف لم يوجبوا معرفة الله عن طريقها فحسب، بل يقرّون بسلامة الطرق العقلية السابقة، كيف لا وهي طريقة القرآن الكريم الذي جاء بطريق المعجزة إلى جانبها كما أوضحت. ومهاجمة ابن رشد لأصحابها ضرب من الخصومة الفكرية المنحرفة لأنه - مع أخذه بجانب من الأدلة الشرعية، وهي العقلية المنصوص عليها - قد عطل جانباً آخر، دون مبرر. ولا غرو فهو فيلسوف، والفلاسفة يغلب عليهم الجانب العقلي مع نبذ سواه.

طريق الحدوث تقدم استدلال البيهقي بطريق النظر، وطريق المعجزة، وسبق أن قررت صحة استدلاله ذاك لموافقته طريقة القرآن الكريم، وهنا أعرض دليلاً آخر ضمه البيهقي إلى الأدلة السالفة في صحة الاستدلال به وهو ما يسمى بدليل الحدوث فقد قال - رحمه الله - في بيان هذا الدليل: "ثم إن الله تعالى حضّهم على النظر في ملكوت السموات والأرض، وغيرهما من خلقه في آية أخرى فقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} 1. يعني بالملكوت الآيات2. يقول: "أولم ينظروا فيها نظر تفكر وتدبر، حتى يستدلوا بكونها محلاً للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه على هيئة لا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات، كما استدل إبراهيم الخليل عليه السلام بمثل ذلك، فانقطع عنها كلها إلى ربّ هو خالقها ومنشئها"3. ويؤيد البيهقي رأيه هذا بقول أبي سليمان الخطابي - رحمه الله - عن استدلال إبراهيم عليه السلام حيث قال: "قال أبو سليمان الخطابي كل وقت وزمان، أو حال ومقام، حكم الامتحان فيها قائم فللاجتهاد

_ 1 سورة الأعراف آية: 185. 2 ذكر في كتاب الأسماء والصفات أن هذا التفسير لمجاهد. انظر: ص:280، وهو كما قال لوجوده في تفسيره. انظر: تفسير مجاهد ص: 218. 3 الاعتقاد ص: 7.

والاستدلال فيها مدخل، وقد قال إبراهيم عليه السلام حين رأى الكوكب هذا ربّي ثم تبيّن فساد هذا القول لما رأى القمر أكبر جرماً، وأبهر نوراً فلما رأى الشمس وهي أعلا في منظر العين، وأجلى للبصر، وأكثرها ضياء وشعاعاً، قال: هذا ربّي، هذا أكبر، فلما رأى أفولها وزوالها وتبيّن له كونها محل الحوادث والتغييرات، تبرأ منها كلّها، وانقطع عنها إلى ربّ هو خالقها ومنشئها، لا تعترضه الآفات ولا تحلّه الأعراض والتغييرات1. ففي هذا الدليل موافقة من البيهقي للمتكلمين في طريقتهم التي سلكوها في الاستدلال على وجود الله تعالى، وهي الاستدلال بحدوث العالم. وهذا في حدّ ذاته استدلال صحيح، غير أن الأمر الذي هو محل النقد في هذا الدليل هو طريقتهم في إثبات العالم، ومن ثم زعمهم أن طريقتهم تلك هي طريق إبراهيم الخليل عليه السلام. ولنبدأ أولاً بإيضاح موافقة البيهقي لهم في هذا المجال فالمتكلمون ذهبوا إلى أن الله تعالى لا يمكن أن يكون محلاً للحوادث لأن من كان محلاً للحوادث، فإنه لا بد أن يكون حادثاً، لأن الحوادث لا تحت إلاّ بحادث مثلها لوجوب أن يكون لها أوّل - في نظرهم - وهذا هو مذهب البيهقي الواضح من كلامه السابق. والتغيرات الحاصلة في هذا العام من وجود، وعدم، وتحول من حال إلى حال سكون بعد حركة، أو حركة بعد سكون، وغير ذلك عبارة عن أعراض حلّت بجواهر هذا العالم، والأعراض حادثة بعضها بالمشاهدة

_ 1 الأسماء والصفات ص: 281.

وبعضها بالدليل وما حلّت به الأعراض فهو حادث مثلها، إذا العالم حادث. وإبراهيم عليه السلام رأى هذه الأعراض حالة بتلك الكواكب، حيث تحركت وانتقلت من محل لآخر والحركة والسكون عرضان من الأعراض، وهذا دليل حدوثها وما دامت حادثة فهي غير صالحة لأن تكون إلهاً1. هذا ما رآه المتكلّمون من استدلال إبراهيم عليه السلام حيث أرادوا إسناد مذهبهم بدليل شرعي، وهذا بعينه ما رآه البيهقي وأراده. وهذا الدليل الذي أورده البيهقي يشتمل على أمور ثلاثة: 1 - نفي حلول الحوادث بذات الباري سبحانه، بحجة أن الحوادث لا تحلّ إلاّ بحادث مثلها، وهذه دعوى لا تهمنا هنا، ولها مكان آخر، فيما بعد إن شاء الله. 2 - طريق الاستدلال على حدوث العالم بحدوث أعراضه، حيث يفهم من كلام البيهقي موافقته للمتكلّمين على ما ذهبوا إليه من هذا الاستدلال. 3 - ادعاء أن تلك الطريقة هي طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام وهاتان القضيتان الأخيرتان هما محور الكلام، ومناط الحديث. أما طريقتهم في الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هي صفات الأجسام القائمة بها، فإنها طريقة باطلة لأن من المعلوم بداهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستدل بها، ولم يدع أحداً من أمته إلى

_ 1 راجع المواقف بشرح الجرجاني (مطلب الآلهيّات) ص: 5 وما بعدها.

الاستدلال بها على وجود الله تبارك وتعالى، وقد اعترف كثير من المتكلّمين بأنها ليست طريقة الرسل عليهم السلام، ولا طريقة أتباعهم، وهي طريقة مخالفة للطرق التي دعا إليها الإسلام لما تشتمل عليه من ضعف، وما يرد عليها من التزامات فاسدة، ويكفي في بيان زيفها وتهافتها ما أورده شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - من تفنيدها وإظهار لباطلها، حيث قال: "هذه الطريقة مما يعلم بالاضطرار أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس بها إلى الإقرار بالخالق ونبوّة أنبيائه، ولهذا قد اعترف حذاق أهل الكلام - كالأشعري وغيره - بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم بل المحقّقون على أنها طريقة باطلة، وأن مقدماتها فيها تفصيل وتقسيم يمنع ثبوت المدعي بها مطلقاً، ولهذا تجد من اعتمد في أصول دينه فأحد الأمرين لازم له. إما أن يطلع على ضعفها، ويقابل بينها وبين أدلة القائلين بقدم العالم، فتتكافأ عنده الأدلة، أو يرجح هذا تارة وهذا تارة، كما هو حال طوائف منهم. وإما أن يلتزم لأجلها لوازم معلومة الفساد في الشرع والعقل، كما التزم جهم لأجلها فناء الجنة والنار1. والتزم لأجلها الهذيل انقطاع

_ 1 جهم هذا هو: جهم بن صفوان، من أهل خراسان، ينسب إلى سمرقند وترمذ، ومحتده الكوفة، ويكنى أبا محرز أخذ الكلام عن الجعد بن درهم، قتل سنة: 128هـ، وقد قال جهم بفناء الجنة والنار بعد دخول أهلهما فيهما، وتلذذ أهل الجنة بنعيمها وتألم أهل النار بجحيمها. انظر: تاريخ الجهمية والمعتزلة لجمال الدين القاسمي ص:10، والمنية والأمل لابن المرتضى، ص: 107، والملل والنحل للشهرستاني1/87.

حركات أهل الجنة1. والتزم قوم لأجلها - كالأشعري وغيره - إن الماء والتراب له طعم، ولون، وريح، ونحو ذلك. والتزم قوم لأجلها، ولأجل غيرها أن جميع الأعراض كالطعم واللون وغيرهما، لا يجوز بقاؤهما بحال، لأنهم احتاجوا إلى جواب النقض الوارد عليهم، لما أثبتوا الصفات لله، مع الاستدلال على حدوث الأجسام بصفاتها، فقالوا: "صفات الأجسام أعراض، أي أنها تعرض فتزول، فلا تبقى بحال، بخلاف صفات الله فإنها باقية"2. كما تناول ابن رشد3 في كتابه مناهج الأدلة هذا الدليل فأوسعه نقضاً، وبدت صعوبته على الخاصة فضلاً عن الجمهور4، والأدلة على هذه القضية المهمة يجب أن تكون في متناول الجميع.

_ 1 أبو الهذيل هو: محمّد بن الهذيل العبدي العلاف. من الطبقة السادسة للمعتزلة توفي سنة 235? في أيام المتوكل، وقد اشتهر عنه القول بانقطاع حركات أهل الخلدين، وأنهم يصيرون إلى سكون دائم. انظر: المنية والأمل ص: 148، ومقالات الإسلاميين للأشعري2/167. 2 درء تعارض العقل والنقل1/39، 40. 3 هو: أبو الوليد محمّد بن أحمد بن محمّد بن رشد، أحد مشاهير الفلاسفة المسلمين، ولد في قرطة سنة: 520?، وتوفي سنة 595? انظر: الأعلام للزركلي6/212. 4 مناهج الأدلة ص: 136-144.

ومن الأمور التي كابر بها المتكلمون الحس والعقل في بدعتهم هذه، هو جعلهم الطريق إلى معرفة حدوث الأجسام حدوث أعراضها ونحن نشهد حدوث الأجسام نفسها مثل حدوث الزرع، والثمار وحدوث الإنسان، والحيوان وحدوث السحاب، والمطر، ونحو ذلك من الأعيان القائمة بنفسها، غير حدوث الأعراض، كالحركة والسكون، والحرارة والبرودة، والضوء، والظلمة وغير ذلك. فلسنا في حاجة لمعرفة حدوث الجسم إلى واسطة. أما زعمهم أن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم عليه السلام فيما حكاه الله عز وجل عنه بقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 1. فإن هذا زعم باطل للأمور الآتية: 1 - إن الأفول ليس هو الحركة، وذلك باتفاق أهل اللغة والمفسرين فلا يسمى في اللغة كلّ متحرك أو متغير آفلاً ولا يقال للمتحرك إنه آفل، فلا يقال للمصلي، أو الماشي إنه آفل، ولا يقال للتغير الذي هو استحالة كالمرض واصفرار الشمس، إنه أفول، فلا يقال للشمس إذا اصفرت إنها أفلت، وإنما يقال: "أفلت إذا غابت، واحتجبت، وهذا من المتواتر المعلوم بالاضطرار من لغة العرب، أن آفلاً بمعنى غائب". قال في القاموس: "يقال أفلت الشمس، غابت، ونجوم أفل، وكلّ شيء غاب فهو آفل، قال:

_ 1 سورة الأنعام آيات: 75/78.

فدع عنك سعدي إنما تسعف النوى....قران الثريا مرة ثم تأفل1 قال الخليل: "وإذا استقر اللقاح في قرار الرحم فقد أفل"2. 2 - إن الكواكب التي رآها إبراهيم عليه السلام كانت متحركة في بزوغها فلو أنه - عليه السلام - كان يستدل بالحركة التي يسمونها تغيراً، لكان قد قال ذلك من حين رآها بازغة، ولما انتظر أفولها. 3 - إن إبراهيم - عليه السلام - لم يكن بصدد إثبات الصانع، حتى يستدل بحادث على محدث، لأن قومه كانوا مشركين، يعبدون الكواكب والأصنام، ويقرون بالصانع، ولهذا قال الخليل عليه السلام: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 3. فذكر ما كانوا يصنعون من اتخاذ الكواكب والشمس واالقمر ربّاً يعبدونه، ويتقرّبون إليه، فكانوا بذلك يشركون معه غيره في العبادة، فأراد أن يبيّن لهم أنه هو المستحقّ للعبادة وحده. وبهذا يتبين لنا بطلان تعلق المتكلمين بقصة إبراهيم عليه السلام. ويبدو أن الشيخ البيهقي استشعر ضعف هذا الطريق فلم يقل ما قاله كثير من المتكلمين من جعله أصلاً من أصول الدين يجب معرفة الله تعالى عن طريقه وهو ما ذهب إليه إمام الحرمين الجويني4 - وهو من

_ 1 هذا البيت منسوب إلى كثير عزة. 2 معجم مقاييس اللغة لابن فارس1/119، مادة: أفل. 3 سورة الشعراء آيات: 75-77. 4 عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمّد الجويني الملقّب بإمام الحرمين. ولد في جوين سنة: 419?، وتوفي بنيسابور سنة: 478?، انظر: الأعلام4/356.

المعاصرين للبيهقي - حيث قال: "أوّل ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ، أو الحلم شرعاً، القصد إلى النظر الصحيح، المفضي إلى العلم بحدوث العالم، والنظر في اصطلاح الموحدّين، هو الفكر الذي يطلب به من قام به علماً، وغلبة ظن"1. وممن قال بالإيجاب من المتكلّمين الشيخ سعد الدين التفتازاني حيث قال بعد إيراده لنظرية الجوهر الفرد التي جعلها أصلاً من الأصول التي اعتمد عليها في إثبات حدوث العالم: "قلنا في إثبات الجوهر الفرد نجاة عن كثير من ظلمات الفلاسنة مثل إثبات الهيولي والصورة، المؤدي إلى قدم العالم، ونفي حشر الأجساد.. إلخ"2. وهذا غاية الغلو في التمسك بهذه النظرية المتهافتة، والتي تبين فسادها أكثر في العصر الحديث بعد تحطيم الذرة التي هي الجوهر عندهم. فالنجاة من الظلمات الفلسفية وغيرها، بل ومن الظلمات التي حاكها المتكلّمون حول العقيدة الإسلامية ـ زعماً منهم أنهم بذلك يرسخون العقيدة ويوضحونها، ويذبون عنها ـ النجاة من ذلك كلّه يكون في التمسك بأهداب الوحي، من كتاب أو سنة، فهما الينبوعان الصافيان من كلّ كدر، الهاديان إلى صراط الله المستقيم من تمسك بهما لن يعدم خيراً، ومن التجأ إليها لن يضام، ومن جعلهما نبراس حياته فسيكون في منأى عن المهالك، وفي مأمن من الزيغ والضلال. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك".

_ 1 الإرشاد ص: 3. 2 شرح العقائد النسفية مع مجموعة الحواشي البهية1/75.

وقال: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا، كتاب الله وسنتي". ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد أن أشار إلى إيجابهم سلوك هذا الطريق -: "والتحقيق ما عليه السلف أنه ليس بواجب أمراً ولا هو صحيح خبراً، بل هو باطل منهي عنه شرعاً. فإن الله تعالى لا يأمر بقول الكذب والباطل، بل ينهى عن ذلك، لكن غلطوا حيث اعتقدوا أنّه حقّ وأن الدين لا يقوم إلاّ على هذا الأصل الذي أصّلوه".1 ويقول أستاذنا الكبير الدكتور محمّد خليل هراس - رحمه الله - يقول في نقد اتجاه المتكلّمين إلى تأصيل نظرية الجوهر الفرد هذه وجعلها أصلاً من أصول الدين يجب معرفة الله تعالى عن طريقه: "وإن من أعظم الحرج أن نكلف العامة، ومن لا قدرة لهم على النظر أصلاً بتحصيل معنى الإمكان والحدوث والتغير، والجوهر والعرض، وغير ذلك مما يدخل في تركيب هذه الأدلة، ثم نقول لهم إنكم لا يصح إيمانكم بالله إلاّ من هذه الطريق، فنضيق عليهم وحمة الله ونصدهم عن سبيله، ونكلفهم من الأمر ما لا يطيقون، بل لعل أولى من ذلك، وأقرب إلى الفطرة، وأضمن للوصول إلى الغاية أن ندعو الناس إلى ما أرشد إليه القرآن من النظر في ملكوت السموات والأرض، وما فيهما من عجائب تدل على عظيم قدرة الله تعالى وجسيم نعمته، ونشرح لهم ما أودع الله في الأشياء المختلفة من خواص، ومنافع سخرها لهم وأنه كيف وهب كل مخلوق من القوى، والآلات ما يحتاجه في تحصيل قوته وحفظ حياته"2.

_ 1 النبوّات ص: 65. 2 ابن تيمية السلفي ص: 82-83.

وهذه النظرية التي قدسها المتكلمون يونانية الأصل، حيث إن أوّل من قال بها "ديمقريطس1 من فلاسفة اليونان2. فما كان ينبغي لمسلم أن يلجأ إلى نظرية هذا مصدرها وهي غير سالمة من النقد فيتعب نفسه في بيانها وتقريرها والذب عنها، ولكن المتكلمين فعلوا. إلاّ أن حججهم التي اعتمدوها هنا واهية، أو هي من خيط العنكبوت. حجج تهافت كالزجاج تخالها ... تبقى وكل كاسر مكسور وشيخنا البيهقي - رحمه الله - كما هو معروف عنه من التمسك بالسنة والذب عنها، لم يكن ليقود ما قاله المتكلمون في تمجيد هذه النظرية، بل إنه اقتصر على إيراد دليل الحدوث، على سبيل الحصر للطرق السليمة التي يراها - في نظره - صالحة للاستدلال على هذا المطلب، فإنه كما يلاحظ قدم طريقة القرآن الكريم، مما ينبئ عن اهتمامه بها، وجعله مثل هذه الطريق ثانوية يمكن الاستغناء عنها، مع إمكان سلوكها، فالرجل اقتنع بصحتها، ولم يقل بوجوبها، والاستغناء بها عن سواها. إذ إن منهجه السلفي منعه من الوقوع في مثل ما وقع فيه المتكلمون. أما عن الوحدانية فإن أدلته لإثباتها هي عين أدلته لإثبات الوجود، لذلك لا أرى ثمة ضرورة لعقد فصل مستقل، فأكتفي بما ذكرت عن أدلة الوجود.

_ 1 فيلسوف يوناني توفي حوالي 430 ق. م. انظر أعلام الفلاسفة للدكتور هنري توماس ص: 74، ترجمة متري أمين. 2 انظر حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية1/75، ضمن مجموعة الحواشي البهية.

الفصل الثاني: أسماء الله تعالى طريق إثباتها لقد كان ثبوت أسماء الله تعالى بما ورد من أدلة صريحة واضحة مصدرهما كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة امراً واضحاً، إذ أصبح بذلك من المسلمات التي لا تحتاج إلى إمعان نظر، ولا تقبل المراء. ومع ذلك فقد وجد بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام من خالف في ذلك، فلم يقر بثبوت أسماء الله تعالى ثبوتاً حقيقياً. ومجمل الآراء في ذلك ذكرها فخر الدين الرازي حيث قال: "اعلم أن من الناس نفى ثبوت الأسماء لله تعالى وسلم ثبوت الصفات، ومنهم من عكس، سلم ثبوت الأسماء وأنكر ثبوت الصفات، ومنهم من اعترف بالأسماء والصفات لله تعالى"1. ونفي أسماء الله تعالى مصيبة عظمى، وإلحاد صريح وأصحاب هذا الرأي هم الجهمية أتباع جهم بن صفوان الترمذي الذي ذهب إلى نفي أسماء الله تعالى حيث قال بنفي كل اسم يرى جواز إطلاقه على المخلوق

_ 1 شرح الأسماء الحسنى للرازي ص: 29.

وأثبت بعض الأسماء التي يرى أن الله مختص بها ولا يجوز تسمية المخلوق بها، كالخالق، والمحيي والمميت، والقادر، والموجد، والفاعل1، كما سيأتي بيان ذلك فيما بعد إن شاء الله. والمعروف أن هؤلاء الجهمية ينفون الصفات جميعاً، مع ما نفوه من أسماء ولا أعرف أحداً نفى الأسماء وأثبت الصفات، كما قال الرازي. وأحب أن أنبه على أن هؤلاء النفاة لم ينكروا إطلاق الألفاظ على الله تعالى، إلا أنهم يقولون إن إطلاقها عليه سبحانه مجازي لا حقيقة ولا ريب إن هذا نفي محض. ولذلك قال ابن القيم عن أصحاب هذا الرأي: "إنهم لا يتمكنون بعد ذلك من إثبات حقيقة لله البتة، لا في أسمائه ولا في الإخبار عنه بأفعاله وصفا ته"2. أما منكرو أسماء الله تعالى بألفاظها ومعانيها فهم الملاحدة وهؤلاء لم يعرفوا وجود الله، فكيف يعرفون أسماءه. ووافقهم على ذلك غلاة الفلاسفة والقرامطة3. وهذا كما هو واضح تكذيب صريح لكتاب الله تعالى فهو كفر واضح. أما رأي الجهمية فالمبرر الوحيد له عندهم: أن إثبات هذه الأسماء وتلك الصفات على حقائقها يستلزم تشبيه الله بخلقه في زعمهم4.

_ 1 انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص: 212. 2 مختصر الصواعق المرسلة2/113. 3 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية6/209، والرسالة التدمرية له ص: 63. 4 انظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة ص: 28.

ويرد السلف عليهم رأيهم هذا، فيقول الإمام ابن خزيمة - رحمه الله – " ... وليس في تسميتنا بعض الخلق ببعض أسامي الله بموجب عند العقلاء الذين يعقلون عن الله خطابه، أن يقال: إنكم شبهتم الله بخلقه إذ أوقعتم بعض أسامي الله على بعض خلقه، وهل يمكن عند هؤلاء الجهال حل هذه الأسامي من المصحف، أو محوها من صدور أهل القرآن، أو ترك تلاوتها في المحاريب والكتاتيب وفي الجدور والبيوت، أليس قد أعلمنا منزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم أنه الملك، وسمى بعض عبيده ملكاً، وخبرنا أنه السلام، وسمى تحية المؤمنين بينهم سلاماً في الدنيا وفي الجنة، فقال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 1. ونبيّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قد كان يقول بعد فراغه من تسليم الصلاة: "اللهم أنت السلام ومنك السلام" 2. وقال عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} 3. فثبت بخبر الله أن الله هو السلام، كما في قوله: {السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} 4، وأوقع هذا الاسم على غير الخالق الباري وأعلمنا عز وجل أنه المؤمن، وسمى بعض عباده المؤمنين…"5 إلى آخر ما قاله - رحمه الله - في الرد على هذا الرأي المتهافت. وغرضه من هذا كله أن يقوله: إن تسمية الخلق ببعض أسامي الله عز وجل، لا يقتضي تشبيهاً أو تمثيلاً، لأن معناها في حق الله عز وجل على ما يليق به، وفي حق خلقه على ما يليق بهم.

_ 1 سورة الأحزاب آية: 44. 2 رواه مسلم في كتاب المساجد رقم: 135 1/414. 3 سورة النساء آية: 94. 4 سورة الحشر آية: 23. 5 كتاب التوحيد لابن خزيمة ص: 28-29.

فإثبات أسماء الله تعالى كما جاءت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، هو ما قالت به جماهير الأمة، وهو أمر واجب، إذ إنه من تمام التوحيد، ومن كمال معرفة الربّ سبحانه وتعالى كما يقول السيد محمّد بن المرتضى اليماني في كتابه "إيثار الحق": مقام معرفة كمال هذا الرب الكريم وما يجب له من نعوته، وأسمائه الحسنى، من تمام التوحيد، الذي لا بد منه، لأن كمال الذات بأسمائها الحسنى، ونعوتها الشريفة، ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم، ولذلك عد مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها من أعظم مكائدهم للإسلام، فإنهم عكسوا المعلوم عقلاً وسمعاً، فذموا الأمر المحمود، ومدحوا الأمر المذموم القائم مقام النفي والجحد المحض، وضادوا كتاب الله ونصوصه الساطعة"1. هذا عن النفي والنفاة، وما قيل في الرد عليهم. فماذا عن الإثبات والمثبتين الذين يتصدرهم شيخنا البيهقي؟ إذ إنه - رحمه الله - قد أولى هذا الأمر عناية كبرى، فألف كتاباً ضخماً، حفل بحشد من النصوص الشرعية التي دلل بها على ثبوت أسماء الله تعالى ثبوتاً قاطعاً لا شك فيه. وقد كان أولئك المثبتون يذهبون في طريق الإثبات مذهبين ذكرهما الرازي فقال: "مذهب أصحابنا - يعني الأشاعرة - إنها توقيفية وقالت الممعتزلة والكرامية: إن اللفظ إذا دل العقل على أن المعنى ثابت في حق الله سبحانه جاز إطلاق ذلك اللفظ على الله تعالى، سواء ورد التوقيف به أو لم يرد، وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني من أصحابنا"2، وهذا الرأي الأخير هو ما يسمى عند علماء الكلام بالطرق القياسية.

_ 1 إيثار الحقّ على الخلق، لابن المرتضى ص: 168. 2 شرح الأسماء الحسنى للرازي ص: 36.

فمذهب جمهور الأشاعرة إذاً هو القول بالتوقيف، وقد سلك شيخنا البيهقي هذا المسلك، وإليك بيان رأيه في هذا الموضوع: يقوله - رحمه الله -: "إثبات أسماء الله تعالى ذكره بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة"1. فالبيهقي بهذا الكلام يصرح برأيه في أن أسماء الله تعالى لا يجوز إطلاقها عليه ما لم تدل عليها إحدى هذه الطرق الثلاث لأن التوقيف وحده هو مجال الإثبات لها. وذكر - رحمه الله - مجموعة من النصوص القرآنية، والحديثية تدل على ثبوت هذه الأسماء، التي أنكرها من لا اعتبار برأيه من أرباب الأهواء، وأصحاب البدع. فالله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 2 وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3. وروى بسنده عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا آوى إلى فراشه قال: "اللهم باسمك أحيا، وباسمك أموت، وإذا أصبح قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" 4. إلى غير ذلك الآيات والأحاديث التي ذكرها في كتاب الأسماء والصفات مستدلاً بها على ثبوت هذه الأسماء لله تعالى، ثبوتاً حقيقياً

_ 1 الأسماء والصفات ص: 3. 2 سورة الأعراف آية: 180. 3 سورة الإسراء آية: 110. 4 الأسماء والصفات ص: 3. والحديث رواه البخاري في كتاب الدعوات. انظر: صحيح البخاري مع شرحه، حديث رقم: 6312، 11/113.

ألفاظاً، ومعاني. وهو برأيه هذا يوافق ما أجمع عليه السلف من جعل هذه الطرق هي الدليل االأوحد لثبوت أسماء الله تعالى. يقول أبو عبد الله محمّد بن عبد الله بن أبي زمنين1 من أئمة المالكية: "اعلم أن أهل العلم بالله، وبما جاءت به أنبياؤه ورسله، يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علماً، والعجز عن ما لم يدع إليه إيماناً، وإنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه، على لسان نبيه"2. فالبيهقي - رحمه الله - بل جمهور الأشاعرة يتفقون مع السلف في هذا الاتجاه، الذي يعتبر في رأيي أصلاً كان يجب أن يعتمد عليه في إثبات العقائد جميعها، إذ إن القرآن كلام الله والسنة وحي منه إلى نبيه، والإجماع مستند إلى أحد هذين الأصلين - أعني كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم -. وقد روي عن النبي عليه السلام قوله: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". أما القياس الذي قال به المعتزلة ومن حذا حذوهم، فلا مكان له عند السلف في مجال إثبات الأسماء، والبيهقي لم يعتد به، بل نبذه، وسلك طريق السلف في اعتبار عدم صلاحيته في هذا المجال إذ إن الأسامي التي قد تطلق على الله تعالى عن طريق تصور العقل صحة إطلاقها، قد لا تكون

_ 1 هو محمّد بن عبد الله بن عيسى المري، أبو عبد الله، المعروف بابن أبي زمنين، فقيه مالكي، من الوعاظ الأدباء. من أهل البيرة سكن قرطبة، ثم عاد إلى البيرة، فتوفي بها سنة 399هـ انظر الأعلام للزركلي 7/101. 2 نقلاً عن مجموع الفتاوى لابن تيمية5/57.

لائقة المعنى بالنسبة لله تعالى، وإن تصور العقل ذلك، ويكفينا الاقتصار على الوحي فالله تعالى لم يترك المجال لعقولنا في هذه التسميات، بل أخبر بأسمائه في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. والعقل الذي يعتبر ركيزة القياس قد يستطيع أن يصل إلى إثبات بعض العقائد كما تقدم في إثبات وجود الله، وكما سيأتي في الصفات العقلية، إلا أنه لا يستطيع الاستقلال بذلك فيرشده الوحي ويقدم له تصوراً كاملاً لذلك الاعتقاد. ومن هنا كان الوحي هو الأساس في العقائد جميعها. عدد أسماء الله تعالى أمّا عن عدد أسماء الله تعالى، فقد ورد حديث رواه البيهقي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة" 1. فهل هذا الحديث على ظاهره من حصر أسماء الله تعالى في هذا العدد، أم لا؟ يكاد الإجماع ينعقد على أن العدد الوارد في هذا الحديث لا مفهوم له يقتضي الحصر لأسماء الله تعالى في تسعة وتسعين فقط، ولم أجد مخالفاً في ذلك سوى ابن حزم الذي أخذ بظاهر الحديث، وابن حزم - كما هو معروف - ظاهري، ومذهب أهل الظاهر في الأخذ بظواهر النصوص لا يخفى. فقد قال - رحمه الله - في كتاب المحلى ما نصه:

_ 1 الأسماء والصفات ص: 4. والحديث متفق عليه. انظر كتاب التوحيد من صحيح البخاري مع شرحه حديث رقم:7392، 13/377. وصحيح مسلم، كتاب الذكر حديث رقم: 2677، 4/2062، 2063.

"إن له عز وجل تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد، وهي أسماؤه الحسنى، من زاد شيئاً من عنده فقد ألحد في أسمائه، وهي الأسماء المذكورة في القرآن والسنة ... وقد صح أنها تسعة وتسعون اسماً فقط، ولا يحل لأحد أن يجيز أن يكون له اسم زائد، لأنه عليه السلام قال: "مائة غير واحد" فلو جاز أن يكون له تعالى اسم زائد لكانت مائة اسم، ولو كان هذا لكان قوله عليه السلام: "مائة غير واحد" كذباً، ومن أجاز هذا فهو كافر"1. وقد رد عليه الحافظ ابن حجر في فتح الباري بأن الحصر المذكور باعتبار الوعد الحاصل لمن أحصاها، فمن ادعى أن الوعد وقع لمن أحصى زائداً على ذلك فقد أخطأ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هناك اسم زائد2. ويذكر ابن حزم أيضاً عن الباقلاني، وعن محمّد بن الحسن بن فورك شيخ البيهقي أنهما يقولان بأنه ليس لله تعالى إلا اسم واحد فقط، وشنع عليهما في ذلك3. وهذا الأخير ظاهر البطلان لما فيه من المخالفة الصريحة للكتاب والسنة. وإذا كان هذا هو موقف العلماء من عدد أسماء الله تعالى فماذا يقول البيهقي في هذه المسألة، أيقف عند العدد الوارد كما فعل ابن حزم، أم يذهب مذهب شيخه ابن فورك، أم أنه يرى رأي الجمهور؟

_ 1 المحلى لابن حزم1/36. 2 فتح الباري11/221، وقد رد عليه بإسهاب شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى. انظر22/482-486. 3 انظر: الفصل لابن حزم5/32.

يقول - رحمه الله -: "باب البيان أن لله جل ثناؤه أسماء أخر، وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تسعة وتسعون اسماً" نفي غيرها، وإنما وقع التخصيص بذكرها لأنها أشهر الأسماء، وأبينها معاني، وفيها ورد الخبر أن "من أحصاها دخل الجنة" 1. وقال أيضاً: "وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسماً" لا ينفي غيرها، وإنما أراد - والله أعلم - إن من أحصى من أسماء الله عز وجل تسعة وتسعين اسماً دخل الجنة، سواء أحصاها مما نقلنا في الحديث الأوّل، أو مما ذكرنا في الحديث الثاني 2 أو من سائر ما دل عليه الكتاب والسنة أو الإجماع3. فهذان النصان اللذان أوردتهما من كلام البيهقي يدلان بوضوح على أن رأيه في العدد الذي ورد به الحديث أنه لا يقتضي الحصر، وأن العدد المجمل في صدر الحديث المفصل في جزئه الآخر - إن صح ذلك التفصيل عن النبي صلى الله عليه وسلم - إنما المقصود منه أن تلك الأسماء الواردة هي أشهر أسماء الله تعالى، وأبينها معاني، وهي التي من أحصاها دخل الجنة، كما وضح من قوله في كتاب الأسماء والصفات. أما رأيه الثاني الذي أورده في كتاب الاعتقاد والذي يتضمن توجيهاً آخر وهو أن المقصود أن من أحصى تسعة وتسعين اسماً من أسماء الله

_ 1 الأسماء والصفات ص: 6. 2 يقصد بهذين الحديثين ما رراه في كتاب الاعتقاد ص: 13-14 من ذكر أسماء الله تعالى مفصلة، بعد ذكر عددها. 3 الاعتقاد ص: 14-15.

تعالى، دون التقيد بالأسماء الواردة بعينها في حديث أبي هريرة، بل كان إحصاؤها مما وردها في الأحاديث الأخرى أو الآيات الكريمات، أن من أحصاها دخل الجنة، فإن هذا الأخير لا يناقض الأوّل لأنه يقصد به عند عدم صحة ورود تلك الأسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إنه - رحمه الله - يشك في أن الأسماء الواردة في الحديث هي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهناك احتمال أن تكون مدرجة من بعض الرواة، ويذكر هذا الرأي أيضاً عن الشيخين الجليلين البخاري ومسلم. وفي هذا الموضوع يقول: "ويحتمل أن يكون التفسير وقع من بعض الرواة ... ولهذا الاحتمال ترك البخاري ومسلم إخراج حديث الوليد في الصحيح، فكأنه قصد أن من أحصى من أسماء الله تعالى تسعة وتسعين اسماً دخل الجنة، سواء أحصاها مما نقلنا في حديث الوليد بن مسلم، أو مما نقلنا في حديث عبد العزيز بن الحصين1 أو من سائر ما دل عليه الكتاب والسنة - والله أعلم. وهذه الأسامي كلّها في كتاب الله، وفي سائر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً أو دلالة"2. فالبيهقي إذاً يرى أن العدد الوارد لا يقتضي الحصر، وأوّله تأويلاً مقبولاً، بل إن تأويله إلى معنى لا يقتضي الحصر هو ما تدل عليه النصوص الواردة في أن أسماء الله تعالى كثيرة، وليست تسعة وتسعين فحسب،

_ 1 وهما الحديثان اللذان تقدمت الإشارة إليهما، واللذان تضمنا ذكر الأسماء تفصيلاً. 2 الأسماء والصفات ص: 8.

ولهذا فإن البيهقي استدل لصحة تأويله ذاك بما رواه بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب مسلماً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله عنه همه، وأبدله مكان همه فرحاً، قالوا: يا رسول الله ألا نتعلم هذه الكلمات؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن" 1. وقد عقب على هذا الحديث بقوله: "في هذا الحديث دلالة على صحة ما وقعت عليه ترجمة هذا الباب"2 يعني ما تقدم من قوله في الترجمة لهذا الباب: "باب البيان أن لله جلّ ثناؤه أسماء أخر ... "3. والذي يبدو لي أن ذكر الأسماء ليس ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الوليد بن مسلم، وهو راوي أحد الحديثين اللذين تضمنا ذكر الأسماء يذكر عن بعض العلماء أن سرد الأسماء في الحديث مدرج فيه كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله – "والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم، وعبد الملك بن محمّد الصنعاني عن زهير بن حرب أنه بلغه عن غير

_ 1 الأسماء والصفات ص:6. ورواه أحمد في المسند1/291. 2 الأسماء والصفات ص: 6. 3 انظر: ص (155) من هذا البحث.

واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك، أي: أنهم جمعوها من القرآن، كما روى عن جعفر بن محمّد، وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي"1. أمّا الحق في عدد أسماء الله تعالى فهو ما تبناه البيهقي إذ هو الرأي السديد الذي لا يسعنا الذهاب إلى غيره، لأنه يتفق مع نصوص الكتاب والسنة، وعليه تجتمع الأدلة، وقد قال به جمهور الأمة سلفاً وخلفاً. وممن قال به أبو سليمان الخطابي، حيث بين رأيه في تأويل الحديث بقوله: "قوله: "إن لله تسعة وتسعين اسماً" فيه إثبات هذه الأسماء المحصورة بهذا العدد، وليس فيه نفي ما عداها من الزيادة عليها، وإنما وقع التخصيص بالذكر لهذه الأسماء، لأنها أشهر الأسماء وأبينها معاني، وأظهرها، وجملة قوله: "إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة" قضية واحدة لا قضيتان ويكون تمام العمل بها في خبر أن قوله: "من أحصاها دخل الجنة" لا في قوله: "تسعة وتسعين اسماً" وإنما هو بمنزلة إن لزيد ألف درهم أعدها للتصدق، وكقولك إن لعمرو مائة ثوب من زاره خلعها عليه، وهذا لا يدل على أنه ليس عنده من الدراهم أكثر من ألف درهم، ولا من الثياب أكثر من مائة ثوب، وإنما دلالته أن الذي أعده زيد من الدراهم للصدقة ألف درهم، وإن الذي رصده عمرو من الثياب للخلع مائة ثوب"2. واستدل على صحة هذا التأويل بنفس الحديث الذي استدل به البيهقي - أعني حديث عبد الله بن مسعود - السالف الذكر.

_ 1 تفسير القرآن العظيم لابن كثير2/269. 2 تفسير الأسماء والصفات للخطابي ل 6.

والخطابي كثيراً ما ينقل عنه البيهقي ويعتمد آراءه، كما سيتضح لنا ذلك من هذا البحث فيما بعد إن شاء الله. وممن ذهب إلى القول بعدم الحصر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وذكر توجيهاته لحديث أبي هريرة التي أجاد فيها وأوضح مستند القائلين بأن لله أسماء أخرى غاية الإيضاح 1. وقد ذهب إلى ذلك أيضاً تلميذه ابن القيم رحمه الله2، والإمام البغوي3. وقد تبنى هذا الرأي قبل البيهقي الشيخ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي، وهو أحد مشايخه، إلا أن له نظراً في تأويل الحديث يختلف عن التأويلات السابقة حيث قال: "وليست الفائدة في حصر أسمائه الحسنى بتسعة وتسعين المنع من الزيادة عليها، لورود الشرع بأسماء له سواها، وإنما فائدته أن معاني جميع أسمائه محصورة في معاني هذه التسعة والتسعين"4. ومهما اختلفت وجهات نظر القائلين بعدم الحصر في بيان المقصود من العدد الوارد في الحديث، فإنها جميعاً تتفق على أن العدد الوارد له معنى لا يقتضي الحصر، وكلّها آراء محتملة. والبيهقي - رحمه الله - يذهب في إثبات أسماء أخرى لله تعالى إلى مدى أبعد، فإنه ممن يقول بأن الحروف المقطعات في أوائل بعض السور هي من أسماء الله، متابعاً بذلك ابن عباس رضي الله عنه، وغيره من المفسرين5.

_ 1 انظر: مجموع الفتاوى22/482-486. 2 انظر: بدائع الفوائد1/166. 3 انظر: شرح السنة5/35. 4 أصول الدين للبغدادي ص:120. 5 انظر: الأسماء والصفات ص: 94، و95.

وقد ذكر هذا الرأي عن ابن عباس، والشعبي، والسدي وغيرهم من المفسرين ابن كثير في تفسيره1. وقصارى القول أن رأي البيهقي هذا، والذي شارك به جماهير العلماء، رأي صائب، متفق مع الحق الذي نطقت به النصوص الشرعية، التي هي مناط الاستدلال لأهل الحق دائماً وأبداً. فأسماء الله أكثر من أن تحصر. وما ورد عن بعض العلماء من أنها ألف أو خمسة آلاف - كما ذكر ذلك الرازي في تفسيره عن بعض العلماء - إنما هي دعوى لا دليل عليه، لأن من أسمائه تعالى ما استأثر بعلمه فكيف لنا أن نصل إلى حصره وعده. فأسماء الله تعالى كثيرة لا يمكن حصرها. حقيقة الاسم المسمى وهذه قضية من القضايا الرئيسية التي كثر النزاع فيها بين العلماء وقبل البدء في بيان رأي البيهفي فيها، أرى من المناسب أن أذكر أولاً إجمالاً لآراء العلماء حتى يتبين لنا موقع رأي البيهقي منها. فأقول وبالله التوفيق: إن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قد ذكر وجود هذا الخلاف بعد عصر الأئمة، أحمد بن حنبل وغيره، كما ذكر أن الخلاف قد وقع على خمسة مذاهب هي: 1 - أن الاسم عين المسمى، وهو رأي أكثر المنتسبين إلى السنة كأبي القاسم الطبري، واللالكائي، وأبي محمد البغوي صاحب شرح السنة، وغيرهم. وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري مما أختاره أبو بكر بن فورك وغيره.

_ 1 انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير1/36.

2 - أن الاسم غير المسمى، وهو رأي الجهمية، ورأى المعتزلة، وتابعهما في ذلك جماعة من الأشاعرة كالغزالي، والرازي وغيرهما، يقول الرازي: "واختيار الغزالي ... أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متباينة، وهو الحقّ عندي، لأن أسماء الله كثيرة، فالاسم غير المسمى"1. وقد بنى الجهمية رأيهم هذا على أن أسماء الله مخلوقة وما دامت كذلك فهي غيره، وذكر ابن تيمية - رحمه الله - أن هؤلاء هم الذين ذمهم السلف، وغلظوا القول فيهم، لأن أسماء الله من كلامه وكلامه غير مخلوق بل هو المتكلم به، وهو المسمى لنفسه بما فيه من الأسماء 2. وهذا الرأي هو الذي ناصره ابن حزم بشدة، فأرغى وأزبد في تأييده، والتشنيع على أصحاب الرأي الأوّل3. 3 - التوقف، وأصحاب هذا الرأي جماعة من السلف، يذكر ابن تيمية عنهم أنهم توقفوا في ذلك نفياً وإثباتاً، أي أنهم لا يقولون إن الاسم هو المسمى ولا غيره، إذ كان كل من الإطلاقين بدعة - في نظرهم - ويذكر أن الخلال ذكر ذلك عن إبراهيم الحربي4 رغيره كما ذكره أبو جعفر الطبري في كتابه صريح السنة. 4 - أن الاسم للمسمى، ويذكر ابن تيمية أيضاً أنه اختيار أكثر المنتسبين إلى السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيره.

_ 1 لوامع الينات للرازي ص:3-4. 2 مجموع الفتاوى6/186. 3 انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل5/27-36. 4 هو: الإمام الحبر، إبراهيم بن إسحاق بن بشير أبو إسحاق الحربي الحافظ، تفقه على الإمام أحمد، وبرع في العلم. ولد سنة: 198?، وتوفي سنة: 285?. انظر: تاريخ بغداد6/27، وشذرات الذهب2/190.

5 - التفصيل، وتذكر ابن تيمية أنه المشهور عن أبي الحسن الأشعري، وذكر طريقتهم في ذلك1. ولسنا بحاجة إلى الإطالة في بيان هذه الأقوال وأدلتها، إذ المهم هو رأى البيهقي في هذه القضية، ومدى موافقته للحقّ فيها فأقول: إن البيهقي - رحمه الله - قد ذكر رأيين فقط من الآراء الخمسة السالفة، وكلاهما موجود في المذهب الأشعري وهذان الرأيان هما: 1 - إن الاسم عين المسمى، وهو الأوّل من الآراء التي ذكرها ابن تيمية. 2 - التفصيل، وهو الخامس من الأقوال السابقة. ولبيان ذلك أورد ما ذكره - رحمه الله - نصاً، ثم أوضح أي الرأيين - عنده - أرجح، فقد قال - رحمه الله - حاكياً عن شيخه أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم الإسفرائيني2: " ... واعلم أن أسامي الله تعالى على ثلاثة أقسام، قسم منها للذات وقسم لصفات الذات، وقسم لصفات الفعل.

_ 1 انظر تفصيل هذه الأقوال الخمسة والقائلين بها عند ابن تيمية في مجموع الفتاوى 6/185-189. 2 هو: إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم بن مهران، الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني، أحد أئمة الدين كلاماً، وأصولاً، وفروعاً، روى عنه جماعة منهم: البيهقي. توفي سنة:418?. انظر: طبقات الشافعية4/256.

فالقسم الأوّل: الاسم والمسمى واحد، وهو مثل قديم، وشيء، وإله، ومالك. الثاني: الاسم صفة قائمة بالمسمى، لا يقال إنها هي المسمي ولا يقال إنها غير المسمى، وهو مثل: العالم، والقادر، لأن الاسم هو العلم والقدرة. والقسم الثالث: هو من صفات الفعل، فالاسم فيه غير المسمى وهو مثل: الخالق والرازق، لأن الخلق والرزق غيره. وذهب بعض أصحابنا من أهل الحق في جميع أسماء الله عز وجل إلى أن الاسم والمسمى واحد. قال: والاسم في قولنا: عالم، وخالق لذات البارئ التي لها صفات الذات، مثل: العلم والقدرة وصفات الفعل مثل: الخلق والرزق، قال: ولا نقول لهذه الصفات، إنها أسماء، بل الاسم ذات الله الذي له هذه الصفات"1. فهذان رأيان حكاهما أبو إسحاق الإسفرائيني، ونقلهما عنه البيهقي فبأيهما يختار البيهقي؟ لقد عزا - رحمه الله - الرأي الأخير إلى بعض الأشاعرة، ومنهم شيخه ابن فورك، وساق استدلالهم عليه ثم صرح باختياره حيث قال: "وإلى هذا ذهب الحارث بن أسد المحاسبي، فيما حكاه عنه الأستاذ أبو بكر بن الحسن بن فورك، قال: ويصح ذلك عندي بما يشهد له اللسان بذلك، ألا ترى إلى قوله عز وجل: {بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} 2، فأخبر أن اسمه يحيى، قال: يا يحيى، فخاطب اسمه، فعلم أن المخاطب يحيى وهو اسمه، واسمه هو، وكذلك قال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} 3

_ 1 الجامع لشعب الإيمان للبيهقي1/ ل15، الاعتقاد ص: 22. 2 سورة مريم آية: 7. 3 سورة يوسف آية: 40.

وأراد المسميات، ولأنه لو كان غيره، أولاً هو المسمى، لكان القائل إذا قال عبدت الله، والله اسمه، أن يكون عبد اسمه، إما غيره وإما لا يقال انه هو، وذلك محال، وقوله: "إن لله تسعة وتسعين اسماً" معناه تسميات العباد لله، لأنه في نفسه واحد. قال الشاعر: "إلى الحول ثم اسم السلام عليكما"1. قال أبو عبيد -: أراد: ثم السلام عليكما، لأن اسم السلام هو السلام.. قال البيهقي: "والمختار من هذه الأقاويل ما اختاره الشيخ أبو بكر بن فورك - رحمه الله"2. وهكذا يصرح البيهقي باختياره للرأي القائل في جميع أسماء الله تعالى بأن الاسم عين المسمى. وقد تقدم طرف من أدلة أصحاب هذا الرأي المختار عند البيهقي، وفي كتاب الاعتقاد ذكر طرفاً آخر منها كقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} 3 كما قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} 4، كما قال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} 5 هذا من القرآن الكريم.

_ 1 نسب ابن حزم هذا البيت إلى لبيد وذكره كاملاً وهو: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر 2 الجامع لشعب الإيمان1/ ل15. 3 سورة الرحمن آية: 78. 4 سورة الفرقان آية: 1. 5 سورة الملك آية: 1.

كما ذكر - رحمه الله - أدلة هذا الرأي من السنة المطهرة فروى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم فراشه فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات فإنه لا يدري ما خلفه عليه، وليقل باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" 1. وروى بسنده أيضاً حديث عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام جاءه وهو يوعك فقال: "أرقيك من كل داء يؤذيك، ومن كل حسد حاسد ومن كل عين، واسم الله يشفيك" 2. إلى غير ذلك مما أورده - رحمه الله - من أدلة لهذا الرأي. وكما عزا هذا الرأي الذي اختاره إلى الحارث بن أسد المحاسبي وأبي بكر بن فورك، فقد عزاه أيضاً إلى أبي عبيد القاسم بن سلام والإمام محمد ابن إدريس الشافعي فقد روى عن الشافعي - رحمه الله - قوله: "من حلف بالله أو باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة.."3. وقال بعد ذلك معلقاً على هذا القول: فجعل اليمين باسم من أسماء الله كاليمين بالله ثم قال: ومن حلف بشيء غير الله فلا كفارة عليه، فبين

_ 1 الاعتقاد ص: 23. ورواه البخاري في كتاب الدعوات حديث رقم: 6320، 11/125. 2 الاعتقاد ص: 23. ورواه أحمد في المسند5/323. وأوّله عنده "باسم الله أرقيك". 3 مناقب الشافعي للبيهقي1/403.

بذلك أنه لا يقال في أسماء الله وصفاته أنها أغيار، كأنما يقال أغيار لما يكون مخلوقاً"1. وهذا رد على القائلين بأن الاسم غير المسمى كالمعتزلة وهو رأي لا ريب شنيع، لأنه مبني على أصل فاسد وهو القول بأن كلام الله تعالى الذي ورد بذكر أسمائه سبحانه مخلوق فتكون أسماؤه مخلوقة، وهو رأي واضح البطلان. فرأي البيهقي إذاً قد اتضح بأنه القول بأن الاسم عين المسمى وهو رأي جماعة من السلف، منهم الشافعي، وأبو عبيد القاسم بن سلام كما ذكر ذلك البيهقي نفسه، واللالكائي، والبغوي، كما ذكر ذلك ابن تيمية - رحمه الله - يقول البغوي في شرح السنة: "والاسم هو المسمى وذاته"2. وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري، اختاره أبو بكر ابن فورك منهم كما تقدم. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هؤلاء الذين قالوا. إن الاسم هو المسمى لم يوفقوا إلى الصواب، وذكر من أبرز هؤلاء القوم أبا بكر بن فورك وذكر كلامه نصاً في الآراء الواردة في هذا الشأن وذكر بعد ذلك ترجيحه لهذا الرأي بقوله: قال: والذي هو الحق عندنا قول من قال: "اسم الشيء هو عينه وذاته، واسم الله هو الله، وتقدير قول القائل: بسم الله أفعل، أي بالله أفعل وإن اسمه هو هو"3. وهذا هو القول الذي أشار البيهقي إلى اختياره كما تقدم.

_ 1 مناقب الشافعي للبيهقي1/404. 2 شرح السنة للبغوي5/29. 3 مجموع الفتاوى لابن تيمية6/190.

وذكر ابن تيمية - رحمه الله - أن السبب الذي أدى بهم إلى مجانبة الصواب أنهم لم يقتصروا على أن أسماء الشيء إذا ذكرت في الكلام فالمراد بها المسميات، كما ذكروه في قوله: "يا يحيى" ونحو ذلك ولو اقتصروا على ذلك لكان صحيحاً، لأنه معنى واضح لا ينازع فيه من فهمه، ولعدم اقتصارهم على ذلك أنكر قولهم جمهور أهل السنة لاشتماله على أمور باطلة مثل دعواهم إن لفظ اسم الذي هو "اس م" معناه ذات الشيء ونفسه، وإن الأسماء - التي هي الأسماء - مثل زيد وعمرو هي التسميات، ليست هي أسماء المسميات، وكلاهما باطل مخالف لما يعلمه جميع الناس من جميع الأمم ولما يقولونه. فإنهم يقولون إن زيداً وعمراً ونحو ذلك هي أسماء الناس والتسمية جعل الشيء اسمًا لغيره، وهي مصدر سميته تسمية، إذا جعلت له اسمًا، والاسم هو القول الدال على المسمى، ليس الاسم الذي هو لفظ اسم هو المسمى، بل قد يراد به المسمى، لأنه حكم عليه، ودليل عليه1. وجميع ما استدلوا به لا دليل لهم فيه، لأنه لا يوجد في واحد منها ما يدل على أن اسم الشيء هو ذات الشيء بعينه لأن هذا لا يتفق مع الواقع. وقد رد ابن تيمية كل دليل من الأدلة السابقة منفرداً عن الآخر بعد أن ساق الرد مجملاً، وهنا اكتفى بالرد المجمل السابق أما الرأي الأصح والأسلم منها هو ذلك التفصيل الذي أورده شارح الطحاوية فقال: "الاسم يراد به المسمى تارة، ويراه به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت:

_ 1 المصدر نفسه6/191-192.

قال الله كذا أو سمع الله لمن حمده ونحو ذلك فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحيم من أسماء الله تعالى ونحو ذلك، فالاسم هاهنا هو المراد، لا المسمى، ولا يقال غيره، لما في لفظ الغير من الإجمال فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد إن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى"1.فهذا تفصيل منطقي سليم، بعيد عن التعقيد، وأصحاب هذا الرأي هم جمهور أهل السنة، وهم الذين يقولون: إن الاسم للمسمى وهم بهذا القول موافقون لصريح الكتاب والسنة، بل وللمعقول أيضاً لأن الله تعال يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وقال: {أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسمًا" 2 وقال صلى الله عليهوسلم: "إن لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب" 3. ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هؤلاء إنما يلجأون إلى التفصيل الآنف الذكر عندما يسألون أهو المسمى أم غيره4.

_ 1 شرح الطحاوية ص: 69. 2 متفق عليه وقد تقدم. 3 رواه البخاري في كتاب المناقب، حديث رقم: 3532، 6/454، ورواه مالك في الموطّأ، كتاب أسماء النبي صلى الله عليه وسلم 2/1004. 4 انظر: مجموع الفتاوى6/207.

وفي هذا التفصيل عند الحاجة إليه غنية عن أي قول سواه لأنه هو الواقع المستند إلى الدليل. أما التفصيل الذي ذكره البيهقي فيما مضى، وأشار إلى أنه رأى بعض متقدمي أصحابه، فإنه تفصيل يعوزه الدليل فلا اعتبار له كما أن قول البيهقي ومن وافقه أن الاسم هو المسمى غير صحيح أيضاً لما تقدم. مسألة ذهب البيهقي - رحمه الله - إلى إطلاق اسم القديم على الله تبارك وتعالى، موافقاً بذلك جمهور المتكلمين، ويحتج لصحة هذا الإطلاق بما ورد في حديث عبد العزيز بن الحصين الذي رواه في كتاب الاعتقاد1 حيث ورد ضمن الأسماء المذكورة مفصلة بعد الإجمال اسم "القديم". كما احتج بما رواه بسنده عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث وفيه: قالوا: "جئناك نسألك عن هذا الأمر، قال: "كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره" 2. ثم ذكر تأييداً لهذا الرأي قول شيخه الحليمي3 في معنى القديم: إنه الموجود الذي ليس

_ 1 انظر ص:14، من كتاب الاعتقاد، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث، وعلى حديث الوليد بن مسلم في ص: (165) من هذا البحث. 2 الأسماء والصفات ص: 9. رواه البخاري في كتاب التوحيد بلفظ: "ولنسألك عن أوّل هذا الأمر ما كان…" الحديث. انظر: حديث رقم: 7418، 13/403. 3 هو: الحسين بن الحسن بن محمّد بن حليم البخاري الجرجاني أبو عبد الله فقيه شافعي، قاضٍ، كان رئيس أهل الحديث في ما وراء النهر، مولده بجرجان سنة: 338? ووفاته ببخارى سنة: 403?. انظر: الأعلام2/253.

لوجوده ابتداء والموجود الذي لم يزل، وأصل القديم في اللسان السابق، لأن القديم هو القادم"1. وعقب البيهقي على قول الحليمي هذا بقوله: "فقيل لله عز وجل قديم، بمعنى أنه سابق للموجودات كلها، ولم يجز إذ كان كذلك أن يكون لوجوده ابتداء، لأنه لو كان لوجوده ابتداء لاقتضى ذلك أن يكون غير له أوجده، وأوجب أن يكون ذلك الغير موجوداً قبله، فكان لا يصح حينئذ أن يكون هو سابقاً للموجودات، فقد أوجبنا ألاّ يكون لوجوده ابتداء، فكان القديم في وصفه جل ثناؤه عبارة عن هذا المعنى"2. وهكذا يتضح لنا تجويزه إطلاق اسم القديم على الله سبحانه ومن ثم وصفه بالقدم، لأن كل اسم عنده يشتمل على صفة كما سيأتي. ولكن، ما مدى صحة ما ذهب إليه البيهقي في ذلك؟ الواقع إن ما ذهب إليه البيهقي هنا من تجويز إطلاق اسم القديم على الله سبحانه وتعالى مجانب للصواب ومناقض لما سبق تقريره من أنه يرى في إثبات أسماء الله تعالى التزام جانب التوقيف، ولبيان ذلك أقول: إن ما التزمه البيهقي من الاقتصار على التوقيف في أسماء الله تعالى غير متوفر له هنا، وإن حاول المحافظة على هذا المبدأ باستناده إلى ما ورد في حديث عبد العزيز بن الحصين المشار إليه آنفاً، إلاّ أن هذا الحديث لا يصلح أن يكون دليلاً له على ما ذهب إليه لما تقدم أيضاً من أنه هو نفسه

_ 1 الأسماء والصفات ص: 9. 2 الأسماء والصفات ص: 9. وانظر هذا المعنى في: الاقتصار في الاعتقاد للغزالي ص: 92، والمسامرة بشرح المسايرة لابن أبي شريف القدسي ص: 22.

يشك في صحة ورود تفصيل الأسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم، لاحتمال أن يكون ذلك مدرجاً من جهة بعض الرواة، والدليل كما هو معروف في قواعد الأصول إذا تطرق إليه الاحتمال بطل له الاستدلال، وذلك في الفروع، فما بالك بالعقائد؟ وأما حديث عمران ابن حصين فلا دليل فيه لعدم اشتماله على إطلاق هذا الاسم على الله سبحانه. ثم إن القديم في لغة العرب التي نزل بها القران، هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، قال ابن فارس: القدم خلاف الحدوث، ويقال شيء قديم، إذا كان زمانه سالفاً1. فلم يستعملوا هذا إلاّ في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 2. والعرجون القديم الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول "قديم" وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} 3. فالأقدم مبالغة في القديم.. وقال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} 4. أي يتقدمهم ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعدياً، كما يقال: أخذت ما قدم وما حدث، ويقال هذا قدم هذا، وهو يقدمه، ومنه سميت القدم قدماً لأنها تقدم بقية بدن الإنسان5.

_ 1 معجم مقاييس اللغة5/65 مادة: (ق د م) . 2 سورة يس آية: 39. 3 سورة الشعراء آية: 75-76. 4 سورة هود آية: 98. 5 انظر: شرح الطحاوية ص: 52-53.

وبعد أن أورد شارح الطحاوية هذه المناقشة في تقرير معنى القديم، عقب عليها بقوله: ولا ريب أنه إذا كان مستعملاً في نفس التقدم فإن ما تقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به، والتقدم في اللغة مطلق، لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه الأوّل، وهو أحسن من القديم، لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه، وتابع له، بخلاف القديم، والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة"1. وهكذا يتضح لنا أن المعنى الذي ذكره المتكلمون للفظ القديم وارتضاه البيهقى وهو أن القديم هو الذي لا أول لوجوده، يتضح لنا أن هذا اللفظ ليس قاصراً على هذا المعنى، بل شامل له ولغيره من المعاني السابقة، ولذلك فإنه لا يكون من الأسماء الحسنى، لأن الأسماء الحسنى تشتمل على خصوص ما يمدح به سبحانه ولفظ القديم ليس كذلك. ومن أجل هذا لم يرد الإذن الشرعي بإطلاق هذا الاسم على الله سبحانه، وإنما الإذن ورد بإطلاق اسم الأول، وهو أصح من اسم القديم لغة وشرعاً. وقد أنكر ابن حزم بشدة هذا الإطلاق2، أما ما وجدناه عند بعض العلماء المتمسكين بالمنهج السلفي من إطلاق هذا اللفظ على الله كما جاء عند ابن القيم في نونيته:

_ 1 شرح الطحاوية ص: 53. 2 انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل2/152.

وهو القديم فلم يزل بصفاته سبحانه متفرداً بل دائم الإحسان فإنه ليس قصدهم إطلاق هذا اللفظ على سبيل التسمية أو الوصف، بل على سبيل الإخبار، وباب الأخبار أوسع من باب الصفات، كما ذكر ذلك الشيخ محمّد بن مانع ابن القيم في "البدائع" وقال بعد ذلك: وأهل العلم لم يذكروا لفظة القديم في الأسماء الحسنى ولكنهم يخبرون عنه سبحانه بذلك. وجعل قول ابن القيم السابق من هذا النوع1. والحاصل أن إطلاق لفظ القديم على الله سبحانه بقصد التسمية غير سديد، لافتقاره إلى دليل يجوز لنا ذلك الإطلاق. صلة الأسماء بالصفات لقد سبق أن ذكرت المذاهب في أسماء الله تعالى، وعرفنا أن هناك من ينفيها وينفي الصفات معها وهم الجهمية، وأوضحت أنه لا مجال للحديث حينئذ في العلاقة بين معدومين. وهناك من يثبت الأسماء وينفي الصفات، وهم المعتزلة، وهنا أيضاً لا علاقة، إذ أن أحد الأمرين لا وجود له، أما من يثبت الأسماء والصفات جميعاً لله سبحانه وتعالى، مع وجود الاختلاف في طريق الإثبات، والمقصود منه، فإن أصحاب هذا الرأي هم الذين بحثوا العلاقة بين الأسماء والصفات. ولا ريب أن شيخنا البيهقي- رحمه الله- من أبرز أولئك المثبتين وقد بحث هذه العلاقة، وأثبت وجود صلة وثيقة بين أسماء الله سبحانه وتعالى وبين صفاته، حيث قال: " ... فلله عز وجل أسماء وصفات وأسماؤه صفاته، وصفاته أوصافه"2.

_ 1 انظر: تعليق الشيخ محمّد بن مانع على العقيدة الطحاوية ص: 6، وشرح الشيخ الألباني عليها ص: 19. 2 الاعتقاد ص: 21.

إلا أنه - رحمه الله - لا يريد من كلامه هذا أن الأسماء هي الصفات بعينها، وإلا لما كان ثمة حاجة إلى تأليف كتاب كبير يفرق فيه بين مباحث الأسماء ومباحث الصفات، ثم إن قوله: "وفي إثبات أسمائه إثبات صفاته، لأنه إذا ثبت كونه موجوداً فوصف بأنه حي فقد وصف بزيادة صفة على الذات هي الحياة، وإذا وصف بأنه قادر فقد وصف بزيادة صفة هي القدرة وإذا وصف بأنه عالم فقد وصف بزيادة صفة هي العلم، كما إذا وصف بأنه خالق فقد وصف بزيادة صفة هي الخلق، وإذا وصف بأنه رازق فقد وصف بزيادة صفة هي الرزق، وإذا وصف بأنه محيي فقد وصف بزيادة صفة هي الإحياء إذ لولا هذه المعاني لاقتصر في أسمائه على ما ينبىء عن وجود الذات فقط"1. في هذا القول بيان لتلك العلاقة التي يراها بين أسماء الله تعالى وصفاته وهي دلالة تلك الأسماء على اتصافه سبحانه بما تتضمنه من صفات. وفي قوله – راوياً عن شيخه الحليمي: "وإنما تشتق أسماؤه من صفاته التي كلها مدائح، وأفعاله التي أجمعها حكمه"2 دليل على أنه يرى التلازم بين الصفة والاسم فكما أن الصفة تدل على الاسم، فالاسم أيضاً دليل على الصفة، بمعنى أن الصفة إذا ذكرت منفردة فهي تدل بطريق اللزوم على الاسم المشتق منها، والاسم إذا ذكر منفرداً دل بطريق اللزوم أيضاً على الصفة التي اشتقّ منها، وأعني بالصفات هنا الصفات الدالة على الأسماء الحسنى.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 110. 2 المصدر نفسه.

وهذا الرأي في العلاقة بين أسماء الله تعالى وصفاته، الذي ذهب إليه البيهقي هو الرأي السديد الذي يتفق مع العقل والمنطق ولم يخالفه فيه من مثبتي الأسماء سوى ابن حزم الذي يرى أن الأسماء جامدة ليست مشتقة أصلاً فلا علاقة بينها وبين الصفات حيث يقول: ".. وأما قولهم: هل يفهم من قول القائل "الله" كالذي يفهم من قوله عالم فقط، أو يفهم من قوله عالم معنى غير ما يفهم من قوله "الله"؟ فجوابنا أننا لا نفهم من قولنا قدير وعالم إذا أردنا بذلك الله تعالى إلا ما نفهم من قولنا الله فقط، لأن كل ذلك أسماء أعلام لا مشتقة من صفة أصلاً"1. فهو لا يرى ثمة علاقة بين الأسماء والصفات وهذا قول باطل وادعاء لا دليل عليه، إذ أن اللغة العربية التي نزل بها القرآن وخاطب الله بها أهلها لا تساعده على ما أراد، فإنه لا يفهم من عالم وعليم وقادر وقدير إلا ذات اتصفت بصفة2. وهذا الرأي هو صريح مذهب المعتزلة أيضاً لأنهم أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، ومعنى هذا أنهم لا يرون أن الصفة ثبتت بثبوت الاسم، ولذلك مزيد بيان فيما بعد إن شاء الله. وفي قول البيهقي السابق: بأنه لولا هذه المعاني لاقتصر في أسمائه على ما ينبىء عن وجود الذات فقط، في هذا القول رد على من ذهب هذا المذهب الذي تبناه ابن حزم ووافقته عليه المعتزلة، كما أن شيخ

_ 1 الفصل في الملل والأهواء والنحل2/128-129. 2 انظر: حاشية الفصل لابن حزم الصفحات السابقة نفسها.

الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- قد رد عليه، واحتد في ذلك حتى وصفه بأنه شبيه برأي القرامطة الباطنية وقال بعد ذلك: ".. فإنا نعلم باضطرار الفرق بين الحي والقدير، والعليم، والملك والقدوس، والغفور، وإن العبد إذا قال: رب اغفر لي، وتب علي إنك أنت التواب الغفور، كان قد أحسن في مناجاة ربه، وإذا قال اغفر لي وتب علي إنك أنت الجبار المتكبر الشديد العقاب لم يحسن في مناجاته، وإن الله أنكر على المشركين الذين امتنعوا من تسميته بالرحمن فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} 1. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. ومعلوم أن الأسماء إذا كانت أعلاماً وجامدات لا تدل على معنى لم يكن فرق فيها بين اسم واسم، فلا يلحد في اسم دون اسم، ولا ينكر عاقل اسماً دون اسم، بل قد يمتنع عن تسميته مطلقاً، ولم يكن المشركون يمتنعون عن تسمية الله بكثير من أسمائه، وإنما امتنعوا عن بعضها وأيضاً فالله له الأسماء الحسنى دون السوآى، وإنما يتميز الاسم الحسن عن الاسم السيئ بمعناه، فلو كانت كلها بمنزلة الأعلام الجامدات التي لا تدل على معنى لم تنقسم إلى حسنى وسوآى، بل هذا القائل لو سمى معبوده بالميت والعاجز والجاهل، بدل الحي والعالم والقادر لجاز ذلك عنده"3

_ 1 سورة الفرقان آية: 60. 2 سورة الأعراف آية: 180. 3 شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية ص: 76-78.

ويقول ابن القيم- رحمه الله- في تقرير الرأي الذي ذهب إليه البيهقي، والرد على مخالفيه: " ... لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات، لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها، فلا يقال يسمع ويرى ويعلم، ويقدر ويريد، فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها، فإذا انتفى أصل الصفة استحال ثبوت حكمها وأيضا فلو لم تكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام المحضة التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قام به، فكانت كلها سواء، ولم يكن فرق بين مدلولاتها، وهذه مكابرة صريحة وبهت بين، فإن من جعل معنى اسم "القدير" هو معنى اسم "السميع البصير" ومعنى اسم "التواب" هو معنى اسم "المنتقم" ومعنى اسم المعطي هو معنى اسم "المانع" فقد كابر العقل، واللغة والفطرة"1. فرأى البيهقي الذي يثبت معاني أسماء الله تعالى وبذلك يثبت الصفات التي تدل عليها هو الرأي الحق، وقد وافق فيه السلف، أما رأي ابن حزم المقابل لرأي البيهقي فقد تبين بطلانه، وهو في نظري لا يبعد كثيراً عن رأي الجهمية الذي سبق أن أشرت إليه وهو القائل بنفي أسماء الله تعالى، وإطلاقها عليه على سبيل المجاز.

_ 1 مدارج السالكين لابن القيم1/29.

الفصل الثالث: أقسام الصفات

الفصل الثالث: أقسام الصفات لقد سلك المتكلمون فيما أثبتوه من صفات طريقة خاصة بهم، وقبل بيان التقسيم الذي ارتضاه البيهقي؛ أرى من المناسب أن أذكر الطريقة التي سلكها أولئك المتكلمون حتى يتضح لنا مدى اتفاق البيهقي أو اختلافه معهم. فأقول: إن المتكلمين ممن أثبتوا الصفات قد درجوا على تقسيم صفات الله تعالى إلى أربعة أقسام: نفسية، وسلبية، وصفات معان، وصفات معنوية. 1 - النفسية: وعرفوها بأنها الحال الواجبة للذات، مادامت الذات غير معللة بعلة1 وهي الوجود. 2 - السلبية: وعرفوها بأنها التي سلبت أمراً لا يليق بالله سبحانه وتعالى 2، وهي عندهم خمس صفات: القدم، والبقاء، ومخالفته تعالى للحوادث، وقيامه بنفسه، والوحدانية. 3 - صفات المعاني: وقد عرفت بأنها كل صفة قائمة بموصوف زائدة على الذات، موجبة له حكماً3، وهي سبع: القدرة، والإرادة، والعلم والحياة، والسمع، والبصر، والكلام. وإنما سميت بذلك لأن كل صفة منها تدل على معنى زائد على ذاته تعالى.

_ 1 شرح أم البراهين للسنوسي ص: 25. 2 حاشية الدسوقي على أم البراهين ص: 93. 3 حاشية الصاوي على شرح الخريدة البهية ص: 76.

وهي ما يسمونه أيضاً بالصفات الوجودية. 4 - الصفات المعنوية: وهي ملازمة للسبع الأولى، وقد عرفت بأنها الحال الواجبة للذات، ما دامت المعاني قائمة بالذات 1. وعللوا تسمية هذه الصفات بهذا الاسم بأن الاتصاف بها فرع عن الاتصاف بالسبع الأولى، فإن اتصاف محل من المحال بكونه عالماً، أو قادراً مثلاً، لا يصح إلا إذا قام به العلم، أو القدرة، وقس على هذا. فصارت السبع الأولى وهي صفات المعاني عللاً لهذه أي ملزومة لها، فلهذا نسبت هذه إلى تلك، فقيل فيها: صفات معنوية2 وهذه الصفات المعنوية هي كونه تعالى قادراً، ومريداً، وعالماً، وحياً، وسميعاً، وبصيراً، ومتكلماً. ولا يخفى أن هذا التقسيم مبني على اعتقادهم إثبات بعض الصفات إثباتاً حقيقياً، والتفويض في بعضها الآخر، أو إرجاعه إلى معان فيها تنزيه لله سبحانه وتعالى على مشابهة المخلوقات - على حد زعمهم. وإذا كان هذا هو موقف المتكلمين من تقسيم الصفات، فما موقف البيهقي؟ وهل يوافقهم على هذا التقسيم أم أنه استقلّ برأيه في هذا الشأن؟ الواقع أن البيهقي - رحمه الله - قد ذهب إلى تقسيم الصفات إلى قسمين لا ثالث لهما، وهذان القسمان هما: (أ) صفات ذات. (ب) صفات فعل.

_ 1 المصدر السابق ص: 59. 2 شرح أم البراهين للسنوسي ص: 33.

ثم قسم كلاً من هذين النوعين إلى عقلي وخبري، استناداً إلى نوع الأدلة التي ثبتت بها، إذ إن منها مادل العقل على نبوّته لله سبحانه وتعالى مع ورود النص به، ومنها ما كان طريق إثياته الأدلة النقلية فحسب. يقول - رحمه الله - في إيضاح هذا التقسيم. "صمفات الله قسمان: أحدهما: صفات ذاته، وهو ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال. والآخر: صفات فعله، وهي ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل. ثم منه ما اقترنت به دلالة العقل كالحياة، والقدرة، والعلم والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، ونحو ذلك من صفات ذاته، وكالخلق والرزق، والإحياء، والإماتة، والعفو، والعقوبة، ونحو ذلك من صفات فعله. ومنه ما كان طريق إثباته ورود خبر الصادق به فقط، كالوجه واليدين، والعين، في صفات ذاته، وكالاستواء على العرش، والإتيان والمجيء، والنزول ونحوذلك من صفات فعله"1. ولا ريب أن هذا التقسيم الذي قال به البيهقي أشمل من تقسيم المتكلمين السابق، لأنه شمامل لجميع صفات الله تبارك وتعالى، أما تقسيم المتكلمين فقاصر على ما أثبتوه منها فحسب. وبهذا تتضح لنا مخالفة البيهقي للمتكلمين فيما ذهبوا إليه من تقسيم.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 110.

ونظراً لما عهدناه عن البيهقي من أنه لا يقول في الصفات قولاً إلا ويسنده بدليل شرعي، فإننا نجده هنا يستدل لهذا التقسيم بآيات كريمات رآها صالحة لأن تكون مناطاً لاستدلاله وهي قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا َّهُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. وقد بيّن وجهة استدلاله بهذه الآيات على تقسيمه للصفات بقوله: "فأشار في هذه الآيات إلى فصل أسماء الذات من أسماء الفعل"2. ويعني بذلك أن الله تبارك وتعالى ذكر في هذه الآيات أسماء الذات التي تشتمل على الصفات التي اشتقت منها هذه الأسماء، وذكر بعد ذلك أسماء الفعل الدالة على الصفات التي اشتقت منها أيضاً وفصل بين النوعين بضمير الفصل "هو" وهذا دليل على صحة هذا التقسيم عند البيهقي. وينبغي أن نعلم أن مخالفة البيهقي للمتكلمين في هذا التقسيم يعني موافقة السلف على ماذهبوا إليه، لأن ماذهب إليه البيهقي هو التقسيم الصحيح للصفات، لأنه يشمل جميع أنواع الصفات الثابتة للباري سبحانه وتعالى، فلا تخرج عن هذين القسمين اللذين ذهب إليهما البيهقي وهذا بعينه ما سلكه السلف في تقسيمهم لها، لأن جميع نصوص الصفات من آيات

_ 1 سورة الحشر آية: 22-24. 2 الاعتقاد ص: 21.

قرآنية، وأحاديث نبوية تدل على صحة هذا التقسيم، إذ ورد بعضها بإثبات صفات لازمة للذات، وبعضها الآخر ورد بإثبات صفات تتعلق بها مشيئته واختياره سبحانه. ويرى الدكتور علي سامي النشار إن أوّل من فرّق هذه التفرقة في الصفات هو الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، استناداً إلى ما ذكره في كتاب الفقه الأكبر حيث قال: " ... لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته الذاتية والفعلية"1. ولبيان سلامة هذا المنهج في التفريق بين الصفات يقول العلامة السلفي المعاصر، أستاذنا الدكتور محمّد خليل هراس - رحمه الله – "دلت هذه النصوص القرآنية على أن صفات الباري قسمان: 1 - صفات ذاتية لا تنفك عن الذات، بل هي لازمة لها أزلاً وأبداً ولا تتعلق بها مشيئته تعالى وقدرته، وذلك كصفات الحياة والعلم، والقدرة، والتوة، والعزة، والملك، والعظمة، والكبرياء، والمجد، والجلال…إلخ. 2 - صفات فعلية، تتعلق بها مشيئته وقدرته كل وقت وآن، وتحدث بمشيئته وقدرته ... كالاستواء على العرش، والمجيء، والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا، والضحك، والرضا، والغضب…."2.

_ 1 انظر: نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام للنشار1/232، وراجع كلام أبي حنفية في الفقه الأكبر بشرح ملا علي القاري ص: 15. 2 شرح العقيدة الواسطية ص: 89، وانظر: الكواشف الجلية لعبد العزيز المحمّد السلمان ص: 258.

وهكذا فإن منهج البيهقي في هذا التقسيم سليم لا اعتراض عليه لموافقته للأدلة، وشموله لجميع الصفات. إلا أن ثمة اعتراضاً واحداً لا يتعلق بالتقسيم، بل بالضابط الذي وضعه لصفات الفعل، حيث عرفها بأنها ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل، وهو بذلك يقول بحدوثها والكلام عن هذه القضية له موضعه عند بحثنا لهذه الصفات فيما بعد إن شاء الله. وقد وافق البيهقي أيضاً في هذا التقسيم أبو الهذيل العلاف من المعتزلة، وإن خالفه في تعريفها. حيث عرف صفات الذات بأنها التي لا يجوز أن يوصف الباري بأضدادها، ولا بالقدرة على أضدادها. وعرف صفات الفعل بأنها التي يجوز أن يوصف الباري سبحانه بها وبضدها1. وقصارى القول أن تقسيم البيهقي للصفات تقسيم منطقي وسليم يتفق مع واقعها من خلاله الأدلة التي ثبتت بها. أما رأيه في طريهت إثباتها، فإنه يرى أن إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى إنما يكون توقيفياً، كرأيه في إثبات الأسماء، وفي ذلك يقول: " ... فلا يجوز وصفه إلاّ بما دلّ عليه كتاب الله تعالى، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمع عليه سلف هذه الأمة"2.

_ 1 تاريخ الفرق الإسلامية لعلي الغرابي ص: 158. 2 الأسماء والصفات ص: 11.

وهذه بعينها طريقة السلف الصالح التي نهجوها في إثبات الصفات، والتي بيّنها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بقوله: " ... فالأصل في هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسله، نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة السلف وأئمتهم إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف، ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه"1. وقد سبق أن تعرضت للكلام عن هذه المسألة عند الحديث عن منهج البيهقي في الباب الأوّل من هذا البحث. وإذا كان البيهقي - رحمه الله - قد وافق السلف في تقسيم الصفات، وطريقتهم في إثباتها، فهل وافقهم في إثبات جميع الصفات بقسميها، أم أنه وافق المتكلمين على ماذهبوا إليه من تفويض أو تأويل لبعضها، استناداً إلى بعض الشبه التي علقت بأذهانهم؟ هذا ما سيتضح لنا من خلال الفصول التالية إن شاء الله.

_ 1 الرسالة التدمرية لابن تيمية ص: 4.

الفصل الرابع: الصفات العقلية

الفصل الرابع: الصفات العقلية تمهيد: تقدم لنا معرفة الضابط الذي وضعه البيهقي لهذه الصفات وهو تعريفه لها بياضا ماكان طريق إثباته أدلة العقول مع ورود السمع به1 بمعنى أن الله تعالى وصف نفسه بها، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ودلت عليها العقول. وكما اتضح لنا من التقسيم الذي تبناه البيهقي كما سبق بيانه في الفصل السابق، فإن هذه الصفات منها ما هو ذاتي، ومنها ماهو فعلي. وقبل أن أبدأ تفصيل موقف البيهقي من هذه الصفات أرى من المناسب أن أذكر بين يدي ذلك عرضاً موجزاً لآراء الفرق الإسلامية فيها، حتى يتبين لنا موقع رأي البيهقي منها فأقول: إن من أبرز تلك الطوائف التي وقع بينها النزاع حول هذه الصفات خمس فرق هي: الجهمية، والمعتزلة، والفلاسفة، وهذه تمثل فريق النفاة، والكرامية والأشاعرة، وهاتان الفرقتان تمثلان فريق المثبتين. فأما الجهمية: أتباع الجهم بن صفوان، فهؤلاء ينفون صفات الله تعالى نفياً قاطعاً، فيرون أن كل صفة يجوز إطلاقها على الإنسان فإنه لا يجوز أن يوصف بها الباري سبحانه، لأن في ذلك تشبيهاً لله بخلقه وفي بيان رأي هذه الفرقة في الصفات يقول البغدادي:

_ 1 الاعتقاد ص: 21 وقد تقدم.

" ... وامتنع - أي الجهم - مما وصف الله تعالى بأنه شيء أو حيّ، أو عالم، أو مريد، وقال: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشيء وموجود، وحي، وعالم، ومريد، ونحو ذلك. ووصفه بأنه قادر، وموجد وفاعل، وخالق، ومحي، ومميت، لأن هذه الأوصاف مختصة به وحده"1. ووصف الجهم لله سبحانه بأنه قادر مع أن العبد قادر أيضاً مبني على مذهبه الذي يرى فيه أن العبد مجبور على فعله، وأنه كالريشة المعلقة في مهب الريح، وإضافة الفعل إلى العبد إنما يكون على سبيل المجاز. وأما المعتزلة: فإنها بجعلها الصفات غير زائدة على الذات فقد دخلت في طائفة النفاة، لأن حقيقة مذهبهم نفي صفات الله سبحانه وتعالى، لأنهم وإن أثبتوا أن الله سبحانه وتعالى قادر، حي، موجود، إلاّ أنهم اختلفوا في كيفية استحقاقه سبحانه هذه الصفات. فأما أبو عليّ الجبّائي، وأبو الهذيل العلاف فذهبا إلى أن الله تعالى يستحق هذد الصفات لذاته، فهو سبحانه عالم لذاته، قادر لذاته مريد لذاته. وقال أبو هاشم: "إن هذه الصفات أحوال وراء الذات، فالله تعالى عالم بعالمية، قادر بقادرية، وهذه الأحوال لا موجودة ولا معدومة"2. وأبرز معالم هذا المذهب أن الصفات عندهم غير زائدة على الذات، بحجة "أنه لا صفة للقديم أخصّ من كونه قديماً، أو مما يقتضي كونه قديماً من الصفة النفسية"3.

_ 1 الفرق بين الفرق للبغدادي ص: 211-212. 2 انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبّار ص: 182. 3 المغني للقاضي عبد الجبّار4/251.

وإن في إثبات زيادة الصفات على الذات ما يؤدي إلى تعدد القدماء، فتشارك الله سبحانه في أخص وصف ذاته وهو القدم، وبذلك تتعدد الإلهية على حد زعمهم. كما قال القاضي عبد الجبّار في بيان هذه الشبهة الضالة: "والأصل في ذلك أنه تعالى لو كان يستحق هذه الصفات لمعان قديمة، وقد ثبت أن القديم إنما يخالف مخالفه بكونه قديماً، وثبت أن الصفة التي تقع بها المخالفة عند الافتراق، بها تقع المماثلة عند الاتفاق وذلك يوجب أم تكون هذه المعاني مثلاً لله تعالى، حتى إذا كان القديم تعالى عالماً لذاته، قادراً لذاته، وجب في هذه المعاني مثله ولوجب أن يكون الله تعالى مثلاً لهذه المعاني"1. وبهذا يتبين لنا أن مذهبهم في الصفات على هذا الوجه هو في الحقيقة نفي لها. وأما الطائفة الثالثة من النفاة فهم: الفلاسفة: وهؤلاء يتفقون أيضاً جمع المعتزلة في نفي الصفات عن الله سبحانه، إلأ أن حجتهم على ذلك االنفي تختلف عن حجة سابقيهم إذ إن المعتزلة - كما تقدم - برروا نفيهم ذاك بأن إثبات صفات لله سبحانه زائدة على الذات، يؤدي إلى القول بتعدد القدماء. أما الفلاسفة فإنهم يخالفونهم مخالفة جذرية في هذا التبرير، إذ إنهم يجوزون تعدد القدماء مثل العقول العشرة، والأفلاك، فإنها قديمة عندهم.

_ 1 شرح الأصول الخمسة ص: 195.

وإنما كان نفيهم للصفات خشية التركيب، فالله تعالى - عندهم واحد بسيط، والصفات الواردة في الشرع من العلم، والقدرة، والإرادة ونحوها من الصفات يزعمون أن إثباتها سلوباً وإضافات لا يستلزم الكثرة والتركيب في ذاته، لأن مفهوم ذلك كله عندهم شيء واحد هو نفس الذات. يقول ابن سينا في النجاة: "فإذا حققت تكون الصفة الأولى لواجب الوجود أنه إن وموجود، ثم الصفات الأخرى يكون بعضها المتعين فيه هذا الوجود مع إضافة، وبعضها هذا الوجود مع السلب وليس واحداً منها موجباً في ذاته كثرة البتة ولا مغايرة"1. ومن هذا النص يتضح لنا أن الفلاسفة إنما يصفون الله سبحانه بأنه "أن وموجود" والوجود لا يوجب كثرة ولا تعدداً، أما ما عدا ذلك من الصفات فإنها إضافات أو سلوب. وهم بهذا يتفقون مع المعتزلة على نفي الصفات. أما فريق المثبتين فيمثله طائفتان: الأشاعرة، والكرامية. فأما الأشاعرة: أتباع أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري فإنهم يثبتون لله سبحانه وتعالى سبع صفات زائدة على الذات، ويطلقون عليها اسم صفات المعاني بمعنى وجود معنى لها زائد على الذات وهذه الصفات هي: العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام. وقد استدلوا على زيادة هذه الصفات على الذات بأمور ثلاثة.

_ 1 النجاة لابن سينا ص: 251.

1 - قياس الغائب على الشاهد، العالم في الشاهد من قام به العلم ولا يختلف الأمر غائباً وشاهداً، لأن العلة واحدة، والشرط واحد فعلة كون الشخص عالماً هو العلم، وكذالك الأمر في الغائب. 2 - إن هذه الصفات لو لم تكن زائدة على الذات لكان مفهوم كونه حياً، عالماً، قادراً، نفس ذاته، ولم يكن لحملها على ذاته فائدة، وكان قولنا على طريقة الأخبار: الله الواجب، أو العالم أو القادر، بمثابة حمل الشيء على نفسه، واللازم باطل. 3 - لو كانت هذه الصفات نفس ذاته لكان المفهوم منها كلها أمراً واحداً، وذلك ضروري البطلان1. ولهذه الصفات عند الأشاعرة أحكام أربعة: 1 - إن هذه الصفات ليست هي الذات بل زائدة عليها. 2 - إنها كلّها قائمة بذاته سبحانه، ولا يجوز أن يقوم شيء منها بغير ذاته، سواء كان في محل أو لم يكن في محل. 3 - إن هذه الصفات كلّها قديمة، فإنها إن كانت حادثة كان القديم سبحانه محلاً للحوادث، وهو محال. 4 - إن الأسامي المشتقة لله سبحانه من هذه الصفات صادقة عليه أزلاً وأبداً2. وأما الكرامية: أتباع أبي عبد الله محمّد بن كرام السجستاني فقد أثبتوا أيضاً صفات المعاني لله سبحانه وتعالى، زائدة على ذاته. فالله تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حيّ بحياة، سميع، بصير، وجميع هذه الصفات قديمة أزلية قائمة بذاته سبحانه.

_ 1 انظر: الوجوه الثلاثة في المواقف بشرح الجرجاني (قسم الإلهيّات) تحقيق الدكتور أحمد المهدي ص: 78-80. 2 انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص: 150-166.

وقالوا أيضاً: إنه تعالى لم يزل خالقاً، رازقاً، منعماً، من غير وجود خلق ورزق ونعمة منه. وأن معنى خالقيته قدرته على الخلق ورازقيته قدرته على الرزق وإنعامه قدرته على الإنعام1. وبعد هذه الإلمامة الموجزة بمذاهب المتكلمين حول الصفات العقلية، يأتي أساس الكلام عن هذه القضية، وهو ما يتعلق برأي البيهقي، وسوف أقسم هذا الفصل إلى مبحثين رئيسيين: المبحث الأوّل: صفات الذات العقلية. المبحث الثاني: صفات الفعل العقلية.

_ 1 الفرق بين الفرق للبغدادي ص: 219.

المبحث الأول: صفات الذات العقلية

المبحث الأوّل: صفات الذات العقليّة عرف البيهقي - رحمه الله - صفات الذات عامة بأنها: ما استحقه فيما لم يزل ولا يزإل، كما تقدم بيانه. ومثل للعقلية منها بسبع صفات هي - كما تقدم -: الحياة، والقدرة، والإرادة، والعلم، والسمع، والبصر، والكلام. وهذه الصفات السبع هي ما اصطلح المتكلمون على تسميته صفات معان. وإلى جانب الأدلة النقلية التي أسهب في إيرادها لإثبات هذه الصقات السبع، أورد أدلة عقلية أيضاً لنفس الغرض، وذلك بناء على رأيه فيها أنها ثابتة بالأمرين جميعاً، وسيكون الكلام في هذا المبحث على عدة نقاط تتعلق بهذا النوع من الصفات، ولا ريب أن الكلام على ما يتعلق بالإثبات له الصدارة، وسيكون الكلام على الاستدلال النقلي سابقاً لأنه هو الأصل. الأدلة النقليّة: وقد كانت أدلته هذه منبعها الكتاب والسنة، كما ذكر أيضاً أنه استند في ذلك إلى إجماع سلف الأمة. ثم عقد لكلّ صفة من هذه الصفات السبع باباً أورد فيه ما يدل على ثبوتها من النقل ونحن نسير معه في طريقته التي سار عليها من إيراد لكل صفة مستقلة عن الأخرى، إلاّ أننا نقتصر فيما نورده من أدلة على ذكر أمثلة مما ذكره البيهقي من نصوص.

صفة الحياة وفي إثباتها قال: "باب ماجاء في إثبات صفة الحياة"، ثم شرع في إيراد مجموعة من الآيات والأحاديث اشتملت على إثبات هذه الصفة. فأما الآيات فمنها قول الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 1. وقوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} 2 وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} 3 وأما ما أورده من الأحاديث فمنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوله: "اللهم لك أسلمت، وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك، لا إله إلاّ أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون" 4. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي ساقها لإثبات هذه الصفة. وهي وإن كانت لم تتناول صفة الحياة بصريح العبارة وإنما اشتملت على إثبات اسمه الحي، فإنها دليل أيضاً على ثبوت هذه الصفة لله سبحانه وتعالى، إذ قد بين البيهقي - رحمه الله - أنه إذا ثبت أن الله موجود، ووصف بأنه حي، فقد وصف بزيادة صفة على الذات هي الحياة، لأن كل اسم يشتمل إثباته على إثبات الصفة التي يدل عليها، إذ لولا ذلك لاقتصر الله صلى الله عليه وسلم فيما سمى به نفسه على ما ينبىء عن وجود الذات فقط، وقد سبق بيان ذلك5.

_ 1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة غافر آية: 65. 3 سورة الفرقان آية: 58. 4 الأسماء والصفات ص: 110. والحديث رواه مسلم رقم: 2717، 4/2086. 5 انظر ص: (192) من هذا البحث.

صفة العلم وأورد لإثباتها مجموعة من الآيات والأحاديث. فمما أورده من الآيات قوله تعالى: {يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} 1. وقوله سبحانه: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 2 أما من السنة فقد أورد قصة الخضر مع موسى عليهما السلام وفيها: "…وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر عليه السلام: ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.." 3. ومن أجل ما قد يتوهم من كلام الخضر هذا أن علم الله تعالى يعتريه النقص، دفع البيهقي هذا التوهم الذي قد يتبادر لبعض ضعاف العقول، دفعه بما رواه عن أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي4 في معنى هذا الكلام وتخريجه: "هذا له وجهان: أحدهما: أن نقر العصفور ليس بناقص للبحر، فكذلك علمنا لا ينقص من علمه شيئاً وهذا كما قيل:

_ 1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة النساء آية: 166. 3 أخرج البيهقي الحديث بطوله في كتاب الأسماء والصفات ص: 116-117، وهو متفق عليه. انظر: حديث رقم: 4725 من صحيح البخاري8/409، وحديث رقم: 2380 من صحيح مسلم4/1847. 4 هو: الإمام أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي أبو بكر الجرجاني، أحد الحفاظ الأعيان. كان شيخ المحدّثين والفقهاء. وأجلهم في المروءة والسخاء. توفي سنة: 370?. انظر: شذرات الذهب لابن العماد3/72.

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم.....بهن فلول من قراع الكتاتب أي: ليس فيهم عيب، وعلى هذا قول الله عز وجل: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاماً} 1 أي: لا يسمعون فيها لغواً البتة. والآخر: إن قدر ما أخذناه جميعاً من العلم إذا اعتبر بعلم الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء، لا يبلغ من علم معلوماته في المقدار إلاّ كما يبلغ أخذ هذا العصفور من البحر، فهو جزء يسير فيما يدرك قدره، فكذلك القدر الذي علمناه الله تعالى في النسبة إلى ما يعلمه عز وجل، كهذا القدر اليسير من هذا البحر2. ولدفع هذا التوهم أيضاً قال الإمام النووي: قال العلماء لفظ النقص هنا ليس على ظاهره، وإنما معناه: أن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله تعالى كنسبة ما نقره هذا العصفور إلى ماء البحر، هذا على التقريب إلى الإفهام، وإلاّ فنسبة علمهما أقل وأحقر3. وهذا هو الوجه الثاني الذي ذكره الإسماعيلي كما رواه عنه البيهقي. صفة القدرة وبنفس الأسلوب يثبت هذه الصفة، فمما أورده من الآيات قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 4، وقوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} 5

_ 1 سورة مريم آية: 62. 2 الأسماء والصفات ص: 118. 3 شرح صحيح مسلم للنووي15/141. 4 سورة القيامة آية: 4. 5 سورة المؤمنون آية: 95.

أما من السنة المطهرة فأورد مجموعة كبيرة من الأحاديث، ومن أبرزها حديث الاستخارة الذي رواه بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة كما يعلّمنا السورة من القرآن يقول: إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك…" الحديث1. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي ساقها البيهقي. الإرادة وقد أثبتها بنفس الأسلوب الذي أثبت به الصفات السابقة. فمما أورده من آيات قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2. وقوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3 وقوله سبحانه: {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} 4 وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 5

_ 1 الأسماء والصفات ص: 124-125. ورواه البخاري في صحيحه حديث رقم: 6382، 11/182. 2 سورة المائدة آية: 6. 3 سورة البقرة آية: 185. 4 سورة الإسراء آية: 54. 5 سورة النساء آية: 116.

أما من السنة: فمما أورده منها: حديث معاوية بن أبي سفيان الذى رواه بسنده عن حميد بن عبد الرحمم بن عوف قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو خطيب يقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله" 1. وحديث الرجل الذي يبقى بين الجنة والنار يقول: "يارب اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فيقول الله عز وجل: فهل عسيت إن فعلت ذلك بك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول لا وعزتك فيعطي ربه ما يشاء من عهد وميثاق، فيصرف الله تعالى وجهه عن النار، فإذا أقبل بوجهه على الجنة فرأى بهجتها فيسكت ما شاء الله أن يسكت ثم قال: يا رب، قدمني عند باب الجنة…" الحديث2. إلى غير ذلك من النصوص القرآنية والحديثية التي أوردها لإثبات صفة الإرادة التي هي والمشيئة بمعنى واحد3. السمع والبصر ومما أثبت به هاتين الصفتين من القرآن الكريم قوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} 5.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 151. الحديث متفق عليه. انظر: صحيح البخاري مع شرحه حديث رقم: 71، 1/164، وصحيح مسلم رقم: 1037، 2/718. 2 الأسماء والصفات ص: 161. والحديث متفق عليه أيضاً. انظر: صحيح البخاري مع الشرح حديث رقم: 7427، 13/419. وصحيح مسلم رقم: 299، 1/63. 3 انظر: ما أورده البيهقي من أدلة في كتاب الأسماء والصفات ص: 151-175. 4 سورة غافر آية: 56. 5 سورة النساء آية: 134.

أما من السنة: فحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفاً أو نعلو شرفاً، ولا نهبط في واد إلاّ رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم ما تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته…" الحديث"1. صفة الكلام ومما أورده البيهقي - رحمه الله - لإثبات هذه الصفة من القرآن الكريم قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 2. وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 3 وغيرها من الآيات. أما من السنة: فقد أورد حشداً كبيراً من النصوص منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكفل الله تعالى لمن جاهد في سبيله، لا

_ 1 الأسماء والصفات ص: 178-179. والحديث متفق عليه. انظر: صحيح البخاري ع شرحه حديث رقم: 7386، 13/372. وصحيح مسلم حديث رقم: 2704، 4/2076. 2 سورة الكهف آية: 109. 3 سورة لقمان آية: 27.

يخرجه من بيته إلاجهاد في سبيل الله، وتصديق كلمته بأن يدخد الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة" 1. والأحاديث التي تدل على ثبوت هذه الصفة كثيرة جداً، وقد أورد البيهقي - رحمه الله - عدداً كبيراً منها. وأولى هذه الصفة عناية خاصة. ونظراً لفرط اهتمامه بها، وتشعب الكلام فيها، ومكانتها من مسألة القول بخلق القرآن، التي تعتبر من أخطر القضايا التي احتدم النزاع فيها بين المعتزلة من جهة، والأشاعرة والسلف من جهة أخرى نظراً لذلك كله سأفرد هذه الصفة بالبحث في فصل مستقل، وذلك بعد الفراغ من بحث الصفات العقلية بنوعيها إن شاء الله. وقصارى القول: أن هذه الصفات السبع قد أولاها البيهقي عناية كبيرة، فدلل على ثبوتها عقلاً ونقلاً، وقد رأيت أن يكون إيرادي لأدلته النقلية فيما سبق محض تمثيل، ليكون القارىء على بصيرة من المنهج الذي سلكه لإثباتها، ولأن محاولة الإتيان على جميع الأدلة النقلية التي أوردها لهذا الغرض يطول علينا الكلام، مع أن آية واحدة أو حديثاً صحيحاً واحداً كاف لإثبات الصفة التي ورد بها. وغرضي من الطريقة التي سرت عليها هنا هو بيان منهجه السلفي الذي سلكه لإثبات هذه الصفات. بقي هنا عرض الجانب الآخر من استدلال البيهقي وهو الجانب العقلي، إذ سبق أن عرفنا تسميته لهذه الصفات عقلية لثبوتها بالعقل أيضاً.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 182-183. والحديث متفق عليه. انظر: صحيح البخاري مع شرحه حديث رقم: 7463، 13/444. وصحيح مسلم رقم: 1876، 3/1496.

الأدلة العقلية: وهذا هو الجانب الآخر الذي يثبت البيهقي به ما تقدم من الصفات ويتمثل ذلك الاستدلال جملة في أنه لو لم يتصف بإحدى الصفتين المتقابلتين لكان متصفاً بالأخرى لا محالة فإذا لم يكن حياً، كان ميتاً وإذا لم يكن عالماً كان جاهلاً وإذا لم يكن قادراً كان عاجزاً. ولذلك يكون دليل حياته وقدرته وعلمه ظهور فعله – سبحانه - في خلقه، وظهور ذلك الفعل بما يشتمل عليه من إحكام وإتقان يدلنا على أن فاعله متصف بالحياة والقدرة والعلم، لأن ذلك لا يصح وقوعه من متصف بأضداد هذه الصفات من موت وعجز وجهل. وفي ذلك يقول البيهقي: "فإن قال قائل: وما الدليل على أنه حي عالم قادر؟ قيل ظهور فعله دليل حياته، وقدرته، وعلمه لأن ذلك لا يصح وقوعه من ميت ولا عاجز ولا جاهل به دل ذلك على أنه بخلاف وصف من لا يتأتى ذلك منه، ولا يكون بخلاف ذلك إلا هو حي قادر عالم"1. أما دليل اتصافه بالإرادة فثبوت اتصافه بالحياة والقدرة والعلم لأن من كان كذلك لم يكن مكرهاً ولا مغلوباً، ومن لم يكن كذلك لا بد أن يكون مريداً. يقول البيهقي: "فإن قال قائل: وما الدليل على أنه مريد؟ قيل: لأنه حي عالم ليس بمكره ولا مغلوب، ولا به آفة تمنعه، وكل حي خلا مما يضاد العلم، ولم يكن به آفة تخرجه من الإرادة، كان مريداً مختاراً، قاصداً"2.

_ 1 الجامع لشعب الإيمان1/ ل17. 2 الجامع لشعب الإيمان1/ ل17.

وأما اتصافه بصفتي السمع والبصر، فدليل ذلك أنه قد ثبتت له سبحانه صفة الحياة، ووجود حي خال من الاتصاف بما يدرك المسموع والمرئي ومن الاتصاف بالآفة المانعة من ذلك أمر مستحيل، ويستحيل وصفه بالآفة من هذين الوصفين، لأن ذلك يقتضي كونه ممنوعاً، والممنوع لا بد له من مانع، وذلك من صفات المحدثين، والله تعالى منزه عن ذلك. وفي بيان هذا الاستدلال يقول البيهقي - رحمه الله -: "فإن قال قائل: وما الدليل على أنه سميع بصير؟ قيل: لأنه حي، ويستحيل وجود حي يتعرى عن الوصف بما يدرك المسموع والمرئي أو بالآفة المانعة منه، ويستحيل تخصيصه من أحد هذين الوصفات بالآفة، لأنها منع والمنع يقتضي مانعاً وممنوعاً، ومن كان ممنوعاً كان مغلوباً، وذلك من صفات المحدث، والبارئ قديم لم يزل، فهو سميع بصير لم يزل ولا يزال"1. رأما دليل اتصافه بالكلام فهو ثبوت الحياة له أيضاً، وثبوت عدم وجود آفة تمنعه من الكلام، وكل حي خلا من ذلك فلا بد وأن يكون متكلماً كما أن مخاطبته سبحانه لخلقه على لسان نبيه بالأمر والنهي، دليلاً على اتصافه بهذه الصفة. ولبيان ذلك يقول: "فإن قال قائل: وما الدليل على أنه متكلم؟ قيل: لأنه حي ليس بساكت، ولا به آفة تمنعه من الكلام، وكل حي كان كذلك كان متكلماً، ولأنه يستحيل لزوم الخطاب، ووجود الأمر عمن لا يصح منه الكلام، فوجب أن يكون متكلماً"2.

_ 1 المصدر نفسه. 2 الجامع لشعب الإيمان1/ ل17.

ويلاحظ أن طريقة البيهقي هذه تتضمن طريق الأولى التي سلكها كثير من علماء السلف، كما ستأتي إشارة ابن تيمية إلى ذلك إن شاء الله، لأنها تتضمن القول بأن ذلك إذا كان ثابتاً في حقّ المخلوق وهو صفة كمال، فالخالق سبحانه أولى بالاتصاف به، وإذا تنزه المخلوق عن الاتصاف بضده فإن الخالق أولى بالتنزه عنه. والبيهقي وإن لم يصرح بذلك إلا أن ذلك مفهوم طريقته، والبيهقي بذلك يوافق السلف في الطرق التي سلكوها، إذ السلف كما يستدلون بالنصوص فإنهم لا يهملون العقل في هذه الناحية، بل يرون أنها كما ثبتت بالنص فهي ثابتة بالعقل أيضاً1. إلا أن ثمة عدة طرق عقلية لإثبات هذه الصفات قال بها السلف وهذه التي سلكها البيهقي واحدة منها، ويقررها ابن تيمية بقوله: "من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظار السنة في هذا الباب أنه لولم يكن موصوفاً بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى، فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت، ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز، ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبكم، وطرد ذلك أنه لولم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلاً فيه، فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات، فتنزيه الخالق عنها أولى"2.

_ 1 مجموع الفتاوى لابن تيمية3/ج. 2 مجموع الفتاوى لابن تيمية (ص د، ?) .

وهذه الطريقة في إثبات الصفات طردها السلف في جميع الصفات، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية بقوله: "وطرد ذلك ... " بخلاف البيهقي فإنه قصرها على هذه الصفات السبع التي أثبتها. ويذكر ابن تيمية أن هذه الطريقة تختلف عن طريقة إثبات الصفات بأنفسها، وإن كانتا تتفقان في أن كليهما يدخل في قياس الأولى. وفي بيان اختلاف بين الطريقتين يقول - رحمه الله: "وهذه الطريق غير قولنا إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق فالخالق أولى، فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها"1. وإذا اتضح لنا إثبات البيهقي - رحمه الله - لهذه الصفات ودليله لذلك الإثبات من النقل والعقل، فقد وضح أيضاً أنه يلتزم في ذلك الإثبات مبدأ طالما التزمه السلف، وجعلوه أساساً للإثبات، وهو إثباتها له سبحانه على وجه يليق بجلاله وعظمته، لا يشبه أحداً من خلقه، ولا يشبهه أحد منهم. وفي إيضاح دليل هذا المبدأ الذي يتضمن المبدأ نفسه يقول البيهقي: "فإن قال قائل: فما الدليل على أنه لا يشبه المصنوعات ولا يتصوّر في الوهم؟ قيل لأنه لو أشبهها لجاز عليه ما يجوز على المصنوعات من سمات النقص، وآمارات الحدوث، والحاجة إلى محدث غيره وذلك يقتضي نفيه، فوجب أنه كما وصف نفسه، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.

_ 1 المصدر نفسه (3/?) . 2 سورة الشورى آية: 11.

ولأنا نجد كل صنعة فيما بيننا لا تشبه صانعها كالكتابة لا تشبه الكاتب، والبناء لا يشبه الباني، فدل ما ظهر لنا من ذلك على ما غاب عنا، وعلمنا أن صنعة الباري لا تشبهه"1. فهذا دليل عقلي ساقه البيهقي - رحمه الله - ليسند به رأيه في إثبات هذه الصفات على ضوء قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فقد جمع سبحانه في هذه الآية بين إثبات الصفات، وبين تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقات، فصفاته سبحانه تليق بجلاله وكماله، وصفات خلقه تليق بضعفهم وافتقارهم. وهكذا يتضح لنا أن البيهقى إنما يتفق مع الأشاعرة في إثبات هذه الصفات، إلا أنه يختلف معهم في طريقة الإثبات، فالبيهقي سلك لذلك طريقي العقل والنقل جميعاً، أما الأشاعرة فاكتفوا بالاستدلال العقلي2. والبيهقي بهذا يتفق مع السلف لأنه جمع بين الأمرين مثلهم، كما سبق أن ذكرت إشارة ابن تيمية إلى ذلك. زيادة الصفات على الذات: ولهذا الموضوع أهمية خاصة نظراً لكونه المحك الرئيسي في وضوح الرؤية، وبيان المقصد في الكلام عن الصفات، ولهذا لم يهمله البيهقي بل أولاه من العناية ما يليق بأهميته. وقد سبق أن ذكرت عن المعتزلة نفيهم لهذه الصفات مع أنهم حينما يذكرونها، ويتحدثون عنها، إنما يكون حديثهم ذاك على أساس أنه إثبات للصفات، فهم لا يعترفون لنا بما نتهمهم به مع أنه صريح مذهبهم وإنما

_ 1 الجامع لشعب الإيمان1/ ل17. 2 انظر: استدلال الأشاعرة على هذه الصفات في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص: 119-139.

كانوا نفاة لأنهم يثبتون الصفات ألفاظاً لاحقائق لها وراء الذات. فالصفة عندهم - كما سبق أن أوضحت - هي عين الذات، ليست زائدة عليها، وهم يعتبرون رأيهم إثباتاً لا نفي فيه، وأنه هو الذي يجب أن يقال من أجل البعد عن إشراك غير الله معه في أخص وصفه الذي هو القدم عندهم، ومن أجل البعد عن التشبيه، فهذا القول من جانبهم يعتبرونه تصحيحاً للتوحيد. وقد قابل البيهقي - رحمه الله - رأي المعتزلة هذا، برأيه المقابل له، والذي هو بعينه رأي الأشاعرة جميعاً - موافقين بذلك السلف، وهذا الرأي الذي ارتضاه البيهقي مقابل تماماً لرأي المعتزلة، ويتضمن الرد عليهم. فعند استدلاله - رحمه الله - على ثبوت هذه الصفات عنون لذلك المنهج بقوله "باب ذكر آيات وأخبار وردت في صفات زائدات على الذات قائمات"1. ثم سرد الأدلة التي أثبت بها الصفات، وعند تقسيمه للصفات العقلية إلى قسمين ذكر أن القسم الثاني منها "ما يدل خبر المخبر عنه ووصف الواصف له به على صفات زائدات على ذاته قائمات به، وهو كوصف الواصف له بأنه حي عالم قادر مريد سميع بصير متكلم"2. ومن هذا يتضح لنا أن رأي البيهقي - رحمه الله - هو أن الصفات زائدة على الذات، على العكس من رأي المعتزلة.

_ 1 الاعتقاد ص: 25. 2 الاعتقاد ص: 22.

وقد استدل لهذا الرأي بدليلين: أحدهما عقلي، والآخر شرعي نقلي. فأما الدليل النقلي: فثبوت اتصافه سبحانه بهذه الصفات عن طريق نطق النصوص صراحة بإثبات بعضها، أو عن طريق إثبات الأوصاف له سبحانه التي هي بدورها تدل على ثبوت الصفة. وقد بين البيهقي ذلك بقوله: "فإن قال قائل، وما الدليل على أنه حي قادر عالم مريد سميع بصير متكلم، له الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام؟ قيل: لأ نه يستحيل إثبات موجود بهذه الأوصاف مع نفي هذه الصفات عنه، وحين لزم إثباته بهذه الأوصاف، لزم إثبات هذه الصفات له، قال الله عز وجل: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} 1. وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 2 فأثبت القوة لنفسه وهي القدرة، وأثبت العلم، فدل على أنه عالم بعلم قادر بقدرة"3. فهاتان الصفتان - أعني العلم والقدرة - اللتان وردتا في هاتين الآيتين ثبتتا صفتين بصريح النص القرآني في كل منهما، أما بقية الصفات فقد ثبتت أوصافاً، لأن الوصف يستلزم ثبوت الصفة – كما بيت البيهقي – رحمه الله – ولا معنى لثبوت الصفة إلا زيادتها على مفهوم الذات. وهذا ما ذكره التفتازاني أيضاً في شرح العقائد النسفية حيث قال: "وله صفات، لما ثبت من أنه عالم حي قادر، إلى غير ذلك ومعلوم أن

_ 1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة الذاريات آية: 58. 3 الجامع لشعب الإيمان1/ ل17.

كلاً من ذلك يدل على معنى زائد على مفهوم الواجب، وليس الكل ألفاظاً مترادفة، وإن صدق المشتق على الشيء يقتضي ثبوت مأخذ الاشتقاق له، فثبت له صفة العلم، والقدرة، والحياة وغير ذالك…"1. وأما الدليل العقلي: فإن العقل لا يتصور وجود وصف لا يقوم بموصوف، كما أنه لا يتصور موصوفاً لا وصف له، ومثل الصفة والموصوف في ذلك كمثل الأثر والمؤثر، فلو جاز وجود فاعل ليس له فعل، لجاز وجود فعل بدون فاعل، إلا أن الأوّل مستحيل، وإذا استحال وجود الأول منهما وهو الفاعل بدون فعل، استحال أيضاً وجود الثاني وهو فعل لا فاعل له. وإذا استحال ذلك استحال أيضاً وجود صفة بدون موصوف كما يستحيل وجود موصوف بدون صفة، لأنه لا معنى لموصوف إلا من قامت به الصفة، ولا معنى لصفة إلا إذا كانت قائمة بموصوف، مثلها في ذلك مثل الفعل الذي لا يمكن وجوده إلا بفاعل، كما لا يمكن وجود الفاعل ولا فعل له. وفي بيان هذا الاستدلال العقلي يقول البيهقي: "لو جاز عالم لا علم له، لجاز علم لا لعالم به، كما أنه لو جاز فاعل لا فعل له، لجاز فعل لا لفاعل فلما استحال فاعل لا فعل له، كما استحال فعل لا فاعل له، كذلك يستحيل عالم لا علم له، كما يستحيل علم لا عالم له، ولأن العلم لولم يكن شرطاً في كون العالم عالماً، لم يضر عدمه في كل عالم، حتى يصح كل عالم أن يكون عالماً مع عدم العلم، وحين كان شرطاً في كون

_ 1 شرح العقائد النسفية ص: 69.

بعضهم عالماً، وجب ذلك في كل عالم، لامتناع اختلاف الحقائق في الموصوفين، ولأن أحكام الفعل يمتنع مع عدم العلم منا به، كما يمتنع مع كوننا غير عالمين به فكما وجب استواء جميع المحكمين في "كونهم علما"1 كذلك يجب استواؤهم في كون العلم لهم، لاستحالة وقوعه من غير ذي علم به منا، ولأن حقيقة العلم ما يعلم به العالم، وبعدمه يخرج من كونه عالماً"2. فهذا الدليل العقلي الذي ساقه البيهقي يشتمل على عدة نقاط: 1 - أنه يستحيل عقلاً وجود صفة بدون موصوف، كما يستحيل وجود موصوف لا صفة له. 2 - أن العلم شرط في كون العالم عالماً، كما هو مشاهد فيما بيننا من العلماء، أن العالم من له علم قائم به. 3 - قياس الغائب على الشاهد في ذلك، بمعنى أنه إذا كان العالم فيما هو مشاهد بيننا لا يستحق هذه الصفة إلا إذا قامت به حقيقة، فكذلك ما غاب عنا من العلماء ينطبق عليهم نفس المبدأ فالله تعالى عالم بعلم لا يشبه علوم المخلوقات، لأنه يليق بجلاله وعظمته، وكذلك يقال في بقية الصفات. 4 - أن إحكام الفعل يدل على علم صاحبه واتصافه بجميع صفات الكمال. 5 - أنه لا معنى لحقيقة العلم في اللغة إلاّ ما يعلم به العالم، لأن من لم يكن كذلك كان جاهلاً، وبهذا يرى البيهقي أن الاستعمال اللغوي يتمشى مع مذهبه.

_ 1 هكذا في الأصل المخطوط. ولعل الصواب: "في كون لهم علماً". 2 الجامع لشعب1/ ل17-18.

وذكرالبيهقي - رحمه الله - لصفة العلم هنا دون غيرها لأن ما يقال فيها وينبطق عليها، ينطبق على بقية الصفات، ويقال فيها وإنما ما أراد أن يبيّن طريقة الاستدلال العقلي بتطبيقه على واحدة منها وقد بيّن هدفه هذا حين قال بعد ذلك: "ويقال في بقية الصفات ما قيل في صفة العلم"1. وهكذا، فإن البيهقي يقرر رأيه القائل بزيادة الصفات على الذات، ردّاً بما ساقه من أدلة نقلية وعقلية على المعتزلة القائلين بأنها عين الذات. وممن ردّ على المعتزلة في هذا الموضوع الإمام السلفي ابن قتيبة حيث قال في كتابه: "الاختلاف في اللفظ": "وتعين آخرون في النظر، وزعموا أنهم يريدون تصحيح التوحيد بنفي التشبيه عن الخالق، فأبطلوا الصفات مثل: العلم، والقدرة، والجلال، والعفو، وأشباه ذلك، فقالوا: نقول هو الحليم ولا نقول بحلم وهو القادر ولا نقول بقدرة، وهو العالم ولا نقول بعلم، كأنهم لم يسمعوا إجماع الناس على أن يقولوا: "أسألك عفوك" وأن يقولوا: "يعفو بحلم ويعاقب بقدرة" والقدير هو ذو القدرة، والعفو هو ذو العفو، والجليل هو ذو الجلال، والعليم هو ذو العلم. فإن زعموا أن هذا مجاز، قيل لهم: ما تقولون في قول القائل: غفر الله لك، وعفا عنك، وحلم الله عنك. أمجاز هو أم حقيقة؟ فإن قالوا هو مجاز، فالله لايغفر لأحد ولا يعفو عن أحد، ولا يحلم عن أحد على الحقيقة، ولن يركبوا هذه وإن قالوا حقيقة فقد وجب في

_ 1 الجامع لشبع الإيمان1/ ل18.

المصدر ما وجب في الصدر، لأنا نقول: غفر الله مغفرة، وعفا عفواً، وحلم حلماً، فمن المحال أن يكون واحد حقيقة والآخر مجازاً"1. ومن هذا يخلص ابن قتيبة إلى إبطال رأي المعتزلة في الصفات القائل بأنها عين الذات بأمرين: أحدهما: مخالفة ذلك الرأي لإجماع المسلمين. وثانيهما: مخالفته لقواعد اللغة العربية. أما شيخ الإسلام بن تيمية فيرد عليهم بأن الذات الموصوفة لا تنفك عن الصفات أصلاً ولا يمكن وجود ذات خالية عن الصفات، فدعوى المدّعي وجود حي عليم، قدير، بصير، بلا حياة، ولا علم، ولا قدرة، كدعوى قدرة وعلم وحياة لا يكون الموصوف بها حياً عليماً قديراً، بل دعوى شيء موجود قائم بنفسه قديم أو محدث عري قد جميع الصفات ممتنع في صرريح العقل2. وما ذكره ابن تيمية هنا موافق لما ذكره البيهقي فيما تقدم، إلا أنني أرى كلام ابن تيمية هنا أوجز وأوضح. وهكذا نتبيّن اتفاق البيهقي، والأشاعرة، والسلف، في القول بزيادة الصفات على الذات خلافاً للمعتزلة. ووضوح الأدلة الشرعية في إثبات هذه الصفات لله سبحانه وتعالى إثباتاً زائداً عل مفهوم الذات، لم يكن يستدعي مثل هذا البحث، لأن ذللك من الأمور العقلية المسلمة، إلاّ أن لذلك

_ 1 الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة، ضمن مجموعة عقائد السلف ص: 232-233. 2 مجموع الفتاوى3/336.

سبباً ذكره ابن تيمية - رحمه الله - وهو أن الجهمية لما كانوا ينفون أن يكون لله وصف قائم به، علم أو قدرة، أو إرادة أو كلام، وقد أثبتها المسلمون، صاروا يقولون: هؤلاء أثبتوا صفات زائدة على الذات، وقد صار طائفة من مناظريهم الصفاتية يوافقونهم على هذا الإطلاق، ويقولون: الصفات زائدة على الذات التي وصفوا - لها صفات ووصف - فيشعرون الناس أن هناك ذاتاً متميزة عن الصفات، وأن لها صفات متميزة عن الذات1. والبيهقي - رحمه الله – وإن كان رد على نفاة الصفات من المعتزلة الذين جعلوها عين الذات، بالقول بزيادتها على الذات على النحو السابق، إلاّ أنه لا يقول بالتمييز بين الذات والصفة، وإنما غرضه أن يبين عدم صحة وجود ذات بدون صفات، كما اتضح مما ذكرت آنفاً والذي هو عين التحقيق الذي ارتضاه ابن تيمية. ولذلك يبين البيهقي الصلة التي يراها بين الذات والصفات فيقول: "ونعتقد في صفات ذاته أنها لم تزل موجودة بذاته، ولا تزال، ولا نقول فيها إنها هو ولا غيره، ولا هو هي ولا غيرها"2. وفي كتاب الجامع بين - رحمه الله - مراده من نفي الغيرية والعينية، بأن نفي العينية لأن إثباتها يقتضي أن تكون الصفة موصوفة بما اتصفت به الذات المرادفة لها، فيكون العلم عالماً، والقدرة قادرة وذلك مستحيل،

_ 1 مجموع الفتاوى3/335. 2 الأٍسماء والصفات ص: 110.

كما نفيت الغيرية لاستحالة مفارقة الصفة للموصوف، ولأن من معاني الغيرية ما لا يستحيل مفارقة أحدهما لصاحبه بوجه"1. ورأي البيهقي هذا موافق لما عليه أئمة أهل السنة، الذي ذكره ابن تيمية فقال: "قالت الأئمة: لا نقول الصفة هي الموصوف، لأنا لا نقول: لا هي هو، ولا هي غيره، فإن لفظ الغير فيه إجمال، قد يراد به المباين للشيء، أو ما قارن أحدهما الآخر، وما قاربه بوجود أو زمان أو مكان، ويراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر وعلى الأول فليست الصفة غير الموصوف، ولا بعض الجملة غيرها، وعلى الآخر فالصفة غير الموصوف، وبعض الجملة غيرها. فامتنع السلف والأئمة من إطلاق لفظ الغير، على الصفة، نفياً أو إثباتاً، لما في ذلك من الإجمال والتلبيس، حيث صار الجهمي يقول: القرآن هو الله أو غير الله؟ فتارة يعارضونه بعلمه، فيقولون: علم الله هو الله أو غيره؟ إن كان ممن يثبت العلم، أو لا يمكنه نفيه. وتارة يحلون الشبهة ويثبتون خطأ الإطلاقين: النفي والإثبات، لما فيه من التلبيس، بل يستفصل السائل فيقال له: إن أردت بالغير ما يباين الموصوف فالصفة لا تباينه، فليست غيره، وإن أردت بالغير ما يمكن فهم الموصوف على سبيل الإجمال وإن لم يكن هو، فهو غير بهذا الاعتبار"2. وهناك إطلاق آخر ذكره ابن تيمية عن بعض الصفاتية وهو القول بأن الصفة لا هي الموصوف ولا غيره، وهو قول أبي الحسن الأشعري3.

_ 1 الجامع لشعب الإيمان1/ ل18. 2 مجموع الفتاوى3/336. 3 المصدر نفسه.

وهذا الإطلاق له معنى صحيح وهو أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة، بل هي غيرها، وليست غير الموصوف بل الموصوف بصفاته شيء واحد غيرمتعدد1. وهكذا نرى أن إثبات البيهقي - رحمه الله - للصفات مقابل لرأي المعتزلة، الذي يثبت صفات هي عين الذات، وذلك - كما ذكرت آنفاً - نفي لتلك الصفات، لأنه لا معنى لاتصافه سبحانه بصفة إلاّ ومفهوم تلك الصفة زائد على مفهوم الذات، مع عدم انفكاك الصفة عن الذات الموصوفة بها، وعدم جواز خلوها عنها. فالله سبحانه حي بحياة، قادر بقدرة، عالم بعلم، سميع بسمع بصير ببصر، مريد بإرادة، متكلم بكلام، لا كما قال المعتزلة إنه عالم بعلم هو ذاته، أو إنه عالم بعالمية، على ما أثبته أبو هاشم المعتزلي من أحوال لا وجود لها. قدم الصفات: أما عن قدم هذه الصفات، فإن القول به هو رأي البيهقي - رحمه الله - موافقاً بذلك أصحابه من الأشاعرة، فقد تقدم تعريفه لها بأنها ما استحقه – سبحانه - فيما لم يزل ولا يزال2. بمعنى أن جميع هذه الصفات السبع قديمة، لا يجوز أن يكون شيء منها حادثاً. وهذا الرأي هو أحد الأحكام الأربعة التي وضعها المتكلمون من الأشاعرة لهذه الصفات3. وقد استدل البيهقي لقدمها بدليل عقلي يقول فيه "فإن قال قائل: وما الدليل على أنه لم يزل حياً، قادراً، عالماً، مريداً، سميعاً، بصيراً، متكلتما؟

_ 1 انظر: شرح الطحاوية ص: 68. 2 الأسماء والصفات ص: 110. 3 انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص: 150-166.

قيل: لأنه لولم يكن كذلك لكان موصوفاً بأضدادها من موت أو عجز أو آفة، ولو كان كذلك لاستحال أن يقع منه فعل، وفي صحة الفعل منه دليل على أنه لم يزل كذلك ولا يزال كذلك 1. أي: إنه سبحانه لولم يكن متصفاً بهذه الصفات في الأزل، لكان متصفاً بأضدادها، لاستحالة خلوه من الصفة وضدها، ووقوع الفعل منه سبحانه على هذا الوجه الذي نرى دليل على اتصافه بها. وهذا هو بعينه دليل ثبوتها الذي سبق أن ذكرت عنه، فهي إذن ثابتة له في الأزل. والقول باتصافه سبحانه بها الأزل محل الاتفاق بين البيهقي ومن وافقه، وبين السلف. فهي عنده قديمة، ولا يجوز أن يوصف شيء منها بالحدوث، بحجة أننا إذا جوزنا حدوث شيء منها فقد جوزنا حلول الحوادث بذات الله سبحانه وتعالى، والحوادث لا تحل إلاّ بحادث مثلها. وقبل أن أشرع في إيضاح الآراء في مسألة حلول الحوادث بذات الله تعالى، ووجه الحقّ فيها، أحبّ أن أبيّن أن ما قاله البيهقي والأشاعرة عن قدم الصفات هو ما ارتضاه متأخرو الماتوريدية في جميع الصفات، الذاتية منها والفعلية2. حلول الحوادث بذات الله تعالى: أما عن هذه القضية فإن البيهقي ومن وافقه في القول بقدم الصفات وعدم جواز حدوث شيء منها، يرون أن ما نشاهده مما يدل على حدوث هذه الصفات، من المرئيات التي حدثت بعد أن لم تكن والمسموعات التي ظهرت، إلى غير ذلك، يرون أنها من متعلقات الصفات القديمة، وليس في شيء منها دليل على حدوث الصفة.

_ 1 الجامع لشعب الإيمان1/ ل17. 2 انظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام للدكتور عليّ سامي النشار1/232، والمسايرة لابن الهمام ص: 39، ط. الأولى تعليق محمّد محي الدين عبد الحميد.

وفي ذلك يقول البيهقي: "علم الله عز وجل أزلي متعلق بالمعلومات عند حدوثها"1. "وسمعه أزلي متعلق بإدراك المسموعات عند ظهورها وبصره أزلي متعلق بإدراك المرئيات عند وجودها من غير حدوث معنى فيه تعالى الله عن أن يكون محلاً للحوادث، وأن يكون شيء من صفات ذاته محدثاً"2. وهذه الجملة الأخيرة ترشدنا إلى الشبهة التي حملت البيهقي ومن وافقه على القول بقدم الصفات، لأننا إذا جوزنا حدوثها فقد جوزنا حلول الحوادث بذات الله تعالى، وذلك محال عندهم. وهذه القضية أعني القول بمنع حلول الحوادث، بذات الله تعالى، محل اتفاق بين المتكلّمين من أشاعرة ومعتزلة، وكذلك الفلاسفة. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله ـ أن القول بحلول الحوادث بذات الله تعالى "هو مذهب أكثر أهل الحديث، بل قول أئمة الحديث، وهو الذي نقلوه عن سلف الأمة، وأئمتها. وكثير من الفقهاء والصوفية أو أكثرهم، وفيهم من الطوائف الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية الحنابلة، من لا يحصي عدده إلاّ الله"3.

_ 1 ما قد يفهم من هذه العبارة من أن البيهقي يرى أن الله لا يعلم الأشياء إلاّ عند حدوثها كما هو رأي الجهم، غير مراد البيهقي. لأنه يقول بالقدر، وإن الله عالم بما كان وما سيكون، وإنما أراد هنا بيان أن العلم قديم وليس حادثاً. 2 الاعتقاد ص: 32. 3 بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية1/203.

كما ذكر الرازي في كتاب الأربعين أن هذا القول لازم لجميع الطوائف التي أنكرته، بل ذكر أن أبا البركات البغدادي وهو من أشهر الفلاسفة المتأخرين قال به صراحة1. ففي هذه المسألة إذاً رأيان: أحدهما: يقول بجواز حلول الحوادث بذات الله تعالى، وهو رأي جمهور المحدّثين وأئمتهم. والآخر: يمنع ذلك، وهو مذهب البيهقي، ومن وافقه من المتكلمين والفلاسفة. وكل من الفريقين لا بد وأن يسلك في الاستدلال على مذهبه في هذه القضية السمع، أو العقل، أو الاثنين جميعاً، وهما طريقان ليس للنفاة فيهما نصيب مما يقوي رأي المحدثين، ويدل على أنه الحقّ فالشبهة الوحيدة التي قادت النفاة ومنهم البيهقي على سلوك هذا المنهج ذكرها إمام الحرمين الجويني من معاصري شيخنا وهي: أنه قامت الحوادث به لم يخل عنها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث2. وهي متضمنة للدليل الذي سبق أن ذكرت استدلال البيهقي به على حدوث العالم. إلأ أن هذا الكلام لا دليل لهم فيه على هذه القضية فهو كلام مجمل يشتمل على حق وباطل، لأنه إن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن، فهذا نفي صحيح.

_ 1 الأربعين في أصول الدين للرازي ص: 118. 2 لمع الأدلة للجويني ص: 96.

وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول، والاستواء، والإتيان، كما يليق بجلاله وعظمته فهذا نفي باطل1. وهو ماقصده النفاة هنا، ووجه بطلانه أنه ينفي اتصاف الله سبحانه بصفات الكمال المتعلقة بمشيئته وقدرته، مما يؤدي إلى إضافة العجز إلى الله سبحانه وتعالى. أما المثبتون فإن استدلالهم سليم لسلامة المنهج الذي ساروا عليه، والتصور العقلي المتناسق والمنسجم مع روح ذلك المنهج ذلك أنهم سلكوا طريقي النقل والعقل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ولا ريب أن الطرق الدالة على الإثبات والنفي، إما السمع وإما العقل، أما السمع فليس مع النفاة منه شيء بل القرآن والأحاديث هي من جانب الإثبات كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} 3 وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} 4، وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 5. وأمثال ذلك مما وردها القرآن فإنه كثير..

_ 1 انظر: شرح الطحاوية ص: 67، ورسالة حروف القرآن وأصواتنا به ضمن مجموعة شذرات البلاتين ص: 400-401. 2 سورة يس آية: 82. 3 سورة القصص آية: 65. 4 سورة التوبة آية: 105. 5 سورة الأعراف آية: 54.

وأما الطرق العقلية فالمثبتون يقولون إنها من جانبهم دون جانب النفاة، كما تزعم النفاة أنها من جانبهم وذلك أنهم قالوا إن قدرته على ما يقوم به من الكلام والفعل صفة كمال، ومن المعلوم أن من قدر على أن يفعل ويتكلم أكمل ممن لا يقدر على ذلك كما أن قدرته على أن يبدع الأشياء صفة كمال، والقادر على الخلق أكمل ممن لا يقدر على الخلق، وقالوا: الحي لا يخلو عن هذا والحياة هي المصححة لهذا كما هي المصححة لسائر الصفات، وإذا قدر حي لا يقدر على أن يفعل بنفسه، ويتكلم بنفسه، كان عاجزاً بمنزلة الزمن والأخرس"1. وهذا الرأي الذي اختاره ابن تيمية وذكر أنه مذهب السلف وأنه الحق الذي يؤيده الدليل الشرعي والعقلي هو بعينه رأى الكرامية. وكل ما بين الكرامية والسلف من خلاف في هذه المسألة هو أنهم يجعلون لما يحدث في ذاته ابتداء ويقولون: إنه لم يكن متكلماً ولا فاعلاً في الأزل ثم صار متكلماً وفاعلاً فيما لا يزال، كما إن ما يحدث في ذاته عندهم لا يقبل العدم والزوال2. وهكذا يتضح لنا أن القول بحلول الحوادث بذات الله تعالى بمعنى أنه يتكلم متى شاء ويفعل ما يريد هو الرأي الصحيح بدلالة العقل والنقل. كما اتضح لنا موافقة البيهقي للأشاعرة على ما وضعوه من أحكام لهذه الصفات، والتي سبق ذكرها في أوّل هذا الفصل.

_ 1 شرح العقيدة الإصفهانية لابن تيمية ص: 69-70. 2 انظر: ابن تيمية السلف للدكتور محمّد خليل هراس ص: 134.

المبحث الثاني: صفات الفعل العقلية

المبحث الثاني: صفات الفعل العقلية سبق لنا بيان أن من صفات الفعل ماهو عقلي، كما أن صفات الذات منها ما هو عقلي أيضاً. وقد عرف البيهقي - رحمه الله - صفات الفعل جميعاً، العقلي منها والخبري بأنها: "تسميات مشتقة من أفعاله، ورد السمع بها مستحقة له فيما لا يزال دون الأزل"1. وقد علل تعريفه هذا لصفات الأفعال: بأن الأفعال التي اشتقت منها هناه الصفات لم تكن في الأزل2. ومثل للعقلية منها بالخلق، والرزق، والإحياء والإماتة والعفو، والعقوبة3. وإنما سمي هذا النوع من الصفات عقلياً، لأن العقل دل على ثبوتها، مع ورود النص بها، كما سبق أن ذكرت عند بيان صفات الذات العقلية. فالبيهقي - رحمه الله - يرى أن مصدر إثبات هذه الصفات العقل والشرع جميعاً. وإذا كان - رحمه الله - لم يسهب في بيان هذه الصفات على مثل ما فعل في صفات الذات السالفة، فإنه بين طريقته إجمالاً، بمعنى أن الطريق

_ 1 الأسماء والصفات ص: 110، الاعتقاد ص: 22. 2 الاعتقاد ص: 22. 3 الأسماء والصفات ص: 110.

التي ثبتت بها هذه الصفات هي بينها الطريق التي ثبتت بها صفات الذات العقلية، حيث قال في الصفات العقلية بنوعيها: إنها ما كان طريق إثباته أدلة العقول مع ورود السمع به1. واكتفى من كلامه عن صفات الفعل العقلية ببيان الفارق الذي تضمنه التعريف، حيث ذكر فيما سبق قدم صفات الذات العقلية وذكر هنا حدوث صفات الفعل العقلية، وهو بهذا يوافق الأشاعرة القائلين هم أيضاً بحدوثها2، وهذا رأي المعتزلة3. وقد استدل البيهقي - ربه الله- لثبوت صفات الفعل بالكتاب والسنة. فمما استدلّ به من القرآن الكريم قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 4. وقوله {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 5 وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} 6 إلى سائر ما ورد في كتاب الله تعالى، في هذا المعنى. فهذا دليله - رحمه الله - من القرآن على ثبوت الصفات الفعلية عامة وصمفات الفعل العقلية المتعدية خاصة.

_ 1 الاعتقاد ص: 22. 2 انظر: الشامل في أصول الدين للجويني ص: 537، حاشية البيجوري على متن السنوسية ص: 19. 3 المختصر في أصول الدين للقاضي عبد الجبّار، ضمن رسائل العدل والتوحيد تحقيق محمّد عمارة1/202. 4 سرة غافر آية: 62. 5 سورة الفرقان آية: 2. 6 سورة الروم آية: 27.

وأما من السنة فقد استدل بحديث عمران بن حصين قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه نفر من أهل اليمن فقالوا: يا رسول الله، أتيناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أوّل هذا الأمر كيف كان؟ قال: "كان الله عز وجل ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء، ثم كتب في الذكر كلّ شيء، ثم خلق السموات والأرض" 1. ووجهة استدلاله على إثبات صفات الفعل بهذه النصوص واضحة إذ إنها ناطقة بإثباتها. وأما استدلاله بها على حدوثها فإن الآيات تضمنت إثبات صفة الخلق الذي هو إيجاد للشيء من العدم، وإيجاد الشيء بعد عدمه أمر حادث. وأما الحديث فقد بين وجهة استدلاله به بقوله: قوله "كان الله ولم يكن شيء غيره" لا الماء ولا العرش، ولا غيرهما، وكل ذلك أغيار، وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} يعني: به ثم خلق الماء، وخلق العرش على الماء"2. ورأي البيهقي هذا في الحديث هو أحد القولين اللذين ذكرهما شارح الطحاوية في معناه حيث قال: "والناس في هذا الحديث على قولين:

_ 1 - منهم من قال: إن المقصود إخباره بأن الله كان موجوداً وحده ولم يزل كذلك دائماً، ثم ابتدأ إحداث جميع الحوادث، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم. وإن جنس الزمان حادث لا في زمان وإن الله صار فاعلاً 1 الاعتقاد ص: 31. والحديث رواه البخاري في كتاب التوحيد. انظر: حديث رقم: 7418، 13/403. 2 الاعتقاد ص: 31.

بعد أن لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إلى حين ابتداء الفعل، ولا كان الفعل ممكناً. 2 - والقول الثاني: المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود، الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش كما أخبر القرآن بذلك في غير موضع"1. وكلام البيهقي السالف يدل على أنه من أصحاب الرأي الأول، الذي يتضمن القول بنفي تسلسل الحوادث، الذي سنبين الآراء حوله ووجه الحق فيه في نهاية هذا المبحث إن شاء الله. وليس معنى قول البيهقي بحدوث هذه الصفات، أنه يلزمه القول بحلول الحوادث بذات الله تعالى، والذي سبق أن بينت أنه يرفض القول به، لأنه لا يرى قيامها بذات الله سبحانه، شأنه في ذلك شأن أصحابه الأشاعرة الذين يرون أن أفعال الله تعالى عبارة عن تعليقات القدرة بالمقدورات، دون قيام فعل بذاته تعالى، إذ إنهم يثبتون للقدرة تعلقين: 1 - تعلق صلوحي قديم. 2- تعلق تنجيزي حادث. فالأول: صلاحيتها في الأزل لإيجاد كل ممكن فيما لا يزال أي حين وجوده. والثاني: إبرازها بالفعل للممكنات التي أراد الله وجودها فتعلقها في الأزل أعم لأنها صالحة في الأزل لإيجاد كل ممكن على أي صفة كانت، بخلاف تعلقها التنجيزي فإنه تعلقها بالممكن الذي أراد الله وجوده على صفة كذا…2.

_ 1 شرح الطحاوية ص: 7-78. 2 حاشية الدسوقي على شرح أم البراهين ص: 98، وحاشية إبراهيم البيجوري على متن السنوسية ص: 19.

والرأي المقابل لرأي البيهقي والأشاعرة هو رأي الماتريدية القائلين برجوع جميع صفات الأفعال هذه إلى صفة واحدة هي صفة التكوين، وهذه قديمة عندهم، ومغايرة لصفة القدرة. وقد عرفوا صفة التكوين بأنها صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى كصفة العلم والقدرة1. ويقولون إن الله تعالى متصف بهذه الصفة أزلاً، وإن جميع صفات الله تعالى قديمة بدون استثناء، لأن هذه صفات كمال ومدح والله سبحانه منزه عن حدوثها، لأن معنى ذلك أنه كان محلاً للنقص الذي يقتضيه فقد صفة من الصفات. وفي ذلك يقول النسفي: "وقال أصحابنا: إنه كان خالقاً لقيام صفة الخلق وهو التكوين بذاته في الأزل، كما كان عالماً قادراً سميعاً بصيراً، وصار الحاصل أن جميع ما هو صفة الله تعالى كان أزلياً، وهو تعالى كان موصوفاً به في الأزل، تعالى ربّنا أن يحدث له صفات المدح"2. وهذا شبيه بالحل الذي ارتضاه الغزالي لقضية تسلسل الحوادث في جانب الماضي، والذي سنتعرض لذكره بعد قليل. وقد بنى الماتوريدية مذهبهم في إثبات هذه الصفة التي هي مرجع جميع صفات الأفعال العقليّة المتعدية من خلق ورزق وإحياء وإماتة وغير ذلك، بنوا مذهبهم هذا على أن التكوين لا بد أن يكون غير المكون، لأنه

_ 1 تبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي1/339. 2 المصدر السابق نفسه.

لو كان نفس المكان للزم أن يكون المكون موجوداً بنفسه ضرورة أنه مكون بالتكوين الذي هو عينه، ويلزم من هذا أن يكون المكون قديماً مستغنياً عن الصانع وهو محال، كما يلزم ألاّ يكون للخالق تعلق بالعالم سوى أنه أقدم منه وقادر عليه من غير صنع وتأثير فيه ضرورة تكونه بنفسه. وهذا لا يوجب كونه خالقاً والعالم مخلوقاً له، كما أن التكوين إذا كان عن المكون لا يكون قائماً بذات الله تعالى1. وقد ظهر من كلامهم هذا أنهم رادون به على من قد يتوهم أنهم يوافقون الفلاسفة في القول بقدم العالم، أو القائلين بتسلسل الحوادث في جانب الماضي. فهنا إذاً رأيان متقابلان: أحدهما: رأي متأخري الأشاعرة الذي اختاره البيهقي، وهو القول بحدوث هذه الصفات، لأن القول بقدمها يفضي إلى القول بتسلسل الحوادث وهو ممنوع عندهم. ثانيهما: رأي متأخري الماتوريدية القائل بقدمها بل قدم جميع الصفات، لأنهم يرون أن ذلك هو الذي يجب أن يقال من أجل أن يوصف الله سبحانه بصفات الكمال أزلاً وأبداً، ولأنهم يرون أن ذلك لا يؤدي إلى القول بتسلسل الحوادث، لأن التكوين غير المكون. وإذا قلنا بحدوثها فإن ذلك يقتضي القول بحلول الحوادث بذات الله تعالى. وقد سبق أن بينت أن القول بحلول الحوادث بذات الله تعالى - على المعنى الذي ذكرت - هو الرأي السليم كما سيأتي أن القول

_ 1 انظر: العقائد النسفية ص: 89.

بتسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل هو الصحيح أيضاً الذي نكون بموجبه قد أثبتنا لله سبحانه صفات الكمال اللائقة به أزلاً وأبداً. وهذا هو رأي السلف، لأنهم لا يقولون بقدم الصفات مطلقاً، كما لا يقولون بحدوثها مطلقاً بل مترددة بين القدم والحدوث، فنوعها هو القديم، وآحادها هي الحادثة. فالرب تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء والفعل من لوازم الحياة فالرب لم يزل حياً فعالاً كما ذكر ذلك ابن تيمية عن الإمام أحمد بن حنبل، والبخاري صاحب الصحيح، ونعيم بن حماد الخزاعي، وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم1. ولا شك أن هذا القول مستلزم لجواز القول بتسلسل الحوادث، وهو ما التزمه السلف - كما سيأتي وفيما يلي نعرضه للبحث في هذا الموضوع، مبينين الآراء فيه، وموضحين المذهب الذي نراه صحيحاً مدعماً بالأدلة فأقول وبالله التوفيق. الآراء في تسلسل الحوادث: التسلسل ذو شقين: (أ) تسلسل في جانب الماضي. (ب) تسلسل في جانب المستقبل. وقد اختلف الناس في التسلسل بنوعيه على ثلاثة آراء:

_ 1 - منعه في جانب الماضي والمستقبل، وهو قول جهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف. 1 منهاج السنة لابن تيمية1/151-152.

2 - إمكانه في المستقبل دون الماضي، وهو قول كثير من أهل الكلام من الجهمية، والمعتزلة، ومن وافقهم من الكرامية والأشعرية والشيعة وغير هم. 3 - إمكانه في الماضي والمستقبل، وهو قول أئمة أهل الحديث، وأئمة الفلاسفة وغيرهم1. وقد سبق أن ذكرت تعليل البيهقي لقوله بحدوث صفات الأفعال، بأن الأفعال التي اشتقت منها حدثت بعد أن لم تكن وهذا تصريح بمنع التسلسل في جانب الماضي الذي هو محل الخلاف بين السلف والمتكلمين. وقد استدل المانعون له في جانب الماضي بأدلة أشهرها ما يسمى برهان التطبيق ويتلخص هذا الدليل في أنهم يقدرون الحوادث من زمن الهجرة مثلاً إلى ما لا يتناهى، والحوادث من زمن الطوفان إلى ما لا يتناهى أيضاً، ثم يوازنون بين الجملتين فيقولون: إن تساوتا لزم مساواة الزائد للناقص، وهذا ممتنع، وإن تفاضلتا لزم أن يكون فيما لا يتناهى تفاضل وهو محال2. إلا أن هذا الاستدلال غير صالح من وجهة نظر مجيزي التسلسل في الماضي لأنهم يقولون: "لا نسلم أن حصول مثل هذا التفاضل في ذلك ممتنع، بل نحن نعلم أن من الطوفان إلى ما لا نهاية له في المستقبل أعظم من الهجرة إلى ما لا نهاية له في المستقبل، وكذلك من الهجرة إلى ما لا بداية

_ 1 ذكر هذه الآراء الثلاثة شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبويّة1/122. 2 انظر: شرح العقائد النسفية للتفازاني ص: 60، والأربعين في أصول الدين للرازي ط/ الأولى بدائرة المعارف العثمانية ـ حيدر أباد الدكن 1353?.

له في الماضي أعظم من الطوفان إلى ما لا بداية له في الماضي، وأن كلاً منهما لا بداية له، فإن ما لا نهاية له من هذا الطرف وهذا الطرف، ليس أمراً محصوراً محدوداً موجوداً حتى يقال هما متوازنان في المقدار، فكيف يكون أحدهما أكثر. بل كونه لا يتناهى معناه أنه يوجد شيئاً بعد شيء دائماً، فليس هو مجتمعاً محصوراً والاشتراك في عدم التناهي لا يقتضي التساوي في المقدار إلا إذا كان ما يقال عليه إنه لا يتناهى قدراً محدوداً، وهذا باطل، فإن ما لا يتناهى ليس له حد محدود، ولا مقدار معين، بل هو بمنزلة العدد المضعف، فكما أن اشتراك الواحد والعشرة والمائة، والألف في التضعيف الذي لا يتناهى لا يقتضي تساوي مقاديرها، فكذلك هذا. وأيضاً فإن هذين هما متناهيان من أحد الطرفين وهو الطرف المستقبل غير متناهيين من الطرف الآخر وهو الماضي، وحينئذ فقول القائل للزم التفاضل فيما لا يتناهى غلط، فإنه إنما حصل في المستقبل وهو الذي يلينا وهو متناه، ثم هما لا يتناهيان من الطرف الذي لا يلينا وهو الأزل. وهما متناهيان من الطرف الذي يلينا وهو طرف الأبد فلا يصح أن يقال وقع التفاوت فيما لا يتناهى، إذ هذا يشعر بأن التفاوت حصل في الجانب الذي لا آخر له وليس كذلك بل إنما حصل التفاضل في الجانب المنتهي الذي له آخر فإنه لم ينقض"1.

_ 1 ابن تيمية، منهاج السنة النبويّة1/305-306.

والحاصل أن القول بجوار تسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل هو القول الصحيح، فإنه سبحانه لم يزل حياً، والفعل من لوازم الحياة، فلم يزل فاعلاً لما يريد كما وصف بذلك نفسه حيث قال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فعال لما يريد} 1. والآية تدل على أمور: أحدها: أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته. الثاني: أنه لم يزل كذلك، لأنه ساق ذلك في معرض المدح والثناء، على نفسه، وأن ذلك من كماله سبحانه، ولا يجوز أن يكون عادماً لهذا الكمال في وقت من الأوقات. وقد قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 2. ولما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله لم يكن حادثاً بعد أن لم يكن. الثالث: أنه إذا أراد شيئاً فعله، فإن "ما" موصولة عامة أي يفعل كل ما يريد أن يفعله، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله. الرابع: أن فعله وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعل فعل وما فعله فقد أراده. بخلاف المخلوق فإنه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لايريده، فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده. الخامس: إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعال وإن كل فعل له إرادة تخصه، هذا هو المعقول في اانظر فشأنه سبحانه أنه يريد على الدوام ويفعل ما يريد.

_ 1 سورة البروج آية: 15-16. 2 سورة النحل آية: 17.

السادس: إن كان ما صح أن تتعلق به إرادته جاز فعله.. والقول بأن الحوادث لها أوّل يلزم منه التعطيل قبل ذلك وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل ثم صار فاعلاً. ولا يلزم من ذلك قدم العالم، لأن كل ما سوى الله تعالى محدث ممكن الوجود، موجود بإيجاد الله تعالى له، ليس له من نفسه إلاّ العدم، والفقر والاحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى، والله تعالى واجب الوجود لذاته غني لذاته، والغني وصف ذاتي لازم له سبحانه وتعالى1. فالقول بدوام الحوادث أزلاً وأبداً، هو الذي يتفق مع النصوص الشرعية التي تثبت لله سبحانه وتعالى كل كمال، وتنزهه عن كل نقص وأي كمال أوفى من إثبات ما أثبته لنفسه، ونفي ما نفاه عنها. أما ما ذكره الإمام الغزالي من حل لمشكلة التسلسل وهو القول بأن الله تعالى متصف في الأزل بأنه فاعل بالقوة لأنه قادر على الفعل وليس فاعلاً حقيقة، والذي يبينه بقوله: " ... والكشف للغطاء عن هذا أن السيف في الغمد يسمى صارماً، وعند حصول القطع به، وفي تلك الحالة على الاقتران يسمى صارماً، وهما بمعنيين مختلفين فهو في الغمد صارم بالقوة، وعند حصول القطع صارم بالفعل، فمعنى تسمية السيف في الغمد صارماً أن الصفة التي يحصل بها القطع في الحال لا يتصور في ذات السيف وحدته واستعداده، بل لأمر آخر وراء ذاته،

_ 1 شرح الطحاوية ص: 75-76.

وبالمعنى الذي يسمى السيف في الغمد صارماً يصدق اسم الخالق على الله تعالى في الأزل فإن الخلق إذا جرى بالفعل لم يكن لتجدد أمر في الذات لم يكن، بل كل ما يشترط لتحقيق الفعل موجود في الأزل، وبالمعنى الذي يطلق حالة مباشرة القطع للسيف اسم الصارم، لا يطلق في الأزل، ... فقد ظهر أن من قال إنه لا يصدق في الأزل هذا الاسم فهو محق، وأراد به المعنى الأول"1. إلا أن الغزالي ليس محقاً في كلامه هذا، وما ارتضاه من حل إنما يؤدي إلى تصور اتصافه سبحانه بصفة لا كمال فيها، لأن كمال صفة الخلق في إثبات اتصافه سبحانه بها بالفعل لا بالقوة فحسب. إذ الأدلة الشرعية تدل على ذلك. فيجب أن نعتقد بأن الله تعالى فعال لما ييريد، فهو يخلق متى شاء كيف شاء، وصفة الخلق ثابتة له سبحانه أزلاً وأبداً، وقوله سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} استفهام إنكاري دليل على خطأ ما ذهب إليه الغزالي والذي هو عين تصور الماتوريدية في قولهم بقدم الصفات.

_ 1 الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد ص: 167.

الفصل الخامس: صفة الكلام

الفصل الخامس: صفة الكلام لقد كان الحديث حول هذه الصفة موضع اهتمام كبير من البيهقي حيث إن من اطلع على كتابيه اللذين خصصهما لمباحث العقيدة يلحظ هذا الاهتمام الكبير الذي أولاه هذه الصفة، إذ إنه - رحمه الله – خصص في كتاب الأسماء والصفات عدة أبواب طوال، تضم عشرات الصفحات الحافلة بشتى المسائل التي تتعلق بهذه الصفة كما خصص لها في كتاب الاعتقاد باباً من أكبر أبوابه. وليس عجيباً أن يولي البيهقي هذه الصفة عناية خاصة ويبحثها في إفاضة وتحليل، وذلك لاتصالها الوثيق بمسألة خطيرة تبني الجهمية من المعتزلة ترويجهما ونشرها بشتى الأساليب، ألا وهي مسألة القول بخلق القرآن، التي وقعت بسببها المحنة على أهل السنة في عهدي المأمون والمعتصم من خلفاء بني العباس، حتى لقد ضرب الإمام أحمد، وطيف به في الأسواق، مما جعل الناس يتنازعون في هذه المسألة نزاعاً كبييراً، وينقسمون طوائف مختلفة، حتى قيل إن علم الكلام إنما سمي كذلك أخذاً من الكلام في هذه الصفة. وقد ذكر شارح الطحاوية أن الخلاف في هذه القضية ينحصر في تسعة أقوال، ذكرها ناسباً كل قول إلى صاحبه1، إلا أن أشهر تلك الأقوال في نظري - ثلاثة، قال بها ست فرق وهي:

_ 1 انظر: شرح الطحاوية ص: 117-118.

1 - الفلاسفة والصابئة، ويرون أن الكلام هو ما يفيض على النفوس، إما من العقل الفعال، أو من غيره، ويزعمون أن الله إنما كلم موسى من سماء عقله، أي بكلام حدث في نفسه لم يسمعه من خارج1. 2 - المعتزلة والجهمية، زعموا أن معنى كونه تعالى متكلماً أنه خالق للكلام في غيره، وليس الكلام صفة قائمة به2. 3 - الكلابية والأشعرية، ذهبوا إلى أن الله تعالى متكلم بكلام قائم بذاته أزلاً وأبداً، لا يتعلق بمشيئته وقدرته، وقالوا: إن ذلك الكلام معنى واحد في الأزل هو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كان محظور، والخبر عن كل مخبر عنه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وقالوا: معنى القرآن والتوراة والإنجيل واحد، ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، والأمر والنهي والخبر صفات للكلام لا أنواع له3.

_ 1 انظر مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية3/38. وهذا الرأي الذي ذكره ابن تيمية عن الفلافسة هو ـ في نظري ـ أبعد الآراء عن روح الإسلام، إذ إنه مناقض للنصوص الصريحة من الكتاب والسنة التي تدل بوضوح على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوحي إليه، إما بتكليم الله عز وجل له بلا ترجمان بينه وبينه، أو بواسطة ملك يرسله الله تعالى لتبليغ كلامه إلى ذلك النبيّ وليس خيالاً، بل حقيقة كما ورد أن الملك كان يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم صورة رجل، كما قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} سورة الشورى آية: 51. فدعاوى أن الوحي إنما هو تمثل الحقائق الإلهية في نفس النبيّ كلاماً وصوراً، دعوى باطلة. 2 انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبّار، ص: 528. 3 انظر: مذهب الأشاعرة هذا في: شرح المقاصد للتفتازاني2/99، وأصول الدين للبغدادي ص: 106، ولمع الأدلة لإمام الحرمين ص: 91.

هذا هو ملخص الآراء في هذه القضية، بقي أن نعرف مقصدنا الأساسي ألا وهو رأي البيهقي - رحمه الله - فأقول وبالله التوفيق. إن البيهقي لم يخرج في هذه المسألة برأي جديد، يستقل به من أصحابه الأشاعرة، بل إنه وافقهم في كل ما ذهبوا اليه من أن الكلام نفسي، وأنه قديم أزلي، وليس بحرف ولا صوت، وإن هذا الكلام الذي نقرؤه عبارة عن كلام الله القديم، والمعنى فيه واحد. وإليك مصداق ذلك كله من كلامه هو، مع بيان وجه الحق في كل ما طرقه من مسائل هذه القضية. حقيقة الكلام الإلهي يقول البيهقي - رحمه الله – "الكلام هو نطق نفس المتكلم، بدليل ما روينا عن أمير المؤمنين عمررضي الله عنه في حديث السقيفة: فذهب عمر يتكلم، فأسكته أبو بكر رضي الله عنهما، فكان عمر يقول: "والله ما أردت بذاك إلاّ أني قد هيّأت كلاماً أعجبني، وفي رواية أخرى: وكنت قد زّورت مقالة أعجبتني فسمي تزوير الكلام في نفسه كلاماً قبل التلفظ به"1. والبيهقى بهذا يبين أن رأيه في الكلام أنه معان تقوم بنفس المتكلم، واستدل من اللغة بقول عمر رضي الله عنه، وهذا الرأي للبيهقي فيه موافقة كاملة لرأي أصحابه من الإشارة.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 272.

يقول إمام الحرمين الجويني: "الكلام هو القول القائم بالنفس"1. وكذلك قال الجرجاني في شرح المواقف، وهو صريح مذهب الأشاعرة عموماً2. ومما استدل به هؤلاء لهذا الرأي قول الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً قال الآمدي بعد إيراده لهذا البيت: "وهذا الإطلاق والاشتهار دليل على صحة إطلاق الكلام على ما في النفس"3. وإذاً فالبيهقي - رحمه الله تعالى - في قوله بأن الكلام النفسي يوافق الأشاعرة، ويخالف السلف، إذ إن مذهب السلف في هذه المسألة يختلف اختلافاً كبيراً عن رأي هؤلاء لأن حقيقة كلام الله تعالى عندهم أنه ما يسمع منه أو من المبلّغ عنه، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه4. يقول الإمام عثمان بن سعيد الدارمي - رحمه الله -: "فالله المتكلم أولاً وآخراً، لم يزل له الكلام، إذ لا متكلم غيره، ولا يزال له الكلام إذ لا يبقى متكلم غيره، فيقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} 5 أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ وكيف يعجز عن الكلام من علم العباد الكلام، وأنطق الأنام؟

_ 1 الإرشاد للجويني ص: 104. 2 انظر: الموافقة بشرح الجراجاني (قسم الإلهيّات) تحقيق الدكتور أحمد المهدي، ص: 150، وكتاب الأربعين في أصول الدين للغزالي، ص: 14. 3 غاية المرام في علم الكلام للآمدي، ص: 97. 4 شرح الطحاوية ص: 132. 5 سورة غافر آية: 16.

قال الله في كتابه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1. فهذا لا يحتمل تأويلاً غير نفس الكلام… وقال لقوم موسى حين اتخذوا العجل فقال: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً…} 2 وقال: {عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} 3. قال أبوسعيد: ففي كل ما ذكرنا تحقيق كلام الله وتثبيته نصاً بلا تأويل، ففيما عاب الله به العجل في عجزه عن القول والكلام بيان بين أن الله عز وجل غير عاجز عنه، وأنه متكلم وقائل، لأنه لم يكن يعيب العجل بشيء هو موجود فيه"4. وإذاً فالسلف - رحمهم الله تعالى - يرون أن كلام الله تعالى حقيقي في الكلام المسموع، وأنه يتكلم بحرف وصوت، وأن كلامه لا يشبه كلام خلقه، ويرون أن إثبات الكلام نفسياً، كما هو رأي البيهقي - هو إضافة نقص إلى الله سبحانه وتعالى، إذ إن الأخرس له خواطر يريد التكلم بها، ولكنه مع ذلك لا يستطيع، فالله سبحانه وتعالى منزه عن مثل هذا العجز، الذي يعتبر نقصاً في المخلوق، والله تبارك وتعالى منزه عن كل نقص بل أولى بالتنزه عن ذلك النقص من المخلوق، فهو سبحانه متصف بكل صفات الكمال، ومتكلم بمشيئته وقدرته وإرادته، متى شاء كيف شاء.

_ 1 سورة النساء آية: 164. 2 سورة طه آية: 89. 3 سورة الأعراف آية: 148. 4 الردّ على الجهمية للدارمي ص: 72-73، وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 12/529.

هذا عن مذهب السلف المقابل لمذهب البيهقي ومن هو على رأيه. أما ما استدل به البيهقي - رحمه الله - من قول عمر رضي اللله عنه: "زورت في نفسي كلاماً" وما استدل به غيره مما ذهب نفس المذهب من مثل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} 1 فليس لهم فيه حجة، لأن الكلام إذا أطلق فإنما يراد به اللفظ والمعنى جميعاً وليس المعنى وحده، أما إذا قيد الكلام بالنفس ونحوها، فإن دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق، وهنا قيد الكلام بالنفس، ولم يطلقه وهذا دليل على أن الكلام المطلق إنما هو اللفظ والمعنى جميعاً، على أنه يحتمل أنهم قالوا بألسنتهم قولاً خفياً2. ويرد على البيهقي وجميع من وافقه في القول بالكلام النفسي يرد عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" 3. وقوله: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة" 4. واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب، من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام5.

_ 1 سورة المجادلة آية: 58. 2 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية15/35. 3 رواه مسلم. انظر: حديث رقم: 537، 1/381. 4 أورده البخاري في صحيحه باب رقم: 42 من كتاب التوحيد13/496، والنسائي في سننه3/17. 5 شرح الطحاوية ص: 137.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به، أو تعمل به" 1. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤخذ به حتى يتكلم به، والمراد: حتى ينطق به اللسان، باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة، لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب2. فقول البيهقي في الكلام غير صحيح، لما ذكرناه من أدلة قاطعة بأن الكلام إذا أطلق فإنه إنما يراد به اللفظ والمعنى جميعاً وأن حديث النفس لا يسمى كلاماً إلا إذا قيد. أما ما أورده أصحاب البيهقي من استدلال بقول الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد......... فإني أعجب من استدلالهم بقول هذا النصراني على مسألة من أهم مسائل العقيدة الإسلامية ويزيد العجب من ذلك إذا علمنا أنهم كثيراً ما يردون استدلالات السلف على مسائل العقيدة بأنها أحاديث آحاد، كيف وقد قيل إن هذا البيت مصنوع وليس للأخطل، بل مصنوع ومنسوب إليه. وعلى فرض صحته فإنه نصراني، وليس من اللائق أن يستدل بكلام قوم ضلوا في معنى الكلام حيث زعموا أن عيسى عليه السلام هو نفس كلمة الله، واتحد اللاهوت بالناسوت. وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - في نونيته:

_ 1 رواه البخاري في كتاب الإيمان حديث رقم: 6664، 11/549. 2 شرح الطحاوية ص: 137.

ودليلهم في ذاك بيت قاله ... فيما يقال الأخطل النصراني يا قوم قد غلط النصارى قبل في ... معنى الكلام وما اهتدوا لبيان ولأجل ذا جعلوا المسيح إلههم ... إذ قيل كلمة خالق رحمن ولأجل ذا جعلوه ناسوتا ولا ... هوتاً قديماً بعد متحدان1 فما أثبته السلف لله سبحانه وتعالى من صفة الكلام الحقيقي المسموع، ومن أنه يتكلم متى شاء كيف شاء هو ما يتفق مع الأدلة الصحيحة والمعقول الصريح، وما ذهب إليه البيهقي والأشاعرة عموماً من القول بالكلام النفسي لا يسعفه الدليل، ولا يكاد يتصوره عقل. مسألة الحرف والصوت ثم إن البيهقي - رحمه الله تعالى - ينكر أن يكون كلام الله تعالى بحرف وصوت، وفي بيان رأيه هذا يقول: "إن كان المتكلم ذا مخارج، سمع كلامه ذا حروف وأصوات، والباري جل ثناؤه ليس بذي مخارج، وكلامه ليست بحرف، ولا صوت، فإذا فهمناه ثم تلوناه، تلوناه بحروف وأصوات"2. وليس للبيهقي - رحمه الله - دليل على نفي الحرف والصوت عن كلام الله تعالى سوى أنه يرى أن إثبات ذلك يقتضي تشبيه الله بخلقه في أن يكون له مخارج الحروف والأصوات فيكون كلامه يشبه كلام خلقه لأن الحرف والصوت من صفات كلام المخلوقين.

_ 1 شرح الطحاوية ص: 137. 2 الأسماء والصفات ص: 273.

يقول الحافظ ابن حجر معقباً على كلام البيهقي السابق: "وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين، لأنها التي عهد أنها ذات مخارج"1. ولهذه الشبهة أوّل البيهقي حديث الصوت باحتمال أن يكون الصوت للسماء، أو للملك اللآتي بالوحي، أو لأجنحة الملائكة2. وهو بهذا يتفق مع الأشاعرة القائلين بنفي أن يكون الله تعالى متكلماً بحرف وصوت، لأن كلامه سبحانه نفسي، أما الكلام الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نتلوه، فيقرّون بأنه حرف وصوت إلاّ أنهم يرون أنه مخلوق محدث لأنه ليس كلام الله الحقيقي، بل هو عبارة كلام الله القديم3. كما سيأتي ذلك فيما بعد إن شاء الله. وإذا كان كلام الله نفسياً عند البيهقي وأصحابه الأشاعرة وليس بذي حروف وأصوات فما هو الكلام الذي سمعه موسى عليه السلام وكيف سمعه مع أن الله تعالى لا يتكلم به بصوت؟ لقد أجاب البيهقي عن هذا السؤال بأن الله تعالى أزال المانع عن موسى عليه السلام الذي يمنعه من سماع كلامه بلا حرف ولا صوت، وخلق له قوة أدرك بها كلامه القديم وفي هذا المعنى يقول البيهقي - رحمه الله - عند إيضاحه لمعنى قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 4 يقول:

_ 1 فتح الباري لابن حجر العسقلاني13/458. 2 الأسماء والصفات ص: 274. 3 انظر: المواقف بشرح الجرجاني (قسم الإلهيّات) ص: 149-150، وشرح أم البراهين للسنوسي ص: 31. 4 سورة السناء آية: 164.

"فوصف نفسه بالتكلم ووكده بالتكرار فقال تكليماً، ثم ذكر ماكلم الله به موسى وقال بعد ذلك فهذا كلام سمعه موسى عليه السلام بإسماع الحق إياه، بلا ترجمان بينه وبينه، دله بذلك على ربوبيته، ودعاه إلى وحدانيته…"1. ونجد جواباً لذلك أوضح عند السنوسي في شرحه لعقيدة أهل التوحيد الكبرى حيث ذكر أنه تعالى - بفضله - أزال المانع عن موسى عليه السلام، وخلق اسه سمعاً وقواه حتى أدرك به كلامه القديم2. ولذلك يرى الأشاعرة أن كلام الله تعالى لموسى عليه السلام حقيقي بهذا المعنى، وهو ما عبر عنه البيهقي كما تقدم. أما الغزالي من أساطين المذهب الأشعري فإنه يرى أن هذا بحث في الكيفية، وهو أمر غير جائز، فما علينا إلا أن نؤمن بذلك، ولسنا مكلفين بالبحث عنه3. أما السلف فإنهم يقفون من رأي البيهقي في مسألة الحرف والصوت موقفاً معاكساً، لأنهم يرون أن الله تعالى متكلم بحرف وصوت إلا أن كلامه سبحانه وتعالى لا يشبه كلام خلقه، ولا صوته يشبه أصواتهم كما ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: "وقد نص أئمة الإسلام، أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله ينادي بصوت، وأن القرآن كلامه تكلم به بحرف وصوت وليس منه شيء كلاماً لغيره، لا جبريل ولا غيره، وأن العباد يقرؤونه بأصوات

_ 1 الأسماء والصفات ص: 190. 2 شرح عقيدة أهل التوحيد الكبرى للسنوسي ص: 275. 3 الاقتصاد في الاعتقاد ص: 144-145.

أنفسهم، وأفعالهم، فالصوت المسموع من العبد صوت القارىء، والكلام كلام الباري"1. كما ذكر - رحمه الله - أن الكلام في هذه القضية إنما حدث في حدود المئة الثالثة، وانتشر في المئة الرابعة، بمعنى أن الكلام فيها حدث بعد أن لم يكن موجوداً في عهد الصحابة والتابعين، بسبب ما وقع من جدال مرير بين السلف والمعتزلة في مسألة القول بخلق القرآن. كما ذكر أن منشأ الخطأ في هذه المسألة هو عدم التفريق والمباينة بين الخالق وصفاته، والمخلوق وصفاته، وإلاّ فإن السلف متفقون على التمييز بين صوت الربّ، وصوت العبد، ومتفقون على أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم حروفه ومعانيه وأنه ينادي عباده بصوته2. وليس للبيهقي ومن حذا حذوه في نفي الحرف والصوت سوى الشبهة التي سبق ذكرها. أما السلف فإنهم استدلوا على مذهبهم القائل بأن الله يتكلم بصوت بحديث أبي سعيد الخدري الذي رواه البخاري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار…" 3. وأمثاله من الأحاديث.

_ 1 مجموع الفتاوى2/584. 2 مجموع الفتاوى2/585. 3 رواه البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه، حديث رقم:7483، 13/453.

وقد رد الحافظ ابن حجر على القائلين بالنفي بناء على القياس على أصوات المخلوقين، لأنها التي عهد أنها ذات مخارج كالبيهقي وغيره رد عليهم بنفي القياس المذكور، وعدم صحة وروده هنا حيث قال: "ولا يخفى ما فيه إذ الصوت قد يكون من مخارج.. لكن يمنع القياس المذكور، وصفات الخالق لا تقاس على صفة المخلوق، وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به، ثم إما التأويل وإما التفويض 1. هكذا قال أن ابن حجر، وإلاّ فلا التأويل قال به السلف ولا التفويض، بل يثبتون الصوت على الحقيقة من غير تصوّر مشابهة ولا تمثيل. كما ردّ الإمام أحمد على هذه الشبهة الفاسدة رداً مفحماً لا يدع مجالاً لمفكر أو متأمل حيث قال: ".. وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلاّ من جوف وفم وشفتين ولسان، أليس الله قال للسموات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 2، وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} 3، أتراها سبحت: بحروف وفهم، ولسان وشفتين؟ والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} 4، أتراها أنها نطقت بجوف وفم ولسان، ولكن الله أنطقها كيف شاء، من غير أن يقول بجوف ولا فم، ولا شفتين ولا لسان5.

_ 1 فتح الباري لابن حجر13/274. 2 سورة فصلت آية: 11. 3 سورة الأنبياء آية: 79. 4 سورة فصلت آية: 21. 5 الردّ على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل ص: 131.

بمعنى أنه ليس من شرط المتكلم أن يكون ذا مخارج، لهذه الأدلة فبطل بذلك التمسك بهذه الشبهة. وفي إثبات الصوت لله سبحانه وتعالى، ونفي المشابهة بينه وبين أصوات المخلوقين يقول الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: ".. ويذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيض الصوت، ويكره أن يكون رفيع الصوت، وأن الله عز وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فليس هذا لغير الله جل ذكره". وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال الله عز وجل: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} 1 فليس لصفة الله ند ولا مثل ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين2. ثم ذكر الأحاديث التي تدلّ على ذلك3. وقصارى القول أن السلف يرون أن الله تعالى يتكلم بصوت يسمع كما دلت على ذلك الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة، وأن صوته لا يشبه أصوات خلقه، كما أن ذاته لا تشبه ذواتهم، وأن سائر كلام الله تعالى ليس هو الحروف فقط، ولا المعاني. وفي بيان أن كلام الله تعالى هو مجموع الأمرين، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية موضحاً المذهب الصحيح في ذلك: "والصواب الذي عليه سلف الأمة - كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق

_ 1 سورة البقرة آية: 22. 2 خلق أفعال العباد للبخاري ص: 59. 3 انظر: المصدر نفسه ص: 59-60.

أفعال العباد وغيره، وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم أتباع النصوص الثابتة، وإجماع الأمة، وهو أن القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه ليس شيء من ذلك كلاماً لغيره، ولكن أنزله على رسوله، وليس القرآن اسماً لمجرد المعنى، ولا لمجرد الحروف بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط، ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح، ولا مجرد الجسد، بل مجموعهما، وأن الله تعالى يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد، لا صوت القارىء، ولا غيره وإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته، علم المخلوق وقدرته وحياته، فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق، ولا معانيه تشبه معانيه ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الربّ يشبه صوت العبد"1. فهذا هو مذهب السلف الحق، وهو الرأي السديد لاتفاقه مع ما جاء به الوحي الإلهي، الذي يجب أن يكون هو الفيصل عند الاختلاف والحكم عند التنازع، بعيداً عن الأقيسة الباطلة. فما ادعاه البيهقي في هذه المسألة مردود بما تقدم من الأدلة الدامغة التي اعتمدها السلف في هذه القضية، ويكفينا ترجيحاً لمذهبهم أنهم جعلوا الوحي دليلهم، والتوحيد منهجهم، فالله واحد في صفاته، كما أنه واحد في ذاته، لا يشبه أحداً من خلقه، ولا يشبهه أحد منهم.

_ 1 مجموع الفتاوى12/243-244.

قدم الكلام الإلهي يرى البيهقي - رحمه الله - أن كلام الله تعالى قديم قدم الذات الإلهية، إذ الكلام عنده ملازم لذات الله تعالى أزلاً وأبداً، فلا يجوز أن يكون شيء منه حادثاً. يقول- رحمه الله-: "وإنما كلامه صفة له أزلية موجودة بذاته، لم يزل كان موصوفاً به، ولا يزال موصوفاً به"1. واستدل على هذا القول بآيات من كتاب الله تعالى فقال: "ثم إن الله تعالى نفى عن كلامه الحدوث بقوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} 2. فأخبر أنه كان موجوداً مكتوباً قبل الحاجة إليه في أم الكتاب، وقوله عز وجل: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 3. فأخبر أن القرآن كان في اللوح المحفوظ، يريد مكتوباً فيه، وذلك قبل الحاجة إليه، وفيه ما فيه منن الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والخبر والاستخبار وإذا ثبت أنه كان موجوداً قبل الحاجة إليه ثبت أنه لم يزل كان4.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 237. 2 سورة الزخرف آية: 4. 3 سورة البروج آية: 21-22. 4 الأسماء والصفات ص: 229.

أما من السنة النبوية فاستدل بحديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام وفيه: "فبكم وجدت الله كتب التوارة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً. قال آدم فهل وجدت فيها: فعصى آدم ربه فغوى؟ قال نعم.." 1 الحديث. قال البيهقي بعد إيراده لهذا الحديث: "والاختلاف في هذه التواريخ غير راجع إلى شيء واحد، وإنما هو على حسب ماكان يظهر لملائكته ورسله، وفي كل ذلك دلالة على قدم الكلام"2. هذا هو استدلال البيهقي من الكتاب والسنة على قدم الكلام الإلهي. أما من العقل فقد أورد دليلين على هذا الرأي، ونسبهما إلى شيخه أبي بكر بن فورك وهما: أولأ: إن كلامه تعالى لوكان مخلوقاً لوجب أن يتصف بضده قبل خلقه، لاستحالة أن يخلو الحي من الكلام وضده. ثانياً: إنه لوكان الكلام مخلوقاً لما خلا الأمر من أن يكون خلقه تعالى في نفسه أو في غيره، أولاً في محل، والأخير باطل لأن الكلام عرض والعرض لا يقوم بنفسه، وكذا الأوّل لاستحالة قيام الحوادث به تعالى ويترتب على الثاني إضافة الكلام إلى ذلك الغير، فلا يكون كلاماً لله تعالى3.

_ 1 رواه البخاري في كتاب التوحيد حديث رقم: 7515، 13/477، وكتاب الأنبياء رقم: 3409، 6/440، ورواه مسلم في كتاب القدر حديث رقم: 2652، 4/2042. 2 الأسماء والصفات ص: 233. 3 الجامع لشعب الإيمان1/ ل25.

وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى هاتين الحجتين، وذكر أنهما عمدة جميع القائلين بقدم الكلام من الأدلة العقلية كالأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى، وابن الزاغوني، وأمثالهما من الحنابلة وهو عمدة الماتوريدية أيضاً1. كما ذكر أيضاً أنهما عمدة من لا يعتمد في الأصول في مثل هذه المسألة إلاّ على العقليات كأبي المعالي ومتبعيه2. وقد وافق البيهقي بهذا القول في كلام الله تعالى جميع الأشاعرة والماتوريدية3. وهذا الرأي الذي تبناه البيهقي يخالف ما عليه سلف الأمة في هذه المسألة، حيث إن السلف يرون أن كلام الله تعالى قديم النوع حادث الآحاد، وأن الله متكلم متى شاءك يف شاء4. أما عن أدلة البيهقي النقلية التي ساقها ليسند بها رأيه فليس له فيها ما أراد، لأن قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} ، وقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ليس فيها ما يدل على القدم الذي يراه البيهقي. وساق هذه الآيات للاستدلال بها عليه، وإنما دلالتها على وجود القرآن مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل إنزاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان يعتبر أن وجوده

_ 1 ممجموع الفتاوى6/291. 2 المصدر نفسه، وانظر: لمع الأدلة للجويني ص: 90. 3 انظر: شرح أم البراهين للسنوسي ص: 30، وشرح العقائد النسفية للتفتازاني ص: 77، والمسامرة بشرح المسايرة للقدسي ص: 73، وتبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي1/287. 4 شرح الطحاوية ص: 127، ومجموع الفتاوى6/292، و12/372.

في اللوح المحفوظ قبل إنزاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل قدمه، فإن ذلك لا يستقيم له، لأنه اللوح المحفوظ مخلوق حادث دون خلاف. أما حديث احتجاج آدم وموسى فإنه إنما يدل على القدر وحسب. أمّا الحجتان العقليتان فإنهما إنما تدلان على مذهب السلف وهو أن الله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، فتدلان على أن نوع كلامه قديم لا على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن الكلام شيء واحد قديم، ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله1. وما ذكره البيهقي في الحجة الثانية من قوله بأنه لا يصح أن يكون خلق الكلام في نفسه، لاستحالة أن يكون محلاً للحوادث، فإن هذا كلام غير صحيح، فإن السلف وإن لم يقولوا بأن الله تعالى خلق الكلام في نفسه ولا في غيره، إلأ أنهم يقولون بأنه يتكلم به متى شاء كيف شاء، أي أنهم يجوزون حلول الحوادث بذات الله تعالى على معنى أنه سبحانه يفعل متى شاء كيف شاء، لأن فعله متعلق بمشيئته، وهذا لا يلزم منه حدوث النوع. وقد تقدم الكلام على مسألة حلول الحوادث بذات الله تعالى2. أما ما تصوّره هؤلاء من أن مثل هذا القول يلزم منه أن الله تعالى يخلق الفعل في نفسه فإن هذا اللازم باطل، والله تبارك وتعالى منزه عنه باتفاق.

_ 1 مجموع الفتاوى6/292. 2 انظر ص: (250) من هذا البحث.

وحدة الكلام الإلهي وبعد أن قرر البيهقي - رحمه الله - أن الكلام نفسي قديم قائم بذات الله سبحانه وتعالى قرر أيضاً أنه معنى واحد لا يتبعض، إن عبر منه بالسريانية كان إنجيلاً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً. فبعد أن أورد - رحمه الله - حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي قال فيه: "كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" 1. بعد أن أورد البيهقي هذا الحديث الذي هو مناط استدلاله على ما ذهب إليه قال: "وفي هذا دليل على أنهم إن صدقوا فيما فسروا من كتابهم بالعربية كان ذلك مما أنزل إليهم، على معنى العبارة عما أنزل إليهم، وكلام الله تعالى واحد، لا يختلف باختلاف العبارات فبأي لسان قرئ، كان قد قرىء كلام الله تعالى، إلاّ أنه إنما يسمى توراة إذا قرئ بالعبرانية وإنما يسمى إنجيلاً إذا قرئ بالسريانية وإنما يسمى قرآناً إذا قرئ بالعربية على اللغات السبع التي أذن صاحب الشرع في قراءته عليهن"2.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 270، والحديث رواه البخاري في كتاب التوحيد رقم: 7542، 13/516. 2 الأسماء والصفات ص: 270.

ونفى التبعيض عن كلام الله تعالى بقوله: "التبعيض إنما هو في القراءة الدالة عليه، والقراءة غير المقروء"1. فكلام الله تعالى - عند البيهقي - معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض لأن كلام الله الحقيقي عنده هوكلامه القديم الذي يقول عنه إنه هو القائم بنفسه تعالى، فلا ينقسم إلى أمر ونهي، وخبر واستخبار، كما صرح بأن الكلام الذي أنزله الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ليس هوكلامه حقيقة، وإنما هو عبارة عنه، ودال عليه، وقوله بوحدة الكلام الإلهي هو الذي حدا به إلي القول بأنه إنما يكون قرآناً إذا قرئ بالعربية وتوراة إذا قرئ بالعبرانية، وإنجيلاً إذا قرئ بالسريانية على معنى أنه لا فرق بين هذه الكتب الثلاثة، لأنها جميعاً – عنده - عبارة عن كلام الله القديم الذي هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض. وقد أرجع البيهقي كلام الله جميعه إلى معنى الأمر حيث قال: "ففي كلّ موضع يستدل بسياق الكلام على معنى الأمر"2. ورأي البيهقي هو قول جمهور أصحابه الأشاعرة حيث قالوا مثله بوحدة الكلام الإلهي، وإرجماعه إلى معنى الأمر3. ولا ريب أن ما ذهب إليه البيهقي ومن وافقه لا يتفق مع مذهب السلف في هذا الموضوع، لأن السلف - رحمهم الله تعالى - يرون أن كلام الله تعالى أنواع فمنه الأمر، والنهي، ومنه الخبر والاستخبار، ومنه النداء وذلك أمر واضح من واقع كلام الله تعالى.

_ 1 الجامع لشعب الإيمان1/ ل26. 2 الأسماء والصفات ص: 228. 3 انظر: نهاية الأقدام للشهرستاني ص: 307، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص: 134، والعقيدة النظامية لإمام الحرمين ص: 18.

أما قول البيهقي ومن وافقه فإنه واضح البطلان، إذ إن لازمه أن معنى قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 1 هو معنى قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 2 ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، ومعنى سورة الإخلاص هو معنى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} 3. يقول شارح الطحاوية في بيان فساد هذا القول: "وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده، وعلم أنه مخالف لكلام السلف، والحق أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة، وكلام الله لا يتناهى، فإنه لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء، كيف شاء، ولا يزال كذلك قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 4. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 5. ولوكان ما في المصحف عبارة عن كلام الله، وليس هو كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث مسه، ولو كان ما يقرؤه القارىء ليس كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث قراءته، بل كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسن مكتوب في المصاحف"6.

_ 1 سورة الإسراء آية: 32. 2 سورة البقرة آية: 43. 3 سورة المسد آية: 1. 4 سورة الكهف آية: 109. 5 سورة لقمان آية: 27. 6 شرح الطحاوية ص: 130.

أما قول البيهقي بأن كلام الله لا يتبعض فإن هذا قول مردود أيضاً، لأن موسى عليه السلام حين سمع كلام الله تعالى - كما تقدم أنه يرى سماع موسى لكلام الله تعالى على معنى أن الله خلق فيه إدراكاً فهم به ذلك المعنى - فهل موسى عليه السلام فهم كلام الله كلّه أو بعضه؟ فليس له إلاّ أحد جوابين: إما أن يقول بأن موسى فهم كلام الله كلّه فيكون موسى قد علم علم الله، وإما أن يكون فهم بعضه، وإذا قال فهم بعضه - ولن يجد محيصاً عنه - فقد تبعض كلام الله تعالى. وقصارى القول: أن ما ارتضاه البيهقي من القول بأن كلام الله تعالى معنى واحد قديم، لا يتعدد، ولا يتبعض غير منطقي، ولا ينسجم مع الواقع، ولا مع الوحي الذي نراه تارة ينهى، وأخرى يأمر، ومرات ينادي وكل نوع من هذه الأنواع لا يشبه الآخر، بل يختلف عنه، ولو كان الأمر كما قالوا لما كان ثمة حاجة إلى تفسير كلام الله تعالى في تلك الأسفار الضخام، التي هي ثمرة جهد مضن بذله علماء هذه الأمة، بينوا فيها ما أراده الله تبارك وتعالى حين أمر وما أراده حين نهى، ليكون المسلم على بصيرة من مقاصد التشريع.

موقف البيهقي: من مقالة الجهمية والمعتزلة في القرآن وإذا كان البيهقي - رحمه الله - يرى أن كلام الله تعالى إنما هو معنى قائم بذاته سبحانه، يسمع وتفهم معانيه وإن الحروف تكون أدلة عليه، كما تكون الكتابة إمارات الكلام ودلالات عليه1، على معنى أن هذا الكلام الذي نقرؤه، ونكتبه في المصاحف ليس هو كلام الله حقيقة وإنما هو عبارة عنه، فإنه قد وقف من رأي الجهمية والمعتزلة القائل بأن كلام الله مخلوق، نفس الموقف الذي وقفه السلف من أصحاب هذه المقالة الفاسدة مع اختلافه معهم في حقيقة الكلام، كما سبق أن ذكرنا آنفاً. فقد اشتهر عن المعتزلة والجهمية قولهم في القرآن بأنه مخلوق محدث، ويقرر القاضي عبد الجبار المعتزلي هذا الرأي بقوله: "وأما مذهبنا في ذلك فهو أن القرآن كلام الله تعالى، ووحيه، وهو مخلوق محدث"2، بمعنى أن الله تعالى لم يكن متكلماً، وحينما أراد الكلام خلقه في محل، وأسمعه من أراد كما قالوا عن موسى عليه السلام أن سماعه لكلام الله تعالى إنما كان تحت الشجرة التي خلق الله كلامه فيها. وهذا هو رأي الجهمية أيضاً3.

_ 1 الجامع لشعب الإيمان1/ ل26. 2 شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص: 528. 3 انظر: الردّ على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي ص: 93، والتنبيه والردّ على أهل الأهواء والبدع للملطى ص: 125، ومقالات الإسلاميين للأشعري1/338.

وقد استند هؤلاء إلى آيات كريمات، زاعمين دلالتها على ما ذهبوا إليه، فبعد أن أورد القاضي عبد الجبار رأيهم على النحو السابق عقب عليه بالاستدلال له بقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} 1 وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 2، إلى غير ذلك أن الآيات التي ادعوا دلالتها على مذهبهم. وقد كان لهذا الرأي الذي تبناه الجهمية وتابعهم عليه المعتزلة أثره في المحن القاسية التي مني بها المسلمون في حقبة من الزمن، كان علماء السلف فيها في منأى من كل رأي يوجد الفرقة في صفوف الأمة إلا أن المعتزلة أبوا إلا إشاعة هذه المقالة الفاسدة، محاولين إيصالها إلى كل ذهن وترسيخها في كل عقل، حتى لو اقتضى ذلك استخدام القوة من أجل إكراه الناس على اعتناق مذهبهم. وقد حدث ذلك بالفعل كما سبق أن ذكرت من استخدامهم لاثنين من خلفاء بني العباس هما: المأمون والمعتصم، وظلت الفتنة قائمة على أشدها وأئمة الإسلام صامدون في وجه أصحابها، حتى أراد الله تعالى لها الانكشاف على يد المتوكل. وقد كان فشو هذه المقالة الفاسدة التي تمس العقيدة الإسلامية في صميمها سبباً دافعاً لعلماء السلف على الاشتغال بتفنيدها وبيان زيغها، وتوطيد دعائم الحقّ بالحجّة الساطعة، والبرهان القاطع.

_ 1سورة الأنبياء آية: 2. 2سورة الزخرف آية: 3.

وقد كان البيهقي - رحمه الله - مدركاً لخطورة هذه البدعة، كما أدركها غيره من الأئمة، فشدد النكير على أصحابها، وسلك في الرد عليهم نفس الأسلوب الذي اتخذه علماء السنة سواء المعاصرين لهم أو من أتى بعدهم وشارك في الرد. فالبيهقي - رحمه الله - يقرر أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ويرد على الجهمية والمعتزلة بأدلة من القرآن الكريم، ففي معرض الرد عليهم أورد الآية المتضمنة لأنواع الوحي الذي كان ينزل على الأنبياء وهي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} 1. وقال بعد إيرادها: "فلو كان كلام الله لا يوجد إلا مخلوقاً في شيء مخلوق، لم يكن لاشتراط هذه الوجوه معنى، لاستواء جميع الخلق في سماعه من غير الله ووجودهم ذلك عند الجهمية مخلوقاً في غير الله وهذا يوجب إسقاط مرتبة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين، ويجب عليهم إذا زعموا أن كلام الله تعالى لموسى خلقه في شجرة أن يكون من سمع كلام الله من ملك أو من نبي أتاه به من عند الله أفضل مرتبة في سماع الكلام من موسى، لأنهم سمعوه من نبي، ولم يسمعه موسى عليه السلام من الله، وإنما سمعه من شجرة.

_ 1 سورة الشورى آية: 51.

وأن يزعموا أن اليهود إذ سمعت كلام الله من موسى نبي الله أفضل مرتبة من موسى بن عمران صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم لأن اليهود سمعته من نبي من الأنبياء، وموسى صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم سمعه مخلوقاً في شجرة، ولو كان مخلوقاً في شجرة لم يكن الله عز وجل مكلماً لموسى من وراء حجاب، ولأن كلام الله عز وجل لموسى عليه السلام لو كان مخلوقاً في شجرة كما زعموا، لزمهم أن تكون الشجرة بذلك الكلام متكلمة ووجب عليهم أن مخلوقاً من المخلقين كلم موسى، وقال له: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} 1. وهذا ظاهر الفساد"2. وقد أشار البيهقي إلى أن هذه الوجوه هي استدلال أبي الحسن الأشعري والأمر كما قال3. وهكذا ينقض البيهقي - رحمه الله - هذا الرأي الفاسد في كلام الله عامة، وفي القرآن خاصة بإلزامات عقلية لا محيص لهم عنها، تؤدي إلى تهافت رأيهم وظهور زيغه وبطلانه. كما بين فساد هذا الرأي بأن القرآن لو كان مخلوقاً لكان الله تعالى موجداً له بكلمة "كن" كسائر المخلوقات، لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4 وهذا غير صحيح.

_ 1 سورة طه آية: 14. 2 الاعتقاد ص: 33. 3 انظر: الإبانة للأشعري ص: 21-23. 4 سورة النحل آية: 40.

وفي ذلك قال- رحمه الله -: "فلو كان القرآن مخلوقاً لكان الله سبحانه قائلاً له "كن"، والقرآن قوله، ويستحيل أن يكون قوله مقولاً له لأن هذا يوجب قولاً ثانياً، والقول في القول الثاني وفي تعلقه بقول ثالث كالأول، وهذا يفضي إلى ما لا نهاية له، وهو فاسد، وإذا فسد ذلك فسد أن يكون القرآن مخلوقاً"1. كما استدل بتفريق الله سبحانه وتعالى بين القرآن والإنسان في مكان واحد، حيث خص القرآن بالتعليم والإنسان بالتخليق حين قال سبحانه: {الرَّحْمَنِ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الأِنْسَانَ} 2 مبيناً كيف أن هذه الآيات تدل على فساد مذهب الجهمية، بأن الله تعالى جمع بين القرآن والإنسان في هذه الآيات المتعاقبات وخص كلا منهما بأمر لا يشاركه فيه الآخر، فخص القرآن بالتعليم، وخص الإنسان بالتخليق، وهذا يدل على أن القرآن غير مخلوق، لأنه لو كان مخلوقاً لأشركه مع الإنسان في خاصية الخلق، ولقال: "خلق القرآن والإنسان"3. كما استدل بقوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 4 ففرق بين خلقه وأمره بالواو الذي هو حرف الفصل بين الشيئين المتغايرين فدل على أن قوله غير خلقه5.

_ 1 الاعتقاد ص: 32. 2 سورة الرحمن آية: 1-3. 3 الاعتقاد ص: 32. 4 سورة الأعراف آية: 54. 5 الاعتقاد ص: 32.

ومما ردّ البيهقي على هذا القول الباطل ما عاب الله تبارك وتعالى به على المشركين من قولهم عن القرآن الكريم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} 1 حيث إن مات زعم أن القرآن مخلوق فقد جعله قولاً للبشر2. ويزيد هذا الدليل وضوحاً ما ذكره الإمام عثمان بن سعيد الدارمي من استدلاله بهذه الآية على تكفير الجهمية، حيث قال مستدلاً على ذلك: ".. أما من الكتاب فما أخبر الله عز وجل عن مشركي قريش من تكذيبهم بالقرآن، فكان من أشد ما أخبر عنهم من التكذيب بالقرآن، أنهم قالوا "هو مخلوق" كما قالت الجهمية سواء. قال الوحيد وهو الوليد بن المغيرة المخزومي: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} وهذا قول جهم: إن هذا إلا مخلوق وكذلك قول من يقول بقوله، وقول من قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ} 3 {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} 4 و {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} 5 معناهم في جميع ذلك ومعنى جهم في قوله يرجعان إلى أنه مخلوق ليس بينهما فيه من البون كغرز إبرة، ولا قيس شعرة.

_ 1 سورة المدثر آية: 25. 2 الاعتقاد ص: 32. 3 سورة الفرقان آية: 4. 4 سورة المؤمنون آية: 83. 5 سورة ص آية: 7.

فبهذا نكفرهم كما أكفر الله به أئمتهم من قريش، وقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 1 إذ قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} 2 لأن كلّ إفك وتقول وسحر واختلاق، وقول البشر كله لا شك في شيء منه أنه مخلوق، فاتفق من الكفر بين الوليد بن المغيرة وجهم بن صفوان الكلمة والمراد في أنه مخلوق"3. وهذا الإلزام الشديد الذي أورده الإمام الدارمي، بل إنه يرى أنه صحيح مذهبهم، لذلك سواهم في هذا بكفار قريش. أخذ البيهقي هذا الإلزام - كما تقدم - إلا أنه أورده بلهجة أخف وكلام أوجز. والجهمية أتباع جهم بن صفوان الترمذي لا أحد يشك في كفرهم لهذا الرأي، ولآراء فاضحة أخرى، كنفي الأسماء والصفات المتضمن تكذيباً صريحاً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. كما سلك البيهقي في الرد على أصحاب هذه المقالة أسلوباً آخر، هو بيان تهافت استدلالهم الذي اعتمدوا عليه وإليك أمثلة لذلك، فقد سبق أن ذكرت من الآيات التي استدلوا بها على أن القرآن مخلوق قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} . وقد بين البيهقي - رحمه الله - أن استدلالهم غير صحيح وأن للآيتين معنى غير ما أرادوا.

_ 1 سورة المدثر آية: 26. 2 سورة المدثر آية: 25. 3 الردّ على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي ص: 93-94.

فالأولى: ليس المراد منها أن القرآن نفسه محدث، وإنما أراد بالمحدث ذكر القرآن لهم، وتلاوته عليهم، وعلمهم به، فكل ذلك محدث، والمذكور المتلو المعلوم غير محدث، كما أن ذكر العبد لله تعالى محدث، والمذكور غير محدث1. أو أن المراد على أظهر المعاني التي أرجعها إليها الإمام أحمد أن المحدث هو تنزيله على لسان الملك الذي أتى به، فالتنزيل هو المحدث2. أما الآية الثانية: فقد بين البيهقي أيضاً أنها لا تدل على ما ذهب إليه الجهمية والمعتزلة، لأن جعلناه بمعنى: سميناه قرآناً عربياً، وأنزلناه مع الملك الذي أسمعناه إياه حتى نزل به بلسان العرب ليعقلوا معناه3. وهكذا ينقض البيهقي أدلتهم على هذا النمط، يبين أن المراد من الآيات التي استدلوا بها خلاف ما راموا من معنى. وهذا هو أسلوب السلف في رد استدلال المعتزلة على هذا المذهب الخطير، ويتضح لنا ذلك بمطالعة كتبهم مثل: كتاب الردّ على الجهمية للإمام أحمد، والردّ على الجهمية للدارمي، ومناظرة الأخير مع بشر المريس، وبيانه لتهافت آرائهم، وتقبيح السلف لها في كتابه "النقص على بشر المريس" حتى روى عن عبد الله بن المبارك قوله: "لأن أحكي كلام اليهود والنصارى، أحبّ إليّ من أن أحكي كلام الجهمية"4.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 229، والاعتقاد ص: 34. 2 الاعتقاد ص: 34-35. 3 الاعتقاد ص: 34. 4 الردّ على بشر المريس للدارمي ضمن عقائد السلف جمع عليّ سامي النشار ص: 360.

ولبيان موافقة البيهقي للسلف في هذا الأسلوب أورد مثالاً لذلك رد الإمام ابن قتيبة استدلال المعتزلة والجهمية بالآيتين السالفتين حيث قال: " {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} فإن الجعل يكون بمعنيين: أحدهما خلق، والآخر غير خلق، فأما الموضع الذي يكون فيه خلقاً، فإذا رأيته متعدياً إلى مفعول واحد لا يجاوزه كقول الله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 1. فهذا بمعنى: خلق ... وأما الموضع الذي يكون فيه غير الخلق فإذا رأيته متعدياً إلى مفعولين كقوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} 2 أي: صيرتم، وكقوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} 3 ... فإن هم وجدوا في القرآن كله "جعل" متعدية إلى القرآن وحده ليقضوا عليه بالخلق، فنحن نتابعهم. وكذلك المحدث ليس هو في موضع بمعنى مخلوق، فإن أنكروا ذلك فليقولوا في قول الله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أنه يخلق ... وكذلك قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أي: ذكر حدث عندهم لم يكن قبل ذلك"4. وقد أورد البيهقي قدراً كبيراً من أقوال السلف الناطقة بما قرره من أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، فمنها ما رواه عن سفيان بن عيينة - رحمه الله - أنه قال: "أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة منهم عمرو ابن دينار يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق"5.

_ 1 سورة الأنعام آية: 1. 2 سورة النحل آية: 91. 3 سورة البقرة آية: 66. 4 الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة ضمن مجموعة عقائد السلف ص: 234-235. 5 الأسماء والصفات ص: 245، وخلق أفعال العباد للبخاري ص: 7.

وما رواه عن جعفر بن محمّد أنه سئل: يا ابن رسول الله، ما تقول في القرآن خالق أم مخلوق؟ قال: أقول فيه ما يقول أبي وجدي: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله عز وجل1. وما رواه عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال: "القرآن كلام الله ليس بمخلوق"2. إلى غير ذلك مما أورده عن السلف من أقوال كلّها مصرحة بمذهبهم في أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق. فرأي هؤلاء الجهمية في القرآن باطل باتفاق السلف والأشاعرة بمن فيهم البيهقي، وإذا كان الرأيان قد تشابها في النظرة إلى رأي الجهمية، فإن القارئ قد يظن أن الفريقين يدينان برأي واحد في القرآن، إلا أن الأمر خلاف ذلك، فبين الرأيين بون شاسع، إذ يتضح لنا من مجموع ما تقدم من نصوص في بحث مسألة الكلام بجميع جوانبها أن البيهقي ومعه الأشاعرة يرون أن هذا القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا ليس هو كلام الله القديم وإنما هو عبارة عنه، ودلالة عليه، وهو مخلوق، لأن كلام الله الحقيقي نفسي قديم، ونفوا أن يكون كلام الله الحقيقي هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد بين ذلك الآمدي- من أساطين الأشاعرة- حين قال مفرقاً بين مذهبه هو وأصحابه وبين مذهب المعتزلة: "وأما ما قيل من أن القرآن معجزة الرسول فيمتنع أن يكون قديماً فتهويل لا حاصل له، فإنا مجمعون على أن القرآن الحقيقي ليس بمعجزة الرسول، وإنما الاختلاف في

_ 1 الأسماء والصفات ص: 247، وخلق أفعال العباد للبخاري ص: 8. 2 الأسماء والصفات ص: 248.

أمر وراءه وهو أن ذلك القرآن الحقيقي ماذا هو؟ فنحن نقول إنه المعنى القائم بالنفس والخصم يقول: إنه حروف وأصوات أوجدها الله تعالى، وعند وجودها انعدمت وانقضت، وأن ما أتى به الرسول، وما نتلوه نحن ليس هو ذلك وإنما هو مثال له، على نحو قراءتنا لشعر المتنبي، وامرئ القيس، فإنه ليس ما يجري على ألسنتنا هو كلام امرئ القيس، وإنما هو مثله"1. ومعنى هذا أن الكلام الذي بين أيدينا يطلق عليه قرآناً من باب تسمية الدلالات باسم المدلولات وإلا فإن القرآن الحقيقي قائم بذات الله تعالى لا ينفك عنه أزلاً وأبداً. وهذا هو مذهب البيهقي كما يفهم من كلامه الذي أوردته في صدر هذا المبحث وفي المباحث السابقة. أما السلف فإنهم يرون أن هذا القرآن الذي بين أيدينا هو كلام الله حقيقة حروفه ومعانيه، وهو صفة من صفاته لأنه كلام الله تعالى وكلامه سبحانه قديم النوع حادث الآحاد فالله تعالى تكلم به، وأسمعه الملك فنزل به على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والكلام لمن قاله مبتدءا، لا لمن قاله مبلغاً، وهو عند السلف صفة ذات ملازمة لذات الله تعالى لم تخل منها في وقت من الأوقات، وهي صفة فعل أيضاً، لأنه متكلم متى شاء كيف شاء بحرف وصوت، كما ورد ذلك في النصوص الصريحة. وهكذا فقد كان رأي السلف جامعاً لما عند الفريقين من حق فخرجوا برأي واضح الموافقة لصريح المعقول، وصحيح المنقول. فالخلاف

_ 1 غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص: 107، وانظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص: 149.

بين البيهقي وأصحابه من جانب وبين السلف من جانب آخر ينحصر - هنا - في حقيقة الكلام ما هو؟ وإلا فالكل يقول إن القرآن الحقيقي غير مخلوق، وإنما قال الأشاعرة بخلق القرآن المنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم، لأنهم يقولون إنه ليس هو القرآن الحقيقي، وإنما هو عبارة عنه ودلالات عليه، أما القرآن الحقيقي فهو نفسي قديم وهو غير مخلوق، وهذا رأي واضح البطلان - كما تقدم عند الكلام على المبحث الخاص بحقيقة الكلام.

الفصل السادس: الصفات الخبرية

الفصل السادس: الصفات الخبرية تمهيد: تسمى هذه الصفات خبرية، لأن طريق إثباتها لله تعالى الخبر الصادق الذي جاء به الكتاب، أو السنة الصحيحة، أما العقول فليس لها دور في إثإت هذه الصفات سوى التصديق بها بعد ثبوتها بطريق الوحي. وقد وردت نصوص قرآنية بإثبات بعض الصفات، ثم جاءت السنة الصحيحة بإثبات ما أثبته القرآن الكريم، وبإثبات صفات أخرى لم يتعرض القرآن الكريم لها، إلا أن الكل وحي فيجب علينا إثبات ذلك كله لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي القرآن ومثله معه فهو لا ينطق عن الهوى. وهذه الصفات الخبرية كسالفتها قسمان: (أ) ذاتيّة. (ب) فعليّة. فالذاتيّة منها: كالوجه، واليدين، والعين، والقدم، والنفس والإصبع، والساق، وغير ذلك. والفعليّة: مثل النزول، والاستواء، والإتيان، والمجيء، والمحبة، والرضا، والغضب، والضحك، وغيرها. والناس فيها فريقان: (أ) فريق المثبتين. (ب) فريق النفاة. كما هو الحال في الصفات العقلية السالفة.

(أ) أما المثبتون فقسمان: أحدهما: يجرون هذه الصفات على ظاهرها، ولكن دون تمييز بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فهؤلاء طائفة المشبهة، وهم أصناف شتى وقد ذكر أهل العلم مقالاتهم تفصيلاً، مثل الشيخ عبد القاهر البغدادي، وأبي الحسن الأشعري، وغيرهما. وأشهر هؤلاء المشبهة الهاشمية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي وأصحاب هشام بن سالم الجواليقي1. وداود الجواربي، ومقاتل بن سليمان2. ومن هذه الطائفة أيضاً الكرامية، أصحاب أبي عبد الله محمّد بن كرام السجستاني، الذين غالوا في الإثبات إلى حد التجسيم. وأول من أظهر عقيدة التشبيه طائفة من الرافضة تسمى السبئية أتباع عبد الله بن سبأ، اليهودي الذي أظهر الإسلام، من أجل الكيد لأهله، مع بقائه على يهوديته إذ إن هذه الفرقة الضالة ألهّت علياً رضي الله عنه، وشبهوه بذات الإله الحق، فلما أحرق قوماً منهم لهذا السبب قالوا له: الآن علمنا أنك إله، لأن النار لا يعذب بها إلا الله كما ذكر ذلك عنهم البغدادي3.

_ 1 انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري1/106-109. 2 المصدر نفسه ص: 283. 3 الفرق بين الفرق، ص: 233، تحقيق محمّد عبد الحميد.

وثانيهما: يجرون هذه الصفات على ظاهرها أيضاً فيثبتونها على حقيقتها لله سبحانه وتعالى كما أثبتوا غيرها من الصفات، إلا أنهم يجرونها على ظاهرها اللائق بجلال الله، فلا يشبهونه بخلقه لأنهم يثبتون لله تعالى ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، إثباتاً لا تمثيل فيه، ولا تشبيه وينزهونه عن مشابهة خلقه تنزيهاً بريئاً عن التعطيل، فاتخذوا طريقاً وسطاً بين المؤولة المعطلة والمشبهة المجسمة، وهؤلاء هم السلف، الذين اتبعوا طريق الوحي من كتاب وسنة، إثباتاً ونفياً، فالإثبات طريقهم لأنه الذي صرح به الوحي، والتنزيه كذلك، لأنه ملازم لذلك الإثبات، عملاً بقوله تعالى في جانب التنزيه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله في تمام الآية عن جانب الإثبات: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1 وقوله سبحانه في جانب التنزيه أيضاً: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 2 وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 3 فكان إثباتهم للصفات عملاً بآيات الإثبات، كما كان تنزيههم له سبحانه عملاً بآيات التنزيه. وبذلك وفق أهل السنة للعمل بجميع النصوص الواردة في الصفات، نفياً وإثباتاً، فأصابوا الحق والسداد. وسيأتي عند الكلام عن مذهب البيهقي في هذه الصفات زيادة إيضاح لمذهب السلف إن شاء الله.

_ 1 سورة الشورى آية: 11. 2 سورة مريم آية: 65. 3 سورة الإخلاص آية: 4.

(ب) فريق النفاة: ويتمثل هؤلاء في الجهمية والمعتزلة، وبعضه الأشاعرة. 1 - الجهمية: وقد تقدم القول عنهم بأنهم قد نفوا جميع الصفات العقلية منها والخبرية، بحجّة أن في إثباتها تشبيهاً لله بخلقه، فلم يروا حلاً لذلك إلا النفي المحض، وهذه الفرقة - كما هو ظاهر من أمرها - هي أكثر الفرق تطرفاً في باب القول في الصفات. 2 - المعتزلة: ويذهب هؤلاء إلى نفي الصفات الخبرية، وتأويل النصوص الواردة بها، لأنهم يرون أن الأدلة التي ثبتت بها وهي النصوص الشرعية من كتاب وسنة، يرون هذه الأدلة أدلة ظنية، وما لم يقم عليها دليل عقلي - الذي هو الدليل القطعي عندهم - فلا يجوز إثباتها، ويرون أيضاً أن تلك الأدلة الظنية - في زعمهم - معارضة بالدليل القطعي وهو دليل العقل القائم على أن الله ليس جسماً، وإثباتها يرونه تجسيماً، لذلك أولوا الاستواء بالاستيلاء، والعين بالعلم، والوجه بالذات، واليد بالقوة والجنب بالطاعة والساق بالشدة، إلى غير ذلك من التأويلات الباطلة التي طرحوها لأمثال هذه الصفات1.

_ 1 انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبّار ص:226-229، والمختصر في أصول الدين للقاضي عبد الجبّار أيضاً، ضمن رسائل العدل والتوحيد1/185-190.

3 - الأشاعرة: وبالرغم من اتفاق هؤلاء على إثبات الصفات العقلية، كما عرفنا ذلك في الفصل السابق إلا أنهم يختلفون في إثبات الصفات الخبرية. فالمتأخرون منهم: كأبي المعالي الجويني، والغزالي والرازي لا يثبتونها، ويؤولون ما ورد فيها من آيات وأحاديث صحيحة لأمرين هما عين السبب الذي دفع المعتزلة إلى نفيها. الأول منهما: أن إثباتها يقتضي تشبيه الله تعالى بخلقه ويؤدي إلى التجسيم. وثانيهما: أن الأدلة عليها ظنية، لأنها تتمثل في مجرد ظواهر شرعية، وهذه معارضة عندهم بما يعتبرونه أدلة قطعية وهي الأدلة العقلية. وبناء على هذا اختلفت نظرتهم حيال الأدلة الشرعية الدالة على الصفات الخبرية على رأيين: الأوّل: تفويض العلم بمعانيها إلى الله جل شأنه. الثاني: أو تأويل تلك النصوص، بصرفها عن ظواهرها إلى معان تليق بالله تعالى حسب زعمهم. وفي بيان هذين المسلكين يقول سعد الدين التفتازاني: " ... أما ظواهر الشرع فكقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} 1، و {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} 2. و {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 {وَيَبْقَى

_ 1 سورة الفجر آية: 22. 2 سورة البقرة آية: 210. 3 سورة طه آية: 5.

وَجْهُ رَبِّكَ} 1. و {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 2، و {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 3… إلى غير ذلك. وكقوله عليه السلام للجارية الخرساء: "أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فلم ينكر عليها، وحكم بإسلامها…" إلى أن قال: والجواب: أنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية، فيقطع بأنها ليست على ظواهرها، ويفوض العلم بمعانيها إلى الله تعالى، مع عتقاد حقيقتها جرياً على الطريق الأسلم، الموافق للوقف على لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} 4، أو تؤول تأويلات مناسبة، موافقة لما عليه، الأدلة العقلية، على ما ذكر في كتب التفاسير، وشروح إلأحاديث سلوكاً للطريق الأحكم الموافق للعطف في: {إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} 5. ويبدو من هذا أن علماء الأشاعرة لم يتفقوا على تأويل نصوص الصفات الخبوية، بل منهم من ذهب إلى القول بالتفويض فيها، كما أن منهم من انتهى في آخو أمره إلى الرجوع إلى مذهب السلف، وهو الإثبات كما ذكر ذلك ابن القيم وابن تيمية عن الجويني إمام الحرمين"6.

_ 1 سورة الرحمن آية: 27. 2 سورة طه آية: 39. 3 سورة ص آية: 75. 4 سورة آل عمران آية: 7. 5 شرح المقاصد للتفتازاني2/67. 6 انظر: مدارج السالكين لابن القيم4/311، والحمويّة الكبرى لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى5/100.

هذا عن مذهب المتأخرين من الأشاعرة. أما المتقدمون: مثل رئيسهم أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري الذي ينتسبون إليه، ويدعون أنهم على مذهبه وأبي بكر الباقلاني، فإنهم يثبتون الصفات الخبرية من الاستواء، والوجه واليدين، وغيرها مما وصف الله تعالى به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة الصحيحة الصريحة. كما ذكر ذلك في كتاب الإبانة حيث قال: " ... قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، عند ظهور الضلال، ورفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدعة المبتدعات ... وجملة قولنا ... إن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وإن له عيناً بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 1 …" إلى آخر ما ذكره في كتاب الإبانة مما يتفق مع مذهب السلف. وقد ذكر مثل هذا في كتابه مقالات الإسلاميين2.

_ 1 أبو الحسن الأشعري، الإبانة عن أصول الدين ص: 8، 9. 2 1/345.

وأما الباقلاني، أبو بكر محمّد بن الطيب، الذي وصفه ابن تيمية رحمه الله بأنه أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري ليس فيهم مثله، لا قبله، ولا بعده1. فإنه ذكر في كتاب التمهيد أنه يثبت جميع الصفات الذاتية والفعلية العقلية والخبرية2. وقد نقل عنه ابن تيمية وابن القيم من كتاب الإبانة له مايشبه كلامه في التمهيد، وذكر ابن القيم عنه ما كتبه في "رسالة الحيرة" مما يطابق كلامه في كتابيه التمهيد والإبانة3. وبعد عرضنا للآراء حول الصفات الخبرية، ننتقل إلى عرض رأي البيهقي فيها، حتى يمكننا أن نقف على حقيقة موقفه منها، وإلى أي هذه المذاهب انتهى. ولنبدأ أولاً ببيان مذهبه في صفات الذات الخبرية الذي يمثل المبحث الأول من هذا الفصل.

_ 1 مجموع الفتاوى5/98. 2 راجع كتاب التميهيد للباقلاني ص:258، وما بعدها طبع المكتبة الشرقية ببيروت 1957م. 3 ابن تيمية، مجموع الفتاوى5/98، 99، وابن القيم، اجتماع الجيوش الإسلامية، ص: 212، 213، طبع مكتبة الرياض الحديثة، بدون تاريخ.

المبحث الأول: صفات الذات الخبرية

المبحث الأوّل: صفات الذات الخبريّة لقد تناول البيهقي - رحمه الله - هذه الصفات بالكلام على كل صفة منها تفصيلاً، حيث عقد لكلّ واحدة منها باباً خاصاً بها، أورد فيه ما أمكنه جمعه من النصوص الواردة بذكرها، مبيناً وجهة نظره في تلك النصوص، وهل هي تدل على إثبات تلك الصفة على ظاهرها المتبادر منها أم أن المقصود بها معنى آخر غير الظاهر، فقد نهج عند كلامه على هذه الصفات منهجين: أحدهما: منهج الإثبات. وثانيهما: منهج التأويل. ويتجلّى رأيه في ترجمته للصفة، حيث يفرق فيها بين ما يرى إثباته وما يرى تأويله. فما أثبته منها يترجم له بقوله: "باب ما جاء في إثبات كذا" كما فعل في صفة الوجه، واليدين، والعين. أما ما يرى تأويله فيترجم له بقوله: "باب ما جاء في كذا، أو في ذكر كذا"، وهو ما فعله في بقية الصفات. وقد سبق أن أشرت إلى هذه الطريقة عند الكلام على منهجه وذلك في الباب الأوّل من هذا البحث. ومن أجل بيان التفريق بين النظريتين سيكون الحديث فيما يأتي عن الصفات التي أثبتها أولاً، ثم أورد أمثلة الصفات التي اختار فيها القول بالتأويل.

صفة الوجه هذه الصفة هي إحدى الصفات الخبرية التي أثبتها البيهقي - رحمه الله - فقد عقد لها باباً ترجم له بقوله: "باب ماجاء في إثبات الوجه صفة لا من حيث الصورة لورود خبر الصادق به"1. وقد كان إثباته لهذه الصفة إثباتاً حقيقياً، على وجه يليق بجلال الله وعظمته. وكانت أدلته لإثبات هذه الصفة شرعية بحتة، نظراً لكونها من الصفات التي لا تثبت إلاّ بالسمع، فأورد كثيراً من الآيات والأحاديث الناطقة صراحة بإثباتها. فمما أورده من آيات قرآنية قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} 2. وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} 3. وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} 4. إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ذكر الوجه صفة لله تعالى. أما من السنة فاستدل بأحاديث كثيرة، نورد هنا بعضاً منها.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 301. 2 سورة الرحمن آية: 27. 3 سورة القصص آية: 88. 4 سورة الروم آية: 39.

فمنها: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} قال: "أعوذ بوجهك"، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: "أعوذ بوجهك"، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} 1 قال: "هاتان أهون وأيسر" 2. وحديث أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" 3. وهذا الحديث كما أثبت به البيهقي - رحمه الله - صفة الوجه لله تبارك وتعالى، فقد أثبت به صفة الكبرياء أيضاً، حيث قال بعد إيراده لإثبات صفة الوجه: قوله "رداء الكبرياء" يريد به صفة الكبرياء، فهو بكبريائه وعظمته لا يريد أن يراه أحد من خلقه بعد رؤية يوم القيامة حتى يأذن لهم بدخول جنة عدن، فإذا دخلوها أراد أن يروه فيروه في جنة عدن4.

_ 1 سورة الأنعام آية: 65. 2 الأسماء والصفات ص: 301-302، ورواه البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه، انظر: صحيح البخاري مع شرحه، فتح الباري حديث رقم:7406،13/388. 3 الأسماء والصفات ص: 302. والحديث رواه متفق عليه. انظر: صحيح البخاري كتاب التوحيد، حديث رقم: 7444،13/423، وصحيح مسلم رقم: 296 ((إيمان)) 1/163. 4 الأسماء والصفات ص: 302.

والأحاديث التي أوردها البيهقي في هذا الباب كثيرة، إلا أننا نكتفي بهذين الحديثين، إذ القصد التمثيل لأدلته لا استقصاؤها. وهذه نصوص صريحة صحيحة من السنة النبوية المطهرة وذكرت قبلها آيات من كتاب الله، فالكل تضافر على إثبات هذه الصفة لله سبحانه، مع أنه لو لم يرد في ذلك إلا آية واحدة، أو حديث صحيح واحد لكان فيه غنية كيف وقد وردت الأدلة بهذه الكثرة من الكتاب والسنة جميعاً. وقد سبق البيهقي إلى هذا الرأي أستاذه ابن فورك حيث قال وهو بصدد الكلام عن صفة الوجه: "وذلك من الصفات التي لا سبيل إلى إثباتها إلاّ جهة النقل.. وذهب أصحابنا إلى أن الله عز وجل ذو وجه، وأن الوجه صفة من الصفات القائمة به ... والمقصود بالوجه إثبات وجه بخلاف معقول الشاهد، كما أن إثبات من أضيف إليه الوجه إثبات موجود بخلاف معقول الشاهد"1. وهذا هو مذهب الأشعري أيضاً حيث قال: "من سألنا فقال أتقولون إن لله سبحانه وجهاً؟ قيل له: نقول ذلك خلافاً لما قاله المبتدعون، وقد دل على ذلك قوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} 2. وهذا الرأي الذي ارتضاه البيهقي وسبقه إليه الأشعري، وابن فورك مخالف لرأي أصحابه الأشاعرة في هذه القضية، فإنه وإن وجد من متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم من أثبتها، فإن معظم متأخريهم ذهبوا إلى تأويلها بالذات.

_ 1 مشكل الحديث ص: 131-132. 2 الإبانة ص: 35.

يقول البغدادي: "والصحيح عندنا أن وجهه ذاته". ويفسّر قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وبأن معناه: ويبقى ربك. وقال الآمدي: "المعنى بالوجه الذات، ومجموع الصفات، وحمله عليه أولى"1. وذهبت المعتزلة إلى مثل ذلك، فأبو الهذيل العلاف يرى أن لله وجهاً هو هو، كما ذهب النظام إلى أن ذكر الله تعالى للوجه على سبيل التوسع، لا أن ذلك يعني إثبات صفة، وإنما المقصود بالوجه الذات، فيكون معنى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} : ويبقى ربك2. وممن ذهب إلى تأويل الوجه بالذات الشيخ أبو الفرج بن الجوزي من الحنابلة، وذلك في كتابه: "دفع شبه التشبيه"، حيث أكد في هذا الكتاب بأن المراد بالوجه الذات، لأنه لو كان المراد به صفة زائدة على الذات لكان المعنى المراد في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} أن ذاته تهلك إلا وجهه3. وقد فسّر قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} في كتابه زاد المسير بأن المراد: ويقى ربك4. وقد زعم أن هذا هو مذهب الإمام أحمد، وأن لا أحد يعرف مذهبه سواه. إلا أن إثباته لصفة الوجه في مجالسه على الطريقة التي أثبته بها

_ 1 غاية المرام ص: 140. 2 مقالات الإسلاميين للأشعري1/245-248. 3 دفع التشبيه ص: 31، تحقيق محمّد زاهد الكوثري. 4 زاد المسير8/114، طبع المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، 1382?.

السلف، حيث قال راداً على المعتزلة في تأويلهم لهذه الصفة: " ... وقول المعتزلة إنه أراد بالوجه الذات فباطل لأنه أضافه إلى نفسه، والمضاف ليس كالمضاف إليه، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه.."1. وتفويضه لهذه الصفة وغيرها من الصفات الخبرية في كتابه تلبيس إبليس، حيث قال بعد أن أورد تفسير الآيات الواردة في الصفات: " ... والذي أراه السكوت عن هذا التفسير أيضاً، إلا أنه يجوز أن يكون مراداً"2. ذلك كلّه أكبر شاهد على اضطرابه في قضية الصفات، وجهله بمذهب الإمام أحمد، فلا يكون حجة على مذهب الحنابلة، ولا ناطقاً أميناً بآرائهم، رحمه الله، وغفر لنا وله ولجميع المسلمين. وقد أوضح البيهقي - رحمه الله - كيف أن الآية الأولى وهي قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} صريحة في إثبات صفة الوجه، صراحة لا تدع مجالاً لمتأول. لأن الله تبارك وتعالى أضاف الوجه إلى الذات، ثم وجه النعت إلى الوجه. ولو كان الأمر كما قال هؤلاء المؤولون من أن الوجه هو الذات فيكون صلة لا صفة لقال بعد ذلك {ذُو الْجَلالِ ... } إلا أن رفعه لكلمة "ذو" يدل على أنه نعت للوجه وأن الوجه صفة لله تبارك وتعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} فأضاف الوجه إلى الذات، وأضاف النعت إلى الوجه، فقال {ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ}

_ 1 مجالس ابن الجوزي ص: 2-3، مخطوط مصوّر بمعهد المخطوطات، التابع لجامعة الدول العربية، القاهرة، رقم: 216 تفسير. 2 تلبيس إبليس لابن الجوزي ص: 96.

ولو كان ذكر الوجه صلة، ولم يكن للذات صفة لقال "ذي الجلال والإكرام" فلما قال: {ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} علمنا أنه نعت للوجه، وهو صفة للذات1. ولا ريب أن ما ذكره البيهقي - رحمه الله - عن صفة الوجه هو بعينه مذهب السلف رضوان الله عليهم، كما قال الإمام ابن خزيمة: "نحن نقول - وعلماؤنا جميعاً في الأقطار ـ أن لمعبودنا عز وجل وجهاً كما أعلمنا الله في محكم تنزيله، فذواه بالجلال والإكرام، وحكم له بالبقاء، ونفى عنه الهلاك، ونقول: إن لوجه ربنا عز وجل من النور والضياء، والبهاء ما لو كشف حجابه لاحترقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، محجوب عنه أبصار أهل الدنيا، لا يراه بشرما دام في الدنيا الفانية، ونقول: إن وجه ربنا القديم لم يزل بالباقي الذي لا يزال فنفى عنه الهلاك والفناء"2. كما ذكر ابن خزيمة - رحمه الله - في كلامه عن وجهة الاستدلال بالآية {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} عين ما ذكره البيهقي3. كما ذكر أن النعت في الآية للوجه الإمام ابن كثير، حيث قال: "وقد نعت تعالى وجهه الكريم بأنه ذو الجلال والإكرام" أي: هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف4.

_ 1 الاعتقاد ص: 29. 2 ابن خزيمة، محمّد بن إسحاق، كتاب التوحيد ص: 22، 23. 3 المصدر نفسه ص: 22. 4 تفسير القرآن العظيم لابن كثير4/273.

كما ذكر - رحمه الله - أن جميع الآيات الوارد فيها ذكر الوجه لله تعالى إنما هو دليل على ثبوته صفة له، كالآية السابقة سواء1. وبهذا المبدأ أخذ البيهقي - رحمه الله - إلا أنه يرى أن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الْلَّهِ} ليست من ذلك النوع، لأن معنى الوجه فيها ليس هو الصفة، بل يرى أن له معنى آخر. فأما أن يكون معنى الوجه في هذه الآية الجهة كما رواه عن الشافعي، أو القبلة كما هو رأي مجاهد. فأما أن يكون معناه الوجه الذي هو صفة الله فلا. فقد قال رحمه الله بعد سوقه للأدلة التي أثبت بها الصفة: "وأما قوله: عز وجل {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الْلَّهِ} فقد حكى المزني عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية يعني - والله أعلم - فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه"2. كما ذكر بسنده عن مجاهد أنه قال في تفسير هذه الآية:"قبلة الله، فأينما كنت في شرق أو غرب فلا توجهن إلا إليها"3. وإنما أشار - رحمه الله - بذلك إلى أن هذه الآية ليست من آيات الصفات، لذلك ينبغي تفسيرها على أحد الرأيين السالفين، وهو تفسير لم يبتدعه البيهقي، بل رواه عن إمامين جليلين من أئمة السلف. ولكن، هل ما رواه عن هذين الإمامين الشافعي ومجاهد من أن الوجه المذكور في هذه الآية، ليس هو الوجه الذي يراد به الصفة وبه

_ 1 المصدر نفسه. 2 الأسماء والصفات ص: 309. 3 المصدر نفسه. وانظر: هذا التفسير عن مجاهد وقتادة في جامع البيان للطبري محمّد ابن جرير1/506.

تخرج هذه الآية عن أن تكون من آيات الصفات التي لا يجوز تأويلها هل ذلك متفق عليه بين السلف جميعاً؟. الواقع أن ذلك ليس محل اتفاق، بل للسلف في المسألة رأيان: أحدهما: يمثّل الاتجاه السابق في تفسير الآية، لأنه في نظرهم لا يعد خروجاً عن المنهج السلفي في آيات الصفات، إذ إن هذه الآية ليست منها. والآخر: يرى أن من الأولى أن نسلك بهذه الآية مسلك بقية الآيات الواردة في الصفات، سداً لذريعة التأويل الذي جنى جناية عظمى على العقيدة الإسلامية، وإليك زيادة إيضاح للرأيين: الرأي الأول: وهو ما يمثله القول بأن هذه الآية ليست من آيات الصفات، يقول بأن سياق الآية يدل على أن المراد بالوجه فيها الجهة، أو القبلة وهما معنيان متقاربان، لأن القبلة جهة - وهذا هو الرأي الذي سبق أن ذكرت أن البيهقي ارتضاه ورواه عن مجاهد والشافعي. وهو ما ذهب إلى القول به شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذ ذكر أن بعض الناس قد اتهم السلف بتأويل صفة الوجه محتجين بما رواه البيهقي هنا في معنى الآية، مبيناً أنه التفسير الصحيح الذي يتفق مع سياقها وأنه إطلاق جائز في اللغة. يقول - رحمه الله -: " ... أحضر بعض أكابرهم كتاب الأسماء والصفات للبيهقي - رحمه الله تعالى - فقال: هذا فيه تأويل الوجه عن السلف. فقلت: لعلك تعني قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا

فَثَمَّ وَجْه الْلَّهِ} فقال: نعم، قد قال مجاهد والشافعي يعني قبلة الله، فقلت نعم. هذا صحيح عن مجاهد والشافعي وغيرهما وهذا حق، وليست هذه الآية من آيات الصفات، ومن عدها في الصفات فقد غلط، كما فعل طائفة، فإن سياق الكلام يدل على المراد حيث قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الْلَّهِ} والمشرق والمغرب الجهات، والوجه هو الجهة، يقال: أي وجه تريد؟ أي: أي جهة، وأنا أريد هذا الوجه، أي هذه الجهة، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} ولهذا قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الْلَّهِ} أي تستقبلوا وتتوجهوا"1. وهذا هو تفسير ابن عباس الذي ذكره عنه ابن أبي حاتم واختيار الإمام الشوكاني2. كالرأي الثاني: وهو القائل بأن هذه الآية من آيات الصفات بها ثبتت صفة الوجه لله تعالى، شأنها في ذلك شأن سائر الآيات الواردة فيها ذكر الوجه، وممن انتصر لهذا الرأي الشيخ ابن قيم الجوزية، الذي أثبت الوجه صفة حقيقية لله تبارك وتعالى بستة وعشرين دليلاً. فقد ذكر- رحمه الله - أنه وإن وجد من السلف من فسر الوجه في هذه الآية دون غيرها بأنه قبلة الله، فإنهم لم يقولوا ذلك إلاّ في هذا الموضع فقط، وعلى فرض صحة ذلك فإنه لا يجوز أن يقال في غيره. مع

_ 1 ابن تيمية مجموع الفتاوى3/193، وتفسير ابن تيمية ص: 81، وجمع إقبال محمّد الأعظمي. 2 انظر: فتح القدير1/131.

أن الصحيح أن القول في هذه الآية ينبغي أن يكون مثل القول في غيرها من الآيات المثبتة للصفات. يقوله- رحمه الله -: " ... على أن الصحيح في قوله: {فَثَمَّ وَجْه الْلَّهِ} أنه كقوله في سائر الآيات التي ذكر فيها الوجه، فإنه قد اطرد مجيئه في الكتاب والسنة مضافاً إلى الربّ سبحانه على طريقة واحدة ومعنى واحد، فليست فيه معنيان مختلفان في جميع المواضبع غير الموضع الذي ذكر في سورة البقرة، وهو قوله: {فَثَمَّ وَجْه الْلَّهِ} هذا لا يتعين حمله على القبلة أو الجهة، ولا يمتنع أن يراد يه وجه الرب حقيقة"1. ثم استدل على صحة ما رآه بأدلة كثيرة، منها: 1 - أنه لا يعرف إطلاق وجه الله على القبلة لغة، ولا شرعاً، ولا عرفاً بل القبلة لها اسم يخصها، والوجه له اسم يخصه، فلا يدخل أحدهما على الآخر ولا يستعار اسمه له. 2 - أن الآية صريحة في أنه أينما ولى العبد من حضر أو سفر، في صلاة أو غير صلاة فثم وجه الله وذلك أن الآية لا تعرض فيها للقبلة ولا لحكم الاستقبال بل سياقها لمعنى آخر وهو بيان عظمة الرب تعالى، وسعته، وأنه أكبر من كل شيء، وأعظم منه وأنه محيط بالعالم العلوي والسفلي، فذكر في أوّل الآية إحاطة ملكه في قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} فنبهنا بذلك على ملكه لما بينهما ثم ذكر عظمته سبحانه، وأنه أكبر وأعظم من كل شيء، فأينما ولى العبد وجهه فثم وجه الله، ثم ختم باسمين دالين على العظمة والإحاطة، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فذكر

_ 1 مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم2/180181.

اسمه الواسع عقيب قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْه الْلَّهِ} كالتفسير والبيان والتقرير له. 3 - أنك إذا تأملت الأحاديث الصحيحة وجدتها مفسرة للآية مشتقة منها كقوله صلى الله عليه وسلم "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه" وقوله: "فإنه يقبل عليه بوجهه مالم يصرف وجهه عنه" وقوله: "فإن الله بينه وبين القبلة" وقوله: "إن الله يأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته مالم يلتفت" رواه ابن حبان في صحيحه والترمذي. وقال: "إن العبد إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه، فلا ينصرف عنه حتى ينصرف أو يحدث حدث سوء" 1. وهكذا رجح ابن القيم أن يكون الوجه المذكور في الآية الكريمة: {فَثَمَّ وَجْه الْلَّهِ} بمعنى وجه الرحمن، وقد سبقه إلى ذلك إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة2. ومع احترامي لما ذهب إليه البيهقي ومن معه، أقول: "إن ما ذهب إليه ابن القيم هو الرأي الأصح. إذ إن كل آية في كتاب الله تعالى، وكلّ حديث في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد بذكر صفة من صفات الله سبحانه فإن الإثبات هو الغرض من ذلك الإيراد، وما وقع فيه المؤولون من تعطيل لا ينبغي أن نسنده بالقول في بعض الآيات بما يجعلهم ينسبون التأويل إلى السلف، الذين هم منه براء.

_ 1 انظر هذا الأدلة وغيرها في: مختصر الصواعق المرسلة2/180-188. 2 كتاب التوحيد ص: 16.

ثم إن الأدلة التي ذكرها ابن القيم مقنعة، ولا يلزم من ذلك الإثبات أن يشابه رأي السلف فيه رأي الحلولية القائلين بأن الله بذاته في كل مكان، لأن السلف - رحمهم الله - يثبتون الفوقية والاستواء لله تعالى، ويقولون إنه سبحانه بذاته مستو على عرشه بائن من خلقه، ولذلك قالوا عن المعية: إنها ليست بالذات بل بالعلم، ولا تأويل لأنه معنى حقيقي، ومعية حقيقية فإنه - كما قال ابن القيم - مع دلالة العقل والفطرة وجميع الكتب السماوية على أن الله عال على خلقه فوق جميع المخلوقات هو مستو على عرشه، وعرشه فوق السموات كلّها، فهو سبحانه محيط بالعالم كله، فأينما ولى العبد فإن الله مستقبله. بل هذا شأن مخلوقه المحيط بما دونه فإن كل خط يخرج من المركز إلى المحيط، وإذا كان عالي المخلوقات المحيط يستقبل سافلها المحاط به بوجهه من جميع الجهات والجوانب فكيف بشأن من هو بكل شيء محيط، وهو محيط، ولا يحاط به، كيف يمتنع أن يستقبل العبد وجهه تعالى حيث كان وأين كان"1. إلى أن قال - رحمه الله - عن هذه الآية: "… فأخبر أن الجميع ملكه، وقد خلقه، وقد علم بالفطرة والشرع أن الله تعالى فوق العالم محيط بالمخلوقات، عال عليها بكل اعتبار، فمن استقبل جهة من الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب أو بين ذلك فإنه متوجه إلى ربه حقيقة، والله تعالى قبل وجهه إلى أي جهة صلى، ومع ذلك فوق سمواته عال على

_ 1 مختصر الصواعق المرسلة2/185-186.

عرشه، ولا يتوهم تنافي الأمرين بل اجتماعهما هو الواقع ولهذا عامة أهل الإثبات جعل هذه الآية من آيات الصفات، وذكرها مع نصوص الوجه مع قولهم إن الله فوق سمواته على عرشه"1. وهكذا يتضح لنا أن هذه الآية من آيات الصفات بها ثبتت صفة الوجه كغيرها سواء بسوإء. صفة العين وهذه إحدى الصفات التي أثبتها البيهقي - رحمه الله - لورودها بأدلة قاطعة من الكتاب والسنة. يقوله رحمه الله: "باب ما جاء في إثبات العين صفة لا من حيث الحدقة"2 ثم شرع في سوق أدلته لهذا الإثبات. فأما من القرآن الكريم، فقد ورد ذكر العين في خمسة مواضع منه مضافة إلى الله تبارك وتعالى وقد أوردها البيهقي، وهي قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 3 وقوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 4 وقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} 5 وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 6.

_ 1 المصدر السابق نفسه ص: 187. 2 الأسماء والصفات ص: 312. 3 سورة طه آية: 39. 4 سورة الطور آية: 48. 5 سورة هود آية: 37، وفي سورة المؤمنون آية: 27: {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} . 6 سورة القمر آية: 14.

أما من السنة: فأورد حديث نافع قال: إن عبد الله بن عمر أخبره أن المسيح ذكر بين ظهراني الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليس بأعور، إلاّ أن المسيح الدجال أعور عين اليمنى كأنه عينه عنبة طافية" رواه البخاري في الصحيح عن موسى بن إسماعيل عن جويرية وقال في متنه: فقال: "إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينه" 1. وحديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما بعث نبي إلاّ قد أنذر الدجال، ألا وأنه أعور، وأن ربكم ليس بأعور2. قال - رحمه الله - بعد أن ساق هذا الحديث: "وفي هذا نفي نقص العور عن الله سبحانه، وإثبات العين له صفة"3. ومن أجل بيان أن ما ذهب إليه من أن العين الواردة في الآيات والتي تضمنت إثباتها هذه الأحاديث صفة لله تعالى استند إلى تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} قال: "بعين الله تبارك وتعالى"4.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 312. وانظر: صحيح البخاري مع الشرح حديث رقم: 7407 توحيد. 2 الأسماء والفصات ص: 313، والاعتقاد ص: 30. وانظر: صحيح البخاري مع شرحه رقم: 7408 توحيد. 3 الاعتقاد ص: 30. 4 الأسماء والصفات ص: 313.

وهذا التفسير عن ابن عباس ذكره الطبري في تفسيره، ورواه عن قتادة أيضاً، وذهب هو إلى اختياره والقول به1. ثم ذكر أن بعض أصحابه - ويعني بهم الأشاعرة - قد أولوا صفة العين الواردة في الآيات بالرؤية، وبعض آخر أولها بالحفظ والكلاءة وأنها من صفات الفعل، وأن من قال بأحد هذين التأويلين زعم أن المراد بخبر نفي نقص العور عن الله تبارك وتعالى، أنه لا يجوز عليه ما يجوز على المخلوقين من الآفات والنقائص2. وهذا ما ذهب إليه الجويني، والبغدادي، والرازي من أساطين الأشاعرة3. كما أولها المعتزلة بالعلم4. وهي تأويلات فاسدة، ما أنزل الله بها من سلطان، الغرض منها الهرب من إثبات صفة العين لله تبارك وتعالى، وقد رد عليهم مؤكداً إن ما وردت به النصوص ظاهر في إثبات العين صفة لله سبحانه، لائقة بجلاله5. ويؤيد ما ذهب إليه البيهقي ماورد في رواية البخاري من إشارته صلى الله عليه وسلم إلى عينه عند بيانه الصفة التي نعرف بها ربّنا سبحانه وهو كماله في صفاته، ونقصان الدجال بإصابته بالعور في عينه اليمنى. وهذا إثبات صريح لصفة العين، ورد ملجم لكل مؤول.

_ 1 الطبري، محمّد بن جرير، جامع البيان12/33-34. 2 الأسماء والصفات ص: 313. 3 انظر: الإرشاد للجويني ص: 155، وأصول الدين للبغدادي ص: 109، وأساس التقديس للرازي ص: 120. 4 شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبّار ص: 227. 5 الأسماء والصفات ص: 313.

وما ادعاه ابن حجر حين قال: "ولم أر في كلام أحد من الشراح حمل هذا الحديث على معنى خطر لي، فيه إثبات التنزيه، وحسم مادة التشبيه عنه، وهو: أن الإشارة إلى عينه صلى الله عليه وسلم إنما هي بالنسبة إلى عين الدجال فإنها كانت صحيحة مثل هذه ثم طرأ عليها العور لزيادة كذبه في دعوى الآلهية.. ولم يستطع دفع ذلك عن نفسه"1. ما ادعاه هنا من تأويل لهذا الحديث، في نظري أنه يصرف الإشارة عن مقصدها السديد وهو تحقيق اتصافه سبحانه بصفة العين حقيقة لا تأويل فيها، وليس في هذا المعنى تشبيه لأن المقصد تحقيق الوجود على ما يليق بالله تبارك وتعالى. وإثبات البيهقي - رحمه الله - لهذه الصفة إثبات وجود لا تكييف فيه لا ريب أنه بعينه مذهب السلف، كما ذكره هو نفسه عن ابن عباس في تفسير الآية، وكما بينت أنه رأي قتادة واختيار الإمام الطبري، وهو ما ذهب إليه الإمام ابن خزيمة حيث قال بعد أن ساق الآيات التي ذكرها البيهقي: "فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما أثبت الخالق البارىء لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد أثبته في محكم تنزيله"2. وكما يظهر من اقتصار البيهقي - رحمه الله - على الألفاظ الواردة في الآيات من ذكر عين واحدة، أو أعين، وجمعه بين لفظي الإفراد والجمع بأن المراد: صفة واحدة، والجمع على معنى التعظيم3.

_ 1 ابن حجر، أحمد بن عليّ، فتح الباري13/390. 2 ابن خزيمة، كتاب التوحيد ص: 42. 3 الأسماء والصفات ص: 313.

وقوله عن حديث الدجال: "إن المقصود منه نفي نقص العور عن الله سبحانه، وإثبات العين له صفة - كما سبق أن ذكرت عنه - بمعنى أن الإثبات لعين واحدة، ونفي النقص عنها لا يثبت غيرها، فيظهر من ذلك كلّه أنه لا يثبت عينين لله تبارك وتعالى، بحجة أن ذلك لم يرد وهي حجة سكت عن ذكرها إلاّ أن كلامه يدل عليها. إلاّ أن السلف يخالفونه في ذلك حيث يرون أن الأحاديث الواردة في صفة الدجال تؤكد إثبات عينين لله تبارك وتعالى، فيقول الدارمي عثمان بن سعيد: "العور عند الناس ضد البصر، والأعور عندهم ضد البصير بالعينين"1. ويقول أيضاً: ففي تأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ليس بأعور" بيان أنه بصير ذو عينين خلاف الأعور2. والمعروف من منهج السلف أنهم حينما يثبتون الصفة لله تبارك وتعالى عند ورود النص بها، فإنما يثبتونها على معناها الظاهر المتبادر منها، مع نفي التشبيه والمماثلة بين صفات الله وصفات خلقه وبيانه صلى الله عليه وسلم للعلامة التي نعرف بها الدجال حين ادعائه الألوهية، وهي وجود نقص فيه منزه ربنا سبحانه عنه، وهو أنه أعور عين اليمنى، فإن المتبادر إلى الذهن لأول مرة أن الله تبارك وتعالى له عينان خلافاً للدجال الذي عورت عينه اليمنى، والعور المعروف في اللغة هو ذهاب حس إحدى العيني3، وإثباتنا لذلك إنما هو إثبات وجود وكمال، لا إثبات تشبيه.

_ 1 ردّ الدارمي، عثمان بن سعيد على المريس العني، ضمن مجموعة عقائد السلف ص: 401. 2 نفس المصدر ص: 406. 3 انظر القاموس المحيط 2/97، لسان العرب 4/612.

وممن ذهب إلى أن الله تبارك وتعالى يوصف بأن له عينين بلا كيف الإمام ابن خزيمة1 وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري2 ولم يخرج المثبتون لذلك عما ورد به الشرع صراحة. وأما ما قاله الشيخ محمّد زاهد الكوثري حيث قال: "من قال له عينان ينظر بهما فهو مشبه قائل بالجارحة"3. فهو كلام معهود من جميع المعطلة، إذ يتهمون كل من أثبت صفة لله تبارك وتعالى إثباتاً حقيقياً لورود النص بتلك الصفة، بأنه مشبه، ومجسم، إلأ أن هذا اتهام باطل، ومردود على أصحابه، لأن السلف يثبتون ما أثبته الله لنفسه إثباتاً من غير تعطيل، ولا تشبيه، بل يثبتونها له على ما يليق بجلاله وعظمته، ويعتقدون اعتقاداً جازماً بأن الله لا يشبه أحداً من خلقه، ولا يشبهه سبحانه أحد منهم، فهو واحد في أسمائه وصفاته والمشبهة ممقوتون من جانب السلف مقت المعطلة، واتهامهم بالتشبيه لا يصدر إلاّ من جاهل بمذهبهم، أو مغرض يريد التمويه والتلبيس والله المستعان. وقد كان البيهقي - رحمه الله - موفقاً فيما ذهب إليه من الإثبات على منهج السلف - رحمه الله. إلأ أن ما استعمله من عبارات هنا يقصد بها نفي المشابهة بين الله وبين خلقه في حالة الإثبات من مثل قوله عن صفة الوجه: "لا من حيث الصورة" وعن صفة العين: "لا من حيث الحدقة" وعن صفة اليد: "لا

_ 1 كتاب التوحيد ص:42. 2 مقالات الإسلاميين1/345. 3 انظر: تعليقه على الأسماء والصف?ت للبيهقي ص: 313.

من حيث الجارحة" فإنها - وإن كانت صحيحة من حيث المعنى - عبارات مبتدعة لم يستعملها السلف من أجل التنزيه، فيكفي في هذا الباب أن نعلم قطعاً أن كل صفة ثابتة لله سبحانه فإنها لا تشبه صفات خلقه ولا تشبهها صفاتهم، لأن صفات الله تبارك وتعالى تليق بجلاله وعظمته وصفات خلقه تليق بضعفهم وافتقارهم، فنفصل في الإثبات، ونجمل في النفي والتنزيه، سيراً على منهج القرآن الكريم الذي أجمل النفي المتضمن للتنزيه، في مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وفصل الإثبات في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إلى غير ذلك مما ورد من التنزيه المجمل والإثبات المفصل. بخلاف ما ابتدعه المتكلمون الذين يجملون في الإثبات ويفصلّون في النفي. صفة اليدين وهذه صفة ثالثة من صفات الذات الخبرية، أثبتها البيهقي - رحمه الله - حيث ترجم لها بقوله: "باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين لا من حيث الجارحة، لورود خبر الصادق به"1. وقد أثبتها لأنه قد وردت أدلة صريحة بذلك الإثبات، لا تحتمل التأويل أبداً. وقد بين موقفه من النصوص الواردة بذكر هذه الصفة وهو موقف يتمثل في تقسيم تلك النصوص إلى قسمين:

_ 1 الأسماء والصفات ص: 314.

أحدهما: جعله دليل ذلك الإثبات، لأن صيغة وروده يقتضي إثبات اليد الواردة فيها على أنها صفة حقيقية لله تبارك وتعالى وتأويلها يؤدي إلى أمور باطلة عقلاً وشرعاً. ثانيهما: لا يدل صراحة على إثبات تلك الصفة لأن اليد الواردة فيه لها معان غير معنى اليد التي هي صفة لله تبارك وتعالى فيكون المقصود باليد فيها إما الملك، أو القدرة، أو الرحمة أو النعمة، أو جرى ذكرها صلة في الكلام. فأمّا أدلة الإثبات فهي كقوله تعالى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 1، وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} هذا من القرآن الكريم. أما من السنة: فمنها حديث الشفاعة، الذي رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجمع المؤمنون يوم القيامة، فيهتمون فيقولون لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون يا آدم، أنت أبو الناس خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كلّ شيء، اشفع لنا إلى ربّنا حتى يريحنا من مكاننا هذا ... " الحديث2. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجّ آدم وموسى عليهما السلام، فقال موسى لآم: يا آدم آنت أبونا خيبتنا

_ 1 سورة ص آية: 75. 2 الأسماء والصفات ص: 315. والحديث متفق عليه. انظر: صحيح البخاري مع الشرح حديث رقم: 7410، توحيد 13/392، وصحيح مسلم رقم: 322، 1/180.

وأخرجتت من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك حب الألواح بيده، أتلومني على أمر قضاه الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين عاماً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحجّ آدم موسى فحجّ آدم موسى" 1. وحديث عبد الله بن الحارث عن أبيه رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده" 2. ففي تلك الآيات وهذه الأحاديث أوجب البيهقي حمل اليد على الصفة لأن حملها على غير ذلك غير سائغ، لما فيه من نفي المعنى الذي جاءت من أجله هذه النصوص، وهو الإشارة إلى اختصاص آدم عن إبليس بأن الله خلقه بيده، ومشاركة موسى عليه السلام له في هذه الخاصية بأن كتب له الله تبارك وتعالى التوراة بيده، كما اختصت جنة الفردوس عن سائر الجنات بأن غرس الله بيده. فاختصت هذه الأمور عن غيرها من مخلوقات الله بأن تعلقت بتلك الصفة التي هي اليد وذلك أكبر شاهد على

_ 1 الأسماء والصفات ص: 318. والحديث متفق عليه أيضاً. البخاري رقم: 7515، 3/477. ومسلم رقم: 2652، 4/2042. 2 الأسماء والفصات ص: 318. وقد قال البيهقي: "هذا مرسل، وفيه أن ثبت دلالة على أن الكتب ههنا يمعنى الخلق، وإنما أراد خلق رسوم التوراة وهي حروفها، وأمّا المكتوب فهو كلام الله عز وجل وصفة من صفات ذاته غير بائن منه، إلا أن تأويل الكتب بالخلق يأباه ظاهر الخبر، كما الشيخ محمّد صديق حسن خان في كتابه: الجوائز والصلات، ص: 184، الطبعة الهندية.

أن اليد في تلك النصوص صفة حقيقية لله تبارك وتعالى بها خلق الله تعالى بعض مخلوقاته بدون واسطة تشريفاً لها على سائر الخلق. وفي هذا المعنى يقول البيهقي -رحمه الله -:"فأما قوله عز وجل: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فلا يجوز أن يحمل على الجارحة، لأن الباري جل جلاله واحد، لا يجوز عليه التبعيض، ولا على القوّة والملك والنعمة والصلة، لأن الاشتراك يقع حينئذ بين وليه آدم، وعدوه إبليس، فيبطل واذكر من تفضيله عليه لبطلان معنى التخصيص، فلم يبق إلا أن يحملا على صفتين تعلقتا بخلق آدم، تشريفاً له، دون خلق إبليس، تعلق القدرة بالمقدور، لا من طريق المباشرة، ولا من حيث المماسة وكذلك تعلقت بما روينا في الأخبار من خط التوراة وغرس الكرامة لأهل الجنة، وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها فلم يجزحملها على غيرالصفة1. وقال في كتاب الاعتقاد: "وقال الله عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} بتشديد الياء من الإضافة، وذلك تحقيق في التثنية وفي ذلك منع من حملهما على النعمة، والقدرة لأنه ليس لتخصيص التثنية في نعم الله ولا في قدرته معنى يصح، لأن نعم الله أكثر من أن تحصى ولأنه خرج مخرج التخصيص، وتفضيل آدم عليه السلام على إبليس وحملهما على القدرة أو على النعمة يزيل معنى التفضيل لاشتراكهما فيها ولا يجوز حملهما على الماء والطين، لأنه لو أراد ذلك لقال: لما خلقت من يدي، كما يقال: صنعت هذا الكوز من الفضة أو من النحاس، فلما قال بيدى علمنا أن المراد بهما غير ذلك"2.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 319، 320. 2 الاعتقاد ص: 29، 30.

وهكذا يثبت البيهقي - رحمه الله - اليد صفة لله تبارك وتعالى بأدلتها التي أوردها، راداً على المؤولين، الذين يرى البيهقي - رحمه الله - في رأيهم خروجاً عن المعنى الصواب، والطريق الأسلم، ويتلخص رده الذي تضمنه كلامه السابق في النقاط التالية: 1 - أن تأويل اليد بالقدرة - في هذه النصوص - يؤدي إلى إبطال الخاصية التي اختص الله تبارك وتعالى بها بعض مخلوقاته وفضلهم بها على غيرهم، وذلك لأننا إذا قلنا بأن المقصود باليد القدرة، فإن إبليس أيضاً خلقه الله بقدرته، فلا فرق حينئذ بينه وبين آدم عليه السلام، ولا معنى لتخصيص خلق آدم بأنه كان بيد الله. 2 - إن التثنية في "بيديّ" تبطل القول بالتأويل أيضاً، لأن التشديد تحقيق في التثنية، وتخصيص التثنية في نعم الله وقدرته ليس له معنى يصح، لأن قدرة الله تعالى واحدة لا حدود لها، ونعمة لا تحصى كثرة، فلا يصح تأويلها بأن المراد "بقدرتي" أو "بنعمتي" لعدم جواز انحصار قدرة الله ونعمه في عدد. 3 - أن تأويل اليدين في الآية بالماء والطين غير صحيح، لأنه لو أراد ذلك لقال "من يدي" إذ الماء والطين يكونان حينئذ ابتداء الخلق فيكون منهما. فلما قال "بيدي" علمنا أنه أراد الصفة الحقيقية التي بها كان الخلق. وقد كان البيهقي واضحاً في رأيه القائل بإثبات اليدين صفة حقيقية لله تبارك وتعالى، إلا أنه ذكر ضمن ما تقدم كلاماً أوقعه فيما فر منه حيث قال: " ... فلم يبق إلا أن يحملا على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفاً له، دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور، لا من طريق المباشرة ... "1.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 320، وقد تقدم.

لأن إبليس خلقه الله بقدرته لا من طريق المباشرة، بل بكلمة "كن" وآدم عليه السلام خلقه الله بيده من غير واسطة تفضيلاً له على إبليس لعنه الله، وقد روى الطبري عن مجاهد، عن ابن عمر في تفسير هذه الآية قال: "خلق الله أربعة بيده: العرش، وعدن، والقلم، وآدم. ثم قال لكل شيء كن فكان"1. وقال العلامة جمال الدين القاسمي عن خلق الله لآدم المذكور في آية: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فقال: أي بنفسي من غير توسط2. فخلق الله تبارك وتعالى لآدم كان خلقاً مباشراً مخالفاً لسائر مخلوقاته التي خلقها بكلمة "كن" وخلقه له سبحانه بهذه الطريقة لإبراز فضيلة آدم عليه السلام، وتشريفه على إبليس اللعين الذي استكبر وأبى السجود له زاعما أنه خير. وكلام البيهقي جملة يدل على أنه يرى ذلك، ولعله إنما تحرج من التعبير عن خلق الله لآدم بالمباشرة ظاناً أن ذلك يقتضي اعتقاد حاجة الله إلى وسائط يخلق بها، أو أن ذلك يقتضي تشبيهاً وتجسمياً، إلا أن هذه النظرة كانت خاطئة لأن إثبات أن الله خلق آدم بيده مباشرة من غير واسطة، إنما كان ذلك من الله ليخص آدم بأمر، لا أنه محتاج إلى تلك المباشرة ليتم الخلق، كما أن ذلك لا يقتضي تشبيهاً ولا تجسيماً لأن كل فعل من أفعال الله تعالى، أو صفة من صفات ذاته، إنما نثبتها له على ما يليق بجلاله وكماله، مع إيماننا العميق بأن لا أحد في خلقه يشبهه ولا يشبه أحداً منهم بأي وجه، تعالى الله عن مشابهة خلقه علوّاً كبيراً.

_ 1 جامع البيان للطبري23/185. 2 محاسن التأويل للقاسمي14/5122.

وأما الموقف الثاني للبيهقي تجاه النصوص الواردة بذكر اليد مضافة إلى الله سبحانه، فهو تأويلها إلى معنى آخر يدل عليه السياق في الآية أو الحديث، كالملك، أو القدرة، والرحمة، والنعمة، أو تكون صلة في الكلام وفي ذلك يقول: "وقد روينا ذكر اليد في إخبار آخر، إلا أن سياقها يدل على أن المراد بها الملك، والرحمة، والنعمة، أو جرى ذكرها صلة في الكلام"1. ويفرق بين هذا الموقف والذي قبله بأن ما تقدم ذكره يوجب التفضيل، والتفضيل إنما يحصل بالتخصيص، فلم يجز حملها فيه على غير الصفة، وكذلك في كل موضع جرى ذكرها على طريق التخصيص، فإنه يقتضي تعلق الصفة التي تسمى بالسمع يداً بالكائن فيما خص بذكر ما فيه تعلق الصفة بمقتضاها ثم لا يكون في ذلك بطلان موضع تفضيل آدم عليه السلام على إبليس، لأن التخصيص إذا وجد له في معنى دون إبليس لم يضر مشاركة غيره إياه في ذلك المعنى، بعد أن لم يشاركه فيه إبليس2. ويعني بهذا الكلام: أن كلّ نصّ من آية أو حديث جاءت بذكر اليد معلقة بكائن ما على سبيل التخصيص والتفضيل له عما سواه بأمر من الأمور فإن هذا النوع من النصوص هو الذي يوجب حمل اليد الواردة فيه على الصفة، ويكون دليل إثباتها كالنصوص السابقة. أما ما سوى ذلك فمصيره التأويل إلى المعنى الذي يدلّ عليه السياق.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 320. 2 المصدر نفسه.

فمما جاءت فيه اليد بمعنى الملك والقدرة - في نظر البيهقي ومن حذا حذوه - قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} 1. ومما جاءت فيه اليد صلة في الكلام قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} 2. أما قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 3 فالمقصود به تعظيم أمر البيعة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الأيدي ثلاث: يد الله هي العليا ... " الحديث4. قصد به تعظيم أمر الصدقة ... إلى غير ذلك من الأمثلة التي أوردها البيهقي على أن المراد بها معنى آخر يدل عليه السياق غير الصفة5. وهذا التفريق بين النصوص الواردة بذكر اليد سبقه إلى القول به شيخه ابن فورك6. إلا أن هذه تأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، فهي - كما قال عنها الشيخ محمد صديق حسن خان - إنها تأويلات من طريق السلف بمراحل بعيدة، ولا طائل تحتها لمن يريد الله ورسوله فالواجب قصر اللفظ على مورده من دون تكييف ولا تعطيل، والتأويل نوع من بيان الكيفية عند من يعرف مدارك الشرع7.

_ 1 سورة آل عمران آية: 73. 2 سورة يس آية: 71. 3 سورة الفتح آية: 10. 4 أخرخه أحمد في مسنده1/446. 5 انظر هذه الأمثل في: الأسماء والصفات ص: 319-322. 6 مشكل الحديث ص: 169-170. 7 الجوائز والصلات ص: 183.

هكذا قال الشيخ محمد صديق وهو كلام صحيح لا غبار عليه لأن ذكر اليد مضافة إلى صاحبها تحدد المراد، فإذا ذكرت اليد أو غيرها من الصفات مضافة إلى الله تبارك وتعالى فإنها تعني الصفة الحقيقية لا محالة ولا يعترض علينا بأننا إذا اعتبرنا اليد فى قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} صفة نكون قد أثبتنا أيادي كثيرة، أو أننا قد أشركنا مع آدم في الخاصية - وهي خلق الله له بيده - سواه لأننا نقول إن بين هذه الآية وبين قوله تعالى عن خلق آدم: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فرقاً من وجهين: أحدهما: أنه هنا أضاف الفعل إليه، وبين أنه خلقه بيديه وهناك أضاف الفعل إلى الأيدي. الثاني: أن من لغة العرب أنهم يضعون اسم الجمع موضع التثنية إذا أمن اللبس، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 أي: يديهما، وقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 2 أي قلباكما، فكذلك قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} 3. إلا أننا نقول إن إضافة الأيدي إلى الله هنا للدلالة على الصفة الحقيقية لله تبارك وتعالى، وقد قال الإمام الشوكاني في تفسير هذه الآية: "أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا شركة، وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص والتفرد بالخلق كما يقول الواحد منا عملته بيدي للدلالة على تفرده بعمله"4.

_ 1 سورة المائدة آية: 38. 2 سورة التحريم آية: 4. 3 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية6/370. 4 فتح القدير للشوكاني4/381، 382.

فهناك إذاً رأيان واضحان للبيهقي تجاه ما جاء في اليد: أحدهما: جعله دليلاً للإثبات لصراحته في ذلك. والآخر: رآه لا يصلع دليلاً، لأن السياق - في نظره - لا يساعد على ذلك، الأمر الذي به فارق منهج السلف. والمهم: أن البيهقي أثبت هذه الصفة إثباتاً حقيقياً، وهو بذلك يوافق ما عليه السلف من ذلك الإثبات إلا أنه استدل ببعض أدلتهم لانها جميعاً، إذا اتضح مما سبق تفريقه بين النصوص الواردة في ذلك. أما السلف فإنهم يستدلون بكل نص من آية أو حديث وردت اليد فيه مضافة إلى الله سبحانه وتعالى، حيث إن الإمام ابن خزيمة - وهو من أعظم أئمتهم - جعل جميع النصوص التي من هذا النوع دليلاً للإثبات سواء منها ما استدل به البيهقي وما صرفه عن المراد. فقد قال ابن خزيمة - رحمه الله-: "باب ذكر إثبات اليد للخالق جل وعلا، والبيان أن الله تعالى له يدان كما أعلمنا في محكم تنزيله أنه خلق آدم عليه السلام، ثم ذكر ما استدل به البيهقي من القرآن الكريم، وزاد عليه ما لم يرض به البيهقي دليلاً، كقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} وغيرهما من الآيات التي يرى البيهقي خروجها عن المقصد، وعدم دلالتها على المراد. كما ذكر من السنة عين أدلة البيهقي، وزاد عليها ما أخرجه البيهقي عن الإمام أحمد بن حنبل1. وتوضيح ابن عبد البرّ لمذهب السلف تعقيباً على عبارتهم تلك يبرز حقيقة مذهبهم وزيف من ادعى من المتكلمين أن مذهبهم التفويض لأن معنى عبارتهم هو ذلك فهذا ادعاء باطل وعبارتهم بمنأى عنه.

_ 1 الشريعة للآجري ص: 315.

فجميع النصوص الواردة بإضافة اليد إلى الله فإن حقيقة اللفظ فيها، وظاهرة "يد" يستحقها الخالق كالعلم والقدرة، بل كالذات والوجود. أما رأي البيهقي القائل بالتفريق بين النصوص الواردة في هذا الموضوع فقد وافق فيه شيخه أبا بكر بن فورك الذي سبقه بهذا التفريق1. إلا أن البيهقي خرق تلك القاعدة التي وضعها لمعرفة النص الذي يتخذ دليلاً من غيره، خرقها بجعله قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} من أدلة الإثبات، لأنها ليست من النوع الذي جعله مناط الاستدلال، فإن اليد الواردة في الآية لم تأت معلقة بكائن على سبيل التخصيص، الأمر الذي يوقع البيهقي في تناقض كان باستطاعته عدم الوقوع فيه لو سلك منهج السلف القائل بدلالة جميع النصوص - الوارد فيها ذكر اليد مضافة إلى الله - على إثبات هذه الصفة. وهناك رأي ثالث للأشاعرة - وهو القول بتأويل اليد الواردة في جميع المواضع، كما هو رأي الجويني، والرازي والبغدادي والآمدي وغيرهم2. وكل موضع له تأويل بحسبه. أما المعتزلة فمنهم من جعل اليد كناية عن النعمة، أو عن القادرية عند من يثبت الأحوال منهم3.

_ 1 مشكل الحديث ص: 192 وما بعدها. 2 العقيدة النظامية ص: 25، وأساس التقديس ص: 125، وغاية المرام ص: 139، أصول الدين ص: 75، و110. 3 أصول الدين ص: 111.

وجميع هذه التأويلات التي ذهب إليها الأشاعرة في بعض النصوص عند قوم، وفي جميعها عند آخرين منهم، على اختلاف في التأويل حسب ما يقتضيه السياق - في نظرهم - وكذلك تأويل المعتزلة جميعها فاسدة فساداً واضحاً. أما القائلون بالتأويل مطلقاً، فقد بين البيهقي فساد رأيهم - كما تقدم - وأما من قال بتأويل البعض - ومنهم البيهقي - فإن أمرهم أهون، إذ المهم أنهم أثبتوا الصفة إثباتاً قاطعاً، وردّوا على من أولها في جميع الأحوال. أما رأيهم الآخر فوجهة نظر خاطئة، خالفوا بها ما أجمع عليه السلف من حمل اليد على الحقيقة في جميع مواردها، لصراحة الأدلة على ذلك. وإذا كان البيهقي قد أثبت صفة الوجه والعين واليد، إثباتاً حقيقياً، فهل هذا المسلك هو ما نهجه في بقية صفات الذات الخبرية أم أنه اتخذ طريقاً أخرى؟ الواقع أن البيهقي لم يثبت بقية الصفات، بل مال فيها إلى التأويل، وفيما يلي نأخذ أمثلة منها لنتبين منهج البيهقي فيها بعد أن عرفنا ما أثبته منها. اليمين والكف: وإذا كان البيهقي - رحمه إلله - قد أثبت اليدين صفة لله تبارك وتعالى، مستدلاً ببعض ما ورد في ذلك من نصوص، فإن ثمة نصوصاً أخرى وردت بذكر اليمين والكف، سردها البيهقي في باب مستقل عنون له بقوله: "باب ما ذكر في اليمين والكف"1.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 323.

فمن النصوص التي ذكرها تحت هذا الباب قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وقوله سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} 2. وحديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض" 3. وحديث ابن عمررضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" 4. وحديث أبي هريرة رضي الله عنهقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم ينقصه مما في يمينه قال: وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض" 5.

_ 1 سورة الزمر آية: 67. 2 سورة الحاقة آية: 46. 3 رواه البخاري في كتاب التوحيد. انظر: صحيح البخاري مع الشرح13/367، ومسلم في صقات المنافقين حديث رقم: 2787، ترقيم محمّد فؤاد عبد الباقي4/2148. 4 رواه مسلم. انظر: حديث رقم: 1827، إمارة ترقيم محمّد فؤاد عبد الباقي 3/1458. 5 رواه البخاري في كتاب التوحيد، انظر: الصحيح مع شرحه13/393، ومسلم في كتاب الزكاة رقم: 993 ترقيم محمّد فؤاد عبد الباقي2/690.

وحديث أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله" 1. إلى غير ذلك من النصوص التي أوردها البيهقي. ولكن هل البيهقي بإيراده لهذه النصوص يثبت اليمين والكف صفتين لله تبارك وتعالى، أم ما هو موقفه منها؟ الواقع أن ترجمة البيهقي لهذا الباب بعيدة عن قصد الإثبات لأننا رأيناه في الصفات التي يثبتها يترجم لها بقوله: "ماجاء في إثبات كذا…" بخلاف ترجمته للباب هنا بقوله: "باب ما ذكر…" ومقصوده بذلك أن ذكر اليمين، والكف في هذه النصوص ليس المراد به إثبات هاتين الصفتين، إذ إنه يرى أن اليمين والكف لا تخرجان عن معنى اليد. لذلك فإن النصوص الواردة بذكر اليمين والكف على سبيل التعلق بكائن ما، صالحة لأن تكون أدلة إثبات لصفة اليد، على منوال ما تقدم ذكره في النصوص التي جعلها دليلاً لإثبات هذه الصفة. ولبيان ذلك يقول: "اليمين يراد به اليد، والكف عبارة عن اليد واليد لله تعالى صفة بلا جارحة، فكل موضع ذكرت فيه فالمراد بذكرها تعلقها بالكائن المذكور معها، من الطي، والأخذ، والقبض، والبسط،

_ 1 رواه مسلم في كتاب الزكاة رقم: 1014، ترقيم محمّد عبد الباقي 2/702.

والمسح والقبول، والإنفاق، وغير ذلك، تعلق الصفة الذاتية بمقتضاها من غير مباشرة، وليس في ذلك تشبيه بحال"1. إلا أنه يرى أن الاستدلال بها على إثبات صفة اليد ليس أمراً حتمياً، بل قصد بإيراده لهذا الكلام التنبيه على صلاحية هذا النوع من النصوص للاستدلال على إثبات صفة اليد، مع أنه يجوز أن يراد باليمين والكف معان أخرى سوى اليد، بدليل ما ذكره فيما بعد من قوله: "واليمين المذكور في الأخبار التي ذكرناها محمول في بعضها على القوّة والقدرة ... وفي بعضها على حسن القبول، لأن في عرف الناس أن أيمانهم تكون مرصدة لما عز من الأمور، وشمائلهم لما هان منها والعرب تقول: فلان عندنا باليمين أي بالمحل الجليل، ومنه قول الشاعر: أقول لناقتي إذ بلغتني ... لقد أصبحت عندي باليمين أي بالمحل الجليل2. ويقول في الكف بالنسبة لله تبارك وتعالى، إن المراد به ملكه وسلطانه، ويستدل على ذلك بما ذكر من أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كثيراً ما يردد في خطبته على المنبر: خفض عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها وإما أن يكون بمعنى النعمة3.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 330. 2 الأسماء والفصات ص: 331، و332. 3 المصدر نفسه ص: 332.

وبناء على ماتقدم فإنه أول اليمين في قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} بأن المراد الإخبار عن الملك والقدرة، أو إنه أراد: ذاهبات بقسمه، أي أقسم ليفنيها. وقوله: {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أي: بالقوة والقدرة. كما أول القبضة في الآية بأن المراد بها الملك والقدرة، أو الإفناء والإذهاب.1 وهكذا سار في تأويله لباقي النصوص. وهي تأويلات أسندها إلى من يسميهم أهل النظر، ويقصد بهم علماء الكلام من الأشاعرة، وعلى رأسهم شيخه أبو بكر بن فورك الذي أخذ عنه هذه التأويلات مباشرة2. هذه هي السبيل التي اختارها البيهقي لهذه النصوص مع أنه يحكي أن مذهب السلف إمرارها كما جاءت حيث قال: "أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ماكتبنا من الآيتين والاخبار في هذا الباب مع اعتقادهم بأجمعهم أن الله تبارك وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض"3. ثم ذكر تأييداً لما قال: إن قتادة لم يفسر آية {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ..} الآية. وذكر قول سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى من نفسه لا كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه4. متصوراً من ذلك أن مذهبهم التفويض، وليس الأمر كذلك، إذ أنهم يعنون بالسكوت عليه إمراره على الظاهر دون بحث عن الكيفية أو تكلف لتأويل صارف لذلك الظاهر المتبادر إلى الذهن- كما سبق أن أوضحت.

_ 1 انظر هذه التأويلات في كتاب الأسماء والصفات ص 331. 2 انظر كتاب مشكل الحديث ص 75،80. 3 الأسماء والصفات ص: 330. 4 نفس المصدر.

لذلك فإن المذهب الحق الذي عليه السلف الصالح إزاء هذه الصفات هو إثباتها إثباتاً حقيقياً لله تبارك وتعالى، كما قال العلامة جمال الدين القاسمي حاكياً مذهبهم ذاك: "مذهب السلف هو إثبات ذلك من غير تكييف له، ولا تشبيه ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الكريم عما تعرفه العرب وتضعه عليه بتأويل. يجرون على الظاهر ويكلون علمه إليه تعالى، ويقرون بأن تأويله "أي ما يؤول إليه من حقيقة" لا يعلمه إلا الله. وهكذا قولهم في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح"1. وقد أورد الإمام أبو بكر بن خزيمة النصوص التي أوردها البيهقي مستدلاً بها على إثبات صفة اليدين لله تبارك وتعالى. وإن كلتا يديه يمين لا شمال فيهما، كما ورد في الحديث حيث قال مترجماً لبعض هذه النصوص: "باب ذكر سنة ثامنة تبين وتوضح أن لخالقنا جل وعلا يدين كلتاهما يمينان لايسار لخالقنا عز وجل إذ اليسار من صفة المخلوقين"2. إلا أنني أقول أن المنع من إطلاق اليسار على إحدى يدي الله سبحانه وتعالى إنما كان تأدباً فقط، لأن إثبات اليمين وإسناد بعض الشؤون إليهما كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وكما في قوله عليه السلام: "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار" يدل على أن له يداً أخرى سوى اليمين. فوصفتا تأدباً بأن كلتيهما يمين.

_ 1 القاسمي، محمد جمال الدين، محاسن التأويل 14/ 5149. 2 انظر كتاب التوحيد ص: 66، تحقيق دكتور محمد خليل هراس.

وقصارى القول: إن ورود ذكر اليمين، والكف، واليد في النصوص السابقة وغيرها يدل أعظم دلالة على ثبوت اليد حقيقة، ويبطل كل محاولات المعطلة في التأويل ويدل كذلك على أن يدي الله تبارك وتعالى توصفان باليمين، ويوصف الرب تبارك وتعالى بأن له كفاً على الحقيقة دون تكلف تأويل، ودون بحث عن كيفية هي عنا في علم الغيب. الأصابع: وهذه صفة من الصفات الثابتة لله تبارك وتعاك بالسنة الصريحة الصحيحة، وقد أورد البيهقي رحمه الله حديثين جاء بذكر هذه الصفة. أحدهما: حديث عبد الله بن مسعود الذي أورده بروايات متعددة وكلها صحيحة وهو أن رجلاً من أهل الكتاب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أو يا رسول الله، إن الله جعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيهزهن فيقول: أنا الملك، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ …} الآية1. وثانيهما: حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمن،

_ 1 الأسماء والصفات ص: 334، والحديث متفق عليه انظر: كتاب التوحيد من صحيح البخاري مع شرحه 13/393، وصحيح مسلم في صفات المنافقين رقم:2786، ترقيم محمّد فؤاد عبد الباقي 4/2148.

كقلب واحد يصرفها حيث يشاء". ثم قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا إلى طاعتك" 1. فهذان الحديثان هما مدار كلام البيهقي حول هذه الصفة. فأما الحديث الأوّل، فله بشأنه موقفان: أحدهما: ردّ ما قد يتوهم من إثبات هذه الصفة به، وإنكار ما جاء فيه. وثانيهما: التأويل إذا كان لا بد من القبول. فأما الموقف الأوّل: فمبني على ما ذكره من كلام للشيخ أبي سليمان الخطابي حول هذا الحديث، والذي رأى فيه البيهقي سلامة التصوّر وصحة التوجيه والاستنتاج وهو قوله: "اليهود مشبهة وفيما يدعونه منزلاً في التوراة. ألفاظ دخل في باب التشبيه، ليس القول بها من مذاهب المسلمين، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بما أنزل الله من كتاب" 2. والنبي صلى الله عليه وسلم أولى الخلق بأن يكون قد استعمله مع هذا الحبر، والدليل على ذلك أنه لم ينطق فيه بحرف تصديقاً له أو تكذيباً، إنما ظهر منه في ذلك الضحك المخيل للرضا مرة، والتعجب والإنكار أخرى، ثم تلا الآية، والآية محتملة للوجهين معاً، وليس فيها للإصبع ذكر، وقول من قال من الرواة: "تصديقاً لقول الخبر ظن وحسبان"3.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 340. ورواه مسلم في كتاب القدر رقم: 2654، 4/2045. 2 أخرجه البخاري في كتاب الشهادات. انظر: الصحيح مع شرحه5/291. 3 الأسماء والصفات ص: 337.

ثم يؤكد البيهقي صحة كلام الخطابي هذا بأثر أسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "إن اليهود والنصارى وصفوا الربّ عز وجل، فأنزل الله عز وجل على نبيّه صلى الله عليه وسلم: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ثم بين للناس عظمته فقال: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فجعل وصفهم ذلك شركاً. قال البيهقي: "هذا الأثر عن ابن عباس إن صح، يؤكد ما قاله أبو سليمان - رحمه الله"1. ومن هذا، تبيّن لنا أن البيهقي يعتمد في إنكاره لما جاء في الحديث على أمور: 1 - أن ذكر الأصابع في الحديث من قول اليهودي. 2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق بما يدل على تصديق الخبر. 3 - دلالة هذين الأمرين على أن إثبات الأصابع من عقيدة اليهود وليس من عقيدة المسلمين. 4 - إن كثيراً مما ورد في كتب اليهود صريح في التشبيه، والتشبيه ليس من عقائد المسلمين. 5 - إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى في حديث آخر عن تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم، وأولى بأن يكون أول من يطبق ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أحد المواقف المقتضية لذلك. 6 - إن ما ورد في بعض روايات الحديث من قول بعض الرواة عن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان تصديقاً لقول الخبر، إنما هو ظن وحسبان.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 339.

هذا عن موقف الرفض كلية للاستدلال بما جاء في الحديث، وهو موقف جد خطير، من قال به وارتضاه - وفي مقدمتهم شيخنا البيهقي - فقد وقع في خطأ كبير، ونحن نجيب عن النقاط التي كانت سبب الرد للاستدلال بأن نقول: أما كون ذكر الأصابع في الحديث من قول اليهودي لا من قول النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك صحيح، وأما أن النبي صلى الله عليه وسلملم ينطق بما يصدق قول الخبر، فإنه قد حصل منه صلى الله عليه وسلم مما يدل على التصديق ما هو أبلغ من النطق، وهو سروره عليه السلام بقول اليهودي ذاك وابتهاجه بالحق الذي أجراه الله على لسانه ولذلك ضحك ضحكاً شديداً بدت منه أواخر أسنانه عليه السلام من شدته، ولو لم يكن ماجاء به ذلك اليهودي حقاً، بل جرأة على وصف الله تعالى بما لا يليق به سبحانه، لما كان هذا الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم، بل لحدث ضده، ولتمعر وجهه عليه السلام ولغضب غضباً شديداً، ولزجر اليهودي، وبين كذبه فيما قال، ولفند ما زعم سيما وأن قول ذلك الحبر يمس العقيدة في صميمها، لأنه يتعلّق بذات الخالق البارىء سبحانه وتعالى. ولذلك فإن إمام الأئمة أبا بكر بن خزيمة يرى بأن مثل هذا الوصف للنبي صلى الله عليه وسلم- أي بأن ضحكه كان إنكاراً لا تصديقاً- ينافي الإيمان والتصديق برسالة محمّد صلى الله عليه وسلم، فيقول في ذلك: " ... وقد أجل الله قدر نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف الخالق البارئ بحضرته، بما ليس من صفاته، فيسمعه فيضحك عنده، ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلّم به، ضحكاً تبدو نواجذه تصديقاً وتعجباً لقائله، لا يصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة مؤمن مصدق برسالته"1.

_ 1 كتاب التوحيد ص: 76.

وهذا الحديث يمثل نوعاً من أنواع السنة، وهو التقرير لأنه عليه السلام أقرّ كلام اليهودي ورضيه، وإلا لما سكت عليه، بل كان فند قوله وأظهر كذبه فيه في الحال. وبهذا يبطل المزعم الثالث وهو أن إثبات الأصابع من عقيدة اليهود لا من عقيدة المسلمين، وأي مانع يمنع من أن تتفق اليهودية مع الإسلام في بعض العقائد التي سلمت من التحريف في دينهم إذ إن عقيدة الإسلام واحدة في كشف الشرائع. وإنما الديانات الأخرى اعتراها تحريف وتبديل مس العقائد إلى جانب التشريعات، وإذا كان هذا الإثبات عقيدة لليهود فهو مما سلم من التحريف. وأما وصف كثير مما ورد عن اليهود بأنه صريح في التشبيه والتشبيه ليس من عقائد المسلمين، فيكفي أن ذلك كثير وذلك لا يشمل القليل الباقي، وهذا الحديث يدلّ على أن اليهود يثبتون هذه الصفة بغض النظر عن أنهم يشبّهونها بصفات خلقه، لأن تشبيه اليهود لصفة من الصفات لا يوجب علينا نفيها باب نثبتها لله على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تشبيه أو تأويل أو تعطيل. وأما ما ورد من نهيه صلى الله عليه وسلم عن تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم فيما قالوا، فإن هذه بالنسبة لأمة الإسلام عامة، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو رسولها لا يأمر أمته بأمر إلا ويكون أوّل العاملين به، ولا ينهاهم عن آخر إلا وهو أوّل من يبادر إلى اجتنابه، إلا أنه يختلف عن أمته، لأنه رسول يوحى إليه فإذا كان ما سمعه من أهل الكتاب حقاً جاءه الوحي بإقراره، وإذا كان باطلاً جاءه بتكذيبه وإبطاله وهنا - أي في مجال العقيدة - لا مجال لعدم التصديق وعدم التكذيب، بل لا بد من واحد منهما، لأن العقيدة واضحة، وهذه القصة وقعت مع سيد البشر وتمس العقيدة في صميميا، فاليهودي صادق فيما قال، وإلا لبادر عليه السلام بالردّ والزجر، وبيان الواضح الصحيح في القضية.

أما إن ما ورد من قول بعض الرواة عن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان تصديقاً، فإن ذلك ليس ظناً وحسباناً لأنه وارد من صحابي أعرف منا بالعقيدة الصحيحة وبأحوال النبي صلى الله عليه وسلم التي منها أنه لا يضحك للكذب ويعجب له، بل يتمعّر وجهه، فيكذب صحاحبه، ويوضح زيف قوله، وما كان لصحابي أن يقول مثل هذا القول جزافاً وهم أحرص الأمة على إيضاح العقيدة الحقة، فعنهم جاءنا الإسلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مصوّراً على حقيقته بروايتهم لأقواله، وأفعاله وتقريراته، التي تمثّل الرافد الثاني من روافد الإسلام بعد كتاب الله عز وجل. وهذا كلّه يوضح أيضاً عدم صحة ما رواه البيهقي عن ابن عباس مؤكداً به كلام الخطابي، ولم أجد العبارة الأخيرة التي هي بيت القصيد وهي قوله: "فجعل وصفهم ذلك شركاً" لم أجدها في شيء من كتب التفسير التي نقلت رأي ابن عباس في تفسير الآية. وعلى فرض صحته فإنه بعيد كل البعد عن أن يكون القصد منه نفي صحّة ما قاله اليهودي، لأن ذلك لا يعدو كونه إشارة إلى سبب نزول الآية وهو ما ذكره من أن أهل الكتاب من يهود ونصارى وصفوا الله بأوصاف لا تليق به فأنزل الله هذه الآية تبين عظمة الله وكذبهم فيما قالوا وهو سبب ذكره الطبري عن غير ابن عباس1. والآية مكية. بينما القصة حدثت في المدينة.

_ 1 انظر: جامع البيان24/28.

وأما الموقف الثاني: وهو قبول ما جاء في الخبر، وتأويله. فإن ذلك مبني على فرض صحّة أن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم كان إقراراً وتصديقاً. وذلك لا يعني - في نظر البيهقي - إثبات هذه الصفة على ظاهرها، بل المقصود بما جاء في الحديث أحد أمرين: فإما أن يكون المراد بما جاء في الحديث إظهار قدرة الله تعالى على خلقه، جرياً في ذلك على ما قيل في قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} . وإما أن يكون المراد بذلك إصبعاً من أصابع خلقه، لا إصبع نفسه. فأما التأويل الأوّل: فيقول فيه: " ... ولو صح الخبر من طريق الرواية كان ظاهو اللفظ منه متأولاً على نوع من المجاز، أو ضرب من التمثيل قد جرت به عادة الكلام بين الناس في عرف تخاطبهم، فيكون المعنى في ذلك على تأويل قوله عز وجل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أي: قدرته على طيها، وسهولة الأمر في جمعها، وقلة اعتياصها عليه بمنزلة من جمع شيئاً في كفه، فاستخف حمله، فلم يشتمل بجميع كفه عليه لكنه يقله ببعض أصابعه، فقد يقول الإنسان في الأمر الشاق إذا أضيف إلى الرجل القوي: إنه ليأتي عليه بإصبع واحدة، أو أنه يعمله بخنصره أو أنه يكفيه بصغرى أصابعه، أو ما أشبه ذلك من الكلام الذي يراد به الاستظهار في القدرة عليه والاستهانة به"1.

_ 1 الأسماء ص: 338.

أما التأويل الثاني: فما عزاه إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمّد ابن مهدي الطبري - رحمه الله - من قوله: "إنا لا ننكر هذا الحديث، ولا نبطله لصحة سنده، ولكن ليس فيه أن يجعل ذلك على إصبع نفسه، وإنما فيه أن يجعل ذلك على إصبع، فيحتمل أنه أراد إصبعاً من أصابع خلقه، قال - أي الطبري - وإذا لم يكن ذلك في الخبر لم يجب أن يجعل إصبعاً"1. وهذان التأويلان اللذان ارتضاهما البيهقي هما من ضمن تأويلات ذكرها شيخه ابن فورك، وأشار إلى صحتها جميعها2. على معنى أن ما ورد في الحديث صالح لأن يحمل على أحد هذه التأويلات. ويبدو أن البيهقي يفضل هذا الموقف الأخير الذي يقتضي قبول الحديث مع تأويله على أحد الوجهين اللذين ذكرهما لأنه قد ثبت في حديث آخر - وهو الحديث الثاني من الحديثين اللذين صدرت هذا المبحث بذكرهما - ثبت ذكر الأصابع مضافة إلى الله عز وجل- فلم يجد البيهقي - رحمه الله - طريقاً له سوى التأويل. وهذا الحديث هو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي تقدّم ذكره وفيه: "إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن".

_ 1 الأسماء ص: 339. 2 انظر: مشكل الحديث ص: 79.

وقد أوّل البيهقي هذا الحديث: "بأن المراد أن القلوب تحت قدرته وملكه، وفائدة تخصيصها بالذكر أن الله تعالى جعل القلوب محلاً للخواطر، والإيرادات، والعزوم، والنيات، وهي مقدّمات الأفعال، ثم جعل سائر الجوارح تابعة لها في الحركات والسكنات، ودلّ بذلك على أن أفعالنا مقدورة لله تعالى مخلوقة، لا يقع شيء دون إرادته، ومثل لأصحابه قدرته القديمة بأوضح ما يعقلون من أنفسهم، لأن المرء لا يكون أقدر على شيء منه على ما بين إصبعيه"1. وهذا التأويل بعينه ما ذهب إليه ابن فورك2 شيخ البيهقي. كما يرى البيهقي أنه ربما كان المراد بالإصبعين: نعمتي النفع والدفع، أو أثرية في الفضل والعدل، ويؤيد هذا الاحتمال بما ورد في بعض روايات هذا الحديث: "إذا شاء أزاغه وإذا شاء أقامه" وقوله في سياق الخبر: "يا مقلب القلوب ثبّت قلبي" 3. وبهذا يتضح لنا أن رأي البيهقي في الأحاديث الواردة بإثبات الأصابع لله تعالى، تأويلها على حسب ما يقتضيه سياق كل نصّ. فأما عن موقفنا من كلامه على الحديث الأوّل، فقد سبق بيانه. أما الحديث الثاني فإنني أقول: إن تأويل ما ورد فيه غير جائز لأن ذلك ينافي ما ورد من أجله، فهو إلى جانب إظهار قدرة الله يثبت هذه الصفة إثباتاً حقيقياً، إذ وردت بلفظ الإفراد مرة، والتثنية أخرى، والجمع ثالثة.

_ 1 الأسماء ص: 341، والاعتقاد ص: 66. 2 انظر: مشكل الحديث ص: 77. 3 الأسماء ص: 341.

وهذا هو موقف السلف في أمثال هذه النصوص أنهم يثبتونها على ظاهرها من غير تأويل أو تشبيه. اسمع ما قاله أحد أئمة السلف في الردّ على مؤولي هذا الحديث وهو الإمام أبومحمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال - رحمه الله-: "إن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث، لأنه عليه السلام قال في دعائه: "يامقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك"، فقالت له إحدى أزواجه: أو تخاف يا رسول الله على نفسك؟ فقاك: "إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله عز وجل". فإن كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم الله تعالى، فهو محفوظ بتينك النعمتين، فلأي شيء دعا بالتثبيت؟، ولم احتج على المرأة التي قالت له: "أتخاف على نسفك؟ " بما يؤكد قولها، وكان ينبغي أن لا يخاف إذا كان القلب محروساً بنعمتين"1. ثم يبين بعد ذلك رأيه في ما ورد به الحديث قوله: "فإن قال لنا: ما الإصبع عندك ههنا؟ قلنا: هو مثل قوله في الحديث الآخر "يحمل الأرض على إصبع" وكذا إصبعين، ولا يجوز أن تكون الإصبع ههنا نعمة. ... ولا نقول إصبع كأصابعنا، ولا يد كأيدينا، ولا قبضة كقبضاتنا لأن كل شيء منه عز وجل لا يشبه شيئاً منا"2. فهذا هو مذهب السلف بشأن هذه الصفة وأمثالها، وهو المذهب الحقّ لموافقته لما جاءت به النصوص الحديثية إذ لا فرق عندهم في الإثبات

_ 1 تأويل مختلف الحديث ص: 209. 2 ابن قتيبة، المصدر السابق.

بين ما ورد بالكتاب، أو بالسنة لأنها المصدر الثاني للتشريع فإذا صحت أفادتنا وجوب اعتقاد ما نصت عليه، على وفق الظاهر منه دون تكلّف تأويل، ودون تشبيه، إذ إن ذلك يدور على وفق قاعدة وضعها القرآن لتكون منهجاً قوياً لإثبات الحقّ المصحوب بالتنزيه وهي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فإثبات أي صفة يقتضي منا عدم تمصوّر مشابهة أحد من خلقة له فيها. إذ إن إثباتها له - سبحانه - إنما يكون على ما يليق بعظمته وجلاله. وقد أورد البيهقي - رحمه الله - الكثير من الصفات التي سار فيها على منهج التأويل لها، بعد أن أورد أخباراً اشتملت على ذكرها، وكلّها أخبار صحيحة، ليس فيها مطعن جملة، ومما ذكره من الصفات مصحوبة بالأحاديث التي ذكرها: الساعد والذراع والساق، والقدم، والرجال، والجنب، ثم أخذ يؤول كلّ صفة إلى ما يرى أن سياق الحديث يدلّ عليه ويرى ذلك أمراً جائزاً في اللغة. وإذا كان البيهقي قد أثبت الوجه، واليد، والعين، وهي بعض من صفات الذات الخبرية، فما الذي دعاه إلى تأويل الباقي منها؟ الواقع أنه قد شعر بأن ما أثبته منها سيكون حجة عليه فيما نفاه فأعد الجواب عن ذلك بأن قال: "فإن قيل: فهلا تأؤلت اليد والوجه على هذا النوع من التأويل، وجعلت الأسماء فيها أمثالاً كذلك؟ قيل: إن هذه الصفات مذكورة في كتاب الله عز وجل بأسمائها وهي صفات مدح، والأصل أن كل صفة جاء بها الكتاب أو صحّت بأخبار التواتر، أو رويت من طريق الآحاد وكان لها أصل في الكتاب أو خرجت على بعض معانيه، فإنا نقول بها، ونجريها على ظاهرها من غير تكييف،

وما لم يكن له في الكتاب ذكر، ولا في التواتر أصل، ولا له بمعاني الكتاب تعلّق، وكان مجيئه عن طريق الآحاد، وأفضى بنا القول إذا أجريناه على ظاهره إلى التشبيه فإنا نتأوّله على معنى يحتمله الكلام، ويزول معه معنى التشبيه، وهذا هو الفرق بين ما جاء في ذكر القدم، والرجل، والساق وبين اليد والوجه، والعين"1. وقد سار فى منهجه هذا على طريقة الخطابي الذي حكى عنه نفس الكلام2. فالبيهقي إذاً يرى أن هذه الصفات لم تثبت بأي نوع من أنواع الأدلة التي يرى أن إثبات الصفات على ظاهرها لا يكون إلا بها وتلك الأنواع هي: 1 - أن تثبت صراحة بكتاب الله تعالى. 2 - إو تكون ثابتة بأخبار متواترة. 3 - أو تكون أدلتها أحاديث آحاد وكان لها أصل في كتاب الله تعالى أو لها تعلّق بمعانيه. وهو بذلك يرى أن هذه الأنواع لم تتوفّر إلا في أدلّة الصفات الثلاث التي أثبتها، وهي: الوجه، والعين، واليدين. أما ما سوى ذلك فإنما ورد ذكره في أخبار آحاد، وإجراؤه على الظاهر يفضي إلى التشبيه - في نظر البيهقي - لذلك كان تأويله لها.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 353. 2 انظر: الأسماء والصفات ص: 335.

فأحاديث الآحاد لا يحتج بها مفردة لإثبات العقيدة في نظره وهذه قضية خطيرة، والقول بها مرفوض تمام الرفض، لأنه قول مبتدع لم يقل به أحد من سلف هذه الأمة، ولم يخطر لأحدهم على بال. ويلزم من هذا القول الخاطئ ردّ مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمجرد أنها لم تتواتر. والتواتو ليس شرطاً لصحة الاستدلال بالحديث، بل المهم صحة ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا صحّ وجب علينا العمل به اعتقاداً أو تشريعاً. وقد تناول الإمام ابن القيم - رحمه الله - هذا الزعم الباطل من وجوه كثيرة إلا أن ما ذكرته كاف لإبطال هذا الرأي، ومن أراد المزيد فعليه بمراجعة ابن القيم لذلك1. بقي أن نعرف رأى البيهقي في النوع الثاني من الصفات الخبرية وهو الفعلية منها. وذلك ما سيتضح لنا من المبحث التالي إن شاء الله.

_ 1 انظر: مختصر الصواعق المرسلة2/394 وما بعدها.

المبحث الثاني: صفات الفعل الخبرية

المبحث الثاني: صفات الفعل الخبريّة لقد عرفنا في المبحث السابق ما ذهب إليه البيهقي في صفات الذات الخبرية ورأينا كيف أنه سلك فيها منهجا - هما: الإثبات لبعضها والتأويل للبعض الآخر، وفي هذا المبحث سوف يكون الحديث عن صفات الفعل الخبرية، وهي القسم الثاني من الصفات الخبرية. وقبل أن أبدأ الحديث عنها مفصلاً أحب أن أبيّن أن البيهقي - رحمه الله - سلك فيها منهجين أيضاً هما: التأويل والتفويض وليس لها من الإثبات نصيب عند البيهقي، مع أنه أورد أدلتها صريحة واضحة من النصوص الشرعية إلا أنه فوض القول في الاستواء والنزول وما في معناه كالمجيء والإتيان، زاعماً أن هذا هو مذهب السلف وهو أسلم في هذه الصفات خاصة، وقد كان تقويضه لها على أساس أن الآيات الواردة بذكرها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وإن حظ الراسخين في العلم أن يقولوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} كما سيتبين لنا في موضعه من هذا المبحث بإذن الله. إلا أنني أرى من المناسب أن أقدم بين يدي هذا المبحث إجمالاً لمعنى المحكم والمتشابه في اللغة والاصطلاح، فأقول: إن للمحكم في اللغة إطلاقات متعددة، منها ما ذكره ابن منظور حين قال: " ... والعرب تقول: حكمت، وأحكمت، وحكمت، بمعنى منعت ورددت ومن هذا قيل للحاكم بين الناس حاكماً، لأنه يمنع الظالم من الظلم. قال الأصمعي: أصل الحكومة ردّ الرجل عن الظلم قال: ومنه سميت حكمة اللجام لأنها ترد الدابة. وقال الأزهري: وحكم الشيء

وأحكمه كلاهما منعه من الفساد"1. إلى غير ذلك من الإطلاقات التي تتفق جميعها في معنى عام هو - كما يقول الشيخ محمّد رشيد رضا: "المنع"2. أما المتشابه: فيطلق في اللغة على المماثلة بين شيئين والعبارات الواردة في معنى المتشابه لا تعني أكثر من ذلك. يقوله ابن منظور: "الشَّبْه والشَّبَه، والشَّبِيه، المثل، والجمع أشباه وأشبه الشيء ماثله ... "3. أما في اصطلاح العلماء: فقد وقع بينهم في ذلك اختلاف كبير فقد ذكر الإمام الطبري عن السلف في ذلك ما لا يقل عن سبعة أقوال: فمن قائل إن المحكمات هي الناسخ، والحلال والحرام، والحدود والفرائض، وما يؤمن به ويعمل به. والمتشابهات: المنسوخ، الأمثال، والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به. وهذا مروي عن ابن عباس، وقتادة، وابن مسعود، والسدي والضحاك وغير هم. ومنهم من قال: إن المحكم ما أحكم الله فيه بيان الحلال والحرام وما سوى ذلك فهو متشابه، يصدق بعضه بعضاً. وهو مروي عن مجاهد وعكرمة.

_ 1 لسان العرب12/141، 143. 2 تفسير المنار3/163، ومناهل العرفان للزرقاني2/166. 3 لسان العرب13/503.

ومنهم من قال: إن المتشابه هو الحروف المقطعة في أوائل بعض السور مثل: "الم" و"المص". وهذا القول مروي عن ابن عباس أيضاً. إلى غير ذلك من الأقوال التي أوردها الطبري عن السلف1. التي لا يوجد فيها أي قول يجعل آيات الصفات من المتشابه، وإنما القول بذلك حدث متأخراً من بعض العلماء، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وذكره أيضاً الشيخ محمود الألوسي في تفسيره فقال: "واعلم أن كثيراً من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد، والقدم، والنزول إلى السماء الدنيا، والضحك، والعجب، وأمثالها من المتشابه"2. وهذا القول مشهور عن بعض الأشاعرة ومنهم البيهقي إلا أن البيهقي يختلف عنهم في أنه لم يجعل جميع هذه الصفات من المتشابه، بل اقتصر على صفة الاستواء والنزول وما في معناه، أما بقية الصفات فأثبتها كما تقدم في اليد والعين والوجه، أو أوّلها كما هو مذهبه في بقيتها. ولا داعي للاستطراد في ذكر ما دار حوله هذه المسألة من نزاع طويل، إذ المهم أن نعرف أن السلف بريئون من ذلك، إذ لم يقل أحد منهم بالتفويض لأن آيات الصفات من المتشابه كما ادعى ذلك البيهقي، وسيتضح لنا ذلك أكثر من ثنايا هذا المبحث بإذن الله ولنبدأ أولاً بما فوض فيه من هذه الصفات وهي الاستواء والنزول والمجيء والإتيان.

_ 1 انظر: جامع البيان للطبري3/172-175. 2 روح المعاني للألوسي3/78، وانظر: تفسير الإخلاص لابن تيمية ص: 141، والإتقان للسيوطي2/6، والمفرادات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني كتاب (الشين) .

صفة الاستواء وهي من أهم الصفات التي بحثها البيهقي - رحمه الله - كما أن الكلام حولها يعد من أكثر ما دار الكلام حوله من مباحث الصفات. وقد ورد إثبات هذه الصفة لله تبارك وتعالى في سبعة مواضع من كتابه العزيز وهي: قوله تعالى: في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1. وقوله في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} 2. وقوله في سورتي الأعراف ويونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 3. وقوله في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 4. وقوله في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 5. وقوله في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 6.

_ 1 سورة طه آية: 5. 2 سورة الفرقان آية: 59. 3 سورة الأعراف آية: 54، وسورة يونس آية: 3. 4 سورة الرعد آية: 2. 5 سورة السجدة آية: 4. 6 سورة الحديد آية: 4.

فأمّا العرش فإن البيهقي - رحمه الله - قد ذهب إلى القول بأنه السرير، وأنه جسم مجسم، خلقه الله تعالى، وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه، والطواف به، كما خلق في الأرض بيتاً، وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة، وذكر أن أقوال المفسرين مجتمعة على هذا الرأي1. وأما الاستواء: فإنه يذهب فيه إلى القول بالتفويض زاعماً أن هذا هو مذهب السلف، وأنه هنا أسلم من التأويل الذي رأيناه يذهب إليه في بعض ما مضى من الصفات الخبرية. ولذلك رأيناه يصدر كلامه عن هذه الصفة بذكر هذا الرأي وتأييده بعبارات نقلها عن السلف، ظاناً أنها ترمي إلى القول بالتفويض. يقول - رحمه الله - بعد إيراده للآيات السابقة - التي بها ثبتت هذه الصفة لله تبارك وتعالى - يقول: "فأما الاستواء، فالمتقدمون من أصحابنا رضي الله عنهم كانوا لا يفسرونه، ولا يتكلمون فيه، كنحو مذهبهم في أمثال ذلك"2. ثم ذكر بسنده عن الأوزاعي قوله: "كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ويؤمن بما وردت به السنة من صفاته جل وعلا". وذكر بسنده أيضاً عن يحيى بن يحيى أنه قال: "كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى فكيف استوى؟ قال: فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، فأمر به أن يخرج".

_ 1 الأسماء والصفات ص: 392. 2 المصدر نفسه ص: 407.

وذكر عن ربيعة الرأي أنه سئل عن قول الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: الكيف مجهول والاستواء غير معقول ويجب علي وعليك الإيمان بذلك كلّه". وذكر عن سفيان بن عيينة قوله: "كلّ ما وصف الله تعالى من نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته والسكوت عليه". ثم قال: "وعلى هذه الطريقة يدلّ مذهب الشافعي رضي الله عنه، وإليها ذهب أحمد بن حنبل، والحسين بن الفضل البلخي، ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي"1. وذكر بعد ذلك آراء أخرى سأعرض لذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. إلا أنني أحب أن أقرّر هنا أوّلاً أن التفويض هو الرأي الصحيح في نظر البيهقي بدليل تأييده له بآثار السلف السابقة، وبدليل ما ذكره في كتاب الاعتقاد الذي يعتبر آخر كتاب جمع فيه ما يراه واجب الاعتقاد حيث قال بعد أن ورد النصوص الواردة في هذا الشأن: "ثم المذهب الصحيح في جميع ذلك الاقتصار على ما ورد به التوقيف دون التكييف، وإلى هذا ذهب المتقدمون من أصحابنا، ومن تبعهم من المتأخرين، وقالوا: الاستواء على العرش قد نطق به الكتاب في غير آية ووردت به الأخبار الصحيحة، وقبوله من جهة التوقيف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية له غير جائز"2.

_ 1 انظر هذه الآثار وتعقيب البيهقي عليها في: كتاب الأسماء والصفات ص: 408-410. 2 الاعتقاد ص: 42.

وهذه الطريقة هي إحدى طريقتين أشار البيهقي إليهما، ونسبهما إلى أصحاب الحديث، حيث قال: "وأهل الحديث فيما ورد به الكتاب والسنة من أمثال هذا، ولم يتكلم أحد من الصحابة والتابعين في تأويله على قسمين: منهم من قبله وآمن به ولم يؤوله، ووكل علمه إلى الله، ونفى الكيفية والتشبيه عنه. ومنهم من قبله، وآمن به وحمله على وجه يصح استعماله في اللغة، ولا يناقض التوحيد"1. وهو يشير بذلك إلى انحصار الحق في هاتين الطريقتين اللتين اختار الأولى منهما هنا، وسلك الثانية في كثير من المواضع كما تقدم. فالبيهقي - رحمه الله - يرى أن الاستواء قد ورد بإثباته لله تبارك وتعالى مجموعة من الآيات لا يسع أحد إنكار ما جاء فيها، إلا أنه لا يرى الإثبات الحقيقي، لذلك عمد - هنا - إلى التقيد باللفظ فقط مع التفويض في المراد بالمعنى، فجوز اعتقاد أن الله في السماء على العرش، لأنه سبحانه - أخبر بذلك، ولكن ما معناه؟ هذا أمر يتوقف البيهقي عن الخوض فيه، زاعماً أن هذه هي طريقة السلف، وأن هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. فقد ذكر - بعد سوقه لهذا الرأي عن السلف - ذكر بسنده عن عائشة رضي الله عنها قولها: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ

_ 1 المصدر نفسه ص: 44.

تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} 1. قالت رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" 2. وقد سبق أن ذكرت أنه لم يقل أحد من السلف بأن آيات الصفات من المتشابه، بل ذلك ابتدعه جماعة من المتأخرين، وليس لقولهم هذا ما يسنده من كلام السلف، فنسبته إليهم بدون دليل لا اعتبار له بل المشهور والمعروف عنهم إثباتهم للصفات جميعها بما فيها الاستواء إثباتاً حقيقياً. وسوف أتناول بعد قليل النظرتين إلى مذهب السلف - أعني من نظر إليهم على أنهم مفوضون، ومن نظر إليهم على أن مذهبهم التأويل، إلا أنني هنا أذكر بقية الآراء التي تعرض لها البيهقي في هذه الصفة، إذ يوجد آراء أخرى تعرض لها البيهقي وهي: 1 - أن الله جل ثناؤه فعل في العرش فعلاً سماه استواء، كما فعل في غيره فعلاً سماه رزقاً ونعمة، أو غيرهما من أفعاله، وهو رأي أبي الحسن الأشعري. وهذا الرأي مستحسن عند البيهقي، بدليل تعقيبه عليه بقوله: "ثم لم يكيف الاستواء، إلا أنه جعله من صفات الفعل، لقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وثم للتراخي، والتراخي إنما يكون في الأفعال، وأفعال الله توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة"3.

_ 1 سورة آل عمران آية: 7. 2 الاعتقاد ص: 45. 3 الأسماء والصفات ص: 410.

وهذا الرأي يشتمل على نفي لقيام الصفات الاختيارية بذات الله تبارك وتعالى. ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في بيان المقصود من هذا الرأي في الاستواء: "ومعنى ذلك عنده - أي عند الأشعري - وعند من ينفي قيام الأفعال الاختيارية بذاته أن يخلق في العرش معنى يسميه استواء، وهو عند الأشعري تقريب العرش إلى ذاته من غير أن يقوم به فعل، بل يجعل أفعاله اللازمة كالنزول والاستواء، كأفعاله المتعدية كالخلق والإحسان، وكلّ ذلك عنده هو المفعول المنفصل عنه"1. والبيهقي رحمه الله وإن استحسن هذا الرأي في كتاب الأسماء والصفات فإنه جزم بصحة الرأي السابق وأرجحيته واقتصر عليه في كتاب الاعتقاد الذي يعتبر متأخراً في التأليف عن كتاب الأسماء والصفات. 2 - أن معنى الاستواء: الاعتلاء، كما يقول: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح، بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو، فوجد فوق رأسي، والقديم سبحانه عال على عرشه. ونسب هذا القول إلي أبي الحسن علي بن محمّد الطبري، وذكر أنه رأى أصحابه من الأشاعرة مستنداً إلى ما ذكره أبو بكر بن فورك منهم2.

_ 1 مجموع الفتاوىي5/386. 2 الأسماء والصفات ص: 410.

وقد ذكره البيهقي على أن أصحابه يقصدون علوّ المكانة لا علوّ الذات، إلا أن هذا غير صحيح، فعلي بن محمّد الطبري قصد بذلك إثبات الاستواء على طريقة السلف كما ذكر ذلك عنه الذهبي1. وسيأتي مزيد بيان لهذا المذهب إن شاء الله. والقول بأن معنى الاستواء علوّ المكانة والقهر ذهب إليه جماعة من الأشاعرة منهم أبو بكر بن فورك شيخ البيهقي، كما في كتابه مشكل الحديث2. 3 - وثمة رأي ثالث في الاستواء ذكره البيهقي وهو القول بأن معناه: الاستيلاء والغلبة والقهر، كما يقال استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها، واستدل أصحابه بقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق ونسبه البيهقي أيضاً إلى كثير من متأخري الأشاعرة3، ومنهم سيف الدين الآمدي، وأبو حامد الغزالي وغيرهما4. وهو رأي المعتزلة أيضاً5. إلا أن هذا الرأي مرفوض تماماً عند البيهقي، لأن الاستيلاء عبارة عن غلبة مع توقع ضعف6.

_ 1 العلوّ للعلي الغفار للذهبي ص: 168. 2 مشكل الحديث ص: 146. 3 الأسماء والصفات ص: 412. 4 انظر: غاية المرام للآمدي ص: 141، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص: 104. 5 متشابه القرآن للقاضي عبد الجبّار1/73، 351. 6 الأسماء والصفات ص: 412.

وذكر ردّ ابن الأعرابي من علماء اللغة على رجل قال له: إنما معنى استوى استولى، فقال له ابن الأعرابي ما يدريك؟ العرب لا تقول استولى على العرش فلان حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب قيل قد استولى عليه، والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر1. وهذه الآراء التي ذكرها البيهقي تعتبر من أشهر الآراء في مسألة الأستواء، وإلا فهناك آراء أخرى، ولكن لا داعي لاستقصائها لأن الذي يهمنا هنا هو تحديد رأي البيهقي، ومن ثم معرفة المذهب الصحيح في هذه الصفة. وقد تحدد لنا رأي البيهقي أنه التفويض، الذي زعم أنه مذهب السلف، بعباراته التي نقلها عنهم في أكثر من مكان. وممن ذهب إلى القول بأن مذهب السلف التفويض الإمام السيوطي حيث قال: "وجمهور أهل السنة، منهم السلف، وأهل الحديث على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها"2. ونقل السيوطي الرأي نفسه عن الرازي أيضاً3. وممن نسب التفويض إلى السلف الشيخ عبد العظيم الزرقاني في مناهل العرفان حيث قال: "مذهب السلف ويسمى مذهب المفوضة ... وهو تفويض معاني هذه المتشابهات إلى الله وحده، بعد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة4.

_ 1 المصدر نفسه ص: 415. 2 الإتقان في علوم القرآن للسيوطي2/6. 3 المصدر نفسه. 4 مناهل العرفان2/182-183.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل صرح بعض المتأخرين بأن السلف متفقون مع الخلف على التأويل بمعني صرف نصوص الصفات عن ظواهرها، غير أن السلف كان تأويلهم إجمالياً، بمعنى أنهم يقطعون بأن ظاهر النصوص غير مراد، إلا أنهم لم يعينوا المراد، أما الخلف فقد عينوه1. وكلا الادعائين غير مسلم بهما. لأن المذهب الصحيح الذي تدل عليه النصوص المثبتة للصفات الاختيارية عامة، وصفة الاستواء على وجه الخصوص تدل على الإثبات الحقيقي لتلك الصفة، وفق ما تضمنه ذلك النص من معنى، مع الجزم بعدم المشابهة في ذلك بين الخالق والمخلوق. وهذا هو مذهب السلف القويم، فلا تأويل ولا تفويض في المعنى الذي أريد إثباته لله تبارك وتعالى وفيما يلي نورد تصويراً لمذهب السلف الصحيح، كما صوره أتباعهم السلفيون من أئمة أهل السنة من المحدثين والفقهاء، بإيراد بعض أقوالهم التي يثبتون لنا بها أن ما يظهر من نصوص الصفات هو المراد عند السلف دون ما عداه من المعاني، ولا يترتب على ذلك أي شبهة من تشبيه أو تجسيم، أو نحو ذلك مما يدعيه المتأخرون عن علماء الكلام.

_ 1 انظر: تحفة المريد على جوهرة التوحيد ص: 57، وشرح الخريدة البهية ص: 75، والعقيدة الإسلامية والأخلاق للدكتور عوض الله جاد حجازي، ومحمّد عبد الستار أحمد نصار ص: 38-40.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف، أما في كثير من الصفات فقطعاً، مثل: إن الله فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم ... علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما قصدوا خلاف هذا قط، وكثير منها قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك ... إلى أن قال: ما رأيت أحداً منهم نفاها (يعني الصفات الخبرية) وإنما ينفون التشبيه، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضاً"1. وقال في موضبع آخر: "وقد فسر الإمام أحمد النصوص التي تسميها الجهمية متشابهات، فبين معانيها آية، آية، وحديثاً حديثاً، ولم يتوقف في شيء منها هو والأئمة قبله مما يدلّ على أن التوقف عن بيان معاني آيات الصفات وصرف الألفاظ عن ظواهرها، لم يكن مذهباً لأئمة السنة، وهم أعرف بمذهب السلف، وإنما مذهب السلف إجراء معاني آيات الصفات على ظاهرها بإثبات الصفات له حقيقة، وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها، وتمر كما جاءت دالة على المعاني لا تحرّف، ولا يلحد فيها"2. وقال ابن القيم: "تنازع الناس في كثير من الأحكام ولم يتنازعوا في آيات الصفات، وأخبارها في موضع واحد، بل اتفق الصحابة والتابعون على إقرارها، وإمرارها، مع فهم معانيها، وإثبات حقائقها أعني فهم أصل المعنى، لا فهم الكنه والكيفية"3.

_ 1 الحموية الكبرى، ضمن مجموع الرسائل الكبرى1/470-471. 2 تسير سورة الإخلاص ص: 134-135، والإكليل ضمن مجموعة الرسائل الكبرى2/22-23. 3 مختصر الصواعق المرسلة1/15.

هذا عن مذهب السلف في الصفات عامة. أما بالنسبة للاستواء خاصة فقد ثبت عن غير واحد من السلف أنهم فسروه بما يتفق مع مذهبهم من الإثبات، فقد قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - في تفسير معنى الاستواء: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: علا1. وقال أبو العالية: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ارتفع. وقال مجاهد: "استوى": علا على العرش2. وحكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس "استوى بمعنى استقر، وفسر أبو عبيدة استوى بمعنى صعد"3. وبهذه التفسيرات الواردة عن غير ابن عباس في تفسير الاستواء بالعلو والارتفاع، يندفع ما وجهه البيهقي إلى التفسير الذي ذكره عن ابن عباس من أنه فسر قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} أي: صعد4. حيث ذكر أن هذا النقل عن ابن عباس فيه ضعف لضعف ناقله وهو الكلبي. واختار التفسير القائل: إن استوى بمعنى أقبل، فقد قال - رحمه الله – استوى: بمعنى أقبل صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء والقصد هو الإرادة، وذلك هو جائز في صفات الله تعالى ولفظ ثم تعلق بالخلق لا بالإرادة5.

_ 1 غاية الأماني في الردّ على النبهاني1/460. 2 صحيح البخاري مع شرحه13/403. 3 الإتقان للسيوطي2/706. 4 الأسماء والصفات ص: 412. 5 الأسماء والصفات ص: 413.

إلأ أن رواية ذلك عن غير ابن عباس، يؤيد صحته وهذه المعاني التي صرح بها بعض السلف هي ما أراده الأئمة بعباراتهم التي نقلها عنهم البيهقي، فيما تقدم على أنهم يقصدون التفويض وليس كذلك. قال أبو عمر بن عبد البر حافظ المغرب، وهو - كما هو معروف - من أئمة المالكية، فهو أعرف من غيره بما قصده مالك من عبارته السابقة - التي ذكرها البيهقي. قال أبو عمر: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلّها في القرآن، والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك"1. وقال القاضي أبو يعلى في بيان مقصد الأئمة من أمثال أقوالهم التي نقلها البيهقي: "لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها والواجب حملها على ظاهرها، وأنها من صفات الله، لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد، وسائر الأئمة. وذكر كلام بعضهم في ذلك"2. والخلاصة: إن المذهب الصحيح أن يقال في الصفات قول السلف رضي الله عنهم الذي تحقق أنه إجراء لنصوصها على ظاهرها فنثبتها إثباتاً حقيقياً، لا تمثيل فيه، ولا تحريف ولا تعطيل. فكما أن الله تعالى واحد في ربوبيته، وإلهيته، فهو واحد في صفاته، لا يشبه أحداً من خلقه، ولا يشبهه أحد منهم.

_ 1 نقلاً عن الحموية الكبرى لابن تيمية، ضمن مجموع الرسائل الكبرى 1/452-453. 2 المصدر نسفه 1/454-455.

فالاستواء إذاً ثابت لله تبارك وتعالى حقيقة فهو مستوى على عرشه بمعنى أنه عال ومرتفع عليه من غير حاجة منه سبحانه إليه، لأنه هو الذي خلقه وجعله أعلى المخلوقات ثم استوى عليه تبارك وتعالى. ومذهب الإثبات هذا هو ما ذكره البيهقي عن أبي الحسن الطبري على أنه علو مكانة، وهي نظرة إلى هذا القول غير صائبة، إذ إنه رحمه الله قصد بذلك الإثبات على طريقة السلف، فهو عال بذاته على عرشه. وإذا ثبت أن الله تبارك وتعالى مستو على عرشه، وعرشه فوق سمواته وأعلى مخلوقاته، فقد ثبت بذلك إثبات جهة العلو لله تبارك وتعالى، وهذا الأمر - يعني إثبات الجهة لله تبارك وتعالى - قد نفاه البيهقي رحمه الله. ذلك أنه حينما اختار القول بالتفويض في صفة الاستواء فوقف على اللفظ كما ورد به النص دون أن يتجاوز ذلك إلى تفسيره بالنسبة لله تبارك وتعالى - لأن ذلك في نظره من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله - أتى إلى الجهة الثابتة لله تبارك وتعالى ثبوتاً قطعياً فنفاها. وهاتان المسألتان - أعني الجهة والاستواء - بينهما صلة وثيقة لأن الجهة لازمة للاستواء. يقوله - رحمه الله - مبيناً مذهبه في عدم إثبات جهة لله تبارك وتعالى: " ... لكنه مستو على عرشه كما أخبره، بلا كيف، بلا أين"1.

_ 1 الاعتقاد ص: 44.

بمعنى أن الاستواء ثابت لله تبارك وتعالى خبراً، إلا أنه لا ينبغي لنا البحث عن معناه، لأن ذلك بحث في الكيف، كما أن الإشارة إليه بأين تؤدي إلى إثبات الجهة، ولا جهة له، لأننا إنما أثبتنا الاستواء لورود الخبر به، فأثبتناه لفظاً، مفوضين في المراد منه. ويقول في موضع آخر: " ... فإنه عز وجل لا يرى في جهة كما يرى المخلوق ... وهو يتعالى عن جهة"1. وهذا تصريح بنفي الجهة. ومن أبرز ما استدل به البيهقي على نفي الجهة والمكان عن الله سبحانه وتعالى حديث الادلاء، وهو ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون ما هذه التي فوقكم.." إلى أن قال: "والذي نفس محمّد بيده لو أنكم دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة لهبط على الله تبارك وتعالى"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} 2. قال البيهقي: " ... والذي روي في آخر هذا الحديث إشارة إلى نفي المكان عن الله تعالى، وأن العبد أينما كان فهر في القرب والبعد من الله تعالى سواء، وأنه الظاهر فيصح إدراكه بالأدلة والباطن فلا يصح إدرإكه بالكون في مكان. واستدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" 3، وإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان"4.

_ 1 الاعتقاد ص: 51. 2 سورة الحديد آية: 3. 3 رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء رقم: 2713، 4/2084. 4 الأسماء والصفات ص: 400.

فهذا الحديث وتلك الآية كما استدلّ بها الجهمية القائلون بالحلول، استدل بها الأشاعرة القائلون بنفي أن يكون الله في جهة من الجهات. ولا شك في بطلان الاستدلالين معاً. أما الأوّل فبشاعته لا تخفى، وبطلانه لا يحتاج إلى دليل، وأما الثاني - وهو ما ذهب إليه البيهقي - فإنه استدلال غير صحيح، لأن الأسماء الأربعة الواردة في الحديث متقابلة، اسمان منها لأزلية الربّ سبحانه وتعالى وأبديته واسمان لعلوه وقربه. فالمراد بالظهور هنا العلو، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} 1. أي: يعلوه2. وأما اسم الباطن فإنه يدلّ على أن الله مع علوّه بذاته سبحانه على جميع مخلوقاته، فإنه قريب منهم بعلمه سبحانه كما ورد في تفسير قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية3، فالحديث دليل لمثبتي الجهة لا لنفاتها. وقد صرح السلف- رحمهم الله - بإثبات علوّه سبحانه بذاته على جميع المخلوقات - كما ذكر البيهقي ذلك عن عبد الله بن المبارك رادّاً على من تعلق بقوله لإثبات الجهة فقال: " ... وأما الحكاية التي تعلق بها من يثبت لله تعالى جهة ... وذكر بسنده إلى علي بن الحسن قال: سألت عبد الله بن المبارك، قلت: كيف نعرف ربنا؟ قال: في السماء السابعة على عرشه. قلت: فإن الجهمية تقول هو هذا. قال إنا لا نقول كما قالت الجهمية، نقول: هو هو، قلت: بحد؟ قال أي والله بحد، قال البيهقي: إنما

_ 1 سورة الكفف آية: 97. 2 انظر: شرح الطحاوية ص: 254. 3 سورة المجادلة آية: 7.

أراد عبد الله بن المبارك بالحق حد السمع، وهو أن خبر الصادق ورد بأنه على العرش استوى فهو على عرشه كما أخبر، وقصد بذلك تكذيب الجهمية فيما زعموا نه بكل مكان وحكايته تدلّ على مراده1. فإما أن ابن المبارك قصد الردّ على الجهمية القائلين بأن الله تعالى بكل مكان، فهذا صحيح، لأن قولهها هذا كفر بواح، إذ إنه تكذيب لله تبارك وتعالى فيما أخبر عن نفسه أنه على عرشه لا أنه بكل مكان كما قال هؤلاء. وإما أن هذا الكلام لا يدل على أن ابن المبارك يقول بإثبات الجهة، وأن اعتماد مثبتيها على كلامه هذا ليس في محله فإن هذا ادعاء خاطىء، لأن ابن المبارك لم يقصد التقيد الوارد في النص دون معرفة معناه، وإنما أراد تحديد المراد من الآية أن الله تعالى بذاته مستو على عرشه استواء حقيقياً، معروف المعنى، مجهول الكيف، كما أنه لم يقصد بالحد بيان مسافة وأبعاد، تعالى الله عن أن نضيف إليه ما لم يصف به نفسه، فالسلف متقيدون بالنصوص في باب العقيدة كلّه، والصفات بوجه أخص. كل علّق البيهقي على قول آخر لابن المبارك يثبت الاستواء والفوقية لله تبارك وتعالى وهو قوله: "نعرف ربّنا فوق سبع سموات على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية إنه ههنا - وأشار إلى الأرض" علّق عليه البيهقي بقوله: "قلت: قوله: بائن من خلقه، يريد به ما فسره بعده من نفي قول الجهمية، لا إثبات جهة من جانب آخر، يريد ما أطلقه الشرع".

_ 1 الأسماء والصفات ص: 427.

فكلّ ما تقدم يدلّ على نفي البيهقي للجهة، بل صريح في ذلك. أما النصوص الواردة بإثباتها فقد عمد البيهقي - رحمه الله - إلى تأويلها كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 1، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 3. أوّلها بأنها محمولة على ما ورد في آيات الاستواء، فيكون المعنى في الجميع: من على العرش4. إلا أن إثباته أن الله على العرش إنما هو لموافقة الدليل المصرح بذلك مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وهو أمر أثبته البيهقي لفطاً فقط، وفوض في معناه، فيكون موقفه فيما أوّله على منوالها التفويض أيضاً، لأن الإحالة على معنى مفوض فيه تفويض كذلك. وهذا كما هو ظاهر تحكم لا دليل عليه، وقد سبق أن بينت بطلان كون مذهب السلف التفويض. كما أول قوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 5 بأن صعود الكلم الطيب والصدقة الطيبة إلى السماء عبارة عن حسن القبول لهما، وأوّل عروج الملائكة الوارد في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 6 بأن المراد عروجهم إلى مقامهم في السماء7.

_ 1 سورة الملك آية: 16. 2 سورة النحل آية: 50. 3 سورة الأنعام آية: 18. 4 الاعتقاد ص: 42. 5 سورة فاطر آية: 10. 6 سورة المعارج آية: 4. 7 الأسماء والصفات ص: 426.

إلا أن إثبات العلوّ والفوقيّة لله تبارك وتعالى. تواترت به الأدلة العقلية والنقلية ومن أبرز الأدلة التي تدل على أن الله في السماء عال على عرشه الذي هو أعلى مخلوقاته سبحانه حديث الجارية، الذي ذكره البيهقي، وأعله بالاضطراب. إلا أن الحديث ثابت في صحيح مسلم وفيه قال راوي الحديث معاوية بن الحكم السلمي: " ... وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية، فأطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك عليّ قلت: يارسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: "ائتني بها" فأتيته بها فقال لها: "اين الله؟ " قالت في السماء. قال: "من أنا؟ ": قالت: أنت رسول الله. قال: "أعتقها، فإنها مؤمنة" 1. قال البيهقي: "وهذا صحيح قد أخرجه مسلم مقطعاً، من حديث الأوزاعي ججاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير دون قصة الجارية. وظنه إنما تركها من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه"2. والواقع أن مسلماً قد ذكر قصة الجارية ولم يهملها، وهذا يدل على صحتها، وأن البيهقي لم يكن متأكداً من قوله ذاك، أو لعل النسخة التي كانت بيده كانت ناقصة. فقصة الجارية صحيحة، وهي من أوضح الأدلة على إثبات جهة العلو لله تبارك وتعالى، وعلى صحة الإشارة إليه بأين التي أنكرها البيهقي وأصحابه3.

_ 1 رواه مسلم في كتاب المساجد رقم: 537، 1/382. 2 الأسماء والصفات ص: 422. 3 الاعتقاد ص: 44.

فالأدلة الشرعية متضافرة على إثبات العلوّ لله تبارك وتعالى وكما هو ثابت بالسمع. فهو ثابت بالعقل والفطرة أيضاً. أما السمع: فجميع الآبات المثبتة للاستواء، ولا تقدّم مما تأوّله البيهقي دون دليل، وحديث الجارية الواضح الدلالة، وحديث الرؤية المشبهة برؤية الشمس والقمر، وحديث الإسراء الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرضت عليه الصلاة خمسون بقي يتردد بين موسى عليه السلام في السماء السابعة، وبين ربّه جتى خفّفت إلى خمس صلوات، وغير ذلك من الأدلة الكثيرة المتواترة التي تصل بنا إلى درجة اليقين الذي لا شبهة فيه ولا داعي لذكر المزيد. أما العقل فيثبت ذلك من وجوه ذكرها شارح الطحاوية. أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كلّ موجودين، إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات. وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر. الثاني: أنه لما خلق العالم فإما أن يكون خلقه قي ذاته أو خارجاً عن ذاته. والأوّل باطل. أما أوّلاً فبالاتفاق وأما ثانياً فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. والثاني: يقتضي كون العالم واقعاً خارج ذاته فيكون منفصلاً فتعينت المباينة، لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول. الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية، لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه والأوّل باطل، فتعيّن الثاني، فلزمت المباينة1.

_ 1 شرح الطحاوية ص: 263.

وأمّا ثبوته بالفطرة، فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهما عند الدعاء، ويقصدون جهة العلوّ بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى. وذكر محمّد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلّم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان. فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرووة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلوّ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا، قال: فلطم أبو المعالي رأسه ونزل. وقال. حيّرني الهمداني حيّرني. أراد الشيخ أن هذا أمر فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقّوه من المرسلين، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله، ويطلبه في العلوّ1. وقد ألف الشيخ ابن قيم الجوزية كتاباً مستقلاً2 لإثبات هذه القضية حشد فيه من الأدئة الدامغة ما يجعلها من المسلمات التي لا تقبل المراء. وقبل أن أختم الحديث عن هذه القضية أحب أن أبيّن أن لفظ الجهة فيه إجمال وتفصيل فنحن نوافق على نفيه عن الله تبارك وتعالى من وجه، ولكننا نثبته من الوجه الآخر. ذلك أنه قد يراد بنفي الجهة أن الله تعالى ليس موجوداً في داخل هذا العالم، فإن إريد هذا، فإن الله تبارك وتعالى منزه عن أن يكون في شيء من مخلوقاته.

_ 1 شرح الطحاوية ص: 263-264. 2 هو كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية.

وإن كان المقصود بنفي الجهة نفي الجهة العدمية التي هي عبارة عن أن الله تعالى فوق هذا العالم كلّه، فإن هذه جهة عدمية لا وجودية، ولما كان الله تعالى فوق خلقه، فلا يصح أن يقال إنه سبحانه ليس في جهة، بقصد نفي فوقيّته وعلوّه على خلقه. وعلى هذا فالجهة قسمان: 1 - جهة يجب أن ينزه الله تبارك وتعالى عنها، وهو هذا العالم الوجودي. فإن الله تعالى ليس حالاً في شيء من مخلوقاته. 2 - الجهة الثانية عدم محض، وهو ما فوق العالم. فإثبات جهة لله تبارك وتعالى بمعنى أنه فوق العالم على عرشه بائن من خلقه. فهذا واجب شرعاً، مع مراعاة عدم التشبيه والتكييف والتعطيل. لأن هذه الجهة ثابتة لله تبارك وتعالى بما تواتر من نصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة. بل جميع الأديان السماوية والكتب المنزلة تثبت ذلك. فمن قال إن الله تبارك وتعالى فوق العالم، لم يقل بجهة وجودية، بل بجهة عدمية أثبتها الشرع، وأثبتتها الفطرة، والعقل أيضاً. أما نفي علماء الكلام لهذه الجهة، والذي وافقهم البيهقي عليه فهذا نفي باطل مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وهذا التفصيل هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وسبقه إليه ابن رشد. فقد قال ابن تيمية موضحاً هذا المعنى: "إذا كان سبحانه فوق الموجودات كلّها، وهو غني عنها، لم يكن عنده جهة وجودية يكون فيها فضلاً عن أن يحتاج إليها.

وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فذلك ليس بشيء، ولا هو أمر وجودي، وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك وتوهموا، وأوهموا إذا كان في جهة كان في شيء غيره، كما يكون الإنسان في بيته، ثم رتبوا على ذلك أن يكون محتاجاً إلى غيره والله تعالى غني عن كل ما سواه"1. فإثبات الجهة لله تبارك وتعالى بالمعنى الذي ذكره ابن تيمية - رحمه الله - موافقاً في ذلك ابن رشد، هو ما تضافرت الأدلة الشرعية والعقلية، والفطرية على إثباته. أما نفي أن يكون الله تبارك وتعالى في جهة على الإطلاق، كما هو مذهب البيهقتي فإن هذا إثبات وهمي، وحقيقته نفي الوجود وإن كان أصحابه لم يقصدوا ذلك، وإنما قصدوا التنزيه إلا أنهم وقعوا في خطأ جسيم، خالفوا به الشرع والعقل والفطرة. النزول وما في معناه وبعد أن اتضح لنا رأي البيهقي في الاستواء وأنه اختار القول بالتفويض فيه فإنه هنا سلك نفس المسلك، ورضي القول نفسه، ويدخل في معنى النزول من الصفات الثابتة لله تبارك وتعالى الإتيان والمجيء فأما الإتيان والمجيء، فقد أورد البيهقي مجموعة من الآيات مصرحة بإثباتهما لله تبارك وتعالى، منها قوله سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} 2. وقوله سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 3.

_ 1 نقض تأسيس الجهمية1/520، وانظر: مناهج الأدلة لابن رشد ص: 178. 2 سورة البقرة آية: 210. 3 سورة الفجر آية: 22.

أمّا النزول فقد أورد حديثه المشهور المروي عن أبي هريرة رضي الله عنهقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله إلى السماء الدنيا لشطر الليل - أو لثلث الليل - الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ أو يسألني فأعطيه؟ ثم يقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم" 1. وقد أورده بروايات متعددة عن مجموعة من الصحابة رضوان الله عليهم وهذه نصوص قطعية من الكتاب والسنة في إثبات هذه الصفات، ولكن ما هي الطريق التي اختارها البيهقي لتوجيه ما جاء فيها؟. الواقع أن البيهقي قد وجدته هنا كحاله عند الحديث عن الاستواء حيث كان أوّل شيء بعد هذه النصوص هو سياقه لرأي أبي الحسن الأشعري بطريقة تشعر برضاه عنه. فقد قال: "وأما الإتيان والمجيء فعلى قول أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه: يحدث الله تعالى يوم القيامة فعلاً يسميه إتياناً ومجيئاً، لا بأن يتحرك، أو ينتقل فإن الحركة والسكون والاستقرار من صفات الأجسام، والله تعالى أحد صمد ليس كمثله شيء، وهذا كقوله عز وجل: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} 2، ولم يرد به إتياناً من حيث النقلة، وإنما أراد إحداث الفعل الذي به خرب بنيانهم وخر عليهم السقف من فوقهم، فسمّى ذلك الفعل إتياناً.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 448. ورواه البخاري في كتاب التوحيد، رقم: 7494، 13/464، ومسلم حديث رقم: 758، 1/521. 2 سورة النحل آية: 26.

وهكذا قال في أخبار النزول، إن المراد به فعل يحدثه الله عز وجل في سماء الدنيا كلّ ليلة يسميه نزولاً بلا حركة ولا نقلة، تعالى الله عن صفات المخلوقين"1. ومثل هذا القول ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنه قول من ينفي قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى كالأشعري وغيره2. والبيهقي - رحمه الله - أحد نفاتها، إلا أنه هنا وإن ساق رأي الأشعري ومن وافقه فإنه بعد ذلك، اختار القول بالتفويض، والتفويض مسلك آخر لنفاة قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى واختياره اللتفويض يدل عليه ما ساقه عن أبي سليمان الخطابى حيث قالك "قال أبو سليمان رحمه الله في معالم السنن: وهذا من العلم الذي أمرنا أن تؤمن بظاهره، وأن لا نكشف عن باطنه، وهو من جملة المتشابه، ذكره الله تعالى في كتابه فقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية3. فالمحكم منه يقع به العلم الحقيقي والعمل، والمتشابه يقع به الإيمان والعلم الظاهر، ويوكل باطنه إلى الله عز وجل، وهو معنى قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} وإنما حظ الراسخين أن يقولوا آمنا به كلّ من عند ربنا، وكذلك ما جاء من هذا الباب في القرآن كقوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ

_ 1 الأسماء والصفات ص: 448، 449. 2 شرح حديث النزول ص: 48. 3 سورة آل عمران آية: 7.

أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} 1 وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 2 والقول في جميع ذلك عند علماء السلف هو ما قلناه"3. وبعد أن أورد البيهقي هذا النص عن الخطابي علق عليه بما يدل على أنه المذهب المختار عنده دون سواه حيث قال: "قلت: وفيما قاله أبو سليمان- رحمه الله- كفاية وقد أشار إلى معناه القتيبي في كلامه فقال: لا نحتم على النزول منه بشيء، ولكنا نبيّن كيف هو في اللغة والله أعلم بما أراد"4. وقد صرّح البيهقي باختيار هذا المذهب - أعني التفويض- في كتاب الاعتقاد الذي يعتبر آخر ما ألّف في العقيدة، فبعد أن اختار القول بالتفويض في مسألة الاستواء على نحو ما تقدّم ذكره قال بعد ذلك: وعلى مثل هذا درج أكثر علمائنا في مسألة الاستواء، وفي مسألة المجيء والنزول والإتيان5. فهذه الصفات إذاً ثابتة عند البيهقي - رحمه الله - لورود النصوص الشرعية بها، إلا أن ثبوتها عنده يقتصر على القول بها لفظاً أما المعنى المراد منها فموكول علمه إلى الله سبحانه وتعالى وقد أيد مذهبه هذا بنصوص

_ 1 سورة البقرة آية: 210. 2 سورة الفجر آية: 22. 3 الأسماء والصفات ص: 454. وانظر: معالم السنن للخطابي على متن سنن أبي داود5/101. 4 الأسماء والصفات، ص: 456. 5 الاعتقاد: ص: 43.

أوردها عن جماعة من السلف، استنتج منها أن مذهبهم القول بالتفويض في هذا النوع من الصفات، منها ما رواه عن سفيان بين عيينة أنه قال. كلّ ما وصف الله من نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته والسكوت عليه1. ونظراً لأن البيهقي لا يقول بالتفويض في جميع الصفات عقب على هذاً القول الشامل لها جميعاً بقوله: "وإنما أراد به - والله أعلم - فيما تفسيره يؤدي إلى تكييف، وتكييفه يقتضي تشبيهاً له بخلقه في أوصاف الحدث"2. أي أن هذا القول من سفيان إنما أراد به مثل هذه الصفات التي رأى البيهقي أن الحقّ فيها القول بالتفويض، مع أن ابن عيينة ومن قال من السلف بما يشبه قوله هذا لا يريدون به التفويض كما سبق أن بيّنت وإنما يريدون عدم التعرض لنصوصها بتأويل خلاف ظاهرها المتبادر منها. وكذا ما رواه بسنده عن الوليد بن مسلم قال: "سئل الأوزاعي ومالك وسفيان الثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي جاءت في التشبيه فقالوا: أمرّوها كما جاءت بلا كيفية"3. وقد سبق أن ذكرت من شارك البيهقي في القول بالتفويض كما سبق أن ذكرت أيضاً مذهب السلف الصحيح ألا وهو القول بالإثبات الحقيقي، وعدم لزوم التشبيه لما أثبتوه لأنهم يثبتون صفات الله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، لا يشبهه أحد من خلقه فيها، فكما أنه واحد في ذاته، فهو واحد في صفاته.

_ 1 الاعتقاد ص: 44. 2 الاعتقاد ص: 44. 3 الأسماء والصفات ص: 453.

وكذلك الأمر هنا فالسلف يثبتون هذه الصفات لله تبارك وتعالى مع اعتقادهم عدم مشابهة نزوله لنزول خلقه، ومجيئه لمجيئهم، وإتيانه لإتيانهم، وفي بيان ذلك قال الإمام أبو عثمان الصابوني: "ويثبت أصحاب الحديث نزول الربّ سبحانه وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزوله المخلوقين، ولا بتمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتهون فيه إليه ويمرّون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله، وكذلك يثبتون ما أنزله الله عز وجلاسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} ، وقوله عزّ اسمه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 1. وقال أيضاً: "فلما صحّ خبر النزول عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرّ به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقدوا تشبيهاً له بنزول خلقه، وعلموا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الله سبحانه وتعالى لا تشبه صفات الخلق كما أن ذاته لا تشبه الخلق تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علوّاً كبيراً"2. وقال الإمام ابن خزيمة - رحمه الله -: "نشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الربّ من غير أن نصف الكيفية، لأن نبيّنا المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل، والله جل وعلا لم يترك، ولا نبيه عليه السلام

_ 1 عقيدة السلف وأصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني، ضمن مجموع الرسائل المنيرة1/112. 2 المصدر نفسه ص: 117.

بيان ما بالمسلمين إليه الحاجة من أمر دينهم، فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف كيفية النزول. وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح أن الله جل وعلا فوق سماء الدنيا، الذي أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إليه إذ محال في لغة العرب أن يقول ينزل من أسفل إلى أعلا، ومفهوم في الخطاب أن النزول من أعلا إلى الأسفل"1. فالسلف يثبتون النزول لله تبارك وتعالى إثباباً حقيقياً على ما هو متبادر وظاهر اللفظ الوارد وكذلك الإتيان والمجيء. والتنزيل والإنزال حقيقة مجيء الشيء، أو الإتيان به من علو إلى أسفل، هذا هو المفهوم منه لغة وشرعاً، ذكر ذلك ابن القيم - رحمه الله2. وهكذا يتضح لنا أن رأي البيهقي القائل بالتفويض لهذه الصفات مخالف لرأي السلف القائل بإثباتها لله تبارك وتعالى على ظاهر المعنى المتبادر منها مع نفي الشبيه عنها. ولكن البيهقي مع موقفه هذا القائل يتفويض هذه الصفات وعدم معرفة مراد الله منها، فإنه يجزم أنه لا يريد بها إثبات حركة وانتقال له سبحانه، ولذلك أورد نقد الخطابي لمن أثبت ذلك حيث قال: "وقد زل

_ 1 كتاب التوحيد ص: 125-126، ويعني بآخر كلامه أن نزوله إلى السماء الدنيا يقتضي وجوده فوقها، فإنه انتقال من علوّ إلى أسفل. كذا قال المعلق الدكتور محمّد خليل هراس. رحمه الله. 2 مختصر الصواعق المرسلة2/217.

بعض شيوخ أهل الحديث ممن يرجع إلى معرفته بالحديث والرجال فحاد عن هذه الطريقة حين ووى حديث النزول ثم أقبل على نفسه فقال: إن قال قائل: كيف ينزل ربّنا إلى السماء؟ قيل له ينزل كيف يشاء. فإن قال: هل يتحرك إذا نزل؟ فقال: إن شاء يتحرك، وإن شاء لم يتحرك، وهذا خطأ فاحش عظيم، والله تعالى لا يوصف بالحركة لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد، وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين والله تبارك وتعالى متعال عنهما ليس كمثله شيء"1. إلا أن لمثبتي هذه الصفات من علماء السلف حول قضية الحركة والانتقال بالنسبة لله تبارك وتعالى أقوالاً ثلاثة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: "واختلف أصحاب أحمد وغيرهم من المنتسبين إلى السنة والحديث في النزول والإتيان والمجيء وغير ذلك، هل يقال: إنه بحركة وانتقال؟ أم يقال بغير حركة وانتقال؟ أم يمسك عن الإثبات والنفي؟ على ثلاثة أقوال: فالأول: قول أبي عبد الله بن حامد وغيره. والثاني: قول أبي الحسن التميمي وأهل بيته. والثالث: قول أبي عبد الله بن بطة وغيره"2.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 454. 2 مجموع الفتاوى5/402.

فأما قول ابن حامد فقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن الحامل له عليه هو أنه يرى أن إثبات النزول حقيقة لا يكون إلاّ بهذا الوجه، لأن حقيقته لا تثبت إلاّ بالانتقال، وأنه لا يوجد في العقل ولا في النقل ما يحمل الانتقال عليه، فإنه كالمجيء والإتيان والذهاب والهبوط والانتقال جنس لأنواع المجيء والإتيان والنزول. وليس في القول بلازم النزول والمجيء والإتيان ونحوها محذور البتة، ولا يستلزم ذلك نقصاً لا سلب كمال، بل هو الكمال نفسه، وهذه الأفعال كمال ومدح فهي حقّ دال عليه النقل، ولازم الحقّ حقّ.1 أما أصحاب القول الثاتي وهو القول الذي ارتضاه البيهقي فقد ردّ عليهم ابن القيم رحمه الله بقوله: "وأما الذين نفوا الحركة والانتقال فإن نفوا ما هو من خصائص المخلوق فقد أصابوا، ولكن أخطؤوا في ظنّهم أن ذلك لازم أثبته لنفسه"2. وأما القول الثالث وهو الإمساك عن الإثبات والنفي فهو القول الأسعد بالصواب والأولى بالاتباع، لأن فيه التزاماً بما ورد في النصوص من إثبات ما أثبتته والسكوت عما سكتت عنه. وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله - "أن صحة هذه الطريقة تظهر ظهوراً تاماً فيما إذا كانت الألفاظ التي سكت النصّ عنها مجملة محتملة لمعنيين صحيح وفاسد كلفظ الحركة والانتقال… ونحو ذلك من الألفاظ التي تحتها حقّ وباطل، فهذه لا تقبل مطلقاً، ولا ترد

_ 1 انظر: مختصر الصواعق المرسلة2/254. 2 المصدر نفسه2/257.

مطلقاً فإن الله سبحانه لم يثبت لنفسه هذه المسميات ولم ينفها عنه، فمن أثبتها مطلقاً فقد أخطأ ومن نفاها مطلقاً فقد أخطأ، فإن معانيها منقسمة إلى ما يمتنع إثباته لله، وما يجب إثباته له، فإن الانتقال يراد به انتقال الجسم والعرض من مكان هو محتاج إليه إلما مكان آخر يحتاج إليه، وهو يمتنع إثباته للرّب تبارك رتعالى، وكذلك الحركة إذا أريد بها هذا المعنى امتنع إثباتها لله تعالى. ويراد بالحركة والانتقال حركة الفاعل من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلاً، وانتفاله أيضاً من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلاً، فهذا المعنى حق في نفسه لا يعقل كون الفاعل فاعلاً إلاّ به، فنفيه عن الفاعل نفي حقيقة الفعل، تعطيل له. وقد يراد بالحركة والانتقال ما هو أعم من ذلك وهو فعل يقوم بذات الفاعل يتعلق بالمكان الذي قصد له وأراد إيقاع الفعل بنفسه فيه،. وقد دلّ القرآن والسنة والإجماع على أنه سبحانه يجيء يوم القيامة وينزل لفصل القضاء بين عباده، وبأتي في ظلل من الغمام والملائكة وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وينزل عشية عرفة.. وهذه أفعال يفعلها بنفسه في هذه الأمكنة، فلا يجوز نفيها عنه بنفي الحركة والنقلة المختصة بالمخلوقات، فإنها ليست من لوازم أفعاله المختصة به، فما كان من لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه، وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته له.."1. فالسكوت عن الإثبات والنفي هو المنهج السليم الذي يتفق مع النصوص الشرعية، مع اعتقاد إثبات المعنى الصحيح من هذه الألفاظ المجملة والسكوت عن اللفظ فقط.

_ 1 مختصر الصواعق المرسلة ص:257-258.

والحاصل أن النزول والإتيان والمجيء صفات ثابتة لله تبارك وتعالى على الحقيقة، ولا يجوز التأوبل فيها ولا يجوز التفويض أيضاً لأن ذلك كله مخالف لصريح النصوص الشرعية الثابتة. فالبيهقي جانب طريق السلف في اعتقاده سلامة التفويض. أما مؤوّلوا هذه الصفات فهم المعتزلة ومتأخرو الأشاعرة وجماعةمن أصحاب الإمام أحمد كابن الجوزي وابن الزاغوني زاعمين أن هذا مروي عن أحمد، فقد أولوا النزول بنزول أمره ورحمته وكذلك المجيء والإتيان1. وتأولها جماعة بمعنى القصد والإرادة ونحو ذاك، وقد ذكر ابن تيمية - رحمه الله - أن ابن الزاغوني وغيره جعلوا ذلك إحدى الروايتين عن أحمد ورد عليه بقوله: "والصواب أن جميع هذه التأويلات مبتدعة، لم يقل من الصحابة شيئاً منها، ولا أحد من التابعين لهم بإحسان وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السنة والحديث أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الحديث"2. فالنزول والإتيان والمجيئء صفات ثابتة لله تبارك وتعالى على الحقيقة. فهو سبحانه ينزل ويجيء ويأتي وهو لا يزال فوق عرشه ولا يخلو العرش منه مع دنوّه منه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض، بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك3.

_ 1 انظر: شرح حديث النزول لابن تيمية ص: 55 وما بعدها. 2 شرح حديث النزول لابن تيمية ص: 63. 3 المصدر نفسه ص: 66.

مع أن إثبات الحقيقة هو ما جاءت به النصوص، إلاّ أن تصوّر كيفيّتها أمر مستحيل، لأن الأمر متعلق بذات الله تبارك وتعالى التي لا يمكننا إدراكها أو تصوّرها، إلاّ أننا نؤمن قطعاً أنها ليست كذوات خلقه. فلا التفويض الذي قال به البيهقي صحيح، ولا التأويل الذي ذهب إليه غيره. إذ هذان المنهجان لا مكان لهما عند السلف بل الإثبات الحقيقي هو ما ذهبوا إليه. رأيه في بقيّة الصفات وإذا كان البيهقي - رحمه الله - قد رضي التفويض في صفتي الاستواء والنزول على نحو ما تقدم، فإنه سلك في بقية صفات الفعل الخبرية مسلكاً آخر هو مسلك التأويل، ومن هذه الصفات التي ارتضى فيها التأويل صفة الضحك، والغضب، والمحبة، والتعجب، والكراهية ونحو ذلك. وسأورد هنا أمثلة من تلك الصفات وما ذهب إليه من معان لتأويلعها. فأما الضحك: فقد ذهب - رحمه الله - إلى أنه قد يراد منه الإخبار عن الرضى. وأورد مما يراه يصدق عليه هذا المعنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يضحك الله إلي رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل، فيقاتل في سبيل الله فيستشهد" 1.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 467، ورواه البخاري في كتاب الجهاد حديث رقم: 2826. ومسلم في كتاب الإمارة حديث رقم: 1890، 3/1504.

وقد روى هذا التأويل عن أبي سليمان الخطابي رحمه الله حيث قال: "قال أبو سليمان الخطابي - رحمه الله قوله "يضحك الله سبحانه": الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو يستنفرهم الطرب غير جائز على الله عز وجل، وهو منفي عن صفاته، إنما هو مثل ضربه لهذا الصنيع الذي يحل محلّ العجب عند البشر، فإذا رأوه أضحكهم، ومعناه في صفة الله عز وجل الإخبار عن الرضى بفعل أحدهما والقبول للآخر، ومجازاتهما على صنيعهما الجنة، مع اختلاف أحوالهما وتباين مقاصدهما"1. وقد يراد بالضحك أيضاً - عند البيهقي - الإظهار والبيان وأورد من هذا النوع حديث أبي رزين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ضحك ربنا من قنوط عباده، وقرب خيره"، فقلت يا رسول الله ويضحك الرب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، قلت: لن نعدم من رب يضحك خيراً" 2. وأسند البيهقي هذا التأويل إلى أبي الحسن بن مهدي الطبري حيث قال: "قال أبو الحسن: فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يضحك الله" أي: يبين ويبدي من فضله ونعمه ما يكون جزاء لعبده الذي رضي عمله"3. وقد استدل البيهقي لصحة هذا التأويل بما رواه عن العرب من مثل قولها: "ضحكت الأرض إذا أنبتت"؛ وقول الشاعر: "وضحك المزن بها ثم بكى"4.

_ 1 الأسماء والصفات ص: 469. 2 الأسماء والصفات ص: 473. ورواه أحمد في المسند4/11، 12. 3 المصدر نفسه. 4 المصدر نفسه.

فالبيهقي - رحمه الله - يرى التأويل للنصوص الواردة بإثبات هذه الصفة حسب ما يقتضيه السياق، والحامل له على التأويل ما تقدم من قوله راوياً عن أبي سليمان الخطابي أن الضحك الذي نعرفه هو ما يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح، أو يستنفرهم الطرب. ولشبهة أن يكون المتبادر إلى الذهن - عند الإثبات الحقيقي - هذا المعنى عمد البيهقي إلى القول بالتأويل. إلأ أن هذا التأويل غير صحيح كما أن تلك الشبهة فاسدة فأما فساد الشبهة فإننا إذا أثبتنا صفة الضحك لله تبارك وتعالى، فإننا نثبته على ما يليق بجلاله، لأنه سبحانه يتعالى عما يعتري البشر من انفعالات، هي صفة نقص يجب أن يتنزه الرب تبارك وتعالى عنها. ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ردّ هذه الشبهة وذلك التأويل: "الضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال، وإذا قدر حيان أحدهما يضحك مما يضحك منه، والآخر لا يضحك قط، كان الأول أكمل من الثاني. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ينظر الرب إليكم قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب". فقال له أبو رزين العقيلي: يا رسول الله، أو يضحك الرب؟ قال: "نعم قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً". فجعل الأعرابي العاقل بصحّة فطرته ضحكه دليلاً على إحسانه وإنعامه، فدلّ على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال، والشخص العبوس الذي لا يضحك قط هو مذموم بذلك، وقد قيل في اليوم الشديد العذاب إنه: {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} .

وقد روي أن الملائكة قالت لآدم: "حياك الله وبياك" أي: أضحكك. والإنسان حيوان ناطق ضاحك. وما يميز الإنسان عن البهيمة صفة كمال، فكما أن النطق صفة كمال، فكذلك الضحك صفة كمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك، وإذا كان الضحك فينا مستلزماً لشيء من النقص، فالله منزه عن ذلك وذلك الأكثر مختص لا عام. فليس حقيقة الضحك مطلقاً مقرونة بالنقص، كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص، ووجودنا مقرون بالنقص أيضاً"1. وهكذا يتضح لنا أن الحقّ في هذه الصفة أنها كمال ثابت لله تبارك وتعالى، لا يجوز نفيه عنه بحجّة أن ضحك الإنسان مستلزم لنقص فيه من خفة روح واستنفار طرب، لأننا حين نثبت هذه الصفة له تبارك وتعالى فإننا نثبتها كمالاً مطلقاً لله تبارك وتعالى، وننزهه سبحانه عما يلزمها من النقص بالنسبة للمخلوق، لأن صفات الله جميعها كمال مطلق لا يعتريه نقص، لأن النقص من لوازم صفات المخلوقين والخالق يتعالى عن ذلك. فالصفة تابعة للذات المتصفة بها وذات الله منزهة عن كلّ نقص وهي بذلك لا تشبه ذواتنا فلا يلزمها ما يلزم ذواتنا من النقص. وهكذا القول في بقيّة هذا النوع من الصفات، والتي ذهب البيهقي إلى تأويلها، وذلك بعد أن ساق أدلتها من الكتاب والسنة، ولا أرى ثمة

_ 1 مجموع الفتاوى6/121-122.

ضرورة للاستطراد في سرد تلك الأدلة إلاّ أنني أبيّن وجهة نظر البيهقي بشأن ما أوّله سالكاً طريق التمثيل والإجمال. فمثلاً على ذلك بالإضافة إلى ما تقدم في صفة الضحك نأخذ صفات المحبة والبغض والكراهية الواردة في كثير من النصوص التي أوردها البيهيقي، كقوله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" 2. وجديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الأنصار: "لا يحبهم إلاّ مؤمن، ولا يبغضهم إلاّ منافق من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" 3. وحديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال "من أحب لقاء الله أحب الله، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " قال: فقالت عائشة، أو بعض أزاوجه: إنا نكره الموت، قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت يبشر برضوان الله وكراماته، فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فإذا بشر بذلك كره لقاء الله وكره الله لقاءه 4.

_ 1 سورة آل عمران آية: 31. 2 رواه البخاري في كتاب التفسير حديث رقم: 4523، 8/188. 3 رواه البخاري ومسلم. انظر: حديث رقم: 3783 من صحيح البخاري8/113، وحديث رقم: 129 من صحيح مسلم1/85. 4 رواه البخاري ومسلم. انظر: حديث رقم: 6507 من صحيح البخاري11/357 وحديث رقم: 2674 من صحيح مسلم4/2065.

وغير ذلك مما جاء في إثبات هذه الصفات، وقد أورده البيهقي1. حيث ذهب البيهقي - رحمه الله - إلى تأويل المحبة بمعنى المدح والإكرام، والبغض والكراهية بالذم والإهانة. وقد أشار إلى أن أبا الحسن الأشعري قد أرجع جميع هذه الصفات إلى معنى الإرادة. يقول - رحمه الله -: "المحبة والبغض والكراهية عند بعض أصحابنا من صفات الفعل، فالمحبة عنده بمعنى المدح له بإكرام مكتسبه والبغضة والكراهية بمعنى الذمّ له بإهانة ما اكتسبه… وهما عند أبي الحسن يرجعان إلى إرادته إكرامهم وتوفيقهم، وبغضه غيرهم أو من ذمّ فعله إلى إرادته إهانتهم وخذلانهم، ومحبّته الخصال المحمودة يرجع إلى إرادته إكرامه ما اكتسبتها، وبغضه الخصال المذمومة يرجع إلى إرادته إهانة ما اكتسبها"2. ولا شكّ أن رأي البيهقي هو الأول الذي قال به جمهور الأشاعرة بدليل جعله هذه الصفات تحت نوع الصفات الفعلية، وإنما غرضه من ذكر رأي أبي الحسن الأشعري بيان الجانب الآخر الذي ذهب إليه شيخ المذهب الذي ينتسب إليه الأشاعرة وهو بهذا يوافق متأخري أصحابه من الأشاعرة، وعلى رأسهم شيخه أبو بكر بن فورك رحمه الله3.

_ 1 انظر: الأسماء والصفات ص: 498-501. 2 الأسماء والصفات ص: 502. 3 انظر: مشكل الحديث ص: 162 وما بعدها.

وسار في بقيّة هذا النوع من الصفات على هذه الطريق المخالفة كما سبق أن بيننا لما عليه السلف من الإثبات اللائق لله تبارك وتعالى. وبهذا يتبيّن لنا أن البيهقي - رحمه الله - إنما أثبت من الصفات الخبريّة ثلاث صفات هي: اليد، والعين، والوجه. أما بقيّة الصفات فسلك فيها منهجي التأويل والتفويض التأويل لبعضها والتفويض لبعضها الآخر. وهذا أمر واضح الدلالة على تردد البيهقي وعدم ثبوته على منهج واحد في مجال التطبيق لما ساقه من أدلة لهذه الصفات إذ جمع في ذلك بين المناهج الثلاثة. وهذا مفارقة واضحة لمنهج السلف الذي اختار القول الإثبات لجميع الصفات. بقي أن نعرف رأي البيهقي في مسألة الرؤية التي اهتم بها اهتماماً بالغاً، حتى أفردها التأليف في كتاب مستقل، وهذا ما سيتضح لنا من الفصل التالي. إن شاء الله.

الفصل السابع: رؤية الله تعالى

الفصل السابع: رؤية الله تعالى وهذه المسألة ذات شقين: رؤية في الدنيا، ورؤية في الآخرة. أما رؤية الله تبارك وتعالى في الدنيا فقد وقع النزاع فيها بين العلماء حول نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم، هل رأى ربّه ليلة الإسراء أم لا؟ على رأيين فمنهم من أثبتها، ومنهم من نفاها. وكان الخلاف في ذلك قد وقع منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم وقد شددت عائشة رضي الله عنها النكير على من قال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه1. أما من عداه من الخلق فلم يقع خلاف بين العلماء في عدم وقوعها لهم، إذ اتفقوا جميعاً على أنه لم يره أحد منهم في الدنيا. وليست هذه المسألة هي ما نحن بصدد بحثه هنا، بل الغرض من عقد هذا الفصل هو الحديث عن موقف البيهقي من رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، التي هي من أشرف مسائل أصول الدين، وأجلها، لأنها الغاية التي يتسابق المؤمنون من أجل نيلها، والحصول من نعيم الجنة - التي هي غايته - عليها، لذلك كانت هذه القضية العظمى محل اهتمام كبير من البيهقي - رحمه الله - إذ أولاها عناية خاصة، حتى إنه أفردها بالتأليف في كتاب مستقلّ، كما أشار إلى ذلك في كتاب الاعتقاد2.

_ 1 انظر: الطحاية ص: 151. 2 الاعتقاد ص: 48. وقد سبق أن أشرت إلى أن هذا الكتاب لا يزال مفقوداً. انظر: ص (98) من هذا البحث.

وقد كان الخلاف في هذه القضية على رأيين: أحدهما: القول بإثباتها للمؤمنين يوم القيامة وهو مذهب سلف الأمة جميعاً، وقد ذهب إليه الأشاعرة بمن فيهم البيهقي. وثانيهما: القول بالمنع، وهو مذهب الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الخوارج والإمامية1، واستدلوا بأدلة تعرض لها البيهقي بالنقض والتفنيد، مبنياً أنها إنما تدل على مذهب الإثبات، لا على ماذهبوا إليه من باطل. وسوف أقوم أولاً بإيضاح رأي البيهقي وأدلته على النحو التالي: لقد ذهب - رحمه الله - إلى القول بإثبات رؤية المؤمنين لربّهم بأبصارهم يوم القيامة وفي ذلك يقول: "باب القول في إثبات رؤية الله عز وجل في الآخرة بالأبصار"2. ثم شرع في إيراد أدلته على هذا الإثبات من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فأما أدلته من القرآن الكريم فمنها: 1 - قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3. حيث يرى - رحمه الله - أنّ النظر الوارد في الآية المقصود به الرؤية. وقد روى تفسير هذه الآية بذلك عن ابن عباس وغيره من السلف4.

_ 1 انظر: شرح الطحاوية ص: 142، ومقالات الإسلاميين للأشعري1/238. 2 الاعتقاد ص: 45. 3 سورة القيامة آية: 23. 4 الاعتقاد ص: 49.

وهذه الآية من أظهر الأدلة على هذه القضية، ومع ذلك عمد النفاة إلى تأويلها، وتحريفها عن موضعها، حيث قاموا بتأويل النظر الوارد في الآية إلى معنى الانتظار فكأنه - تعالى - قال: وجوه يومئذ ناضرة لثواب ربها منتظرة1. إلا أن البيهقي - رحمه الله - تصدى لهذا التأويل، فرده حيث قام بحصر معاني النظر الواردة في القرآن الكريم، متوصلاً بذلك إلى أن المقصود به في هذه الآية الرؤية، حيث قال - رحمه الله -: "وليس يخلو النظر من وجوه: إما أن يكون الله عز وجل عنى به نظر الاعتبار كقوله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} 2، أو يكون عنى به نظر الانتظار كقوله: {مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} 3 أو يكون عنى نظر التعطف والرحمة كقوله: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} 4، أو يكون عنى الرؤية كقوله: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} 5. ولا يجوز أن يكون الله سبحانه عنى بقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} نظر التفكر والاعتبار، لأن الآخرة ليست بدار استدلال واعتبار، وإنما هي دار اضطرار، ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار لأنه ليس في شيء من أمر الجنة انتظار، لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير، والآية خرجت مخرج

_ 1 انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبّار ص: 245، وديوان الأصول للنيسابوري، ص: 604. 2 سورة الغاشية آية: 17. 3 سورة يس آية: 49. 4 سورة آل عمران آية: 77. 5 سورة محمّد آية: 20.

البشارة لأهل الجنة، فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من العيش السليم، والنعيم المقيم، فهم ممكنون مما أرادوا، وقادرون عليه، وإذا خطر ببالهم شيء أتوا به مع خطوره ببالهم، وإذا كان ذلك كذلك لم يجز أن يكون الله أراد بقوله {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} نظر الاعتبار. ولأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجوه فمعناه: نظر العينين اللتين في الوجه. كما قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} 1، وأراد بذلك تقلب عينيه نحو السماء ولأنه قال: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ونظر الانتظار لا يكون مقروناً بإلى، لأنه لا يجوز عند العرب أن يقولوا في نظر الانتظار "إلى" ألا ترى أن الله عز وجل قال: {مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} 2، لم يقل "إلى" إذ كان معناه الانتظار ... ولا يجوز أن يكون الله سبحانه أراد نظر التعطف والرحمة، لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم. فإذا فسدت هذه الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع من أقسام النظر وهو أن معنى قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أنها رائية ترى الله عز وجل. ولا يجوز أن يكون معناه إلى ثواب ربّها ناظرة، لأن ثواب الله غير الله، وإنما قال: {إِلَى رَبِّهَا} ولم يقل: إلى غيرربها ناظرة، والقرآن على ظاهره، وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة"3. فالبيهقي - رحمه الله - يرى أن هذه الآية صريحة في الرؤية لأن الاستعمالات الواردة في النظر لا مكان لها هنا، لأن كل استعمال له صيغة خاصة وهذه تختلف عنها، وقد قرن النظر فيها صراحة بالوجه ولا معنى لذلك سوى الرؤية بالعينين اللتين فيه.

_ 1 سرة البقرة آية: 144. 2 سورة يس آية: 49. 3 الاعتقاد ص: 45، 46.

2 - ومما استدل به - رحمه الله - على إثبات الرؤية وله تعالى حاكياً قول كليمه موسى له: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} 1. كما استدل البيهقي - رحمه الله - بهذه الآية لإثبات الرؤية فقد استدل بها من قال بنفيها2. لذلك كان عرضه لوجهة استدلاله بها متضمناً للرد على أولئك النفاة حيث قال رحمه الله: "وما يدلّ على أن الله عز وجل يرى بالأبصار قول موسى الكليم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} ولا يجوز أن يكون نبي من الأنبياء، قد ألبسه الله جلباب النبيين، وعصمه مما عصم منه المرسلين يسأل ربّه ما يستحيل عليه، وإذا لم يجز ذلك على موسى عليه السلام، فقد علمنا أنه لم يسأل ربه مستحيلاً، وإن الرؤية جائزة على ربنا عز وجل. ومما يدل على ذلك قول الله عز وجل: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} . فلما كان الله قادراً على أن يجعل الجبل مستقراً كان قادراً على الأمر الذي لو فعله لرآه موسى، فدلّ ذلك على أن الله قادر على أن يري نفسه عباده المؤمنين وأنه جائز رؤيته، وقوله: {لَنْ تَرَانِي} أراد به في الدنيا دون الآخرة، بدليل ما مضى من الآية"3. وهذا الكلام الذي ساقه البيهقي هنا يتضمن أمرين: أحدهما: وجهة الاستدلال على الإثبات.

_ 1 سرة الأعراف آية: 143. 2 انظر: شرح الأصول الخمسة ص: 233. 3 الاعتقاد ص: 47.

وثانيهما: طريقة الردّ على من استدل بها لنفي. أما وجهة الاستدلال فهي: أن موسى عليه السلام نبي من الأنبياء وقد عصمهم الله، ولو كانت رؤية الله مستحيلة لما طلبها موسى عليه السلام، فطلبه لها دليل على جوازها. كما أن الحائل الذي وضعه الله دون رؤية موسى لربه وهو عدم استقرار الجبل دليل على أن الله تعالى لو جعله مستقراً لرآه موسى عليه السلام، وذلك دليل على جواز رؤية العباد لربّهم وأن الله قادر على أن يريهم ذاته سبحانه. أما طريقة الردّ على النفاة: فبالإضافة إلى ما تقدم في وجهة الاستدلال فإن قوله: {لَنْ تَرَانِي} أراد به في الدنيا لا في الآخرة. 3 - ومما استدل به البيهقي- رحمه الله - لإثبات هذه المسألة قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 1، وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2. حيث ذكر - رحمه الله - أن المراد بالزيادة في هاتين الآيتين النظر إلى وجه الله الكريم يوم القيامة، وأورد تفسير الزيادة هنا بالرؤ ية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أورد ذلك التفسير عن جماعة من السلف رضوان الله عليهم. يقول - رحمه الله -: " ... ولأنه قال: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} وقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله عز وجل، فمن بعده من الصحابة الذين أخذوا عنه، والتابعين الذين أخذوا عن

_ 1 سورة ق آية: 35. 2 سورة يونس آية: 26.

الصحابة أن الزيادة في هذه الآية النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى، وانتشر عنه وعنهم إثبات رؤية الله عز وجل في الآخرة بالأبصار"1. ثم ذكر من الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية حديث صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً لم تروه؛ قال: فيقولون: فما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويزحزحنا عن النار، ويدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه. قال: فوالله ما أعطاهم الله عز وجل شيئاً هو أحب إليهم منه". قال ثم قرأ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2. وروى تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان، وأبي موسى الأشعري من الصحابة، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن سابط وقتادة وغيرهم من التابعين3. وقد استدل نفاة الرؤية بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} 4. فردّ البيهقي على هؤلاء بأن هذه الآية خاصة في الدنيا أو أن المراد بها نفي الإدراك الذي هو الإحاطة دون الرؤ ية، وفي ذلك يقول:

_ 1 الاعتقاد ص: 47. 2 المصدر السابق نفسه ص: 48. وروى مسلم حديث صهيب هذا في كتاب الإيمان رقم: 297، 1/163. 3 المصدر نفسه ص: 49. 4 سورة الأنعام آية: 103.

" ... ولا حجة لهم في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} فإنه إنما أراد به لا تدركه أبصار المؤمنين في الدنيا دون الآخرة، ولا تدركه أبصار الكافرين مطلقاً، كما قال: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1. فلما عاقب الكفار بحجبهم عن رؤيته دل على أنه يثبت المؤمنين برفع الحجاب لهم عن أعينهم حتى يروه، ولما قال في وجوه المؤمنين: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} فقيدها بيوم القيامة، ووصفها فقال: {نَاضِرَةٌ} ثم أثبت لها الرؤية فقال: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} علمنا أن الآية الأخرى في نفيها عنهم في الدنيا دون الآخرة، وفي نفيها عن الوجوه الباسرة دون الوجوه الناضرة جمعاً بين الآيتين، وحملاً للمطلق من الكلام على المقيد منه. ثم قد قال بعض أصحابنا: إنما نفى عنه الإدراك دون الرؤ ية، والإدراك هو الإحاطة بالمرئي دون الرؤ ية، فالله يرى ولا يدرك، كما يعلم ولا يحاط به علما"2. وقد اختار هذا التفسير الأخير للآية جماعة من مثبتي الرؤية من السلف وغيرهم، وجعلوها دليلاً على الإثبات على نقيض تصور نفاة الرؤية لما اشتملت عليه، ومن هؤلاء الذين اختاروا هذا الاتجاه فخر الدين الرازي من أئمة الأشاعرة، والإمام ابن القيم، وابن تيمية والألوسي وغيرهم من العلماء

_ 1 سورة المطففين آية: 16. 2 الاعتقاد ص: 47.

يقول الرازي في تقرير وجه الدلالة: "لو لم يكن الله تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته، والعلوم والقدرة، والإرادة، والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها، ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا تصح رؤيتها، فثبت أن قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يفيد المدح، وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية، وهذا يدلّ على أن قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يفيد كونه تعالى جائز الرؤية. وتمام التحقيق فيه أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث تمتنع رؤيته، فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤ يته ومن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة، فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته"1. وقال ابن القيم - رحمه الله - مبيناً دلالة الإثبات وأن هذا ما ذهب إليه شيخه ابن تيمية " ... والاستدلال بهذه الآية على جواز الرؤية أعجب، فإنها من أدلة النفاة، وقد قرر شيخنا وجه الاستدلال بها أحسن تقرير وألطفه، وقال: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا في ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله، فمنها هذه الآية، وهي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها، فإن الله سبحانه وتعالى إنما ذكرها في سياق التمدح ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية. وأما العدم المحض فليس بكمال ولا يمدح الربّ تبارك وتعالى بالعدم إلا إذا تضمن أمراً وجودياً كتمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن

_ 1 تفسير الفخر الرازي13/125.

كمال القيومية، ... فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} يدل على غاية عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ كَلاَّ…} 1 فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} من أدل شيء على أنه يرى ولا يدرك"2. ولا تخفي وجاهة رأي من ذهب إلى الاستدلال بها على الرواية مفسرين الإدراك في الآية بالإحاطة. وأما الأحاديث الدالة على إثبات الرؤية فمتواترة، وقد ذكر البيهقي - رحمه الله - بعضاً منها، ومما ذكره منها: 1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ناساً قالوا: يارسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تمارون في رؤية القمر ليلة البدر وليس دونه سحاب؟ " قالوا لا يارسول الله، قال: "هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا يارسول الله، قال: "فإنكم ترونه كذلك" 3. 2 - حديث جرير بن عبد الله قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "أما إنكم ستعرضون على ربّكم

_ 1 سورة الشعراء آية: 61. 2 حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم ص: 228، وانظر رأي الألوسي في روح المعاني7/244-245. 3 الاعتقاد ص: 51. والحديث رواه البخاري في كتاب التوحيد حديث رقم: 7437، 13/419. ورواه مسلم في كتاب الإيمان، حديث رقم: 299، 1/163.

عز وجل، فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" 1. 3 - حديث أبي سعيد الخدري قال: قلنا يارسول الله، هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال: "هل تمارون في رؤية الشمس في الظهيرة صحواً ليس دونها سحاب؟ " قال: قلنا لا يارسول الله. قال: "فهل تمارون في وؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيه حجاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: "ما تمارون في رؤيته يوم القيامة إلا كما تمارون في رؤية أحدهما" 2. إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة المتواترة في هذه المسألة وإنما أردت التمثيل لا الاستقصاء. وبعد أن أورد - رحمه الله - هذه الأحاديث علق عليها ببيان اتفاق سلف هذه الأمة على ما جاء فيها من إثبات رؤية الله تعالى وأن الخلاف فيها لم يوجد بينهم أبداً، إذ لو وجد لنقل إلينا. يقول - رحمه الله - معلقاً: "وروينا في إثبات الرؤية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس وأبي موسى، وغيرهم رضي الله عنهم، ولم يرو عن أحد منهم نفيها ولو كانوا فيها مختلفين لنقل اختلافهم إلينا، وكما أنهم لما اختلفوا في رؤيته بالأبصار في الدنيا نقل اختلافهم في ذلك إلينا، فلما

_ 1 الاعتقاد ص: 50. والحديث رواه البخاري في كتاب التوحيد، حديث رقم: 7434، 13/419. 2 الاعتقاد ص: 52. ورواه البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه حديث رقم: 7439، 13/420. ورواه مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه حديث رقم: 302، 1/167.

نقلت رؤية الله بالأبصار عنهم في الآخرة ولم ينقل عنهم في ذلك اختلاف - يعني في الآخرة - كما نقل عنهم فيها اختلاف في الدنيا علمنا أنهم كانوا على القول برؤية الله بالأبصار في الآخرة متفقين مجتمعين"1. ولا ريب أن ما ذهب إليه البيهقي من إثبات لهذه المسألة هو الرأي الذي لا يجوز العدول عنه لصراحة ما أورده من أدلة لذلك، ولإجماع سلف الأمة عليه، وكما حكى البيهقي - رحمه الله - هذا المذهب القويم عن سلف الأمة حكاه عنهم أيضاً غيره من علماء السلف أنفسهم. وممن حكاه من السلف، وانتصر له، وقرر عدم جواز الذهاب إلى سواه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي - رحمه الله - حيث قال - بعد أن أورد - الأدلة التي ذكرها هنا البيهقي: "فهذه الأحاديث كلّها وأكثر منها قد رويت في الرؤية على تصديقها، والإيمان بها، أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا ولم يزل المسلمون قديماً وحديثاً يروونها، ويؤمنون بها لا يستنكرونها، ولا ينكرونها، ومن أنكرها من أهل الزيغ نسبوه إلى الضلال بل كان من أكبر رجائهم، وأجزل ثواب الله في أنفسهم، النظر إلى وجه خالفهم، حتى ما يعدلون به شيئا من نعيم الجنة"2. وقال أيضاً: "قد صحت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن بعده من أهل العلم، وكتاب الله الناطق به، فإذا اجتمع الكتاب وقول الرسول، وإجماع الأمة، لم يبق لمتأوّل عندها تأويل إلا لمكابر أو جاحد"3.

_ 1 الاعتقاد ص: 53. 2 الردّ على الجهمية للدارمي ص: 53، 54. 3 المصدر نفسه ص: 54.

ثم سرد تلك الأدلة التي ذكرها البيهقي من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار سلف الأمة، ووجهها نفس التوجيه وردّ على المؤوّلين بما رد به البيهقي. وإذا كان البيهقي - رحمه الله - يتفق مع السلف في إثبات رؤية المؤمنين لربّهم، وهو الأمر الذي قال به الأشاعرة أيضاً، فهل ذلك الاتفاق حول هذه المسألة تام من جميع الوجوه؟ الواقع أن ثمة مسألة مهمة تتعلق بهذه القضية هي مسألة الجهة، لأن السلف حين أثبتوا الرؤية أثبتوا الجهة أيضاً، لأنها لازمة لها أما البيهقي ومعه أصحابه الأشاعرة فقد أثبتوا الرؤية ونفوا لازمها وقد سبق الحديث عن مسألة الجهة عند الكلام عن الاستواء وبينا كيف أن ثبوتها أمر حتمي عقلاً وشرعاً وفطرة بالمعنى الصحيح الذي أشرت إليه هناك. إلا أن البيهقي استدل على نفيها هنا بحديث جرير بن عبد الله السابق، والذي فيه: "لا تضامون في رؤيته". ووجه استدلاله به: أن التضام المذكور معناه: لا يجتمع بعضكم إلى بعض في جهته، لأنه يرى في جميع الجهات، وليس له جهة معينة كما للمخلوق. وفي إيضاح ذلك يقول - رحمه الله - حاكياً عن شيخه أبا الطيب الصعلوكي1 قال: "سمعت الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمّد بن سليمان - رحمه الله - يقول فيما أملاه علينا في قوله: "لا تضامون في

_ 1 هو: سهل بن محمّد بن سليمان بن محمّد بن سليمان بن موسى بن إبراهيم العجلي، الفقيه الأديب أبو الطيب بن أبي سهل الحنفي الصعلوكي مفتي نيسابور. توفي بها سنة: 404هـ. انظر: تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص: 211، وطبقات الشافعية للسبكي4/396.

رؤيته" - بضم التاء وتشديد الميم – يريد: لا تجتمعون لرؤيته في جهته، ولا يضم بعضكم إلى بعض لذلك، فإنه عز وجل لا يرى في جهة كما يرى المخلوق في جهة، ومعناه - بفتح التاء -: لا تضامون لرؤيته، مثل معناه بضمها، لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة وهو دون تشديد الميم، من الضيم معناه: لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض، وإنكم ترونه في جهاتكم كلّها، وهو يتعالى عن جهة. قال والتشبيه برؤية القمر ليعين الرؤية، دون تشبيه المرئي تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً"1. وقد ذكر هذا التوجيه عن أبي بكر بن فورك شيخ البيهقي، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وردّ عليه، بأن هذا القول انفرد به هؤلاء الأشاعرة دون بقية طوائف الأمة، وأن هذا معروف الفساد ضرورة ولأجل ذلك ذهب بعض حذاقهم إلى موافقة المعتزلة في ما ذهبوا إليه من نفي الرؤية والجهة معاً وتفسير الرؤية بأنها زيادة انكشاف وليس رؤية حقيقية2. ثم قام بعد ذلك برد الاستدلال بالحديث الذي استدلّ به البيهقي لنفي الجهة بقوله رداً على ما ذكره عن ابن فورك مما يتفق مع ما ذهب إليه البيهقي تماماً: "وأما قوله: إن الخبر يدلّ على أنهم يرونه لا في جهة، وقوله "لا تضامون" معناه لا تضمكم جهة واحدة في رؤيته؛ فإنه لا في جهة، فهذا تفسير للحديث بما لا يدلّ عليه ولا قاله أحد من أئمة العلم،

_ 1 الاعتقاد ص: 51. 2 انظر: مجموع الفتاوى16/85.

بل هو تفسير منكر عقلاً وشرعاً، ولغة. فإن قوله "لا تضامون" يروى بالتخفيف، أي: لا يلحقكم ضيم في رؤيته كما يلحق الناس عند رؤية الشيء الحسن كالهلال، فإنه قد يلحقهم ضيم في طلب رؤيته حين يرى وهو سبحانه يتجلى تجلياً ظاهراً فيرونه كما ترى الشمس والقمر بلا ضيم يلحقكم في رؤيته، وهذه الرواية المشهورة. وقيل "لا تضامون" بالتشديد، أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض، كما يتضام الناس عند رؤية الشيء الخفي كالهلال ... فإما أن يروى بالتشديد ويقال: "لا تضامون" أي: لا تضمكم جهة واحدة فهذا باطل لأن التضام انضمام بعضهم إلى بعض. فهو تفاعل كالتماس والتراد، ونحو ذلك ... ثم يقال: الراؤون كلّهم في جهة واحدة على الأرض، وإن قدر أن المرئي ليس في جهة فكيف يجوز أن يقاله: "لا تضمكم جهة واحدة" وهم كلّهم على الأرض - أرض القيامة - أو في الجنة، وكل ذلك جهة ووجودهم نفسهم لا في جهة ومكان ممتنع حساً وعقلاً"1. وبهذا يتضح لنا أن البيهقي قد أخطأ في استدلاله بالحديث الآنف الذكر على نفي الجهة، لعدم صحة تفسيره له، وتصوّره لما ورد الحديث من أجله. وقد لاحظت أن إثبات البيهقي وأصحابه للرؤية ونفي لازمها إنما هو نفي للرؤية نفسها، لأن نفي اللازم نفي للملزوم. لذلك كان المعتزالة أكثر منطقية مع أنفسهم حين ذهبوا إلى نفي الأمرين فراراً من الوقوع في التناقض الذي وقع فيه الأشاعرة.

_ 1 مجموع الفتاوى16/85، 86.

الفصل الثامن: خلق الله لأفعال العباد

الفصل الثامن: خلق الله لأفعال العباد وهذه قضية أخرى من أهم القضايا التي تناولها العلماء بالحديث وقد بلغت عنايتهم بها إلى حدّ أن بعضهم أفردها بالتأليف، كما فعل الإمام الجليل محمّد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله - حيث ألف فيها كتابه القيم "خلق أفعال العباد". وقد أدلى البيهقي - رحمه الله - بدلوه في بحث هذه المسألة مبيناً وجه الحقّ الذي يراه بشأنها. وهذه المسألة ذات صلة وثيقة بمسألة القضاء والقدر، التي أفردها البيهقي بالتأليف في كتاب مستقل. وقبل أن أبدأ بالحديث عنها أحبّ أن أشير إلى أن بدعة إنكار القدر قد وجدت في عصر مبكر، من أيام الصحابة رضوان الله عليهم الذين شددوا النكير على أصحابها حين بلغتهم مقالتهم، وتبرؤوا منهم. فقد ذكر البيهقي - رحمه الله - عن يحيى بن يعمر أنه قال: "كان أوّل من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقنا حجاجاً أنا وحميد بن عبد الرحمن، فلما قدمنا قلنا: لو لقينا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقوله هؤلاء القوم في القدر، قال فوافقنا عبد الله بن عمر في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله. قال يحيى: فظننت أن صاحبي يكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إنه ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويعرفون العلم، يزعمون أن لا

قدر، إنما الأمر آنف. فقال عبد الله: فإذا لقيتم أولئك فأخبروهم أني بريء منهم وهم مني براء. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لوكان لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبله الله عز وجلمنه، حتى يؤمن بالقدر كلّه خيره وشره"1. ثم ذكر حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي ذكر فيه سؤال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وفيه: " ... ثم قال يا محمّد، أخبرني عن الإيمان فقال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر كلّه خيره وشرّه من الله تعالى" 2. وقد اشتهرت هذه المقالة الفاسدة عن معبد الجهني، الذي يعد أوّل مبتدع لها، وتابعه عليها غيلان الدمشقي الذي سال في الحديث عنها سيل المأء حتى قتله الخليفة هشام بن عبد الملك سنة: 106? حين استفحل أمره بالدعوة جهاراً إلى بدعته3. إلا أن تلك البدعة المشؤومة لم تمت بموت صاحبها، فقد احتضنها المعتزلة، الذين أنكروا القدر، وأسندوا أفعال العباد إلى قدرهم موافقة لرأي معبد وغيلان، حتى اشتهر تلقيبهم بالقدرية لذلك4. وقد عرف البيهقي - رحمه الله - الإيمان بالقدر بقوله: "الإيمان بالقدر هو: الإيمان بتقدم علم الله سبحانه بما يكون من إكساب الخلق وغيرها، من المخلوقات وصدور جميعها عن تقدير منه، وخلق لها خيرها وشرها"5.

_ 1 الاعتقاد ص: 54. 2 المصدر نفسه. 3 انظر: تاريخ الجهمية والمعتزلة لجمال الدين القاسمي ص: 73. 4 المصدر السابق ص: 71. 5 الاعتقاد ص: 54.

وبهذا التعريف تتبيّن لنا العلاقة بين مسألة القدر ومسألة أفعال العباد. فهذه الأخيرة جزء من تلك المسألة الشائكة. والبيهقي - رحمه الله - من مثبتي القدر، وقد ألف في إثباته كتاباً خاصاً، إلا أنني هنا أقصر الحديث على جانب واحد، وهو أهم جوانب هذه القضية ألا وهو الحديث عن خلق أفعال العباد. وقبل أن أبدأ الحديث عن رأي البيهقي فيها أحبّ أن أبيّن الآراء التي اشتهرت حول هذه المسألة وهي عبارة عن رأيين متقابلين: أحدهما: رأي الجهمية الجبرية. وثانيهما: رأي المعتزلة القدرية. 1 - فأمّا الجبرية ورئيسهم جهم بن صفوان السمرقندي فزعمت أن التدبير في أفعال الخلق كلّها لله تعالى، وهي كلّها اضطراريّة كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار، وإضافتها إلى الخلق مجاز، وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله. 2 - وأمّا المعتزلة فقابلت هؤلاء الجبرية إذ قالوا إن جميع الأفعال الاتحارية من جميع الحيوانات بخلقها، لا تعلق لها بخلق الله تعالى1. أما البيهقي فإنه حينما تناول هذه المسألة بالحديث عنها فإنه - بما أورده من أدلة لتقرير ما ذهب إليه - يرد بذلك على المعتزلة الذين يقولون بما يخالف رأيه.

_ 1 شرح الطحاوية ص: 431.

فقد ذهب - رحمه الله - إلى اعتقاد أن أفعال العباد جميعها مخلوقة ومقدرة لله سبحانه وتعالىمستدلاً على ذلك بما ورد في كتاب الله تعالى حيث قال - رحمه الله: قال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1. فدخل فيه الأعيان والأفعال من الخير والشر وقال: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} 2. فنفى أن يكون خالق غيره، ونفى أن يكون شيء سواه غير مخلوق فلو كانت الأفعال غير مخلوقة لكان الله سبحانه خالق بعض الأشياء دون جميعها، وهذا خلاف الآية. ومعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان فلو كان الله خالق الأعيان والناس خالقي الأفعال لكان خلق الناس أكثر من خلقه، ولكانوا أتم قوة منه، وأولى بصفة المدح من ربّهم سبحانه. ولأن الله تعالى قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 3. فأخبر أن أعمالهم مخلوقة لله عز وجل"4. إلى غير ذلك من الآيات التي استدل بها البيهقي على أن الله عز وجلخانق لجميع أفعال عباده خيرها وشرها. ومما ذهب إليه البيهقي - رحمه الله - أن أفعال العباد جميعها مقدرة لله تبارك وتعالى، لا يخرج شيء منها عن قدرته ومشيئته، لأن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى. واستدل لذلك بقوله سبحانه: {وَمَا

_ 1 سورة غافر آية: 62. 2 سورة الرعد آية: 16. 3 سورة الصفات آية: 96. 4 الاعتقاد ص: 60.

تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقال بعد إيرادها: فأخبر أنّا لا نشاء شيئاً إلا أن يكون الله قد شاء1. وهو بهذا موافق لرأي السلف في هذه القضية إذ قالوا كما قال واستدلوا بما استدل به كما، ذكر ذلك البخاري في خلق أفعال العباد2، بل ذكره البيهقي نفسه حين أورد الأبيات المشهورة عن الإمام الشافعي فيما يتعلق بالقدر والمشيئة وهي قوله: ما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشألم يكن خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن وذكر بعد ذلك أن هذاً أيضاً مذهب أعلام الصحابة والتابعين ومذهب فقهاء الأمصار الأوزاعي ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم3. إلا أن البيهقي - وإن اتفق مع السلف على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وتابعة لمشيئته فإنه قد خالف السلف في أهم عنصر في هذه القضية ألا وهو قدرة العبد، وهل لها تأثير في فعله أم لا؟

_ 1 المصدر نفسه ص: 68. 2 خلق أفعال العباد ص: 17. 3 الاعتقاد ص: 73.

فقد ذهب – رحمه الله – إلى أن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله، مستدلاً بقوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 1. وقوله سبحانه: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} 2. حيث قال مبيناً وجه استدلاله: "فسلب عنهم فعل القتل والرمي والزرع، مع مباشرتهم إياه، وأثبت فعلها لنفسه، ليدل بذلك على أن المعنى المؤثر في وجودها بعد عدمها هو إيجاده وخلقه، وإنما وجدت من عباده مباشرة تلك الأفعال بقدرة حادثة أحدثها خالقنا عز وجلعلى ما أراد، فهي من الله سبحانه خلق، على معنى أنه هو الذي اخترعها بقدرته القديمة، وهي من عباده كسب على معنى تعلق قدرة حادثة بمباشرتهم التي هي إكسابهم"3. ثم أردف ذلك بذكر عبارة شيخه أبي الطيب الصعلوكي ملخصاً المبدأ الذي عناه البيهقي حيث قال راوياً عنه: "وكان الإمام أبو الطيب سهل بن محمّد بن سليمان يعبر عن هذا بعبارة حسنة فيقول: فعل القادر القديم خلق، وفعل القادر المحدث كسب فتعالى القديم عن الكسب وجل، وصغر المحدث عن الخلق وذل"4. وهذا تصريح من البيهقي ينفي تأثير قدرة العبد في فعله ويثبت له مجرد الكسب الذي اشتهر القول به عن جمهور الأشاعرة والمعروف بكسب الأشعري، يقول الآمدي - حاكياً مذهب هؤلاء القوم - وذهب

_ 1 سورة الأنفال آية: 17. 2 سورة الواقعة آية: 64. 3 الاعتقاد ص: 60، والقضاء والقدر ل: 26. 4 الاعتقاد ص: 61.

أهل الحق إلى أن أفعال العباد مضافة إليهم بالاكتساب وإلى الله تعالى بالخلق والاختراع، وأنه لا أثر للقدرة الحادثة فيها أصلاً"1. وقال الإيجي في المواقف: - المقصد الأوّل في أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما فيكون فعل العبد مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً، ومكسوباً للعبد"2. ثم عرف الكسب المذكور بقوله: "والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون منه تأثير"3. وقد أراد البيهقي ومن وافقه بإثبات الكسب محاولة التوسط بين مذهب الجبرية، ومذهب القدرية بجعلهم للعبد قدرة حادثة غير مؤثرة في فعله بخلاف ما ذهب إليه الجبرية من نفي قدرة العبد أصلاً، وما ذهب إليه القدرية من إثبات قدرة بها يخلق الإنسان فعله، إلا أن هذه محاولة يائسة؛ لأن مذهب الكسب يعود إلى مذهب الجبرية إذ النتيجة واحدة، لأن إثبات قدرة لا أثر لها إنما هو نفي للقدرة أصلاً، ولهذا قيل عن كسب الأشعري هذا إنه من الأمور التي لا تعقل، كما قال ابن القيم - رحمه الله -: "لم يثبت هؤلاء من الكسب أمراً معقولاً، ولهذا يقال محالات الكلام ثلاثة: كسب الأشعري، وأحوال أبي هاشم وطفرة النفام"4.

_ 1 غاية المرام للآمدي ص: 207. 2 المواقف بشرح الجرجاني (مطلب الإلهيّات) ص: 237. 3 المصدر السابق نفسه. 4 شفاء الغليل لابن القيم ص: 110.

وقد اعترف الأشاعرة أنفسهم بعدم وجود فرق بين مذهبهم وبين مذهب الجبرية، ولهذا التزم بعضهم القول بالجبر، كما فعل عضد الدين الإيجي حين قال عند مناقشته للمعتزلة في موضوع الحسن والقبح العقلين: "لنا أن الحسن والقبح ليسا عقليين وجوهاً: الأول: أن العبد مجبور في أفعاله…1. ولا يختفى بطلان هذا المذهب، لأنه - مثل مذهب الجبرية - غلوّ في إثبات القدر بنفي صنع العبد أصلاً. فالحق أن أفعال العبد من جملة مخلوقات الله وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، إلا أن هذا لا يلزم منه أن يكون العبد ليس فاعلاً حقيقة، ولا مريداً ولا مختاراً. لأن كلّ دليل صحيح يقيمه القدرة فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مراد له، مختار له حقيقة وأن نسبته وإضافته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى، وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته. فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى، فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة من عموم قدرة الله، ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذمّ.

_ 1 المواقف بشرح الجرجاني ص: 302.

ولذلك فرق الله تعالى بين المستطيع القادر وغير المستطيع فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 1، وقد أثبت سبحانه للعبد مشيئة وفعلاً كما قال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2. وقال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. لكن الله سبحانه خالقه، وخالق كل ما فيه من قدرة ومشيئة وعمل، فإنه لا ربّ غيره ولا إله سواه، وهو خالق كلّ شيء وربه ومليكه"4. أما ما استدلّ به البيهقي لنفي تأثير قدرة العبد في فعله فإنه استدلال في غير محله، لأن قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وليس فيه سلب لقدرة العبد على فعله، لأن القتل الذي نفاه سبحانه هنا إنما حصل بأمور خارجة عن قدرتهم، وقد كان هذا خاصاً في بدر حين أنزل الله تبارك وتعالى الملائكة، فكان المسلمون يرون رجالاً يقتلون ولا يرون من قتلهم، وهذا خرق للعادة في ذلك. إذ صارت رؤوس المشركين تطير قبل وصول السلاح إليها بالإشارة، وصارت الجريدة تتحول إلى سيف يقتل به. وكذلك رميه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليصل إلى عيون جميع المشركين لولا قدرة الله تعالى، فكان ما وجد القتل وإصابة الرمية خارجاً عن قدرتهم

_ 1 سورة آل عمران آية: 97. 2 سورة التكوير آية: 28-29. 3 سورة الأحقاف آية: 14. 4 انظر: شرح الطحاوية ص: 432، وشفاء الغليل لابن القيم ص: 112، ورسالة القضاء والقدر ضمن مجموع الرسائل الكبرى لابن تيمية2/93-94.

المعهودة، فسلبوه لانتفاء قدرتهم عليه. ولهذا نسب الله فعل الرمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونفى عنه الإصابة وبه صح الجمع بين النفي والإثبات {وَمَا رَمَيْتَ} أي: ما أصبت {إِذْ رَمَيْتَ} إذ طرحت، {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أصاب. وهكذا كل ما فعله الله من الأفعال الخارجة عن القدرة المعتادة بسبب ضعف، كإنباع الماء وغيره من خوارق العادات، أو الأمور الخارجة عن قدرة الفاعل1. ولو أراد بذلك أن فعل العبد هو فعل الله لكان ينبغي أن يقال ذلك في كل فعل، ينفيه عن العبد، وإضافته إلى الله سبحانه. أما قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} فإن معنى الآية: أأنتم تصيرونه زرعاً، أم نحن نجعله كذلك2. فهو سبحانه إنما نفى عنهم قدرتهم على إنبات ماحرثوا، ولهذا أثبت لهم فعل الحرث الذي هو وضع الحب في باطن الأرض – وذلك في صدر الآية حين قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} فأثبت هم فعلاً لقدرتهم عليه هو الحرث، ونفى عنهم ما هو خارج عن قدرتهم وهو الإنبات، فالآية إنما تدلّ على إثبات أن العبد قادر على فعله قدرة تأثير، إذ كان وضعه للحب في باطن الأرض سبباً في إنبات الله له. إلا أن البيهقي لا يقول بتأثير الأسباب في مسبباتها ونفى أن تكون أعمال العبد سبباً للجزاء المترتب عليها إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ، لأن الأعمال - عنده - مجرد إعلام للثواب والعقاب عندها يكون ذلك الثواب أو العقاب لا بها كما تقدم في أعمال العباد التي قرر أن قدرة العبد لا تأثير لها فيها.

_ 1 اننظر: مجموع الفتاوى15/40. 2 جامع البيان للطبري27/198.

وقد أوضح رأيه في كون أعمال العباد ليست سبباً لشقائهم أو نعيمهم بما أورده عن أبي سليمان الخطابي، وأبي الطيب الصعلوكي في المراد من حديث عمران بن حصين الذي قال فيه: قيل: "يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم. قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له" 1. قال البيهقي: "قال أبو سليمان الخطابي - رحمه الله - فيما بلغني عنه في هذا الحديث: فأعلمهم صلى الله عليه وسلم أن العلم السابق في أمرهم واقع على معنى تدبير الربوبية، وأن ذلك لا يبطل تكليفهم العمل بحق العبودية، إلا أنه أخبر أن كلاً ميسر لما دبر له في الغيب، فيسوقه العمل إلى ما كتب له من سعادة أو شقاوة، فيثاب ويعاقب على سبيل المجازاة، فمعنى العمل التعريض للثواب والعقاب وبه وقعت الحجة، وعليه دارت المعاملة. وكان الشيخ أبو الطيب سهل بن محمّد بن سليمان - رحمه الله - يقول: أعمالنا أعلام الثواب والعقاب"2. ثم عقب البيهقي على ذلك بقوله: "وليس لقائل أن يقول إذا خلق كسبه ويسره لعمل أهل النار ثم عاقبه عليه كان ذلك منه ظلماً، كما ليس له أن يقول إذا مكنه منه، وعلم أنه لايتأتى منه غيره ثم عاقبه، كان ذلك منه ظلماً، لأن الظلم في كلام العرب مجاوزة للحد، والذي هو خالقنا وخالق أكسابنا، لا آمر فوقه، ولا حاد دونه وكل من سواه خلقه وملكه، فهو يفعل في ملكه ما يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} "3.

_ 1 الاعتقاد ص: 62. 2 الاعتقاد ص: 63. 3 الاعتقاد ص: 63. والآية من سورة الأنبياء آية: 23.

وهذا الكلام الذي ساقه البيهقي عن الخطابي والصعلوكي - معجباً بما تضمنه - يدلّ على اعتقادهما أن الأعمال لا تأثير لها في جلب السعادة أو الشقاوة لصاحبها وإنما هي علامات عليها فقط، ولذلك عقب البيهقي بدفع ما قد يتوهم من الظلم في الجزاء الذي يحصل للعبد، ببيان أن العبد ملك لخالقه، وللمالك حق التصرف في مملوكه ولا يسأل – على أي وجه كان تصرفه – عن سبب ذلك التصرف، لأنه حر في ملكه يفعل به ما يريد ولا يكون ظالماً مهما فعل. وهذا الكلام الأخير - وإن كان صحيحاً في حق الله تبارك وتعالى لأن العباد لا يخرجون عن قدره سبحانه، ولا يسأل عما قدره على عباده من خير أو شرّ، إلا أن فعل العبد له تأثير في حصول القدر على الوجه الذي حصل عليه، لأنه عمل بالأسباب الموصلة إلى ما قدره الله تبارك وتعالى من خير أو شرّ. كما قال ابن القيم - رحمه الله -: "وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي هي مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية ... فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية في معادهم ... وقد يسر كلاً لما خلقه له في الدنيا والآخرة، فهو مهيأ له ميسر له، فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها، كان أشد اجتهاداً في فعلها، من القيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه ... فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا االطريق يفضي به إلى رياض مونقة، وبساتين معجبة، ومساكن طيبة، ولذة نعيم لا يشوبه نكد ولا تعب كان حرصه على سلوكها، واجتهاده في المسير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه ... فالقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها، ومتقضى لها، لا أنه مناف لها وصاد عنها.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سبب السعادة: الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره، وتحجز عن شرّه، وذلك نظام االشرع1. وهذا كان الإنسان مهتدياً بسلوكه الطريق الموصل إلى السعادة، ضالاً بسلوكه طريق الشر. والهداية والإضالال من المسائل التي كان رأي البيهقي فيها مرتبطاً برأيه في أفعال العباد، حيث جعل هذه المسألة - أعني الهداية والإضلال - من الأمور التي ليس للعبد فيها اختيار، مستدلاً على ذلك بمجموعة من الآيات والأحاديث، حيث أورد قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه" 2. وأورد بعده قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} 3. وقال بعد ذلك: "وفيه وفي السنة دلالة على أن الله تعالى إن شاء هداهم وثبتهم، وإن شاء أزاغ قلوبهم وأضلهم"4. وهذا الكلام بظاهره هذا لا غبار عليه، إلا أنه أراد بذلك أن العبد ليس له عمل به يكون مهتدياً أو ضالاً، بناء على ما تقدم من أن قدرته لا تأثير لها في فعله، وليس الأمر كذلك بل العبد مهتد أو ضال بفعل نفسه الذي لا يخرج عن قضاء الله وقدره، فهو سبحانه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.

_ 1 شفاء العليل ص: 57. 2 الاعتقاد ص: 66، وقد تقدم الحديث في ص: (387) من هذا البحث. 3 سورة آل عمران آية: 8. 4 الاعتقاد ص: 66.

فاهتداء العبد هو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} 1 ولا سبيل إلى وجود الأثر إلاّ بمؤثره التام، فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد2. وهكذا يتضح لنا أن ما ذهب إليه البيهقتي من القول بعدم تأثير قدرة العبد في فعله - موافقاً بذلك أصحابه الأشاعرة - مخالف للعقل والشرع معاً، لأن العقل يلاحظ من الإنسان قدرته على الفعل والترك بطوعه واختياره، أما الشرع فقد نسب الفعل إلى العبد في أكثر من موضع كما صرح بأن العبد وفعله مخلوقان لله تبارك وتعالى، ومشيئة العبد تابعة لمشيئته سبحانه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وهناك مسائل كنا نود لو عثرنا فيها على رأي للبيهقي مثل: مسألة هل يجب على الله بعض الأفعال، كالصلاح والأصلح، إلا أنه لم يتعرض لها، ولم يذكرها.

_ 1 سروة الكهف آية: 17. 2 انظر: شفاء العليل لابن القيم ص: 174.

الخاتمة

الخاتمة بعد هذا العرض المستفيض والمناقشة الهادفة لآراء البيهقي في الإلهيّات، ينتهي هذا البحث الذي يتكون من بابين كما رأينا وقد توصلت منه إلى عدة نتائج أجملها فيما يأتي. 1 - فساد الحالتين السياسية والاجتماعية، وعدم تأثير ذلك على الحالة العلمية التي كانت على العكس منهما، حيث ازدهرت ازدهاراً عظيماً، حتى عرف ذلك العصر بعصر النهضة، وكان سبب ذلك تفاني العلماء في سبيل نشر العلم والمحافظة عليه. 2 - إن البيهقي قد بدأ حياته العلمية منذ وقت مبكر، وجلس إلى عدد وافر من مشاهير العلماء، وأكثر من الرحلات العلمية مما كان له أكبر الأثر في سعة اطلاعه، وتنوع ثقافته ووفرة إنتاجه. 3 - إنه سلك في الاستدلال طريقة السلف، وخالفهم في كثير من المسائل عند التطبيق لذلك الاستدلال. 4 - إنه اختار في استدلاله على وجود الله تعالى طريقة القرآن الكريم وهو أمر اتفق فيه مع السلف. إلاّ أنه وافق أصحابه الأشاعرة في الاستدلال بالجواهر والأعراض على حدوث العالم زاعماً صحة هذا الاستدلال لأنه - في نظره - استدلال شرعي وأيده بطريقة إبراهيم عليه السلام

فبينت مخالفة ذلك لمذهب السلف، وفساد تصورهم أنها طريقة إبراهيم عليه السلام. 5 - إن البيهقي اتفق مع السلف في جميع ما يتعلق بأسماء الله تعالى من طريقة إثباتها، والقول بعدم حصرها، وصلتها بالصفات إلاّ أنني لم أوافقه فيما ذهب إليه من أن الاسم عين المسمى - مع أنه رأى لبعض السلف كما ذكرت إلاّ أنني اخترت القول بالتفصيل الذي ارتضاه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وأن ذلك لا يلجأ إليه إلاّ عند الاستفسار عن الاسم هل هو عين المسمى أم غيره، وإلاّ فالإطلاق الصحيح الموافق لأدلة الشرعية هو القول بأن الاسم للمسمى. 6 - إن البيهقي قد اتفق مع السلف في طريقة تقسيم الصفات وأشرت إلى قصور تقسيم المتكلمين عن كثير من الصفات، وشمول تقسيم البيهقي. 7 - إنه اتفق مع السلف في إثبات الصفات العقلية بنوعيها وفي طريقة االاستدلال على ذلك الإثبات. 8 - عدم موافقته للسلف في القول بحلول الحوادث بذات الله تعالى بمعنى أنه – سبحانه - يفعل متى شاء كيف شاء، لذلك قال بقدم جميع صفات الذات العقلية وعدم حدوث شيء منها وأوضحت أن الصحيح في ذلك ما ذهب إليه السلف من القول بأنها قديمة النوع حادثة الآحاد.

9 - مخالفته للسلف في نفيه تسلسل الحوادث في جانب الماضي ولذلك رأيناه يقول بحدوث صفات الفعل العقلية. إلاّ أنني بينت خطأه فيما ذهب إليه، وصحة مذهب السلف القائل بأن الله فعال لما يريد أزلاً وأبداً. 10 - إن البيهقي وافق السلف فيما أثبته من صفات الذات الخبرية وخالفهم في تأويل ما بقي منها. حيث أثبت اليدين والوجه والعين، وأوّل ما سوى ذلك. 11 - مخالفته للسلف في صفات الفعل الخبرية. حيث ذهب إلى تأويل بعضها، وتفويض بعضها الآخر، زاعماً أن التفويض في ما فوض فيه هو مذهب السلف. وقد بينت فساد قول من نسب التفويض والتأويل إلى السلف، مبيناً أن مذهب السلف هو الإثبات الحقيقي لجميع الصفات إثباتاً لا تأويل فيه، ولا تفويض، ولا تشبيه. 12 - إن البيهقي يختلف مع السلف في جميع ما يتعلق بصفة الكلام التي أثبتها، من القول بأن الكلام نفسي قديم وأنه بدون حرف ولا صوت وأنه معنى واحد، وقد ناقشته في جميع هذه المسائل وبينت خطأ ما ذهب إليه وصحة مذهب السلف. وبينت أن رأيه في كلام الله تعالى هو عين مذهب أصحابه الأشاعرة، وأن حقيقة مذهبهم في القرآن لا يختلف عن مذهب المعتزلة إلاّ بنفيهم أن يكون هذا القرآن الذي نقرأه هو كلام الله الحقيقي.

13 - اتفاقه مع السلف فيما يتعلق بمسألة الرؤية، من القول بإثباتها للمؤمنين يوم القيامة. إلاّ أنه خالفهم بنفيه الجهة، مستدلاً بحديث الرؤية. وقد بينت فساد استدلاله به، وصحة استدلال السلف. 15 - إنه يقول بعدم تأثير قدرة العبد في فعله، وبينت أنه بذلك يوافق الأشاعرة القائلين بالكسب، الذي لا حقيقة له، ويخالف السلف لقولهم بتأثير قدرة العبد في فعله. 16 - إنه ينفي تأثير الأسباب في مسبباتها، وهو مذهب الأشاعرة، وقد بينت فساد هذا الرأي أيضاً ومخالفته للنصوص الشرعية المثبتة لذلك. وأخيراً، فإنني أقرر هنا وعن ممارسة طويلة لقراءة كتب المتكلمين وكتب السلف أن مذهب السلف هو الذي يجب أن يكون طريق كل مسلم لقربه من منبع العقيدة والتزامه بمنهج الوحي. أما مناهج المتكلمين فإنها حشو من لغو الكلام الذي قد يبعد بكثير ممن يفضله عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله. لذلك أدعو إلى الالتزام به والتمسك بأهداف العقيدة الصافية النابعة من المعين الصافي ألا وهو الوحي. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... ثبت المراجع القران الكريم مؤلفات البيهقي: 1 - إثبات عذاب القبر. مخطوط بمكتبة أحمد الثالث بإستنبول ضمن مجموعة رقمها:4288. 2 - أحكام القرآن. تحقيق محمد زاهد الكوثري، نشر دار الكتب العلمية ببيروت، سنة: 1395هـ. 3 - الآداب. مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم 43، حديث. 4 - كتاب الأربعين. مخطوط بمكتبة عاشر أفندي ضمن المكتبة السليمانية بإستنبول، مجموعة رقم: 1179. 5 - الأسماء والصفات. تحقيق محمد زاهد الكوثري، طبع مطبعة السعادة بمصر، سنة: 1358هـ. 6 - الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد. تصحيح الشيخ أحمد مرسي، طبع بالقاهرة، سنة: 1380هـ. 7 - الألف مسألة. مخطوط بمكتبة أحمد الثالث باستنبول ضمن مجموعة رقمها: 1127. 8 - الانتقاد على الشافعي. مخطوط بمكتبة الشيخ عارف حكمت بالمدينة المنوّرة. 9 - البعث والنشور. مخطوط بمكتبة شستربتي بلندن، رقم: 3280. 10 - بيان خطأ من أخطأ علي الشافعي. مخطوط بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورّة، رقم 95.

11 - تخريج أحاديث الأم. مخطوط بمكتبة شستربتي بلندن، رقم: 3280. 12 - الجامع في الخاتم. مخطوط بمكتبة الشيخ عارف حكمت المدية المنوّرة، ضمن مجموعة. 13 - الجامع لشعب الإيمان. مخطوط بمكتبة المتحف بإستنبول، رقم: 2667-2669. 14 - حياة الأنبياء في قبورهم. تعليق الشيخ محمّد بن محمّد الخانجي، طبع المطمعة المحمودية بالقاهرة، سنة: 1358هـ. 15 - الخلافيات بين الشافعي وأبي حنيفة. مخطوط بدار الكتب المصرية، رقم 94، فقه الشافعي، 16 - الدعوات الكبير. مخطوط بالمكتبة الأصفية بحيدر آباد في الهند، رقم: 14. 17 - دلائل النبوة. تحقيق عبد الكريم عثمان، ط/ الأولى بدار النصر للطباعة بالقاهرة، سنة 1389هـ. 18 - رسالة البيهقي إلى أبي محمّد الجويني. مخطوط بمكتبة المتحف بإستنبول ضمن مجموعة رقمها: 4288. 19 - الزهد الكبير. مخطوط بمكتبة الشيخ عارف حكمت بالمدينة المنوّرة، رقم:142. 20 - السنن الصغرى. مخطوط بمكتبة المتحف بإستنبول، رقم: 2664. 21 - السنن الكبرى. طبع مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيد آباد الدكن- الهند. 22 - القراءة خلف الإمام. طبع في الهند بعناية تلطف حسين. 23 - القضاء والقدر. مخطوط بمكتبة الشهيد علي باشا، ضمن المكتبة السليمانية بإستنبول، رقم: 1488. 24 - المدخل إلى كتاب السنن. مخطوط بمكتبة الجمعية الآسيوية بكلكتا، رقم: 368.

25 - معرفة السنن والآثار. تحقيق السيد أحمد صقر ونشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، بدون تاريخ. 26 - مناقب الشافعي. تحقيق السيد أحمد صقر، للطباعة بالقاهرة، سنة: 1391هـ. مراجع أخرى (أ) 27 - الإبانة عن أصول الديانة. لأبي الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعري، تشر المكتبة السلفية بالمدينة المنوّرة، بدون تاريخ. 28 - ابن تيمية السلفي. للدكتور محمّد خلليل هراس، الطبعة الأولى بالمطبعة اليوسفية بطنطا، سنة: 1372هـ. 29 - الإتقان قي علوم القرآن. للسيوطي، ط/ الثانية، سنة: 1370هـ. 30 - اجتماع الجيوش الإسلامية. لابن القيم، نشر مكتبه الرياض الحديثة بدون تاريخ. 31 - أحسن التقاسيم للمقدسي. ط/ الثانية، ليدن، سنة 1906م. 32 - إحياء علوم الدين. للغزالي، أبو حامد محمّد بن محمّد ت: 505هـ. طبع مطبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر. 33 - الاختلاف في اللفظة. لابن قتيبة عبد الله بم مسلم ت: 276هـ. ضمن عقائد السلف، تحقيق الدكتور عليّ سامي النشار، نشر منشأة المعارف بالإسكندرية 1971م.

34 - الأربعين في أصول الدين. للرازي فخر الدين محمد بن عمر الخطيب، ت: 656هـ. ط/ الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، 1353هـ. 35 - الأربعين في أصول الدين. للغزالي، أبو حامد محمّد بن محمد، نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر، بدون تاريخ. 36 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد. للجويني أبو المعالي عبد الملك، ت: 478هـ. تحقيق الدكتور محمّد يوسف موسى وعليّ عبد المنعم، طبع مطبعة السعادة بالقارة، 1950م. 37 - أساس التقديس. للرازي، محمّد بن عمر الخطيب، طبع مطبعة مصطفى الحلبي 1354هـ. 38 - أسماء الله الحسنى، المسمّى لوامع البينات. للرازي، تعليق طه عبد الرؤوف سعد، نشر مكتبة الكليات الأزهرية، سنة 1396هـ. 39 - الإرشادات والتنبيهات. لأبي علي بن سينا، ت 428هـ. تحقيه الدكتور سليمان دنيا، طبع دائرة المعارف بالقاهرة، 1960م. 40 - أصول الدين. للبغدادي أبو منصور عبد القاهر بن طاهر، ت 429هـ. ط/ الأولى، بمطبعة الدولة بإستنبول 1346هـ. 41 - أعلام الفلاسفة. للدكتور هنري توماس، ترجمة متري أمين، طبع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر بالقاهرة، 1964م. 42 - الأعلام. للزركلي، خير الدين، ط/ الثالثة، 1389هـ. 43 - إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان. لابن القيم، ت: 751هـ، تحقيق محمد سيد كيلاني، ط/ سنة 1381هـ.

44 - الاقتصاد في الاعتقاد. للغزالي، تقديم الدكتور عادل العوا، ط/ الأولى بدار الأمانة في بيروت، سنة 1388هـ. 45 - الإكليل. لابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، ضمن مجموعة الرسائل الكبرى، طبع مطبعة محمّد علي صبيح بالقاهرة، بدون تاريخ. 46 - الأنساب. للسمعاني، أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور، مخطوط بمكتبة الحرم المكي، رقم: 35 تراجم. 47 - إيثار الحق على الخلق. لابن المرتضى، أبو عبد الله محمّد بن المرتضى اليماني، طبع مطبعة الآداب والمؤيد بالقاهرة، سنة 1318هـ. (ب) 48 - بدائع الفوائد. لابن القيم، نشر دار الكتاب العربي ببيروت، بدون تاريخ. 49 - البداية والنهاية. لابن كثير، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، ت: 774هـ، ط/ الأولى، سنة 1966م. 50 - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية. لابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، تصحيح وتعليق الشيخ محمّد بن عبد الرحمن بن قاسم، ط/ الأولى، بمطبعة الحكومة بمكة المكرمة، 1391هـ. 51 - البيان والتبيين. للجاحظ، أبو عثمان عمره بن بحر ت: 255هـ، طبع سنة 1968م. (ت) 52 - تاريخ الإسلام السياسي. للدكتور حسن إبراهيم حسن، ط/ السابعة، 1966م. 53 - تاريخ الأمم الإسلامية. للشيخ محمّد الخضري، نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر، 1969م.

54 - تاريخ بغداد. للخطيب البغدادي، ت 463هـ. نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنوّرة، بدون تاريخ. 55 - تاريخ التراث العربي. لبروكلمان، ط/ الألمانية. 56 - تاريخ الجهمية والمعتزلة. لجمال الدين القاسمي، ت: 1332هـ، ط/ الأولى بمطابع مؤسسة الرسالة في بيروت،1399هـ. 57 - تاريخ الفرق الإسلامية. لعلي مصطفى الغرابي، طبع مطبعة محمّد علي صبيح بمصر، 1959م. 58 - تاريخ دولة آل سلجوق. للأصفهاني عماد الدين بن محمّد، ط/ بدون تاريخ. 59 -تأويل مختلف الحديث. لابن قتيبة، أبو محمّد عبد الله بن مسلم، ت:276هـ، تصحيح محمّد زهري النجار، نشر دار الجيل ببيروت، 1393هـ. 60 - تبيين كذب المفتري. لابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، ت 571هـ، نشر دار الكتاب العربي ببيروت، 1399هـ. 61 - تبصرة الأدلة. لأبي المعين النسفي، تحقيق السيد محمّد الأنور حامد، رسالة دكتوراه، مخطوطة بكلية أصول الدين، جامعة الأزهر. 62 - تحفة المريد على جوهرة التوحيد. لإبراهيم البيجوري، الطبعة الأخيرة، بمطبعة الحلبي. 63 - تذكرة الحفاظ للذهبي. أبو عبد الله محمّد بن أحمد، ت: 748هـ، نشر دار إحياء التراث العربي ببيروت، لبنان، بدون تاريخ. 64 - تفسير الأسماء والصفات. للخطابي أبو سليمان حمد بن محمّد، ت: 388هـ. مخطوط بالخزانة العامة بالمغرب، رقم: 1142.

65 - تفسير القرآن العظيم. لابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي. ط/ بدون تاريخ. 66 - تفسير مجاهد. للإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي المخزومي، ت 104هـ، تحقيق عبد الرحمن الطاهر، طبع مطابع الدوحة الحديثة بقطر. 67 - تفسير المنار. للشيخ محمّد رشيد رضا، الطبعة الرابعة، 1379هـ. 68 - التفسير الكبير. للرازي محمّد بن عمر، الطبعة الأولى بالمطبعة البهية بمصر،1357هـ. 69 - تفسيرات ابن تيمية. جمع إقبال محمّد الأعظمي، طبع مطبعة عليّ بريس (ماليكاون) . 70 - تفسير سورة الإخلاص. لابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، طبع دار الطباعة المحمدية بالقاهرة. 71 - التمهيد. لأبي بكر الباقلاني، نشر المكتبة الشرقية ببيروت، 1957م. 72 - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع. للملطي، أبو الحسين محمّد بن أحمد بن عبد الرحمن، ت: 377هـ. تحقيق محمّد زاهد الكوثري، نشر مكتبة المثنى ببغداد، 1388هـ. 73 - كتاب التوحيد وإثبات صفات الربّ U. للإمام محمّد بن إسحاق بن خزيمة، تحقيق الدكتور محمّد خليل هراس، نشر مكتبة الكليات الأزهرية1387هـ. (ج) 74 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن. للطبري، محمّد بن جرير، ت: 310هـ. ط/ الثالثة، بمطبعة مصطفى الحلبي بمصر، 1388هـ. 75 - جواهر الأدب. لأحمد الهاشمي، ط/ التاسعة عشرة، 1379هـ. 76 - الجوائز والصلات. للشيخ محمّد صديق حسن خان، نشر المكتبة السلفية في دهلي بالهند، بدون تاريخ.

(ح) 77 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. لابن القيم، تصحيح وتعليق الشيخ محمود حسن ربيع، ط/ الرابعة، بمطبعة محمّد علي صبيح، 1381هـ. 78 - حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية. ضمن مجموعة الحواشي البهية، طبع مطبعة كردستان العلمية بمصر، سنة 1329هـ. 79 - حاشية الدسوقي على شرح أم البراهين. للشيخ محمّد الدسوقي، طبع مطبعة عيسى الحلبي، بدون تاريخ. 80 - حاشية الصاوي على شرح الخريدة البهية. للشيخ أحمد بن محمّد الصاوي المالكي، طبع مطبعة الاستقامة، بدون تاريخ. 81 - حروف القرآن وأصواتنا به. لابن تيمية، ضمن مجموعة شذرات البلاتين. 82 - الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. لآدم متز، ترجمة عبد الهادي أبو ريدة، ط/ الرابعة، 1387هـ. 83 - الحموية الكبرى. لشيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، ضمن مجموع الفتاوى. (خ) 84 - الخطط والآثار للمقريزي. طيع مؤسسة الحلبي وشركاه، بدون تاريخ. 85 - خلق أفعال العباد. للبخاري، محمّد بن إسماعيل، طبع مطبعة النهضة بمكة المكرمة، سنة 1389هـ. (د) 86 - دائرة المعارف الإسلامية. لأحمد محمّد شاء. 87 - درء تعارض العقل والنقل. لابن تيمية أحمد بن عبد الله، تحقيق الدكتور محمّد رشاد سالم، طبع مطبعة دار الكتب، سنة 1971م.

88 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور. للسيوطي جلال الدين، نشر محمّد أمين دمج، بيروت، بدون تاريخ. 89 - دفع شبه التشبيه. لأبي الفرج بن الجوزي، تحقيق محمّد زاهد الكوثري، نشر المكتبة التوفيقية بالقاهرة، بدون تاريخ. 90 - ديوان الأصول. للنيسابوري، أبو رشيد سعيد بن محمّد، تحقيق الدكتور محمّد عبد الهادي أبو ريدة. نشر المؤسسة المصرية العامة، بدون تاريخ. (ر) 91 - ردّ الدارمي على بشر المريسي. للإمام عثمان بن سعيد الدارمي، ضمن مجموعة عقائد السلف، تحقيق الدكتور عليّ سامي النشار، نشر منشأة المعارف بالإسكندرية، سنة 1971م. 92 - الرد على الجهمية والزنادقة. للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة، نشر دار اللواء بالرياض. 93 - الردّ على الجهمية. للدارمي عثمان بن سعيد، ت: 285هـ، طبعة، بدون تاريخ. 94 - الرسالة التدمرية. لابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، طبعة/ بدون تاريخ. 95 - رسالة القضاء والقدر. لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل الكبرى، طبع مطبعة محمّد علي صبيح، بدون تاريخ. 96 - روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني. لمحمود الألوسي، المطبعة المنيرية. (ز) 97 - زاد المسير. لأبي الفرج بن الجوزي، نشر المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، سنة 1382هـ.

(س) 98 - سنن ابن ماجة. للحافظ أبي عبد الله محمّد بن يزيد القزويني، ت: 275هـ، ترقيم محمّد فؤاد عبد الباقي، طبع مطبعة عيسى الحلبي، بدون تاريخ. 99 - سنن أبي داود. للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ت: 275هـ، تعليق وترقيم عزت عبيد الدعاس، طبعة أولى 1388هـ. 100 - سنن النسائي. للحافظ أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي، ت: 303هـ. الطبعة الأولى، بمطبعة مصطفى الحلبي، سنة 1383هـ. 101 - سير أعلام النبلاء. للذهبي، أبو عبد الله محمّد بن أحمد، ت: 748هـ، مخطوط مصوّر بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة. (ش) 102 - شذرات الذهب. لابن العماد الحنبلي، ت: 1089هـ، نشر المكتب التجاري للطباعة والنشر ببيروت، بدون تاريخ. 103 - شرح العقيدة الأصفهانية. لابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، طبع مطبعة الاعتصام بالقاهرة، سنة 1385هـ. 104 - شرح الطحاوية. للإمام علي بن محمّد بن أبي العزّ الحنفي، الطبعة الثالثة، نشر المكتب الإسلامي، بدون تاريخ. 105 - شرح السنة. للبغوي، أبو محمّد الحسين بن مسعود الفراء، ت: 516هـ. تحقيق شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش، طبع المكتب الإسلامي. 106 - شرح عقيدة أهل التوحيد الكبرى. للسنوسي، محمّد بن يوسف السنوسي الحسني، الطبعة الأولى، بمطبعة مصطفى الحلبي 1354هـ. 107 - شرح أم البراهين. للسنوسي أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن يوسف، طبع مطبعة الاستقامة، 1351هـ.

108 - شرح حديث النزول. لابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، الطبعة الخامسة، بالمكتب الإسلامي للطباعة والنشر، 1397هـ. 109 - شرح صحيح مسلم. للنووي، محي الدين يحيى بن شرف، طبع المطبعة المصرية، بدون تاريخ. 110 - شرح العقائد النسفية. لسعد الدين التفتازاني، طبع مطبعة عيسى الحلبي، بدون تاريخ. 111 - شرح الأصول الخمسة. للقاضي عبد الجبّار بن أحمد، تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، الطبعة الأولى، بمطبعة الاستقلال الكبرى، 1384هـ. 112 - شرح المقاصد. لسعد الدين التفتازاني، طبع مطبعة الحاج محرم أفندي باستنبول 1305هـ. 113 - الشرعية. للآجري، أبو بكر محمّد بن الحسين، ب: 360هـ، تحقيق محمّد حامد الفقي، الطبعة الأولى، بمطبعة السنة المحمّدية، سنة: 1369هـ. 114 - شرح العقيدة الواسطية. للدكتور محمّد خليل خراس، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنوّرة، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ. 115 - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل. لابن القيم، نشر مكتبة دار التراث بالقاهرة، بدون تاريخ. (ص) 116 - صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري. ترقيم محمّد فؤاد عبد الباقي، طبع المطبعة السلفية بالقاهرة. 1380هـ. 117 - صحيح مسلم. للإمام مسلم بن الحجاج القشيري، ت: 261هـ، ترقيم محمّد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى، بمطبعة عيسى الحلبي، 1374هـ.

(ط) 118 - طبقات الحفاظ. للسيوطي، جلال الدين، ت: 911هـ. الطبعة الأولى بمطبعة الاستقلال الكبرى، بالقاهرة 1393هـ. 119 - طبقات الشافعية. لتاج الدين السبكي، تحقيق محمود الطناحى وعبد الفتاح محمّد الحلو، الطبعة الأولى بمطبعة عيسى الحلبي 1383هـ. 120 - طبقات الشافعية. لابن هداية الله الحسيني، ت: 1014هـ. تحقيق عادل نويهض، الطبعة الثانية، 1979م. 121 - طبقات الشافعية للأسنوي. جمال الدين، ت: 772هـ، تحقيق عبد الله الجبوري، الطبعة الأولى بمطبعة الإرشاد ببغداد سنة 1390هـ. (ظ) 122 - ظهر الإسلام. لأحمد أمين، طبع داو النهضة العربية بمصر، 1945م. (ع) 123 - العبر في خبر من غبر. للذهبي، تحقيق فؤاد سيد، طبع مطبعة حكومة الكويت، سنة 1969م. 124 - العبر وديوان المبتدأ والخبر. لابن خلدون، طبع مطبعة محمّد مصطفى، بدون تاريخ. 125 - العقيدة الطحاوية. شرح وتعليق الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني. الطبعة الأولى بالمكتب الإسلامي للطباعة والنشر، 1398هـ. 126 - العقيدة الطحاوية. تعليق الشيخ محمّد بن مانع، طبع دار النصر للطباعة، بدون تاريخ. 127 - العقيدة النظامية. للجويني إمام الحرمين. تحقيق الشيخ محمّد زاهد الكوثري، طبع مطمعة الأنوار، 1948م،

128 - العقيدة الإسلامية والأخلاق. للدكتور عوض الله جاد حجازي ومحمّد عبد الستار أحمد نصاو، الطبعة الأولى، 1393هـ. 129 - عقيدة السلف وأصحاب الحديث. لأبي عثمان الصابوني، ت: 449هـ. ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، طبع إدارة الطباعة المنيرية، 1970م. 130 - العلو للعلي الغفار. للذهبي، محمّد بن أحمد، ت 748هـ، الطبعة الثانية، بمطبعة العاصمة بالقاهرة، 1388هـ. (غ) 131 - غاية المرام في علم الكلام. لسيف الدين الآمدي، ت 631هـ، تحقيق حسن محمود عبد اللطيف، طبع مطابع الأهرام التجارية بالقاهرة، 1391هـ. 132 - غاية الأماني في الردّ على النبهاني. لمحمود شكري الألوسي، 1342هـ، طبع مطابع نجد التجارية بالرياض، بدون تاريخ. (ف) 133 - فتح القدير. للشوكاني محمّد بن علي، ت 1250هـ، الطبعة الثانية بمطبعة مصطفى الحلبي، 1383هـ. 134 - فتح المغيث. للسخاوي، شمس الدين محمّد بن عبد الرحمن، ت902هـ، تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان، الطبعة الثانية بمطبعة العاصمة بالقاهرة، 1388هـ. 135 - الفرق بين الفرق. للبغدادي، عبد القاهر بن طاهر، ت 429هـ، تحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد، طبع مطبعة المدني بالقاهرة، بدون تاريخ. 136 - الفصل في الملل والأهواء والنحل. لابن حزم، أبو محمّد علي بن حزم الأندلسي، ت 456هـ، طبع مطبعة الخانجي، 1321هـ.

137- الفقه الأكبر. لأبي حنيفة مع شرحه لملاّ علي القاري، الطبعة الثانية، بمطبعة مصطفى الحلبي بمصر، سنة: 1375هـ. 138 - فتح الباري. شرح صحيح البخاري للحافظ أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني، ت 852هـ، تصحيح الشيخ عبدة العزيز بن باز، ومحب الدين الخطيب، طبع المطبعة السلفية بالقاهر، 1380هـ. (ق) 139 - القاموس المحيط. لمجد الدين الفيروز أبادي. طبع مطبعة السعادة بمصر، بدون تاريخ. 140 - قصة الحضارة. ول، ديورانت، ترجمة محمّد بدران، الطبعة الثالثة، 1961م. 141 - القصيدة النونية. لابن القيم، مع شرحها للدكتور محمّد خليل هراس،. مطبعة الإمام بالقاهرة، بدوت تاريخ. (ك) 142 - كشف الظنون عين أسامي الكتب والفنون. نشر مكتبة المثنى ببغداد، بدون تاريخ. 143 - الكامل في التاريخ. لابن الأثير الجزري، ت 630هـ، الطبعة الثانية، 1387هـ. 144 - الكواشف الجلية عن معاني الواسطية. للشيخ عبد العزيز المحمّد السلمان، الطبعة الثالثة. (ل) 145 - اللباب في تهذيب الأنساب. لابن الأثير الجزري، نشر دار صادر في بيروت، بدون تاريخ.

146 - لسان العرب،. لاين منظور، دار بيروت للطباعة والنشر، 1956م. 147 - لمع الأدلة. للجويني، إمام الحرمين، تحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود، طبع المؤسسة المصرية، 1385هـ. (م) 148 - متشابه القرآن. للقاضي عبد الجبّار بن أحمد، ت: 415هـ، تحقيق الدكتور عدنان محمّد زرزور، طبع دار النصر للطباعة بالقاهرة، بدون تاريخ. 149 - مجالس ابن الجوزي. مخطوط مصوّر بمعهد المخطوطات بالقاهرة، 216 تفسير. 150 - مجموع فتاوى ابن تيمية. جمع وترتيب الشيخ عبد الرحمن بن محمّد النجدي، الطبعة الأولى، بمطابع الرياض، 1381هـ. 151 - مجموعة الرسائل الكبرى. لابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، طبع مطبعة محمّد عليّ صبيح بالقاهرة، 1385هـ. 152 - محاسن التأويل. لجمال الدين القاسمي الدمشقي، ت: 1332هـ، تصحيح وترقيم محمّد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى، بمطبعة عيسى الحلبي، 1376هـ. 153 - محصل أفكار المتقدّمين والمتأخرين. للرازي، محمّد بن عمر الخطيب، طبع المطبعة الحسينية بمصر، 1323هـ. 154- المحلى. أبو محمّد عليّ بن أحمد، طبع دار الاتحاد العربي للطباعة،1387هـ. 155 - مختصر الصواعق المرسلة. لابن القيم، نشر مكتبة الرياض الحديثة، بدون تاريخ. 156 - مختصر طبقات المحدّثين. لابن عبد الهادي الحنبلي، مخطوط مصوّر بالمكتبة المركزيّة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة، رقم: 744.

157 - المختصر في أصول الدين. للقاضي عبد الجبار بن أحمد، ضمن مجموعة رسائل العدل والتوحيد، تحقيق محمّد عمارة، طبع مطابع مؤسسة دار الهلال، سنة: 1971م. 158 - مدارج الساكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. لابن القيم، طبع مطبعة السنة المحمّدية، 1375هـ. 159 - المسامرة بشرح المسايرة. للقدسي، كمال الدين محمّد بن محمّد المعروف بابن أبي شريف، طبع مطبعة السعادة، القاهرة بدون تاريخ. 160 - مشكل الحديث. لابن فورك، محمّد بن الحسن، ت: 406هـ، الطبعة الأولى، بمطبعة جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، سنة: 1362هـ. 161 - مسند الإمام أحمد بن حنبل. نشر المكتب الإسلامي ببيروت. 162 - معالم السنن. للخطابي، ت: 388هـ، بهامش سنن أبي داود، تحقيق عزت الدعاس، الطبعة الأولى، سنة: 1388هـ. 163 - معجم البلدان. للحموي ياقوت بن عبد الله، ت: 626هـ، نشر دار صادر، ودار بيروت للطباعة، بدون تاريخ. 164 - معجم مقايس اللغة. لابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ت: 395هـ، تحقيق عبد السلام هارون، الطبعة الثانية، بمطعبة مصطفى الحلبي القاهرة، 1389هـ. 165 - المفردات في غريب القرآن. للراغب الأصفاني، تحقيق محمّد سيد كيلاني، طبع مطبعة الحلبي بمصر. 166 - مقلات الإسلاميين، واختلاف المصلّين. للأشعري؛ أبو الحسن عليّ بن إسماعيل، ت: 303هـ، تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد، نشر مكتبة النهضة المصرية، 1379هـ.

167- الملل والنحل. للشهرستاني، أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم، ت:548هـ، تحقيق محمّد سيد كيلاني، طبع مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة، سنة: 1378هـ. 168 - مناهل العرفان في علوم القرآن. للزرقاني، محمّد بن عبد العظيم، طبع مطبعة عيسى الحلبي. 169 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. لابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن ابن عليّ، ت: 597هـ، الطبعة الأولى، بمطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، 1359هـ. 170- المنية والأمل في شرح الملل والنحل. لابن المرتضى أحمد بن يحيى، ت:840هـ، تحقيق الدكتور محمّد جوار مشكور، الطبعة الأولى، بدار الفكر للطباعة ببيروت، 1399هـ. 171 - مناهج الأدلة في عقائد الملة. لابن رشد، ت 595هـ، تقديم وتحقيق الدكتور محمود فاسم، الطبعة الثالثة، نشر مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة، بدون تاريخ. 172 - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية. لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمّد رشاد سالم، نشر مكتبة خياط في بيروت، بدون تاريخ. 173 - المواقف بشرح الجرجاني (قسم الإلهيات) . تحقيق الدكتور أحمد المهدي، طبع دار الحمامي للطباعة بالقاهرة. 174 - الموطأ. للإمام مالك بن أنس، ترقيم محمّد فؤاد عبد الباقي، طبع مطبعة عيسى الحلبي، 1370هـ. 175 - ميزان الاعتدال. للذهبي، أبو عبد الله محمّد بن أحمد، تحقيق علي محمّد البجاوي، الطبعة الأولى، بمطبعة عيسى الحلبي ت 1382هـ.

(ن) 176 - كتاب النبوات. لابن تيمية، نشر مكتبة الرياض الحديثة، بدون تاريخ. 177 - النجاة. لابن سينا، الطبعة الثانية، 1357هـ. 178- النجوم الزاهرة. لابن تغري بردى، أبو المحاسن جمال الدين، ت 874هـ، طبعة دار الكتب المصرية. 179 - نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام. للدكتور عليّ سامي النشار، نشر دار المعارف بمصر، الطبعة السادسة، 1975م. 185 - نهاية الإقدام في علم الكلام. للشهرستاني، تحقيق الفرد جيوم، الطبعة، بدون تاريخ.

§1/1